مدح الكتب - للجاحظ
صفحة 1 من اصل 1
مدح الكتب - للجاحظ
ثم لم أرَكَ رضِيتَ بالطعن على كلِّ كتاب لي بعينه، حتَّى تجاوزتَ ذلك إلى أَنْ عبت وضْعَ الكتبِ كيفما دارت بها الحالُ، وكيفَ تصرفَتْ بها الوجوه، وقد كنتُ أعجَب من عيبك البعضَ بلا علم، حتَّى عِبتَ الكلَّ بلا علْم، ثم تجاوزْت ذلك إلى التشنيع، ثم تجاوزتَ ذلك إلى نصب الحربِ فعبتَ الكِتَابَ؛ ونعم الذخر والعُقدة هو، ونعم الجليس والعُدَّة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفةُ ببلاد الغربة ونعم القرين والدخِيل، ونعم الوزير والنزيل، والكتاب وعاءٌ مُلِئَ علماً، وَظَرْفٌ حُشِي ظَرْفاً، وإناءٌ شُحِن مُزَاحاً وجِدّاً؛ إِنْ شئتَ كان أبيَنَ من سَحْبانِ وائل، وإن شئت كان أعيا من باقِل، وإن شئتَ ضَحِكْتَ مِنْ نوادِرِهِ، وإن شئتَ عَجِبتَ من غرائبِ فرائِده، وإن شئتَ ألهتْك طرائفُه، وإن شئتَ أشجَتْك مواعِظُه، وَمَنْ لَكَ بِوَاعِظٍ مُلْهٍ، وبزاجرٍ مُغرٍ، وبناسكٍ فاتِك، وبناطقٍ أخرسَ، وبباردِ حارّ، وفي البارد الحارِّ يقولُ الحسنُ بن هانئ:
ومَنْ لكَ بطبيب أَعرابيّ، وَمَنْ لَكَ برُوميٍّ هِنْدِيّ، وبفارسي يُونَانيّ، وبقَدِيمٍ مولَّد، وبميِّتٍ ممتَّع، وَمَنْ لَكَ بشيءٍ يَجْمَعُ لَكَ الأَوَّلَ والآخِر، والناقص والوافر، والخفيَّ والظاهر، والشاهدََ والغائبَ، والرفيعَ والوضيع، والغَثَّ والسمين، والشِّكْلَ وخِلافَه، والجِنسَ وضدَّه.
وبعد: فمتى رأيتَ بستاناً يُحمَل في رُدْن، ورَوضةً تُقَلُّ في حِجْرٍ، وناطقاً ينطِق عن الموتَى، ويُترجمُ عن الأحياء وَمَنْ لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومِك، ولا ينطق إلاّ بما تهوَى؛ آمَنُ مِنَ الأرض، وأكتمُ للسرِّ من صاحب السرِّ، وأحفَظُ للوديعةِ من أرباب الوديعة، وأحفَظ لما استُحْفِظَ من الآدميِّين، ومن الأعْرَابِ المعرِبين، بل مِنَ الصِّبيانِ قبلَ اعتراضِ الاشتغال، ومن العُميانِ قبلَ التمتُّع بتمييز الأشخاص، حينَ العنايةُ تامَّةٌ لم تنقص، والأذهانُ فارغةٌ لم تنقَسِم، والإرادَةُ وافرةٌ لم تتشعَّب، والطِّينَةُ ليِّنة، فهي أقبلُ ما تكون للطبائعِ، والقضيبُ رطبٌ، فهو أقربُ ما يكون من العُلوق، حينَ هذه
أَقْليِلْ أَوَ أَكْثِر فَأَنْتَ مِهْـذَارُ | قُلْ لزُهير إذا انتَحـى وشـدا | |
تَّى صِرْتَ عِنْدِي كَأَنَّكَ النارُ | سَخُنْتَ مِنْ شِدِّةِ الـبُـرُودَةِ ح | |
كذلك الثـلـجُ بـارِدٌ حـارُ | لاَ يَعجَبِ السامعُون مِنْ صِفَتِي |
وبعد: فمتى رأيتَ بستاناً يُحمَل في رُدْن، ورَوضةً تُقَلُّ في حِجْرٍ، وناطقاً ينطِق عن الموتَى، ويُترجمُ عن الأحياء وَمَنْ لك بمؤنس لا ينام إلاّ بنومِك، ولا ينطق إلاّ بما تهوَى؛ آمَنُ مِنَ الأرض، وأكتمُ للسرِّ من صاحب السرِّ، وأحفَظُ للوديعةِ من أرباب الوديعة، وأحفَظ لما استُحْفِظَ من الآدميِّين، ومن الأعْرَابِ المعرِبين، بل مِنَ الصِّبيانِ قبلَ اعتراضِ الاشتغال، ومن العُميانِ قبلَ التمتُّع بتمييز الأشخاص، حينَ العنايةُ تامَّةٌ لم تنقص، والأذهانُ فارغةٌ لم تنقَسِم، والإرادَةُ وافرةٌ لم تتشعَّب، والطِّينَةُ ليِّنة، فهي أقبلُ ما تكون للطبائعِ، والقضيبُ رطبٌ، فهو أقربُ ما يكون من العُلوق، حينَ هذه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45424
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: مدح الكتب - للجاحظ
الخصالُ لم يَخْلُق جديدُها، ولم يُوهَنْ غَرْبُهَا، ولم تتفرَّق قُواها، وكانت كما قال الشاعر:
وقال عَبْدة بن الطَّبِيب:
ومن كلامهم: التعلُّمُ في الصِّغَر كالنقشِ في الحجر، وقد قال جِرَانُ العَودِ:
وقال آخر، وهو صالحُ بن عبد القُدُّوس:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقد قالَ ذو الرُّمَّةِ لعيسى بن عمر: اكتبْ شِعري؛ فالكتابُ أحبُّ إليَّ من الحفظ، لأنّ الأعرابيَّ ينسى الكلمةَ وقد سهر في طلبها ليلَته، فيضَعُ في موضعها كلمةً في وزنها، ثم يُنشِدها الناسَ، والكتاب لا يَنْسَى ولا يُبدِّلُ كلاماً بكلام.
وعبتَ الكتابَ، ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ، ولا خَليطاً أنصفَ، ولا رفيقاً أطوعَ، ولا معلِّماً أخضعَ، ولا صاحباً أظهرَ كفايةً، ولا أقلَّ جِنَايَةً، ولا أقلَّ إمْلالاً وإبراماً، ولا أحفَلَ أخلاقاً، ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً، ولا أقلَّ غِيبةً، ولا أبعدَ من عَضِيهة، ولا أكثرَ أعجوبةً وتصرُّفاً، ولا أقلَّ تصلُّفاً وتكلُّفاً، ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ، ولا أتْرَك لشَغَب، ولا أزهَدَ في جدالٍ، ولا أكفَّ عن قتالٍ، من كتاب، ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاةً، ولا أعجَل مكافأة، ولا أحضَرَ مَعُونةً، ولا أخفَّ مؤونة، ولا شجرةً أطولَ عمراً، ولا أجمعَ أمراً، ولا أطيَبَ ثمرةً، ولا أقرَبَ مُجتَنى، ولا أسرَعَ إدراكاً، ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ، من كتاب، ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه، ورُخْص ثمنه، وإمكانِ وُجوده، يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحة، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة، ومِنَ الحِكَم الرفيعة،
فصادف قلباً خالياً فتـمـكّـنـا | أتانِي هواها قبل أَنْ أَعرِفَ الهَوى |
وقال عَبْدة بن الطَّبِيب:
بَيْنَ القوابِلِ بالعَدَاوةِ يُنْشَعُ | لا تأمَنوا قوماً يَشِبُّ صبيُّهم |
ومن كلامهم: التعلُّمُ في الصِّغَر كالنقشِ في الحجر، وقد قال جِرَانُ العَودِ:
تنكّرتِ الديارُ على البَصيرِ | تُركْنَ برجلة الروحاء حتَّـى | |
بأَيْدِي الرُّومِ بَاقِيَةِ النَّـؤُور | كَوَحْيٍ في الحِجارةِ أو وُشُومٍ |
وقال آخر، وهو صالحُ بن عبد القُدُّوس:
كالعُود يُسْقَى الماءَ في غَرْسِهِ | وإنّ مَن أدَّبته في الـصِّـبَـى | |
بعدَ الذي قد كان في يُبْـسِـهِ | حَتَّى تُرَاهُ مُورِقـاً نـاضِـراً |
وقال آخر:
ولا يَنْفَعُ التأديبُ والرأسُ أشيَبُ | يُقَوِّمُ مِنْ مَيلِ الغُلامِ الـمـؤدِّبُ |
وقال آخر:
وَمِنَ العَنَاءِ رِياضَةُ الهَـرمِ | وَتَلُومُ عِرْسَكَ بَعْدَ ما هَرِمَتْ |
وعبتَ الكتابَ، ولا أعلَمُ جاراً أبرَّ، ولا خَليطاً أنصفَ، ولا رفيقاً أطوعَ، ولا معلِّماً أخضعَ، ولا صاحباً أظهرَ كفايةً، ولا أقلَّ جِنَايَةً، ولا أقلَّ إمْلالاً وإبراماً، ولا أحفَلَ أخلاقاً، ولا أقلَّ خِلافاً وإجراماً، ولا أقلَّ غِيبةً، ولا أبعدَ من عَضِيهة، ولا أكثرَ أعجوبةً وتصرُّفاً، ولا أقلَّ تصلُّفاً وتكلُّفاً، ولا أبعَدَ مِن مِراءٍ، ولا أتْرَك لشَغَب، ولا أزهَدَ في جدالٍ، ولا أكفَّ عن قتالٍ، من كتاب، ولا أعلَمُ قريناً أحسنَ موَافاةً، ولا أعجَل مكافأة، ولا أحضَرَ مَعُونةً، ولا أخفَّ مؤونة، ولا شجرةً أطولَ عمراً، ولا أجمعَ أمراً، ولا أطيَبَ ثمرةً، ولا أقرَبَ مُجتَنى، ولا أسرَعَ إدراكاً، ولا أوجَدَ في كلّ إبَّانٍ، من كتاب، ولا أعلَمُ نِتاجاً في حَدَاثةِ سنِّه وقُرْب ميلادِه، ورُخْص ثمنه، وإمكانِ وُجوده، يجمَعُ من التدابيرِ العجيبَة والعلومِ الغريبة، ومن آثارِ العقولِ الصحيحة، ومحمودِ الأذهانِ اللطيفة، ومِنَ الحِكَم الرفيعة،
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45424
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: مدح الكتب - للجاحظ
والمذاهب القوِيمة، والتجارِبِ الحكيمة، ومِنَ الإخبارِ عن القرون الماضية، والبلادِ المتنازِحة، والأمثالِ السائرة، والأمم البائدة، ما يجمَعُ لك الكتابُ، قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه عليه الصلاة والسلام )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ( فَوَصَفَ نَفْسَهُ، تبارك وتعالى، بأنْ علَّمَ بالقَلم، كما وصف نفسَه بالكرَم، واعتدَّ بذلك في نِعَمه العِظام، وفي أيادِيه الجِسام، وقد قالوا: القَلَمُ أحدُ اللسانَين، وقالوا: كلُّ مَنْ عَرَف النِّعمةَ في بَيان اللسانِ، كان بفضل النِّعمة في بيانِ القلم أعرَف، ثمَّ جَعَلَ هذا الأمرَ قرآناً، ثمَّ جعلَه في أوَّل التنزيل ومستَفْتَح الكتاب.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45424
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
مواضيع مماثلة
» ما ينبغي أن تكون عليه لغة الكتب - للجاحظ
» جمع الكتب وفضلها - للجاحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــظ
» أفضل الكتب - للجاحـــــــــــــــــــــــــظ
» مشقة تصحيح الكتب - للجــــــــــــــــــــــــاحظ
» بين أنصار الكتب وأنصار الشعر - للجــــــــــــــــــــــــــــاحــــــــــــــظ
» جمع الكتب وفضلها - للجاحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــظ
» أفضل الكتب - للجاحـــــــــــــــــــــــــظ
» مشقة تصحيح الكتب - للجــــــــــــــــــــــــاحظ
» بين أنصار الكتب وأنصار الشعر - للجــــــــــــــــــــــــــــاحــــــــــــــظ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى