فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
سورة الإسراء
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
مقدمة سورة الإسراء
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية , وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ; وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ; وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ; إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به , وطبيعة هذا القرآن , وما يهدي إليه , واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل , وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي , والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس , فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل (وكل شيء فصلناه تفصيلا).
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . .)وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح (إنه كان عبدا شكورا). . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله: (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا , تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن , وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآنويقولون:سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا). . وتختم السورة بالآية (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا , ولم يكن لهشريك في الملك , ولم يكن له ولي من الذل , وكبره تكبيرا).
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا , يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)مع الكشف عن حكمة الإسراء (لنريه من آياتنا). . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل , من نكبة وهلاك وتشريد مرتين , بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة (وإن عدتم عدنا). . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم , بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال , وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد , ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه , ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله , وعن البعث واستبعادهم لوقوعه , وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر , ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون , فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ; كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس , وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله , وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان , وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم: فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته , ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل , ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين , بينما الإنسان قليل العلم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية , ويطلبون نزول الملائكة , ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب , يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة , لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة , ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله , وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض , فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته , وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
الدرس الأول:1 حادثة الإسراء
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى , وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ; وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه , فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل:أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس:الحرم كله مسجد .
وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته , وقص القصة على أم هانى ء وقال:" مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد , فتشبثت أم هانى ء بثوبه , فقال:" مالك ? " قالت:أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال:" وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل , فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل:يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم , فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ; وارتد ناس ممن كان آمن به ; وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال:أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال:فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا:فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال:نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد , فجلى له , فطفق ينظر إليه وينعته لهم , فقالوا:أما النعت فقد أصاب . فقالوا:أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ; وقال:تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم:هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر:وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق , كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه , وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم , وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ; ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة , حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد , أو عالم بعيد ; والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول:إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به , والحق الذي وقع له , جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا , واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس , ولا يتملقون به القوم , ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان , إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته , مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق , إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة , المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة:
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله , لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). .
تبدأ السورة بتسبيح الله , أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف , وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية: (أسرى بعبده)لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ; وذلك كي لا تنسى هذه الصفة , ولا يلتبس مقام العبودية , بمقام الألوهية , كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام , بسبب ما لابس مولده ووفاته , وبسبب الآيات التي أعطيت له , فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة , من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى:السير ليلا . فكلمة(أسرى)تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن , ويخيم جوه الساجي على النفس , وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير , تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام , إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله , واشتمال رسالته على هذه المقدسات , وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ; وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ; وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه (الذي باركنا حوله)وصف يرسم البركة حافة بالمسجد , فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل:باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات: (لنريه من آياتنا)والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله , تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ; وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري , والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس , الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه , وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . (إنه هو السميع البصير). . يسمع ويرى كل ما لطف ودق , وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)
مقدمة سورة الإسراء
هذه السورة - سورة الإسراء - مكية , وهي تبدأ بتسبيح الله وتنتهي بحمده ; وتضم موضوعات شتى معظمها عن العقيدة ; وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة ; إلى شيء من القصص عن بني إسرائيل يتعلق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء . وطرف من قصة آدم وإبليس وتكريم الله للإنسان .
ولكن العنصر البارز في كيان السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه في مكة . وهو القرآن الذي جاء به , وطبيعة هذا القرآن , وما يهدي إليه , واستقبال القوم له . واستطرادا بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسل , وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير طابع الخوارق الحسية وما يتبعها من هلاك المكذبين بها . وإلى تقرير التبعة الفردية في الهدى والضلال الاعتقادي , والتبعة الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع . . كل ذلك بعد أن يعذر الله - سبحانه - إلى الناس , فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل (وكل شيء فصلناه تفصيلا).
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه . ففي مطلعها: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى . . .)وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرية المؤمنين مع نوح (إنه كان عبدا شكورا). . وعند ذكر دعاوي المشركين عن الآلهة يعقب بقوله: (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا , تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن , وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). . وفي حكاية قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآنويقولون:سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا). . وتختم السورة بالآية (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا , ولم يكن لهشريك في الملك , ولم يكن له ولي من الذل , وكبره تكبيرا).
في تلك الموضوعات المنوعة حول ذلك المحور الواحد الذي بينا , يمضي سياق السورة في أشواط متتابعة .
يبدأ الشوط الأول بالإشارة إلى الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)مع الكشف عن حكمة الإسراء (لنريه من آياتنا). . وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى وما قضى فيه لبني إسرائيل , من نكبة وهلاك وتشريد مرتين , بسبب طغيانهم وإفسادهم مع إنذارهم بثالثة ورابعة (وإن عدتم عدنا). . ثم يقرر أن الكتاب الأخير - القرآن - يهدي للتي هي أقوم , بينما الإنسان عجول مندفع لا يملك زمام انفعالاته . ويقرر قاعدة التبعة الفردية في الهدى والضلال , وقاعدة التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك .
ويبدأ الشوط الثاني بقاعدة التوحيد , ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله وآداب العمل والسلوك فيه , ويشدها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستندا إليه .
ويتحدث في الشوط الثالث عن أوهام الوثنية الجاهلية حول نسبة البنات والشركاء إلى الله , وعن البعث واستبعادهم لوقوعه , وعن استقبالهم للقرآن وتقولاتهم على الرسول [ ص ] ويأمر المؤمنين أن يقولوا قولا آخر , ويتكلموا بالتي هي أحسن .
وفي الشوط الرابع يبين لماذا لم يرسل الله محمدا [ ص ] بالخوارق فقد كذب بها الأولون , فحق عليهم الهلاك اتباعا لسنة الله ; كما يتناول موقف المشركين من إنذارهم لله في رؤيا الرسول [ ص ] وتكذيبهم وطغيانهم . ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس , وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرية آدم . يجيء هذا الطرف من القصة كأنه كشف لعوامل الضلال الذي يبدو من المشركين . ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله , وتذكيرهم بنعمة الله عليهم في تكريم الإنسان , وما ينتظر الطائعين والعصاة يوم ندعو كل أناس بإمامهم: فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
ويستعرض الشوط الأخير كيد المشركين للرسول [ ص ] ومحاولة فتنته عن بعض ما أنزل إليه ومحاولة إخراجه من مكة . ولو أخرجوه قسرا - ولم يخرج هو مهاجرا بأمر الله - لحل بهم الهلاك الذي حل بالقرى من قبلهم حين أخرجت رسلها أو قتلتهم . ويأمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يقرأ قرآنه ويصلي صلاته , ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل , ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين , بينما الإنسان قليل العلم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
ويستمر في الحديث عن القرآن وإعجازه . بينما هم يطلبون خوارق مادية , ويطلبون نزول الملائكة , ويقترحون أن يكون للرسول بيت من زخرف أو جنة من نخيل وعنب , يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ! أو أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا . أو أن يرقى هو في السماء ثم يأتيهم بكتاب مادي معه يقرأونه . . . إلى آخر هذه المقترحات التي يمليها العنت والمكابرة , لا طلب الهدى والاقتناع . ويرد على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول وطبيعة الرسالة , ويكل الأمر إلى الله . ويتهكم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات كلها بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله - على سعتها وعدم نفادها - لأمسكوها خوفا من الإنفاق ! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبح لله , وأن الآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل فلم تؤد إلىإيمان المتعنتين الذين استفزوه من الأرض , فأخذهم الله بالعذاب والنكال .
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه . القرآن الذي نزل مفرقا ليقرأه الرسول على القوم زمنا طويلا بمناسباته ومقتضياته , وليتأثروا به ويستجيبوا له استجابة حية واقعية عملية . والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخشوع والتأثر إلى حد البكاء والسجود . ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل . كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه .
الدرس الأول:1 حادثة الإسراء
وقصة الإسراء - ومعها قصة المعراج - إذ كانتا في ليلة واحدة - الإسراء من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس . والمعراج من بيت المقدس إلى السماوات العلى وسدرة المنتهى , وذلك العالم الغيبي المجهول لنا . . هذه القصة جاءت فيها روايات شتى ; وثار حولها جدل كثير . ولا يزال إلى اليوم يثور .
وقد اختلف في المكان الذي أسرى منه , فقيل هو المسجد الحرام بعينه - وهو الظاهر - وروى عن النبي [ ص ] " بينا أنا في المسجد في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق " . وقيل:أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب . والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس:الحرم كله مسجد .
وروى أنه كان نائما في بيت أم هانيء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته , وقص القصة على أم هانى ء وقال:" مثل لي النبيون فصليت بهم " ثم قام ليخرج إلى المسجد , فتشبثت أم هانى ء بثوبه , فقال:" مالك ? " قالت:أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم . قال:" وإن كذبوني " . فخرج فجلس إليه أبو جهل , فأخبره رسول الله [ ص ] بحديث الإسراء فقال أبو جهل:يا معشر بني كعب ابن لؤي هلم . فحدثهم , فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا ; وارتد ناس ممن كان آمن به ; وسعى رجال إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقال:أوقال ذلك ? قالوا نعم . قال:فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا:فتصدقه في أن يأتي في الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ? قال:نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخبر السماء ! فسمي الصديق . وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس فطلبوا إليه وصف المسجد , فجلى له , فطفق ينظر إليه وينعته لهم , فقالوا:أما النعت فقد أصاب . فقالوا:أخبرنا عن عيرنا . فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها ; وقال:تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق . فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية - لمراقبة مقدم العير - فقال قائل منهم:هذه والله الشمس قد شرقت . فقال آخر:وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق , كما قال محمد . . ثم لم يؤمنوا ! . . وفي الليلة ذاتها كان العروج به إلى السماء من بيت المقدس .
واختلف في أن الإسراء كان في اليقظة أم في المنام . فعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت:والله ما فقد جسد رسول الله [ ص ] ولكن عرج بروحه . وعن الحسن كان في المنام رؤيا رآها . وفي أخبار أخرى أنه كان بروحه وجسمه , وأن فراشه - عليه الصلاة والسلام - لم يبرد حتى عاد إليه .
والراجح من مجموع الروايات أن رسول الله [ ص ] ترك فراشه في بيت أم هانى ء إلى المسجد فلما كان في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان أسري به وعرج . ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد .
على أننا لا نرى محلا لذلك الجدل الطويل الذي ثار قديما والذي يثور حديثا حول طبيعة هذه الواقعة المؤكدة في حياة الرسول [ ص ] والمسافة بين الإسراء والمعراج بالروح أو بالجسم , وبين أن تكونرؤيا في المنام أو رؤية في اليقظة . . المسافة بين هذه الحالات كلها ليست بعيدة ; ولا تغير من طبيعة هذه الواقعة شيئا وكونها كشفا وتجلية للرسول [ ص ] عن أمكنة بعيدة وعوالم بعيدة في لحظة خاطفة قصيرة . . والذين يدركون شيئا من طبيعة القدرة الإلهية ومن طبيعة النبوة لا يستغربون في الواقعية شيئا . فأمام القدرة الإلهية تتساوى جميع الأعمال التي تبدو في نظر الإنسان وبالقياس إلى قدرته وإلى تصوره متفاوتة السهولة والصعوبة , حسب ما اعتاده وما رآه . والمعتاد المرئي في عالم البشر ليس هو الحكم في تقدير الأمور بالقياس إلى قدرة الله . أما طبيعة النبوة فهي اتصال بالملأ الأعلى - على غير قياس أو عادة لبقية البشر - وهذه التجلية لمكان بعيد , أو عالم بعيد ; والوصول إليه بوسيلة معلومة أو مجهولة ليست أغرب من الاتصال بالملأ الأعلى والتلقي عنه . وقد صدق أبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرد المسألة المستغربة المستهولة عند القوم إلى بساطتها وطبيعتها فيقول:إني لأصدقه بأبعد من ذلك . أصدقه بخير السماء !
ومما يلاحظ - بمناسبة هذه الواقعة وتبين صدقها للقوم بالدليل المادي الذي طلبوه يومئذ في قصة العير وصفتها أن الرسول [ ص ] لم يسمع لتخوف أم هانى ء - رضي الله عنها - من تكذيب القوم له بسبب غرابة الواقعة . فإن ثقة الرسول بالحق الذي جاء به , والحق الذي وقع له , جعلته يصارح القوم بما رأى كائنا ما كان رأيهم فيه . وقد ارتد بعضهم فعلا , واتخذها بعضهم مادة للسخرية والتشكيك . ولكن هذا كله لم يكن ليقعد الرسول [ ص ] عن الجهر بالحق الذي آمن به . . وفي هذا مثل لأصحاب الدعوة أن يجهروا بالحق لا يخشون وقعه في نفوس الناس , ولا يتملقون به القوم , ولا يتحسسون مواضع الرضى والاستحسان , إذا تعارضت مع كلمة الحق تقال .
كذلك يلاحظ أن الرسول [ ص ] لم يتخذ من الواقعة معجزة لتصديق رسالته , مع إلحاح القوم في طلب الخوارق - وقد قامت البينة عندهم على صدق الإسراء على الأقل - ذلك أن هذه الدعوة لا تعتمد على الخوارق , إنما تعتمد على طبيعة الدعوة ومنهاجها المستمد من الفطرة القويمة , المتفقة مع المدارك بعد تصحيحها وتقويمها . فلم يكن جهر الرسول [ ص ] بالواقعة ناشئا عن اعتماده عليها في شيء من رسالته . إنما كان جهرا بالحقيقة المستيقنة له لمجرد أنها حقيقة:
والآن نأخذ في الدرس الأول على وجه التفصيل:
(سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله , لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير). .
تبدأ السورة بتسبيح الله , أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف , وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء .
وتذكر صفة العبودية: (أسرى بعبده)لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والعروج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر ; وذلك كي لا تنسى هذه الصفة , ولا يلتبس مقام العبودية , بمقام الألوهية , كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام , بسبب ما لابس مولده ووفاته , وبسبب الآيات التي أعطيت له , فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية ومقام الألوهية . . وبذلك تبقى للعقيدة الإسلامية بساطتها ونصاعتها وتنزيهها للذات الإلهية عن كل شبهة من شرك أو مشابهة , من قريب أو من بعيد .
والإسراء من السرى:السير ليلا . فكلمة(أسرى)تحمل معها زمانها . ولا تحتاج إلى ذكره . ولكنالسياق ينص على الليل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا)للتظليل والتصوير - على طريقة القرآن الكريم - فيلقي ظل الليل الساكن , ويخيم جوه الساجي على النفس , وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها .
والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير , تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام , إلى محمد خاتم النبيين [ ص ] وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا . وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله , واشتمال رسالته على هذه المقدسات , وارتباط رسالته بها جميعا . فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ; وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان ; وتتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .
ووصف المسجد الأقصى بأنه (الذي باركنا حوله)وصف يرسم البركة حافة بالمسجد , فائضة عليه . وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل:باركناه . أو باركنا فيه . وذلك من دقائق التعبير القرآني العجيب .
والإسراء آية صاحبتها آيات: (لنريه من آياتنا)والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التى لم يبرد فيها فراش الرسول [ ص ] أيا كانت صورتها وكيفيتها . . آية من آيات الله , تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ; وتكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري , والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس , الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه , وأودع فيه هذه الأسرار اللطيفة . . (إنه هو السميع البصير). . يسمع ويرى كل ما لطف ودق , وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا إلى صيغة التقرير من الله: (لنريه من آياتنا)إلى صيغة الوصف لله: (إنه هو السميع البصير)وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس . فالتسبيح يرتفع موجها إلى ذات الله سبحانه . وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصا . والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية . وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة .
الدرس الثاني:2 - 8 نوح وموسى وإفسادات لبني إسرائيل
هذا الإسراء آية من آيات الله . وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر . والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة . والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجها منها . فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الآيات التالية:
آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا . ثم رددنا لكم الكرة عليهم , وأمددناكم بأموال وبنين , وجعلناكم أكثر نفيرا . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم , وإن أسأتم فلها . فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا . عسى ربكم أن يرحمكم , وإن عدتم عدنا , وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا . .
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة . وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها ; ودالت دولتهم بها . وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها , وفاقا
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5)
لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها . وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها .
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى - التوراة - وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر - نوح - العبد الشكور , وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة , ولم يحمل معه إلا المؤمنون:
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا). .
ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل . وذلك ألا يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم .
وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب: (هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا)فلا يعتمدوا إلا على الله وحده , ولا ليتجهوا إلا إلى الله وحده . فهذا هو الهدى , وهذا هو الإيمان . فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلا .
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح , وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض . خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين , مع نوح العبد الشكور , وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق .
ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر , هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها . وقد وصف بها محمدا [ ص ] من قبل . على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها .
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل , أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كما عادوا إلى الإفساد في الأرض , تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف:
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا). .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم , حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ; لا أنه قضاء قهري عليهم , تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد (قل:إن الله لا يأمر بالفحشاء)إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون - بالقياس إلى علم الله - كائن , وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد , ولم يكشف عنه الستار .
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين , وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا:
(فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا).
فهذه هي الأولى:يعلون في الأرض المقدسة , ويصبح لهم فيها قوة وسلطان , فيفسدون فيها . فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد , وأولي بطش وقوة , يستبيحون الديار , ويروحون فيها ويغدون باستهتار , ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب (وكان وعدا مفعولا)لا يخلف ولا يكذب .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (
حتى إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل ; فرجعوا إلى ربهم , وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم . وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم , فطغوا هم الآخرون وأفسدوا في الأرض , أدال الله للمغلوبين من الغالبين , ومكن للمستضعفين من المستكبرينثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا). .
ثم تتكرر القصة من جديد !
وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء:
(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها). .
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ; والتي تجعل عمل الإنسان كله له , بكل ثماره ونتائجه . وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل , منه تنتج , وبه تتكيف ; وتجعل الإنسان مسؤولا عن نفسه , إن شاء أحسن إليها , وإن شاء أساء , لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .
فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة:
(فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا). .
ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض , اكتفاء بذكره من قبل: (لتفسدن في الأرض مرتين)ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه , أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال . ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة)ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار (وليتبروا ما علوا تتبيرا). . وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء , والذي لا يبقي على شيء .
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد , فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة , ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض , ودمر مملكتهم فيها تدميرا .
ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل , لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا . والعبرة هي المطلوبة هنا . وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود .
ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول , بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة: (عسى ربكم أن يرحمكم)إن أفدتم منه عبرة .
فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى فساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية: (وإن عدتم عدنا). .
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها . ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادا آخرين , حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم "هتلر" ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "إسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات . وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب , تصديقا لوعد الله القاطع , وفاقا لسنته التي لا تتخلف . . وإن غدا لناظره قريب !
ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة:
(وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا). . تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ; وتتسع لهم فلا يند عنها أحد .
إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)
الدرس الثالث:9 - 11 الإهتداء بالقرآن والإنسان العجول
ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل , وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ; بل ضلوا فهلكوا . . ينتقل السياق إلى القرآن . القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم:
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم , ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما). .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). .
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم , فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق , وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور , بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض , والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة , وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء , وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه , وبين مشاعره وسلوكه , وبين عقيدته وعمله , فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم , متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض , وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله , ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة , فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا , وحكومات وشعوبا , ودولا وأجناسا , ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى , ولا تميل مع المودة والشنآن ; ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه , وهو أعلم بمن خلق , وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل , فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها , وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). . (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما)فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان
الدرس الثاني:2 - 8 نوح وموسى وإفسادات لبني إسرائيل
هذا الإسراء آية من آيات الله . وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر . والمسجد الأقصى هو طرف الرحلة . والمسجد الأقصى هو قلب الأرض المقدسة التي أسكنها الله بني إسرائيل ثم أخرجها منها . فسيرة موسى وبني إسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب من سياق السورة في الآيات التالية:
آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا . وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا . فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا . ثم رددنا لكم الكرة عليهم , وأمددناكم بأموال وبنين , وجعلناكم أكثر نفيرا . إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم , وإن أسأتم فلها . فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا . عسى ربكم أن يرحمكم , وإن عدتم عدنا , وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا . .
وهذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل لا تذكر في القرآن إلا في هذه السورة . وهي تتضمن نهاية بني إسرائيل التي صاروا إليها ; ودالت دولتهم بها . وتكشف عن العلاقة المباشرة بين مصارع الأمم وفشو الفساد فيها , وفاقا
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5)
لسنة الله التي ستذكر بعد قليل في السورة ذاتها . وذلك أنه إذا قدر الله الهلاك لقرية جعل إفساد المترفين فيها سببا لهلاكها وتدميرها .
ويبدأ الحديث في هذه الحلقة بذكر كتاب موسى - التوراة - وما اشتمل عليه من إنذار لبني إسرائيل وتذكير لهم بجدهم الأكبر - نوح - العبد الشكور , وآبائهم الأولين الذين حملوا معه في السفينة , ولم يحمل معه إلا المؤمنون:
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ; ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا). .
ذلك الإنذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة كذلك بعد قليل . وذلك ألا يعذب الله قوما حتى يبعث إليهم رسولا ينذرهم ويذكرهم .
وقد نص على القصد الأول من إيتاء موسى الكتاب: (هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا)فلا يعتمدوا إلا على الله وحده , ولا ليتجهوا إلا إلى الله وحده . فهذا هو الهدى , وهذا هو الإيمان . فما آمن ولا اهتدى من اتخذ من دون الله وكيلا .
ولقد خاطبهم باسم آبائهم الذين حملهم مع نوح , وهم خلاصة البشرية على عهد الرسول الأول في الأرض . خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله لآبائهم الأولين , مع نوح العبد الشكور , وليردهم إلى هذا النسب المؤمن العريق .
ووصف نوحا بالعبودية لهذا المعنى ولمعنى آخر , هو تنسيق صفة الرسل المختارين وإبرازها . وقد وصف بها محمدا [ ص ] من قبل . على طريقة التناسق القرآنية في جو السورة وسياقها .
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل , أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كما عادوا إلى الإفساد في الأرض , تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف:
(وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا). .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم , حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ; لا أنه قضاء قهري عليهم , تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد (قل:إن الله لا يأمر بالفحشاء)إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون - بالقياس إلى علم الله - كائن , وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد , ولم يكشف عنه الستار .
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين , وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا:
(فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار , وكان وعدا مفعولا).
فهذه هي الأولى:يعلون في الأرض المقدسة , ويصبح لهم فيها قوة وسلطان , فيفسدون فيها . فيبعث الله عليهم عبادا من عباده أولي بأس شديد , وأولي بطش وقوة , يستبيحون الديار , ويروحون فيها ويغدون باستهتار , ويطأون ما فيها ومن فيها بلا تهيب (وكان وعدا مفعولا)لا يخلف ولا يكذب .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (
حتى إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات الغلب والقهر والذل ; فرجعوا إلى ربهم , وأصلحوا أحوالهم وأفادوا من البلاء المسلط عليهم . وحتى إذا استعلى الفاتحون وغرتهم قوتهم , فطغوا هم الآخرون وأفسدوا في الأرض , أدال الله للمغلوبين من الغالبين , ومكن للمستضعفين من المستكبرينثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا). .
ثم تتكرر القصة من جديد !
وقبل أن يتم السياق بقية النبوءة الصادقة والوعد المفعول يقرر قاعدة العمل والجزاء:
(إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها). .
القاعدة التي لا تتغير في الدنيا وفي الآخرة ; والتي تجعل عمل الإنسان كله له , بكل ثماره ونتائجه . وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل , منه تنتج , وبه تتكيف ; وتجعل الإنسان مسؤولا عن نفسه , إن شاء أحسن إليها , وإن شاء أساء , لا يلومن إلا نفسه حين يحق عليه الجزاء .
فإذا تقررت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة:
(فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم , وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة , وليتبروا ما علوا تتبيرا). .
ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرة من إفساد في الأرض , اكتفاء بذكره من قبل: (لتفسدن في الأرض مرتين)ويثبت ما يسلطه عليهم في المرة الآخرة: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم بما يرتكبونه معهم من نكال يملأ النفوس بالإساءة حتى تفيض على الوجوه , أو بما يجبهون به وجوههم من مساءة وإذلال . ويستبيحون المقدسات ويستهينون بها: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة)ويدمرون ما يغلبون عليه من مال وديار (وليتبروا ما علوا تتبيرا). . وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء , والذي لا يبقي على شيء .
ولقد صدقت النبوءة ووقع الوعد , فسلط الله على بني إسرائيل من قهرهم أول مرة , ثم سلط عليهم من شردهم في الأرض , ودمر مملكتهم فيها تدميرا .
ولا ينص القرآن على جنسية هؤلاء الذين سلطهم على بني إسرائيل , لأن النص عليها لا يزيد في العبرة شيئا . والعبرة هي المطلوبة هنا . وبيان سنة الله في الخلق هو المقصود .
ويعقب السياق على النبوءة الصادقة والوعد المفعول , بأن هذا الدمار قد يكون طريقا للرحمة: (عسى ربكم أن يرحمكم)إن أفدتم منه عبرة .
فأما إذا عاد بنو إسرائيل إلى فساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية: (وإن عدتم عدنا). .
ولقد عادوا إلى الإفساد فسلط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلها . ثم عادوا إلى الإفساد فسلط عليهم عبادا آخرين , حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم "هتلر" ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة "إسرائيل" التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات . وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب , تصديقا لوعد الله القاطع , وفاقا لسنته التي لا تتخلف . . وإن غدا لناظره قريب !
ويختم السياق الآية بمصير الكافرين في الآخرة لما بينه وبين مصير المفسدين من مشاكلة:
(وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا). . تحصرهم فلا يفلت منهم أحد ; وتتسع لهم فلا يند عنها أحد .
إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)
الدرس الثالث:9 - 11 الإهتداء بالقرآن والإنسان العجول
ومن هذه الحلقة من سيرة بني إسرائيل , وكتابهم الذي آتاه الله لموسى ليهتدوا به فلم يهتدوا ; بل ضلوا فهلكوا . . ينتقل السياق إلى القرآن . القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم:
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم , ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما). .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). .
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم , فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان ; ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق , وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان .
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور , بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض , والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة , وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء , وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق .
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه , وبين مشاعره وسلوكه , وبين عقيدته وعمله , فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم , متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض , وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله , ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة .
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة , فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء . ولا تسهل وتترخص حتى تشبع في النفس الرخاوة والاستهتار . ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال .
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض:أفرادا وأزواجا , وحكومات وشعوبا , ودولا وأجناسا , ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى , ولا تميل مع المودة والشنآن ; ولا تصرفها المصالح والأغراض . الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه , وهو أعلم بمن خلق , وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل , فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان .
ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانات السماوية جميعها والربط بينها كلها , وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فإذا البشرية كلها بجميع عقائدها السماوية في سلام ووئام .
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). . (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا , وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما)فهذه هي قاعدته الأصيلة في العمل والجزاء . فعلى الإيمان
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
والعمل الصالح يقيم بناءه . فلا إيمان بلا عمل , ولا عمل بلا إيمان . الأول مبتور لم يبلغ تمامه , والثاني مقطوع لا ركيزة له . وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم . . وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن , فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره , المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر , ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادى ء الهادي ?
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)
ألا إنهما طريقان مختلفان:شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان !
الدرس الرابع:12 - 17 فردية التبعة والحساب يوم القيامة وسنة الله في الإهلاك
ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات ; والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين ; والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب , وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد , ومن قواعد العمل والجزاء ; والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم . .
من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود , يربط بها نشاط البشر وأعمالهم , وجهدهم وجزاءهم , وكسبهم وحسابهم , فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى , محكومة بالنواميس ذاتها , قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف , دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار ; مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار:
وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم , ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ; وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها , ولا تزر وازرة وزر أخرى , وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ; ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا . كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك , وما كان عطاء ربك محظورا . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض , وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا . .
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار , يرتبط به سعي الناس للكسب . وعلم السنين والحساب . ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر . وترتبط به عواقب الهدى والضلال , وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى . ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا . وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها . وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة . . كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل , ونظام لا يتحول فليس شيء من هذا كله جزافا .
(وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب , وكل شيء فصلناه تفصيلا). .
والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة , ولا يدركه التعطل مرة واحدة , ولا يني يعمل دائبا بالليل والنهار . فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار ? يبدو - والله أعلم - أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفي فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح . . فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء ; وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار .
ذلك المحو لليل والبروز للنهار (لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب). . فالليل للراحةوالسكون والجمام , والنهار للسعي والكسب والقيام , ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين , ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات .
(وكل شيء فصلناه تفصيلا)فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة والجزاف . ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل , وهي عليه شاهد ودليل .
بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء .
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله , أي ما يقسم له من العمل , وهو كناية عما يعمله . وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته ; على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية . فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه . وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة . فهو يصور عمله مكشوفا , لا يملك إخفاؤه , أو تجاهله أو المغالطة فيه . ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور , فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس ; وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع الطائر من اليوم العصيب , الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار , ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيباقرأ كتابك . كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء:
(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى). .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه ; إن اهتدى فلها , وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى , وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله , ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . .
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود , وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم , إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .
كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدنيا , مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار:
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة , فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة , حتى تترهل نفوسهم وتأسن , وترتع في الفسق والمجانة , وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات , وتلغ في الأعراض والحرمات , وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا , ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها , وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي , وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها , فتهلك وتطوى صفحتها .
فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن , فهم متروكون لهوى الإنسان . الإنسان العجول الجاهل بما ينفعه وما يضره , المندفع الذي لا يضبط انفعالاته ولو كان من ورائها الشر له:
ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا . .
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها . ولقد يفعل الفعل وهو شر , ويعجل به على نفسه وهو لا يدري . أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه . . فأين هذا من هدى القرآن الثابت الهادى ء الهادي ?
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)
ألا إنهما طريقان مختلفان:شتان شتان . هدى القرآن وهوى الإنسان !
الدرس الرابع:12 - 17 فردية التبعة والحساب يوم القيامة وسنة الله في الإهلاك
ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات ; والإشارة إلى نوح ومن حملوا معه من المؤمنين ; والإشارة إلى قصة بني إسرائيل وما قضاه الله لهم في الكتاب , وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العباد , ومن قواعد العمل والجزاء ; والإشارة إلى الكتاب الأخير الذي يهدي للتي هي أقوم . .
من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها للرسل ينتقل السياق إلى آيات الله الكونية في هذا الوجود , يربط بها نشاط البشر وأعمالهم , وجهدهم وجزاءهم , وكسبهم وحسابهم , فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب مرتبطة أشد ارتباط بالنواميس الكونية الكبرى , محكومة بالنواميس ذاتها , قائمة على قواعد وسنن لا تتخلف , دقيقة منظمة دقة النظام الكوني الذي يصرف الليل والنهار ; مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار:
وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم , ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ; وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها , ولا تزر وازرة وزر أخرى , وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا . وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا . وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ; ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا . كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك , وما كان عطاء ربك محظورا . انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض , وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا . .
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار , يرتبط به سعي الناس للكسب . وعلم السنين والحساب . ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر . وترتبط به عواقب الهدى والضلال , وفردية التبعة فلا تزر وازرة وزر أخرى . ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا . وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها . وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة . . كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لا تتبدل , ونظام لا يتحول فليس شيء من هذا كله جزافا .
(وجعلنا الليل والنهار آيتين , فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة , لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب , وكل شيء فصلناه تفصيلا). .
والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان تشيان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل مرة واحدة , ولا يدركه التعطل مرة واحدة , ولا يني يعمل دائبا بالليل والنهار . فما المحو المقصود هنا وآية الليل باقية كآية النهار ? يبدو - والله أعلم - أن المقصود به ظلمة الليل التي تخفي فيها الأشياء وتسكن فيها الحركات والأشباح . . فكأن الليل ممحو إذا قيس إلى ضوء النهار وحركة الأحياء فيه والأشياء ; وكأنما النهار ذاته مبصر بالضوء الذي يكشف كل شيء فيه للأبصار .
ذلك المحو لليل والبروز للنهار (لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب). . فالليل للراحةوالسكون والجمام , والنهار للسعي والكسب والقيام , ومن المخالفة بين الليل والنهار يعلم البشر عدد السنين , ويعلمون حساب المواعيد والفصول والمعاملات .
(وكل شيء فصلناه تفصيلا)فليس شيء وليس أمر في هذا الوجود متروكا للمصادفة والجزاف . ودقة الناموس الذي يصرف الليل والنهار ناطقة بدقة التدبير والتفصيل , وهي عليه شاهد ودليل .
بهذا الناموس الكوني الدقيق يرتبط العمل والجزاء .
(وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه , ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا , اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وطائر كل إنسان ما يطير له من عمله , أي ما يقسم له من العمل , وهو كناية عما يعمله . وإلزامه له في عنقه تصوير للزومه إياه وعدم مفارقته ; على طريقة القرآن في تجسيم المعاني وإبرازها في صورة حسية . فعمله لا يتخلف عنه وهو لا يملك التملص منه . وكذلك التعبير بإخراج كتابه منشورا يوم القيامة . فهو يصور عمله مكشوفا , لا يملك إخفاؤه , أو تجاهله أو المغالطة فيه . ويتجسم هذا المعنى في صورة الكتاب المنشور , فإذا هو أعمق أثرا في النفس وأشد تأثيرا في الحس ; وإذا الخيال البشري يلاحق ذلك الطائر ويلحظ هذا الكتاب في فزع الطائر من اليوم العصيب , الذي تتكشف فيه الخبايا والأسرار , ولا يحتاج إلى شاهد أو حسيباقرأ كتابك . كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا).
وبذلك الناموس الكوني الدقيق ترتبط قاعدة العمل والجزاء:
(من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى). .
فهي التبعة الفردية التي تربط كل إنسان بنفسه ; إن اهتدى فلها , وإن ضل فعليها . وما من نفس تحمل وزر أخرى , وما من أحد يخفف حمل أحد . إنما يسأل كل عن عمله , ويجزي كل بعمله ولا يسأل حميم حميما . .
وقد شاءت رحمة الله ألا يأخذ الإنسان بالآيات الكونية المبثوثة في صفحات الوجود , وألا يأخذه بعهد الفطرة الذي أخذه على بني آدم في ظهور آبائهم , إنما يرسل إليهم الرسل منذرين ومذكرين: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)وهي رحمة من الله أن يعذر إلى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب .
كذلك تمضي سنة الله في إهلاك القرى وأخذ أهلها في الدنيا , مرتبطة بذلك الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار:
(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).
والمترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة , فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة , حتى تترهل نفوسهم وتأسن , وترتع في الفسق والمجانة , وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات , وتلغ في الأعراض والحرمات , وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا , ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها , وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها . ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي , وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها , فتهلك وتطوى صفحتها .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
والآية تقرر سنة الله هذه . فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك , فكثر فيها المترفون ,
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19)
فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم , سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها , فعم فيها الفسق , فتحللت وترهلت , فحقت عليها سنة الله , وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين , ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا , ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك , وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف , وسننا لا تتبدل , وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق , لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته , دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها , وسارت في طريق الانحلال , وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا . وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشيء السبب , ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق , ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشيء آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا .
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح , قرنا بعد قرن , كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير , والله هو الخبير بذنوب عباده البصير:
(وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا).
الدرس الخامس:18 - 21 بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة
وبعد فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها , فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها , فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء , ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق . فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها , ويستمتعون فيها كالأنعام , ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات . ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم:
(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا).
مذموما بما ارتكب , مدحورا بما انتهى إليه من عذاب .
(ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا).
والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها , فيؤدي تكاليفها , وينهض بتبعاتها , ويقيم سعيه لها على الإيمان . وليس الإيمان بالتمني , ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة , إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية . ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك إنسان نفسه , فلا يكون عبدا لهذا المتاع .
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا , فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم , وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء .
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام . فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله , الذي خلقه فسواه , وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه .
على أن هؤلاءوهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله . سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها . وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه , فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء:
(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا).
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19)
فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم , سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها , فعم فيها الفسق , فتحللت وترهلت , فحقت عليها سنة الله , وأصابها الدمار والهلاك . وهي المسؤولة عما يحل بها لأنها لم تضرب على أيدي المترفين , ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين . فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا , ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك , وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك .
إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف , وسننا لا تتبدل , وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فنفذ إرادة الله وتحق كلمته . والله لا يأمر بالفسق , لأن الله لا يأمر بالفحشاء . لكن وجود المترفين في ذاته , دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها , وسارت في طريق الانحلال , وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقا . وهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة .
فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشيء السبب , ولكنها ترتب النتيجة على السبب . الأمر الذي لا مفر منه لأن السنة جرت به . والأمر ليس أمرا توجيهيا إلى الفسق , ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق .
وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشيء آثارها التي لا مفر منها . وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميرا .
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح , قرنا بعد قرن , كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير , والله هو الخبير بذنوب عباده البصير:
(وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح , وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا).
الدرس الخامس:18 - 21 بين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة
وبعد فإن من أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها , فلا يتطلع إلى أعلى من الأرض التي يعيش فيها , فإن الله يعجل له حظه في الدنيا حين يشاء , ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق . فالذين لا يتطلعون إلى أبعد من هذه الأرض يتلطخون بوحلها ودنسها ورجسها , ويستمتعون فيها كالأنعام , ويستسلمون فيها للشهوات والنزعات . ويرتكبون في سبيل تحصيل اللذة الأرضية ما يؤدي بهم إلى جهنم:
(من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد , ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا).
مذموما بما ارتكب , مدحورا بما انتهى إليه من عذاب .
(ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا).
والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها , فيؤدي تكاليفها , وينهض بتبعاتها , ويقيم سعيه لها على الإيمان . وليس الإيمان بالتمني , ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة , إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية . ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك إنسان نفسه , فلا يكون عبدا لهذا المتاع .
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا , فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم , وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء .
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام . فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله , الذي خلقه فسواه , وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه .
على أن هؤلاءوهؤلاء إنما ينالون من عطاء الله . سواء منهم من يطلب الدنيا فيعطاها ومن يطلب الآخرة فيلقاها . وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه , فهو مطلق تتوجه به المشيئة حيث تشاء:
(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك . وما كان عطاء ربك محظورا).
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم , ومجال الأرض ضيق ورقعة الأرض محدودة . فكيف بهم في المجال الواسع وفي المدى المتطاول . كيف بهم في الآخرة التي لا تزن فيها الدنيا كلها جناح بعوضة ?
(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).
فمن شاء التفاوت الحق , ومن شاء التفاضل الضخم , فهو هناك في الآخرة . هنالك في الرقعة الفسيحة , والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل . . .
الوحدة الثانية:22 - 39 الموضوع:طائفة من التوجيهات والآداب الأخلاقية والإجتماعية
لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22)
مقدمة الوحدة في الدرس الماضي ربطت قواعد العمل والجزاء , والهدى والضلال , والكسب والحساب . . إلى الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار . وفي هذا الدرس تربط قواعد السلوك والآداب والتكاليف الفردية والاجتماعية إلى العقيدة في وحدة الله , كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط وتشد إليها كل الوشائج , في الأسرة وفي الجماعة وفي الحياة .
وفي الدرس الماضي ورد (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)وورد: (وكل شيء فصلناه تفصيلا). ففي هذا الدرس يعرض شيئا من أوامر هذا القرآن ونواهيه , مما يهدي للتي هي أقوم , ويفصل شيئا مما اشتمل عليه من قواعد السلوك في واقع الحياة .
يبدأ الدرس بالنهي عن الشرك , وبإعلان قضاء الله بعبادته وحده . ومن ثم تبدأ الأوامر والتكاليف:بر الوالدين , وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , في غير إسراف ولا تبذير . وتحريم قتل الذرية , وتحريم الزنا , وتحريم القتل . ورعاية مال اليتيم , والوفاء بالعهد , وتوفية الكيل والميزان , والتثبت من الحق , والنهي عن الخيلاء والكبر . . . وينتهي بالتحذير من الشرك . فإذا الأوامر والنواهي والتكاليف محصورة بين بدء الدرس وختامه , مشدودة إلى عقيدة التوحيد التي يقوم عليها بناء الحياة .
الدرس الأول:22 - 25 النهي عن الشرك والأمر ببر الوالدين مقرونا مع عبادة الله
(لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا).
إنه النهي عن الشرك والتحذير من عاقبته , والأمر عام , ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه أمر خاص به , صادر إلى شخصه . فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته , والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن "يقعد"(مذموما)بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها ,(مخذولا)لا ناصر له , ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه . ولفظ(فتقعد)يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد , ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا , وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان , لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع , فهو لفظ مقصود في هذا المكان .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23)
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه). .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة(قضى)تخلع على الأمر معنى التوكيد , إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء (ألا تعبدوا إلا إياه)فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة , وأقيم الأساس , جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية , ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد , توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة , هي رابطة الأسرة , ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله , إعلانا لقيمة هذا البر عند الله:
(وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما:أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما , واخفض لهما جناح الذل من الرحمة , وقل:رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
بهذه العبارات الندية , والصور الموحية , يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء , توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف , وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات , ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ; كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله , ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد , بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال ; وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما). . والكبر له جلاله , وضعف الكبر له إيحاؤه ; وكلمة(عندك)تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما)وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق , وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . (وقل لهما قولا كريما)وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام . . (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)وهنا يشف التعبير ويلطف , ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا , ولا يرفض أمرا . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (29)
والاسستسلام . (وقل:رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)فهي الذكرى الحانية . ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان , وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان . وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع , ورعاية الله أشمل , وجناب الله أرحب . وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء .
قال الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن بريدة عن أبيه:أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي [ ص ] هل أديت حقها ? قال:لا . ولا بزفرة واحدة .
ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق , فإنه يعقب على ذلك برجع الأمر كله لله الذي يعلم النوايا , ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال:
(ربكم أعلم بما في نفوسكم , إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا).
وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل ; وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطيء أو يقصر , ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير .
وما دام القلب صالحا , فإن باب المغفرة مفتوح . والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين .
الدرس الثاني:26 - 28 إعطاء الآخرين حقوقهم والنهي عن التبذير
ثم يمضي السياق بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين ; ويصل بهم المساكين وابن السبيل , متوسعا في القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير:
(وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا , إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين , وكان الشيطان لربه كفورا ; وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها , فقل لهم قولا ميسورا).
والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق . فليس هو تفضلا من أحد على أحد ; إنما هو الحق الذي فرضه الله , ووصله بعبادته وتوحيده . الحق الذي يؤديه المكلف فيبريء ذمته , ويصل المودة بينه وبين من يعطيه , وإن هو إلا مؤد ما عليه لله .
وينهى القرآن عن التبذير . والتبذير - كما يفسره ابن مسعود وابن عباس - الإنفاق في غير حق . وقال مجاهد:لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا , ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا .
فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق . إنما هو موضع الإنفاق . ومن ثم كان المبذرون إخوان الشياطين , لأنهم ينفقون في الباطل , وينفقون في الشر , وينفقون في المعصية . فهم رفقاء الشياطين وصحابهم (وكان الشيطان لربه كفورا)لا يؤدي حق النعمة , كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة , وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق , غير متجاوزين ولا مبذرين .
فإذا لم يجد إنسان ما يؤدي به حق ذوي القربى والمساكين وابن السبيل واستحيا أن يواجههم , وتوجه إلى الله يرجو أن يرزقه ويرزقهم , فليعدهم إلى ميسرة , وليقل لهم قولا لينا , فلا يضيق بهم صدره , ولا يسكت ويدعهم فيحسوا بالضيق في سكوته , في القول الميسور عوض وأمل وتجمل .
الدرس الثالث:29 - 30 التوسط في الإنفاق والرزق من الله
وبمناسبة التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة:
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا). .
(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).
فمن شاء التفاوت الحق , ومن شاء التفاضل الضخم , فهو هناك في الآخرة . هنالك في الرقعة الفسيحة , والآماد المتطاولة التي لا يعلم حدودها إلا الله . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لا في متاع الدنيا القليل الهزيل . . .
الوحدة الثانية:22 - 39 الموضوع:طائفة من التوجيهات والآداب الأخلاقية والإجتماعية
لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22)
مقدمة الوحدة في الدرس الماضي ربطت قواعد العمل والجزاء , والهدى والضلال , والكسب والحساب . . إلى الناموس الكوني الذي يصرف الليل والنهار . وفي هذا الدرس تربط قواعد السلوك والآداب والتكاليف الفردية والاجتماعية إلى العقيدة في وحدة الله , كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط وتشد إليها كل الوشائج , في الأسرة وفي الجماعة وفي الحياة .
وفي الدرس الماضي ورد (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)وورد: (وكل شيء فصلناه تفصيلا). ففي هذا الدرس يعرض شيئا من أوامر هذا القرآن ونواهيه , مما يهدي للتي هي أقوم , ويفصل شيئا مما اشتمل عليه من قواعد السلوك في واقع الحياة .
يبدأ الدرس بالنهي عن الشرك , وبإعلان قضاء الله بعبادته وحده . ومن ثم تبدأ الأوامر والتكاليف:بر الوالدين , وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , في غير إسراف ولا تبذير . وتحريم قتل الذرية , وتحريم الزنا , وتحريم القتل . ورعاية مال اليتيم , والوفاء بالعهد , وتوفية الكيل والميزان , والتثبت من الحق , والنهي عن الخيلاء والكبر . . . وينتهي بالتحذير من الشرك . فإذا الأوامر والنواهي والتكاليف محصورة بين بدء الدرس وختامه , مشدودة إلى عقيدة التوحيد التي يقوم عليها بناء الحياة .
الدرس الأول:22 - 25 النهي عن الشرك والأمر ببر الوالدين مقرونا مع عبادة الله
(لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا).
إنه النهي عن الشرك والتحذير من عاقبته , والأمر عام , ولكنه وجه إلى المفرد ليحس كل أحد أنه أمر خاص به , صادر إلى شخصه . فالاعتقاد مسألة شخصية مسؤول عنها كل فرد بذاته , والعاقبة التي تنتظر كل فرد يحيد عن التوحيد أن "يقعد"(مذموما)بالفعلة الذميمة التي أقدم عليها ,(مخذولا)لا ناصر له , ومن لا ينصره الله فهو مخذول وإن كثر ناصروه . ولفظ(فتقعد)يصور هيئة المذموم المخذول وقد حط به الخذلان فقعد , ويلقي ظل الضعف فالقعود هو أضعف هيئات الإنسان وأكثرها استكانة وعجزا , وهو يلقي كذلك ظل الاستمرار في حالة النبذ والخذلان , لأن القعود لا يوحي بالحركة ولا تغير الوضع , فهو لفظ مقصود في هذا المكان .
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23)
(وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه). .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة(قضى)تخلع على الأمر معنى التوكيد , إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء (ألا تعبدوا إلا إياه)فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة , وأقيم الأساس , جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية , ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد , توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة , هي رابطة الأسرة , ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله , إعلانا لقيمة هذا البر عند الله:
(وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما:أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما , واخفض لهما جناح الذل من الرحمة , وقل:رب ارحمهما كما ربياني صغيرا).
بهذه العبارات الندية , والصور الموحية , يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء , توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف , وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات , ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ; كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله , ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد , بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال ; وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما). . والكبر له جلاله , وضعف الكبر له إيحاؤه ; وكلمة(عندك)تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما)وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق , وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . (وقل لهما قولا كريما)وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام . . (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)وهنا يشف التعبير ويلطف , ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا , ولا يرفض أمرا . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (29)
والاسستسلام . (وقل:رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)فهي الذكرى الحانية . ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان , وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان . وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع , ورعاية الله أشمل , وجناب الله أرحب . وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء .
قال الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن بريدة عن أبيه:أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي [ ص ] هل أديت حقها ? قال:لا . ولا بزفرة واحدة .
ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق , فإنه يعقب على ذلك برجع الأمر كله لله الذي يعلم النوايا , ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال:
(ربكم أعلم بما في نفوسكم , إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا).
وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل ; وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطيء أو يقصر , ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير .
وما دام القلب صالحا , فإن باب المغفرة مفتوح . والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين .
الدرس الثاني:26 - 28 إعطاء الآخرين حقوقهم والنهي عن التبذير
ثم يمضي السياق بعد الوالدين إلى ذوي القربى أجمعين ; ويصل بهم المساكين وابن السبيل , متوسعا في القرابات حتى تشمل الروابط الإنسانية بمعناها الكبير:
(وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا , إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين , وكان الشيطان لربه كفورا ; وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها , فقل لهم قولا ميسورا).
والقرآن يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الأعناق يوفى بالإنفاق . فليس هو تفضلا من أحد على أحد ; إنما هو الحق الذي فرضه الله , ووصله بعبادته وتوحيده . الحق الذي يؤديه المكلف فيبريء ذمته , ويصل المودة بينه وبين من يعطيه , وإن هو إلا مؤد ما عليه لله .
وينهى القرآن عن التبذير . والتبذير - كما يفسره ابن مسعود وابن عباس - الإنفاق في غير حق . وقال مجاهد:لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا , ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا .
فليست هي الكثرة والقلة في الإنفاق . إنما هو موضع الإنفاق . ومن ثم كان المبذرون إخوان الشياطين , لأنهم ينفقون في الباطل , وينفقون في الشر , وينفقون في المعصية . فهم رفقاء الشياطين وصحابهم (وكان الشيطان لربه كفورا)لا يؤدي حق النعمة , كذلك إخوانه المبذرون لا يؤدون حق النعمة , وحقها أن ينفقوها في الطاعات والحقوق , غير متجاوزين ولا مبذرين .
فإذا لم يجد إنسان ما يؤدي به حق ذوي القربى والمساكين وابن السبيل واستحيا أن يواجههم , وتوجه إلى الله يرجو أن يرزقه ويرزقهم , فليعدهم إلى ميسرة , وليقل لهم قولا لينا , فلا يضيق بهم صدره , ولا يسكت ويدعهم فيحسوا بالضيق في سكوته , في القول الميسور عوض وأمل وتجمل .
الدرس الثالث:29 - 30 التوسط في الإنفاق والرزق من الله
وبمناسبة التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة:
(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا). .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32)
والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي , والغلو كالتفريط يخل بالتوازن . والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير ; فيرسم البخل يدا مغلولة إلى العنق , ويرسم الإسراف يدا مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئا , ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور . والحسير في اللغة الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفا وعجزا . فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف . وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير . ملوما في الحالتين على البخل وعلى السرف , وخير الأمور الوسط .
ثم يعقب على الأمر بالتوسط بأن الرازق هو الله . هو الذي يبسط في الرزق ويوسع , وهو الذي يقدر في الرزق ويضيق . ومعطي الرزق هو الآمر بالتوسط في الإنفاق:
(إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , إنه كان بعباده خبيرا بصيرا).
يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر , ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر . ويأمر بالقصد والاعتدال , وينهى عن البخل والسرف , وهو الخبير البصير بالأقوم في جميع الأحوال ; وقد أنزل هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع الأحوال .
الدرس الرابع:31 النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا
وكان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق ; فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق . فما دام الرزق بيد الله , فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل ; إنما الأمر كله إلى الله . ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس , وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة:
(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم , إن قتلهم كان خطأ كبيرا). .
إن انحراف العقيدة وفسادها ينشيء آثاره في حياة الجماعة الواقعية , ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية . وتصحيح العقيدة ينشيء آثاره في صحة المشاعر وسلامتها , وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها . وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية . وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة , وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة .
ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة .
ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء: نحن نرزقهم وإياكم وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء: (نحن نرزقكم وإياهم). وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين . فهذا النص: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم :والنص الآخر (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم).
هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد . وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا . فقدم رزق الآباء . فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك .
ومن النهي عن قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا:
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا . .
وبين قتل الأولاد والزنا صلة ومناسبة - وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس - لذات الصلة وذات المناسبة .
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33)
إن في الزنا قتل من نواحي شتى . إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها , يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق , قبل مولده أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة , أو حياة مهينة , فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء . . وهو قتل في صورة أخرى . قتل للجماعة التي يفشو فيها , فتضيع الأنساب وتختلط الدماء , وتذهب الثقة في العرض والولد , وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها , فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات .
وهو قتل للجماعة من جانب آخر , إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها , ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها , والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة , لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه .
وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال , منذ التاريخ القديم إلى العصر الحديث . وقد يغر بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيهما . ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها . أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة , فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يسرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عندما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن , كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده !
والقرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا . وهي مبالغة في التحرز . لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة , فالتحرز من المقاربة أضمن . فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان .
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة , توقيا للوقوع فيه . . يكره الاختلاط في غير ضرورة . ويحرم الخلوة . وينهى عن التبرج بالزينة . ويحض على الزواج لمن استطاع , ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع . ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور . وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد . ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم . ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع , وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان . . إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج , ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال .
الدرس الخامس:33 النهي عن قتل الآخرين وتوجيه لأولياء المقتول
ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق:
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل , إنه كان منصورا). .
والإسلام دين الحياة ودين السلام , فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله , فالله واهب الحياة , وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها . وكل نفس هي حرم لا يمس , وحرام إلا بالحق , وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه , وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى . وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله [ ص ] قال:" لا يحل دم امرى ء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث:النفس بالنفس , والزاني المحصن , والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس (ولكم في القصاص حياة). حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء .وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل , بل يمضوا في الثأر , ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء . وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص , فينطلق آمنا يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة .
وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة , وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه .
وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة , ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها , ويسلمها إلى الفرقة القاتلة . والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه , ودخل في جسم الجماعة المسلمة , واطلع على أسرارها , فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها . ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام . بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين . وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة .
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل , إنه كان منصورا). .
تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل , فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب , فقد جعل الله لوليه - وهو أقرب عاصب إليه - سلطانا على القاتل , إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية , وإن شاء عفا عنه بلا دية . فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل , لأن دمه له .
وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي منحه إياه . والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم - كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل - ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل , والولي مسلط على دمه بلا مثلة . فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها .
(فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا)يقضي له الله , ويؤيده الشرع , وينصره الحاكم . فليكن عادلا في قصاصه , وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه .
والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي , والغلو كالتفريط يخل بالتوازن . والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير ; فيرسم البخل يدا مغلولة إلى العنق , ويرسم الإسراف يدا مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئا , ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور . والحسير في اللغة الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفا وعجزا . فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف . وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير . ملوما في الحالتين على البخل وعلى السرف , وخير الأمور الوسط .
ثم يعقب على الأمر بالتوسط بأن الرازق هو الله . هو الذي يبسط في الرزق ويوسع , وهو الذي يقدر في الرزق ويضيق . ومعطي الرزق هو الآمر بالتوسط في الإنفاق:
(إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , إنه كان بعباده خبيرا بصيرا).
يبسط الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر , ويقدر الرزق لمن يشاء عن خبرة وبصر . ويأمر بالقصد والاعتدال , وينهى عن البخل والسرف , وهو الخبير البصير بالأقوم في جميع الأحوال ; وقد أنزل هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في جميع الأحوال .
الدرس الرابع:31 النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا
وكان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق ; فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر , أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق . فما دام الرزق بيد الله , فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل ; إنما الأمر كله إلى الله . ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس , وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة:
(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم , إن قتلهم كان خطأ كبيرا). .
إن انحراف العقيدة وفسادها ينشيء آثاره في حياة الجماعة الواقعية , ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية . وتصحيح العقيدة ينشيء آثاره في صحة المشاعر وسلامتها , وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها . وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية . وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة , وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة .
ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة .
ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء: نحن نرزقهم وإياكم وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء: (نحن نرزقكم وإياهم). وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين . فهذا النص: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم :والنص الآخر (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم).
هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد . وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا . فقدم رزق الآباء . فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك .
ومن النهي عن قتل الأولاد إلى النهي عن الزنا:
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا . .
وبين قتل الأولاد والزنا صلة ومناسبة - وقد توسط النهي عن الزنا بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس - لذات الصلة وذات المناسبة .
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33)
إن في الزنا قتل من نواحي شتى . إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في غير موضعها , يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق , قبل مولده أو بعد مولده فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة , أو حياة مهينة , فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الأنحاء . . وهو قتل في صورة أخرى . قتل للجماعة التي يفشو فيها , فتضيع الأنساب وتختلط الدماء , وتذهب الثقة في العرض والولد , وتتحلل الجماعة وتتفكك روابطها , فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات .
وهو قتل للجماعة من جانب آخر , إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة لا ضرورة لها , ويجعل الأسرة تبعة لا داعي إليها , والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة , لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه .
وما من أمة فشت فيها الفاحشة إلا صارت إلى انحلال , منذ التاريخ القديم إلى العصر الحديث . وقد يغر بعضهم أن أوربا وأمريكا تملكان زمام القوة المادية اليوم مع فشو هذه الفاحشة فيهما . ولكن آثار هذا الانحلال في الأمم القديمة منها كفرنسا ظاهرة لا شك فيها . أما في الأمم الفتية كالولايات المتحدة , فإن فعلها لم تظهر بعد آثاره بسبب حداثة هذا الشعب واتساع موارده كالشاب الذي يسرف في شهواته فلا يظهر أثر الإسراف في بنيته وهو شاب ولكنه سرعان ما يتحطم عندما يدلف إلى الكهولة فلا يقوى على احتمال آثار السن , كما يقوى عليها المعتدلون من أنداده !
والقرآن يحذر من مجرد مقاربة الزنا . وهي مبالغة في التحرز . لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة , فالتحرز من المقاربة أضمن . فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان .
ومن ثم يأخذ الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة , توقيا للوقوع فيه . . يكره الاختلاط في غير ضرورة . ويحرم الخلوة . وينهى عن التبرج بالزينة . ويحض على الزواج لمن استطاع , ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع . ويكره الحواجز التي تمنع من الزواج كالمغالاة في المهور . وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد . ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم . ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حين تقع , وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان . . إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج , ليحفظ الجماعة الإسلامية من التردي والانحلال .
الدرس الخامس:33 النهي عن قتل الآخرين وتوجيه لأولياء المقتول
ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق:
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل , إنه كان منصورا). .
والإسلام دين الحياة ودين السلام , فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله , فالله واهب الحياة , وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها . وكل نفس هي حرم لا يمس , وحرام إلا بالحق , وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه , وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى . وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله [ ص ] قال:" لا يحل دم امرى ء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث:النفس بالنفس , والزاني المحصن , والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس (ولكم في القصاص حياة). حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء .وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل , بل يمضوا في الثأر , ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء . وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص , فينطلق آمنا يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة .
وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة , وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه .
وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة , ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها , ويسلمها إلى الفرقة القاتلة . والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه , ودخل في جسم الجماعة المسلمة , واطلع على أسرارها , فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها . ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام . بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين . وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة .
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل , إنه كان منصورا). .
تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل , فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب , فقد جعل الله لوليه - وهو أقرب عاصب إليه - سلطانا على القاتل , إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية , وإن شاء عفا عنه بلا دية . فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل , لأن دمه له .
وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي منحه إياه . والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم - كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل - ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل , والولي مسلط على دمه بلا مثلة . فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها .
(فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا)يقضي له الله , ويؤيده الشرع , وينصره الحاكم . فليكن عادلا في قصاصه , وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل , وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية , وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي . الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا في حمى الغضب والانفعال على غير هدى . فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل , وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص , فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادى ء .
والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص . لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة , ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه , ويأجر عليه . ولكن بعد أن يعطي الحق . فلولي الدم أن يقتص أو يصفح . وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح , أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح !
الدرس السادس:34 عدم الإعتداء على مال اليتيم والأمر بالوفاء بالعهد
وبعد أن ينتهي السياق من حرمة العرض وحرمة النفس , يتحدث عن حرمة مال اليتيم , وحرمة العهد .
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن , حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا . .
والإسلام يحفظ على المسلم دمه وعرضه وماله , لقول الرسول [ ص ] " كل المسلم على
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
المسلم حرام دمه وعرضه وماله " ولكنه يشدد في مال اليتيم ويبرز النهي عن مجرد قربه إلا بالتي هي أحسن . ذلك أن اليتيم ضعيف عن تدبير ماله , ضعيف عن الذود عنه , والجماعة الإسلامية مكلفة برعاية اليتيم وماله حتى يبلغ أشده ويرشد ويستطيع أن يدبر ماله وأن يدفع عنه .
ومما يلاحظ في هذه الأوامر والنواهي أن الأمور التي يكلف بها كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة المفرد ; أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أوالنهي فيها بصيغة الجمع , ففي الإحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , وعدم التبذير , والتوسط في الإنفاق بين البخل والسرف , وفي التثبت من الحق والنهي عن الخيلاء والكبر . . كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صبغة فردية . وفي النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس , والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء بالعهد , وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صبغة جماعية .
ومن ثم جاء النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في صيغة الجمع , لتكون الجماعة كلها مسؤولة عن اليتيم وماله , فهذا عهد عليها بوصفها جماعة .
ولأن رعاية مال اليتيم عهد على الجماعة ألحق به الأمر بالوفاء بالعهد إطلاقا . (وأفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا). . يسأل الله جل جلاله عن الوفاء به , ويحاسب من ينكث به وينقضه .
وقد أكد الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد . لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة . وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن والحديث ; سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس . عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة . عهد الحاكم وعهد المحكوم . وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوا بعيدا في الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام .
الدرس السابع:35 توفية الكيل والميزان
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان:
(وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ذلك خير وأحسن تأويلا). .
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ , فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق .
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن , أمانة في التعامل , ونظافة في القلب , يستقيم بهما التعامل في الجماعة , وتتوافر بهما الثقة في النفوس , وتتم بهما البركة في الحياة . (ذلك خير و أحسن تأويلا). . خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة .
والرسول [ ص ] يقول:" لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه , ليس به إلا مخافة الله , إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك " .
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس , وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة , ويتبعها الكساد , وتقل بهما البركة في محيط الجماعة , فيرتد هذا على الأفراد ; وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف .
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)
وهو كسب ظاهري ووقتي , لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها , ولم يكن الدافع الأخلاقي , أو الحافز الديني هو الباعث عليها ; بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة , ومن يلتزمه اعتقادا . . أن هذا يحقق أهداف ذاك ; ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض , وأوسع في تصور الحياة وتذوقها .
وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة , ومجالاته الرحيبة .
الدرس الثامن:36 النهي عن القول بدون علم وتقرير منهجية علمية
والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة . فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة:
(ولا تقف ما ليس لك به علم . إن السمع والبصر والفؤاد . . كل أولئك كان عنه مسؤولا). . .
وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل , يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا , ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله , ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة !
فالتثبيت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم , ومنهج الإسلام الدقيق . ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة . ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل . ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم .
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى , ويجعل الإنسان مسؤولا عن سمعه وبصره وفؤاده , أمام واهب السمع والبصر والفؤاد . .
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب . أمانة يسأل عنها صاحبها , وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعا . أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة , وكلما روى الإنسان رواية , وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر أو حادثة .
(ولا تقف ما ليس لك به علم). . ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين , وما لم تتثبت من صحته:من قول يقال ورواية تروى . من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل . ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية .
والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص . لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة , ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه , ويأجر عليه . ولكن بعد أن يعطي الحق . فلولي الدم أن يقتص أو يصفح . وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح , أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح !
الدرس السادس:34 عدم الإعتداء على مال اليتيم والأمر بالوفاء بالعهد
وبعد أن ينتهي السياق من حرمة العرض وحرمة النفس , يتحدث عن حرمة مال اليتيم , وحرمة العهد .
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن , حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا . .
والإسلام يحفظ على المسلم دمه وعرضه وماله , لقول الرسول [ ص ] " كل المسلم على
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
المسلم حرام دمه وعرضه وماله " ولكنه يشدد في مال اليتيم ويبرز النهي عن مجرد قربه إلا بالتي هي أحسن . ذلك أن اليتيم ضعيف عن تدبير ماله , ضعيف عن الذود عنه , والجماعة الإسلامية مكلفة برعاية اليتيم وماله حتى يبلغ أشده ويرشد ويستطيع أن يدبر ماله وأن يدفع عنه .
ومما يلاحظ في هذه الأوامر والنواهي أن الأمور التي يكلف بها كل فرد بصفته الفردية جاء الأمر أو النهي فيها بصيغة المفرد ; أما الأمور التي تناط بالجماعة فقد جاء الأمر أوالنهي فيها بصيغة الجمع , ففي الإحسان للوالدين وإيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل , وعدم التبذير , والتوسط في الإنفاق بين البخل والسرف , وفي التثبت من الحق والنهي عن الخيلاء والكبر . . كان الأمر أو النهي بصيغة المفرد لما لها من صبغة فردية . وفي النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا وعن قتل النفس , والأمر برعاية مال اليتيم والوفاء بالعهد , وإيفاء الكيل والميزان كان الأمر أو النهي بصيغة الجمع لما لها من صبغة جماعية .
ومن ثم جاء النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في صيغة الجمع , لتكون الجماعة كلها مسؤولة عن اليتيم وماله , فهذا عهد عليها بوصفها جماعة .
ولأن رعاية مال اليتيم عهد على الجماعة ألحق به الأمر بالوفاء بالعهد إطلاقا . (وأفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا). . يسأل الله جل جلاله عن الوفاء به , ويحاسب من ينكث به وينقضه .
وقد أكد الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد . لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة . وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن والحديث ; سواء في ذلك عهد الله وعهد الناس . عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة . عهد الحاكم وعهد المحكوم . وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوا بعيدا في الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام .
الدرس السابع:35 توفية الكيل والميزان
ومن الوفاء بالعهد إلى إيفاء الكيل والميزان:
(وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم . ذلك خير وأحسن تأويلا). .
والمناسبة بين الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ , فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق .
وإيفاء الكيل والاستقامة في الوزن , أمانة في التعامل , ونظافة في القلب , يستقيم بهما التعامل في الجماعة , وتتوافر بهما الثقة في النفوس , وتتم بهما البركة في الحياة . (ذلك خير و أحسن تأويلا). . خير في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة .
والرسول [ ص ] يقول:" لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه , ليس به إلا مخافة الله , إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك " .
والطمع في الكيل والوزن قذارة وصغار في النفس , وغش وخيانة في التعامل تتزعزع بهما الثقة , ويتبعها الكساد , وتقل بهما البركة في محيط الجماعة , فيرتد هذا على الأفراد ; وهم يحسبون أنهم كاسبون بالتطفيف .
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36)
وهو كسب ظاهري ووقتي , لأن الكساد في الجماعة يعود على الأفراد بعد حين .
وهذه حقيقة أدركها بعيدو النظر في عالم التجارة فاتبعوها , ولم يكن الدافع الأخلاقي , أو الحافز الديني هو الباعث عليها ; بل مجرد إدراكها في واقع السوق بالتجربة العملية .
والفارق بين من يلتزم إيفاء الكيل والميزان تجارة , ومن يلتزمه اعتقادا . . أن هذا يحقق أهداف ذاك ; ويزيد عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي إلى آفاق أعلى من الأرض , وأوسع في تصور الحياة وتذوقها .
وهكذا يحقق الإسلام دائما أهداف الحياة العملية وهو ماض في طريقه إلى آفاقه الوضيئة وآماده البعيدة , ومجالاته الرحيبة .
الدرس الثامن:36 النهي عن القول بدون علم وتقرير منهجية علمية
والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة . فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة:
(ولا تقف ما ليس لك به علم . إن السمع والبصر والفؤاد . . كل أولئك كان عنه مسؤولا). . .
وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل , يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا , ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله , ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة !
فالتثبيت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم , ومنهج الإسلام الدقيق . ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة . ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل . ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم .
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى , ويجعل الإنسان مسؤولا عن سمعه وبصره وفؤاده , أمام واهب السمع والبصر والفؤاد . .
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب . أمانة يسأل عنها صاحبها , وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعا . أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة , وكلما روى الإنسان رواية , وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر أو حادثة .
(ولا تقف ما ليس لك به علم). . ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين , وما لم تتثبت من صحته:من قول يقال ورواية تروى . من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل . ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وفي الحديث " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " . وفي سنن أبي داود:" بئس مطية الرجل:زعموا " وفي الحديث الآخر:" إن أفرى الفري أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " . .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه , والتثبت في استقرائه ; إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته , وفي مشاعره وأحكامه , فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية , ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة , فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها . (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)حقا وصدقا . .
وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (39)
الدرس التاسع:37 النهي عن التكبر والخيلاء
وتختم هذه الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحيد بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء الكاذبة:
(ولا تمش في الأرض مرحا . إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا). .
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان , أو قوة أو جمال . لو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله , وأنه ضعيف أمام حول الله , لطامن من كبريائه , وخفف من خيلائه , ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا .
والقرآن يحبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته: (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل , لا يبلغ شيئا من الأجسام الضخمة التي خلقها الله . إنما هو قوي بقوة الله , عزيز بعزة الله , كريم بروحه الذي نفخه الله فيه , ليتصل به ويراقبه ولا ينساه .
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء , أدب مع الله , وأدب مع الناس . أدب نفسي وأدب اجتماعي . وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات . يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته , ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه .
وفي الحديث: من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير . ومن استكبر وضعه الله , فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير . حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير .
الدرس العاشر:38 - 39 ربط التوجيهات الأخلاقية بالعقيدة وهي تحقق الحكمة
وتنتهي تلك الأوامر والنواهي والغالب فيها هو النهي عن ذميم الفعال والصفات بإعلان كراهية الله للسيى ء منها:
(كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها).
فيكون هذا تلخيصا وتذكيرا بمرجع الأمر والنهي وهو كراهية الله للسيى ء من تلك الأمور . ويسكت عن الحسن المأمور به , لأن النهي عن السيى ء هو الغالب فيها كما ذكرنا .
ويختم الأوامر والنواهي كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك . وبيان أنها بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى الرسول:
(ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).
وهو ختام يشبه الابتداء . فتجيء محبوكة الطرفين , موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام بناء الحياة , قاعدة توحيد الله وعبادته دون سواه . .
الوحدة الثالثة:40 - 57 الموضوع:نفي النقص عن الله وعبادة المخلوقات وخضوعها له مقدمة الوحدة
بدأ الدرس الثاني وانتهى بتوحيد الله والنهي عن الشرك به , وضم بين البداية والنهاية تكاليف وأوامر ونواهي وآدابا مرتكزة كلها على قاعدة التوحيد الوطيدة . . ويبدأ هذا الدرس وينتهي باستنكار فكرة الولد والشريك , وبيان ما فيها من اضطراب وتهافت , وتقرير وحدة الاتجاه الكوني إلى الخالق الواحد: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)ووحدة المصير والرجعة إلى الله في الآخرة , ووحدة علم الله الشامل بمن في السماوات ومن في الأرض , ووحدة التصرف في شؤون الخلائق بلا معقب: (إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم). .
ومن خلال السياق تتهافت عقائد الشرك وتتهاوى , وتنفرد الذات الإلهية بالعبادة والاتجاه والقدرة والتصرف والحكم في هذا الوجود , ظاهره وخافيه , دنياه وآخرته ; ويبدو الوجود كله متجها إلى خالقه في تسبيحة مديدة شاملة تشترك فيها الأحياء والأشياء .
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)
الدرس الأول:40 - 44 نفي الولد والشريك عن الله وخضوع المخلوقات له
(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ? إنكم لتقولون قولا عظيما ?)
استفهام للاستنكار والتهكم . استنكار لما يقولون من أن الملائكة بنات الله , تعالى الله عن الولد والصاحبة كما تعالى عن الشبيه والشريك . وتهكم على نسبة البنات لله وهم يعدون البنات أدنى من البنين ويقتلون البنات خوف الفقر أو العار ; ومع هذا يجعلون الملائكة إناثا , وينسبون هؤلاء الإناث إلى الله ! فإذا كان الله هو واهب البنين والبنات , فهل أصفاهم بالبنين المفضلين واتخذ لنفسه الإناث المفضولات ?!
وهذا كله على سبيل مجاراتهم في ادعاءاتهم لبيان ما فيها من تفكك وتهافت . وإلا فالقضية كلها مستنكرة من الأساس:
(إنكم لتقولون قولا عظيما). . عظيما في شناعته وبشاعته , عظيما في جرأته ووقاحته , عظيما في ضخامة الافتراء فيه , عظيما في خروجه عن التصور والتصديق .
(ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا , وما يزيدهم إلا نفورا). .
فقد جاء القرآن بالتوحيد , وسلك إلى تقرير هذه العقيدة وإيضاحها طرقا شتى , وأساليب متنوعة , ووسائل متعددة(ليذكروا)فالتوحيد لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والرجوع إلى الفطرة ومنطقها , وإلى الآيات الكونية ودلالتها ; ولكنهم يزيدون نفورا كلما سمعوا هذا القرآن . نفورا من العقيدة التي جاء بها , ونفورا من القرآن ذاته خيفة أن يغلبهم على عقائدهم الباطلة التي يستمسكون بها . عقائد الشرك والوهم والترهات .
وكما جاراهم في ادعاءاتهم في حكاية البنات ونسبتها إلى الله ليكشف عما فيها من تفكك وتهافت , فهو يجاريهم في حكاية الآلهة المدعاة , ليقرر أن هذه الآلهة لو وجدت فإنها ستحاول أن تتقرب إلى الله , وأن تجد لها وسيلة إليه وسبيلا:
قل:لو كان معه آلهة كما يقولون , إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . .
ولو - كما يقول النحاة - حرف امتناع لامتناع , فالقضية كلها ممتنعة , وليس هنالك آلهة مع الله - كما يقولون - والآلهة التي يدعونها إن هي إلا خلق من خلق الله سواء كانت نجما أو كوكبا , إنسانا أو حيوانا , نباتا أو جمادا . وهذه كلها تتجه إلى الخالق حسب ناموس الفطرة الكونية , وتخضع للإرادة التي تحكمها وتصرفها ; وتجد طريقها إلى الله عن طريق خضوعها لناموسه وتلبيتها لإرادته:
إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . . وذكر العرش هنا يوحي بالارتفاع والتسامي على هذه الخلائق التي يدعون أنها آلهة(مع)الله . وهي تحت عرشه وليست معه . . ويعقب على ذلك بتنزيه الله في علاه:
سبحان وتعالى عما يقولون علوا كبيرا . .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه , والتثبت في استقرائه ; إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته , وفي مشاعره وأحكامه , فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية , ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة , فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها . (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)حقا وصدقا . .
وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (39)
الدرس التاسع:37 النهي عن التكبر والخيلاء
وتختم هذه الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحيد بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء الكاذبة:
(ولا تمش في الأرض مرحا . إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا). .
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان , أو قوة أو جمال . لو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله , وأنه ضعيف أمام حول الله , لطامن من كبريائه , وخفف من خيلائه , ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا .
والقرآن يحبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته: (إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل , لا يبلغ شيئا من الأجسام الضخمة التي خلقها الله . إنما هو قوي بقوة الله , عزيز بعزة الله , كريم بروحه الذي نفخه الله فيه , ليتصل به ويراقبه ولا ينساه .
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء , أدب مع الله , وأدب مع الناس . أدب نفسي وأدب اجتماعي . وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات . يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته , ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه .
وفي الحديث: من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير . ومن استكبر وضعه الله , فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير . حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير .
الدرس العاشر:38 - 39 ربط التوجيهات الأخلاقية بالعقيدة وهي تحقق الحكمة
وتنتهي تلك الأوامر والنواهي والغالب فيها هو النهي عن ذميم الفعال والصفات بإعلان كراهية الله للسيى ء منها:
(كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها).
فيكون هذا تلخيصا وتذكيرا بمرجع الأمر والنهي وهو كراهية الله للسيى ء من تلك الأمور . ويسكت عن الحسن المأمور به , لأن النهي عن السيى ء هو الغالب فيها كما ذكرنا .
ويختم الأوامر والنواهي كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك . وبيان أنها بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى الرسول:
(ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).
وهو ختام يشبه الابتداء . فتجيء محبوكة الطرفين , موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الإسلام بناء الحياة , قاعدة توحيد الله وعبادته دون سواه . .
الوحدة الثالثة:40 - 57 الموضوع:نفي النقص عن الله وعبادة المخلوقات وخضوعها له مقدمة الوحدة
بدأ الدرس الثاني وانتهى بتوحيد الله والنهي عن الشرك به , وضم بين البداية والنهاية تكاليف وأوامر ونواهي وآدابا مرتكزة كلها على قاعدة التوحيد الوطيدة . . ويبدأ هذا الدرس وينتهي باستنكار فكرة الولد والشريك , وبيان ما فيها من اضطراب وتهافت , وتقرير وحدة الاتجاه الكوني إلى الخالق الواحد: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)ووحدة المصير والرجعة إلى الله في الآخرة , ووحدة علم الله الشامل بمن في السماوات ومن في الأرض , ووحدة التصرف في شؤون الخلائق بلا معقب: (إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم). .
ومن خلال السياق تتهافت عقائد الشرك وتتهاوى , وتنفرد الذات الإلهية بالعبادة والاتجاه والقدرة والتصرف والحكم في هذا الوجود , ظاهره وخافيه , دنياه وآخرته ; ويبدو الوجود كله متجها إلى خالقه في تسبيحة مديدة شاملة تشترك فيها الأحياء والأشياء .
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)
الدرس الأول:40 - 44 نفي الولد والشريك عن الله وخضوع المخلوقات له
(أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ? إنكم لتقولون قولا عظيما ?)
استفهام للاستنكار والتهكم . استنكار لما يقولون من أن الملائكة بنات الله , تعالى الله عن الولد والصاحبة كما تعالى عن الشبيه والشريك . وتهكم على نسبة البنات لله وهم يعدون البنات أدنى من البنين ويقتلون البنات خوف الفقر أو العار ; ومع هذا يجعلون الملائكة إناثا , وينسبون هؤلاء الإناث إلى الله ! فإذا كان الله هو واهب البنين والبنات , فهل أصفاهم بالبنين المفضلين واتخذ لنفسه الإناث المفضولات ?!
وهذا كله على سبيل مجاراتهم في ادعاءاتهم لبيان ما فيها من تفكك وتهافت . وإلا فالقضية كلها مستنكرة من الأساس:
(إنكم لتقولون قولا عظيما). . عظيما في شناعته وبشاعته , عظيما في جرأته ووقاحته , عظيما في ضخامة الافتراء فيه , عظيما في خروجه عن التصور والتصديق .
(ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا , وما يزيدهم إلا نفورا). .
فقد جاء القرآن بالتوحيد , وسلك إلى تقرير هذه العقيدة وإيضاحها طرقا شتى , وأساليب متنوعة , ووسائل متعددة(ليذكروا)فالتوحيد لا يحتاج إلى أكثر من التذكر والرجوع إلى الفطرة ومنطقها , وإلى الآيات الكونية ودلالتها ; ولكنهم يزيدون نفورا كلما سمعوا هذا القرآن . نفورا من العقيدة التي جاء بها , ونفورا من القرآن ذاته خيفة أن يغلبهم على عقائدهم الباطلة التي يستمسكون بها . عقائد الشرك والوهم والترهات .
وكما جاراهم في ادعاءاتهم في حكاية البنات ونسبتها إلى الله ليكشف عما فيها من تفكك وتهافت , فهو يجاريهم في حكاية الآلهة المدعاة , ليقرر أن هذه الآلهة لو وجدت فإنها ستحاول أن تتقرب إلى الله , وأن تجد لها وسيلة إليه وسبيلا:
قل:لو كان معه آلهة كما يقولون , إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . .
ولو - كما يقول النحاة - حرف امتناع لامتناع , فالقضية كلها ممتنعة , وليس هنالك آلهة مع الله - كما يقولون - والآلهة التي يدعونها إن هي إلا خلق من خلق الله سواء كانت نجما أو كوكبا , إنسانا أو حيوانا , نباتا أو جمادا . وهذه كلها تتجه إلى الخالق حسب ناموس الفطرة الكونية , وتخضع للإرادة التي تحكمها وتصرفها ; وتجد طريقها إلى الله عن طريق خضوعها لناموسه وتلبيتها لإرادته:
إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا . . وذكر العرش هنا يوحي بالارتفاع والتسامي على هذه الخلائق التي يدعون أنها آلهة(مع)الله . وهي تحت عرشه وليست معه . . ويعقب على ذلك بتنزيه الله في علاه:
سبحان وتعالى عما يقولون علوا كبيرا . .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
ثم يرسم السياق للكون كله بما فيه ومن فيه مشهدا فريدا , تحت عرش الله , يتوجه كله إلى الله , يسبح له ويجد الوسيلة إليه:
(تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن , وإن من شيء إلا يسبح بحمده , ولكن لا تفقهون تسبيحهم , إنه كان حليما غفورا). .
وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير , وتنتفض روحا حية تسبح الله . فإذا الكون كله حركة وحياة , وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية , ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال .
وإنه لمشهد كوني فريد , حين يتصور القلب . كل حصاة وكل حجر . كل حبة وكل ورقة . كل زهرة وكل
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45)
ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .
وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه , وكلما همت يده أن تلمس شيئا , وكلما همت رجله أن تطأ شيئا . . سمعه يسبح لله , وينبض بالحياة .
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)يسبح بطريقته ولغته (ولكن لا تفقهون تسبيحهم)لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين , ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم , ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية , وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير , وتتوجه بها إلى خالق النواميس , ومدبر هذا الكون الكبير .
وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح , ويتوجه بالتسبيح , فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى , وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون , الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود , النابضة في كل متحرك وساكن , وفي كل شيء في هذا الوجود .
(إنه كان حليما غفورا). . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله , بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله , ومن ينسب له البنات , ومن يغفل عن حمده وتسبيحه . والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم (إنه كان حليما غفورا).
الدرس الثاني:45 الحجب المانعة من تدبر الكفار للقرآن وشبهاتهم حوله
ولقد كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن , ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له , ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به ; فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا , حجابا خفيا , وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن , وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه:
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا . نحن أعلم بما يستمعون به , إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى . إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال , فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
وقد روى ابن اسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب , وأبا جهل بن هشام , والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي بالليل في بيته ; فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه , وكل لا يعلم بمكان صاحبه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا , فقال بعضهم لبعض:لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق . فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعتهم الطريق ; فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48)
خرج حتى أتي أبا سفيان بن حرب في بيته , فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . قال:يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها , وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا , والذي حلفت به . قال:ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ; فقال:يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:ماذا سمعت ? قال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا , وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب , وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! قال فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها , وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها , فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب , فإذا هم لا ينتفعون به , ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه . وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن , ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ; ثم يغلبهم التأثر به فيعودون , ثم يتناجون من جديد , حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا). .
نفورا من كلمة التوحيد , التي تهدد وضعهم الاجتماعي , القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية , وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت , وما في الإسلام من تماسك , وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سمو وارتفاع وامتياز . وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به , على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها !
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ; والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ; فيطلقون التهم على الرسول [ ص ] يعتذرون بها عن المكابرة والعناد:
(إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ; فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر ; لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر , يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله , وهذا التميز في حديثه , وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه , إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ! ولو أنصفوا لقالوا:إنه من عند الله , فما يمكن أن يقول هذا إنسان , ولا خلق آخر من خلق الله .
(انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
ضربوا لك الأمثال بالمسحورين ولست بمسحور , إنما أنت رسول , فضلوا ولم يهتدوا , وحاروا فلم يجدوا طريقا يسلكونه . لا إلى الهدى , ولا إلى تعليل موقفهم المريب !
(تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن , وإن من شيء إلا يسبح بحمده , ولكن لا تفقهون تسبيحهم , إنه كان حليما غفورا). .
وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير , وتنتفض روحا حية تسبح الله . فإذا الكون كله حركة وحياة , وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية , ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال .
وإنه لمشهد كوني فريد , حين يتصور القلب . كل حصاة وكل حجر . كل حبة وكل ورقة . كل زهرة وكل
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45)
ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .
وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه , وكلما همت يده أن تلمس شيئا , وكلما همت رجله أن تطأ شيئا . . سمعه يسبح لله , وينبض بالحياة .
(وإن من شيء إلا يسبح بحمده)يسبح بطريقته ولغته (ولكن لا تفقهون تسبيحهم)لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين , ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم , ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية , وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير , وتتوجه بها إلى خالق النواميس , ومدبر هذا الكون الكبير .
وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح , ويتوجه بالتسبيح , فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى , وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون , الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود , النابضة في كل متحرك وساكن , وفي كل شيء في هذا الوجود .
(إنه كان حليما غفورا). . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله , بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله , ومن ينسب له البنات , ومن يغفل عن حمده وتسبيحه . والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم (إنه كان حليما غفورا).
الدرس الثاني:45 الحجب المانعة من تدبر الكفار للقرآن وشبهاتهم حوله
ولقد كان كبراء قريش يستمعون إلى القرآن , ولكنهم يجاهدون قلوبهم ألا ترق له , ويمانعون فطرتهم أن تتأثر به ; فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا , حجابا خفيا , وجعل على قلوبهم كالأغلفة فلا تفقه القرآن , وجعل في آذانهم كالصمم فلا تعي ما فيه من توجيه:
(وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا . نحن أعلم بما يستمعون به , إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى . إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا . انظر كيف ضربوا لك الأمثال , فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
وقد روى ابن اسحاق في السيرة عن محمد بن مسلم بن شهاب عن الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب , وأبا جهل بن هشام , والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله [ ص ] وهو يصلي بالليل في بيته ; فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه , وكل لا يعلم بمكان صاحبه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا , فقال بعضهم لبعض:لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعهم الطريق . فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة . ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعتهم الطريق ; فقال بعضهم لبعض:لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48)
خرج حتى أتي أبا سفيان بن حرب في بيته , فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد . قال:يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها , وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا , والذي حلفت به . قال:ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ; فقال:يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ? قال:ماذا سمعت ? قال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا , وحملوا فحملنا , وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب , وكنا كفرسي رهان , قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! قال فقام عنه الأخنس وتركه . .
فهكذا كان القوم تتأثر بالقرآن فطرتهم فيصدونها , وتجاذبهم إليه قلوبهم فيمانعونها , فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون ولكن تحسه القلوب , فإذا هم لا ينتفعون به , ولا يهتدون بالقرآن الذي يتلوه . وهكذا كانوا يتناجون بما أصاب قلوبهم من القرآن , ثم يتآمرون على عدم الاستماع إليه ; ثم يغلبهم التأثر به فيعودون , ثم يتناجون من جديد , حتى ليتعاهدون على عدم العودة ليحجزوا أنفسهم عن هذا القرآن المؤثر الجذاب الذي يخلب القلوب والألباب ! ذلك أن عقيدة التوحيد التي يدور عليها هذا القرآن كانت تهددهم في مكانتهم وفي امتيازاتهم وفي كبريائهم فينفرون منها:
(وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا). .
نفورا من كلمة التوحيد , التي تهدد وضعهم الاجتماعي , القائم على أوهام الوثنية وتقاليد الجاهلية , وإلا فقد كان كبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم ما في عقائدهم من تهافت , وما في الإسلام من تماسك , وأعرف بالقول من أن يغيب عنهم ما في القرآن من سمو وارتفاع وامتياز . وهم الذين لم يكونوا يملكون أنفسهم من الاستماع إليه والتأثر به , على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها !
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ; والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ; فيطلقون التهم على الرسول [ ص ] يعتذرون بها عن المكابرة والعناد:
(إذ يقول الظالمون:إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ; فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر ; لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر , يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله , وهذا التميز في حديثه , وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه , إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ! ولو أنصفوا لقالوا:إنه من عند الله , فما يمكن أن يقول هذا إنسان , ولا خلق آخر من خلق الله .
(انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا). .
ضربوا لك الأمثال بالمسحورين ولست بمسحور , إنما أنت رسول , فضلوا ولم يهتدوا , وحاروا فلم يجدوا طريقا يسلكونه . لا إلى الهدى , ولا إلى تعليل موقفهم المريب !
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
الدرس الثالث:49 - 52 ذم وتهديد الكفار لتكذيبهم بالبعث والآخرة
ذلك قولهم عن القرآن , وعن الرسول [ ص ] وهو يتلو عليهم القرآن . كذلك كذبوا بالبعث , وكفروا بالآخرة:
وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51)
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ? قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم . فسيقولون:من يعيدنا ? قل:الذي فطركم أول مرة . فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون:متى هو ? قل:عسى أن يكون قريبا , يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وقد كانت قضية البعث مثار جدل طويل بين الرسول [ ص ] والمشركين , واشتمل القرآن الكريم على الكثير من هذا الجدل . مع بساطة هذه القضية ووضوحها عند من يتصور طبيعة الحياة والموت , وطبيعة البعث والحشر . ولقد عرضها القرآن الكريم في هذا الضوء مرات . ولكن القوم لم يكونوا يتصورونها بهذا الوضوح وبتلك البساطة ; فكان يصعب عليهم تصور البعث بعد البلى والفناء المسلط على الأجسام:
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا)?
ذلك أنهم لم يكونوا يتدبرون أنهم لم يكونوا أحياء أصلا ثم كانوا , وأن النشأة الآخرة ليست أعسر من النشأة الأولى . وأنه لا شيء أمام القدرة الإلهية أعسر من شيء , وأداة الخلق واحدة في كل شيء: (كن فيكون)فيستوي إذن أن يكون الشيء سهلا وأن يكون صعبا في نظر الناس , متى توجهت الإرادة الإلهية إليه .
وكان الرد على ذلك التعجب:
(قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم). .
والعظام والرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة ; والحديد والحجارة أبعد عن الحياة . فيقال لهم:
كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر أو غل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة . . فسيبعثكم الله .
ذلك قولهم عن القرآن , وعن الرسول [ ص ] وهو يتلو عليهم القرآن . كذلك كذبوا بالبعث , وكفروا بالآخرة:
وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51)
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ? قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم . فسيقولون:من يعيدنا ? قل:الذي فطركم أول مرة . فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون:متى هو ? قل:عسى أن يكون قريبا , يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وقد كانت قضية البعث مثار جدل طويل بين الرسول [ ص ] والمشركين , واشتمل القرآن الكريم على الكثير من هذا الجدل . مع بساطة هذه القضية ووضوحها عند من يتصور طبيعة الحياة والموت , وطبيعة البعث والحشر . ولقد عرضها القرآن الكريم في هذا الضوء مرات . ولكن القوم لم يكونوا يتصورونها بهذا الوضوح وبتلك البساطة ; فكان يصعب عليهم تصور البعث بعد البلى والفناء المسلط على الأجسام:
(وقالوا:أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا)?
ذلك أنهم لم يكونوا يتدبرون أنهم لم يكونوا أحياء أصلا ثم كانوا , وأن النشأة الآخرة ليست أعسر من النشأة الأولى . وأنه لا شيء أمام القدرة الإلهية أعسر من شيء , وأداة الخلق واحدة في كل شيء: (كن فيكون)فيستوي إذن أن يكون الشيء سهلا وأن يكون صعبا في نظر الناس , متى توجهت الإرادة الإلهية إليه .
وكان الرد على ذلك التعجب:
(قل:كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم). .
والعظام والرفات فيها رائحة البشرية وفيها ذكرى الحياة ; والحديد والحجارة أبعد عن الحياة . فيقال لهم:
كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر أو غل في البعد عن الحياة من الحجارة والحديد مما يكبر في صدوركم أن تتصوروه وقد نفخت فيه الحياة . . فسيبعثكم الله .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وهم لا يملكون أن يكونوا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر ولكنه قول للتحدي . وفيه كذلك ظل التوبيخ والتقريع , فالحجارة والحديد جماد لا يحس ولا يتأثر , وفي هذا إيماء من بعيد إلى ما في تصورهم من جمود وتحجر !
(فسيقولون:من يعيدنا)?
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما , أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ? (قل:الذي فطركم أول مرة). .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشاهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون:
(فسينغضون إليك رؤوسهم)ينغضونها علوا أو سفلا , استنكارا و استهزاء:
(ويقولون:متى هو ?):استبعادا لهذا الحادث واستنكارا .
(قل:عسى أن يكون قريبا). .
فالرسول لا يعلم موعده تحديدا . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون !
ثم يرسم مشهدا سريعا لذلك اليوم:
(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده , وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له , وقد قاموا يلبون دعوة الداعي , وألسنتهم تلهج بحمد
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55)
الله . ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب !
وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله , فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا:الحمد لله . الحمد لله !
ويومئذ تنطوي الحياة الدنيا كما ينطوي الظل: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا).
وتصوير الشعور بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين , فإذا هي قصيرة قصيرة , لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس , إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول , ومتاع قليل .
ثم يلتفت السياق عن هؤلاء المكذبين بالبعث والنشور , المستهزئين بوعد الله وقول الرسول , المنغضين رؤوسهم المتهكمين المتهجمين . . يلتفت عنهم إلى عباد الله المؤمنين ليوجههم الرسول [ ص ] أن يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى:
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . إن الشيطان ينزغ بينهم , إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا).
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)على وجه الإطلاق وفي كل مجال . فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه . . بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة . فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت , وبالرد السيى ء يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء . والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب , تندي جفافها , وتجمعها على الود الكريم .
(إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا). .
يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه , فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه . والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات , وتقطع عليه الطريق , وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته .
الدرس الخامس:54 - 55 الناس في قبضة الله والتفضيل لأنبياء الله
وبعد هذه اللفتة يعود السياق إلى مصائر القوم يوم يدعوهم فيستجيبون بحمده , فإذا المصير كله بيد الله وحده , إن شاء رحم , وإن شاء عذب , وهم متروكون لقضاء الله , وما الرسول عليهم بوكيل , إن هو إلا رسول:
(ربكم أعلم بكم , إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم , وما أرسلناك عليهم وكيلا . وربك أعلم بمن في السماوات والأرض). .
فالعلم المطلق لله . وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم أو عذابهم . وعند البلاغ تنتهي وظيفة الرسول .
(فسيقولون:من يعيدنا)?
من يردنا إلى الحياة إن كنا رفاتا وعظاما , أو خلقا آخر أشد إيغالا في الموت والخمود ? (قل:الذي فطركم أول مرة). .
وهو رد يرجع المشكلة إلى تصور بسيط واضح مريح . فالذي أنشاهم إنشاء قادر على أن يردهم أحياء . ولكنهم لا ينتفعون به ولا يقتنعون:
(فسينغضون إليك رؤوسهم)ينغضونها علوا أو سفلا , استنكارا و استهزاء:
(ويقولون:متى هو ?):استبعادا لهذا الحادث واستنكارا .
(قل:عسى أن يكون قريبا). .
فالرسول لا يعلم موعده تحديدا . ولكن لعله أقرب مما يظنون . وما أجدرهم أن يخشوا وقوعه وهم في غفلتهم يكذبون ويستهزئون !
ثم يرسم مشهدا سريعا لذلك اليوم:
(يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده , وتظنون إن لبثتم إلا قليلا). .
وهو مشهد يصور أولئك المكذبين بالبعث المنكرين له , وقد قاموا يلبون دعوة الداعي , وألسنتهم تلهج بحمد
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55)
الله . ليس لهم سوى هذه الكلمة من قول ولا جواب !
وهو جواب عجيب ممن كانوا ينكرون اليوم كله وينكرون الله , فلا يكون لهم جواب إلا أن يقولوا:الحمد لله . الحمد لله !
ويومئذ تنطوي الحياة الدنيا كما ينطوي الظل: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا).
وتصوير الشعور بالدنيا على هذا النحو يصغر من قيمتها في نفوس المخاطبين , فإذا هي قصيرة قصيرة , لا يبقى من ظلالها في النفس وصورها في الحس , إلا أنها لمحة مرت وعهد زال وظل تحول , ومتاع قليل .
ثم يلتفت السياق عن هؤلاء المكذبين بالبعث والنشور , المستهزئين بوعد الله وقول الرسول , المنغضين رؤوسهم المتهكمين المتهجمين . . يلتفت عنهم إلى عباد الله المؤمنين ليوجههم الرسول [ ص ] أن يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى:
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن . إن الشيطان ينزغ بينهم , إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا).
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)على وجه الإطلاق وفي كل مجال . فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه . . بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة . فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت , وبالرد السيى ء يتلوها فإذا جو الود والمحبة والوفاق مشوب بالخلاف ثم بالجفوة ثم بالعداء . والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب , تندي جفافها , وتجمعها على الود الكريم .
(إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا). .
يتلمس سقطات فمه وعثرات لسانه , فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه . والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات , وتقطع عليه الطريق , وتحفظ حرم الأخوة آمنا من نزغاته ونفثاته .
الدرس الخامس:54 - 55 الناس في قبضة الله والتفضيل لأنبياء الله
وبعد هذه اللفتة يعود السياق إلى مصائر القوم يوم يدعوهم فيستجيبون بحمده , فإذا المصير كله بيد الله وحده , إن شاء رحم , وإن شاء عذب , وهم متروكون لقضاء الله , وما الرسول عليهم بوكيل , إن هو إلا رسول:
(ربكم أعلم بكم , إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم , وما أرسلناك عليهم وكيلا . وربك أعلم بمن في السماوات والأرض). .
فالعلم المطلق لله . وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم أو عذابهم . وعند البلاغ تنتهي وظيفة الرسول .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وعلم الله الكامل يشمل من في السماوات والأرض من ملائكة ورسل وإنس وجن , وكائنات لا يعلم إلا الله ما هي ? وما قدرها ? وما درجتها .
وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض:
(ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض). وهو تفضيل يعلم الله أسبابه . أما مظاهر هذا التفضيل فقد سبق الحديث عنها في الجزء الثالث من هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). .
فيراجع في موضعه هناك:
(وآتينا داود زبورا). . وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه , ومن مظاهر التفضيل أيضا . إذ كانت
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)
الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من الزمان .
الدرس السادس:56 - 57 نفي الأبناء والشركاء عن الله وتوحيد الله
وينتهي هذا الدرس الذي بدأ بنفي فكرة الأبناء والشركاء , واستطرد إلى تفرد الله سبحانه بالاتجاه إليه , وتفرده بالعلم والتصرف في مصائر العباد . . ينتهي بتحدي الذين يزعمون الشركاء , أن يدعوا الآلهة المدعاة إلى كشف الضر عنهم لو شاء الله أن يعذبهم , أو تحويل العذاب إلى سواهم:
(قل:ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا). . فليس أحد بقادر على أن يكشف الضر أو يحوله إلا الله وحده , المتصرف في أقدار عباده .
ويقرر لهم أن من يدعونهم آلهة من الملائكة أو الجن أو الإنس . . إن هم إلا خلق من خلق الله , يحاولون أن يجدوا طريقهم إلى الله ويتسابقون إلى رضاه , ويخافون عذابه الذي يحذره من يعلم حقيقته ويخشاه:
(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب , ويرجون رحمته ويخافون عذابه . إن عذاب ربك كان محذورا). .
وقد كان بعضهم يدعو عزيرا ابن الله ويعبده , وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده . وبعضهم يدعو الملائكة بنات الله ويعبدهم , وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فالله يقول لهم جميعا:إن هؤلاء الذين تدعونهم , أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة , ويتقرب إليه بالعبادة , ويرجو رحمته , ويخشى عذابه - وعذاب الله شديد يحذر ويخاف - فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله , كما يتوجه إليه من تدعونهم آلهة من دونه وهم عباد لله , يبتغون رضاه .
وهكذا يبدأ الدرس ويختم ببيان تهافت عقائد الشرك في كل صورها . وتفرد الله سبحانه بالألوهية والعبادة والاتجاه .
الوحدة الرابعة:58 - 72 الموضوع:قصة آدم والرسالات ونعمة الله على الناس مقدمة الوحدة
انتهى الدرس السابق بتقرير أن الله وحده هو المتصرف في مصائر العباد , إن شاء رحمهم وإن شاء عذبهم ; وأن الآلهة التي يدعونها من دونه لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويله إلى سواهم .
فالآن يستطرد السياق إلى بيان المصير النهائي للبشر جميعا - كما قدره الله في علمه وقضائه - وهو انتهاء القرى جميعها إلى الموت والهلاك قبل يوم القيامة , أو وقوع العذاب ببعضها إن ارتكبت ما يستحق العذاب . فلا يبقى حي إلا ويلاقي نهايته على أي الوجهين:الهلاك حتف أنفه أو الهلاك بالعذاب .
وبمناسبة ذكر العذاب الذي يحل ببعض القرى يشير السياق إلى ما كان يسبقه من الخوارق على أيدي الرسل - قبل رسالة محمد [ ص ] - هذه الخوارق التي امتنعت في هذه الرسالة , لأن الأولين الذين جاءتهم كذبوا بها ولم يهتدوا فحق عليهم الهلاك . والهلاك لم يقدر على أمة محمد لذلك لم يرسله بالخوارق المادية , وما كانت الخوارق إلا تخويفا للأمم الخالية مما يحل بها من الهلاك إذا كذبت بعد مجيئها .
وقد كف الله الناس عن الرسول [ ص ] وعصمه منهم فلا يصلون إليه . وأراه الرؤيا الصادقة في الإسراء لتكون ابتلاء للناس , ولم يتخذ منها خارقة كخوارق الرسالات من قبل , وخوفهم الشجرة الملعونة في القرآن - شجرة الزقوم - التي رآها في أصل الجحيم , فلم يزدهم التخويف إلا طغيانا . وإذن فما كانت الخوارق إلا لتزيدهم طغيانا .
وفي هذا الموضع من السياق تجيء قصة إبليس مع آدم , وإذن الله لإبليس في ذرية آدم إلا الصالحين من عباده فقد عصمهم من سلطانه وإغوائه . . فتكشف القصة عن أسباب الغواية الأصيلة التي تقود الناس إلى الكفر والطغيان , وتبعدهم عن تدبر الآيات .
وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض:
(ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض). وهو تفضيل يعلم الله أسبابه . أما مظاهر هذا التفضيل فقد سبق الحديث عنها في الجزء الثالث من هذه الظلال عند تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض). .
فيراجع في موضعه هناك:
(وآتينا داود زبورا). . وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه , ومن مظاهر التفضيل أيضا . إذ كانت
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57)
الكتب أبقى من الخوارق المادية التي يراها بعض الناس في ظرف معين من الزمان .
الدرس السادس:56 - 57 نفي الأبناء والشركاء عن الله وتوحيد الله
وينتهي هذا الدرس الذي بدأ بنفي فكرة الأبناء والشركاء , واستطرد إلى تفرد الله سبحانه بالاتجاه إليه , وتفرده بالعلم والتصرف في مصائر العباد . . ينتهي بتحدي الذين يزعمون الشركاء , أن يدعوا الآلهة المدعاة إلى كشف الضر عنهم لو شاء الله أن يعذبهم , أو تحويل العذاب إلى سواهم:
(قل:ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا). . فليس أحد بقادر على أن يكشف الضر أو يحوله إلا الله وحده , المتصرف في أقدار عباده .
ويقرر لهم أن من يدعونهم آلهة من الملائكة أو الجن أو الإنس . . إن هم إلا خلق من خلق الله , يحاولون أن يجدوا طريقهم إلى الله ويتسابقون إلى رضاه , ويخافون عذابه الذي يحذره من يعلم حقيقته ويخشاه:
(أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب , ويرجون رحمته ويخافون عذابه . إن عذاب ربك كان محذورا). .
وقد كان بعضهم يدعو عزيرا ابن الله ويعبده , وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده . وبعضهم يدعو الملائكة بنات الله ويعبدهم , وبعضهم يدعو غير هؤلاء . . فالله يقول لهم جميعا:إن هؤلاء الذين تدعونهم , أقربهم إلى الله يبتغي إليه الوسيلة , ويتقرب إليه بالعبادة , ويرجو رحمته , ويخشى عذابه - وعذاب الله شديد يحذر ويخاف - فما أجدركم أن تتوجهوا إلى الله , كما يتوجه إليه من تدعونهم آلهة من دونه وهم عباد لله , يبتغون رضاه .
وهكذا يبدأ الدرس ويختم ببيان تهافت عقائد الشرك في كل صورها . وتفرد الله سبحانه بالألوهية والعبادة والاتجاه .
الوحدة الرابعة:58 - 72 الموضوع:قصة آدم والرسالات ونعمة الله على الناس مقدمة الوحدة
انتهى الدرس السابق بتقرير أن الله وحده هو المتصرف في مصائر العباد , إن شاء رحمهم وإن شاء عذبهم ; وأن الآلهة التي يدعونها من دونه لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويله إلى سواهم .
فالآن يستطرد السياق إلى بيان المصير النهائي للبشر جميعا - كما قدره الله في علمه وقضائه - وهو انتهاء القرى جميعها إلى الموت والهلاك قبل يوم القيامة , أو وقوع العذاب ببعضها إن ارتكبت ما يستحق العذاب . فلا يبقى حي إلا ويلاقي نهايته على أي الوجهين:الهلاك حتف أنفه أو الهلاك بالعذاب .
وبمناسبة ذكر العذاب الذي يحل ببعض القرى يشير السياق إلى ما كان يسبقه من الخوارق على أيدي الرسل - قبل رسالة محمد [ ص ] - هذه الخوارق التي امتنعت في هذه الرسالة , لأن الأولين الذين جاءتهم كذبوا بها ولم يهتدوا فحق عليهم الهلاك . والهلاك لم يقدر على أمة محمد لذلك لم يرسله بالخوارق المادية , وما كانت الخوارق إلا تخويفا للأمم الخالية مما يحل بها من الهلاك إذا كذبت بعد مجيئها .
وقد كف الله الناس عن الرسول [ ص ] وعصمه منهم فلا يصلون إليه . وأراه الرؤيا الصادقة في الإسراء لتكون ابتلاء للناس , ولم يتخذ منها خارقة كخوارق الرسالات من قبل , وخوفهم الشجرة الملعونة في القرآن - شجرة الزقوم - التي رآها في أصل الجحيم , فلم يزدهم التخويف إلا طغيانا . وإذن فما كانت الخوارق إلا لتزيدهم طغيانا .
وفي هذا الموضع من السياق تجيء قصة إبليس مع آدم , وإذن الله لإبليس في ذرية آدم إلا الصالحين من عباده فقد عصمهم من سلطانه وإغوائه . . فتكشف القصة عن أسباب الغواية الأصيلة التي تقود الناس إلى الكفر والطغيان , وتبعدهم عن تدبر الآيات .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً (60)
ويلمس السياق في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم , ومقابلتهم هذا الفضل بالبطر والجحود , فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة . فإذا مسهم الضر في البحر لجأوا إليه . فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا . والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي البحر سواء ! ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه , ولكنهم لا يشكرون ولا يذكرون . ويختم هذا الدرس بمشهد من مشاهد القيامة ; يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم , فلا مجال للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه .
الدرس الأول:58 - 60 موت المخلوقين قبل قيام الساعة وحكمة المعجزات ومعجزة الإسراء
(وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا . كان ذلك في الكتاب مسطورا). .
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة , فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود . كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب . ذلك ما ركز في علم الله . والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن . فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء .
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب . ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان ; أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم . ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق:
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها . وما نرسل بالآيات إلا تخويفا).
إن معجزة الإسلام هي القرآن . وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة . ويخاطب الفكر والقلب , ويلبي الفطرة القويمة . ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة . أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس , وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل .
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها . وقد ضرب السياق المثل بثمود , الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة . فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة . وما كانت الآيات إلا إنذارا أو تخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات .
ويلمس السياق في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم , ومقابلتهم هذا الفضل بالبطر والجحود , فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة . فإذا مسهم الضر في البحر لجأوا إليه . فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا . والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي البحر سواء ! ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه , ولكنهم لا يشكرون ولا يذكرون . ويختم هذا الدرس بمشهد من مشاهد القيامة ; يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم , فلا مجال للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه .
الدرس الأول:58 - 60 موت المخلوقين قبل قيام الساعة وحكمة المعجزات ومعجزة الإسراء
(وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا . كان ذلك في الكتاب مسطورا). .
فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة , فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود . كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب . ذلك ما ركز في علم الله . والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن . فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء .
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب . ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان ; أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم . ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق:
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون . وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها . وما نرسل بالآيات إلا تخويفا).
إن معجزة الإسلام هي القرآن . وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة . ويخاطب الفكر والقلب , ويلبي الفطرة القويمة . ويبقى مفتوحا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة . أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلا واحدا من الناس , وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل .
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها . وقد ضرب السياق المثل بثمود , الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة . فظلموا بها أنفسهم وأوردوها موارد الهلكة تصديقا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة . وما كانت الآيات إلا إنذارا أو تخويفا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق . لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها . ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلا بعد جيل , وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه .
أما الخوارق التي وقعت للرسول [ ص ] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
(وإذ قلنا لك:إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس , والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا).
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [ ص ] بعد حادثة الإسراء , كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة "فتنة للناس" وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر , وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62)
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما:هاتوا لنا تمرا وزبدا , وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول:تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا !
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين ? وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا ?
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل محمد [ ص ] وللأجيال بعده , فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال , يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب , وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا , وأنفع للإسلام من كثير سبقوه . .
أما الخوارق التي وقعت للرسول [ ص ] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
(وإذ قلنا لك:إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس , والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا).
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [ ص ] بعد حادثة الإسراء , كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة "فتنة للناس" وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر , وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62)
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما:هاتوا لنا تمرا وزبدا , وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول:تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا !
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين ? وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا ?
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل محمد [ ص ] وللأجيال بعده , فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال , يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب , وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا , وأنفع للإسلام من كثير سبقوه . .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
الدرس الثاني:61 - 65 قصة آدم مع إبليس
وفي ظل الرؤيا التي رآها الرسول [ ص ] واطلع فيها على ما اطلع من عوالم , والشجرة الملعونة التي يطعم منها أتباع الشياطين . . يجيء مشهد إبليس الملعون , يهدد ويتوعد بإغواء الضالين:
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس . قال:أأسجد لمن خلقت طينا ? قال:أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك , وأجلب عليهم بخيلك ورجلك , وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم . وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين , فيعرض هذا المشهد هنا , ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية , ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها , عن إصرار سابق قديم !
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال:أأسجد لمن خلقت طينا ?)
إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين !
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية , فيقول في تبجح:
(أرأيتك هذا الذي كرمت علي)أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك ?
(لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا). . فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم .
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية , ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام , يحاول محاولته مع بني الإنسان:
وفي ظل الرؤيا التي رآها الرسول [ ص ] واطلع فيها على ما اطلع من عوالم , والشجرة الملعونة التي يطعم منها أتباع الشياطين . . يجيء مشهد إبليس الملعون , يهدد ويتوعد بإغواء الضالين:
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم . فسجدوا إلا إبليس . قال:أأسجد لمن خلقت طينا ? قال:أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك , وأجلب عليهم بخيلك ورجلك , وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم . وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين , فيعرض هذا المشهد هنا , ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية , ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها , عن إصرار سابق قديم !
(وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال:أأسجد لمن خلقت طينا ?)
إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين !
ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية , فيقول في تبجح:
(أرأيتك هذا الذي كرمت علي)أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك ?
(لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا). . فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم .
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية . عن حالته التي يكون فيها متصلا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية , ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقا واحدا تسلكه بلا إرادة . فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب .
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام , يحاول محاولته مع بني الإنسان:
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
(قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا). .
اذهب فحاول محاولتك . اذهب مأذونا في إغوائهم . فهم مزودون بالعقل والإرادة , يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك (فمن تبعك منهم)مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية , معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان , غافلا عن آيات الله في الكون , وآيات الله المصاحبة للرسالات , (فإن جهنم جزاؤكم)أنت وتابعوك (جزاء موفورا).
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك).
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة , والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة , تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة , أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل , وأحاطت بهم الرجال !
(وشاركهم في الأموال والأولاد). .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية , إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام , أو يتصرف فيه بغير حق , أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها , ومنها الوعود المغرية المخادعة: (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ; وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة , ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !
اذهب مأذونا في إغواء من يجنحون إليك . ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم , لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك !
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
(قال:اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا). .
اذهب فحاول محاولتك . اذهب مأذونا في إغوائهم . فهم مزودون بالعقل والإرادة , يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك (فمن تبعك منهم)مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية , معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان , غافلا عن آيات الله في الكون , وآيات الله المصاحبة للرسالات , (فإن جهنم جزاؤكم)أنت وتابعوك (جزاء موفورا).
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك).
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة , والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة , تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة , أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل , وأحاطت بهم الرجال !
(وشاركهم في الأموال والأولاد). .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية , إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام , أو يتصرف فيه بغير حق , أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها , ومنها الوعود المغرية المخادعة: (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ; وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة , ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !
اذهب مأذونا في إغواء من يجنحون إليك . ولكن هنالك من لا سلطان لك عليهم , لأنهم مزودون بحصانة تمنعهم منك ومن خيلك ورجلك !
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . وكفى بربك وكيلا). .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
فمتى اتصل القلب بالله , واتجه إليه بالعبادة . متى ارتبط بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها . متى أيقظ في روحه النفخة العلوية فأشرقت وأنارت . . فلا سلطان حينئذ للشيطان على ذلك القلب الموصول بالله , وهذا الروح المشرق بنور الإيمان . . (وكفى بربك وكيلا)يعصم وينصر ويبطل كيد الشيطان .
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده , ويستذل عبيده , ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن , فما له عليهم من سلطان .
الدرس الثالث:66 - 69 نعم الله في ركوب البحر وتهديد الكفار بالغرق
ذلك ما يبيته الشيطان للناس من شر وأذى ; ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان , ويستمعون إليه ,
رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)
ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته . والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش , وينجيهم من الضر والكرب , ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق . . ثم إذا هم يعرضون ويكفرون:
(ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله , إنه كان بكم رحيما . وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه , فلما نجاكم إلى البر أعرضتم , وكان الإنسان كفورا). .
والسياق يعرض هذا المشهد , مشهد الفلك في البحر , نموذجا للحظات الشدة والحرج . لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى وأشد حساسية , ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم , تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن .
إنه مشهد يحس به من كابده , ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيرا كان أو كبيرا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار !
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله (إنه كان بكم رحيما)فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان .
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله , فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه: (ضل من تدعون إلا إياه). .
ولكن الإنسان هو الإنسان , فما إن تنجلي الغمرة , وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة , فينسى الله , وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات , وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر: (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا)إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو وهم يعودون إليه في البحر , ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه , لا في البحر ولا في البر ; لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في الملجأ الحصين والمنزل المريح:
(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا , ثم لا تجدوا لكم وكيلا ? أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى , فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم , ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ?).
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة . إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر . فكيف يأمنون ? كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان , أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله ? أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار , فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا يحميهم ويدفع عنهم ?
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة , تقصف الصواري وتحطم السفين , فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم , فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم ?
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا . ثم يأمنوا أخذه وكيده . وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة . كأنها آخر شدة يمكن أن ياخذهم بها الله !
وانطلق الشيطان ينفذ وعيده , ويستذل عبيده , ولكنه لا يجرؤ على عباد الرحمن , فما له عليهم من سلطان .
الدرس الثالث:66 - 69 نعم الله في ركوب البحر وتهديد الكفار بالغرق
ذلك ما يبيته الشيطان للناس من شر وأذى ; ثم يوجد في الناس من يتبعون هذا الشيطان , ويستمعون إليه ,
رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69)
ويعرضون عن نداء الله لهم وهدايته . والله رحيم بهم يعينهم ويهديهم وييسر لهم المعاش , وينجيهم من الضر والكرب , ويستجيب لهم في موقف الشدة والضيق . . ثم إذا هم يعرضون ويكفرون:
(ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله , إنه كان بكم رحيما . وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه , فلما نجاكم إلى البر أعرضتم , وكان الإنسان كفورا). .
والسياق يعرض هذا المشهد , مشهد الفلك في البحر , نموذجا للحظات الشدة والحرج . لأن الشعور بيد الله في الخضم أقوى وأشد حساسية , ونقطة من الخشب أو المعدن تائهة في الخضم , تتقاذفها الأمواج والتيارات والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمن .
إنه مشهد يحس به من كابده , ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك صغيرا كان أو كبيرا حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار !
والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله (إنه كان بكم رحيما)فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان .
ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي . حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله , فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدا سواه: (ضل من تدعون إلا إياه). .
ولكن الإنسان هو الإنسان , فما إن تنجلي الغمرة , وتحس قدماه ثبات الأرض من تحته حتى ينسى لحظة الشدة , فينسى الله , وتتقاذفه الأهواء وتجرفه الشهوات , وتغطي على فطرته التي جلاها الخطر: (فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا)إلا من اتصل قلبه بالله فأشرق واستنار .
وهنا يستجيش السياق وجدان المخاطبين بتصوير الخطر الذي تركوه في البحر وهو يلاحقهم في البر أو وهم يعودون إليه في البحر , ليشعروا أن الأمن والقرار لا يكونان إلا في جوار الله وحماه , لا في البحر ولا في البر ; لا في الموجة الرخية والريح المواتية ولا في الملجأ الحصين والمنزل المريح:
(أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا , ثم لا تجدوا لكم وكيلا ? أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى , فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم , ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ?).
إن البشر في قبضة الله في كل لحظة وفي كل بقعة . إنهم في قبضته في البر كما هم في قبضته في البحر . فكيف يأمنون ? كيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان , أو بغيرهما من الأسباب المسخرة لقدرة الله ? أو يرسل عليهم عاصفة بركانية تقذفهم بالحمم والماء والطين والأحجار , فتهلكهم دون أن يجدوا لهم من دون الله وكيلا يحميهم ويدفع عنهم ?
أم كيف يأمنون أن يردهم الله إلى البحر فيرسل عليهم ريحا قاصفة , تقصف الصواري وتحطم السفين , فيغرقهم بسبب كفرهم وإعراضهم , فلا يجدون من يطالب بعدهم بتبعة إغراقهم ?
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا . ثم يأمنوا أخذه وكيده . وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة . كأنها آخر شدة يمكن أن ياخذهم بها الله !
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
الدرس الرابع:70 تكريم الله لبني البشر
ذلك وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه . كرمه بخلقته على تلك الهيئة , بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة , فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان !
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته ; والتي استأهل بها الخلافة في الأرض , يغير فيها ويبدل , وينتج فيها وينشيء , ويركب فيها ويحلل , ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة .
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك . .
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود , وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شانه تكريم هذا الإنسان !
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض . . القرآن . .
(ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر , ورزقناهم من الطيبات , وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). .
(وحملناهم في البر والبحر)والحمل في البر والبحر يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية وما ركب فيها من استعدادات , ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية لما قامت الحياة الإنسانية , وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر . ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها , ومزود كذلك بالاستعدادات التي تمكنه من استخدامها . وكله من فضل الله .
(ورزقناهم من الطيبات). . والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات التي رزقها إلا حين يحرمها . فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به , ولكنه سرعان ما يعود فينسى . . هذه الشمس . هذا الهواء . هذا الماء . هذه الصحة . هذه القدرة على الحركة . هذه الحواس . هذا العقل . . . هذه المطاعم والمشارب والمشاهد . . . هذا الكون الطويل العريض الذي استخلف فيه , وفيه من الطيبات ما لا يحصيه .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). . فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض . وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذا بين الخلائق في ملك الله . . .
الدرس الخامس:7172 والثواب والعقاب في الاخرة
ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه , محتملا تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا . حرية الاتجاه وفردية التبعة . وبها استخلف في دار العمل . فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب:
يوم ندعو كل أناس بإمامهم . فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته , أو الرسول الذي اقتدت به , أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه , ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة ! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . وأشد ضلالا . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل , أعمى ضالا يتخبط , لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به , ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا , لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ; يؤثر في القلوب !
الوحدة الخامسة:73 - 111 الموضوع:الموقف من القرآن والرسول مقدمة الوحدة هذا الدرس الأخير في سورة الإسراء يقوم على المحور الرئيسي للسورة . شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه . والقرآن الذي جاء به وخصائص هذا القرآن .
وهو يبدأ بالإشارة إلى محاولات المشركين مع الرسول ليفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه , وما هموا به من إخراجه من مكة وعصمة الله له من فتنتهم ومن استفزازهم , لما سبق في علمه تعالى من إمهالهم وعدم أخذهم بعذاب الإبادة كالأمم قبلهم . ولو أخرجوا الرسول لحاق بهم الهلاك وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من الأقوام .
ومن ثم يؤمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يصلي لربه ويقرأ قرآنه ويدعو الله أن يدخله مدخل صدق ويخرجه مخرج صدق ويجعل له سلطانا نصيرا , ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل . فهذا الاتصال بالله هو سلاحه الذي يعصمه من الفتنة ويكفل له النصر والسلطان .
الدرس الخامس:7172 والثواب والعقاب في الاخرة
ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه , محتملا تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانا . حرية الاتجاه وفردية التبعة . وبها استخلف في دار العمل . فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب:
يوم ندعو كل أناس بإمامهم . فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلا . ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . .
وهو مشهد يصور الخلائق محشورة . وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته , أو الرسول الذي اقتدت به , أو الإمام الذي ائتمت به في الحياة الدنيا . تنادي ليسلم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة . . فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاه , ويوفى أجره لا ينقص منه شيئا ولو قدر الخيط الذي يتوسط النواة ! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الهدى فهو في الآخرة أعمى عن طريق الخير . وأشد ضلالا . وجزاؤه معروف . ولكن السياق يرسمه في المشهد المزدحم الهائل , أعمى ضالا يتخبط , لا يجد من يهديه ولا ما يهتدي به , ويدعه كذلك لا يقرر في شأنه أمرا , لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب هو وحده جزاء مرهوب ; يؤثر في القلوب !
الوحدة الخامسة:73 - 111 الموضوع:الموقف من القرآن والرسول مقدمة الوحدة هذا الدرس الأخير في سورة الإسراء يقوم على المحور الرئيسي للسورة . شخص الرسول [ ص ] وموقف القوم منه . والقرآن الذي جاء به وخصائص هذا القرآن .
وهو يبدأ بالإشارة إلى محاولات المشركين مع الرسول ليفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه , وما هموا به من إخراجه من مكة وعصمة الله له من فتنتهم ومن استفزازهم , لما سبق في علمه تعالى من إمهالهم وعدم أخذهم بعذاب الإبادة كالأمم قبلهم . ولو أخرجوا الرسول لحاق بهم الهلاك وفق سنة الله التي لا تتبدل مع الذين يخرجون رسلهم من الأقوام .
ومن ثم يؤمر الرسول [ ص ] أن يمضي في طريقه يصلي لربه ويقرأ قرآنه ويدعو الله أن يدخله مدخل صدق ويخرجه مخرج صدق ويجعل له سلطانا نصيرا , ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل . فهذا الاتصال بالله هو سلاحه الذي يعصمه من الفتنة ويكفل له النصر والسلطان .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
ثم بيان لوظيفة القرآن فهو شفاء ورحمة لمن يؤمنون به , وهو عذاب ونقمة على من يكذبون , فهم في عذاب منه في الدنيا ويلقون العذاب بسببه في الآخرة .
وبمناسبة الرحمة والعذاب يذكر السياق شيئا من صفة الإنسان في حالتي الرحمة والعذاب . فهو في النعمة متبطر معرض , وهو في النقمة يؤوس قنوط . ويعقب على هذا بتهديد خفي بترك كل إنسان يعمل وفق طبيعته حتى يلقى في الآخرة جزاءه .
كذلك يقرر أن علم الإنسان قليل ضئيل . وذلك بمناسبة سؤالهم عن الروح . والروح غيب من غيب الله , ليس في مقدور البشر إدراكه . . والعلم المستيقن هو ما أنزله الله على رسوله . وهو من فضله عليه ولو شاء الله لذهب بهذا الفضل دون معقب , ولكنها رحمة الله وفضله على رسوله .
ثم يذكر أن هذا القرآن المعجز الذي لا يستطيع الإنسان والجن أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا وتظاهروا , والذي صرف الله فيه دلائل الهدى ونوعها لتخاطب كل عقل وكل قلب . . هذا القرآن لم يغن كفار قريش , فراحوا يطلبون إلى الرسول [ ص ] خوارق مادية ساذجة كتفجير الينابيع في الأرض , أو أن يكون له بيت من زخرف ; كما تعنتوا فطلبوا ما ليس من خصائص البشر كأن يرقى الرسول في السماء أمامهم ويأتي إليهم بكتاب مادي يقرأونه , أو يرسل عليهم قطعا من السماء تهلكهم . وزادوا عنتا وكفرا فطلبوا أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلا !
وهنا يعرض السياق مشهدا من مشاهد القيامة يصور فيه عاقبتهم التي تنتظرهم جزاء هذا العنت , وجزاء تكذيبهم بالآخرة , واستنكارهم البعث وقد صاروا عظاما ورفاتا .
ويسخر من اقتراحاتهم المتعنتة , وهم لو كانوا خزنة رحمة الله , لأدركهم الشح البشري فأمسكوا خشية نفاد الخزائن التي لا تنفد ! وهم مع ذلك لا يقفون عند حد فيما يطلبون ويقترحون !
وبمناسبة طلبهم الخوارق يذكرهم بالخوارق التي جاء بها موسى فكذب بها فرعون وقومه فأهلكهم الله حسب سنته في إهلاك المكذبين .
فأما هذا القرآن فهو المعجزة الباقية الحقة . وقد جاء متفرقا حسب حاجة الأمة التي جاء لتربيتها وإعدادها . والذين أوتوا العلم من قبله من مؤمني الأمم السابقة يدركون ما فيه من حق ويذعنون له ويخشعون , ويؤمنون به ويسلمون .
وبمناسبة الرحمة والعذاب يذكر السياق شيئا من صفة الإنسان في حالتي الرحمة والعذاب . فهو في النعمة متبطر معرض , وهو في النقمة يؤوس قنوط . ويعقب على هذا بتهديد خفي بترك كل إنسان يعمل وفق طبيعته حتى يلقى في الآخرة جزاءه .
كذلك يقرر أن علم الإنسان قليل ضئيل . وذلك بمناسبة سؤالهم عن الروح . والروح غيب من غيب الله , ليس في مقدور البشر إدراكه . . والعلم المستيقن هو ما أنزله الله على رسوله . وهو من فضله عليه ولو شاء الله لذهب بهذا الفضل دون معقب , ولكنها رحمة الله وفضله على رسوله .
ثم يذكر أن هذا القرآن المعجز الذي لا يستطيع الإنسان والجن أن يأتوا بمثله ولو اجتمعوا وتظاهروا , والذي صرف الله فيه دلائل الهدى ونوعها لتخاطب كل عقل وكل قلب . . هذا القرآن لم يغن كفار قريش , فراحوا يطلبون إلى الرسول [ ص ] خوارق مادية ساذجة كتفجير الينابيع في الأرض , أو أن يكون له بيت من زخرف ; كما تعنتوا فطلبوا ما ليس من خصائص البشر كأن يرقى الرسول في السماء أمامهم ويأتي إليهم بكتاب مادي يقرأونه , أو يرسل عليهم قطعا من السماء تهلكهم . وزادوا عنتا وكفرا فطلبوا أن يأتيهم بالله والملائكة قبيلا !
وهنا يعرض السياق مشهدا من مشاهد القيامة يصور فيه عاقبتهم التي تنتظرهم جزاء هذا العنت , وجزاء تكذيبهم بالآخرة , واستنكارهم البعث وقد صاروا عظاما ورفاتا .
ويسخر من اقتراحاتهم المتعنتة , وهم لو كانوا خزنة رحمة الله , لأدركهم الشح البشري فأمسكوا خشية نفاد الخزائن التي لا تنفد ! وهم مع ذلك لا يقفون عند حد فيما يطلبون ويقترحون !
وبمناسبة طلبهم الخوارق يذكرهم بالخوارق التي جاء بها موسى فكذب بها فرعون وقومه فأهلكهم الله حسب سنته في إهلاك المكذبين .
فأما هذا القرآن فهو المعجزة الباقية الحقة . وقد جاء متفرقا حسب حاجة الأمة التي جاء لتربيتها وإعدادها . والذين أوتوا العلم من قبله من مؤمني الأمم السابقة يدركون ما فيه من حق ويذعنون له ويخشعون , ويؤمنون به ويسلمون .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75)
وتنتهي السورة بتوجيه الرسول [ ص ] إلى عبادة الله وحده , وإلى تسبيحه وحمده , كما بدأت بالتسبيح والتنزيه . .
الدرس الأول:73 - 77 تثبيت الله لرسوله أمام محاولات الكفار
(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره . وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات , ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها , وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا). .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول [ ص ] وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه , ليفتري عليه غيره , وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء . . .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها , ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق , وعصمته من الفتنة , ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين , وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات , دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله , هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا - ولو قليلا - عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغزونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا , فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية , إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة , فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير , وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل , لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء !
وتنتهي السورة بتوجيه الرسول [ ص ] إلى عبادة الله وحده , وإلى تسبيحه وحمده , كما بدأت بالتسبيح والتنزيه . .
الدرس الأول:73 - 77 تثبيت الله لرسوله أمام محاولات الكفار
(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره . وإذا لاتخذوك خليلا . ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا . إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات , ثم لا تجد لك علينا نصيرا . وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها , وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا . سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا). .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول [ ص ] وأولها محاولة فتنته عما أوحى الله إليه , ليفتري عليه غيره , وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى . . منها مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم . ومنها مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراما كالبيت العتيق الذي حرمه الله . ومنها طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس الفقراء . . .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصلها , ليذكر فضل الله على الرسول في تثبيته على الحق , وعصمته من الفتنة , ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلا . وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين , وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات , دون أن يجد له نصيرا منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله , هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا - ولو قليلا - عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحلول الوسط التي يغزونهم بها في مقابل مغانم كثيرة . ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا , فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية , إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق . وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة , فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها !
ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق . وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير , وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل , لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء !
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر , والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل , لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر . وليس فيها فاضل ومفضول . وليس فيها ضروري ونافلة . وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه , وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه . كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم , وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة , وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها ; هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة , فلن تنقلب الهزيمة نصرا !
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)
لذلك امتن الله على رسوله [ ص ] أن ثبته على ما أوحى الله , وعصمه من فتنة المشركين له , ووقاه الركون إليهم - ولو قليلا - ورحمه من عاقبة هذا الركون , وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا , وفقدان المعين والنصير .
وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول [ ص ] إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض - أي مكة - ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا , لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة . ولو أخرجوا الرسول [ ص ] عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا)فهذه هي سنة الله النافذةسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا , ولا تجد لسنتنا تحويلا).
ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول , لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم . وهذا الكون تصرفه سنن مطردة , لا تتحول أمام اعتبار فردي . وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون , إنما هي السنن المطردة الثابتة . فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل , لحكمة علوية , لم يرسل الرسول بالخوارق , ولم يقدر أن يخرجوه عنوة , بل أوحى إليه بالهجرة . ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول . .
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات . فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم , وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة , وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها !
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفها ; هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة . والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم . ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة , فلن تنقلب الهزيمة نصرا !
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)
لذلك امتن الله على رسوله [ ص ] أن ثبته على ما أوحى الله , وعصمه من فتنة المشركين له , ووقاه الركون إليهم - ولو قليلا - ورحمه من عاقبة هذا الركون , وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفا , وفقدان المعين والنصير .
وعندما عجز المشركون عن استدراج الرسول [ ص ] إلى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الأرض - أي مكة - ولكن الله أوحى إليه أن يخرج هو مهاجرا , لما سبق في علمه من عدم إهلاك قريش بالإبادة . ولو أخرجوا الرسول [ ص ] عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك (وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا)فهذه هي سنة الله النافذةسنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا , ولا تجد لسنتنا تحويلا).
ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول , لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم . وهذا الكون تصرفه سنن مطردة , لا تتحول أمام اعتبار فردي . وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون , إنما هي السنن المطردة الثابتة . فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل , لحكمة علوية , لم يرسل الرسول بالخوارق , ولم يقدر أن يخرجوه عنوة , بل أوحى إليه بالهجرة . ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول . .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
الدرس الثاني:78 - 81 توجيه إلى الصلوات والزاد للثبات
بعد ذلك يوجه الله رسوله [ ص ] إلى الاتصال به , واستمداد العون منه , والمضي في طريقه , يعلن انتصار الحق وزهوق الباطل:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل , وقرآن الفجر , إن قرآن الفجر كان مشهودا ; ومن الليل فتهجد به نافلة لك , عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا , وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا . وقل:جاء الحق وزهق الباطل , إن الباطل كان زهوقا . وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين , ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). .
ودلوك الشمس هو ميلها إلى المغيب . والأمر هنا للرسول [ ص ] خاصة . أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول [ ص ] وتواترت بها سنته العملية . وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء , والغسق بأول الليل , وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر , وأخذ من هذا أوقات الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء - من دلوك الشمس إلى الغسق - ثم الفجر . وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأمورا به , وأنه نافلة له . ونحن نميل إلى الرأي الأول . وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول [ ص ] وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية .
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل). . أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه ; واقرأ قرآن الفجر (إن قرآن الفجر كان مشهودا). . ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل . وإدبار الليل وإقبال النهار . ولهما وقعهما العميق في النفس , فإن مقدم الليل وزحف الظلام , كمطلع النور وانكشاف الظلمة . . كلاهما يخشع فيه القلب , وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة . وللقرآن - كما للصلاة - إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته , ونسماته الرخية , وهدوئه السارب , وتفتحه بالنور , ونبضه بالحركة , وتنفسه بالحياة .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك). . والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل . والضمير في(به)عائد على القرآن , لأنه روح الصلاة وقوامها .
بعد ذلك يوجه الله رسوله [ ص ] إلى الاتصال به , واستمداد العون منه , والمضي في طريقه , يعلن انتصار الحق وزهوق الباطل:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل , وقرآن الفجر , إن قرآن الفجر كان مشهودا ; ومن الليل فتهجد به نافلة لك , عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا , وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا . وقل:جاء الحق وزهق الباطل , إن الباطل كان زهوقا . وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين , ولا يزيد الظالمين إلا خسارا). .
ودلوك الشمس هو ميلها إلى المغيب . والأمر هنا للرسول [ ص ] خاصة . أما الصلاة المكتوبة فلها أوقاتها التي تواترت بها أحاديث الرسول [ ص ] وتواترت بها سنته العملية . وقد فسر بعضهم دلوك الشمس بزوالها عن كبد السماء , والغسق بأول الليل , وفسر قرآن الفجر بصلاة الفجر , وأخذ من هذا أوقات الصلاة المكتوبة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء - من دلوك الشمس إلى الغسق - ثم الفجر . وجعل التهجد وحده هو الذي اختص رسول الله بأن يكون مأمورا به , وأنه نافلة له . ونحن نميل إلى الرأي الأول . وهو أن كل ما ورد في هذه الآيات مختص بالرسول [ ص ] وأن أوقات الصلاة المكتوبة ثابتة بالسنة القولية والعملية .
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل). . أقم الصلاة ما بين ميل الشمس للغروب وإقبال الليل وظلامه ; واقرأ قرآن الفجر (إن قرآن الفجر كان مشهودا). . ولهذين الآنين خاصيتهما وهما إدبار النهار وإقبال الليل . وإدبار الليل وإقبال النهار . ولهما وقعهما العميق في النفس , فإن مقدم الليل وزحف الظلام , كمطلع النور وانكشاف الظلمة . . كلاهما يخشع فيه القلب , وكلاهما مجال للتأمل والتفكر في نواميس الكون التي لا تفتر لحظة ولا تختل مرة . وللقرآن - كما للصلاة - إيقاعه في الحس في مطلع الفجر ونداوته , ونسماته الرخية , وهدوئه السارب , وتفتحه بالنور , ونبضه بالحركة , وتنفسه بالحياة .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك). . والتهجد الصلاة بعد نومة أول الليل . والضمير في(به)عائد على القرآن , لأنه روح الصلاة وقوامها .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا). . بهذه الصلاة وبهذا القرآن والتهجد به , وبهذه الصلة الدائمة بالله . فهذا هو الطريق المؤدي إلى المقام المحمود وإذا كان الرسول [ ص ] يؤمر بالصلاة والتهجد والقرآن ليبعثه ربه المقام المحمود المأذون له به , وهو المصطفى المختار , فما أحوج الآخرين إلى هذه الوسائل لينالوا المقام المأذون لهم به في درجاتهم . فهذا هو الطريق . وهذا هو زاد الطريق .
(وقل:رب أدخلني مدخل صدق . وأخرجني مخرج صدق , واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا).
وهو دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به . ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه . دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج , كناية عن صدق الرحلة كلها . بدئها وختامها . أولها وآخرها وما بين الأول والآخر . وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزل الله عليه ليفتري على الله غيره . وللصدق كذلك ظلاله:ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص . (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا)قوة وهيبة استعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين وكلمة (من لدنك)تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه .
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله . ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله . لا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلي الله . والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه , فيصبحون لها جندا وخدما فيفلحون , ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه , فهي من أمر الله , وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه .
(وقل:جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). .
بهذا السلطان المستمد من الله , أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته , وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه . فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت , ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق . .
(إن الباطل كان زهوقا). . حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد . وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش , لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ; ومن ثم يحاول أن يموه على العين , وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا , ولكنه هش سريع العطب , كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد ; بينما الجمرة الذاكية تدفى ء وتنفع وتبقى ; وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .
(إن الباطل كان زهوقا). . لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته , إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ; فإذا تخلخلت تلك العوامل , ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان . . ولكن ثباته
(وقل:رب أدخلني مدخل صدق . وأخرجني مخرج صدق , واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا).
وهو دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به . ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وفيم تتجه إليه . دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج , كناية عن صدق الرحلة كلها . بدئها وختامها . أولها وآخرها وما بين الأول والآخر . وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزل الله عليه ليفتري على الله غيره . وللصدق كذلك ظلاله:ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص . (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا)قوة وهيبة استعلي بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين وكلمة (من لدنك)تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه .
وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله . ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله . لا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلي الله . والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه , فيصبحون لها جندا وخدما فيفلحون , ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه , فهي من أمر الله , وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه .
(وقل:جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). .
بهذا السلطان المستمد من الله , أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته , وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه . فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت , ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق . .
(إن الباطل كان زهوقا). . حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد . وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش , لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ; ومن ثم يحاول أن يموه على العين , وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا , ولكنه هش سريع العطب , كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد ; بينما الجمرة الذاكية تدفى ء وتنفع وتبقى ; وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .
(إن الباطل كان زهوقا). . لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته , إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ; فإذا تخلخلت تلك العوامل , ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان . . ولكن ثباته
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء , لأنه من عند الله الذي جعل(الحق)من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول .
(إن الباطل كان زهوقا). . ومن ورائه الشيطان , ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق , وسلطان
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84)
الله أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان , إلا وذاق معه حلاوة الوعد , وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله ? ومن أصدق من الله حديثا ?
الدرس الثالث:82 القرآن شفاء
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين). .
وفي القرآن شفاء , وفي القرآن رحمة , لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان , فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح , وطمأنينة وأمان .
في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة . فهو يصل القلب بالله , فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن ; ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة ; والقلق مرض , والحيرة نصب , والوسوسة داء . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزعات الشيطان . . وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب , وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير . فهو يعصم العقل من الشطط , ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة , ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي , ويأخذه بمنهج سليم مضبوط , يجعل نشاطه منتجا ومأمونا . ويعصمه من الشطط والزلل . وكذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليما معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
(إن الباطل كان زهوقا). . ومن ورائه الشيطان , ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق , وسلطان
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84)
الله أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان , إلا وذاق معه حلاوة الوعد , وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله ? ومن أصدق من الله حديثا ?
الدرس الثالث:82 القرآن شفاء
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين). .
وفي القرآن شفاء , وفي القرآن رحمة , لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان , فأشرقت وتفتحت لتلقي ما في القرآن من روح , وطمأنينة وأمان .
في القرآن شفاء من الوسوسة والقلق والحيرة . فهو يصل القلب بالله , فيسكن ويطمئن ويستشعر الحماية والأمن ; ويرضى فيستروح الرضى من الله والرضى عن الحياة ; والقلق مرض , والحيرة نصب , والوسوسة داء . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الهوى والدنس والطمع والحسد ونزعات الشيطان . . وهي من آفات القلب تصيبه بالمرض والضعف والتعب , وتدفع به إلى التحطم والبلى والانهيار . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلة في الشعور والتفكير . فهو يعصم العقل من الشطط , ويطلق له الحرية في مجالاته المثمرة , ويكفه عن إنفاق طاقته فيما لا يجدي , ويأخذه بمنهج سليم مضبوط , يجعل نشاطه منتجا ومأمونا . ويعصمه من الشطط والزلل . وكذلك هو في عالم الجسد ينفق طاقاته في اعتدال بلا كبت ولا شطط فيحفظه سليما معافى ويدخر طاقاته للإنتاج المثمر . ومن ثم هو رحمة للمؤمنين .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» فى ظلال القرأن الجزء الأول سورة إبراهيم
» فى ظلال القرأن - صورة الأاحقاف - للسيد قطب
» فى ظلال القرأن - للسيد صادق - صورة الأحزاب
» في ظلال سورة التوبة
» تابع مفاتيح تدبر القرأن
» فى ظلال القرأن - صورة الأاحقاف - للسيد قطب
» فى ظلال القرأن - للسيد صادق - صورة الأحزاب
» في ظلال سورة التوبة
» تابع مفاتيح تدبر القرأن
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى