معركة صفّين
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
معركة صفّين
معركة صفّين
أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان فيكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة . صحيح البخاري مع الفتح (12/316) .
قال ابن حجر في الفتح (13/92) : و المراد بالفئتين من كان مع علي و معاوية لما تحاربا بصفين ، و المراد بقوله : دعواهما واحدة ، أي دينهما واحد ، لأن كلاً منهما كان يتسمى بالإسلام ، أو المراد أن كلاً منهما كان يدّعي أنه المحق .
هنا لما فرغ علي رضي الله عنه من أمر البصرة ، فما أن أعطى أهلها بيعتهم و استقام له الأمر فيها ، رأى أن الشام يجب أن تبايع ، فأرسل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه و معه كتاباً لمعاوية يطلب منه البيعة ، و يذكره بما حدث في الجمل ، فلما وصل جرير أعطى لمعاوية الكتاب ، فأرسل معاوية يستشير رؤوس الشام ، فأبوا البيعة إلا بأخذ الثأر من قتلة عثمان ، و كان هذا الرفض من معاوية هو الانتقام لمقتل عثمان ، حيث أنه معاوية كان يرى أنه على قوة في الشام و أنه لن يفرط في هذه القوة إلا بالانتقام لمقتل عثمان رضي الله عنه ، و أنه ولي دم عثمان ، لأنه صار رأس بني أمية مكانةً ، و قد تحدد موقفهم منذ اللحظة التي حمل فيها النعمان بن بشير رضي الله عنه قميص عثمان و هو ملطخ بدمائه و معه أصابع نائلة زوجة عثمان فوضع القميص على المنبر في الشام ليراه الناس و الأصابع معلقة في كم القميص ، و ندب معاوية الناس للأخذ بثأر عثمان و القصاص من قتلته ، و قد قام مع معاوية جماعة من الصحابة في هذا الشان ، و علي رضي الله عنه كان يقول تبايع ثم ننظر في قتلة عثمان . تاريخ الطبري (4/562) و البداية و النهاية لابن كثير (7/228) .
إذاً الاختلاف بين معاوية و علي هو في أيهما قبل ، فهو خلاف أولويات ، و هذا رد على من يزعم أن معاوية رضي الله عنه كان يريد و يطمع في الخلافة .
رجع جرير إلى علي بالخبر ، و جاء رسول من معاوية إلى علي رضي الله عنه فلما دخل عليه و استأمن لنفسه قال : لقد تركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون على قميص عثمان ، و هو منصوب لهم و قد ألبسوه منبر دمشق قال علي : مني يطلبون دم عثمان ! ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله . تاريخ الطبري (4/444) . وبدأ علي يستعد للتوجه نحو الشام .
في بداية ذي الحجة من سنة (36 هـ) خرج علي رضي الله عنه متوجهاً نحو الشام و كان عدد جيشه كما قدرته بعض الروايات ما بين خمسين ألفاً و مائة ألفاً مقاتل . تاريخ خليفة (ص 193) بسند حسن .
فتحرك نحو الشام فوصل إلى منطقة النخيلة ، و قد ضم عدداً من الصحابة البدريين و أصحاب بيعة الرضوان ، وقد بالغ ابن دحية في تقدير أعدادهم حتى ذكر أنهم سبعمائة من أصحاب الشجرة ، و ذلك لبيان أن الحق مع علي ، و لكن ترجيح موقف علي واضح لا يحتاج إلى هذه المبالغات ، انظر : عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري ( ص 465-467) .
فوصلت الأخبار إلى معاوية بتحرك جيش علي فتجهز هو أيضاً بجيش كبير ، حيث قدرته بعض الروايات الضعيفة بستين ألفاً أو سبعين ألفاً أو مائة وعشرين ألفاً . الذهبي تاريخ الإسلام - عهد الخلفاء الراشدين (ص 545) بدون سند و تاريخ خليفة (ص 193) بسند فيه مجاهيل و البداية و النهاية لابن كثير (7/275) بدون سند ، أنظر : عصر الخلافة الراشدة لأكرم العمري (ص 465) . فخرج حتى عسكر في صفين - موضع على شاطئ الفرات من الجانب الغربي ، بقرب الرقة ، آخر تخوم العراق و أول أرض الشام . انظر : معجم البلدان (3/414) - ، فخيم هناك عند الماء و انتظر وصول جيش علي رضي الله عنه . تاريخ الطبري (4/563) .
فلما وصل جيش علي رضي الله عنه إلى صفين كان جيش معاوية قد احتل موارد الماء ، في حين كان جيش علي في منطقة لا ماء فيها ، فأرسل علي إلى معاوية يطلب منه أن يدع الماء بينهما ، فتشاور معاوية مع القادة فاختلفوا فقرر معاوية أن يمنع الماء و لكن يكون منعاً صورياً فقط ، و وضع كتيبة صغيرة على الماء ، فجاء الناس ليشربوا فمنعوهم ، فاشتكى الناس لعلي فقال أرسلوا إلى الأشعث فجاء فقال : ائتوني بدرع ابن سهر - رجل من بني براء - فصبها عليه ثم أتاهم فقاتلهم حتى أزالهم عن الماء . ذكره ابن أبي شيبة في المصنف (15/292) و خليفة بن خياط في تاريخه (ص 193) و هو حسن الإسناد .
هنا احتل جيش علي الماء ، فقال علي : دعوهم فإن الماء لا يمنع . ابن حجر في تهذيب (1/359) . و مصنف ابن أبي شيبة (15/294) و تاريخ خليفة (ص 193) بسند حسن . فأمر بالسماح لمن شاء بالشرب ، فاجتمع الجيشان حول ماء صفين .
على أن هناك رواية أخرى تردّ القتال من أصله أخرجها عبد الله بن الإمام أحمد قال : حدثني أبي قال : حدثنا أبو المغيرة الخولاني - ثقة - حدثنا صفوان بن عمرو - ثقة - حدثني أبو الصلت سليم الحضرمي - ذكره ابن أبي حاتم و لم يذكر فيه جرحاً و لا تعديلاً ، الجرح و التعديل (4/212) - و لو وقف على توثيق له لنسفت هذه الرواية روايات أبي مخنف الكذاب والتي تذكر القتال حول الماء ، من أصلها . انظر الكلام حول القتال عند الماء في مرويات أبي مخنف (ص 289-296) - قال : حلنا بين أهل العراق و بين الماء ، فأتانا فارس ، ثم حسر فإذا هو الأشعث بن قيس فقال : الله الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ! هبوا أنكم قتلتم أهل العراق ، فمن للبعوث و الذراري ؟ أم هبوا أنا قتلناكم ، فمن للبعوث و الذراري ؟ إن الله يقول :{ و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما }الحجرات/9
. قال معاوية : فما تريد ؟ قال : خلوا بيننا و بين الماء . فقال لأبي الأعور خل بين إخواننا و بين الماء . تهذيب الكمال (3/286-295) و سير أعلام النبلاء (2/41) و النص منقول منه .
وقد وصف أبو العالية الرفاعي - شاهد عيان ثقة (ت 90 هـ) المعركة بقوله : لما كان زمن علي رضي الله عنه و معاوية ، و إني لشاب القتال أحب إليّ من الطعام الطيب ، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم فإذا صفان لا يُرى طرفاهما ، إذا كبر هؤلاء كبر هؤلاء ، و إذا هللّ هؤلاء هللّ هؤلاء . قال : فراجعت نفسي فقلت : أي الفريقين أنزله كافراً ، و أي الفريقين أنزله مؤمناً ؟ فما أمسيت حتى رجعت و تركتهم . طبقات ابن سعد (7/114) .
و لم ينفرد أبو العالية بالتردد و الشك ثم التوقف عن القتال ، فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يصرح بحقيقة مشاعره و هو يقف إلى جوار أبيه بيده الراية و يتقدم في الجيش الشامي منزلة أو منزلتين : مالي و لصفين !! مالي و لقتال المسلمين !! لوددت أني مت قبله بعشر سنين أما والله على ذلك ما ضربت بسيف و لا طعنت برمح و لا رميت بسهم . طبقات ابن سعد (4/266-267) بسند صحيح .
و حين عسكر علي رضي الله عنه بصفين سلك مع أهل الشام نفس الأسلوب الذي سلكه مع أهل الجمل ، فأرسل وفداً إلى معاوية يدعوه إلى الصلح ، و ما ذكره بعض المؤرخين من روايات تفيد بأن علياً أرسل بشير بن عمرو الأنصاري و سعيد بن قيس و شبث بن ربعي و عدي بن حاتم و غيرهم ليكلموا معاوية و يطلبوا منه الرضوخ لعلي و ما جرى بينهم من مناقشات و سباب و لعان و شتم لمعاوية و اتهام لبعض الصحابة في التورط في دم عثمان كعدي و عمار و علي و أن معاوية تباطأ في إرسال العون طمعاً في أن تكون الخلافة له . هذا كله كذب ملفق ليس له أصل من الصحة ، بطله أبو مخنف الكذاب . انظر هذه الروايات و مناقشتها في مرويات أبي مخنف (ص 297-310) .
ذكر أبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال (ص 162) أن معاوية كتب إلى علي يقول له : فإن كنت صادقاً فأمكنا من قتلة -أي عثمان - نقتلهم به و نحن أسرع الناس إليك ، و إلا فليس لك و لأصحابك عندنا إلا السيف ، فوالله الذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في البر و البحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله و السلام .
و ذكر القاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم (ص 166) ، أن سبب القتال بين أهل الشام و أهل العراق يرجع إلى تباين المواقف بينهما : فهؤلاء -أي أهل العراق - يدعون إلى علي بالبيعة و تأليف الكلمة على الإمام ، و هؤلاء - أي أهل الشام - يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان و يقولون : لا نبايع من يؤوي القتلة .
هنا قد يتساءل سائل لماذا أبقى علي رضي الله عنه على أهل الفتنة في جيشه بعد أن فرغ من حرب الجمل ولم يخرجهم من جيشه أثناء توجهه إلى الشام ؟
نقول : كان سبب إبقاء علي على أهل الفتنة في جيشه أنهم كانوا سادات في أقوامهم ، فكان علي يرى أن يصبر عليهم إلى أن تستقر الأمور .
وقد أجاب عن ذلك الإمام الطحاوي في شرح الطحاوية (ص 483) بقوله : و كان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان ، من لم يُعرف بعينه و من تنتصر له قبيلته ، و من لم تقم عليه حجة بما فعله ، و من قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله .
و على كل حال كان موقفه منهم موقف المحتاط منهم ، المتبرئ من فعلهم .و هو و إن كان لم يخرجهم من عسكره فقد كان يعاملهم بحذر و ينظر إليهم بشزر ، حتى قال الإمام الطبري في تاريخه (4/445) : بأنه لم يول أحد منهم أثناء استعداده للمسير إلى الشام ، حيث دعا ولده محمد بن الحنفية و سلمه اللواء و جعل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قائد الميمنة و عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه على الميسرة و جعل على مقدمة الجيش أبا ليلى بن عمر بن الجراح و استخلف على المدينة قثم بن العباس رضي الله عنهم .
و هذه بادرة منه رضي الله عنه ليعلن تبرؤه من أولئك المارقين ، و يثبت قدرته على السيطرة على أمر المسلمين من غير عون منهم ، فقد كان له في المسلمين الموالين له و المؤيدين لخلافته ما يغنيه عن الاستعانة بهم و التودد إليهم . و هذا أقصى ما يمكنه فعله بتلك الطائفة إذ ذاك ، و هو كافٍ في عذره لأنهم مئات و لهم قرابة و عشائر في جيشه ، فما يأمن لو عاملهم بأكثر من هذا من الشدة أن يمتد حبل الفتنة في الأمة ، كما حصل ذلك لطلحة و الزبير و عائشة بالبصرة حين قتلوا بعضاً منهم ، فغضب لهم قبائلهم و اعتزلوهم . إفادة الأخيار للتباني (2/52) .
حول حديث ويح عمار تقتله الفئة الباغية
ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار، قال يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن . رواه البخاري مع الفتح من حديث أبي سعيد (1/644) .
قال الحافظ ابن حجر : قوله ( يدعوهم ) أعاد الضمير على غير مذكور ، و المراد قتلته كما ثبت من وجه آخر ( تقتله الفئة الباغية يدعوهم الخ ) ، فإن قيل : كان قتله بصفين و هو مع علي ، والذين قتلوه مع معاوية ، و كان معه جماعة من الصحابة ، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار ؟ فالجواب : أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة ، و هم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم ، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها و هو طاعة الإمام ، و كذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي ، و هو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك ، و كانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك ، لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم .
و قال ابن بطال تبعاً للمهلب : إنما يصح هذا في الخوارج الذين بعث علي عماراً يدعوهم إلى الجماعة ، ولا يصح في أحد من الصحابة . وتابعه على هذا الكلام جماعة من الشّراح . و فيه نظر من أوجه :-
أحدها : أن الخوارج إنما خرجوا على علي بعد قتل عمار بلا خلاف بين أهل العلم بذلك ، فإن ابتداء أمر الخوارج كان عقب التحكيم ، و كان التحكيم عقب انتهاء القتال بصفين ، وكان قتل عمار قبل ذلك قطعاً ، فكيف يبعثه إليهم علي بعد موته .
ثانيهما : أن الذين بعث إليهم علي عماراً إنما هم أهل الكوفة .
ثالثهما : أنه شرح على ظهر ما وقع في هذه الرواية الناقصة ، و يمكن حمله على أن المراد بالذين يدعونه إلى النار كفار قريش كما صرح به بعض الشراح ، لكن وقع في رواية ابن السكن و كريمة و غيرهما و كذا ثبت في نسخة الصغاني التي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربري التي بخطه زيادة توضيح المراد و تفصح بأن الضمير يعود على قتلته وهم أهل الشام ، و لفظة (ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم ) الحديث ، و اعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميدي في الجمع و قال : إن البخاري لم يذكرها أصلاً ، و كذا قال أبو مسعود . قال الحميدي : و لعلها لم تقع للبخاري ، أو وقعت فحذفها عمداً . و قد أخرجها الإسماعيلي و البرقاني في هذا الحديث .
قلت أي ابن حجر - : و يظهر لي أن البخاري حذفها عمداً و ذلك لنكتة خفية ، و هي أن أبا سعيد الخدري اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبي صلى الله عليه وسلم ، فدل على أنها في هذه الرواية مدرجة ، و الرواية التي بينت ذلك ليست على شرط البخاري ، و قد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكر الحديث في بناء المسجد و حملهم لبنة لبنة و فيه فقال أبو سعيد : فحدثني أصحابي ، و لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ، و ابن سمية هو عمار ، و سمية اسم أمه . و هذا الإسناد على شرط مسلم ، و قد عين أبو سعيد من حدثه بذلك ، ففي مسلم و النسائي من طريق أبي سلمة عن أبي سعيد قال : حدثني من هو خير مني أبو قتادة ، فذكره . فاقتصر البخاري على القدر الذي سمعه أبو سعيد من النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره ، و هذا دال على دقة فهمه و تبحره في الإطلاع على علل الأحاديث .
و في هذا الحديث زيادة أيضاً لم تقع في رواية البخاري و هي عند الإسماعيلي و أبي نعيم في المستخرج من طريق خالد الواسطي عن خالد الحذاء و هي : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك ؟ قال : إني أريد من الله الأجر . أنظر هذه النكتة في : فتح الباري (1/645-646) .
هذا و قد روى حديث تقتل عمار الفئة الباغية ، جماعة من الصحابة منهم قتادة بن النعمان و أم سلمة عند مسلم و أبو هريرة عند الترمذي و عبد الله بن عمرو بن العاص عند النسائي و عثمان بن عفان و حذيفة و أبو أيوب و أبو رافع و خزيمة بن ثابت و معاوية و عمرو بن العاص و أبو اليسر و عمار نفسه ، و كلها عند الطبراني و غيره ، و غالب طرقه صحيحة أو حسنة و فيه عن جماعة آخرين يطول عدهم و في هذا الحديث علم من أعلام النبوة و فضيلة ظاهرة لعلي و لعمار ، و ردّ على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه . انظر : الصحيح المسند من دلائل النبوة (ص 422-423) و مسلم رقم ( 7253 ) و الترمذي (5/669) .
استمر القتال سجالاً و كثر القتل بين الناس و هم لا يتوقفون . ثم إن علياً رضي الله عنه شد في الهجوم على جيش معاوية فكانت تلك الليلة من أشد الليالي حتى سميت بليلة الهرير . المنتظم (5/120) .
فطحنت المعركة ألوفاً من الجانبين ، و كلّ الباقون من القتال ، هنا تفتق ذهن عمرو بن العاص عن فكرة التحكيم التي أنقذت الجيش الشامي من الهزيمة ، فأرسل معاوية رجلاً يحمل المصحف إلى علي و يقول : بيننا و بينكم كتاب الله فقال علي : أنا أولى بذلك بيننا كتاب الله . و توقف القتال و انسحب الفريقان ، وقدر محمد بن سيرين عدد القتلى في هذه المعركة بحوالي سبعين ألف رجل كان منهم خمس و أربعين ألف شخص من جيش الشام ، أي كان نصف الجيش قد فني فما قدروا على عدّهم إلا بالقصب ، وضعوا على كل إنسان قصبة ، ثم عدوا القصب . الذهبي في تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين (ص 545) و معجم البلدان (3/414-415) . و مصنف ابن أبي شيبة (15/295) بإسناد حسن لكنه من مرسل ابن سيرين . و تاريخ خليفة (ص 194) مختصراً .
و سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الفريقين يوم صفين فقال : قتلانا و قتلاهم في الجنة ، يصير الأمر إلي و إلى معاوية . المعجم الكبير للطبراني (19/307) .
يصف سالم بن عبيد الأشجعي و هو صحابي شهد المعركة موقف علي رضي الله عنه فيقول : رأيت علياً بعد صفين و هو أخذ بيدي ، و نحن نمشي في القتلى فجعل علي يستغفر لهم حتى بلغ أهل الشام فقلت له : يا أمير المؤمنين إنّا في أصحاب معاوية !؟ فقال علي : إنما الحساب عليّ و على معاوية . مصنف ابن أبي شيبة (15/303) . أي أنه يرى نفسه و معاوية مسؤلين عما حدث و هما يحاسبان على ذلك .
و ما حصل من قتال بين علي و معاوية لم يكن يريده واحد منهما ، بل كان في الجيش من أهل الأهواء من يحرص على القتال ، الأمر الذي أدى إلى نشوب تلك المعركة الطاحنة ، و خروج الأمر من يد علي و معاوية رضي الله عنهما . أشراط الساعة ليوسف الوابل (ص 103) .
و أكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا علياً و لا معاوية ، و كان علي و معاوية رضي الله عنهما أطلب لكف الدماء من أكثر المتقاتلين ، لكن غلبا فيما وقع ، و الفتنة إذا ثارت ؛ عجز الحكماء عن إطفاء نارها .
فكان في العسكرين قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار و قوم ينفرون عنه ، و قوم ينتصرون لعلي و قوم ينفرون عنه ، ثم قتال أصحاب معاوية لم يكن لخصوص معاوية ، بل كان لأسباب أخرى . و قتال الفتنة مثل قتال الجاهلية ، لا تنضبط مقاصد أهله و اعتقاداتهم ؛ و كما قال الزهري : هاجت الفتنة الأولى و أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون و فيهم البدريون ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن ؛ فإنه هدر أنزلوه منزلة الجاهلية . منهاج السنة لابن تيمية (4/452-458) . و البيهقي في السنن الكبرى (8/174-175) .
و من المعروف و المتفق عليه بين الإخباريين و المؤرخين أن الخلاف بين علي و معاوية ، كان سببه طلب تعجيل القصاص من قتلة عثمان . و من الملاحظ أن الصحابة رضوان الله عليهم متفقون على إقامة حدّ القصاص على قتلة عثمان ، لكن الخلاف بينهم وقع في مسألة التقديم أو التأخير ، فمعاوية رضي الله عنه و من معه كانوا يرون تعجيل أخذ القصاص من الذين حصروا الخليفة حتى قتل ، و أن البداءة بقتلهم أولى ، بينما رأى أمير المؤمنين علي و من معه تأخيره حتى يوطد مركز الخلافة و يتقدم أولياء عثمان بالدعوى عنده على معيّنين ، فيحكم لهم بعد إقامة البيّنة عليهم ، لأن هؤلاء المحاصرين لأمير المؤمنين عثمان ليسوا نفراً من قبيلة معيّنة بل من قبائل مختلفة . على أن استعجال تنفيذ القصاص بدون إقامة الدعوى من أولياء المقتول عند الإمام ، و حكمه على القاتل ، يؤدي لا محالة إلى انتشار الفتنة بحرب طاحنة يذهب فيها كثير من الأبرياء .
و لذلك كان رأي علي رضي الله عنه أسدّ و أصوب من رأي معاوية رضي الله عنه كما نطقت بذلك النصوص الشرعية .
و قد اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتصّ من أحد و يأخذ حقه دون السلطان ، أو من نصبه السلطان لهذا الأمر ، لأن ذلك يفضي إلى الفتنة و إشاعة الفوضى . و لهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض . الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/256) في تفسير سورة البقرة الآية (179) .
و الظاهر أن معاوية رضي الله عنه اعتقد و فهم أن قتل عثمان رضي الله عنه منكر من أعظم المنكرات ، و إزالة المنكر من حيث هو لمن قدر عليه فرض كفاية لا يتوقف على إمام يرجع إليه فيه ، و منزلته في الإسلام و عند المسلمين تخوّل له ذلك ، وقد خفي عليه أن إزالة هذا المنكر يتعلق بالقصاص مع المرتكبين له ، وأخذ القصاص منهم يتوقف على الإمام و إقامة أولياء المقتول البينة على الجاني عنده ، ثم حكمه بمقتضى ذلك ، لكن اجتهاده أداه إلى ذلك فما يمكن أن يقال فيه إنه مجتهد مخطئ له أجر واحد على اجتهاده .
يقول ابن العربي : و لا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إثارة الفتنة و تشتيت الكلمة . أحكام القرآن لابن العربي (4/1718) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/318) في تفسير سورة الحجرات .
و يناقش الإمام الباقلاني هذا الموضوع في التمهيد في الرد على الملاحدة (ص 231) فيقول : و على أنه إذا ثبت أن علياً ممن يرى قتل الجماعة بالواحد ، فلم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلا بأن تقوم البينة على القتلة بأعيانهم ، و بأن يحضر أولياء الدم مجلسه و يطلبون بدم أبيهم و وليهم .. و إن قتل قتلة عثمان ، لا يؤدي إلى هرج عظيم و فساد شديد ، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه ، و إنّ تأخير إقامة الحد إلى وقت إمكانه و تقصّي الحق فيه أولى و أصلح للأمة و ألمّ لشعثهم و أنفى للفساد و التهمة عنهم .
و إن السياسة الحكيمة تقتضي ما كان ينادي به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من التريث و الأناة و عدم الاستعجال ؛ إذ إن الأمر يحتاج إلى وحدة الصف و الكلمة لإيجاد موقف موحد ، و مواجهة ذلك التحدي الذي يهدد مركز الخلافة ، بيد أن الخلاف في الرأي أضعف مركز الخلافة الجديد ، و قضى بالتالي على كل الآمال في نيل ثأر الخليفة المقتول .
يقول النووي في شرح صحيح مسلم (7/167) و (18/219-220 begin_of_the_skype_highlighting 18/219-220 end_of_the_skype_highlighting) بأن الروايات - أي عن النبي صلى الله عليه وسلم - صريحة في أن علي رضي الله عنه كان هو المصيب المحق ، و الطائفة الأخرى أصحاب معاوية كانوا بغاة متأولين ، و فيها التصريح بأن أصحاب الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الإيمان و لا يفسقون .
و لهذا فإن علياً رضي الله عنه تألم و تكدر بقتال أهل الجمل و قال بعد صفين : لو علمت أن الأمر يكون هكذا ما خرجت . مصنف ابن أبي شيبة (15/275) و (15/293) .
و قد ندم بعض من شارك في القتال كما في الصحيح عن شقيق بن سلمة حين سئل هل شهدت صفين ؟
قال : نعم و بئست صفين . صحيح البخاري مع الفتح (13/296) .
بل نقل عن علي نفسه أن قال : لله درّ مقام سعد بن مالك و عبد الله بن عمر - أي في اعتزال الفتنة - إن كان بِراً إن أجره لعظيم و إن كان إثماً إن خطأه ليسير . مجموع الفتاوى لابن تيميمة (4/440) .
و هكذا إذا نظرنا نظرة مجملة إلى القضية سوف نجد أن الموقف الأحوط و الأمثل هو موقف الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة و آثروا عدم قتال أهل القبلة ، و ذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الفئة الباغية و سماهم باغية إذا رفضت الصلح ، و لم يأمر بقتالها ابتداءً .
روى ابن سعد في الطبقات (3/143-144) ، و أبو نعيم في الحلية (1/94) ، عن ابن سيرين قال : لما قيل لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى و أنت أحق بهذا الأمر من غيرك ؟ قال : لا أقاتل حتى يأتوني بسيف له عينان و لسان يعرف المؤمن من الكافر ، فقد جاهدت و أنا أعرف الجهاد . و قال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه الطبراني و رجاله رجال الصحيح (7/299) .
و يتخذ عبد الله بن عمر رضي الله عنه أيضاً موقف الحياد و العزلة فلم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط ؛ روى الإمام البخاري في صحيحه مع الفتح (13/49) عن سعيد بن جبير قال : خرج علينا عبد الله بن عمر فرجونا أن يحدثنا حديثاً حسناً ، قال : فبادرنا إليه رجل فقال : يا أبا عبد الرحمن ! حدثنا عن القتال في الفتنة و الله يقول : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة } فقال : هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك ؟ و إنما كان محمد صلى الله عليه وسلم يقاتل المشركين ، و كان الدخول في دينهم فتنة و ليس كقتالكم .
و بهذا المذهب التزم إما أهل السنة أحمد بن حنبل و بنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية .
و على مذهب الإمساك في الفتنة كان كذلك الإمام البخاري ، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه
تنطق بذلك ، و على منواله سار الإمام مسلم و غيره من المصنفين في الحديث في هذه المسألة . تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/182 و 184) .
و قال الإمام الطبري : و إن أشكل الأمر - أي اشتبه و لم يمكن التميز فيه بين الحق و الباطل - فهي الحالة
التي ورد النهي عن القتال فيها . انظر الفتح لابن حجر (13/35) .
و قد رجح هذا المذهب و انتصر له شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه ، فيذكر في منهاج السنة (8/525-526) أقوال أئمة العلم في القتال ، و من ذلك قوله : و منهم من يقول كان الصواب أن لا يكون قتال ، و كان ترك القتال خيراً للطائفتين فليس في الاقتتال صواب ، و لكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية و القتال قتال في الفتنة ، ليس بواجب و لا مستحب و كان ترك القتال خيراً للطائفتين مع أن علياً كان أولى بالحق و هذا قول أحمد و أكثر أهل الحديث و أكثر أئمة الفقهاء ، و هو قول أكابر الصحابة و التابعين لهم بإحسان و هو قول عمران بن حصين رضي الله عنه و كان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال ، و هو قول أسامة بن زيد و محمد بن مسلمة و ابن عمر و سعد بن أبي وقاص و أكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار رضي الله عنهم . و كذلك انظر الفتاوى (4/440-441) .
على أن هذا المذهب هو أقوى المذاهب و أرجحها بدلالة النصوص الشرعية و أقوال السلف الصالح السابقة الذكر ، و هو أقوى من مذهب من يرى أن الصواب هو القتال مع علي رضي الله عنه فضلاً عمن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه . هذا مواقف الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة و كفوا عن القتال تمسكاً بالأحاديث الصريحة الواردة في هذا الأمر ، و التي تنهى عن القتال بين المسلمين علماً بأن الكف كان أحوط و الصلح أمثل ، و بالجملة هذا مذهب أهل الحديث عامة و من تأمله ظهر له قوة دلائله النصية و صدق نتائجه الواقعية . تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/180 و 187) .
و إذا نظرنا إلى روايات الإمام الطبري في هذا الموضوع - أي موقعة صفين - نجدها تبلغ أربعاً و ستين رواية كلها من طريق أبي مخنف ، و لم يخرج من غير طريقه سوى سبع روايات فقط ذكرت أحداثاً جانبية ، و هي بمجموعها لا تعدل رواية واحدة من روايات أبي مخنف المطولة . و بغض النظر عن ضعف أبي مخنف فإننا لا نستطيع أن نأخذ أحداث صفين من هذه الروايات ، ذلك أن أبا مخنف يصور لنا الوقعة من زاوية واحدة ، و هي جيش علي رضي الله عنه إذ لا يمكن مقارنته بما وصف به جيش معاوية رضي الله عنه . بل إنه لا يمكن أن يؤخذ منها حتى وصف جيش علي ؛ و السبب في هذا أن أبا مخنف ينظر إلى ذلك الجيش بعين واحدة ، و هي عين القبلية ، فقد أكثر من ذكر قبائل اليمن و قتالها و أشاد بأبطالها و رجالها .
هذا و قد ساق أبو مخنف روايات صفين في سلسلة متصلة الحلقات ، فهو يذكر الحادثة من طريق ثم يكملها من طريق آخر و هذا مما يزيد الشك فيها ، إذ إن هذا لا يظهر في الروايات التاريخية عادة ، بل لا يكون عند القراءة من كتاب أو حفظ ملحمة مكتوبة ، فينشد كل راوٍ بعضها فلا تتداخل المعلومات بين الروايات ، و إن المتمعن بهذه الروايات يرى ذلك جلياً . انظر مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري ( 279-281) بتصرف .
ونظراً لعدم حذاقة صانع الحوار - أبو مخنف - فقد أعطى الموضوع صورة تدل على أنه مصطنع فقد أقحمه بحوارات و كلمات تدل على كذب هذه الروايات .
عن بحث
أبو عبد الله الذهبي
تقبلوا تحياتي
القلم أمانه .... والكلمه سلاح ...
فإن لم تكن كاتبا يفيد غيره ... فكن قارئا جيد يفيد نفسه ...
آمل الفائدة للجميع وشكرا لكم
منقول للفائدة العلمية
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
احمد حسانين الناظر- عضو مميز
- رقم العضوية : 325
عدد المساهمات : 1059
المهارة : 11353
تاريخ التسجيل : 29/10/2010
الكفاءة : 0
بسنت- عضو فعال
- رقم العضوية : 355
عدد المساهمات : 305
المهارة : 6858
تاريخ التسجيل : 31/12/2010
الكفاءة : 0
رد: معركة صفّين
احسنت اختيار الموضوع شكرآ لك
روضة- مشرفة الطبيعة و العلوم البيئية
- رقم العضوية : 357
عدد المساهمات : 1389
المهارة : 11927
تاريخ التسجيل : 31/12/2010
الكفاءة : 50
رد: معركة صفّين
شكرا علي رايكم وتشرفنا بزيارتكم ومروركم العطر جوزيتم خيرا
احمد حسانين الناظر- عضو مميز
- رقم العضوية : 325
عدد المساهمات : 1059
المهارة : 11353
تاريخ التسجيل : 29/10/2010
الكفاءة : 0
مواضيع مماثلة
» فيديو معركة بين مرشحين للوطنى فى الاسكندرية
» صدارة الزمالك تواجه الخطر فى معركة الإسماعيلى
» ممدوح إسماعيل مزايداته و تمثيلياته و يشعل معركة الأذان فى البرلمان.. والكتاتنى يعترض عليه
» صدارة الزمالك تواجه الخطر فى معركة الإسماعيلى
» ممدوح إسماعيل مزايداته و تمثيلياته و يشعل معركة الأذان فى البرلمان.. والكتاتنى يعترض عليه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى