في ظلال القرآن سورة أل عمران
4 مشترك
صفحة 3 من اصل 3
صفحة 3 من اصل 3 • 1, 2, 3
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
الحديث عن هذه الغزوة . فيرجع إليها هناك .
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن "المؤمنين" الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم , فيعين من هم ; ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم:
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا . وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء , واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم). .
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول [ ص ] إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة , ومرارة الهزيمة , وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا , فقل عددهم , فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله [ ص ] دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول [ ص ] وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح), ونزل بهم الضر , وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله [ ص ] ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى , وتومى ء إلى حقائق كبرى , نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله [ ص ] شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم , هو شعور الهزيمة , وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش , وتعقبها , كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء , وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء , وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء , إنما هي واحدة وتمضي , ولهم الكرة عليهم , متى نفضوا عنهم الضعف والفشل , واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش , وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء أن يشعر المسلمين , وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم , بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها , وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها , فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها , ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها , ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد , وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -:
(الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل). .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:
قال محمد بن إسحاق:حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال:شهدنا أحدا مع رسول الله [ ص ] أنا وأخي , فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله [ ص ] بالخروج في طلب العدو , قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله [ ص ] ? - والله ما لنا من دابة نركبها , وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله [ ص ] وكنت أيسر جراحا منه , فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق:كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال , فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال , أذن مؤذن رسول الله [ ص ] في الناس بطلب العدو , وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال:يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال:يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله [ ص ] على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله [ ص ] فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة , في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا , وترضى به وحده وتكتفي , وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة , وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس:
(حسبنا الله , ونعم الوكيل). .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه , المكتفي به , المتجردين له:
(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله).
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
(بنعمة من الله وفضل). .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء:نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع , فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله , لأن هذا هو الأصل الكبير , الذي يرجع إليه كل فضل , وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
(والله ذو فضل عظيم). .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد , وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله , صورتهم هذه , وموقفهم هذا , وهي صورة رفيعة , وهو موقف كريم . وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف , فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة , التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة .
الحديث عن هذه الغزوة . فيرجع إليها هناك .
وبعد تقرير هذه الحقيقة الكبيرة يتحدث عن "المؤمنين" الذين يستبشر الشهداء في الموقعة بما هو مدخر لهم عند ربهم , فيعين من هم ; ويحدد خصائصهم وصفاتهم وقصتهم مع ربهم:
(الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا . وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء , واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم). .
إنهم أولئك الذين دعاهم الرسول [ ص ] إلى الخروج معه كرة أخرى غداة المعركة المريرة . وهم مثخنون بالجراح . وهم ناجون بشق الأنفس من الموت أمس في المعركة . وهم لم ينسوا بعد هول الدعكة , ومرارة الهزيمة , وشدة الكرب . وقد فقدوا من أعزائهم من فقدوا , فقل عددهم , فوق ما هم مثخنون بالجراح !
ولكن رسول الله [ ص ] دعاهم . ودعاهم وحدهم . ولم يأذن لأحد تخلف عن الغزوة أن يخرج معهم - ليقويهم ويكثر عددهم كما كان يمكن أن يقال ! - فاستجابوا . . استجابوا لدعوة الرسول [ ص ] وهي دعوة الله - كما يقرر السياق وكما هي في حقيقتها وفي مفهومهم كذلك - فاستجابوا بهذا لله والرسول (من بعد ما أصابهم القرح), ونزل بهم الضر , وأثخنتهم الجراح .
لقد دعاهم رسول الله [ ص ] ودعاهم وحدهم . وكانت هذه الدعوة وما تلاها من استجابة تحمل إيحاءات شتى , وتومى ء إلى حقائق كبرى , نشير إلى شيء منها:
فلعل رسول الله [ ص ] شاء ألا يكون آخر ما تنضم عليه جوانح المسلمين ومشاعرهم , هو شعور الهزيمة , وآلام البرح والقرح ; فاستنهضهم لمتابعة قريش , وتعقبها , كي يقر في أخلادهم إنها تجربة وابتلاء , وليست نهاية المطاف . وأنهم بعد ذلك أقوياء , وأن خصومهم المنتصرين ضعفاء , إنما هي واحدة وتمضي , ولهم الكرة عليهم , متى نفضوا عنهم الضعف والفشل , واستجابوا لدعوة الله والرسول .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء في الجانب الآخر ألا تمضي قريش , وفي جوانحها ومشاعرها أخيلة النصر ومذاقاته . فمضى خلف قريش بالبقية ممن حضروا المعركة أمس ; يشعر قريشا أنها لم تنل من المسلمين منالا . وأنه بقي لها منهم من يتعقبها ويكر عليها . .
وقد تحققت هذه وتلك كما ذكرت روايات السيرة .
ولعل رسول الله [ ص ] شاء أن يشعر المسلمين , وأن يشعر الدنيا كلها من ورائهم , بقيام هذه الحقيقة الجديدة التي وجدت في هذه الأرض . . حقيقة أن هناك عقيدة هي كل شيء في نفوس أصحابها . ليس لهم من أرب في الدنيا غيرها , وليس لهم من غاية في حياتهم سواها . عقيدة يعيشون لها وحدها , فلا يبقى لهم في أنفسهم شيء بعدها , ولا يستبقون هم لأنفسهم بقية في أنفسهم لا يبذلونها لها , ولا يقدمونها فداها . .
لقد كان هذا أمرا جديدا في هذه الأرض في ذلك الحين . ولم يكن بد أن تشعر الأرض كلها - بعد أن يشعر المؤمنين - بقيام هذا الأمر الجديد , وبوجود هذه الحقيقة الكبيرة .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
ولم يكن أقوى في التعبير عن ميلاد هذه الحقيقة من خروج هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . ومن خروجهم بهذه الصورة الناصعة الرائعة الهائلة:صورة التوكل على الله وحده وعدم المبالاة بمقالة الناس وتخويفهم لهم من جمع قريش لهم - كما أبلغهم رسل أبي سفيان - وكما هول المنافقون في أمر قريش وهو ما لا بد أن يفعلوا -:
(الذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل). .
هذه الصورة الرائعة الهائلة كانت اعلانا قويا عن ميلاد هذه الحقيقة الكبيرة . وكان هذا بعض ما تشير إليه الخطة النبوية الحكيمة . .
وتحدثنا بعض روايات السيرة عن صورة من ذلك القرح ومن تلك الاستجابة:
قال محمد بن إسحاق:حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله [ ص ] من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال:شهدنا أحدا مع رسول الله [ ص ] أنا وأخي , فرجعنا جريحين . فلما إذن مؤذن رسول الله [ ص ] بالخروج في طلب العدو , قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله [ ص ] ? - والله ما لنا من دابة نركبها , وما منا إلا جريح ثقيل . فخرجنا مع رسول الله [ ص ] وكنت أيسر جراحا منه , فكان إذا غلب حملته عقبة . . حتى انتهيا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
وقال محمد بن إسحاق:كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال , فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال , أذن مؤذن رسول الله [ ص ] في الناس بطلب العدو , وإذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام . فقال:يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع . وقال:يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل فيهن . ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله [ ص ] على نفسي . فتخلف على أخوتك . فتخلفت عليهن . . فأذن له رسول الله [ ص ] فخرج معه . .
وهكذا تتضافر مثل هذه الصور الرفيعة على إعلان ميلاد تلك الحقيقة الكبيرة , في تلك النفوس الكبيرة . النفوس التي لا تعرف إلا الله وكيلا , وترضى به وحده وتكتفي , وتزداد إيمانا به في ساعة الشدة , وتقول في مواجهة تخويف الناس لهم بالناس:
(حسبنا الله , ونعم الوكيل). .
ثم تكون العاقبة كما هو المنتظر من وعد الله للمتوكلين عليه , المكتفي به , المتجردين له:
(فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله).
فأصابوا النجاة - لم يمسسهم سوء - ونالوا رضوان الله . وعادوا بالنجاة والرضى .
(بنعمة من الله وفضل). .
فهنا يردهم إلى السبب الأول في العطاء:نعمة الله وفضله على من يشاء . ومع التنويه بموقفهم الرائع , فإنه يرد الأمر إلى نعمة الله وفضله , لأن هذا هو الأصل الكبير , الذي يرجع إليه كل فضل , وما موقفهم ذاك إلا طرف من هذا الفضل الجزيل !
(والله ذو فضل عظيم). .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175)
بهذا يسجل الله لهم في كتابه الخالد , وفي كلامه الذي تتجاوب به جوانب الكون كله , صورتهم هذه , وموقفهم هذا , وهي صورة رفيعة , وهو موقف كريم . وينظر الإنسان في هذه الصورة وفي هذا الموقف , فيحس كأن كيان الجماعة كله قد تبدل ما بين يوم وليلة . نضجت . وتناسقت . واطمأنت إلى الأرض التي تقف عليها . وانجلى الغبش عن تصورها . وأخذت الأمر جدا كله . وخلصت من تلك الأرجحة والقلقلة , التي حدثت بالأمس فقط في التصورات والصفوف . فما كانت سوى ليلة واحدة هي التي تفرق بين موقف الجماعة اليوم وموقفها بالأمس . . والفارق هائل والمسافة بعيدة .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
. لقد فعلت التجربة المريرة فعلها في النفوس ; وقد هزتها الحادثة هزا عنيفا . أطار الغبش , وأيقظ القلوب , وثبت الأقدام , وملأ النفوس بالعزم والتصميم . .
نعم . وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير . .
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب , وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان , وأن يبطلوا محاولته . فلا يخافوا أولياءه هؤلاء , ولا يخشوهم . بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر , الذي ينبغي أن يخاف:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه , ويلبسهم لباس القوة والقدرة , ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول , وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه , وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد , وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب , فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم , ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل , وأن يتضخم الشر , وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا , لا تقف في وجهه معارضة , ولا يصمد له مدافع , ولا يغلبه من المعارضين غالب . . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة , وفي ظل الإرهاب والبطش , يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ! يقلبون المعروف منكرا , والمنكر معروفا , وينشرون الفساد والباطل والضلال , ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل , ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم , ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له , وجلاء الحق الذي يطمسونه . .
والشيطان ماكر خادع غادر , يختفي وراء أوليائه , وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . . ومن هنا يكشفه الله , ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة:حقيقة مكره ووسوسته , ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه , ويستند إلى قوته . . إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله , وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . . لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:
(فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين). .
وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
الدرس العاشر:176 - 179 تسلية ومواساة بعد أحداث أحد
وأخيرا يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب , إلى الرسول [ ص ] يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن , من مسارعة الكفار إلى الكفر , ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف ! فإن هذا لن يضر الله شيئا . وإنما هي فتنة الله لهم , وقدر الله بهم , فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ; فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته ! وقد كان الهدى مبذولا لهم , فآثروا عليه الكفر ; فتركوا يسارعون في الكفر . وأملي لهم ليزدادوا إثما مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء . فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء . . ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها:من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين . إنها تمييز الخبيث من الطيب , بالاختبار والابتلاء , فقد كان أمر القلوب غيبا مما يستأثر الله به , ولا يطلع الناس عليه , فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر , وبالوسيلة التي يدركها البشر . . فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين , ليتكشف المخبوء في القلوب , ويتميز الخبيث من الطيب ; ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين:
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , إنهم لن يضروا الله شيئا , يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة , ولهم عذاب عظيم . إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا , ولهم عذاب أليم . ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم , إنما نملي لهم ليزدادوا إثما , ولهم عذاب مهين . ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه , حتى يميز الخبيث من الطيب , وما كان الله ليطلعكم على الغيب , ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء , فآمنوا بالله ورسله , وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة ; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة . . فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور ; أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب , أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل . ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة , ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة !
هناك دائما الشبهة الكاذبة , أو الأمنية العاتبة:لماذا يا رب ? لماذا يصاب الحق وينجو الباطل ? لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل ? ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل , ويعود بالغلبة والغنيمة ? أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر ? وفيم تكون للباطل هذه الصولة ? وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة , وفيها فتنة للقلوب وهزة ?!
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب:" أنى هذا ?! " . .
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير , والبيان الأخير . ويريح الله القلوب المتعبة , ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية , ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله:أمس واليوم وغدا . وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية:
إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك وبقاءه منتفشا فترة من الزمان , ليس معناه أن الله تاركه , أو أنه من القوة بحيث لا يغلب , أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا . .
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك , وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان , ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه ! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه . .
كلا . إنما هي حكمة وتدبير . . هنا وهناك . . يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق ; وليرتكب أبشع الآثام , وليحمل أثقل الأوزار , ولينال أشد العذاب باستحقاق ! . . ويبتلى الحق , ليميز الخبيث من الطيب , ويعظمالأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت . . فهو الكسب للحق والخسار للباطل , مضاعفا هذا وذاك ! هنا وهناك !
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , إنهم لن يضروا الله شيئا , يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة , ولهم عذاب عظيم). .
إنه يواسي النبي [ ص ] ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره ; وهو يرى المغالين في الكفر , يسارعون فيه , ويمضون بعنف واندفاع وسرعة , كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه !
وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية . فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية ; كأنه يجهد لنيل السبق فيه ! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف , أو من يهتف له من الإمام , إلى جائزة تنال ! وكان الحزن يساور قلب رسول الله [ ص ] حسرة على هؤلاء العباد ; الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار , وهو لا يملك لهم ردا , وهم لا يسمعون له نذارة ! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر , من الشر والأذى يصيب المسلمين , ويصيب دعوة الله , وسيرها بين الجماهير , التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية . . فلما
نعم . وكان فضل الله عظيما في الابتلاء المرير . .
وأخيرا يختم هذه الفقرة بالكشف عن علة الخوف والفزع والجزع . . إنه الشيطان يحاول أن يجعل أولياءه مصدر خوف ورعب , وأن يخلع عليهم سمة القوة والهيبة . . ومن ثم ينبغي أن يفطن المؤمنون إلى مكر الشيطان , وأن يبطلوا محاولته . فلا يخافوا أولياءه هؤلاء , ولا يخشوهم . بل يخافوا الله وحده . فهو وحده القوي القاهر القادر , الذي ينبغي أن يخاف:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه . فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين).
إن الشيطان هو الذي يضخم من شأن أوليائه , ويلبسهم لباس القوة والقدرة , ويوقع في القلوب أنهم ذوو حول وطول , وأنهم يملكون النفع والضر . . ذلك ليقضي بهم لباناته وأغراضه , وليحقق بهم الشر في الأرض والفساد , وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب , فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ; ولا يفكر أحد في الانتقاض عليهم , ودفعهم عن الشر والفساد .
والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل , وأن يتضخم الشر , وأن يتبدى قويا قادرا قاهرا بطاشا جبارا , لا تقف في وجهه معارضة , ولا يصمد له مدافع , ولا يغلبه من المعارضين غالب . . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا . فتحت ستار الخوف والرهبة , وفي ظل الإرهاب والبطش , يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ! يقلبون المعروف منكرا , والمنكر معروفا , وينشرون الفساد والباطل والضلال , ويخفتون صوت الحق والرشد والعدل , ويقيمون أنفسهم آلهة في الأرض تحمي الشر وتقتل الخير . . دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف في وجههم , ومطاردتهم وطردهم من مقام القيادة . بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذي يروجون له , وجلاء الحق الذي يطمسونه . .
والشيطان ماكر خادع غادر , يختفي وراء أوليائه , وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته . . ومن هنا يكشفه الله , ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره . ويعرف المؤمنين الحقيقة:حقيقة مكره ووسوسته , ليكونوا منها على حذر . فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم . فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه , ويستند إلى قوته . . إن القوة الوحيدة التي تخشى وتخاف هي القوة التي تملك النفع والضر . هي قوة الله . وهي القوة التي يخشاها المؤمنون بالله , وهم حين يخشونها وحدها أقوى الأقوياء . فلا تقف لهم قوة في الأرض . . لا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان:
(فلا تخافوهم . وخافون إن كنتم مؤمنين). .
وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
الدرس العاشر:176 - 179 تسلية ومواساة بعد أحداث أحد
وأخيرا يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب , إلى الرسول [ ص ] يسليه ويؤسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن , من مسارعة الكفار إلى الكفر , ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف ! فإن هذا لن يضر الله شيئا . وإنما هي فتنة الله لهم , وقدر الله بهم , فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة ; فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته ! وقد كان الهدى مبذولا لهم , فآثروا عليه الكفر ; فتركوا يسارعون في الكفر . وأملي لهم ليزدادوا إثما مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء . فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء . . ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها:من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين . إنها تمييز الخبيث من الطيب , بالاختبار والابتلاء , فقد كان أمر القلوب غيبا مما يستأثر الله به , ولا يطلع الناس عليه , فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر , وبالوسيلة التي يدركها البشر . . فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين , ليتكشف المخبوء في القلوب , ويتميز الخبيث من الطيب ; ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين:
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , إنهم لن يضروا الله شيئا , يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة , ولهم عذاب عظيم . إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا , ولهم عذاب أليم . ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم , إنما نملي لهم ليزدادوا إثما , ولهم عذاب مهين . ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه , حتى يميز الخبيث من الطيب , وما كان الله ليطلعكم على الغيب , ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء , فآمنوا بالله ورسله , وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة ; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة . . فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور ; أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب , أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل . ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة , ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة !
هناك دائما الشبهة الكاذبة , أو الأمنية العاتبة:لماذا يا رب ? لماذا يصاب الحق وينجو الباطل ? لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل ? ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل , ويعود بالغلبة والغنيمة ? أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر ? وفيم تكون للباطل هذه الصولة ? وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة , وفيها فتنة للقلوب وهزة ?!
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم أحد في دهشة واستغراب:" أنى هذا ?! " . .
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير , والبيان الأخير . ويريح الله القلوب المتعبة , ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية , ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله:أمس واليوم وغدا . وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية:
إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك وبقاءه منتفشا فترة من الزمان , ليس معناه أن الله تاركه , أو أنه من القوة بحيث لا يغلب , أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا . .
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك , وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان , ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه ! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه . .
كلا . إنما هي حكمة وتدبير . . هنا وهناك . . يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق ; وليرتكب أبشع الآثام , وليحمل أثقل الأوزار , ولينال أشد العذاب باستحقاق ! . . ويبتلى الحق , ليميز الخبيث من الطيب , ويعظمالأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت . . فهو الكسب للحق والخسار للباطل , مضاعفا هذا وذاك ! هنا وهناك !
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر , إنهم لن يضروا الله شيئا , يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة , ولهم عذاب عظيم). .
إنه يواسي النبي [ ص ] ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره ; وهو يرى المغالين في الكفر , يسارعون فيه , ويمضون بعنف واندفاع وسرعة , كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه !
وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية . فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية ; كأنه يجهد لنيل السبق فيه ! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف , أو من يهتف له من الإمام , إلى جائزة تنال ! وكان الحزن يساور قلب رسول الله [ ص ] حسرة على هؤلاء العباد ; الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار , وهو لا يملك لهم ردا , وهم لا يسمعون له نذارة ! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر , من الشر والأذى يصيب المسلمين , ويصيب دعوة الله , وسيرها بين الجماهير , التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية . . فلما
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
أسلمت قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا . . ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم . فيطمئن الله رسوله [ ص ] ويواسي قلبه , ويمسح عنه الحزن الذي يساوره .
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . إنهم لن يضروا الله شيئا). .
وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئا . والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان . إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو ; وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو . ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول [ ص ] وعاتق المسلمين جملة . . فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله , وهم أضعف من أن يضروا الله شيئا . . وهم إذن لن يضروا دعوته . ولن يضروا حملة هذه الدعوة . مهما سارعوا في الكفر , ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى .
إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين , وينتفشون غالبين , وهم أعداؤه المباشرون ?
لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى !
(يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة). .
يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله ; وأن يحملوا وزرهم كله , وأن يستحقوا عذابهم كله , وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق !
(ولهم عذاب عظيم). .
ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة ? لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان .
(إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم). .
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم . دلائله مبثوثة في صفحات الكون , وفي أعماق الفطرة . وأماراته قائمة في "تصميم" هذا الوجود العجيب , وفي تناسقه وتكامله الغريب , وقائمة كذلك في "تصميم" الفطرة المباشرة , وتجاوبها مع هذا الوجود , وشعورها باليد الصانعة , وبطابع الصنعة البارعة . . ثم إن الدعوة إلى الإيمان - بعد هذا كله - قائمة على لسان الرسل , وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة , ومن جمال
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)
التناسق , ومن صلاحية للحياة والناس . .
أجل كان الإيمان مبذولا لهم , فباعوه واشتروا به الكفر , على علم وعن بينة , ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر , ليستنفدوا رصيدهم كله , ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة . ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا . فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء . ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا ; ولم يجعل في الباطل قوة . فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته , بهذه القوة الضئيلة الهزيلة , مهما انتفشت , ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين !
(ولهم عذاب أليم). .
أشد إيلاما - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من الآم !
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . ولهم عذاب مهين). .
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور , والشبهة التي تجول في بعض القلوب , والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح , وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق , متروكين لا يأخذهم العذاب , ممتعين في ظاهر الأمر , بالقوة والسلطة والمال والجاه ! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ; ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ; يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان , فيملي له ويرخي له العنان ! أو يحسبون أن الله - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل , فيدع للباطل أن يحطم الحق , ولا يتدخل لنصرته ! أو يحسبون أن هذا الباطل حق , وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب ?! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض , وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر ! ثم . . يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين , يلجون في عتوهم , ويسارعون في كفرهم , ويلجون في طغيانهم , ويظنون أن الأمر قد استقام لهم , وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم !!!
وهذا كله وهم باطل , وظن بالله غير الحق , والأمر ليس كذلك . وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن . . إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه , وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه . . إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء , فإنما هي الفتنة ; وإنما هو الكيد المتين , وإنما هو الاستدراج البعيد:
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)!
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة , بالابتلاء الموقظ , لابتلاهم . . ولكنه لا يريد بهم خيرا , وقد اشتروا الكفر بالإيمان , وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه ! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء !
(ولهم عذاب مهين). .
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء .
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير . فإذا أصابت أولياءه , فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم - ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف , وفضل الله على أوليائه المؤمنين .
مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
وهكذا تستقر القلوب , وتطمئن النفوس , وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم .
ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين , أن يميزهم من المنافقين , الذين اندسوا في الصفوف , تحت تأثير ملابسات شتى , ليست من حب الإسلام في شيء . فابتلاهم الله هذا الابتلاء - في أحد - بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم , ليميز الخبيث من الطيب , عن هذا الطريق:
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . وما كان الله ليطلعكم على الغيب . ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء . فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته , وليس من فعل سنته , أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز ; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان , ومظهر الإسلام , بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان , ومن روح الإسلام . فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا , ولتحمل منهجا إلهيا عظيما , ولتنشىء في الأرض واقعا فريدا , ونظاما جديدا . . وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك , ويقتضي ألا يكون في الصف خلل , ولا في بنائه دخل . . وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض ; وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة . .
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث . وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة . وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر . . ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب , ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة !
(ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . إنهم لن يضروا الله شيئا). .
وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئا . والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان . إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو ; وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو . ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول [ ص ] وعاتق المسلمين جملة . . فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله , وهم أضعف من أن يضروا الله شيئا . . وهم إذن لن يضروا دعوته . ولن يضروا حملة هذه الدعوة . مهما سارعوا في الكفر , ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى .
إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين , وينتفشون غالبين , وهم أعداؤه المباشرون ?
لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى !
(يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة). .
يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله ; وأن يحملوا وزرهم كله , وأن يستحقوا عذابهم كله , وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق !
(ولهم عذاب عظيم). .
ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة ? لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان .
(إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم). .
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم . دلائله مبثوثة في صفحات الكون , وفي أعماق الفطرة . وأماراته قائمة في "تصميم" هذا الوجود العجيب , وفي تناسقه وتكامله الغريب , وقائمة كذلك في "تصميم" الفطرة المباشرة , وتجاوبها مع هذا الوجود , وشعورها باليد الصانعة , وبطابع الصنعة البارعة . . ثم إن الدعوة إلى الإيمان - بعد هذا كله - قائمة على لسان الرسل , وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة , ومن جمال
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178)
التناسق , ومن صلاحية للحياة والناس . .
أجل كان الإيمان مبذولا لهم , فباعوه واشتروا به الكفر , على علم وعن بينة , ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر , ليستنفدوا رصيدهم كله , ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة . ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا . فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء . ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا ; ولم يجعل في الباطل قوة . فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته , بهذه القوة الضئيلة الهزيلة , مهما انتفشت , ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين !
(ولهم عذاب أليم). .
أشد إيلاما - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من الآم !
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما . ولهم عذاب مهين). .
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور , والشبهة التي تجول في بعض القلوب , والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح , وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق , متروكين لا يأخذهم العذاب , ممتعين في ظاهر الأمر , بالقوة والسلطة والمال والجاه ! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ; ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ; يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان , فيملي له ويرخي له العنان ! أو يحسبون أن الله - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل , فيدع للباطل أن يحطم الحق , ولا يتدخل لنصرته ! أو يحسبون أن هذا الباطل حق , وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب ?! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض , وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر ! ثم . . يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين , يلجون في عتوهم , ويسارعون في كفرهم , ويلجون في طغيانهم , ويظنون أن الأمر قد استقام لهم , وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم !!!
وهذا كله وهم باطل , وظن بالله غير الحق , والأمر ليس كذلك . وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن . . إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه , وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه . . إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء , فإنما هي الفتنة ; وإنما هو الكيد المتين , وإنما هو الاستدراج البعيد:
(ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم . . إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)!
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة , بالابتلاء الموقظ , لابتلاهم . . ولكنه لا يريد بهم خيرا , وقد اشتروا الكفر بالإيمان , وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه ! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء !
(ولهم عذاب مهين). .
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء .
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير . فإذا أصابت أولياءه , فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم - ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف , وفضل الله على أوليائه المؤمنين .
مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
وهكذا تستقر القلوب , وتطمئن النفوس , وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم .
ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين , أن يميزهم من المنافقين , الذين اندسوا في الصفوف , تحت تأثير ملابسات شتى , ليست من حب الإسلام في شيء . فابتلاهم الله هذا الابتلاء - في أحد - بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم , ليميز الخبيث من الطيب , عن هذا الطريق:
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . وما كان الله ليطلعكم على الغيب . ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء . فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته , وليس من فعل سنته , أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز ; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان , ومظهر الإسلام , بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان , ومن روح الإسلام . فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا , ولتحمل منهجا إلهيا عظيما , ولتنشىء في الأرض واقعا فريدا , ونظاما جديدا . . وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك , ويقتضي ألا يكون في الصف خلل , ولا في بنائه دخل . . وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض ; وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة . .
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث . وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة . وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر . . ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب , ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة !
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
كذلك ما كان من شأن الله - سبحانه - أن يطلع البشر على الغيب , الذي استأثر به , فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب , وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس "مصمما" على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار . وهو مصمم هكذا بحكمة . مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض . وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب . ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم . لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه , ويصل كيانه بكيان هذا الكون . وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها , ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض , أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر , بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض !
من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه , ولا من مقتضى حكمته , ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب .
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب ? وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم , وتجريده من الغبش , وتمحيصه من النفاق , وإعداده للدور الكوني العظيم , الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به ?
(ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء). .
وعن طريق الرسالة , وعن طريق الإيمان بها أو الكفر , وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة , وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد . . عن طريق هذا كله يتم شأن الله , وتتحقق سنته , ويميز اللهالخبيث من الطيب , ويمحص القلوب , ويطهر النفوس . . ويكون من قدر الله ما يكون . .
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله , وهي تتحقق في الحياة ; وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة . .
وامام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة , يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه , ويلوح لهم بفضل الله العظيم , الذي ينتظر المؤمنين .
(فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .
فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب , بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان , خير خاتمة لاستعراض الأحداث في "أحد" والتعقيب على هذه الأحداث . .
دروس من غزوة أحد
وبعد . . فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة , يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال . فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها , ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:
- 1 لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية , وفي طريقته في العمل في حياة البشر . وهي حقيقة أولية بسيطة , ولكنها كثيرا ما تنسى , أو لا تدرك ابتداء , فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين:في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية , وفي دوره أمس واليوم وغدا . .
إن بعضنا ينتظر من هذا الدين - ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية - أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة ! دون اعتبار لطبيعة البشر , ولطاقتهم الفطرية , ولواقعهم المادي , في أية مرحلة من مراحل نموهم , وفي أية بيئة من بيئاتهم !
وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة , وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية , وحدود الواقع المادي للبشر . وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه , فيتأثران به في فترات تأثرا واضحا , أو يؤثران في مدى استجابة الناس له , وقد يكون تأثيرهما مضادا في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين , وجاذبية المطامع والشهوات , دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاها كاملا . . حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها ! - ما دام هذا الدين من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته ! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقا !
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد , هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين , وطريقته , أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة .
إن هذا الدين منهج للحياة البشرية , يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري , في حدود الطاقة البشرية , ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي , ويسير بهم إلى نهاية الطريق , في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية , ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه .
وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة , في أية خطة , وفي أية خطوة , عن طبيعة فطرة الإنسان , وحدود طاقته , وواقعه المادي أيضا . وأنه في الوقت ذاته يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلا في بعض الفترات , وكمايمكن أن يتحقق دائما كلما بذلت محاولة جادة - ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق .
ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها ; ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري ; والتي تبذل فطرة الإنسان , وتنشئه نشأة أخرى , لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته , وواقعه المادي كله !
أليس هو من عند الله ? أليس دينا من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء ? فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية ? ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل ? ثم لماذا لا ينتصر دائما ? ولا ينتصر أصحابه دائما ? لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحيانا ? ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحيانا ?
وكلها - كما نرى - أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها !
إن الله قادر - طبعا - على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه - وكان قادرا على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى . . ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة . وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة . وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة . وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما , ولا تمحى , ولا تبدل , ولا تعطل . وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية . وشاء أن يبلغ "الإنسان" من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة .
وليس لأحد من خلقه أن يسأله:لماذا شاء هذا ? ما دام أن أحدا من خلقه ليس إلها ! وليس لديه العلم , ولا إمكان العلم , بالنظام الكلي للكون , وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود , وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا "التصميم" الخاص !
و "لماذا ? " - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد , ولا يسأله كذلك ملحد جاد . . المؤمن لا يسأله , لأنه أكثر أدبا مع الله - الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته - وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال . . والكافر لا يسأله , لأنه لا يعترف بالله ابتداء . فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته !
ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع . لا هو مؤمن جاد , ولا هو ملحد جاد . . ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه !
وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية . . فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر . إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية - حتى يعرفها فهو مؤمن , أو ينكرها فهو ملحد . . وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء !
ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة ? ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة , لا تمحى , ولا تعدل , ولا تعطل ! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية ?
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة ; ويراها وهي تعمل في واقع البشرية , ويفسر التاريخالبشري على ضوئها ; فيفقه خط سير التاريخ من ناحية , ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى .
هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام - كما جاء به محمد [ ص ] لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس , بمجرد تنزله من عند الله . ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه . ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب , وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية . . إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر , تؤمن به إيمانا كاملا , وتستقيم عليه - بقدر طاقتها - وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ; وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ; وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة . . تجاهد الضعف البشري , والهوى البشري , والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين . وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج . . وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر . على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلا ; ولا تغفل واقعهم , ومقتضيات هذا الواقع , في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها . . ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة ; وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة . بقدر ما تبذل من الجهد ; وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية ; وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب . . وقبل كل شيء , وقبل كل جهد , وقبل كل وسيلة . . هنالك عنصر آخر:هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض . ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها ; ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج , وثقتها به , وتوكلها عليه .
هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته , وهذه هي خطته الحركية ووسيلته . .
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة , وهو يربيها بأحداث معركة أحد ; وبالتعقيب على هذه الأحداث . .
حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة . وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها . وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها ; وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتما بغض النظر عن تصورها وتصرفها - حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة ; وتعاني آلامها المريرة . ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقةأو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم:أنى هذا ? قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير). .
ولكنه - كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص - لا يترك المسلمين عند هذه النقطة , بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ; ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء , الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة . .
إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري , ويتأثر بتصرف البشر إزاءه . . هو خير في عمومه , فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها ; ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها . . ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان ; ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية . . وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد , والصبر على الأذى , والصبر على الهزيمة , والصبر على النصر أيضا - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة - وحتى يتمحص القلب , ويتميز الصف , وتستقيم الجماعة على الطريق , وتمضي فيه راشدة صاعدة , متوكلة على الله .
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . لأنه يجاهد نفسه أولا في أثناء مجاهدته للناس ; وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدا , وهو قاعد آمن سالم ; وتتبين له حقائق في الناس , وفي الحياة , لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة ; ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته , وبعاداته وطباعه , وبانفعالاته واستجاباته , ما لم يكن ليبلغه أبدا , بدون هذه التجربة الشاقة المريرة .
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة , حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء , وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته , وعلى حقيقة غايته ; ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها . مدى احتمال كل لبنة , ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام .
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة , وهو يربيها بالأحداث في "أحد" وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة . وهو يقول لها , بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله , وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا). . وهو يقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب). ثم . . وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعا ; فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنةإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله , وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا , ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين , وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين). .
وإذن فهو - في النهاية - قدر الله وتدبيره وحكمته , من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات . . وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل , يستقر في النفس من وراء الأحداث , والتعقيب المنير على هذه الأحداث .
- 2 وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية , وطبيعة الجهد البشري , ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:
إن النفس البشرية ليست كاملة - في واقعها - ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء , حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وها نحن أولاء نرى قطاعا من قطاعات البشرية - كما هو وعلى الطبيعة - ممثلا في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). . وهم أصحاب محمد [ ص ] المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق . . فماذا نرى ? نرى مجموعة من البشر , فيهم الضعف وفيهم النقص , وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم). ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر , وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون , منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم). . وفيهم من يقول الله عنهمإذ همت طائفتان منكم أن تفشلا , والله وليهما , وعلى الله فليتوكل المؤمنون). . وفيهم من ينهزم وينكشف , وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم . فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . .
وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون ; ولكنهم كانوا في أوائل الطريق . كانوا في دور التربية والتكوين . ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر , مسلمين أمرهم لله , مرتضين قيادته , ومستسلمين لمنهجه . ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه , بل رحمهم وعفا عنهم ; وأمر نبيه [ ص ] أن يعفو عنهم , ويستغفر لهم , وأمره أن يشاورهم في الأمر , بعد كل ما وقع منهم , وبعد كل ما وقع من جراء المشورة ! نعم إنه - سبحانه -تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك , وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير . . ولكنه لم يطردهم خارج الصف , ولم يقل لهم:إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر , بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف . . لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم , ورباهم بالابتلاء , ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء , والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات . في رحمة وفي عفو وفي سماحة ; كما يربت الكبير على الصغار ; وهم يكتوون بالنار , ليعرفوا ويدركوا وينضجوا . وكشف لهم ضعفهم , ومخبآت نفوسهم , لا ليفضحهم بها , ويرذلهم , ويحقرهم , ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملا . ولكن ليأخذ بأيديهم , ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين .
ثم وصلوا . . وصلوا في النهاية , وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة . وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح , يخرجون مع رسول الله [ ص ] غير هيابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهمالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا , وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل). .
ولما كبروا بعد ذلك شيئا فشيئا . . تغيرت معاملتهم , وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار . بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال ! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة ; ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين , تلك المؤاخذة العسيرة , يجد الفرق واضحا في المعاملة ; ويجد الفرق واضحا في مراحل التربية الإلهية العجيبة . كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد , والقوم يوم تبوك . . وهم هم . . ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق . . ولكنهم مع هذا ظلوا بشرا . وظل فيهم الضعف , والنقص , والخطأ . ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله .
إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج ; ولا يبدلها أو يعطلها , ولا يحملها ما لا تطيق . وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية , لتحاول وتبلغ , في ظل هذا المنهج الفريد . فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة , إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه . وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية . متخلفة في كل شيء . على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس . . وكل ذلك يعطي البشرية أملا كبيرا في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي , مهما تكن قابعة في السفح . ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة , فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر . فهي ليست وليدة خارقة عابرة . إنما هي وليدة المنهج الإلهي , الذي يتحقق بالجهد البشري , في حدود الطاقة البشرية - والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير !
هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها , ومن الواقع المادي الذي هي فيه . ثم يمضي بها صعدا كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة . . من السفح . . ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان , إلى ذلك الأوج السامق . .
شرط واحد لا بد أن يتحقق . . أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج . أن تؤمن به . وأن تستسلم له . وأن تتخذه قاعدة حياتها , وشعار حركتها , وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل . .
3 - وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها . . حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة , وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان . الارتباط بين العقيدة والتصوروالخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي . . وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة . . فكل هذه عوام أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة . والمنهج الإلهي - من ثم - يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية . مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط , متكاملة في الوقت ذاته وشاملة . والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساحات كلها والنقط والخطوط والخيوط . . وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي
من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه , ولا من مقتضى حكمته , ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب .
إذن كيف يميز الله الخبيث من الطيب ? وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم , وتجريده من الغبش , وتمحيصه من النفاق , وإعداده للدور الكوني العظيم , الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به ?
(ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء). .
وعن طريق الرسالة , وعن طريق الإيمان بها أو الكفر , وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة , وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد . . عن طريق هذا كله يتم شأن الله , وتتحقق سنته , ويميز اللهالخبيث من الطيب , ويمحص القلوب , ويطهر النفوس . . ويكون من قدر الله ما يكون . .
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله , وهي تتحقق في الحياة ; وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة . .
وامام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة , يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه , ويلوح لهم بفضل الله العظيم , الذي ينتظر المؤمنين .
(فآمنوا بالله ورسله . وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم). .
فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب , بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان , خير خاتمة لاستعراض الأحداث في "أحد" والتعقيب على هذه الأحداث . .
دروس من غزوة أحد
وبعد . . فقد تمخضت المعركة والتعقيب القرآني عليها عن حقائق ضخمة منوعة , يصعب إحصاؤها ثم إيفاؤها حقها من البسط والعرض في هذا السياق من الظلال . فنكتفي بالإشارة إلى أشملها وأبرزها , ليقاس عليه سائر ما في الغزوة كما عرضها القرآن الكريم من مواضع للعبرة والاستدلال:
- 1 لقد تمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة في طبيعة هذا الدين الذي هو المنهج الإلهي للحياة البشرية , وفي طريقته في العمل في حياة البشر . وهي حقيقة أولية بسيطة , ولكنها كثيرا ما تنسى , أو لا تدرك ابتداء , فينشأ عن نسيانها أو عدم إدراكها خطأ جسيم في النظر إلى هذا الدين:في حقيقته وفي واقعه التاريخي في حياة الإنسانية , وفي دوره أمس واليوم وغدا . .
إن بعضنا ينتظر من هذا الدين - ما دام هو المنهج الإلهي للحياة البشرية - أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة ! دون اعتبار لطبيعة البشر , ولطاقتهم الفطرية , ولواقعهم المادي , في أية مرحلة من مراحل نموهم , وفي أية بيئة من بيئاتهم !
وحين يرون أنه لا يعمل بهذه الطريقة , وإنما هو يعمل في حدود الطاقة البشرية , وحدود الواقع المادي للبشر . وأن هذه الطاقة وهذا الواقع يتفاعلان معه , فيتأثران به في فترات تأثرا واضحا , أو يؤثران في مدى استجابة الناس له , وقد يكون تأثيرهما مضادا في فترات أخرى فتقعد بالناس ثقلة الطين , وجاذبية المطامع والشهوات , دون تلبية هتاف الدين أو الاتجاه معه في طريقه اتجاها كاملا . . حين يرون هذه الظواهر فإنهم يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها ! - ما دام هذا الدين من عند الله - أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته ! أو يصابون بالشك في الدين إطلاقا !
وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد , هو عدم إدراك طبيعة هذا الدين , وطريقته , أو نسيان هذه الحقيقة الأولية البسيطة .
إن هذا الدين منهج للحياة البشرية , يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد بشري , في حدود الطاقة البشرية , ويبدأ في العمل من النقطة التي يكون البشر عندها بالفعل من واقعهم المادي , ويسير بهم إلى نهاية الطريق , في حدود جهدهم البشري وطاقتهم البشرية , ويبلغ بهم أقصى ما تمكنهم طاقتهم وجهدهم من بلوغه .
وميزته الأساسية أنه لا يغفل لحظة , في أية خطة , وفي أية خطوة , عن طبيعة فطرة الإنسان , وحدود طاقته , وواقعه المادي أيضا . وأنه في الوقت ذاته يبلغ به - كما تحقق ذلك فعلا في بعض الفترات , وكمايمكن أن يتحقق دائما كلما بذلت محاولة جادة - ما لم يبلغه وما لا يبلغه أي منهج آخر من صنع البشر على الإطلاق .
ولكن الخطأ كله - كما تقدم - ينشأ من عدم الإدراك لطبيعة هذا الدين أو نسيانها ; ومن انتظار الخوارق التي لا ترتكن على الواقع البشري ; والتي تبذل فطرة الإنسان , وتنشئه نشأة أخرى , لا علاقة لها بفطرته وميوله واستعداده وطاقاته , وواقعه المادي كله !
أليس هو من عند الله ? أليس دينا من عند القوة القادرة التي لا يعجزها شيء ? فلماذا إذن يعمل فقط في حدود الطاقة البشرية ? ولماذا يحتاج إلى الجهد البشري ليعمل ? ثم لماذا لا ينتصر دائما ? ولا ينتصر أصحابه دائما ? لماذا تغلب عليه ثقلة الطبع والشهوات والواقع المادي أحيانا ? ولماذا يغلب أهل الباطل على أصحابه وهم أهل الحق أحيانا ?
وكلها - كما نرى - أسئلة وشبهات تنبع من عدم إدراك الحقيقة الأولية البسيطة لطبيعة هذا الدين وطريقته أو نسيانها !
إن الله قادر - طبعا - على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو من غير طريقه - وكان قادرا على أن يخلقه منذ البدء بفطرة أخرى . . ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة . وشاء أن يجعل لهذا الإنسان إرادة واستجابة . وشاء أن يجعل الهدى ثمرة للجهد والتلقي والاستجابة . وشاء أن تعمل فطرة الإنسان دائما , ولا تمحى , ولا تبدل , ولا تعطل . وشاء أن يتم تحقيق منهجه للحياة في حياة البشر عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية . وشاء أن يبلغ "الإنسان" من هذا كله بقدر ما يبذل من الجهد في حدود ملابسات حياته الواقعة .
وليس لأحد من خلقه أن يسأله:لماذا شاء هذا ? ما دام أن أحدا من خلقه ليس إلها ! وليس لديه العلم , ولا إمكان العلم , بالنظام الكلي للكون , وبمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود , وبالحكمة المغيبة وراء خلق كل كائن بهذا "التصميم" الخاص !
و "لماذا ? " - في هذا المقام - سؤال لا يسأله مؤمن جاد , ولا يسأله كذلك ملحد جاد . . المؤمن لا يسأله , لأنه أكثر أدبا مع الله - الذي يعرفه قلبه بحقيقته وصفاته - وأكثر معرفة بأن الإدراك البشري لم يهيأ للعمل في هذا المجال . . والكافر لا يسأله , لأنه لا يعترف بالله ابتداء . فإن اعترف بألوهيته عرف معها أن هذا شأنه - سبحانه - ومقتضى ألوهيته !
ولكنه سؤال قد يسأله هازل مائع . لا هو مؤمن جاد , ولا هو ملحد جاد . . ومن ثم لا ينبغي الاحتفال به ولا الجد في أخذه !
وقد يسأله جاهل بحقيقة الألوهية . . فالسبيل لإجابة هذا الجاهل ليس هو الجواب المباشر . إنما هو تعريفه بحقيقة الألوهية - حتى يعرفها فهو مؤمن , أو ينكرها فهو ملحد . . وبهذا ينتهي الجدل إلا أن يكون مراء !
ليس لأحد من خلق الله إذن أن يسأله - سبحانه - لماذا شاء أن يخلق الكائن الإنساني بهذه الفطرة ? ولماذا شاء أن تبقى فطرته هذه عاملة , لا تمحى , ولا تعدل , ولا تعطل ! ولماذا شاء أن يجعل المنهج الإلهي يتحقق في حياته عن طريق الجهد البشري , وفي حدود الطاقة البشرية ?
ولكن لكل أحد من خلقه أن يدرك هذه الحقيقة ; ويراها وهي تعمل في واقع البشرية , ويفسر التاريخالبشري على ضوئها ; فيفقه خط سير التاريخ من ناحية , ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى .
هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام - كما جاء به محمد [ ص ] لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس , بمجرد تنزله من عند الله . ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه . ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب , وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية . . إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر , تؤمن به إيمانا كاملا , وتستقيم عليه - بقدر طاقتها - وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها ; وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك ; وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهدا ولا طاقة . . تجاهد الضعف البشري , والهوى البشري , والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين . وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج . . وتبلغ - بعد ذلك كله - من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر . على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلا ; ولا تغفل واقعهم , ومقتضيات هذا الواقع , في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها . . ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة ; وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة . بقدر ما تبذل من الجهد ; وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية ; وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب . . وقبل كل شيء , وقبل كل جهد , وقبل كل وسيلة . . هنالك عنصر آخر:هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض . ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها ; ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج , وثقتها به , وتوكلها عليه .
هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته , وهذه هي خطته الحركية ووسيلته . .
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة , وهو يربيها بأحداث معركة أحد ; وبالتعقيب على هذه الأحداث . .
حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة . وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها . وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها ; وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتما بغض النظر عن تصورها وتصرفها - حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة ; وتعاني آلامها المريرة . ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقةأو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم:أنى هذا ? قل هو من عند أنفسكم . إن الله على كل شيء قدير). .
ولكنه - كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص - لا يترك المسلمين عند هذه النقطة , بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ; ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء , الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة . .
إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري , ويتأثر بتصرف البشر إزاءه . . هو خير في عمومه , فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها ; ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها . . ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان ; ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية . . وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد , والصبر على الأذى , والصبر على الهزيمة , والصبر على النصر أيضا - فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة - وحتى يتمحص القلب , ويتميز الصف , وتستقيم الجماعة على الطريق , وتمضي فيه راشدة صاعدة , متوكلة على الله .
حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان . لأنه يجاهد نفسه أولا في أثناء مجاهدته للناس ; وتتفتح له في الإيمان آفاق لم تكن لتتفتح له أبدا , وهو قاعد آمن سالم ; وتتبين له حقائق في الناس , وفي الحياة , لم تكن لتتبين له أبدا بغير هذه الوسيلة ; ويبلغ هو بنفسه وبمشاعره وتصوراته , وبعاداته وطباعه , وبانفعالاته واستجاباته , ما لم يكن ليبلغه أبدا , بدون هذه التجربة الشاقة المريرة .
وحقيقة الإيمان لا يتم تمامها في جماعة , حتى تتعرض للتجربة والامتحان والابتلاء , وحتى يتعرف كل فرد فيها على حقيقة طاقته , وعلى حقيقة غايته ; ثم تتعرف هي على حقيقة اللبنات التي تتألف منها . مدى احتمال كل لبنة , ثم مدى تماسك هذه اللبنات في ساعة الصدام .
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة , وهو يربيها بالأحداث في "أحد" وبالتعقيب على هذه الأحداث في هذه السورة . وهو يقول لها , بعد بيان السبب الظاهر في ما أصابها: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله , وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا). . وهو يقول: (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب). ثم . . وهو يردهم إلى قدر الله وحكمته من وراء الأسباب والوقائع جميعا ; فيردهم إلى حقيقة الإيمان الكبرى التي لا يتم إلا باستقرارها في النفس المؤمنةإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله , وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا , ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين , وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين). .
وإذن فهو - في النهاية - قدر الله وتدبيره وحكمته , من وراء الأسباب والأحداث والأشخاص والحركات . . وهو التصور الإسلامي الشامل الكامل , يستقر في النفس من وراء الأحداث , والتعقيب المنير على هذه الأحداث .
- 2 وتمخضت المعركة والتعقيب عليها عن حقيقة أساسية كبيرة عن طبيعة النفس البشرية وطبيعة الفطرة الإنسانية , وطبيعة الجهد البشري , ومدى ما يمكن أن يبلغه في تحقيق المنهج الإلهي:
إن النفس البشرية ليست كاملة - في واقعها - ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء , حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وها نحن أولاء نرى قطاعا من قطاعات البشرية - كما هو وعلى الطبيعة - ممثلا في الجماعة التي تمثل قمة الأمة التي يقول الله عنها: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). . وهم أصحاب محمد [ ص ] المثل الكامل للنفس البشرية على الإطلاق . . فماذا نرى ? نرى مجموعة من البشر , فيهم الضعف وفيهم النقص , وفيهم من يبلغ أن يقول الله عنهم: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم). ومن يبلغ أن يقول الله عنهم: (حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر , وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون , منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم). . وفيهم من يقول الله عنهمإذ همت طائفتان منكم أن تفشلا , والله وليهما , وعلى الله فليتوكل المؤمنون). . وفيهم من ينهزم وينكشف , وتبلغ منهم الهزيمة ما وصفه الله سبحانه بقوله: إذ تصعدون ولا تلوون على أحد , والرسول يدعوكم في أخراكم . فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . .
وكل هؤلاء مؤمنون مسلمون ; ولكنهم كانوا في أوائل الطريق . كانوا في دور التربية والتكوين . ولكنهم كانوا جادين في أخذ هذا الأمر , مسلمين أمرهم لله , مرتضين قيادته , ومستسلمين لمنهجه . ومن ثم لم يطردهم الله من كنفه , بل رحمهم وعفا عنهم ; وأمر نبيه [ ص ] أن يعفو عنهم , ويستغفر لهم , وأمره أن يشاورهم في الأمر , بعد كل ما وقع منهم , وبعد كل ما وقع من جراء المشورة ! نعم إنه - سبحانه -تركهم يذوقون عاقبة تصرفاتهم تلك , وابتلاهم ذلك الابتلاء الشاق المرير . . ولكنه لم يطردهم خارج الصف , ولم يقل لهم:إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر , بعد ما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف . . لقد قبل ضعفهم هذا ونقصهم , ورباهم بالابتلاء , ثم رباهم بالتعقيب على الابتلاء , والتوجيه إلى ما فيه من عبر وعظات . في رحمة وفي عفو وفي سماحة ; كما يربت الكبير على الصغار ; وهم يكتوون بالنار , ليعرفوا ويدركوا وينضجوا . وكشف لهم ضعفهم , ومخبآت نفوسهم , لا ليفضحهم بها , ويرذلهم , ويحقرهم , ولا ليرهقهم ويحملهم ما لا يطيقون له حملا . ولكن ليأخذ بأيديهم , ويوحي إليهم أن يثقوا بأنفسهم ولا يحتقروها ولا ييأسوا من الوصول ما داموا موصولين بحبل الله المتين .
ثم وصلوا . . وصلوا في النهاية , وغلبت فيهم النماذج التي كانت في أول المعركة معدودة . وإذا هم في اليوم التالي للهزيمة والقرح , يخرجون مع رسول الله [ ص ] غير هيابين ولا مترددين ولا وجلين من تخويف الناس لهم حتى استحقوا تنويه الله بهمالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا , وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل). .
ولما كبروا بعد ذلك شيئا فشيئا . . تغيرت معاملتهم , وحوسبوا كما يحاسب الرجال الكبار . بعد ما كانوا يربتون هنا كما يربت الأطفال ! والذي يراجع غزوة تبوك في سورة براءة ; ومؤاخذة الله ورسوله للنفر القلائل المتخلفين , تلك المؤاخذة العسيرة , يجد الفرق واضحا في المعاملة ; ويجد الفرق واضحا في مراحل التربية الإلهية العجيبة . كما يجد الفارق بين القوم يوم أحد , والقوم يوم تبوك . . وهم هم . . ولكن بلغت بهم التربية الإلهية هذا المستوى السامق . . ولكنهم مع هذا ظلوا بشرا . وظل فيهم الضعف , والنقص , والخطأ . ولكن ظل فيهم كذلك الاستغفار والتوبة والرجوع إلى الله .
إنها الطبيعة البشرية التي يحافظ عليها هذا المنهج ; ولا يبدلها أو يعطلها , ولا يحملها ما لا تطيق . وإن بلغ بها أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض .
وهذه الحقيقة ذات قيمة كبيرة في إعطاء الأمل الدائم للبشرية , لتحاول وتبلغ , في ظل هذا المنهج الفريد . فهذه القمة السامقة التي بلغتها تلك الجماعة , إنما بدأت تنهد إليها من السفح الذي التقطها منه . وهذه الخطى المتعثرة في الطريق الشاق زاولتها جماعة بشرية متخلفة في الجاهلية . متخلفة في كل شيء . على النحو الذي عرضنا نماذج منه في سياق هذا الدرس . . وكل ذلك يعطي البشرية أملا كبيرا في إمكان الوصول إلى ذلك المرتقى السامي , مهما تكن قابعة في السفح . ولا يعزل هذه الجماعة الصاعدة , فيجعلها وليدة معجزة خارقة لا تتكرر . فهي ليست وليدة خارقة عابرة . إنما هي وليدة المنهج الإلهي , الذي يتحقق بالجهد البشري , في حدود الطاقة البشرية - والطاقة البشرية كما نرى قابلة للكثير !
هذا المنهج يبدأ بكل جماعة من النقطة التي هي فيها , ومن الواقع المادي الذي هي فيه . ثم يمضي بها صعدا كما بدأ بتلك الجماعة من الجاهلية العربية الساذجة . . من السفح . . ثم انتهى بها في فترة وجيزة لم تبلغ ربع قرن من الزمان , إلى ذلك الأوج السامق . .
شرط واحد لا بد أن يتحقق . . أن تسلم الجماعات البشرية قيادها لهذا المنهج . أن تؤمن به . وأن تستسلم له . وأن تتخذه قاعدة حياتها , وشعار حركتها , وحادي خطاها في الطريق الشاق الطويل . .
3 - وحقيقة ثالثة تمخضت عنها المعركة والتعقيب عليها . . حقيقة الارتباط الوثيق في منهج الله بين واقع النفس المسلمة والجماعة المسلمة , وبين كل معركة تخوضها مع أعدائها في أي ميدان . الارتباط بين العقيدة والتصوروالخلق والسلوك والتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي . . وبين النصر أو الهزيمة في كل معركة . . فكل هذه عوام أساسية فيما يصيبها من نصر أو هزيمة . والمنهج الإلهي - من ثم - يعمل في مساحة هائلة في النفس الإنسانية وفي الحياة البشرية . مساحة متداخلة الساحات والنقط والخطوط والخيوط , متكاملة في الوقت ذاته وشاملة . والخطة يصيبها الخلل والفشل حين يختل الترابط والتناسق بين هذه الساحات كلها والنقط والخطوط والخيوط . . وهذه ميزة ذلك المنهج الكلي
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
الشامل , الذي يأخذ الحياة جملة , ولا يأخذها مزقا وتفاريق . والذي يتناول النفس والحياة من أقطارها جميعا , ويلم خيوطها المتشابكة المتباعدة , في قبضته , فيحركها كلها حركة واحدة متناسقة , لا تصيب النفس بالفصام , ولا تصيب الحياة بالتمزق والانقسام .
ومن نماذج هذا التجميع , وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه - في التعقيب القرآني - عن الخطيئة , وأثرها في النصر والهزيمة . فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا). . كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا - وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به - بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا - والله يحب الصابرين - وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين . . وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة , توجيهها للتطهر والاستغفاروسارعوا إلى مغفرة من ربكم , وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين , الذين ينفقون في السراء والضراء , والكاظمين الغيظ , والعافين عن الناس , والله يحب المحسنين , والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم , ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). . ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم:الاعتداء والمعصيةضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). .
وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة , يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة , كما نجد الكلام عن "التقوى " وتصوير حالات المتقين , يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة . ويربط بين جو السورة كلها - على اختلاف موضوعاتها - وجو المعركة . كما نجد الدعوة إلى ترك الربا , وإلى طاعة الله والرسول , وإلى العفو عن الناس , وكظم الغيظ , والإحسان , . . وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية . . والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي إلهام .
4 - وحقيقة رابعة . . عن طبيعة منهج التربية الإسلامي . . فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث , وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات , ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث . . على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد . . وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة , ليصحح تأثره , ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح ! وهو لا يدع جانبا من الجوانب , ولا خاطرة من الخواطر , ولا تصورا من التصورات , ولا استجابة من الاستجابات , حتى يوجه إليها الأنظار ,ويسلط عليها الأنوار , ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة , ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية ; وبذلك يمحص الدخائل , وينظفها ويطهرها في وضح النور ; ويصحح المشاعر والتصورات والقيم ; ويقر المبادىء التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين , وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة . . مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق . .
وننظر في التعقيب على غزوة أحد , فنجد الدقة والعمق والشمول . . الدقة في تناول كل موقف , وكل حركة , وكل خالجة ; والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة ; والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث . ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج . والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف , المسيرة للحادث , كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء ; بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجا عميقا عنيفا , ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف , والتعقيب . فهو وصف حي , يستحضر المشاهد - كما لو كانت تتحرك - ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ , والإيحاء المثير .
5 - وحقيقة خامسة كذلك . . عن واقعية المنهج الإهلي . . فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع , مزاولته بالفعل , فهو لا يقدم مبادىء نظرية , ولا توجيهات مجردة . . ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته . وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة , هو موقفه إزاء مبدأ الشورى . .
لقد كان في استطاعة رسول الله [ ص ] أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة , التي تعرضت لها - وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب , والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها - نقول كان في استطاعة رسول الله [ ص ] أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها , لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة , مستندا إلى رؤياه الصادقة ; وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة ; ولم يستشر أصحابه , أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة ! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع , وقد خرج من بيته , فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد !
ولكنه - وهو يقدر النتائج كلها - أنفذ الشورى . وانفذ ما استقرت عليه , ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية , وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي , وتبعة العمل . لأن هذا في تقديره [ ص ] وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه , أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة , ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة . فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة , وحرمانها المعرفة , وحرمانها التربية !
ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى - بعد المعركة كذلك - تثبيتا للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة . فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية , وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية . .
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته ! فهو يعلم أنها لن تستعد أبدا لمزاولته إلا إذا زاولته فعلا , وإن حرمانها من مزاولة مبادى ء حياتها الأساسية - كمبدأ الشورى - شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله , وأن الأخطاء في مزاولته - مهما بلغت من الجسامة - لا تبرر إلغاءه , بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت , لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي , ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف . بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقا !
وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعال - بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: (فاعف عنهم ,واستغفر لهم , وشاورهم في الأمر).
كما أن المزاولة العملية للمبادىء النظرية تتجلى في تصرف الرسول [ ص ] عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين , واعتباره هذا ترددا وأرجحة . وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته , من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم , والشلل الحركي . فقال قولته التربوية المأثورة:" ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له " . . ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: (فإذا عزمت فتوكل على الله). . فتطابق - في المنهج - التوجيه والتنفيذ . .
6 - وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله [ ص ] والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله . . وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله . .
إن منهج الله ثابت , وقيمه وموازينه ثابتة , والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج , ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك . ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوبا على المنهج , ولا مغيرا لقيمه وموازينه الثابتة .
وحين يخطىء البشر في التصور أو السلوك , فإنه يصفهم بالخطأ . وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف . ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم - مهما تكن منازلهم وأقدارهم - ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم !
ونتعلم نحن من هذا , أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج ! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادىء منهجها سليمة ناصعة قاطعة , وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أيا كانوا - وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدا , بتحريف المنهج , وتبديل قيمه وموازينه . فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف . . فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص . والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم . وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة . . وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام , وعلى تاريخ الإسلام ; إنما يحسب على أصحابه وحدهم , ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه:من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام . . إن تاريخ "الإسلام" ليس هو تاريخ "المسلمين" ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان ! إن تاريخ "الإسلام" هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام , في تصورات الناس وسلوكهم , وفي أوضاع حياتهم , ونظام مجتمعاتهم . . فالإسلام محور ثابت , تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت . فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار , أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتا , فما للإسلام وما لهم يومئذ ? وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام , أو يفسر بها الإسلام ? بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام , وأبوا تطبيقه في حياتهم , وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم , لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين , ولا لأنهم يقولون بأفواههم:إنهم مسلمون ?!
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للأمة المسلمة , وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة , ويسجل عليها النقص والضعف , ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها , ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه . وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء !
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182)
الوحدة السادسة:180 - 189 كشف بعض جرائم اليهود مقدمة الوحدة - جو نزول الآيات
انتهى الاستعراض القرآني للمعركة - معركة أحد - ولكن المعركة الدائبة بين الجماعة المسلمة وأعدائها المحيطين بها في المدينة - وبخاصة اليهود - لم تكن قد انتهعند مقدمه إلى المدينة , وقيام الدولة المسلمة برياسته مرتكنة إلى المسلمين من الأوس والخزرج . . ولكن كان بقي من حوله:بنو النضير , وبنو قريظة , وغيرهم من يهود خيبر وسواهم في الجزيرة . . وكلهم يتراسلون ويتجمعون , ويتصلون بالمنافقين في المدينة , وبالمشركين في مكة وفيما حول المدينة , ويكيدون للمسلمين كيدا لا ينقطع ولا يكف .
وقد ورد في أوائل سورة آل عمران تحذير لليهود أن يصيبهم على أيدي المسلمين ما أصاب المشركين: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا . فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين , والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار . . فلما أبلغهم رسول الله [ ص ] هذا التحذير - الذي جاء ردا على أفاعيلهم وما بدا منهم من الغيظ والدس والكيد عقب بدر - أساءوا أدبهم في استقباله ; وقالوا:يا محمد . لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال . إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس , وإنك لم تلق مثلنا . ثم مضوا في دسهم وكيدهم , الذي روت هذه السورة منه الوانا شتى , حتى انتهى أمرهم بنقض ما بينهم وبين النبي [ ص ] من العهد . فحاصرهم النبي [ ص ] حتى نزلوا على حكمه , فأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات . . وبقيت الطائفتان الأخريان:بنو قريظة وبنو النضير بالمدينة على عهدهما - في الظاهر - مع الكيد والدس والتلبيس والتضليل والبلبلة والفتنة . . وسائر ما برعت فيه يهود في تاريخها كله , وسجله عليها السجل الصادق - كتاب الله - وتعارفه أهل الأرض كلهم , عن ذلك الجنس الملعون !
وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها . يبدو فيه سوء الأدب مع الله - سبحانه - بعد سوء الفعل مع المسلمين . وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول [ ص ] ثم يزيدون فيقولون: (إن الله فقير ونحن أغنياء)!
ويبدو فيه التعلل الواهي , الذي يدفعون به دعوة الإسلام الموجهة إليهم ; وكذب هذا التعلل , ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف . هذا الوقاع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد الله معهم , وبكتمانهم لما أمرهم الله ببيانه من الحق , ونبذه وراء ظهورهم , وشرائهم به ثمنا قليلا . وبقتلهم أنبياءهم بغير حق , وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها , وجاءوهم بالبينات فرفضوها .
وهذا الكشف المخجل لأفاعيل اليهود مع أنبيائهم , وأقاويلهم على ربهم , كان هو الأمر الذي يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة , وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم - هم والمشركون - للمسلمين . كما كانت تقتضيه تربية الله للجماعة المسلمة تربية واعية ; تبصرهم بما حولهم , وبمن حولهم ; وتعرفهم طبيعة الأرض التي يعملون فيها , وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة لهم , وطبيعة الآلام والتضحيات المرصودة لهم في الطريق . . وقد كان الكيد اليهودي للجماعة المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة . ولعله ما يزال أخطر ما يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان , على مدار التاريخ . .
ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتولى على المسلمين في ثنايا الاستعراض المثير . . نجد توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة . فالحياة في هذه الأرض محدودة بأجل . وكل نفس ذائقة الموت على كل حال . إنما الجزاء هناك , والكسب والخسارة هناك . (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). . وهم مبتلون في أموالهم وأنفسهم , والأذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب . فلاعاصم لهم إلا الصبر والتقوى , والمضي مع المنهج , الذي يزحزحهم عن النار ! وهذا التوجيه الإلهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو , قائما اليوم وغدا , يبصر كل جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق , لإعادة نشأة الإسلام ولاستئناف حياة إسلامية في ظل الله . . يبصرها بطبيعة أعدائها - وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب - الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية ! - ويبصرها
ومن نماذج هذا التجميع , وهذه الارتباطات المتداخلة الكثيرة حديثه - في التعقيب القرآني - عن الخطيئة , وأثرها في النصر والهزيمة . فهو يقرر أن الهزيمة كانت موصولة بالشيطان الذي استغل ضعف الذين تولوا بسبب مما كسبوا: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا). . كما يقرر أن الذين قاتلوا مع الأنبياء ووفوا - وهم النموذج الذي يطلب إلى المؤمنين الاقتداء به - بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا - والله يحب الصابرين - وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا , وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين . . وفي توجيهاته للجماعة المسلمة يسبق نهيه لها عن الوهن والحزن في المعركة , توجيهها للتطهر والاستغفاروسارعوا إلى مغفرة من ربكم , وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين , الذين ينفقون في السراء والضراء , والكاظمين الغيظ , والعافين عن الناس , والله يحب المحسنين , والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم , ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). . ومن قبل يذكر عن سبب ذلة أهل الكتاب وانكسارهم:الاعتداء والمعصيةضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا - إلا بحبل من الله وحبل من الناس - وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة . ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله , ويقتلون الأنبياء بغير حق , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون). .
وكذلك نجد الحديث عن الخطيئة والتوبة , يتخلل التعقيب على أحداث الغزوة , كما نجد الكلام عن "التقوى " وتصوير حالات المتقين , يتخلل سياق السورة كلها بوفرة ملحوظة . ويربط بين جو السورة كلها - على اختلاف موضوعاتها - وجو المعركة . كما نجد الدعوة إلى ترك الربا , وإلى طاعة الله والرسول , وإلى العفو عن الناس , وكظم الغيظ , والإحسان , . . وكلها تطهير للنفس وللحياة وللأوضاع الاجتماعية . . والسورة كلها وحدة متماسكة في التوجيه إلى هذا الهدف الأساسي إلهام .
4 - وحقيقة رابعة . . عن طبيعة منهج التربية الإسلامي . . فهو يأخذ الجماعة المسلمة بالأحداث , وما تنشئه في النفوس من مشاعر وانفعالات واستجابات , ثم يأخذهم بالتعقيب على الأحداث . . على النحو الذي يمثله التعقيب القرآني على غزوة أحد . . وهو في التعقيب يتلمس كل جانب من جوانب النفس البشرية تأثر بالحادثة , ليصحح تأثره , ويرسب فيه الحقيقة التي يريد لها أن تستقر وتستريح ! وهو لا يدع جانبا من الجوانب , ولا خاطرة من الخواطر , ولا تصورا من التصورات , ولا استجابة من الاستجابات , حتى يوجه إليها الأنظار ,ويسلط عليها الأنوار , ويكشف عن المخبوء منها في دروب النفس البشرية ومنحنياتها الكثيرة , ويقف النفس تجاهها مكشوفة عارية ; وبذلك يمحص الدخائل , وينظفها ويطهرها في وضح النور ; ويصحح المشاعر والتصورات والقيم ; ويقر المبادىء التي يريد أن يقوم عليها التصور الإسلامي المتين , وأن تقوم عليها الحياة الإسلامية المستقرة . . مما يلهم وجود اتخاذ الأحداث التي تقع للجماعة المسلمة في كل مكان وسيلة للتنوير والتربية على أوسع نطاق . .
وننظر في التعقيب على غزوة أحد , فنجد الدقة والعمق والشمول . . الدقة في تناول كل موقف , وكل حركة , وكل خالجة ; والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة ; والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث . ونجد التحليل الدقيق العميق الشامل للأسباب والنتائج . والعوامل المتعددة الفاعلة في الموقف , المسيرة للحادث , كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء ; بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجا عميقا عنيفا , ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف , والتعقيب . فهو وصف حي , يستحضر المشاهد - كما لو كانت تتحرك - ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ , والإيحاء المثير .
5 - وحقيقة خامسة كذلك . . عن واقعية المنهج الإهلي . . فمن وسائل هذا المنهج لإنشاء آثاره في عالم الواقع , مزاولته بالفعل , فهو لا يقدم مبادىء نظرية , ولا توجيهات مجردة . . ولكنه يطبق ويزاول نظرياته وتوجيهاته . وأظهر مثل على واقعية المنهج في هذه الغزوة , هو موقفه إزاء مبدأ الشورى . .
لقد كان في استطاعة رسول الله [ ص ] أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة , التي تعرضت لها - وهي بعد ناشئة ومحاطة بالأعداء من كل جانب , والعدو رابض في داخل أسوارها ذاتها - نقول كان في استطاعة رسول الله [ ص ] أن يجنب الجماعة المسلمة تلك التجربة المريرة التي تعرضت لها , لو أنه قضى برأيه في خطة المعركة , مستندا إلى رؤياه الصادقة ; وفيها ما يشير إلى أن المدينة درع حصينة ; ولم يستشر أصحابه , أو لم يأخذ بالرأي الذي انجلت المشورة عن رجحانه في تقدير الجماعة ! أو لو أنه رجع عن الرأي عندما سنحت له فرصة الرجوع , وقد خرج من بيته , فرأى أصحاب هذا الرأي نادمين أن يكونوا قد استكرهوه على غير ما يريد !
ولكنه - وهو يقدر النتائج كلها - أنفذ الشورى . وانفذ ما استقرت عليه , ذلك كي تجابه الجماعة المسلمة نتائج التبعة الجماعية , وتتعلم كيف تحتمل تبعة الرأي , وتبعة العمل . لأن هذا في تقديره [ ص ] وفي تقدير المنهج الإسلامي الذي ينفذه , أهم من اتقاء الخسائر الجسيمة , ومن تجنيب الجماعة تلك التجربة المريرة . فتجنيب الجماعة التجربة معناه حرمانها الخبرة , وحرمانها المعرفة , وحرمانها التربية !
ثم يجيء الأمر الإلهي له بالشورى - بعد المعركة كذلك - تثبيتا للمبدأ في مواجهة نتائجه المريرة . فيكون هذا أقوى وأعمق في إقراره من ناحية , وفي إيضاح قواعد المنهج من ناحية . .
إن الإسلام لا يؤجل مزاولة المبدأ حتى تستعد الأمة لمزاولته ! فهو يعلم أنها لن تستعد أبدا لمزاولته إلا إذا زاولته فعلا , وإن حرمانها من مزاولة مبادى ء حياتها الأساسية - كمبدأ الشورى - شر من النتائج المريرة التي تتعرض لها في بدء استعماله , وأن الأخطاء في مزاولته - مهما بلغت من الجسامة - لا تبرر إلغاءه , بل لا تبرر وقفة فترة من الوقت , لإنه إلغاء أو وقف لنموها الذاتي , ونمو خبرتها بالحياة والتكاليف . بل هو إلغاء لوجودها كأمة إطلاقا !
وهذا هو الإيحاء المستفاد من قوله تعال - بعد كل ما كان من نتائج الشورى في المعركة: (فاعف عنهم ,واستغفر لهم , وشاورهم في الأمر).
كما أن المزاولة العملية للمبادىء النظرية تتجلى في تصرف الرسول [ ص ] عندما رفض أن يعود إلى الشورى بعد العزم على الرأي المعين , واعتباره هذا ترددا وأرجحة . وذلك لصيانة مبدأ الشورى ذاته , من أن يصبح وسيلة للتأرجح الدائم , والشلل الحركي . فقال قولته التربوية المأثورة:" ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله له " . . ثم جاء التوجيه الإلهي الأخير: (فإذا عزمت فتوكل على الله). . فتطابق - في المنهج - التوجيه والتنفيذ . .
6 - وهناك حقيقة أخيرة نتعلمها من التعقيب القرآني على مواقف الجماعة المسلمة التي صاحبت رسول الله [ ص ] والتي تمثل أكرم رجال هذه الأمة على الله . . وهي حقيقة نافعة لنا في طريقنا إلى استئناف حياة إسلامية بعون الله . .
إن منهج الله ثابت , وقيمه وموازينه ثابتة , والبشر يبعدون أو يقربون من هذا المنهج , ويخطئون ويصيبون في قواعد التصور وقواعد السلوك . ولكن ليس شيء من أخطائهم محسوبا على المنهج , ولا مغيرا لقيمه وموازينه الثابتة .
وحين يخطىء البشر في التصور أو السلوك , فإنه يصفهم بالخطأ . وحين ينحرفون عنه فإنه يصفهم بالانحراف . ولا يتغاضى عن خطئهم وانحرافهم - مهما تكن منازلهم وأقدارهم - ولا ينحرف هو ليجاري انحرافهم !
ونتعلم نحن من هذا , أن تبرئة الأشخاص لا تساوي تشويه المنهج ! وأنه من الخير للأمة المسلمة أن تبقى مبادىء منهجها سليمة ناصعة قاطعة , وأن يوصف المخطئون والمنحرفون عنها بالوصف الذي يستحقونه - أيا كانوا - وألا تبرر أخطاؤهم وانحرافاتهم أبدا , بتحريف المنهج , وتبديل قيمه وموازينه . فهذا التحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات المسلمة بالخطأ أو الانحراف . . فالمنهج أكبر وأبقى من الأشخاص . والواقع التاريخي للإسلام ليس هو كل فعل وكل وضع صنعه المسلمون في تاريخهم . وإنما هو كل فعل وكل وضع صنعوه موافقا تمام الموافقة للمنهج ومبادئه وقيمه الثابتة . . وإلا فهو خطأ أو انحراف لا يحسب على الإسلام , وعلى تاريخ الإسلام ; إنما يحسب على أصحابه وحدهم , ويوصف أصحابه بالوصف الذي يستحقونه:من خطأ أو انحراف أو خروج على الإسلام . . إن تاريخ "الإسلام" ليس هو تاريخ "المسلمين" ولو كانوا مسلمين بالاسم أو باللسان ! إن تاريخ "الإسلام" هو تاريخ التطبيق الحقيقي للإسلام , في تصورات الناس وسلوكهم , وفي أوضاع حياتهم , ونظام مجتمعاتهم . . فالإسلام محور ثابت , تدور حوله حياة الناس في إطار ثابت . فإذا هم خرجوا عن هذا الإطار , أو إذا هم تركوا ذلك المحور بتاتا , فما للإسلام وما لهم يومئذ ? وما لتصرفاتهم وأعمالهم هذه تحسب على الإسلام , أو يفسر بها الإسلام ? بل ما لهم هم يوصفون بأنهم مسلمون إذا خرجوا على منهج الإسلام , وأبوا تطبيقه في حياتهم , وهم إنما كانوا مسلمين لأنهم يطبقون هذا المنهج في حياتهم , لا لأن أسماءهم أسماء مسلمين , ولا لأنهم يقولون بأفواههم:إنهم مسلمون ?!
وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للأمة المسلمة , وهو يكشف أخطاء الجماعة المسلمة , ويسجل عليها النقص والضعف , ثم يرحمها بعد ذلك ويعفو عنها , ويعفيها من جرائر النقص والضعف في حسابه . وإن يكن أذاقها جرائر هذا النقص والضعف في ساحة الابتلاء !
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182)
الوحدة السادسة:180 - 189 كشف بعض جرائم اليهود مقدمة الوحدة - جو نزول الآيات
انتهى الاستعراض القرآني للمعركة - معركة أحد - ولكن المعركة الدائبة بين الجماعة المسلمة وأعدائها المحيطين بها في المدينة - وبخاصة اليهود - لم تكن قد انتهعند مقدمه إلى المدينة , وقيام الدولة المسلمة برياسته مرتكنة إلى المسلمين من الأوس والخزرج . . ولكن كان بقي من حوله:بنو النضير , وبنو قريظة , وغيرهم من يهود خيبر وسواهم في الجزيرة . . وكلهم يتراسلون ويتجمعون , ويتصلون بالمنافقين في المدينة , وبالمشركين في مكة وفيما حول المدينة , ويكيدون للمسلمين كيدا لا ينقطع ولا يكف .
وقد ورد في أوائل سورة آل عمران تحذير لليهود أن يصيبهم على أيدي المسلمين ما أصاب المشركين: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا . فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة , يرونهم مثليهم رأي العين , والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار . . فلما أبلغهم رسول الله [ ص ] هذا التحذير - الذي جاء ردا على أفاعيلهم وما بدا منهم من الغيظ والدس والكيد عقب بدر - أساءوا أدبهم في استقباله ; وقالوا:يا محمد . لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال . إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس , وإنك لم تلق مثلنا . ثم مضوا في دسهم وكيدهم , الذي روت هذه السورة منه الوانا شتى , حتى انتهى أمرهم بنقض ما بينهم وبين النبي [ ص ] من العهد . فحاصرهم النبي [ ص ] حتى نزلوا على حكمه , فأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات . . وبقيت الطائفتان الأخريان:بنو قريظة وبنو النضير بالمدينة على عهدهما - في الظاهر - مع الكيد والدس والتلبيس والتضليل والبلبلة والفتنة . . وسائر ما برعت فيه يهود في تاريخها كله , وسجله عليها السجل الصادق - كتاب الله - وتعارفه أهل الأرض كلهم , عن ذلك الجنس الملعون !
وفي هذا الدرس استعراض لبعض أفاعيل يهود وأقاويلها . يبدو فيه سوء الأدب مع الله - سبحانه - بعد سوء الفعل مع المسلمين . وهم يبخلون بالوفاء بتعهداتهم المالية للرسول [ ص ] ثم يزيدون فيقولون: (إن الله فقير ونحن أغنياء)!
ويبدو فيه التعلل الواهي , الذي يدفعون به دعوة الإسلام الموجهة إليهم ; وكذب هذا التعلل , ومخالفته لواقعهم التاريخي المعروف . هذا الوقاع الذي ينضح بمخالفتهم لعهد الله معهم , وبكتمانهم لما أمرهم الله ببيانه من الحق , ونبذه وراء ظهورهم , وشرائهم به ثمنا قليلا . وبقتلهم أنبياءهم بغير حق , وقد جاءوهم بالخوارق التي طلبوها , وجاءوهم بالبينات فرفضوها .
وهذا الكشف المخجل لأفاعيل اليهود مع أنبيائهم , وأقاويلهم على ربهم , كان هو الأمر الذي يقتضيه سوء موقفهم من الجماعة المسلمة , وتأثير كيدهم ودسهم وإيذائهم - هم والمشركون - للمسلمين . كما كانت تقتضيه تربية الله للجماعة المسلمة تربية واعية ; تبصرهم بما حولهم , وبمن حولهم ; وتعرفهم طبيعة الأرض التي يعملون فيها , وطبيعة العقبات والفخاخ المنصوبة لهم , وطبيعة الآلام والتضحيات المرصودة لهم في الطريق . . وقد كان الكيد اليهودي للجماعة المسلمة في المدينة أقسى وأخطر من عداوة المشركين لهم في مكة . ولعله ما يزال أخطر ما يرصد للجماعات المسلمة في كل مكان , على مدار التاريخ . .
ومن ثم نجد التوجيهات الربانية تتولى على المسلمين في ثنايا الاستعراض المثير . . نجد توجيههم إلى حقيقة القيم الباقية والقيم الزائلة . فالحياة في هذه الأرض محدودة بأجل . وكل نفس ذائقة الموت على كل حال . إنما الجزاء هناك , والكسب والخسارة هناك . (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). . وهم مبتلون في أموالهم وأنفسهم , والأذى سينالهم من أعدائهم المشركين وأهل الكتاب . فلاعاصم لهم إلا الصبر والتقوى , والمضي مع المنهج , الذي يزحزحهم عن النار ! وهذا التوجيه الإلهي للجماعة المسلمة في المدينة ما يزال هو هو , قائما اليوم وغدا , يبصر كل جماعة مسلمة تعتزم سلوك الطريق , لإعادة نشأة الإسلام ولاستئناف حياة إسلامية في ظل الله . . يبصرها بطبيعة أعدائها - وهم هم مشركين وملحدين وأهل كتاب - الصهيونية العالمية والصليبية العالمية والشيوعية ! - ويبصرها
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
بطبيعة العقبات والفخاخ المرصودة في طريقها , وبطبيعة الآلام والتضحيات والأذى والابتلاء . ويعلق قلوبها وأبصارها بما هنالك . بما عند الله . ويهون عليها الأذى والموت والفتنة في النفس والمال . ويناديها - كما نادى الجماعة المسلمة الأولى -: (كل نفس ذائقة الموت , وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم ; ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
والقرآن هو القرآن . كتاب هذه الأمة الخالد . ودستورها الشامل . وحاديها الهادي . وقائدها الأمين .
وأعداؤها هم أعداؤها . . والطريق هو الطريق . .
الدرس الأول:180 - 184 كذب اليهود وسوء أدبهم مع الله
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم , بل هو شر لهم , سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض , والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق , ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل:قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم , فلم قتلتموهم , إن كنتم صادقين ? فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير). .
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة , عم تعنيهم , ومن تحذرهم البخل , وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات , في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .
وقد نزل هذا التحذير التهديدي , مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم , ومن كذب تعلاتهم ; ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم , بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل , الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل:
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم , بل هو شر لهم , سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير). .
إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم , كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ; ويحسبون أن هذا البخل خير لهم , يحفظ لهم أموالهم , فلا تذهب بالإنفاق .
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ; ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم (يبخلون بما آتاهم الله من فضله). . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا "من فضله" شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل , وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث: (ولله ميراث السماوات والأرض). . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده , بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !
ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال - الذي آتاهم الله من فضله - فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله , لا حاجة بهم إلى جزائه , ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله - وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة اقراضا له سبحانه - وقالوا في وقاحة:ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا . ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة , وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة ?! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله:
(لقد سمع الله قول الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا ! وقتلهم الأنبياء بغير حق , ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد).
وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة . ولكن هذه تبلغ مبلغا عظيما من سوء التصور ومن سوء الأدب معا . . ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق:
(سنكتب ما قالوا). .
لنحاسبهم عليه , فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل . . وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة - وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه - فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم:
(وقتلهم الأنبياء بغير حق). .
وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء , آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام . . وهم يزعمون أنهم قتلوه , متباهين بهذا الجرم العظيم . . !
(ونقول ذوقوا عذاب الحريق). .
والنص على "الحريق" هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه . ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه . . جزاء على الفعلة الشنيعة:قتل الأنبياء بغير حق . وجزاء على القولة الشنيعة:إن الله فقير ونحن أغنياء .
(ذلك بما قدمت أيديكم). .
جزاء وفاقا , لا ظلم فيه , ولا قسوة:
(وأن الله ليس بظلام للعبيد). .
والتعبير بالعبيد هنا , إبراز لحقيقة وضعهم - وهم عبيد من العبيد - بالقياس إلى الله تعالى . وهو يزيد في شناعة الجرم , وفظاعة سوء الأدب . الذي يتجلى في قول العبيد: (إن الله فقير ونحن أغنياء)والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء . .
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
هؤلاء الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء , والذي قتلوا الأنبياء . . هم الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد [ ص ] لأن الله عهد إليهم - بزعمهم - ألا يؤمنوا لرسول , حتى يأتيهم بقربان يقدمونه , فتقع المعجزة , وتبهط نار تأكله , على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل . وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله !!
هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي . . لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات:
(الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول , حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم , فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ?).
وهي مجابهة قوية , تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر , وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله !
والقرآن هو القرآن . كتاب هذه الأمة الخالد . ودستورها الشامل . وحاديها الهادي . وقائدها الأمين .
وأعداؤها هم أعداؤها . . والطريق هو الطريق . .
الدرس الأول:180 - 184 كذب اليهود وسوء أدبهم مع الله
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم , بل هو شر لهم , سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض , والله بما تعملون خبير . لقد سمع الله قول الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق , ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد . الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل:قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم , فلم قتلتموهم , إن كنتم صادقين ? فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير). .
لم ترد في الآية الأولى من هذه المجموعة رواية مؤكدة , عم تعنيهم , ومن تحذرهم البخل , وعاقبة يوم القيامة . . ولكن ورودها في هذا السياق يرجح أنها متصلة بما بعدها من الآيات , في شأن اليهود . فهم - قبحهم الله - الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء . وهم الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار .
والظاهر أن الآيات في عمومها نزلت بمناسبة دعوة اليهود إلى الوفاء بالتزاماتهم المالية الناشئة عن معاهدتهم مع الرسول [ ص ] ودعوتهم كذلك إلى الإيمان بالرسول [ ص ] والإنفاق في سبيل الله .
وقد نزل هذا التحذير التهديدي , مع فضح تعلات اليهود في عدم الإيمان بمحمد [ ص ] ردا على ما بدا من سوء أدبهم مع ربهم , ومن كذب تعلاتهم ; ونزلت معه المواساة للرسول [ ص ] عن تكذيبهم , بما وقع للرسل قبله مع أقوامهم . ومنهم أنبياء بني إسرائيل , الذي قتلوهم بعد ما جاءوهم بالبينات والخوارق كما هو معروف في تاريخ بني إسرائيل:
(ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم , بل هو شر لهم , سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة . ولله ميراث السماوات والأرض . والله بما تعملون خبير). .
إن مدلول الآية عام . فهو يشمل اليهود الذين بخلوا بالوفاء بتعهداتهم , كما يشمل غيرهم ممن يبخلون بما آتاهم الله من فضله ; ويحسبون أن هذا البخل خير لهم , يحفظ لهم أموالهم , فلا تذهب بالإنفاق .
والنص القرآني ينهاهم عن هذا الحسبان الكاذب ; ويقرر أن ما كنزوه سيطوقونه يوم القيامة نارا . . وهو تهديد مفزع . . والتعبير يزيد هذا البخل شناعة حين يذكر أنهم (يبخلون بما آتاهم الله من فضله). . فهم لا يبخلون بمال أصيل لهم . فقد جاءوا إلى هذه الحياة لا يملكون شيئا . . ولا جلودهم . . ! فآتاهم الله من فضله فأغناهم . حتى إذا طلب إليهم أن ينفقوا "من فضله" شيئا لم يذكروا فضل الله عليهم . وبخلوا بالقليل , وحسبوا أن في كنزه خيرا لهم . وهو شر فظيع . وهم - بعد هذا كله - ذاهبون وتاركوه وراءهم . فالله هو الوارث: (ولله ميراث السماوات والأرض). . فهذا الكنز إلى أمد قصير . ثم يعود كله إلى الله . ولا يبقى لهم منه إلا القدر الذي أنفقوه ابتغاء مرضاته فيبقى مدخرا لهم عنده , بدلا من أن يطوقهم إياه يوم القيامة !
ثم يندد باليهود الذين وجدوا في أيديهم المال - الذي آتاهم الله من فضله - فحسبوا أنفسهم أغنياء عن الله , لا حاجة بهم إلى جزائه , ولا إلى الأضعاف المضاعفة التي يعدها لمن يبذل في سبيله - وهو ما يسميه تفضلا منه ومنة اقراضا له سبحانه - وقالوا في وقاحة:ما بال الله يطلب الينا أن نقرضه من مالنا . ويعطينا عليه الأضعاف المضاعفة , وهو ينهى عن الربا والأضعاف المضاعفة ?! وهو تلاعب بالألفاظ ينم عن القحة وسوء الأدب في حق الله:
(لقد سمع الله قول الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء . سنكتب ما قالوا ! وقتلهم الأنبياء بغير حق , ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد).
وسوء تصور اليهود للحقيقة الإلهية شائع في كتبهم المحرفة . ولكن هذه تبلغ مبلغا عظيما من سوء التصور ومن سوء الأدب معا . . ومن ثم يستحقون هذا التهديد المتلاحق:
(سنكتب ما قالوا). .
لنحاسبهم عليه , فما هو بمتروك ولا منسي ولا مهمل . . وإلى جانبه تسجيل آثامهم السابقة - وهي آثام جنسهم وأجيالهم متضامنة فيه - فكلهم جبلة واحدة في المعصية والإثم:
(وقتلهم الأنبياء بغير حق). .
وقد حفظ تاريخ بني إسرائيل سلسلة أثيمة في قتل الأنبياء , آخرها محاولتهم قتل المسيح عليه السلام . . وهم يزعمون أنهم قتلوه , متباهين بهذا الجرم العظيم . . !
(ونقول ذوقوا عذاب الحريق). .
والنص على "الحريق" هنا مقصود لتبشيع ذلك العذاب وتفظيعه . ولتجسيم مشهد العذاب بهوله وتأججه وضرامه . . جزاء على الفعلة الشنيعة:قتل الأنبياء بغير حق . وجزاء على القولة الشنيعة:إن الله فقير ونحن أغنياء .
(ذلك بما قدمت أيديكم). .
جزاء وفاقا , لا ظلم فيه , ولا قسوة:
(وأن الله ليس بظلام للعبيد). .
والتعبير بالعبيد هنا , إبراز لحقيقة وضعهم - وهم عبيد من العبيد - بالقياس إلى الله تعالى . وهو يزيد في شناعة الجرم , وفظاعة سوء الأدب . الذي يتجلى في قول العبيد: (إن الله فقير ونحن أغنياء)والذي يتجلى كذلك في قتل الأنبياء . .
الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
هؤلاء الذين قالوا:إن الله فقير ونحن أغنياء , والذي قتلوا الأنبياء . . هم الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون بمحمد [ ص ] لأن الله عهد إليهم - بزعمهم - ألا يؤمنوا لرسول , حتى يأتيهم بقربان يقدمونه , فتقع المعجزة , وتبهط نار تأكله , على نحو ما كانت معجزة بعض أنبياء بني إسرائيل . وما دام محمد لم يقدم لهم هذه المعجزة فهم على عهد مع الله !!
هنا يجبههم القرآن بواقعهم التاريخي . . لقد قتلوا هؤلاء الأنبياء الذين جاءوهم بالخوارق التي طلبوها وجاءوهم بآيات الله بينات:
(الذين قالوا:إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول , حتى يأتينا بقربان تأكله النار . قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم , فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ?).
وهي مجابهة قوية , تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر , وتبجحهم بعد ذلك وافترائهم على الله !
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
وهنا يلتفت إلى الرسول [ ص ] مسليا مواسيا , مهونا عليه ما يلقاه منهم , وهو ما لقيه إخوانه الكرام من الرسل على توالي العصور:
(فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك , جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير).
فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب . والأجيال المتعاقبة - وبخاصة من بني إسرائيل - تلقوا بالتكذيب رسلا جاءوهم بالبينات والخوارق , وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية - وهي الزبر - وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل . . فهذا هو طريق الرسل والرسالات . . وما فيه من عناء ومشقة . وهو وحده الطريق .
الدرس الثاني:185 - 186 حقيقة الموت والنجاة ومشقة الطريق
بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة ; يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها , وتضحي من أجلها ; ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها , ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال:
(كل نفس ذائقة الموت , وإنما توفون أجوركم يوم القيامة , فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز , وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا , وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة , محدودة بأجل ; ثم تأتي نهايتها حتما . . يموت الصالحون يموت الطالحون . يموت المجاهدون ويموت القاعدون . يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد . يموت الشجعان الذين يأبون الضيم , ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن . . يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية , ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص .
الكل يموت . . (كل نفس ذائقة الموت). . كل نفس تذوق هذه الجرعة , وتفارق هذه الحياة . . لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع . إنما الفارق في شيء آخر . الفارق في قيمة أخرى . الفارق في المصير الأخير:
(وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). .
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق . وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان . القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد . والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). .
ولفظ "زحزح" بذاته يصور معناه بجرسه , ويرسم هيئته , ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها , ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها , ويستنقذ من جاذبيتها , ويدخل الجنة . . فقد فاز . .
صورة قوية . بل مشهد حي . فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته . فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ? أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية ? بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل . . إلا أن يدركه فضل الله ? بلى ! وهذه هي الزحزحة عن النار ; حين يدرك الإنسان فضل الله , فيزحزحه عن النار ! (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). .
إنها متاع . ولكنه ليس متاع الحقيقة , ولا متاع الصحو واليقظة . . إنها متاع الغرور . المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا . أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق . المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . . فهو ذاك . . هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء , ولا بد من أذى في الأموال والأنفس , ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره , لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة , وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ; وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ; والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو , بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء , وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك , مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة , وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ; وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ; وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم , مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس , ومزالق الطريق , ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير , ولا بد فيها من سر , يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ; ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله , فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ; ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء:
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
(فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك , جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير).
فما هو أول رسول يتلقى بالتكذيب . والأجيال المتعاقبة - وبخاصة من بني إسرائيل - تلقوا بالتكذيب رسلا جاءوهم بالبينات والخوارق , وجاءوهم بالصحائف المتضمنة للتوجيهات الإلهية - وهي الزبر - وجاءوهم بالكتاب المنير كالتوراة والإنجيل . . فهذا هو طريق الرسل والرسالات . . وما فيه من عناء ومشقة . وهو وحده الطريق .
الدرس الثاني:185 - 186 حقيقة الموت والنجاة ومشقة الطريق
بعد ذلك يتجه السياق إلى الجماعة المسلمة ; يحدثها عن القيم التي ينبغي لها أن تحرص عليها , وتضحي من أجلها ; ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها , ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال:
(كل نفس ذائقة الموت , وإنما توفون أجوركم يوم القيامة , فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز , وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور . لتبلون في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا , وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة , محدودة بأجل ; ثم تأتي نهايتها حتما . . يموت الصالحون يموت الطالحون . يموت المجاهدون ويموت القاعدون . يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد . يموت الشجعان الذين يأبون الضيم , ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن . . يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية , ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص .
الكل يموت . . (كل نفس ذائقة الموت). . كل نفس تذوق هذه الجرعة , وتفارق هذه الحياة . . لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع . إنما الفارق في شيء آخر . الفارق في قيمة أخرى . الفارق في المصير الأخير:
(وإنما توفون أجوركم يوم القيامة . فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). .
كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق . وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان . القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد . والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:
(فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز). .
ولفظ "زحزح" بذاته يصور معناه بجرسه , ويرسم هيئته , ويلقي ظله ! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها , ويدخل في مجالها ! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة ! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها , ويستنقذ من جاذبيتها , ويدخل الجنة . . فقد فاز . .
صورة قوية . بل مشهد حي . فيه حركة وشد وجذب ! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته . فللنار جاذبية ! أليست للمعصية جاذبية ? أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية ? بلى ! وهذه هي زحزحتها عن النار ! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل . . إلا أن يدركه فضل الله ? بلى ! وهذه هي الزحزحة عن النار ; حين يدرك الإنسان فضل الله , فيزحزحه عن النار ! (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور). .
إنها متاع . ولكنه ليس متاع الحقيقة , ولا متاع الصحو واليقظة . . إنها متاع الغرور . المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا . أو المتاع الذي ينشىء الغرور والخداع ! فأما المتاع الحق . المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله . . فهو ذاك . . هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار .
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء:
(لتبلون في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء , ولا بد من أذى في الأموال والأنفس , ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .
إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره , لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة , وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ; وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ; والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو , بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء , وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك , مهما تكن الأحوال .
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة , وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ; وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ; وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم , مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس , ومزالق الطريق , ومسارب الضلال !
ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير , ولا بد فيها من سر , يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !
إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ; ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله , فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ; ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء:
(وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور). .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل , ولم تتراجع , ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ; وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها , تتوالى القرون والأجيال ; وهم ماضون في الكيد لها من وراء وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ; وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة , ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا)!
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ; وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها , وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة , وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية , وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى , وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق , وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة , وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ; فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة , ووسائل الدعاية الحديثة , لتشويه أهدافها , وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة , وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ; فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى , وحين تعوي حولها بالدعاية , وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق , وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا
وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
كله , لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ; وتمضي في طريقها الموعود , إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
الدرس الثالث:187 - 189 بيان مسؤولية العلماء وكتمان أهل الكتاب للحق
ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب . ونبذهم له . وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه , حين يسألون عنه:
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب:لتبيننه للناس ولا تكتمونه . فنبذوه وراء ظهورهم , واشتروا به ثمنا قليلا . فبئس ما يشترون)!
وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم - وبخاصة اليهود - وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه , ولبسه بالباطل , لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين , وفي صحة الإسلام , وفي وحدة الأسس والمبادىء بينه وبين الأديان قبله , وفي تصديقه لها وتصديقها له . . وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق ; وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة . .
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعا غاية البشاعة ; حين ينكشف أيضا أن الله - سبحانه - قد أخذ عليهم العهد - وهو يعطيهم الكتاب - أن يبينوه للناس , ويبلغوه , ولا يكتموه أو يخفوه . وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله - والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد ; فيمثله في حركة:
(فنبذوه وراء ظهورهم)!
وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة , ابتغاء ثمن قليل:
(واشتروا به ثمنا قليلا).
هو عرض من أعراض هذه الأرض , ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود ! وكله ثمن قليل , ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور ! فما أقل هذا الثمن ثمنا لعهد الله ! وما أقل هذا المتاع متاعا حين يقاس بما عند الله !
(فبئس ما يشترون)!
وقد ورد في رواية للبخاري - بإسناده - عن ابن عباس أن النبي [ ص ] سأل اليهود عن شيء , فكتموه إياه , وأخبروه بغيره , فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه , واستحمدوا بذلك إليه , وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه . وأنه في هذا نزلت آية:
(لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا , فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). .
وفي رواية أخرى للبخاري - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري , أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله [ ص ] كانوا إذا خرج رسول الله [ ص ] إلى الغزو وتخلفوا عنه , وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله [ ص ] فإذا قدم رسول الله [ ص ] من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا , وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت: ا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190)
أن يحمدوا بما لم يفعلوا . . .).
ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا . فكثيرا ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها . فيروى أنها نزلت فيها . أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك:إنها نزلت فيها . . ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول .
فأما إذا كانت الأولى , فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب , وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه . ثم هم يكتمونه . ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع , حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري !
وأما إذا كانت الثانية , ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية . وهي تصور نموذجا من الناس يوجد على عهد الرسول [ ص ] ويوجد في كل جماعة . نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي , وتكاليف العقيدة , فيقعدون متخلفين عن الكفاح . فإن غلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم , ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة . . أما إذا انتصر المكافحون وغنموا , فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم ; وينتحلون لأنفسهم يدا في النصر , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ; وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة , ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا)!
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ; وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها , وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة , وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية , وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى , وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق , وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة , وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ; فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة , ووسائل الدعاية الحديثة , لتشويه أهدافها , وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة , وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ; فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى , وحين تعوي حولها بالدعاية , وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق , وأنها ترى معالم الطريق !
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا
وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
كله , لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ; وتمضي في طريقها الموعود , إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .
الدرس الثالث:187 - 189 بيان مسؤولية العلماء وكتمان أهل الكتاب للحق
ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب . ونبذهم له . وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه , حين يسألون عنه:
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب:لتبيننه للناس ولا تكتمونه . فنبذوه وراء ظهورهم , واشتروا به ثمنا قليلا . فبئس ما يشترون)!
وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم - وبخاصة اليهود - وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه , ولبسه بالباطل , لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين , وفي صحة الإسلام , وفي وحدة الأسس والمبادىء بينه وبين الأديان قبله , وفي تصديقه لها وتصديقها له . . وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق ; وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة . .
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعا غاية البشاعة ; حين ينكشف أيضا أن الله - سبحانه - قد أخذ عليهم العهد - وهو يعطيهم الكتاب - أن يبينوه للناس , ويبلغوه , ولا يكتموه أو يخفوه . وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله - والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد ; فيمثله في حركة:
(فنبذوه وراء ظهورهم)!
وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة , ابتغاء ثمن قليل:
(واشتروا به ثمنا قليلا).
هو عرض من أعراض هذه الأرض , ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود ! وكله ثمن قليل , ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور ! فما أقل هذا الثمن ثمنا لعهد الله ! وما أقل هذا المتاع متاعا حين يقاس بما عند الله !
(فبئس ما يشترون)!
وقد ورد في رواية للبخاري - بإسناده - عن ابن عباس أن النبي [ ص ] سأل اليهود عن شيء , فكتموه إياه , وأخبروه بغيره , فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه , واستحمدوا بذلك إليه , وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه . وأنه في هذا نزلت آية:
(لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا , فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم). .
وفي رواية أخرى للبخاري - بإسناده - عن أبي سعيد الخدري , أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله [ ص ] كانوا إذا خرج رسول الله [ ص ] إلى الغزو وتخلفوا عنه , وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله [ ص ] فإذا قدم رسول الله [ ص ] من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا , وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فنزلت: ا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190)
أن يحمدوا بما لم يفعلوا . . .).
ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا . فكثيرا ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها . فيروى أنها نزلت فيها . أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك:إنها نزلت فيها . . ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول .
فأما إذا كانت الأولى , فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب , وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه . ثم هم يكتمونه . ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع , حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري !
وأما إذا كانت الثانية , ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية . وهي تصور نموذجا من الناس يوجد على عهد الرسول [ ص ] ويوجد في كل جماعة . نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي , وتكاليف العقيدة , فيقعدون متخلفين عن الكفاح . فإن غلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم , ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة . . أما إذا انتصر المكافحون وغنموا , فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم ; وينتحلون لأنفسهم يدا في النصر , ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا !
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء . نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين . فإذا ملامحه واضحة للعيان , وسماته خالدة في الزمان . . وتلك طريقة القرآن .
هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول [ ص ] أنهم لا نجاة لهم من العذاب . وإن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه و لا معين:
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم).
والذي يتوعدهم به هو الله . مالك السماوات والأرض . القادر على كل شيء . فأين المفازة إذن ? وكيف النجاة ?
(ولله ملك السماوات والأرض , والله على كل شيء قدير). .
الوحدة السابعة:190 - 200 الموضوع:من صفات أولي الألباب وطبيعة طريق الحق مقدمة الوحدة - الكون كتاب مفتوح
هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه:من مقومات التصور الإسلامي . وتقرير هذه المقومات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب , ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين . وبيان طبيعة
يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله (لأولي الألباب)وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب ; وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح , ويتأملون ما ينطق به من الآيات , وما يوحي به من الغايات . . استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر , والنهوض بتكاليف هذا الإيمان , الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح . . مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة . وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي , التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار .
وعطفا على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين , يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن , وجزاؤه المناسب , ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع , التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح , ودعائهم الخاشع المنيب . وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمنا قليلا , كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب , وتقدم وصفهم في السورة .
ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة , وتمثل خصائصها المطلوبة , وتكاليفها المحددة , والتي بها يكون الفلاح:
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا , وصابروا , ورابطوا , واتقوا الله , لعلكم تفلحون). .
وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل , وموضوعاتها الرئيسية , ويتسق معها كل الاتساق .
الدرس الأول:190 - 198 توجيه القلوب إلى تصفح كتاب الكون
(إن في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته , وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا , وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد . . .). .
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ? ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار). .
إلى نهاية ذلك الدعاء ?
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون , بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ; الذي لا تفتأ صفحاته تقلب , فتتبدى في كل صفحة آية موحية , تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب , وفي "تصميم" هذا البناء , ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق , ومودعه هذا الحق , مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان !!! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ; ولا يقيمون الحواجز , ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم , فتتفتح بصائرهم , وتشف مداركهم , وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
إياه , وتدرك غاية وجوده , وعلة نشأته , وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض , ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف , وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا , ولاهتزت له مشاعرنا , ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ; ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ; ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا , ولا يمكن أن يكون جزافا , ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار , ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى "الجاذبية " أو غير الجاذبية . . هذه فروض تصح أو لا تصح , وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية , واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة , وآية الحق , في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا , وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي , يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح , في التعامل مع الكون , وفي التخاطب معه بلغته , والتجاوب مع فطرته وحقيقته , والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب "معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله , وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: (قياما وقعودا وعلى جنوبهم). . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة , ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين . الحقيقة الأولى:أن التفكر في خلق الله , والتدبر في كتاب الكون المفتوح , وتتبع يد الله المبدعة , وهي تحرك هذا الكون , وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة , وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية , التي تبحث في تصميم الكون , وفي نواميسه وسننه , وفي قواه ومدخراته , وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره , والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر , يقطع ما بين الكون وخالقه , ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ;
هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول [ ص ] أنهم لا نجاة لهم من العذاب . وإن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه و لا معين:
(فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم).
والذي يتوعدهم به هو الله . مالك السماوات والأرض . القادر على كل شيء . فأين المفازة إذن ? وكيف النجاة ?
(ولله ملك السماوات والأرض , والله على كل شيء قدير). .
الوحدة السابعة:190 - 200 الموضوع:من صفات أولي الألباب وطبيعة طريق الحق مقدمة الوحدة - الكون كتاب مفتوح
هذا هو الدرس الأخير في السورة التي ضمت ذلك الحشد الضخم الذي استعرضناه:من مقومات التصور الإسلامي . وتقرير هذه المقومات وتجليتها من الغبش واللبس في الجدل مع أهل الكتاب , ثم في الجدل مع المنافقين والمشركين . وبيان طبيعة
يلي هذه الحقيقة في سياق الدرس استجابة الله (لأولي الألباب)وقد توجهوا إليه سبحانه بدعاء خاشع منيب ; وهم يتدبرون كتاب الكون المفتوح , ويتأملون ما ينطق به من الآيات , وما يوحي به من الغايات . . استجابته لهم استجابة توجيهية إلى العمل والجهاد والتضحية والصبر , والنهوض بتكاليف هذا الإيمان , الذي ثابوا به من جولتهم الخاشعة في كتاب الكون المفتوح . . مع التهوين من شأن الذين كفروا وما قد يستمتعون به من أعراض هذه الحياة . وإبراز القيم الباقية في الجزاء الأخروي , التي ينبغي أن يحفل بها المؤمنون الأبرار .
وعطفا على الحديث الطويل في السورة عن أهل الكتاب ومواقفهم من المؤمنين , يرد هنا في هذا القطاع الأخير ذكر الفريق المؤمن , وجزاؤه المناسب , ويبرز من صفاتهم صفة الخشوع , التي تتناسق مع مشهد أولي الألباب أمام كتاب الكون المفتوح , ودعائهم الخاشع المنيب . وصفة الحياء من الله أن يشتروا بآياته ثمنا قليلا , كأولئك الذين كفروا من أهل الكتاب , وتقدم وصفهم في السورة .
ثم تجيء الآية الخاتمة تلخص التوجيهات الإلهية للجماعة المسلمة , وتمثل خصائصها المطلوبة , وتكاليفها المحددة , والتي بها يكون الفلاح:
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا , وصابروا , ورابطوا , واتقوا الله , لعلكم تفلحون). .
وهو ختام يناسب محور السورة الأصيل , وموضوعاتها الرئيسية , ويتسق معها كل الاتساق .
الدرس الأول:190 - 198 توجيه القلوب إلى تصفح كتاب الكون
(إن في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم , ويتفكرون في خلق السماوات والأرض:ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك ! فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته , وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا , وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد . . .). .
ما الآيات التي في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ? ما الآيات التي تتراءى لأولي الألباب عندما يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , وهم يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وما علاقة التفكر في هذه الآيات بذكرهم الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ? وكيف ينتهون من التفكر فيها إلى هذا الدعاء الخاشع الواجف:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! فقنا عذاب النار). .
إلى نهاية ذلك الدعاء ?
إن التعبير يرسم هنا صورة حية من الاستقبال السليم للمؤثرات الكونية في الإدراك السليم . وصورة حية من الاستجابة السليمة لهذه المؤثرات المعروضة للأنظار والأفكار في صميم الكون , بالليل والنهار .
والقرآن يوجه القلوب والأنظار توجيها مكررا مؤكدا إلى هذا الكتاب المفتوح ; الذي لا تفتأ صفحاته تقلب , فتتبدى في كل صفحة آية موحية , تستجيش في الفطرة السليمة إحساسا بالحق المستقر في صفحات هذا الكتاب , وفي "تصميم" هذا البناء , ورغبة في الاستجابة لخالق هذا الخلق , ومودعه هذا الحق , مع الحب له والخشية منه في ذات الأوان !!! وأولو الألباب . . أولو الإدراك الصحيح . . يفتحون بصائرهم لاستقبال آيات الله الكونية ; ولا يقيمون الحواجز , ولا يغلقون المنافذ بينهم وبين هذه الآيات . ويتوجهون إلى الله بقلوبهم قياما وقعودا وعلى جنوبهم , فتتفتح بصائرهم , وتشف مداركهم , وتتصل بحقيقة الكون التي أودعها الله
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
إياه , وتدرك غاية وجوده , وعلة نشأته , وقوام فطرته . بالإلهام الذي يصل بين القلب البشري ونواميس هذا الوجود .
ومشهد السماوات والأرض , ومشهد اختلاف الليل والنهار . لو فتحنا له بصائرنا وقلوبنا وإدراكنا . لو تلقيناه كمشهد جديد تتفتح عليه العيون أول مرة . لو استنقذنا حسنا من همود الإلف , وخمود التكرار . . لارتعشت له رؤانا , ولاهتزت له مشاعرنا , ولأحسسنا أن وراء ما فيه من تناسق لا بد من يد تنسق ; ووراء ما فيه من نظام لا بد من عقل يدبر ; ووراء ما فيه من إحكام لا بد من ناموس لا يتخلف . . وأن هذا كله لا يمكن أن يكون خداعا , ولا يمكن أن يكون جزافا , ولا يمكن أن يكون باطلا .
ولا ينقص من اهتزازنا للمشهد الكوني الرائع أن نعرف أن الليل والنهار , ظاهرتان ناشئتان من دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس . ولا أن تناسق السماوات والأرض مرتكز إلى "الجاذبية " أو غير الجاذبية . . هذه فروض تصح أو لا تصح , وهي في كلتا الحالتين لا تقدم ولا تؤخر في استقبال هذه العجيبة الكونية , واستقبال النواميس الهائلة الدقيقة التي تحكمها وتحفظها . . وهذه النواميس - أيا كان اسمها عند الباحثين من بني الإنسان - هي آية القدرة , وآية الحق , في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار .
والسياق القرآني هنا يصور خطوات الحركة النفسية التي ينشئها استقبال مشهد السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار في مشاعر أولي الألباب تصويرا دقيقا , وهو في الوقت ذاته تصوير إيحائي , يلفت القلوب إلى المنهج الصحيح , في التعامل مع الكون , وفي التخاطب معه بلغته , والتجاوب مع فطرته وحقيقته , والانطباع بإشاراته وإيحاءاته . ويجعل من كتاب الكون المفتوح كتاب "معرفة " للإنسان المؤمن الموصول بالله , وبما تبدعه يد الله .
وإنه يقرن ابتداء بين توجه القلب إلى ذكر الله وعبادته: (قياما وقعودا وعلى جنوبهم). . وبين التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . فيسلك هذا التفكر مسلك العبادة , ويجعله جانبا من مشهد الذكر . . فيوحي بهذا الجمع بين الحركتين بحقيقتين هامتين . الحقيقة الأولى:أن التفكر في خلق الله , والتدبر في كتاب الكون المفتوح , وتتبع يد الله المبدعة , وهي تحرك هذا الكون , وتقلب صفحات هذا الكتاب . . هو عبادة لله من صميم العبادة , وذكر لله من صميم الذكر . ولو اتصلت العلوم الكونية , التي تبحث في تصميم الكون , وفي نواميسه وسننه , وفي قواه ومدخراته , وفي أسراره وطاقاته . . لو اتصلت هذه العلوم بتذكر خالق هذا الكون وذكره , والشعور بجلاله وفضله . لتحولت من فورها إلى عبادة لخالق هذا الكون وصلاة . ولاستقامت الحياة - بهذه العلوم - واتجهت إلى الله . ولكن الاتجاه المادي الكافر , يقطع ما بين الكون وخالقه , ويقطع ما بين العلوم الكونية والحقيقة الأزلية الأبدية ;
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
ومن هنا يتحول العلم - أجمل هبة من الله للإنسان - لعنة تطارد الإنسان , وتحيل حياته إلى جحيم منكرة , وإلى حياة قلقة مهددة , وإلى خواء روحي يطارد الإنسان كالمارد الجبار !
والحقيقة الثانية:أن آيات الله في الكون , لا تتجلى على حقيقتها الموحية , إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليلوالنهار , وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . . فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا , ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار , ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد , وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان , تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب , وشفافية الروح , وتفتح الإدراك , واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال , ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ; وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , ملهما للحقيقة الكامنة فيها , ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة , للخطة الواصلة .
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك !). .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة , فهو ليس "عدما" كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس , فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية , فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى , التي تمس قلوب (أولي الألباب)من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون , فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك !). .
ثم تتوالى الحركات النفسية , تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
(. . . فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . . .). .
فما العلاقة الوجدانية , بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق , وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ?
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره , معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا , وأن هناك حكمة وغاية , وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة , تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار , فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها , هو الخاطر الأول , المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
الطويل , الخاشع الواجف الراجف المنيب , ذي النغم العذب , والإيقاع المنساب , والحرارة البادية في المقاطع والأنغام !
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم:
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته). . (وما للظالمين من أنصار). .
إنها تشي بأن خوفهم من النار , إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله , فهم أشد حساسية به من لذع النار ! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله , وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل:
(ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار). .
فهي قلوب مفتوحة ; ما إن تتلقى حتى تستجيب . وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة , فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها , فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات , والوفاة مع الأبرار .
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها , في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية , في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة . المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان , مع أعداء الله وأعداء الإيمان . . والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال .
وختام هذا الدعاء . توجه ورجاء . واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد:
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد). .
فهو استنجاز لوعد الله , الذي بلغته الرسل , وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد , ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة , يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء , ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي , وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه . مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله .
والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة , لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه , في القلوب السليمة المفتوحة . .
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء , من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء . .
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر , فيه ليست حرفا متحدا , ولكنها إيقاع متشابه - مثل:"بصير . حكيم . مبين . مريب" . . "الألباب , الأبصار , النار . قرار" . . "خفيا . شقيا . شرقيا . شيئا . " . . . إلخ .
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير . والثانية في مواضع الدعاء . والثالثة في مواضع الحكاية .
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى . ولم تبعد عنها إلا في موضعين:أولهما في أوائل السورة وفيه
والحقيقة الثانية:أن آيات الله في الكون , لا تتجلى على حقيقتها الموحية , إلا للقلوب الذاكرة العابدة . وأن هؤلاء الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم - وهم يتفكرون في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار - هم الذين تتفتح لبصائرهم الحقائق الكبرى المنطوية في خلق السماوات والأرض واختلاف الليلوالنهار , وهم الذين يتصلون من ورائها بالمنهج الإلهي الموصل إلى النجاة والخير والصلاح . . فأما الذين يكتفون بظاهر من الحياة الدنيا , ويصلون إلى أسرار بعض القوى الكونية - بدون هذا الاتصال - فهم يدمرون الحياة ويدمرون أنفسهم بما يصلون إليه من هذه الأسرار , ويحولون حياتهم إلى جحيم نكد , وإلى قلق خانق . ثم ينتهون إلى غضب الله وعذابه في نهاية المطاف !
فهما أمران متلازمان , تعرضهما هذه الصورة التي يرسمها القرآن لأولي الألباب في لحظة الاستقبال والاستجابة والاتصال .
إنها لحظة تمثل صفاء القلب , وشفافية الروح , وتفتح الإدراك , واستعداده للتلقي . كما تمثل الاستجابة والتأثر والانطباع . .
إنها لحظة العبادة . وهي بهذا الوصف لحظة اتصال , ولحظة استقبال . فلا عجب أن يكون الاستعداد فيها لإدراك الآيات الكونية أكبر ; وأن يكون مجرد التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار , ملهما للحقيقة الكامنة فيها , ولإدراك أنها لم تخلق عبثا ولا باطلا . ومن ثم تكون الحصيلة المباشرة , للخطة الواصلة .
(ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك !). .
ما خلقت هذا الكون ليكون باطلا . ولكن ليكون حقا . الحق قوامه . والحق قانونه . والحق أصيل فيه . إن لهذا الكون حقيقة , فهو ليس "عدما" كما تقول بعض الفلسفات ! وهو يسير وفق ناموس , فليس متروكا للفوضى . وهو يمضي لغاية , فليس متروكا للمصادقة . وهو محكوم في وجوده وفي حركته وفي غايته بالحق لا يتلبس به الباطل .
هذه هي اللمسة الأولى , التي تمس قلوب (أولي الألباب)من التفكر في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بشعور العبادة والذكر والاتصال . وهي اللمسة التي تطبع حسهم بالحق الأصيل في تصميم هذا الكون , فتطلق ألسنتهم بتسبيح الله وتنزيهه عن أن يخلق هذا الكون باطلا:
(ربنا ما خلقت هذا باطلا . سبحانك !). .
ثم تتوالى الحركات النفسية , تجاه لمسات الكون وإيحاءاته .
(. . . فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته . وما للظالمين من أنصار . . .). .
فما العلاقة الوجدانية , بين إدراك ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من حق , وبين هذه الارتعاشة المنطلقة بالدعاء الخائف الواجف من النار ?
إن إدراك الحق الذي في تصميم هذا الكون وفي ظواهره , معناه - عند أولي الألباب - أن هناك تقديرا وتدبيرا , وأن هناك حكمة وغاية , وأن هناك حقا وعدلا وراء حياة الناس في هذا الكوكب . ولا بد إذن من حساب ومن جزاء على ما يقدم الناس من أعمال . ولا بد إذن من دار غير هذه الدار يتحقق فيها الحق والعدل في الجزاء .
فهي سلسلة من منطق الفطرة والبداهة , تتداعى حلقاتها في حسهم على هذا النحو السريع . لذلك تقفز إلى خيالهم صورة النار , فيكون الدعاء إلى الله أن يقيهم منها , هو الخاطر الأول , المصاحب لإدراك الحق الكامن في هذا الوجود . . وهي لفتة عجيبة إلى تداعي المشاعر عند ذوي البصائر . . ثم تنطلق ألسنتهم بذلك الدعاء
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
الطويل , الخاشع الواجف الراجف المنيب , ذي النغم العذب , والإيقاع المنساب , والحرارة البادية في المقاطع والأنغام !
ولا بد من وقفة أمام الرجفة الأولى وهم يتجهون إلى ربهم ليقيهم عذاب النار . . لا بد من وقفة أمام قولهم:
(ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته). . (وما للظالمين من أنصار). .
إنها تشي بأن خوفهم من النار , إنما هو خوف - قبل كل شيء - من الخزي الذي يصيب أهل النار . وهذه الرجفة التي تصيبهم هي أولا رجفة الحياء من الخزي الذي ينال أهل النار . فهي ارتجافة باعثها الأكبر الحياء من الله , فهم أشد حساسية به من لذع النار ! كما أنها تشي بشعور القوي بأنه لا ناصر من الله , وأن الظالمين ما لهم من أنصار . .
ثم نمضي مع الدعاء الخاشع الطويل:
(ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان:أن آمنوا بربكم . فآمنا . ربنا فاغفر لنا ذنوبنا , وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار). .
فهي قلوب مفتوحة ; ما إن تتلقى حتى تستجيب . وحتى تستيقظ فيها الحساسية الشديدة , فتبحث أول ما تبحث عن تقصيرها وذنوبها ومعصيتها , فتتجه إلى ربها تطلب مغفرة الذنوب وتكفير السيئات , والوفاة مع الأبرار .
ويتسق ظل هذه الفقرة في الدعاء مع ظلال السورة كلها , في الاتجاه إلى الاستغفار والتطهر من الذنب والمعصية , في المعركة الشاملة مع شهوات النفس ومع الذنب والخطيئة . المعركة التي يتوقف على الانتصار فيها ابتداء كل انتصار في معارك الميدان , مع أعداء الله وأعداء الإيمان . . والسورة كلها وحدة متكاملة متناسقة الإيقاعات والظلال .
وختام هذا الدعاء . توجه ورجاء . واعتماد واستمداد من الثقة بوفاء الله بالميعاد:
(ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك , ولا تخزنا يوم القيامة , إنك لا تخلف الميعاد). .
فهو استنجاز لوعد الله , الذي بلغته الرسل , وثقة بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد , ورجاء في الإعفاء من الخزي يوم القيامة , يتصل بالرجفة الأولى في هذا الدعاء , ويدل على شدة الخوف من هذا الخزي , وشدة تذكره واستحضاره في مطلع الدعاء وفي ختامه . مما يشي بحساسية هذه القلوب ورقتها وشفافيتها وتقواها وحيائها من الله .
والدعاء في مجموعة يمثل الاستجابة الصادقة العميقة , لإيحاء هذا الكون وإيقاع الحق الكامن فيه , في القلوب السليمة المفتوحة . .
ولا بد من وقفة أخرى أمام هذا الدعاء , من جانب الجمال الفني والتناسق في الأداء . .
إن كل سورة من سور القرآن تغلب فيها قافية معينة لآياتها - والقوافي في القرآن غيرها في الشعر , فيه ليست حرفا متحدا , ولكنها إيقاع متشابه - مثل:"بصير . حكيم . مبين . مريب" . . "الألباب , الأبصار , النار . قرار" . . "خفيا . شقيا . شرقيا . شيئا . " . . . إلخ .
وتغلب القافية الأولى في مواضع التقرير . والثانية في مواضع الدعاء . والثالثة في مواضع الحكاية .
وسورة آل عمران تغلب فيها القافية الأولى . ولم تبعد عنها إلا في موضعين:أولهما في أوائل السورة وفيه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
دعاء . والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد . .
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني . . فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية , وعذوبة صوتية . تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال .
وهناك ظاهرة فنية أخرى . . إن عرض هذا المشهد:مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم , عميق النبرات . فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته , على الأعصاب والأسماع والخيال , فيؤثر في الوجدان , بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف . . وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني , ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته . ثم . . طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى - بعضكم من بعض - فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي , وقاتلوا وقتلوا , لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب . . لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار). .
وهي استجابة مفصلة , وتعبير مطول , يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ; وفق مقتضى الحال , ومتطلبات الموقف , من الجانب النفسي والشعوري .
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية , ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته , ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .
إن أولي الألباب هؤلاء , تفكروا في خلق السماوات والأرض , وتدبروا اختلاف الليل والنهار , وتلقوا من كتاب الكون المفتوح , واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه , فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم , على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ?
لقد كانت قبولا للدعاء , وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). .
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو "العمل" . العمل الإيجابي , الذي ينشأ عن هذا التلقي , وعن هذه الاستجابة , وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر , والذكر والاستغفار , والخوف من الله , والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة , والذي يقبل من الجميع:ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان . .
ثم تفصيل للعمل , تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ; كما تتبين منه طبيعة المنهج , وطبيعة الأرض التي يقوم عليها , وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك , وضرورة مغالبة العوائق , وتكسيرالأشواك , وتمهيد التربة للنبتة الطيبة , والتمكين لها في الأرض , أيا كانت التضحيات , وأيا كانت العقبات:
(فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله , والله عنده حسن الثواب).
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة , وأخرجوا من ديارهم , في سبيل العقيدة , وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه , وقاتلوا وقتلوا . . ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . . في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور , وتتأذى بها الأطماع والشهوات , وتتعرض للأذى والمطاردة , وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . . ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى , وعلى الرغم من المطاردة , ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال , ويكون القتل . . وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات , ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . . طريق هذا المنهج الرباني , الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري , وعن طريق هذا الجهد , وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج , ومقوماته , وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية , وطريقته في التوجيه , للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ; إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله . . التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة , حتى لا يكون فتنة لأصحابه , ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين , الذي يعانون ما يعانون , من أذى وإخراج من الديار , وقتل وقتال:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار). .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . . وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . . وبئس المهاد !
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198)
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله:
(جنات تجري من تحتها الأنهار). . (خالدين فيها). . (نزلا من عند الله). . (وما عند الله خير للأبرار). .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب ! إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من
دعاء . والثاني هنا عند هذا الدعاء الجديد . .
وذلك من بدائع التناسق الفني في التعبير القرآني . . فهذا المد يمنح الدعاء رنة رخية , وعذوبة صوتية . تناسب جو الدعاء والتوجه والابتهال .
وهناك ظاهرة فنية أخرى . . إن عرض هذا المشهد:مشهد التفكر والتدبر في خلق السماوات والأرض , واختلاف الليل والنهار , يناسبه دعاء خاشع مرتل طويل النغم , عميق النبرات . فيطول بذلك عرض المشهد وإيحاءاته ومؤثراته , على الأعصاب والأسماع والخيال , فيؤثر في الوجدان , بما فيه من خشوع وتنغيم وتوجه وارتجاف . . وهنا طال المشهد بعباراته وطال بنغماته مما يؤدي غرضا أصيلا من أغراض التعبير القرآني , ويحقق سمة فنية أصيلة من سماته . ثم . . طال بالرد عليه والاستجابة له كذلك:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى - بعضكم من بعض - فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي , وقاتلوا وقتلوا , لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . . ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب . . لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها , نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار). .
وهي استجابة مفصلة , وتعبير مطول , يتناسق مع السمة الفنية للتعبير القرآني ; وفق مقتضى الحال , ومتطلبات الموقف , من الجانب النفسي والشعوري .
ثم نخلص لمحتويات هذه الاستجابة الإلهية , ودلالتها على طبيعة هذا المنهج الإلهي ومقوماته , ثم على طبيعة منهج التربية الإسلامية وخصائصه . .
إن أولي الألباب هؤلاء , تفكروا في خلق السماوات والأرض , وتدبروا اختلاف الليل والنهار , وتلقوا من كتاب الكون المفتوح , واستجابت فطرتهم لإيحاء الحق المستكن فيه , فاتجهوا إلى ربهم بذلك الدعاء الخاشع الواجف الطويل العميق . . ثم تلقوا الاستجابة من ربهم الكريم الرحيم , على دعائهم المخلص الودود . . فماذا كانت الاستجابة ?
لقد كانت قبولا للدعاء , وتوجيها إلى مقومات هذا المنهج الإلهي وتكاليفه في آن:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم . . من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض). .
إنه ليس مجرد التفكر ومجرد التدبر . وليس مجرد الخشوع والارتجاف . وليس مجرد الاتجاه إلى الله لتكفير السيئات والنجاة من الخزي ومن النار . . إنما هو "العمل" . العمل الإيجابي , الذي ينشأ عن هذا التلقي , وعن هذه الاستجابة , وعن هذه الحساسية الممثلة في هذه الارتجافة . العمل الذي يعتبره الإسلام عبادة كعبادة التفكر والتدبر , والذكر والاستغفار , والخوف من الله , والتوجه إليه بالرجاء . بل العمل الذي يعتبره الإسلام الثمرة الواقعية المرجوة لهذه العبادة , والذي يقبل من الجميع:ذكرانا وإناثا بلا تفرقة ناشئة من اختلاف الجنس . فكلهم سواء في الإنسانية - بعضهم من بعض - وكلهم سواء في الميزان . .
ثم تفصيل للعمل , تتبين منه تكاليف هذه العقيدة في النفس والمال ; كما تتبين منه طبيعة المنهج , وطبيعة الأرض التي يقوم عليها , وطبيعة الطريق وما فيه من عوائق وأشواك , وضرورة مغالبة العوائق , وتكسيرالأشواك , وتمهيد التربة للنبتة الطيبة , والتمكين لها في الأرض , أيا كانت التضحيات , وأيا كانت العقبات:
(فالذين هاجروا , وأخرجوا من ديارهم , وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا . لأكفرن عنهم سيئاتهم , ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ثوابا من عند الله , والله عنده حسن الثواب).
وقد كانت هذه صورة الداعين المخاطبين بهذا القرآن أول مرة . الذين هاجروا من مكة , وأخرجوا من ديارهم , في سبيل العقيدة , وأوذوا في سبيل الله لا في أي غاية سواه , وقاتلوا وقتلوا . . ولكنها صورة أصحاب هذه العقيدة في صميمها . . في كل أرض وفي كل زمان . . صورتها وهي تنشأ في الجاهلية - أية جاهلية - في الأرض المعادية لها - أية أرض - وبين القوم المعادين - أي قوم - فتضيق بها الصدور , وتتأذى بها الأطماع والشهوات , وتتعرض للأذى والمطاردة , وأصحابها - في أول الأمر - قلة مستضعفة . . ثم تنمو النبتة الطيبة - كما لا بد أن تنمو - على الرغم من الأذى , وعلى الرغم من المطاردة , ثم تملك الصمود والمقاومة والدفاع عن نفسها . فيكون القتال , ويكون القتل . . وعلى هذا الجهد الشاق المرير يكون تكفير السيئات , ويكون الجزاء ويكون الثواب .
هذا هو الطريق . . طريق هذا المنهج الرباني , الذي قدر الله أن يكون تحققه في واقع الحياة بالجهد البشري , وعن طريق هذا الجهد , وبالقدر الذي يبذله المؤمنون المجاهدون في سبيل الله . ابتغاء وجه الله .
وهذه هي طبيعة هذا المنهج , ومقوماته , وتكاليفه . . ثم هذه هي طريقة المنهج في التربية , وطريقته في التوجيه , للانتقال من مرحلة التأثر الوجداني بالتفكر والتدبر في خلق الله ; إلى مرحلة العمل الإيجابي وفق هذا التأثر تحقيقا للمنهج الذي أراده الله .
ثم التفاتة واقعية إلى الفتنة المستكنة في المتاع المتاح في هذه الأرض للكفار والعصاة والمعادين لمنهج الله . . التفاتة لإعطاء هذا المتاع وزنه الصحيح وقيمته الصحيحة , حتى لا يكون فتنة لأصحابه , ثم كي لا يكون فتنة للمؤمنين , الذي يعانون ما يعانون , من أذى وإخراج من الديار , وقتل وقتال:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار , خالدين فيها نزلا من عند الله . وما عند الله خير للأبرار). .
وتقلب الذين كفروا في البلاد , مظهر من مظاهر النعمة والوجدان , ومن مظاهر المكانة والسلطان , وهو مظهر يحيك في القلوب منه شيء لا محالة . يحيك منه شيء في قلوب المؤمنين ; وهم يعانون الشظف والحرمان , ويعانون الأذى والجهد , ويعانون المطاردة أو الجهاد . . وكلها مشقات وأهوال , بينما أصحاب الباطل ينعمون ويستمتعون ! . . ويحيك منه شيء في قلوب الجماهير الغافلة , وهي ترى الحق وأهله يعانون هذا العناء , والباطل وأهله في منجاة , بل في مسلاة ! ويحيك منه شيء في قلوب الضالين المبطلين أنفسهم ; فيزيدهم ضلالا وبطرا ولجاجا في الشر والفساد .
هنا تأتي هذه اللمسة:
(لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد . متاع قليل . ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد).
متاع قليل . . ينتهي ويذهب . . أما المأوى الدائم الخالد , فهو جهنم . . وبئس المهاد !
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198)
وفي مقابل المتاع القليل الذاهب جنات . وخلود . وتكريم من الله:
(جنات تجري من تحتها الأنهار). . (خالدين فيها). . (نزلا من عند الله). . (وما عند الله خير للأبرار). .
وما يشك أحد يضع ذلك النصيب في كفة , وهذا النصيب في كفة , أن ما عند الله خير للأبرار . وما تبقى في القلب شبهة في أن كفة الذين اتقوا أرجح من كفة الذين كفروا في هذا الميزان . وما يتردد ذو عقل في اختيار النصيب الذي يختاره لأنفسهم أولو الألباب ! إن الله - سبحانه - في موضع التربية , وفي مجال إقرار القيم الأساسية في التصور الإسلامي لا يعد المؤمنين هنا بالنصر , ولا يعدهم بقهر الأعداء , ولا يعدهم بالتمكين في الأرض , ولا يعدهم شيئا من
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
الأشياء في هذه الحياة . . مما يعدهم به في مواضع أخرى , ومما يكتبه على نفسه لأوليائه في صراعهم مع أعدائه .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله). فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه [ ص ] على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
الدرس الثاني:199 - 200 أعباء المنهج وشرط الطريق
وقبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب , فيقرر أن فريقا منهم يؤمن إيمان المسلمين , وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم . وسار سيرتهم . وله كذلك جزاؤهم:
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم , وما أنزل إليهم . خاشعين لله , لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا . أولئك لهم أجرهم عند ربهم . إن الله سريع الحساب).
إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب . وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير . ففي معرض الإيمان , وفي مشهد الدعاء والاستجابة , يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق , وانتهوا إلى النهاية . فآمنوا بالكتاب كله , ولم يفرقوا بين الله ورسله , ولم يفرقوا بين أحد من رسله . آمنوا بما أنزل إليهم من قبل , وآمنوا بما أنزل للمسلمين - وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود ; وتنظر إلى خط العقيدة موصولا بالله , وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة , ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب:سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمنا قليلا . . ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب , وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله . ثم التزوير والكتمان لآيات الله , لقاء أعراض الحياة الرخيصة !
ويعدهم أجر المؤمنين عند الله . الذي لا يمطل المتعاملين معه - حاشاه - !
(إن الله سريع الحساب). .
ثم يجيء الإيقاع الأخير , في نداء الله للذين آمنوا , وتلخيص أعباء المنهج , وشرط الطريق:
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا , وصابروا , ورابطوا , واتقوا الله لعلكم تفلحون). .
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء . والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء , وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء:
(يا أيها الذين آمنوا) .
النداء لهم . للصبر والمصابرة , والمرابطة , والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكر إن مفردين , ويذكر إن مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة , ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة , وإلى المرابطة والتقوى , فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق , حافل بالعقبات والأشواك , مفروش بالدماء والأشلاء , وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة:الصبر على شهوات النفس ورغائبها , وأطماعها ومطامحها , وضعفها ونقصها , وعجلتها وملالها من قريب ! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم , وانحراف طباعهم , وأثرتهم , وغرورهم , والتوائهم , واستعجالهمللثمار ! والصبر على تنفج الباطل , ووقاحة الطغيان , وانتفاش الشر , وغلبة الشهوة , وتصعير الغرور والخيلاء ! والصبر على قلة الناصر , وضعف المعين , وطول الطريق , ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق ! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله , وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ , والحنق , والضيق , وضعف الثقة أحيانا في الخير , وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ; والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط ! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة , واستقبال الرخاء في تواضع وشكر , وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام , وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء ! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله , واستسلام لقدره , ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق ; وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات !
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها , ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم , فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى:أعدائهم من كوامن الصدور , وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم , يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر , والدفع بالدفع , والجهد بالجهد , والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق , فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق !
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد , وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا , ولا تستسلم للرقاد ! فما هادنها أعداؤها قط , منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة , والتعرض بها للناس . وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد , حيثما كانت إلى آخر الزمان !
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم , كما يتحكم في أموالهم , كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم ; والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة ; والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون , لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعا . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين , الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة , وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي ; ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكلتكاليفها , ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام !!
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ; ويحرسه أن يضعف ; ويحرسه أن يعتدي ; ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ , إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ; ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها , وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار:
(لعلكم تفلحون).
وصدق الله العظيم . .
إنه يعدهم هنا شيئا واحدا . هو (ما عند الله). فهذا هو الأصل في هذه الدعوة . وهذه هي نقطة الانطلاق في هذه العقيدة:التجرد المطلق من كل هدف ومن كل غاية , ومن كل مطمع - حتى رغبة المؤمن في غلبة عقيدته وانتصار كلمة الله وقهر أعداء الله - حتى هذه الرغبة يريد الله أن يتجرد منها المؤمنون , ويكلوا أمرها إليه , وتتخلص قلوبهم من أن تكون هذه شهوة لها ولو كانت لا تخصها !
هذه العقيدة:عطاء ووفاء وأداء . . فقط . وبلا مقابل من أعراض هذه الأرض , وبلا مقابل كذلك من نصر وغلبة وتمكين واستعلاء . . ثم انتظار كل شيء هناك !
ثم يقع النصر , ويقع التمكين , ويقع الاستعلاء . . ولكن هذا ليس داخلا في البيعة . ليس جزءا من الصفقة . ليس في الصفقة مقابل في هذه الدنيا . وليس فيها إلا الأداء والوفاء والعطاء . . والابتلاء . .
على هذا كانت البيعة والدعوة مطاردة في مكة ; وعلى هذا كان البيع والشراء . ولم يمنح الله المسلمين النصر والتمكين والاستعلاء ; ولم يسلمهم مقاليد الأرض وقيادة البشرية , إلا حين تجردوا هذا التجرد , ووفوا هذا الوفاء:
قال محمد بن كعب القرظي وغيره:قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - لرسول الله [ ص ] يعني ليلة العقبة [ ونقباء الأوس والخزرج يبايعونه [ ص ] على الهجرة إليهم ]:اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم " . قال:فما لنا إذا فعلنا ذلك ? قال:" الجنة " . . قالوا:ربح البيع . ولا نقيل ولا نستقيل . . هكذا . . "الجنة " . . والجنة فقط ! لم يقل . . النصر والعز والوحدة . والقوة . والتمكين . والقيادة . والمال . والرخاء - مما منحهم الله وأجراه على أيديهم - فذلك كله خارج عن الصفقة !
وهكذا . . ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل . . لقد أخذوها صفقة بين متبايعين ; أنهي أمرها , وأمضي عقدها . ولم تعد هناك مساومة حولها !
وهكذا ربى الله الجماعة التي قدر أن يضع في يدها مقاليد الأرض , وزمام القيادة , وسلمها الأمانة الكبرى بعد أن تجردت من كل أطماعها , وكل رغباتها , وكل شهواتها , حتى ما يختص منها بالدعوة التي تحملها , والمنهج الذي تحققه , والعقيدة التي تموت من أجلها . فما يصلح لحمل هذه الأمانة الكبرى من بقي له أرب
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
لنفسه في نفسه , أو بقيت فيه بقية لم تدخل في السلم كافة .
الدرس الثاني:199 - 200 أعباء المنهج وشرط الطريق
وقبل ختام السورة يعود السياق إلى أهل الكتاب , فيقرر أن فريقا منهم يؤمن إيمان المسلمين , وقد انضم إلى موكب الإسلام معهم . وسار سيرتهم . وله كذلك جزاؤهم:
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم , وما أنزل إليهم . خاشعين لله , لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا . أولئك لهم أجرهم عند ربهم . إن الله سريع الحساب).
إنه الحساب الختامي مع أهل الكتاب . وقد ذكر من طوائفهم ومواقفهم فيما سبق من السورة الكثير . ففي معرض الإيمان , وفي مشهد الدعاء والاستجابة , يذكر كذلك أن من أهل الكتاب من سلكوا الطريق , وانتهوا إلى النهاية . فآمنوا بالكتاب كله , ولم يفرقوا بين الله ورسله , ولم يفرقوا بين أحد من رسله . آمنوا بما أنزل إليهم من قبل , وآمنوا بما أنزل للمسلمين - وهذه سمة هذه العقيدة التي تنظر إلى موكب الإيمان نظرة القرب والود ; وتنظر إلى خط العقيدة موصولا بالله , وتنظر إلى منهج الله في وحدته وكليته الشاملة , ويبرز من سمات المؤمنين من أهل الكتاب:سمة الخشوع لله وسمة عدم شرائهم بآياته ثمنا قليلا . . ليفرقهم بهذا من صفوف أهل الكتاب , وسمتهم الأصيلة هي التبجح وقلة الحياء من الله . ثم التزوير والكتمان لآيات الله , لقاء أعراض الحياة الرخيصة !
ويعدهم أجر المؤمنين عند الله . الذي لا يمطل المتعاملين معه - حاشاه - !
(إن الله سريع الحساب). .
ثم يجيء الإيقاع الأخير , في نداء الله للذين آمنوا , وتلخيص أعباء المنهج , وشرط الطريق:
(يا أيها الذين آمنوا اصبروا , وصابروا , ورابطوا , واتقوا الله لعلكم تفلحون). .
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء . والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء , وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء:
(يا أيها الذين آمنوا) .
النداء لهم . للصبر والمصابرة , والمرابطة , والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكر إن مفردين , ويذكر إن مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة , ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة , وإلى المرابطة والتقوى , فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق , حافل بالعقبات والأشواك , مفروش بالدماء والأشلاء , وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة:الصبر على شهوات النفس ورغائبها , وأطماعها ومطامحها , وضعفها ونقصها , وعجلتها وملالها من قريب ! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم , وانحراف طباعهم , وأثرتهم , وغرورهم , والتوائهم , واستعجالهمللثمار ! والصبر على تنفج الباطل , ووقاحة الطغيان , وانتفاش الشر , وغلبة الشهوة , وتصعير الغرور والخيلاء ! والصبر على قلة الناصر , وضعف المعين , وطول الطريق , ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق ! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله , وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ , والحنق , والضيق , وضعف الثقة أحيانا في الخير , وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ; والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط ! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة , واستقبال الرخاء في تواضع وشكر , وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام , وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء ! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله , واستسلام لقدره , ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق ; وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات !
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها , ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم , فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى:أعدائهم من كوامن الصدور , وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم , يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر , والدفع بالدفع , والجهد بالجهد , والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق , فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق !
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد , وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا , ولا تستسلم للرقاد ! فما هادنها أعداؤها قط , منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة , والتعرض بها للناس . وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد , حيثما كانت إلى آخر الزمان !
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم , كما يتحكم في أموالهم , كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم ; والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة ; والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون , لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعا . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين , الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة , وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي ; ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكلتكاليفها , ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام !!
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ; ويحرسه أن يضعف ; ويحرسه أن يعتدي ; ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ , إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ; ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها , وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار:
(لعلكم تفلحون).
وصدق الله العظيم . .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة أل عمران
جزاك الله خير ما جازى به نبى عن قومه
فوكس- عضو ممتاز
- رقم العضوية : 2
عدد المساهمات : 2792
المهارة : 21458
تاريخ التسجيل : 02/04/2010
الكفاءة : 13
omr- عضو v i p
- رقم العضوية : 247
عدد المساهمات : 765
المهارة : 8107
تاريخ التسجيل : 19/07/2010
الكفاءة : 0
صفحة 3 من اصل 3 • 1, 2, 3
مواضيع مماثلة
» في ظلال القرآن سورة الأنفال
» الحاخام الشيعى على الكورانى يقول ان حفظ القرآن كلام فارغ و يسئل : ما فائدة حفظ القرآن ؟؟؟
» فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
» فى ظلال القرآن ـ سيد قطب - صورة الأنعام
» فى ظلال القرأن الجزء الأول سورة إبراهيم
» الحاخام الشيعى على الكورانى يقول ان حفظ القرآن كلام فارغ و يسئل : ما فائدة حفظ القرآن ؟؟؟
» فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
» فى ظلال القرآن ـ سيد قطب - صورة الأنعام
» فى ظلال القرأن الجزء الأول سورة إبراهيم
صفحة 3 من اصل 3
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى