alnazer
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

صفحة 2 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:04 pm

إلا ظناً ! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها . وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدلها أو تغيرها !
على أنه - على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور - ليس هناك ما يمنع من وجود "أنواع" من الحيوان في أزمان متوالية بعضها أرقى من بعض ; بفعل الظروف السائدة في الأرض , ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة حياتها , ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة . ولكن هذا لا "يحتم" أن يكون بعضها "متطوراً" من بعض . . وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا . . لا تستطيع أن تثبت - في يقين مقطوع به - أن هذا النوع تطور تطورا عضويا من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية - وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها - ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعاً أرقى من النوع الذي قبله زمنياً . . وهذا يمكن تعليله كما قلنا . . بأن الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع . فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر فنشأ . ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشاً من قبل في الظروف الأخرى فانقرض .
وعندئذ تكون نشأة النوع الإنساني نشأة مستقلة , في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع , وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية .
وتفرد "الإنسان" من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية . هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون - وفيهم الملحدون بالله كلية - للاعتراف به , دليل مرجح على تفرد النشأة الإنسانية , وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي !
على أية حال لقد أعلن الله بذاته العلية الجليلة ميلاد هذا الكائن الإنساني ; في حفل حافل من الملأ الأعلى:
(ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم . فسجدوا . إلا إبليس لم يكن من الساجدين). .
والملائكة خلق آخر من خلق الله لهم خصائصهم ووظائفهم ; لا نعلم عنهم إلا ما أنبأنا الله من أمرهم - وقد أجملنا ما علمنا الله من أمرهم في موضع سابق من هذه الظلال - وكذلك إبليس فهو خلق غير الملائكة . لقوله تعالى: إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه . . والجن خلق غير الملائكة , لا نعلم عنه كذلك إلا ما نبأنا الله من أمره - وقد أجملنا ما أنبأنا الله به من أمرهم في موضع من هذا الجزء أيضاً - وسيأتي في هذه السورة أن إبليس خلق من نار . فهو من غير الملائكة قطعاً . وإن كان قد أمر بالسجود لآدم في زمرة الملائكة . في ذلك الحفل العظيم الذي أعلن فيه الملك الجليل , ميلاد هذا الكائن الفريد . .
فأما الملائكة - وهم الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون - فقد سجدوا مطيعين منفذين لأمر الله , لا يترددون ولا يستكبرون ولا يفكرون في معصية لأي سبب ولأي تصور ولأي تفكير . . هذه طبيعتهم , وهذه خصائصهم:وهذه وظيفتهم . . وإلى هنا تتمثل كرامة هذا الكائن الإنساني على الله , كما تتمثل الطاعة المطلقة في ذلك الخلق المسمى بالملائكة من عباد الله .
وأما إبليس فقد امتنع عن تنفيذ أمر الله - سبحانه - وعصاه . وسنعلم:ما الذي حاك في صدره , وما التصور


قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15)
الذي سيطر عليه فمنعه من طاعة ربه . وهو يعرف أنه ربه وخالقه , ومالك أمره وأمر الوجود كله ; لا يشك في شيء من هذا كله !
وكذلك نجد في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله:نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق . ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت . . وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية . وسنعلم خصائصها وصفاتها المزدوجة فيما سيجيء . فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله , وقد انتهى دورها في هذا الموقف بهذا التسليم المطلق . وأما الطبيعتان الأخريان , فسنعرف كيف تتجهان .
(قال:ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ? قال:أنا خير منه , خلقتني من نار , وخلقته من طين).
لقد جعل إبليس له رأيا مع النص . وجعل لنفسه حقا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر . . وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر , ويبطل التفكر ; وتتعين الطاعة , ويتحتم التنفيذ . . وهذا إبليس - لعنه الله - لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر الذي لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذنه وقدره . . ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه . . بمنطق من عند نفسه:
(قال:أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين). .
فكان الجزاء العاجل الذي تلقاه لتوه:
(قال:فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها , فاخرج إنك من الصاغرين). .
إن علمه بالله لم ينفعه , واعتقاده بوجوده وصفاته لم ينفعه . . وكذلك كل من يتلقى أمر الله ; ثم يجعل لنفسه نظراً في هذا الأمر يترتب عليه قبوله أو رفضه ; وحاكمية في قضية قضى الله فيها من قبل ; يرد بها قضاء الله في هذه القضية . . إنه الكفر إذن مع العلم ومع الاعتقاد . فإبليس لم يكن ينقصه العلم ; ولم يكن ينقصه الاعتقاد !
لقد طرد من الجنة , وطرد من رحمة الله , وحقت عليه اللعنة , وكتب عليه الصغار .
ولكن الشرير العنيد لا ينسى أن آدم هو سبب الطرد والغضب ; ولا يستسلم لمصيره البائس دون أن ينتقم . ثم ليؤدي وظيفته وفق طبيعة الشر التي تمحضت فيه:
(قال:أنظرني إلى يوم يبعثون . قال:إنك من المنظرين . قال:فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم , وعن أيمانهم وعن شمائلهم , ولا تجد أكثرهم شاكرين). . فهو الإصرار المطلق على الشر , والتصميم المطلق على الغواية . . وبذلك تتكشف هذه الطبيعة عن خصائصها الأولى . . شر ليس عارضاً ولا وقتياً . إنما هو الشر الأصيل العامد القاصد العنيد . .
ثم هو التصوير المشخص للمعاني العقلية والحركات النفسية , في مشاهد شاخصة حية:
لقد سأل إبليس ربه أن ينظره إلى يوم البعث . وهو يعلم أن هذا الذي يطلبه لا يقع إلاّ بإرادة الله وقدره . ولقد أجابه الله إلى طلبه في الإنظار , ولكن إلى (يوم الوقت المعلوم)كما جاء في السورة الأخرى . وقد وردت الروايات:أنه يوم النفخة الأولى التي يصعق فيها من في السماوات والأرض - إلا من شاء الله - لا يوم يبعثون . .
وهنا يعلن إبليس في تبجح خبيث - وقد حصل على قضاء بالبقاء الطويل - أنه سيرد على تقدير الله له الغواية


قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
وإنزالها به , بسبب معصيته وتبجحه ; بأن يغوي ذلك المخلوق الذي كرمه الله , والذي بسببه كانت مأساة إبليس ولعنه وطرده ! ويجسم هذا الإغواء بقوله الذي حكاه القرآن عنه:
(. . . لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم , وعن أيمانهم وعن شمائلهم). .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:05 pm

إنه سيقعد لآدم وذريته على صراط الله المستقيم , يصد عنه كل من يهم منهم باجتيازه - والطريق إلى الله لا يمكن أن يكون حساً , فالله سبحانه جل عن التحيز , فهو إذن طريق الإيمان والطاعات المؤدي إلى رضى الله - وإنه سيأتي البشر من كل جهة: (من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم). . للحيلولة بينهم وبين الإيمان والطاعة . . وهو مشهد حي شاخص متحرك لإطباق إبليس على البشر في محاولته الدائبة لإغوائهم , فلا يعرفون الله ولا يشكرونه , اللهم إلا القليل الذي يفلت ويستجيب:
(ولا تجد أكثرهم شاكرين). .
ويجيء ذكر الشكر , تنسيقا مع ما سبق في مطلع السورة: (قليلاً ما تشكرون). . لبيان السبب في قلة الشكر ; وكشف الدافع الحقيقي الخفي , من حيلولة إبليس دونه , وقعوده على الطريق إليه ! ليستيقظ البشر للعدو الكامن الذي يدفعهم عن الهدى ; وليأخذوا حذرهم حين يعرفون من أين هذه الآفة التي لا تجعل أكثرهم شاكرين !
لقد أجيب إبليس إلى ملتمسه . لأن مشيئة الله - سبحانه - اقتضت أن يترك الكائن البشري يشق طريقه ; بما ركب في فطرته من استعداد للخير والشر ; وبما وهبه من عقل مرجح ; وبما أمده من التذكير والتحذير على أيدي الرسل ; ومن الضبط والتقويم بهذا الدين . كما اقتضت أن يتلقى الهداية والغواية ; وأن يصطرع في كيانه الخير والشر ; وأن ينتهي إلى إحدى النهايتين , فتحق عليه سنة الله وتتحقق مشيئته بالابتلاء , سواء اهتدى أو ضل , فعلى سنة الله الجارية وفق مشيئته الطليقة , تحقق الهدى أو الضلال .
ولكن السياق هنا لا يصرح بترخيص الله - سبحانه - لإبليس - عليه اللعنة - في إيعاده هذا الأخير , كما صرح بإجابته في إنظاره . إنما يسكت عنه , ويعلن طرد إبليس طرداً لا معقب عليه . طرده مذموماً مقهوراً , وإبعاده بملء جهنم منه وممن يتبعه من البشر ويضل معه:
(قال:اخرج منها مذؤوماً مدحوراً . لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين). .
ومن يتبعه من البشر قد يتبعه في معرفته بالله واعتقاده بألوهيته , ثم في رفض حاكمية الله وقضائه , وادعاء أن له الحق في إعادة النظر في أوامر الله , وفي تحكيم منطقه هو في تنفيذها أو عدم تنفيذها . . كما أنه قد يتبعه ليضله عن الاهتداء إلى الله أصلا ً . . وهذا وذلك كلاهما اتباع للشيطان ; جزاؤه جهنم مع الشيطان !
لقد جعل الله - سبحانه - لإبليس وقبيله فرصة الإغواء . وجعل لآدم وذريته فرصة الاختيار تحقيقاً للابتلاء , الذي قضت مشيئته أن تأخذ به هذا الكائن ; وتجعله به خلقاً متفرداً في خصائصه , لا هو ملك ولا هو شيطان . لأن له دورا آخر في هذا الكون , ليس هو دور الملك ولا هو دور الشيطان .
الدرس الثالث:19 - 25 نجاح الشيطان في إغواء آدم وحواء والهبوط على الأرض
وينتهي هذا المشهد , ليتلوه مشهد آخر في السياق:
ينظر الله - سبحانه - بعد طرد إبليس من الجنة هذه الطردة - إلى آدم وزوجه . . وهنا فقط نعرف أن له زوجا من جنسه , لاندري كيف جاءت . فالنص الذي معنا وأمثاله في القرآن الكريم لا تتحدث عن هذا


وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
الغيب بشيء . وكل الروايات التي جاءت عن خلقها من ضلعه مشوبة بالإسرائيليات لا نملك أن نعتمد عليها , والذي يمكن الجزم به هو فحسب أن الله خلق له زوجاً من جنسه , فصارا زوجين اثنين ; والسنة التي نعلمها عن كل خلق الله هي الزوجيةSadومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). . فهي سنة جارية وهي قاعدة في كل خلق الله أصيلة . وإذا سرنا مع هذه السنة فإن لنا أن نرجح أن خلق حواء لم يمكث طويلاً بعد خلق آدم , وأنه تم على نفس الطريقة التي تم بها خلق آدم . .
على أية حال يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه , ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما ; ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي , الذي خلق الله له هذا الكائن . وهو دور الخلافة في الأرض - كما صرح بذلك في آية البقرة: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة). .
(ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة , فكلا من حيث شئتما , ولا تقربا هذه الشجرة , فتكونا من الظالمين). .
ويسكت القرآن عن تحديد (هذه الشجرة). لأن تحديد جنسها لا يريد شيئاً في حكمة حظرها . مما يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود . . لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال , ووصاهما بالامتناع عن المحظور . ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد ; وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ; ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات , فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان , فهذه هي خاصية "الانسان" التي يفترق بها عن الحيوان , ويتحقق بها فيه معنى "الإنسان" .
والآن يبدأ إبليس يؤدي دوره الذي تمحض له . .
إن هذا الكائن المتفرد ; الذي كرمه الله كل هذا التكريم ; والذي أعلن ميلاده في الملأ الأعلى في ذلك الحفل المهيب ; والذي أسجد له الملائكة فسجدوا ; والذي أخرج بسببه إبليس من الجنة وطرده من الملأ الأعلى . . إن هذا الكائن مزدوج الطبيعة ; مستعد للاتجاهين على السواء . وفيه نقط ضعف معينة يقاد منها - ما لم
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:05 pm

يلتزم بأمر الله فيها - ومن هذه النقط تمكن إصابته , ويمكن الدخول إليه . . إن له شهوات معينة . . ومن شهواته يمكن أن يقاد !
وراح إبليس يداعب هذه الشهوات:
(فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما ; وقال:ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين , أو تكونا من الخالدين , وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين). .
ووسوسة الشيطان لا ندري نحن كيف تتم ; لأننا لا ندري كنه الشيطان حتى ندرك كيفيات أفعاله , وكذا اتصاله بالإنسان وكيفية إغوائه . ولكننا نعلم - بالخبر الصادق وهو وحده المصدر المعتمد عندنا عن هذا الغيب - أن إغواء على الشر يقع في صورة من الصور ; وإيحاء بارتكاب المحظور يتم في هيئة من الهيئات . وأن هذا الإيحاء وذلك الإغواء يعتمدان على نقط الضعف الفطرية في الإنسان . وأن هذا الضعف يمكن إتقاؤه بالإيمان والذكر ; حتى ما يكون للشيطان سلطان على المؤمن الذاكر ; وما يكون لكيده الضعيف حينئذ من تأثير . . وهكذا وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما . . فهذا كان هدفه . . لقد كانت لهما سوآت , ولكنها كانت مواراة عنهما لا يريانها - وسنعلم من السياق أنها سوآت حسية جسدية تحتاج إلى تغطية مادية , فكأنها عوراتهما - ولكنه لم يكشف لهما هدفه بطبيعة الحال ! إنما جاءهما من ناحية رغائبهما العميقة:


وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(وقال:ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين). .
بذلك داعب رغائب "الإنسان" الكامنة . . إنه يحب أن يكون خالداً لا يموت أو معمرا أجلا طويلاً كالخلود ! ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير المحدد . .
وفي قراءةSadملكين)بكسر اللام . وهذه القراءة يعضدها النص الآخر في سورة طه: هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى . . وعلى هذه القراءة يكون الإغراء بالملك الخالد والعمر الخالد وهما أقوى شهوتين في الإنسان بحيث يمكن أن يقال:إن الشهوة الجنسية ذاتها إن هي إلا وسيلة لتحقيق شهوة الخلود بالامتداد في النسل جيلاً بعد جيل - وعلى قراءة(ملكين)بفتح اللام يكون الإغراء بالخلاص من قيود الجسد كالملائكة مع الخلود . . ولكن القراءة الأولى - وإن لم تكن هي المشهورة - أكثر اتفاقاً مع النص القرآني الآخر , ومع اتجاه الكيد الشيطاني وفق شهوات الإنسان الأصيلة .
ولما كان اللعين يعلم أن الله قد نهاهما عن هذه الشجرة ; وأن هذا النهي له ثقله في نفوسهما وقوته ; فقد استعان على زعزعته - إلى جانب مداعبة شهواتهما - بتأمينهما من هذه الناحية ; فحلف لهما بالله إنه لهما ناصح , وفي نصحه صادق:
(وقاسمهما:إني لكما لمن الناصحين). . !
ونسي آدم وزوجه - تحت تأثير الشهوة الدافعة والقسم المخدر - أنه عدوهما الذي لا يمكن أن يدلهما على خير ! وأن الله أمرهما أمراً عليهما طاعته سواء عرفا علته أم لم يعرفاها ! وأنه لا يكون شيء إلا بقدر من الله , فإذا كان لم يقدر لهما الخلود والملك الذي لا يبلى فلن ينالاه !
نسيا هذا كله , واندفعا يستجيبان للإغراء !
(فدلاهما بغرور , فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما , وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ; وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة , وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ?). .
لقد تمت الخدعة وآتت ثمرتها المرة . لقد أنزلهما الشيطان بهذا الغرور من طاعة الله إلى معصيته , فأنزلهما إلى مرتبة دنيا:
(فدلاهما بغرور)!
ولقد شعرا الآن أن لهما سوآت , تكشفت لهما بعد أن كانت مواراة عنهما . فراحا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه في بعض(يخصفان)ويضعان هذا الورق المشبك على سوآتهما - مما يوحي بأنها العورات الجسدية التي يخجل الإنسان فطرة من تعريها , ولا يتعرى ويتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من صنع الجاهلية !
(وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة , وأقل لكما:إن الشيطان لكما عدو مبين ?). .
وسمعا هذا العتاب والتأنيب من ربهما على المعصية وعلى إغفال النصيحة . . أما كيف كان النداء وكيف سمعاه , فهو كما خاطبهما أول مرة . وكما خاطب الملائكة . وكما خاطب إبليس . كلها غيب لا ندري عنه إلا أنه وقع . وأن الله يفعل ما يشاء .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:05 pm

وأمام النداء العلوي يتكشف الجانب الآخر في طبيعة هذا الكائن المتفرد . . إنه ينسى ويخطئ . إن فيه ضعفاً يدخل منه الشيطان . إنه لا يلتزم دائماً ولا يستقيم دائماً . . ولكنه يدرك خطأه ; ويعرف زلته ; ويندم ويطلب العون من ربه والمغفرة . . إنه يثوب ويتوب ; ولا يلح كالشيطان في المعصية , ولا يكون طلبه من ربه هو العون على المعصية !


قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
(قالا:ربنا ظلمنا أنفسنا , وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). .
إنها خصيصة "الإنسان" التي تصله بربه , وتفتح له الأبواب إليه . . الاعتراف , والندم , والاستغفار , والشعور بالضعف , والاستعانة به , وطلب رحمته . مع اليقين بأنه لا حول له ولا قوة إلا بعون الله ورحمته . . وإلا كان من الخاسرين . .
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت . وتكشف خصائص الإنسان الكبرى . وعرفها هو وذاقها . واستعد - بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة - لمزاولة اختصاصه في الخلافة ; وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه . .
(قال:اهبطوا بعضكم لبعض عدو , ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . قال:فيها تحيون , وفيها تموتون , ومنها تخرجون). .
وهبطوا جميعا . . هبطوا إلى هذه الأرض . . ولكن أين كانوا ? أين هي الجنة ? . . هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده . . وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة . وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم و(علمهم)الظني هو تبجح . فهذا "العلم" يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة . ويتبجح حين ينفي الغيب كله , والغيب محيط به في كل جانب , والمجهول في "المادة " التي هي مجاله أكثر كثيراً من المعلومات !
لقد هبطوا جميعاً إلى الأرض . . آدم وزوجه , وإبليس وقبيله . هبطوا ليصارع بعضهم بعضاً , وليعادي بعضهم بعضاً ; ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين:إحداهما ممحضة للشر , والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر ; وليتم الابتلاء ويجري قدر الله بما شاء .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:05 pm

وكتب على آدم وذريته أن يستقروا في الأرض ; ويمكنوا فيها , ويستمتعوا بما فيها إلى حين . وكتب عليهم أن يحيوا فيها ويموتوا ; ثم يخرجوا منها فيبعثوا . . ليعودوا إلى ربهم فيدخلهم جنته أو ناره , في نهاية الرحلة الكبرى . .
وانتهت الجولة الأولى لتتبعها جولات وجولات , ينتصر فيها الإنسان ما عاذ بربه . وينهزم فيها ما تولى عدوه .
تعقيب على الوحدة
وبعد فإنها ليست قصة ! إنما هو عرض لحقيقة الإنسان لتعريفه بحقيقة طبيعته ونشأته , والعوالم المحيطة به , والقدر الذي يصرف حياته , والمنهج الذي يرضاه الله له , والابتلاء الذي يصادفه , والمصير الذي ينتظره . . وكلها حقائق تشارك في تقرير "مقومات التصور الإسلامي" . .
وسنحاول أن نلم بها بقدر ما يسمح منهج الظلال , ونبقي تفصيلاتها للبحث المتخصص عن "خصائص التصور الإسلامي ومقوماته" . .
إن الحقيقة الأولى التي نستلهمها من قصة النشأة الإنسانية , هي - كما قلنا من قبل - التوافق بين طبيعة الكون ونشأة الكائن الإنساني . والتقدير الإلهي المحيط بالكون والإنسان ; والذي يجعل هذه النشأة قدراً مرسوماً لا فلتة عارضة , كما يجعل التوافق بينهما هو القاعدة .
والذين لا يعرفون الله سبحانه , ولا يقدرونه حق قدره , يقيسون أقداره وأفعاله بمقاييسهم البشرية الصغيرة . فإذا نظروا فوجدوا الكائن الإنساني مخلوقاً من مخلوقات هذه الأرض . ووجدوا هذه الأرض ذرة صغيرة كالهباءة في خضم الكون . قالوا:إنه ليس من "المعقول" ! أن يكون وراء نشأة هذا الإنسان قصد ; فوق أن يكون لهذا الإنسان شأن في نظام الكون ! وزعم بعضهم أن وجوده كان فلتة , وأن الكون من حوله معاد لنشأته ونشأة الحياة جملة ! . . وإن هي إلا تخرصات منشؤها قياس أقدار الله وأفعاله بمقاييس البشر الصغيرة !
وحقاً لو كان الإنسان هو الذي له هذا الملك الهائل ما عني بهذه الأرض , ولا بمثل هذا الكائن يدب عليها ! لأن اهتمام الإنسان لا يتسع للعناية بكل شيء في مثل هذا الملك الهائل ; ولا بتقدير كل شيء فيه وتدبيره , والتنسيق بين جميع الأشياء فيه . . غير أن الله - سبحانه - هوالله ! هوالذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . هوصاحب هذا الملك الكبير الذي لايقوم شيء منه إلا برعايته ; كما أنه لم يوجد منه شيء إلا بمشيئته . . إنما آفة هذا الإنسان , حين ينحرف عن هدى الله ويستقل بهواه - ولو كان يسميه علما ! - أن ينسى أنه الله . ويتصوره - سبحانه - على هواه ! ويقيس أقداره وأفعاله بمقاييس الإنسان الصغيرة ! ثم يتبجح فيملي هواه هذا على الحقيقة !
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:06 pm

يقول سير جيمس جينز - كمثل على التصورات البشرية الضالة الكثيرة - في كتاب:"الكون الغامض":
"ونحن إذ نقف على أرضنا - تلك الحبيبة الرملية المتناهية في الصغر - نحاول أن نكشف عن طبيعة الكون الذي يحيط بموطننا في الفضاء والزمن , وعن الغرض من وجوده , نحس في أول الأمر بما يشبه الذعر والهلع . وكيف لا يكون الكون مخيفاً مرعباً , وهذه أبعاده هائلة لا تستطيع عقولنا إدراك مداها ? وقد مرت عليه أحقاب طويلة لا يمكن تصورها ? ويتضاءل إلى جانبها تاريخ الإنسان حتى يبدو وكأنه لمح البصر ? . . وهو مخيف مرعب لما نشعر به من وحدة مرهوبة , وما نعلمه من ضآلة موطننا في الفضاء . ذلك الموطن الذي لا يزيد على جزء من مليون جزء من إحدى حبيبات الرمال التي في بحار العالم ! . . ولكن أخوف ما يُخاف العالم من أجله:أنه لا يُعنى - كما يلوح - بحياة مثل حياتنا . وكأن عواطفنا ومطامعنا وأعمالنا وفنوننا وأدياننا كلها غريبة عن نظامه وخطته . وقد يكون من الحق أن نقول:إن بينه وبين حياة كحياتنا عداء قوياً . ذلك بأن الفضاء في أكثر أجزائه بارد إلى حد تتجمد فيه كل أنواع الحياة . . كما أن أكثر المادة التي في الفضاء تبلغ من الحرارة حداً يجعل الحياة فيه مستحيلة ; وأن الفضاء تذرعه إشعاعات مختلفة الأنواع , لا تنفك تصدم ما فيه من أجرام فلكية ; وقد يكون كثير من هذه الإشعاعات معادياً للحياة أو مبيداً لها .
"هذا هو الكون الذي ألقت بنا فيه الظروف . وإذا لم يكن حقاً أن ظهورنا حدث بسبب غلطة وقعت فيه , فلا أقل من أن يكون نتيجة لما يصح أن يوصف بحق أنه مصادفة " .
وقد بينا من قبل أن افتراض عداء الكون لنشأة الحياة مع افتراض عدم وجود تقدير وتدبير من قوة مهيمنة . . ثم وجود الحياة بعد ذلك فعلاً . . أمور لا يتصورها عقل عاقل ! فضلا على أن يكون عقل عالم ! وإلا فكيف أمكن ظهور الحياة في الكون المعادي لها مع افتراض عدم وجود قوة مهيمنة مقدّرة ! هل الحياة أقوى من الكون بحيث تظهر رغم أنفه ?! ورغم عدائه لها بطبيعة تكوينه ?! هل هذا الكائن الإنساني مثلاً - قبل أن ينشأ - أقوى من هذا الكون الموجود فعلا , ومن ثم طلع هكذا في الكون , وأنف الكون راغم ?!
إنها تصورات لا تستحق عناء النظر ! ولو أن هؤلاء "العلماء" يكتفون بأن يقولوا لنا فقط ما تصل إليه وسائلهم من وصف الموجودات , دون أن يدخلوا في أمثال هذه التخرصات "الميتافيزيقية " التي لا تستند علىأساس , لأدوا دورهم - ولو ناقصاً - في تعريف الناس بالكون من حولهم ! ولكنهم يتجاوزون دائرة المعرفة المأمونة إلى تيه الفروض والظنون , بلا دليل إلا الهوى الإنساني الصغير !
ونحن - بحمد الله وبهداه - ننظر إلى هذا الكون الهائل فلا نشعر بالذعر والهلع الذي يقول عنه سير جيمس جينز ! إنما نشعر بالرهبة والإجلال لبارىء هذا الكون ; ونشعر بالعظمة والجمال المتجليين في خلقه ; ونشعر بالطمأنينة والأنس , لهذا الكون الصديق , الذي أنشأه الله وأنشأنا فيه عن توافق وتنسيق . . وتروعنا ضخامته كما تروعنا دقته ; ولكننا لانفزع ولا نجزع , ولا نشعر بالضياع , ولا نتوقع الهلاك . . فإن ربنا
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:06 pm

وربه الله . . ونتعامل معه في يسر ومودة وأنس وثقة ; ونتوقع أن نجد فيه أرزاقنا وأقواتنا ومعايشنا ومتاعنا . . ونرجو أن نكون من الشاكرين:
(ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش . قليلا ما تشكرون). .
والحقيقة الثانية المستلهمة من قصة النشأة الإنسانية:هي كرامة هذا الكائن الفريد في العوالم الحية ; وضخامة دوره المنوط به ; وسعة الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها ; وتنوع العوالم التي يتعامل معها - في حدود عبوديته لله وحده - مما يتناقض تماماً مع المذاهب الحسية الوضعية المادية التي تهدر قيمته كعامل أساسي مؤثر في الكون , حيث تسند الأهمية كلها للمادة وتأثيراتها الحتمية . ومع مذهب النشوء والارتقاء الذي يلحقه بعالم الحيوان ولا يكاد يحفل خصائصه الإنسانية المتميزة ; أو مذهب التحليل النفسي الفرويدي الذي يصوره غارقاً في وحل الجنس حتى ما يتسامى إلا عن طريق هذا الوحل نفسه ! . . إلا أن هذه الكرامة لهذا الكائن الفريد , لا تجعل من الإنسان(إلهاً)كما تحاول فلسفات عهد التنوير أن تقول . إنما هو الحق والاعتدال في التصور الإسلامي السليم .
لقد أُعلن ميلاد هذا الكائن المتفرد , الذي نرجح من مجموعة النصوص القرآنية - ولا نجزم - أن نشأته كانت مستقلة - أعلن هذا الميلاد في حفل كوني كان شهوده الملأ الأعلى . وأعلن ميلاده الجليل العظيم في هذا الملأ وفي الوجود كله . . وفي الآية الأخرى في سورة البقرة أنه أعلن كذلك خلافته في الأرض منذ خلقه ; وكان الابتلاء الأول له في الجنة تمهيداً وإعداداً لهذه الخلافة . كما تعلن الآيات القرآنية في سور متعددة , أن الله جعل هذا الكون - لا الأرض وحدها - عوناً له في هذه الخلافة . وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه . .
وكذلك تظهر ضخامة الدور الذي أعطاه بارئه له . فإن عمارة كوكب وسيادته بخلافة الله فيه - أياً كان حجم هذا الكوكب - إنها لأمر عظيم !
والذي يتضح من القصة ومن مجموعة النصوص القرآنية أنه كذلك خلق متفرد لا في الأرض وحدها , ولكن في الكون كله . فالعوالم الأخرى من ملائكة وجن وما لايعلمه إلا الله من الخلق ; لها وظائف أخرى , كما أنها خلقت من طبائع أخرى تناسب هذه الوظائف . وتفرد الإنسان وحده بخصائصه هذه ووظائفه . يدل على ذلك قول الله تعالىSadإنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها , وحملها الإنسان , إنه كان ظلوماً جهولا). . وإذن فهو متفرد في الكون كله بخصائص . . ومنها الظلم والجهل ! إلى جانب الاختيار النسبي والاستعداد للمعرفة المترقية , والإرادة الذاتية . والمقدرة على العدل والعلم , بقدرالمقدرة على الظلم والجهل ! . . فهذا الازدواج ذاته هو ميزته التي تفرده .
كل أولئك يلغي تلك النظرة للإنسان القائمة على صغر حجم الكوكب الذي يعيش عليه ; بالقياس إلى أحجام الكون الهائلة . فالحجم ليس هو كل شيء . وخصيصة العقل القابل للمعرفة , والإرادة القابلة للاستقلال - في حدود العبودية لله - والاختيار والترجيح الذاتي . . كل أولئك يفوق في قيمته , الحجم الذي يقيم عليه سير جيمس جينز وأمثاله نظرتهم إلى قيمة الإنسان ودوره .
هذه الأهمية التي تخلعها القصة ومجموع النصوص القرآنية على هذا الكائن الإنساني لا تقتصر على دوره في خلافة الأرض , بهذه الخصائص المتفردة ; ولكن صورتها تكمل بتأمل الآفاق والمجالات التي يتحرك فيها , والعوالم التي يتعامل معها .
إنه يتعامل تعاملاً مباشراً مع ربه الجليل سبحانه ! هو الذي أنشأه بيده , وأعلن ميلاده في الملأ الأعلى وفي الوجود كله بنطقه , وخوله الجنة يأكل منها حيث يشاء - إلا الشجرة المحظورة - ثم خوله خلافة الأرض بعد ذلك بأمره ; وعلمه أساس المعرفة - كما في آية البقرة (وعلم آدم الأسماء كلها)- وهو ما نرجح أنه القدرة على الرمز باللفظ والاسم للمدلول والمسمى , وهو القاعدة التي يقوم عليها إمكان تبادل المعرفة وتعميمها في الجنس كله - كما قلنا في سورة البقرة - وأوصاه وصيته في الجنة وبعدها , وأودعه الاستعدادات الخاصة التي تفرد جنسه بخصائصه , وأرسل له الرسل - منه - بهداه ; وكتب على نفسه الرحمة أن يقيل عثرته ويقبل توبته . . إلى آخر نعمة الله على هذا الكائن المتفرد في الكون كله .
ثم هو يتعامل مع الملأ الأعلى . . أسجد الله له الملائكة , وجعل منهم حفظة عليه , كما جعل منهم من يبلغ الرسل وحيه , وأنزلهم على الذين قالوا:ربنا الله ثم استقاموا يثبتونهم ويبشرونهم , وعلى المجاهدين في سبيل الله ينصرونهم ويبشرونهم كذلك , وسلطهم على الذين كفروا يقتلونهم ويستلون أرواحهم منهم في تأنيب وتعذيب . . إلى آخر ما بين الملائكة والإنسان من تعامل . في الدنيا وفي الآخرة كذلك .
ويتعامل مع الجن:صالحيهم وشياطينهم . . وقد شهدنا منذ لحظات تشخيص المعركة الأولى بينه وبين الشيطان . وهي معركة ممتدة إلى يوم الوقت المعلوم . كما أن تعامله مع صالحي الجن مذكور في نصوص قرآنية أخرى . وتسخير الجن أحيانا له ثابت كما في قصة سليمان عليه السلام .
كذلك هو يتعامل مع هذا الكون المادي - وبخاصة الأرض والكواكب والنجوم القريبة منها - وهو الخليفة في هذه الأرض عن الله ; المسخرة له قواها وطاقاتها وأرزاقها ومدخراتها , وعنده الاستعداد اللدني لفتح بعض مغاليق أسرارها , والتعرف إلى بعض نواميسها التي تعينه معرفتها على أداء دوره العظيم . . ومن ثم يتعامل كذلك مع جميع الأحياء فيها . . وأخيراً فإنه بازدواج طبيعته واستعداداته يتحرك في مجال بعيد الآماد من نفسه ذاتها ! إنه يعرج إلى السماوات العلى ويتجاوز مراتب الملائكة , حين يخلص عبوديته لله ويترقى فيها إلى منتهاها . كما أنه يهبط إلى ما دون مستوى البهيمة حين يتخذ إلهه هواه ويتخلى عن خصائص "إنسانيته" ويتمرغ في الوحل الحيواني . . وبين هذين المجالين أبعاد أضخم مما بين السماوات والأرض في عالم الحس وأبعد مدى !
وليس هذا كله لغير الإنسان كما تلهمه هذه القصة وبقية النصوص الأخرى . .والحقيقة الثالثة:أن هذا الكائن - على كل تفرده هذا أوبسبب تفرده هذا - ضعيف في بعض جوانب تكوينه , حتى ليمكن قيادته إلى الشر والارتكاس إلى الدرك الأسفل , من خطام شهواته . . وفي أولها ضعفه تجاه حبِّ البقاء , وضعفه تجاه حب الملك . . وهو يكون في أشد حالات ضعفه وأدناها حين يبعد عن هدى الله , ويستسلم لهواه , أو يستسلم لعدوه العنيد الذي أخذ على عاتقه إغواءه , في جهد ناصب , لايكل ولا يدع وسيلة من الوسائل !
وقد اقتضت رحمة الله به - من ثم - ألا يتركه لفطرته وحدها , ولا لعقله وحده , وأن يرسل إليه الرسل للإنذار والتذكير - كما سيجيء في آية تالية في معرض التعقيب على القصة - وهذه هي صخرة النجاة بالنسبة له . . . النجاة من شهواته بالتخلص من هواه والفرار إلى الله . والنجاة من عدوه الذي يخنس ويتوارى عند ذكره لربه , وتذكر رحمته وغضبه , وثوابه وعقابه . .
وهذه كلها مقويات لإرادته , حتى يستعلي على ضعفه وشهواته . . وقد كان أول تدريب له في الجنة هو فرض "المحظور" عليه ; لتقوية هذه الإرادة وإبرازها في مواجهة الإغراء والضعف . وإذا كان قد فشل في التجربة الأولى , فقد كانت هذه التجربة رصيداً له فيما سيأتي !
ومن رحمة الله به كذلك أن جعل باب التوبة مفتوحاً له في كل لحظة . فإذا نسي ثم تذكر ; وإذا عثر ثم نهض ; وإذا غوى ثم تاب . . وجد الباب مفتوحاً له , وقبل الله توبته , وأقال عثرته . فإذا استقام على طريقه بدل الله سيئاته حسنات , وضاعف له ما شاء . ولم يجعل خطيئته الأولى لعنة مكتوبة عليه وعلى ذريته . فليست هنالك خطيئة أبدية . وليست هنالك خطيئة موروثة - ولا تزر وازرة وزر أخرى .
وهذه الحقيقة في التصور الإسلامي تنقذ كاهل البشرية من أسطورة الخطيئة الموروثة التي تقوم عليها التصورات الكنسية في المسيحية ; والتي يقوم عليها ركام هائل من الطقوس والتشكيلات فوق ما يقوم فوقها من الأساطير والخرافات . . خطيئة آدم التي تلازم البشرية كاللعنة المصلتة على الرقاب ! حتى يتمثل الإله في صورة ابن الإنسان [ المسيح ] ويصلب ويحتمل العذاب للتكفير عن هذه الخطيئة الموروثة ; ومن ثم يكتب [ الغفران ] لمن يتحد بالمسيح الذي كفر بدمه عن خطيئة آدم التي ورثتها البشرية !
إن الأمر في التصور الإسلامي أيسر من هذا بكثير . . لقد نسي آدم وأخطأ . . ولقد تاب واستغفر . ولقد قبل الله توبته وغفر له . . وانتهى أمر تلك الخطيئة الأولى . ولم يبق منها إلا رصيد التجربة الذي يعين الجنس البشري في صراعه الطويل المدى . .
أية بساطة ! وأي وضوح ! وأي يسر في هذه العقيدة !
والحقيقة الرابعة:هي جدية المعركة مع الشيطان وأصالتها , واستمرارها وضراوتها . .
لقد بدا من سياق القصة إصرار هذا العدو العنيد على ملاحقة الإنسان في كل حالة , وعلى إتيانه من كل صوب وجهة , وعلى اتباعه في كل ساعة ولحظة:
(قال:فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم , ولا تجد أكثرهم شاكرين). .
لقد اختار اللعين أن يزاول هذا الكيد , وأن يُنظر لمزاولته على المدى الطويل . . اختار هذا على أن يضرع إلى الله أن يغفر له خطيئته في معصيته عيانا وقد سمع أمره مواجهة ! ثم بين أنه سيقعد لهم على طريق الله لا يمكنهم من سلوكه , وأنه سيأتيهم من كل جهة يصرفهم عن هداه .
وهو إنما يأتيهم من ناحية نقط الضعف فيهم ومداخل الشهوة . ولا عاصم لهم منه إلا بالتقوّي بالإيمان والذكر والتقوّي على إغوائه ووسوسته , والاستعلاء على الشهوات وإخضاع الهوى لهدى الله .
والمعركة مع الشيطان هي المعركة الرئيسية . إنها المعركة مع الهوى باتباع الهدى . والمعركة مع الشهوات باستعلاء الإرادة . والمعركة مع الشر والفساد في الأرض الذي يقود الشيطان أولياءه إليه باتباع شريعة الله المصلحة للأرض . . والمعركة في الضمير والمعركة في الحياة الواقعية متصلتان لا منفصلتان . فالشيطان وراءهما جميعاً !
والطواغيت التي تقوم في الأرض لتخضع الناس لحاكميتها وشرعها وقيمها وموازينها , وتستبعد حاكمية الله وشرعه والقيم والموازين المنبثقة من دينه . . إنما هي شياطين الإنس التي توحي لها شياطين الجن . والمعركة معها هي المعركة مع الشيطان نفسه . وليست بعيدة عنها .
وهكذا تتركز المعركة الكبرى الطويلة الضارية في المعركة مع الشيطان ذاته . ومع أوليائه . ويشعر المسلم وهو يخوض المعركة مع هواه وشهواته ; وهو يخوضها كذلك مع أولياء الشيطان من الطواغيت في الأرض وأتباعهم وأذنابهم ; وهو يخوضها مع الشر والفساد والانحلال الذي ينشئونه في الأرض من حولهم . . يشعر المسلم وهو يخوض هذه المعارك كلها , أنه إنما يخوض معركة واحدة جدية صارمة ضارية , لأن عدوه فيها مصرٌّ ماض في طريقه . . وأن الجهاد - من ثم - ماض إلى يوم القيامة . في كل صوره ومجالاته .
وأخيراً فإن القصة والتعقيبات عليها - كما سيجيء - تشير إلى شيء مركوز في طبع الإنسان وفطرته . وهو الحياء من التعري وانكشاف سوأته:
(فوسوس لهما الشيطان , ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما). .
(فدلاهما بغرور , فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة). .
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم , وريشا , ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله). .
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما). .
وكلها توحي بأهمية هذه المسألة , وعمقها في الفطرة البشرية . فاللباس , وستر العورة , زينة للإنسان وستر لعوراته الجسدية . كما أن التقوى لباس وستر لعوراته النفسية .
والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوآتها الجسدية والنفسية , وتحرص على سترها وموارائها . . والذين يحاولون تعرية الجسم من اللباس , وتعرية النفس من التقوى , ومن الحياء من الله ومن الناس ; والذين يطلقون ألسنتهم وأقلامهم وأجهزة التوجيه والإعلام كلها لتأصيل هذه المحاولة - في شتى الصور والأساليب الشيطانية الخبيثة - هم الذين يريدون سلب "الإنسان" خصائص فطرته , وخصائص "إنسانيته" التي بها صار إنساناً . وهم الذين يريدون إسلام الإنسان لعدوه الشيطان وما يريده به من نزع لباسه وكشف سوآته ! وهم الذين ينفذون المخططات الصهيونية الرهيبة لتدمير الإنسانية وإشاعة الانحلال فيها لتخضع لملك صهيون بلا مقاومة . وقد فقدت مقوماتها الإنسانية !
إن العري فطرة حيوانية . ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان . وإن رؤية العري جمالاً هو انتكاس في الذوق البشري قطعاً . والمتخلفون في أواسط إفريقية عراة . والإسلام حين يدخل بحضارته إلى هذه المناطق يكون أول مظاهر الحضارة اكتساء العراة ! فأما في الجاهلية الحديثة "التقدمية " فهم يرتكسون إلى الوهدة التي ينتشل الإسلام المتخلفين منها , وينقلهم إلى مستوى "الحضارة "بمفهومها الإسلامي الذي يستهدف استنقاذ خصائص الإنسان وإبرازها وتقويتها .
والعري النفسي من الحياء والتقوى - وهو ما تجتهد فيه الأصوات والأقلام وجميع أجهزة التوجيه والإعلام - هو النكسة والردة إلى الجاهلية . وليس هو التقدم والتحضر كما تريد هذه الأجهزة الشيطانية المدربة الموجهة أن توسوس !
وقصة النشأة الإنسانية في القرآن توحي بهذه القيم والموازين الأصيلة وتبينها خير بيان .
والحمد لله الذي هدانا إليه وأنقذنا من وسوسة الشيطان ووحل الجاهلية !!!
الوحدة الثالثة:26 - 34 الموضوع:تحذير من عداوة الشيطان وأساليبه مقدمة الوحدة
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:07 pm

هذه وقفة من وقفات التعقيب في سياق السورة . وهي وقفة طويلة بعد المشهد الأول في قصة البشرية الكبرى . وفي سياق السورة وقفات كهذه عند كل مرحلة . كأنما ليقال:قفوا هنا نتدبر ما في هذه المرحلة من عبرة قبل أن نمضي قدماً في الرحلة الكبرى !
وهي وقفة في مواجهة المعركة التي بانت طلائعها بين الشيطان والبشرية . وقفة للتحذير من أساليب الشيطان ومداخله ; ولكشف خطته ما كان منها وما يكون متمثلاً في صور وأشكال شتى . .
ولكن المنهج القرآني لا يعرض توجيهاً إلا لمواجهة حالة قائمة ; ولا يقص قصصاً إلا لأن له موقعاً في واقع الحركة الإسلامية . . إنه كما قلنا لا يعرض قصصاً لمجرد المتاع الفني ! ولا يقرر حقيقة لمجرد عرضها النظري . . إن واقعية الإسلام وجديته تجعلان توجيهاته وتقريراته , لمواجهة حالات واقعة بالفعل في مواجهة الحركة الإسلامية .
وقد كان واقع الجاهلية العربية هو الذي يواجهه التعقيب هنا عقب المرحلة الأولى من قصة البشرية الكبرى . . كانت قريش قد ابتدعت لنفسها حقوقاً على بقية مشركي العرب الذين يفدون لحج بيت الله - الذي جعلوه بيتاً للأصنام وسدنتها ! - وأقامت هذه الحقوق على تصورات اعتقادية زعمت أنها من دين الله ; وصاغتها في شرائع , زعمت أنها من شرع الله ! وذلك لتخضع لها أعناق المشركين ; كما يصنع السدنة والكهنة والرؤساء في كل جاهلية على وجه التقريب . . وكانت قريش سمت نفسها اسماً خاصاً وهو"الحُمس" وجعلوا لأنفسهم حقوقاً ليست لسائر العرب . ومن هذه الحقوق - فيما يختص بالطواف بالبيت - أنهم هم وحدهم لهم حق الطواف في ثيابهم . فأما بقية العرب فلا تطوف في ثياب لبستها من قبل . فلا بد أن تستعير من ثياب الحمس للطواف أو تستجد ثياباً لم تلبسها من قبل وإلا طافوا عرايا وفيهم النساء !
قال ابن كثير في التفسير:[ كانت العرب - ما عدا قريشاً - لايطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها , يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ! وكانت قريش - وهم الحمس - يطوفون في ثيابهم . ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه ; ومن معه ثوب جديد طاف فيه . ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ! ومن لم يجد ثوباً جديداً , ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً ! وربما كانت امرأة فتطوف عريانة , فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر . . . وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل . وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم , واتبعوا فيه آباءهم , ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ; فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا:وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها). . فقال تعالى رداً عليهمSadقل). أي يا محمد لمن ادعى ذلك . (إن الله لا يأمر بالفحشاء)أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة , والله لا يأمر بمثل ذلك . (أتقولون على الله ما لا تعلمون). . أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته . وقوله تعالى: (قل:أمر ربي بالقسط). . أي بالعدل . والاستقامة: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد , وادعوه مخلصين له الدين). . أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها , وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله , وما جاءوا به من الشرائع , وبالإخلاص له في عبادته . فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين:[ أي أن يكون صواباً موافقاً للشريعة , وأن يكون خالصاً من الشرك ] .
ففي مواجهة هذا الواقع الجاهلي في شؤون التشريع للعبادة والطواف واللباس - مضافاً إليه ما يختص بتقاليد كهذه في الطعام يزعمون أنها من شرع الله وليست من شرع الله - في مواجهة هذا الواقع جاءت تلك التعقيبات على قصة البشرية الأولى . وجاء ذكر الأكل من ثمر الجنة - إلا ما حرم الله - وجاء ذكر اللباس خاصة , ونزع الشيطان له عن آدم وزوجه بإغوائه لهما بتناول المحظور ; وجاء ذكر حيائهما الفطري من كشف السوآت , وخصفهما على سوآتهما من ورق الجنة . .
فما ذكر من أحداث القصة , وما جاء في التعقيب الأول عليها , هو مواجهة واقعية لواقع معين في الجاهلية . .


يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
والقصة تذكر في مواضع أخرى من القرآن , في سور أخرى , لمواجهة حالات أخرى , فتذكر منها مواقف ومشاهد , وتذكر بعدها تقريرات وتعقيبات تواجه هذه الحالات الأخرى . . وكله حق . . ولكن تفصيل القرآن لمواجهة الواقع البشري هو الذي يقتضي هذا الاختيار والتناسق . بين حلقات القصص المعروض في كل معرض , وطبيعة الجو والموضوع في كل معرض .
الدرس الأول:26 تحذير من الإستجابة للشيطان وتكذيب الكافرين
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا . ولباس التقوى , ذلك خير , ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون). .
هذا النداء يجيء في ظل المشهد الذي سبق عرضه من القصة . . مشهد العري وتكشف السوآت والخصف من ورق الجنة . . لقد كان هذا ثمرة للخطيئة . . والخطيئة كانت في معصية أمر الله , وتناول المحظور الذي نهى عنه الله . . وليست هي الخطيئة التي تتحدث عنها أساطير [ الكتاب المقدس ! ] والتي تعج بها التصورات الفنية الغربية المستقاة من تلك الأساطير ومن إيحاءات "فرويد" المسمومة . . لم تكن هي الأكل من "شجرة المعرفة " - كما تقول أساطير العهد القديم . وغيرة الله - سبحانه وتعالى - من "الإنسان" وخوفه - تعالى عن وصفهم علواً كبيراً - من أن يأكل من شجرة الحياة أيضاً فيصبح كواحد من الآلهة ! كما تزعم تلك الأساطير . ولم تكن كذلك هي المباشرة الجنسية كما تطوف خيالات الفن الأوربي دائماً حول مستنقع الوحل الجنسي , لتفسر به كل نشاط الحياة كما علمهم فرويد اليهودي ! . .
وفي مواجهة مشهد العري الذي أعقب الخطيئة ومواجهة العري الذي كان يزاوله المشركون في الجاهلية يذكر السياق في هذا النداء نعمة الله على البشر وقد علمهم ويسر لهم , وشرع لهم كذلك , اللباس الذي يستر العورات المكشوفة , ثم يكون زينة - بهذا الستر - وجمالاً , بدل قبح العري وشناعته - ولذلك يقولSadأنزلنا)أي:شرعنا لكم في التنزيل . واللباس قد يطلق على ما يواري السوأة وهو اللباس الداخلي , والرياش قد يطلق على ما يستر الجسم كله ويتجمل به , وهو ظاهر الثياب . كما قد يطلق الرياش على العيش الرغد والنعمة والمال . . وهي كلها معان متداخلة ومتلازمة:
(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً). .
كذلك يذكر هنا (لباس التقوى)ويصفه بأنه(خير):
(ولباس التقوى ذلك خير . ذلك من آيات الله .). .
قال عبد الرحمن بن أسلم:[ يتقي الله فيواري عورته , فذاك لباس التقوى ] . .
فهناك تلازم بين شرع الله اللباس لستر العورات والزينة , وبين التقوى . . كلاهما لباس . هذا يستر عورات القلب ويزينه . وذاك يستر عورات الجسم ويزينه . وهما متلازمان . فعن شعور التقوى لله والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه . ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري . . العري من الحياء والتقوى , والعري من اللباس وكشف السوأة !
إن ستر الجسد حياء ليس مجرد اصطلاح وعرف بيئي - كما تزعم الأبواق المسلطة على حياء الناس وعفتهملتدمير إنسانيتهم , وفق الخطة اليهودية البشعة التي تتضمنها مقررات حكماء صهيون - إنما هي فطرة خلقها الله في الإنسان ; ثم هي شريعة أنزلها الله للبشر ; وأقدرهم على تنفيذها بما سخر لهم في الأرض من مقدرات وأرزاق .
والله يذكر بني آدم بنعمته عليهم في تشريع اللباس والستر , صيانة لإنسانيتهم من أن تتدهور إلى عرف البهائم ! وفي تمكينهم منه بما يسر لهم من الوسائل:
(لعلهم يذكرون). .
ومن هنا يستطيع المسلم أن يربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم ; والدعوة السافرة لهم إلى العري الجسدي - باسم الزينة والحضارة والمودة ! - وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانيتهم ,
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:07 pm

والتعجيل بانحلالهم , ليسهل تعبيدهم لملك صهيون ! ثم يربط بين هذا كله والخطة الموجهة للإجهاز على الجذور الباقية لهذا الدين في صورة عواطف غامضة في أعماق النفوس ! فحتى هذه توجه لها معاول السحق , بتلك الحملة الفاجرة الداعرة إلى العري النفسي والبدني الذي تدعو إليه أقلام وأجهزة تعمل لشياطين اليهود في كل مكان ! والزينة "الإنسانية " هي زينة الستر , بينما الزينة "الحيوانية " هي زينة العري . . ولكن "الآدميين" في هذا الزمان يرتدون إلى رجعية جاهلية تردهم إلى عالم البهيمة . فلا يتذكرون نعمة الله بحفظ إنسانيتهم وصيانتها !!!
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة , ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما , إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم , إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . وإذا فعلوا فاحشة قالوا:وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها . قل:إن الله لا يأمر بالفحشاء , أتقولون على الله ما لا تعلمون ? قل:أمر ربي بالقسط , وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد , وادعوه مخلصين له الدين , كما بدأكم تعودون . فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة , إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله , ويحسبون أنهم مهتدون). .
إنه النداء الثاني لبني آدم , في وقفة التعقيب على قصة أبويهم , وما جرى لهما مع الشيطان ; وعلى مشهد العري الذي أوقفهما فيه عدوهما , بسبب نسيانهما أمر ربهما والاستماع إلى وسوسة عدوهما .
وهذا النداء يصبح مفهوماً بما قدمناه من الحديث عن تقاليد الجاهلية العربية في حكاية العري عند الطواف بالبيت ; وزعمهم أن ما وجدوا عليه آباءهم هو من أمر الله وشرعه !
لقد كان النداء الأول تذكيراً لبني آدم بذلك المشهد الذي عاناه أبواهم ; وبنعمة الله في إنزال اللباس الذي يستر العورة والرياش الذي يتجمل به . . أما هذا النداء الثاني فهو التحذير لبني آدم عامة وللمشركين الذين يواجههم الإسلام في الطليعة . أن يستسلموا للشيطان , فيما يتخذونه لأنفسهم من مناهج وشرائع وتقاليد ; فيسلمهم إلى الفتنة - كما فعل مع أبويهم من قبل إذ أخرجهما من الجنة ونزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما - - فالعري والتكشف الذي يزاولونه - والذي هو طابع كل جاهلية قديماً وحديثاً - هو عمل من أعمال الفتنة الشيطانية , وتنفيذ لخطة عدوهم العنيدة في إغواء آدم وبنيه ; وهوطرف من المعركة التي لا تهدأ بين الإنسان وعدوه . فلا يدع بنو آدم لعدوهم أن يفتنهم ; وأن ينتصر في هذه المعركة , وأن يملأ منهم جهنم في نهاية المطاف !
(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما).
وزيادة في التحذير , واستثارة للحذر , ينبئهم ربهم أن الشيطان يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم .


يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28)
وإذن فهو أقدر على فتنتهم بوسائله الخفية ; وهم محتاجون إلى شدة الاحتياط , وإلى مضاعفة اليقظة , وإلى دوام الحذر , كي لا يأخذهم على غرة:
(إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). .
ثم الإيقاع المؤثر الموحي بالتوقي . . إن الله قدر أن يجعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون . . ويا ويل من كان عدوه وليه ! إنه إذن يسيطر عليه ويستهويه ويقوده حيث شاء , بلا عون ولا نصير , ولا ولاية من الله:
(إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون). .
وإنها لحقيقة . . أن الشيطان ولي الذين لا يؤمنون , كما أن الله هو ولي المؤمنين . . وهي حقيقة رهيبة , ولها نتائجها الخطيرة . . وهي تذكر هكذا مطلقة ; ثم يواجه بها المشركون كحالة واقعة ; فنرى كيف تكون ولاية الشيطان ; وكيف تفعل في تصورات الناس وحياتهم . . وهذا نموذج منها:
(وإذا فعلوا فاحشة قالوا:وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها). .
وذلك ما كان يفعله ويقول به مشركو العرب ; وهم يزاولون فاحشة التعري في الطواف ببيت الله الحرام - وفيهم النساء ! - ثم يزعمون أن الله أمرهم بها . فقد كان أمر آباءهم بها ففعلوها , ثم هم ورثوها عن آبائهم ففعلوها !
وهم - على شركهم - لم يكونوا يتبجحون تبجح الجاهليات الحديثة التي تقول:ما للدين وشؤون الحياة ? وتزعم أنها هي صاحبة الحق في اتخاذ الأوضاع والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد من دون الله ! إنما كانوا يفترون الفرية , ويشرعون الشريعة , ثم يقولون:الله أمرنا بها ! وقد تكون هذه خطة ألأم وأخبث , لأنها تخدع الذين في قلوبهم بقية من عاطفة دينية ; فتوهمهم أن هذه الشريعة من عند الله . . ولكنها على كل حال أقل تبجحاً ممن يزعم أن له الحق في التشريع للناس بما يراه أصلح لأحوالهم من دون الله !
والله - سبحانه - يأمر نبيه [ ص ] أن يواجههم بالتكذيب لهذا الافتراء على الله ; وبتقرير طبيعة شرع الله وكراهته للفاحشة , فليس من شأنه سبحانه أن يأمر بها:
(قل:إن الله لا يأمر بالفحشاء . أتقولون على الله ما لا تعلمون ?):
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:07 pm

إن الله لا يأمر بالفحشاء إطلاقاً - والفاحشة:كل ما يفحش أي يتجاوز الحد - والعري من هذه الفاحشة , فالله لا يأمر به . وكيف يأمر الله بالاعتداء على حدوده ? والمخالفة عن أمره بالستر والحياء والتقوى ? ومن الذي أعلمهم بأمر الله ذاك ? إن أوامر الله وشرائعه ليست بالادعاء . إن أوامره وشرائعه واردة في كتبه على رسله . وليس هناك مصدر آخر يعلم منه قول الله وشرعه . وليس لإنسان أن يزعم عن أمر أنه من شريعة الله , إلا أن يستند إلى كتاب الله وإلى تبليغ رسول الله . فالعلم المستيقن بكلام الله هو الذي يستند إليه من يقول في دين الله . . وإلا فأي فوضى يمكن أن تكون إذا قدم كل إنسان هواه , وهو يزعم أنه دين الله !!
إن الجاهلية هي الجاهلية . وهي دائماً تحتفظ بخصائصها الأصيلة . وفي كل مرة يرتد الناس إلى الجاهلية يقولون كلاماً متشابهاً ; وتسود فيهم تصورات متشابهة , على تباعد الزمان والمكان . . وفي هذه الجاهلية التي نعيش فيها اليوم لا يفتأ يطلع علينا كاذب مفتر يقول ما يمليه عليه هواه ثم يقول:شريعة الله ! ولا يفتأ يطلع علينا متبجح وقح ينكر أوامر الدين ونواهيه المنصوص عليها , وهو يقول:إن الدين لا يمكن أن يكون كذلك ! إن الدين لا يمكن أن يأمر بهذا ! إن الدين لا يمكن أن ينهى عن ذاك , . . وحجته هي هواه !!!
أتقولون على الله ما لا تعلمون ? . .


قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30)
وبعد أن ينكر عليهم دعواهم في أن الله أمرهم بهذه الفاحشة , يبين لهم أن أمر الله يجري في اتجاه مضاد . . لقد أمر الله بالعدل والاعتدال في الأمور كلها لا بالفحش والتجاوز . وأمر بالاستقامة على منهج الله في العبادة والشعائر , والاستمداد مما جاء في كتابه على رسوله [ ص ] ولم يجعل المسألة فوضى , يقول فيها كل إنسان بهواه , ثم يزعم أنه من الله . وأمر بأن تكون الدينونة خالصة له , والعبودية كاملة ; فلا يدين أحد لأحد لذاته ولا يخضع أحد لأمر أحد لذاته:
(قل أمر ربي بالقسط , وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد , وادعوه مخلصين له الدين). .
هذا ما أمر الله به , وهو يضاد ما هم عليه . . يضاد اتباعهم لآبائهم وللشرائع التي وضعها لهم عباد مثلهم , مع دعواهم أن الله أمرهم بها . . ويضاد العري والتكشف وقد امتن الله على بني آدم بأنه أنزل عليهم لباساً يواري سوآتهم وريشاً يتجملون به كذلك . . ويضاد هذا الشرك الذي يزاولونه , بازدواج مصادر التشريع لحياتهم ولعبادتهم . .
وعند هذا المقطع من البيان يجيء التذكير والإنذار ; ويلوّح لهم بالمعاد إلى الله بعد انتهاء ما هم فيه من أجل مرسوم للابتلاء ; وبمشهدهم في العودة وهم فريقان:الفريق الذي اتبع أمر الله , والفريق الذي اتبع أمر الشيطان:
كما بدأكم تعودون:فريقا هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة , إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله , ويحسبون أنهم مهتدون . .
إنها لقطة واحدة عجيبة تجمع نقطة البدء في الرحلة الكبرى ونقطة النهاية . نقطة الانطلاق في البدء ونقطة المآب في الانتهاء:
(كما بدأكم تعودون). .
وقد بدأوا الرحلة فريقين:آدم وزوجه . والشيطان وقبيله . . وكذلك سيعودون . . الطائعون سيعودون فريقاً مع أبيهم آدم وأمهم حواء المسلمين المؤمنين بالله المتبعين لأمر الله . . والعصاة سيعودون مع إبليس وقبيله , يملأ الله منهم جهنم , بولائهم لإبليس وولايته لهم . وهم يحسبون أنهم مهتدون .
لقد هدى الله من جعل ولايته لله . وأضل من جعل ولايته للشيطان . . وهاهم أولاء عائدين فريقين:
(فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة . إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون). ها هم أولاء عائدين . في لمحة تضم طرفي الرحلة ! على طريقة القرآن , التي يتعذر أن تتحقق في غير أسلوب القرآن !
الدرس الثالث:31 - 34 الأمر بالزينة الحلال والنهي عن الفواحش
ثم يتكرر النداء إلى (بني آدم)في هذه الوقفة كذلك ; قبل أن يتابع السياق الرحلة المديدة ; في الطريق المرسوم:
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد , وكلوا واشربوا ولا تسرفوا , إنه لا يحب المسرفين . قل:من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ? قل:هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا , خالصة يوم القيامة . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون . قل:إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ; والإثم والبغي بغير الحق , وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً , وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). .

أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:08 pm

يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
إنه التوكيد بعد التوكيد على الحقائق الأساسية للعقيدة , في مواجهة ما عليه المشركون العرب في الجاهلية ; وذلك في سياق النداء إلى بني آدم كافة , وفي مواجهة قصة البشرية الكبرى . .
وأظهر هذه الحقائق هو الربط بين ما يحرمونه من الطيبات التي أخرجها الله لعباده دون إذن منه ولا شرع ; وبين الشرك الذي هو الوصف المباشر لمن يزاول هذا التحريم , ويقول على الله ما لا يعلم , ويزعم من ذلك ما يزعم .
إنه يناديهم أن يأخذوا زينتهم من اللباس الذي أنزله الله عليهم . وهو الرياش . عند كل عبادة ; ومنها الطواف الذي يزاولونه عرايا , ويحرمون اللباس الذي لم يحرمه الله , بل أنعم به على العباد . فأولى أن يعبدوه بطاعته فيما أنزل لهم , لا بخلعه ولا بالفحش الذي يزاولونه:
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد). .
ويناديهم كذلك ليتمتعوا بالطيبات من الطعام والشراب دون إسراف:
(وكلوا واشربوا ولا تسرفوا . إنه لا يحب المسرفين).
وقد ورد أنه كان هناك تحريم في الطعام كالتحريم في الثياب . وكان هذا من مبتدعات قريش كذلك !
في صحيح مسلم عن هشام عن عروة عن أبيه قال:" كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس , والحمس قريش وما ولدت . كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثياباً , فيعطي الرجال الرجال , والنساء النساء . وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة ; وكان الناس يبلغون عرفات . ويقولون:نحن أهل الحرم , فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا , ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا . فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوباً , ولا يسارٌ يستأجره به كان بين أحد أمرين:إما أن يطوف بالبيت عرياناً وإما أن يطوف في ثيابه , فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه فلم يمسه أحد . وكان ذلك الثوب يسمى اللقى " . .
وجاء في تفسير القرطبي المسمى "أحكام القرآن":" وقيل إن العرب في الجاهلية كانوا لا يأكلون دسماً في أيام حجهم , ويكتفون باليسير من الطعام , ويطوفون عراة . فقيل لهم: (خذوا زينتكم عند كل مسجد , وكلوا واشربوا , ولا تسرفوا)أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم " . . والإسراف يكون بتجاوز الحد , كما قد يكون بتحريم الحلال . كلاهما تجاوز للحد . هذا باعتبار , وذاك باعتبار .
ولا يكتفي السياق بالدعوة إلى اتخاذ الزينة عند كل مسجد , وإلى الاستمتاع بالطيب من الطعام والشراب . بل يستنكر تحريم هذه الزينة التي أخرجها الله لعباده , وتحريم الطيبات من الرزق . فمن المستنكر أن يحرم أحد - برأيه - ما أخرجه الله للناس من الزينة أو من الطيبات . فتحريم شيء أو تحليله لا يكون إلا بشرع من الله:
(قل:من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)?
ويتبع الاستنكار بتقرير أن هذه الزينة من اللباس , وهذه الطيبات من الرزق , هي حق للذين آمنوا - بحكم إيمانهم بربهم الذي أخرجها لهم - ولئن كان سواهم يشاركهم فيها في هذه الدنيا , فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم فيها الذين كفروا:
(قل:هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا , خالصة يوم القيامة). .


قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)
ولن يكون الشأن كذلك , ثم تكون محرمة عليهم ; فما يخصهم الله في الآخرة بشيء هو حرام !
(كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون).
والذين(يعلمون)حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان .
فأما الذي حرمه الله حقاً , فليس هو الزينة المعتدلة من اللباس , وليس هو الطيب من الطعام والشراب - في غير سرف ولا مخيلة - إنما الذي حرمه الله حقاً هو الذي يزاولونه فعلاً !
(قل:إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق , وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً , وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). .
هذا هو الذي حرمه الله . الفواحش من الأعمال المتجاوزة لحدود الله . ظاهرة للناس أوخافية . والإثم . وهو كل معصية لله على وجه الإجمال . والبغي بغير الحق . وهو الظلم الذي يخالف الحق والعدل - كما بينهما الله أيضاً - وإشراك ما لم يجعل الله به قوة ولا سلطاناً مع الله - سبحانه - في خصائصه . ومنه هذا الذي كان واقعاً في الجاهلية , وهو الواقع في كل جاهلية . من إشراك غير الله ليشرع للناس ; ويزاول خصائص
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:08 pm

الألوهية . وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . كالذي كانوا يقولونه من التحليل والتحريم . ومن نسبتهم هذا إلى أمر الله بغير علم ولا يقين . .
ومن عجيب ما روي من حال المشركين الذين خوطبوا بهذه الآيات أول مرة ; ووجه إليهم هذا الإستنكار الوارد في قوله تعالى: (قل:من حرم زينة الله التي أخرج لعباده . .)ما رواه الكلبي قال:
" لما لبس المسلمون الثياب , وطافوا بالبيت عيرهم المشركون بها . . فنزلت الآية . . "
فانظر كيف تصنع الجاهلية بأهلها ! ناس يطوفون ببيت الله عرايا ; فسدت فطرتهم وانحرفت عن الفطرة السليمة التي يحكيها القرآن الكريم عن آدم وحواء في الجنة: (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة). . فإذا رأوا المسلمين يطوفون بالبيت مكسوين , في زينة الله التي أنعم بها على البشر ; لإرادته بهم الكرامة والستر , ولتنمو فيهم خصائص فطرتهم الإنسانية في سلامتها وجمالها الفطري , وليتميزوا عن العري الحيواني . . الجسمي والنفسي . . إذا رأوا المسلمين يطوفون ببيت الله في زينة الله وفق فطرة الله "عيروهم" !
إنه هكذا تصنع الجاهلية بالناس . . هكذا تمسخ فطرهم وأذواقهم وتصوراتهم وقيمهم وموازينهم ! وماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس في هذا الأمر غير الذي فعلته بالناس في جاهلية المشركين العرب ? وجاهلية المشركين الإغريق ? وجاهلية المشركين الرومان ? وجاهلية المشركين الفرس ? وجاهلية المشركين في كل زمان وكل مكان ?!
ماذا تصنع الجاهلية الحاضرة بالناس إلا أن تعريهم من اللباس , وتعريهم من التقوى والحياء ? ثم تدعو هذا رقياً وحضارة وتجديداً ; ثم تعير الكاسيات من الحرائر العفيفات المسلمات , بأنهن "رجعيات" . "تقليديات" . "ريفيات" !
المسخ هوالمسخ . والانتكاس عن الفطرة هو الانتكاس . وانقلاب الموازين هو انقلاب الموازين . والتبجح بعد ذلك هو التبجح . .(أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون !).
وما الفرق كذلك في علاقة هذا العري , وهذا الانتكاس , وهذه البهيمية , وهذا التبجح , بالشرك , وبالأرباب التي تشرع للناس من دون الله ?
لئن كان مشركو العرب قد تلقوا في شأن ذلك التعري من الأرباب الأرضية التي كانت تستغل جهالتهم وتستخف بعقولهم , لضمان السيادة لها في الجزيرة . . ومثلهم بقية الجاهليات القديمة التي تلقت من الكهنة والسدنة والرؤساء . . فإن مشركي اليوم ومشركاته يتلقون في هذا عن الأرباب الأرضية كذلك . . ولا يملكون لأمرهم رداً . .
إن بيوت الأزياء ومصمميها , وأساتذة التجميل ودكاكينها , لهي الأرباب التي تكمن وراء هذا الخبل الذي لا تفيق منه نساء الجاهلية الحاضرة ولا رجالها كذلك ! إن هذه الأرباب تصدر أوامرها , فتطيعها القطعان والبهائم العارية في أرجاء الأرض طاعة مزرية ! وسواء كان الزي الجديد لهذا العام يناسب قوام أية امرأة أو لا يناسبه , وسواء كانت مراسم التجميل تصلح لها أو لا تصلح , فهي تطيع صاغرة . . تطيع تلك الأرباب . وإلا "عيرت" من بقية البهائم المغلوبة على أمرها !
ومن ذا الذي يقبع وراء بيوت الأزياء ? ووراء دكاكين التجميل ? ووراء سعار العري والتكشف ? ووراء الأفلام والصور والروايات والقصص , والمجلات والصحف , التي تقود هذه الحملة المسعورة . . وبعضها يبلغ في هذا إلى حد أن تصبح المجلة أو القصة ماخوراً متنقلاً للدعارة ?!
من الذي يقبع وراء هذا كله ?
الذي يقبع وراء هذه الأجهزه كلها , في العالم كله . . يهود . .
يهود يقومون بخصائص الربوبية على البهائم المغلوبة على أمرها ! ويبلغون أهدافهم كلها من إطلاق هذه الموجات المسعورة في كل مكان . . أهدافهم من تلهية العالم كله بهذا السعار ; وإشاعة الانحلال النفسي والخلقي من ورائه , وإفساد الفطرة البشرية , وجعلها ألعوبة في أيدي مصممي الأزياء والتجميل ! ثم تحقيق الأهداف الاقتصادية من وراء الإسراف في استهلاك الأقمشة وأدوات الزينة والتجميل وسائر الصناعات الكثيرة التي تقوم على هذا السعار وتغذيه !
إن قضية اللباس والأزياء ليست منفصلة عن شرع الله ومنهجه للحياة . . ومن ثم ذلك الربط بينها وبين قضية الإيمان والشرك في السياق .
أنها ترتبط بالعقيدة والشريعة بأسباب شتى:
إنها تتعلق قبل كل شيء بالربوبية , وتحديد الجهة التي تشرع للناس في هذه الأمور , ذات التأثير العميق في الأخلاق والاقتصاد وشتى جوانب الحياة .
كذلك تتعلق بإبراز خصائص "الإنسان" في الجنس البشري , وتغليب الطابع "الإنساني" في هذا الجنس على الطابع الحيواني .
والجاهلية تمسخ التصورات والأذواق والقيم والأخلاق . وتجعل العري - الحيواني - تقدماً ورقياً . والستر - الإنساني - تأخراً ورجعية ! وليس بعد ذلك مسخ لفطرة الإنسان وخصائص الإنسان .
وبعد ذلك عندنا جاهليون يقولون:ما للدين والزي ? ما للدين وملابس النساء ? ما للدين والتجميل ? . . إنه المسخ الذي يصيب الناس في الجاهلية في كل زمان وفي كل مكان !!!
ولأن هذه القضية التي تبدو فرعية , لها كل هذه الأهمية في ميزان الله وفي حساب الإسلام , لارتباطها أولا بقضية التوحيد والشرك ; ولارتباطها ثانياً بصلاح فطرة الإنسان وخلقه ومجتمعه وحياته , أو بفساد هذا كله . . فإن السياق يعقب عليها بإيقاع قوي مؤثر ; يوقع به عادة في مواقف العقيدة الكبيرة . . إنه يعقب بتنبيه بني آدم ,إلى أن بقاءهم في هذه الأرض محدود مرسوم ; وأنه إذا جاء الأجل فلا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون:
(ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
إنها حقيقة أساسية من حقائق هذه العقيدة , يوقع بها السياق على أوتار القلوب الغافلة - غير الذاكرة ولا الشاكرة - لتستيقظ , فلا يغرها امتداد الحياة !
والأجل المضروب إما أجل كل جيل من الناس بالموت المعروف الذي يقطع الحياة . وإما أجل كل أمة من الأمم بمعنى الأمد المقدر لقوتها في الأرض واستخلافها . . وسواء هذا الأجل أو ذاك فإنه مرسوم لا يتقدمون عنه ولا يستأخرون .
تعقيب على الوحدة:بين الأنعام والأعراف
وقبل أن نترك هذه الجولة نسجل ما لا حظناه من التشابه العجيب في مواجهة المنهج القرآني للجاهلية في شأن الذبائح والنذور والتحليل فيها والتحريم - في سورة الأنعام - ومواجهته للجاهلية - هنا في شأن اللباس والطعام . .
ففي شأن الذبائح والنذور في الأنعام والثمار , بدأ أولاً بالحديث عما تزاوله الجاهلية فعلاً من هذه التقاليد ; وعما تزعمه - افتراء على الله - من أن هذا الذي تزاوله هو من شرع الله . ثم طلب إليهم الدليل الذي يستندون إليه في أن الله حرم هذا الذي يحرمونه , وأحل هذا الذي يحلونه: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا , فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم ? إن الله لا يهدي القوم الظالمين). . ثم واجه هروبهم من هذه المواجهة بإحالة الأمر إلى قدر الله وإلى أمره لهم بهذا الشرك الممثل في مزاولة الحاكمية وهي من خصائص الألوهيةSadسيقول الذين أشركوا:لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ! كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا . قل:هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ? إن تتبعون إلا الظن , وإن أنتم إلا تخرصون:قل:فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين . قل:هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا . فإن شهدوا فلا تشهد معهم , ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون). . حتى إذا انتهى من تفنيد هذا الباطل الذي يدعونه ويفترونه , قال لهم:تعالوا لأبين لكم حقيقة ما حرم الله عليكم وحقيقة ما أمركم به:عن المصدر الصحيح الوحيد المعتمد في هذا الشأن ; والذي لا يجوز الأخذ عن غيره: قل:تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم , ألا تشركوا به شيئاً . . . الخ. .
وهنا كذلك سار على نفس النسق , وعلى ذات الخطوات . . ذكر ما هم عليه من فاحشة العري ومن الشرك في مزاولة الحاكمية في التحريم والتحليل في اللباس والطعام . وحذرهم ما هم عليه من الفاحشة والشرك , وذكرهم مأساة العري التي واجهها أبواهما في الجنة بفعل الشيطان وكيده ; ونعمة الله عليهم في إنزال اللباس والرياش . . ثم استنكر دعواهم أن ما يزاولونه من التحريم والتحليل هو من شرع الله وأمرهSadقل:من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . قل:هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا . خالصة يوم القيامة . كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون). مشيراً هنا إلى العلم اليقيني لا الظن والخرص الذي يبنون عليه دينهم وشعائرهم وعباداتهم وشرائعهم . . حتى إذا أبطل دعواهم فيما يزاولون عاد ليقرر لهم ما حرمه ربهم عليهم فعلاً: (قل إنما حرم ربي الفواحش - ما ظهر منها وما بطن - والإثم والبغي بغير الحق , وأن تشركوا بالله ما لمينزل به سلطاناً , وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). . كما أنه قد بين لهم من قبل حقيقة ما أمر الله به في شأن اللباس والطعام - لا مايدعونه هم وينسبونه(إلى الله -: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد . . . . . وكلوا واشربوا ولاتسرفوا , إنه لا يحب المسرفين). .
وفي كلتا المواجهتين علق القضية كلها بقضية الإيمان والشرك . لأنها في صميمها هي قضية الحاكمية , ومن الذي يزاولها في حياة البشر . وقضية عبودية الناس ولمن تكون !
ذات القضية , وذات المنهج في مواجهتها . وذات الخطوات . . وصدق الله العظيم: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)وهذه الوحدة في المنهج تبدو أهميتها ويزداد بروزها حين نذكر طبيعة سورة الأنعام وطبيعة سورة الأعراف والمجالين المختلفين اللذين تعالجان فيهما قضية العقيدة . . فإن اختلاف المجال لم يمنع وحدة المنهج في مواجهة الجاهلية في القضايا الأساسية . . وسبحان منزل هذا القرآن ! . .
الوحدة الرابعة:35 - 53 الموضوع:الإستجابة للرسل وعدمها والإفتراق يوم القيامة:وما يجري على الأعراف
مقدمة الوحدة
الآن بعد تلك الوقفة الطويلة للتعقيب على قصة النشأة الأولى ; ومواجهة واقع الجاهلية العربية - وواقع الجاهلية البشرية كلها من ورائها - في شأن ستر الجسم باللباس وستر الروح بالتقوى ; وعلاقة القضية كلها بقضية العقيدة الكبرى . .
الآن يبدأ نداء جديد لبني آدم . . نداء بشأن القضية الكلية التي ربطت بها قضية اللباس في الوقفة السابقة . . قضية التلقي والاتباع في شعائر الدين وفي شرائعه , وفي أمر الحياة كلها وأوضاعها . وذلك لتحديد الجهة التي يتلقون منها . . إنها جهة الرسل المبلغين عن ربهم . وعلى أساس الاستجابة أو عدم الاستجابة للرسل يكون الحساب والجزاء , في نهاية الرحلة التي يعرضها السياق في هذه الجولة:
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:09 pm

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَـئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
الدرس الأول:35 - 36 دعوة الرسل واختلاف الناس فيها
(يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي , فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).
هذا هو عهد الله لآدم وبنيه , وهذا هو شرطه في الخلافة عنه - سبحانه - في أرضه التي خلقها وقدر فيها أقواتها , واستخلف فيها هذا الجنس , ومكنه فيها , ليؤدي دوره وفق هذا الشرط وذلك العهد ; وإلا فإن عمله رد في الدنيا لا يقبله ولا يمضيه مسلم لله ; وهو في الآخرة وزر جزاؤه جهنم لا يقبل الله من أصحابه صرفاً ولا عدلاً .
(فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
لأن التقوى تنأى بهم عن الآثام والفواحش - وأفحش الفواحش الشرك بالله واغتصاب سلطانه وادعاء خصائص ألوهيته - وتقودهم إلى الطيبات والطاعات ; وتنتهي بهم إلى الأمن من الخوف والرضى عن المصير .
(والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها , أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). . لأن التكذيب والاستكبار عن الاستسلام لعهد الله وشرطه يلحق المستكبرين بوليهم إبليس في النار ; حيث يحق وعد الله: (لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين). .
الدرس الثاني:مقدمة الدرس
ومن هنا يأخذ السياق في عرض مشهد الاحتضار - عند نهاية الأجل المشار إليه في نهاية الجولة الماضيةSadولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). . ثم مشهد الحشر والحساب . ومشهد الفصل والجزاء . . كأنها تفصيل لذلك الإجمال عن شأن المتقين والمستكبرين ; وتصوير لحال المتقين وحال المستكبرين ; بعد الأجل المعلوم . تصوير على طريقة القرآن الفريدة التي تستحضر المشهد حياً متحركاً يراه قارىء القرآن وسامعه ; ويشهده , بكل كينونته .
لقد عني المنهج القرآني بمشاهد القيامة . . البعث والحساب , والنعيم والعذاب . . عناية واضحة . فلم يعد ذلك العالم الذي وعده الله الناس , بعد هذا العالم الحاضر , موصوفاً فحسب , بل عاد مصوراً محسوساً , وخفقت قلوبهم تارة , واقشعرت جلودهم تارة , وسرى في نفوسهم الفزع مرة , وعاودهم الاطمئنان أخرى , ولاح لهم من بعيد لفح النار , ورفت إليهم من الجنة أنسام ! ومن ثم باتوا يعرفون ذلك العالم تمام المعرفة قبل اليوم الموعود . . والذي يراجع كلماتهم ومشاعرهم عن ذلك العالم يحس أنهم كانوا يعيشون فيه عيشة أعمق وأصدق من حياتهم في هذه الدار الدنيا ; وكانوا ينتقلون بحسهم كله إليه , كما ينتقل الإنسان من دار إلى دار , ومن أرض إلى أرض , في هذه الحياة المشهودة المحسوسة . . ولم يكن ذلك العالم مستقبلاً موعوداً في حسهم , وإنما كان واقعاً مشهوداً . .
وربما كانت هذه المشاهد - المعروضة هنا - أطول مشاهد القيامة في القرآن , وأحفلها بالحركة , وبالمناظر المتتابعة , وبالحوار المتنوع , في حيوية فائضة يعجب الإنسان كيف تنقلها الألفاظ , حيث لا ينقلها للحس هكذا إلا المشاهدة !
وهي تجيء في السورة - كما أسلفنا - تعقيباً على قصة آدم , وخروجه من الجنة هو وزوجه بإغواء الشيطان لهما , وتحذير الله لبني آدم أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة , وتحذيرهم من اتباع عدوهمالقديم فيما يوحي به إليهم ويوسوس , وتهديدهم بتولية الشيطان لهم إن هم اختاروا اتباعه على اتباع ما سيرسل به الرسل إليهم من الهدى والشريعة . . ثم يأخذ في عرض مشهد الاحتضار , ومشاهد القيامة - وكأنها تالية له بلا فاصل من الزمان ! - فإذا الذي يقع فيها مصداق ما ينبىء به هؤلاء الرسل , وإذا الذين يطيعون الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة , وفتنوا عنها كما أخرج أبويهم منها . وإذا الذين خالفوا الشيطان فأطاعوا الله , قد ردوا إلى الجنة , ونودوا من الملأ الأعلى: (أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). . فكأنما هي أوبة المهاجرين , وعودة المغتربين , إلى دار النعيم !
وفي هذا التناسق بين القصة السابقة والتعقيبات عليها , ومشاهد القيامة اللاحقة من مبدئها إلى منتهاها من الجمال ما فيه . فهي قصة تبدأ في الملأ الأعلى , على مشهد من الملائكة - يوم أن خلق الله آدم وزوجه وأسكنهما الجنة , فدلاهما الشيطان عن مرتبة الطاعة والعبودية الكاملة الخالصة , وأخرجهما من الجنة - وتنتهي كذلك في الملأ الأعلى على مشهد من الملائكة . . فيتصل البدء بالنهاية . ويضمان بينهما فترة الحياة الدنيا ومشهد الاحتضار في نهايتها . وهو يتسق في الوسط مع البدء والنهاية كل الاتساق .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:09 pm

والآن نأخذ في استعراض هذه المشاهد العجيبة:
الدرس الثاني:مشهد إحتضار الكفار
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار . احتضار الذين افتروا على الله الكذب , فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر , وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام , أمرهم به الله , والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع الله المستيقن - وآثروا الظن والحرص على اليقين والعلم . وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم , ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله , كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب:
فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياتنا ? أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب , حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم , قالوا:أين ما كنتم تدعون من دون الله ? قالوا:ضلوا عنا , وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين . .
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته ; وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم , ويقبضون أرواحهم . فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار:
(قالوا:أين ما كنتم تدعون من دون الله ?). .
أين دعاويكم التي افتريتم على الله ? وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا , وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل ? أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة ; فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله ?
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد , الذي لا معدى عنه , ولا مغالطة فيه:
(قالوا:ضلوا عنا)!
غابوا عنا وتاهوا ! فلا نحن نعرف لهم مقراً , ولا هم يسلكون إلينا طريقاً ! . . فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم , ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة ! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها . في مثل هذا الأوان !
(وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين). .
وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنياSadفما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا:إنا كنا ظالمين)!
الدرس الثالث:38 - 44 بين المؤمنين والكفار يوم القيامة
فإذا انتهى مشهد الاحتضار , فنحن أمام المشهد التالي , وهؤلاء المحتضرون في النار ! . . ويسكت السياق عما بينهما , ويسقط الفترة بين الموت والبعث والحشر . وكأنما يؤخذ هؤلاء المحتضرون من الدار إلى النار !
(قال:ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار , كلما دخلت أمة لعنت أختها , حتى إذا ادّاركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم:ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار . قال:لكل ضعف ولكن لا تعلمون . وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل , فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون).
(ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار).
انضموا إلى زملائكم وأوليائكم من الجن والإنس . . هنا في النار . . أليس إبليس هو الذي عصى ربه ? وهو الذي أخرج آدم من الجنة وزوجه ? وهو الذي أغوى من أغوى من أبنائه ? وهو الذي أوعده الله أن يكون هو ومن أغواهم في النار ? . . فادخلوا إذن جميعاً . . ادخلوا سابقين ولاحقين . . فكلكم أولياء . . وكلكم سواء !
ولقد كانت هذه الأمم والجماعات والفرق في الدنيا من الولاء بحيث يتبع آخرها أولها ; ويملي متبوعها لتابعها . . فلننظر اليوم كيف تكون الأحقاد بينها , وكيف يكون التنابز فيها:
(كلما دخلت أمة لعنت أختها)!
فما أبأسها نهاية تلك التي يلعن فيها الابن أباه ; ويتنكر فيها الولي لمولاه !
(حتى إذا اداركوا فيها جميعاً). .
وتلاحق آخرهم وأولهم , واجتمع قاصيهم بدانيهم , بدأ الخصام والجدال:
(قالت أخراهم لأولاهم , ربنا هؤلاء أضلونا , فآتهم عذاباً ضعفاً من النار). .
وهكذا تبدأ مهزلتهم أو مأساتهم ! ويكشف المشهد عن الأصفياء والأولياء , وهم متناكرون أعداء ; يتهم بعضهم بعضا , ويلعن بعضهم بعضا , ويطلب له من(ربنا)شر الجزاء . . من(ربنا)الذي كانوا يفترون عليه ويكذبون بآياته ; وهم اليوم ينيبون إليه وحده ويتوجهون إليه بالدعاء ! فيكون الجواب استجابة للدعاء . ولكن أية استجابة ?!
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:09 pm

(قال:لكل ضعف , ولكن لا تعلمون).
لكم ولهم جميعاً ما طلبتم من مضاعفة العذاب !
وكأنما شمت المدعو عليهم بالداعين , حينما سمعوا جواب الدعاء , فإذا هم يتوجهون إليهم بالشماتة . . كلنا سواء . . في هذا الجزاء:
(وقالت أولاهم لأخراهم:فما كان لكم علينا من فضل . فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)!
وبهذا ينتهي ذلك المشهد الساخر الأليم , ليتبعه تقرير وتوكيد لهذا المصير الذي لن يتبدل - وذلك قبل عرض المشهد المقابل للمؤمنين في دار النعيم -:


إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
(إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء , ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط , وكذلك نجزي المجرمين . لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش , وكذلك نجزي الظالمين). .
ودونك فقف بتصورك ما تشاء أمام هذا المشهد العجيب . . مشهد الجمل تجاه ثقب الإبرة . فحين يفتح ذلك الثقب الصغير لمرور الجمل الكبير , فانتظر حينئذ - وحينئذ فقط - أن تفتح أبواب السماء لهؤلاء المكذبين , فتقبل دعاءهم أو توبتهم - وقد فات الأوان - وأن يدخلوا إلى جنات النعيم ! أما الآن , وإلى أن يلج الجمل في سم الخياط , فهم هنا في النار , التي تداركوا فيها جميعاً وتلاحقوا ; وتلاوموا فيها وتلاعنوا , وطلب بعضهم لبعض سوء الجزاء , ونالوا جميعاً ما طلبه الأولياء للأولياء !
(وكذلك نجزي المجرمين). .
ثم إليك هيئتهم في النار:
(لهم من جهنم مهادٌ , ومن فوقهم غواشٍ). .
فلهم من نار جهنم من تحتهم فراش , يدعوه - للسخرية - مهاداً , وما هو مهد ولا لين ولا مريح ! - ولهم من نار جهنم أغطية تغشاهم من فوقهم !
(وكذلك نجزي الظالمين). .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:10 pm

والظالمون هم المجرمون . والظالمون هم المشركون المكذبون بآيات الله , المفترون الكذب على الله . . كلها أوصاف مترادفة في تعبير القرآن .
والآن فلننظر إلى المشهد المقابل:
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات - لا نكلف نفساً إلا وسعها - أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون . ونزعنا ما في صدورهم من غل , تجري من تحتهم الأنهار , وقالوا:الحمد لله الذي هدانا لهذا - وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله - لقد جاءت رسل ربنا بالحق . ونودوا:أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). .
هؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات قدر استطاعتهم , لا يكلفون إلا طاقتهم . . هؤلاء هم يعودون إلى جنتهم ! إنهم أصحابها - بإذن الله وفضله - ورثها لهم - برحمته - بعملهم الصالح مع الإيمان . . جزاء ما اتبعوا رسل الله وعصوا الشيطان . وجزاء ما أطاعوا أمر الله العظيم الرحيم , وعصوا وسوسة العدو اللئيم القديم ! ولولا رحمة الله ما كفى عملهم - في حدود طاقتهم - وقد قال رسول الله [ ص ] " لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله " . قالوا:ولا أنت يا رسول الله ? قال:" ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " . وليس هنالك تناقض ولا اختلاف بين قول الله سبحانه في هذا الشأن , وقول رسوله [ ص ] وهو لا ينطق عن الهوى . . وكل ما ثار من الجدل حول هذه القضية بين الفرق الإسلامية لم يقم على الفهم الصحيح لهذا الدين , إنما ثار عن الهوى ! فلقد علم الله من بني آدم ضعفهم وعجزهم وقصورهم عن أن تفي أعمالهم بحق الجنة . ولا بحق نعمة واحدة من نعمه عليهم في الدنيا . فكتب على نفسه الرحمة ; وقبل منهم جهد المقل القاصر الضعيف ; وكتب لهم به الجنة , فضلاً منه ورحمة , فاستحقوها بعملهم ولكن بهذه الرحمة . .
وبعد , فإذا كان أولئك المفترون المكذبون المجرمون الظالمون الكافرون المشركون يتلاعنون في النار


وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:10 pm

ويتخاصمون , وتغلي صدورهم بالسخائم والأحقاد , بعد أن كانوا أصفياء أولياء . . فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إخوان متحابون متصافون متوادون , يرف عليهم السلام والولاء:
(ونزعنا ما في صدورهم من غل). .
فهم بشر . وهم عاشوا بشراً . وقد يثور بينهم في الحياة الدنيا غيظ يكظمونه , وغل يغالبونه ويغلبونه . . ولكن تبقى في القلب منه آثار .
قال القرطبي في تفسيره المسمى أحكام القرآن:قال رسول الله - [ ص ]:" الغل على أبواب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله من قلوب المؤمنين " . . وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال:أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: (ونزعنا ما في صدورهم من غل). .
وإذا كان أهل النار يصطلون النار من تحتهم ومن فوقهم . فأهل الجنة تجري من تحتهم الأنهار ; فترف على الجو كله أنسام:
(تجري من تحتهم الأنهار). .
وإذا كان أولئك يشتغلون بالتنابز والخصام , فهؤلاء يشتغلون بالحمد والاعتراف:
(وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا , وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله , لقد جاءت رسل ربنا بالحق). . وإذا كان أولئك ينادون بالتحقير والتأنيب: (ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار). . فإن هؤلاء ينادون بالتأهيل والتكريم:
(ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون). .
إنه التقابل التام بين أصحاب الجنة وأصحاب النار .
ثم يستمر العرض , فإذا نحن أمام مشهد لاحق للمشهد السابق . . لقد اطمأن أصحاب الجنة إلى دارهم ; واستيقن أصحاب النار من مصيرهم . وإذا الأولون ينادون الآخرين , يسألونهم عما وجدوه من وعد الله القديم:
(ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار:أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً , فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ? قالوا:نعم ! فأذن مؤذن بينهم:أن لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون). .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:11 pm

وفي هذا السؤال من السخرية المرة ما فيه . . إن المؤمنين على ثقة من تحقق وعيد الله كثقتهم من تحقق وعده . ولكنهم يسألون !
ويجيء الجواب في كلمة واحدة . . نعم . . !
وعندئذ ينتهي الجواب , ويقطع الحوار:
(فأذن مؤذن بينهم:أن لعنة الله على الظالمين . الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً , وهم بالآخرة كافرون). .
فيتحدد معنى(الظالمين)المقصود . وهو مرادف لمعنى(الكافرين). فهم الذين يصدون عن سبيل الله , ويريدون الطريق عوجاً لا استقامة فيه , وهم بالآخرة كافرون .
وفي هذا الوصف: (ويبغونها عوجاً). . إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله . إنهم يريدون


وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
الطريق العوجاء ; ولا يريدون الطريق المستقيم . يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة . فالاستقامة لها صورة واحدة:صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه . وكل ما عداه فهو أعوج ; وهو إرادة للعوج . وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة . فما يؤمن بالآخرة أحد , ويستيقن أنه راجع إلى ربه ; ثم يصد عن سبيل الله , ويحيد عن نهجه وشرعه . . وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعاً غير شرع الله . التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح .
الدرس الرابع:46 - 49 كلام أصحاب الأعراف لأصحاب الجنة وأصحاب النار
ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره . فإذا هنالك حاجز يفصل بين الجنة والنار ; عليه رجال يعرفون اصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم . . فلننظر من هؤلاء , وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار ?
(وبينهما حجاب , وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم . ونادوا أصحاب الجنة:أن سلام عليكم . . لم يدخلوها وهم يطمعون . وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا:ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم , قالوا:ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون . أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ? ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون). .
روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف - الحجاب الحاجز بين الجنة والنار - جماعة من البشر , تعادلت حسناتهم وسيئاتهم , فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة , ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار . . وهم بين بين , ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته . . وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم - ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم - ويعرفون أهل النار بسيماهم - ربما بسواد الوجوه وقترتها , أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا , كالذي جاء في سورة القلمSadسنسمه على الخرطوم)! وها هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام . . يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم ! . . . فإذا وقعت أبصارهم على أصحاب النار - وكأنما يصرفون إليهم صرفاً لا عن إرادة منهم - استعاذوا بالله أن يكون مصيرهم معهم !
(وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم . ونادوا أصحاب الجنة:أن سلام عليكم . . لم يدخلوها وهم يطمعون . . وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين). .
ثم يبصرون برجال من كبار المجرمين معروفين لهم بسيماهم . فيتجهون إليهم بالتبكيت والتأنيبSadونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم , قالوا:ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون)!
فها أنتم هؤلاء في النار , لا جمعكم نفعكم , ولا استكباركم أغنى عنكم !
ثم يذكرونهم بما كانوا يقولونه عن المؤمنين في الدنيا من أنهم ضالون , لا ينالهم الله برحمة:
(أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة !)!
انظروا الآن أين هم ? وماذا قيل لهم:
(ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون). .
الدرس الخامس:50 - 53 حرمان الكفار من النعيم وتسجيل جرائمهم
وأخيراً . ها نحن أولاء نسمع صوتاً آتياً من قبل النار , ملؤه الرجاء والاستجداء:
(ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة:أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله)!


وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53)
وها نحن أولاء نلتفت إلى الجانب الآخر نسمع الجواب ملؤه التذكير الأليم المرير:
(قالوا:إن الله حرمهما على الكافرين . الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا). .
ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى , لينطق رب العزة والجلالة , وصاحب الملك والحكم:
(فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا . وما كانوا بآياتنا يجحدون . ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم , هدى ورحمة لقوم يؤمنون . هل ينظرون إلا تأويله ? يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل:قد جاءت رسل ربنا بالحق , فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا , أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل . قد خسروا أنفسهم , وضل عنهم ما كانوا يفترون). .
وهكذا تتوالى صفحات المشهد جيئة وذهوباً . . لمحة في الآخرة ولمحة في الدنيا . لمحة مع المعذبين في النار , المنسيين كما نسوا لقاء يومهم هذا وكما جحدوا بآيات الله , وقد جاءهم بها كتاب مفصل مبين . فصله الله - سبحانه - على علم - فتركوه واتبعوا الأهواء والأوهام والظنون . . ولمحة معهم - وهم بعد في الدنيا - ينتظرون مآل هذا الكتاب وعاقبة ما جاءهم فيه من النذير ; وهم يُحذّرون أن يجيئهم هذا المآل . فالمآل هو مايرون في هذا المشهد من واقع الحال !
إنها خفقات عجيبة في صفحات المشهد المعروض ; لا يجليها هكذا إلا هذا الكتاب العجيب !
وهكذا ينتهي ذلك الاستعراض الكبير ; ويجيء التعقيب عليه متناسقاً مع الابتداء . تذكيراً بهذا اليوم ومشاهده , وتحذيراً من التكذيب بآيات الله ورسله , ومن انتظار تأويل هذا الكتاب فهذا هو تأويله , حيث لا فسحة لتوبة , ولا شفاعة في الشدة , ولا رجعة للعمل مرة أخرى .
نعم . . هكذا ينتهي الاستعراض العجيب . فنفيق منه كما نفيق من مشهد أخاذ كنا نراه .
ونعود منه إلى هذه الدنيا التي فيها نحن ! وقد قطعنا رحلة طويلة طويلة في الذهاب والمجيء !
إنها رحلة الحياة كلها , ورحلة الحشر والحساب والجزاء بعدها . . ومن قبل كنا مع البشرية في نشأتها الأولى , وفي هبوطها إلى الأرض وسيرها فيها !
وهكذا يرتاد القرآن الكريم بقلوب البشر هذه الآماد والأكوان والأزمان . يريها ما كان وما هو كائن وما سيكون . . كله في لمحات . . لعلها تتذكر , ولعلها تسمع للنذير:
(كتاب أنزل إليك , فلا يكن في صدرك حرج منه , لتنذر به وذكرى للمؤمنين . اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم , ولا تتبعوا من دونه أولياء , قليلاً ما تذكرون). .
الوحدة الخامسة:54 - 58 الموضوع:عرض الآيات في الأنفس والآفاق على الربوبية والألوهية مقدمة الوحدة
بعد تلك الرحلة الواسعة الآماد , من المنشأ إلى المعاد , يأخذ السياق بأيدي البشر إلى رحلة أخرى في ضمير الكون , وفي صفحته المعروضة للأنظار . فيعرض قصة خلق السماوات والأرض بعد قصة خلق الإنسان . ويوجه الأبصار والبصائر إلى مكنونات هذا الكون وأسراره , وإلى ظواهره وأحواله - إلى الليل الذي يطلب النهار في ذلك الفلك الدوار . وإلى الشمس والقمر والنجوم وهن مسخرات بأمر الله . وإلى الرياح الدائرة في الجواء , نقل السحاب إلى البلد الميت - بإذن الله - فإذا هو حي , وإذا الموات يؤتي من كل الثمرات .
هذه السبحات في ملكوت الله , يرتادها السياق بعد قصة النشأة الإنسانية ; وبعد تصوير طرفي الرحلة ; وبعد الحديث عن اتباع الشيطان والاستكبار عن اتباع رسل الله ; وبعد عرض التصورات الجاهلية والتقاليد التي يشرعها البشر لأنفسهم بلا إذن من الله ولا شرع . . يرتاد السياق هذه السبحات ليرد البشر إلى ربهم , الذي خلق هذا الوجود وسخره , والذي يحكمه بنواميسه ويصرفه بقدره , والذي له الخلق والأمر وحده . .
إنه الإيقاع القوي العميق بعبودية الوجود كلها لبارئه , والذي يبدو استكبار الإنسان فيه عن هذه العبودية نشازاً في الوجود , يجعل الناشز غريباً شائهاً في الوجود .
وفي ظل تلك المشاهد ; وفي مواجهة هذا الإيقاع يدعوهم:
(ادعوا ربكم تضرعاً وخفية , إنه لا يحب المعتدين , ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها , وادعوه خوفاً وطمعاً , إن رحمة الله قريب من المحسنين). .
إن إخلاص الدين لله , وتقرير عبودية البشر له , إن هي إلا فرع من إسلام الوجود كله , وعبودية الوجود كلة لسلطانه . . وهذا هو الإيحاء الذي يستهدف المنهج القرآني تقريره وتعميقه في القلب البشري . . وأيما قلب أو عقل يتجه بوعي ويقظة إلى هذا الكون ونواميسه المستسرة , وظواهره الناطقة بتلك النواميس المستسرة . . لا بد يستشعر تأثيراً لا يرد سلطانه ; ولا بد يهتز من أعماقه بالشعور القاهر بوجود المدبر المقدر صاحب الخلق والأمر . . وهذه هي الخطوة الأولى لدفع هذا القلب إلى الاستجابة لداعي الله ; والاستسلام لسلطانه الذي يستسلم له هذا الوجود كله ولا يتخطاه .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:11 pm

ومن ثم يتخذ المنهج القرآني من هذا الوجود مجاله الأول لتجلية حقيقة الألوهية ; وتعبيد البشر لربهم وحده , وإشعار قلوبهم وكيانهم كله حقيقة العبودية , وتذوق طعمها الحقيقي في استسلام الواثق المطمئن ; الذي يستشعر أن كل ما حوله وكل من حوله من خلق الله , يتجاوب وإياه !
إنه ليس البرهان العقلي وحده هو الذي يستهدفه المنهج القرآني باستعراض عبودية الوجود لله , وتسخيره بأمره , واستسلام هذا الوجود في طواعية ويسر ودقة وعمق لأمره وحكمه . . إنما هو مذاق آخر - وراء


إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
البرهان العقلي ومع هذا البرهان العقلي - مذاق المشاركة مع الوجود والتجاوب . ومذاق الطمأنينة واليسر ; والانسياق مع موكب الايمان الشامل .
إنه مذاق العبودية الراضية , التي لا يسوقها القسر , ولا يحركها القهر . . إنما تحركها - قبل الأمر والتكليف - عاطفة الود والطمأنينة والتناسق مع الوجود كله . . فلا تفكر في التهرب من الأمر , ولا التفلت من القهر ; لأنها إنما تلبي حاجتها الفطرية في الاستسلام الجميل المريح . . الاستسلام لله الذي يرفع الجباه عن الدينونة لغيره أو العبودية لسواه . الاستسلام الرفيع الكريم لرب العالمين . .
هذا الاستسلام هو الذي يمثل معنى الإيمان , ويعطيه طعمه ومذاقه . . وهذه العبودية هي التي تحقق معنى الإسلام , وتعطيه حيويته وروحه . . وهي هي القاعدة التي لا بد أن تقام وتستقر , قبل التكليف والأمر ; وقبل الشعائر والشرائع . . ومن ثم هذه العناية الكبرى بإنشائها وتقريرها وتعميقها وتثبيتها في المنهج القرآني الحكيم . .
الدرس الأول:54 الخلق والأمر بيد الله وحده
(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , ثم استوى على العرش , يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً , والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين). .
إن عقيدة التوحيد الإسلامية , لا تدع مجالاً لأي تصور بشري عن ذات الله سبحانه ; ولا عن كيفيات أفعاله . . فالله سبحانه ليس كمثله شيء . . ومن ثم لا مجال للتصور البشري لينشىء صورة عن ذات الله . فكل التصورات البشرية إنما تنشأ في حدود المحيط الذي يستخلصه العقل البشري مما حوله من أشياء . فإذا كان الله - سبحانه - ليس كمثله شيء , توقف التصور البشري إطلاقاً عن إنشاء صورة معينة لذاته تعالى . ومتى توقف عن إنشاء صورة معينة لذاته العلية فإنه يتوقف تبعاً لذلك عن تصور كيفيات أفعاله جميعاً . ولم يبق أمامه إلا مجال تدبر آثار هذه الأفعال في الوجود من حوله . . وهذا هو مجاله . .
ومن ثم تصبح أسئلة كهذه:كيف خلق الله السماوات والأرض ? كيف استوى على العرش ? كيف هذا العرش الذي استوى عليه الله سبحانه ?! . . . تصبح هذه الأسئلة وأمثالها لغوا يخالف توجيهها قاعدة الاعتقاد الإسلامي . أما الإجابة عليها فهي اللغو الأشد الذي لا يزاوله من يدرك تلك القاعدة ابتداء ! ولقد خاضت الطوائف - مع الأسف - في هذه المسائل خوضاً شديداً في تاريخ الفكر الإسلامي , بالعدوى الوافدة على هذا الفكر من الفلسفة الإغريقية !
فأما الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض , فهي كذلك غيب لم يشهده أحد من البشر ولا من خلق الله جميعاً: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم . . وكل ما يقال عنها لا يستند إلى أصل مستيقن .
إنها قد تكون ست مراحل . وقد تكون ستة أطوار . وقد تكون ستة أيام من أيام الله التي لاتقاس بمقاييس زماننا الناشئ من قياس حركة الأجرام - إذ لم تكن قبل الخلق هذه الأجرام التي نقيس نحن بحركتها الزمان ! . . وقد تكون شيئاً آخر . . فلا يجزم أحد ماذا يعني هذا العدد على وجه التحديد . . وكل حمل لهذا النص ومثله على "تخمينات" البشرية التي لا تتجاوز مرتبة الفرض والظن - باسم "العلم ! " - هو محاولة تحكمية , منشؤها الهزيمة الروحية أمام "العلم" الذي لا يتجاوز في هذا المجال درجة الظنون والفروض !
ونخلص نحن من هذه المباحث التي لا تضيف شيئاً إلى هدف النص ووجهته . لنرتاد مع النصوص الجميلة تلك الرحلة الموحية في أقطار الكون المنظور , وفي أسراره المكنونة:
(إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , ثم استوى على العرش , يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً , والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . ألا له الخلق والأمر . تبارك الله رب العالمين). .
إن الله الذي خلق هذا الكون المشهود في ضخامته وفخامته . والذي استعلى على هذا الكون يدبره بأمره ويصرفه بقدره . يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً . . في هذه الدوره الدائبة:دورة الليل يطلب النهار في هذا الفلك الدوار . والذي جعل الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره . . إن الله الخالق المهيمن المصرف المدبر , هو(ربكم). . هو الذي يستحق أن يكون رباً لكم . يربيكم بمنهجه , ويجمعكم بنظامه , ويشرع لكم بإذنه , ويقضي بينكم بحكمه . . إنه هو صاحب الخلق والأمر . . وكما أنه لا خالق معه . فكذلك لا آمر معه . . هذه هي القضية التي يستهدفها هذا الاستعراض . . قضية الألوهية والربوبية والحاكمية , وإفراد الله سبحانه بها . . وهي قضية العبودية من البشر في شريعة حياتهم . فهذا هو الموضوع الذي يواجهه سياق السورة ممثلاً في مسائل اللباس والطعام . كما كان سياق سورة الأنعام يواجهه كذلك في مسائل الأنعام والزروع والشعائر والنذور .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:11 pm

ولا ينسينا الهدف العظيم الذي يستهدفه السياق القرآني بهذا الاستعراض , أن نقف لحظات أمام روعة المشاهد وحيويتها وحركتها وإيحاءاتها العجيبة . فهي من هذه الوجهة كفء للهدف العظيم الذي تتوخاه . .
إن دورة التصور والشعور مع دورة الليل والنهار في هذا الفلك الدوار , والليل يطلب النهار حثيثاً , ويريده مجتهداً ! لهي دورة لا يملك الوجدان ألا يتابعها ; وألا يدور معها ! وألا يرقب هذا السباق الجبار بين الليل والنهار , بقلب مرتعش ونفس لاهث ! وكله حركة وتوفز , وكله تطلع وانتظار !
إن جمال الحركة وحيويتها و "تشخيص" الليل والنهار في سمت الشخص الواعي ذي الإرادة والقصد . . إن هذا كله مستوى من جمال التصوير والتعبير لا يرقى إليه فنّ بشري على الإطلاق !
إن الألفة التي تقتل الكون ومشاهده في الحس ; وتطبع النظرة إليه بطابع البلادة والغفلة . . إن هذه الألفة لتتوارى , ليحل محلها وقع المشهد الجديد الرائع الذي يطالع الفطرة كأنما لأول وهلة ! . . إن الليل والنهار في هذا التعبير ليسا مجرد ظاهرتين طبيعيتين مكرورتين . وإنما هما حيان ذوا حس وروح وقصد واتجاه . يعاطفان البشر ويشاركانهم حركة الحياة ; وحركة الصراع والمنافسة والسباق التي تطبع الحياة !
كذلك هذه الشمس والقمر والنجوم . . إنها كائنات حية ذات روح ! إنها تتلقى أمر الله وتنفذه , وتخضع له وتسير وفقه . إنها مسخرة , تتلقى وتستجيب , وتمضي حيث أمرت كما يمضي الأحياء في طاعة الله !
ومن هنا يهتز الضمير البشري ; وينساق للإستجابة , في موكب الأحياء المستجيبة . ومن هنا هذا السلطان للقرآن الذي ليس لكلام البشر . . إنه يخاطب فطرة الإنسان بهذا السلطان المستمد من قائله - سبحانه - الخبير بمداخل القلوب وأسرار الفطر . .
الدرس الثاني:55 - 56 دعاء الله والطمع في رحمته
وعندما يصل السياق إلى هذا المقطع , وقد ارتعش الوجدان البشري لمشاهد الكون الحية , التي كان يمر عليها في بلادة وغفلة . وقد تجلى له خضوع هذه الخلائق الهائلة وعبوديتها لسلطان الخالق وأمره . . عندئذ


ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
يوجه البشرَ إلى ربهم - الذي لا رب غيره - ليدعوه في إنابة وخشوع ; وليلتزموا بربوبيته لهم , فيلتزموا حدود عبوديتهم له ; لا يعتدون على سلطانه ; ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم , بعد أن أصلحها الله بمنهجه:
(ادعوا ربكم تضرعاً وخفية , إنه لا يحب المعتدين , ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . وادعوه خوفاً وطمعاً , إن رحمة الله قريب من المحسنين).
إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة , إلى الدعاء والإنابة . . تضرعاً وتذللاً ; وخفية لا صياحاً وتصدية ! فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه .
أخرج مسلم - بإسناده عن أبي موسى - قال:كنا مع رسول الله [ ص ] في سفر - وفي رواية غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير , فقال رسول الله [ ص ]:" أيها الناس أربعوا [ أي ارفقوا وهونوا ] على أنفسكم . إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً . إنكم تدعون سميعاً قريباً . وهو معكم " . .
فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً , هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء . ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلاً يستحيي من الصياح في دعائه ; والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح !
وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء , وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله , ينهى عن الاعتداء على سلطان الله , فيما يدعونه لأنفسهم - في الجاهلية - من الحاكمية التي لا تكون إلا لله . كما ينهى عن الفساد في الأرض بالهوى , وقد أصلحها الله بالشريعة . . والنفس التي تتضرع وتخشع خفية للقريب المجيب , لا تعتدي كذلك ولا تفسد في الأرض بعد إصلاحها . . فبين الانفعالين اتصال داخلي وثيق في تكوين النفس والمشاعر . والمنهج القرآني يتبع خلجات القلوب وانفعالات النفوس . وهو منهج من خلق الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
(وادعوه خوفاً وطمعاً). .
خوفاً من غضبه وعقابه . وطمعاً في رضوانه وثوابه .
(إن رحمة الله قريب من المحسنين). .
الذين يعبدون الله كأنهم يرونه , فإن لم يكونوا يرونه فهو يراهم . . كما جاء في الوصف النبوي للإحسان .
الدرس الثالث:57 فعل الله في الرياح والأمطار والثمار
ومرة أخرى يفتح السياق للقلب البشري صفحة من صفحات الكون المعروضة للأنظار ; ولكن القلوب تمر بها غافلة بليدة ; لا تسمع نطقها , ولا تستشعر إيقاعها . . إنها صفحة يفتحها على ذكر رحمة الله في الآية السابقة ; نموذجاً لرحمة الله في صورة الماء الهاطل , والزرع النامي , والحياة النابضة بعد الموت والخمود:
(وهو الذي يرسل الرياح , بشراً بين يدي رحمته , حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت , فأنزلنا به الماء , فأخرجنا به من كل الثمرات . . كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون). .
إنها آثار الربوبية في الكون . آثار الفاعلية والسلطان والتدبير والتقدير . وكلها من صنع الله ; الذي لا ينبغي أن يكون للناس رب سواه . وهو الخالق الرازق بهذه الأسباب التي ينشئها برحمته للعباد .
وفي كل لحظة تهب ريح . وفي كل وقت تحمل الريح سحاباً . وفي كل فترة ينزل من السحاب ماء .


وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
ولكن ربط هذا كله بفعل الله - كما هو في الحقيقة - هو الجديد الذي يعرضه القرآن هذا العرض المرتسم في المشاهد المتحركة , كأن العين تراه .
إنه هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته . والرياح تهب وفق النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون - فما كان الكون لينشىء نفسه , ثم يضع لنفسه هذه النواميس التي تحكمه ! - ولكن التصور الإسلامي يقوم على اعتقاد أن كل حدث يجري في الكون - ولو أنه يجري وفق الناموس الذي قدره الله - إنما يقع ويتحقق - وفق الناموس - بقدر خاص ينشئه ويبرزه في عالم الواقع . وأن الأمر القديم بجريان السنة , لا يتعارض مع تعلق قدر الله بكل حادث فردي من الأحداث التي تجري وفق هذه السنة . فإرسال الرياح - وفق النواميس الإلهية في الكون - حدث من الأحداث , يقع بمفرده وفق قدر خاص .
وحمل الرياح للسحاب يجري وفق نواميس الله في الكون أيضاً . ولكنه يقع بقدر خاص . ثم يسوق الله السحاب - بقدر خاص منه - إلى (بلد ميت). . صحراء أو جدباء . . فينزل منه الماء - بقدر كذلك خاص - فيخرج من كل الثمرات - بقدر منه خاص - يجري كل أولئك وفق النواميس التي أودعها طبيعة الكون وطبيعة الحياة .
إن التصور الإسلامي في هذا الجانب ينفي العفوية والمصادفة في كل ما يجري في الكون . ابتداء من نشأته وبروزه , إلى كل حركة فيه وكل تغيير وكل تعديل . كما ينفي الجبرية الآلية , التي تتصور الكون كأنه آلة , فرغ صانعها منها , وأودعها القوانين التي تتحرك بها , ثم تركها تتحرك حركة آلية جبرية حتمية وفق هذه القوانين التي تصبح بذلك عمياء !
إنه يثبت الخلق بمشيئة وقدر . ثم يثبت الناموس الثابت والسنة الجارية . ولكنه يجعل معها القدر المصاحب لكل حركة من حركات الناموس ولكل مرة تتحقق فيها السنة . القدر الذي ينشىء الحركة ويحقق السنة , وفق المشيئة الطليقة من وراء السنن والنواميس الثابتة .
إنه تصور حي . ينفي عن القلب البلادة . بلادة الآلية والجبرية . ويدعها أبداً في يقظة وفي رقابة . . كلما حدث حدثٌ وفق سنة الله . وكلما تمت حركة وفق ناموس الله . انتفض هذا القلب , يرى قدر الله المنفذ , ويرى يد الله الفاعلة , ويسبح لله ويذكره ويراقبه , ولا يغفل عنه بالآلية الجبرية ولا ينساه !
هذا تصور يستحيي القلوب , ويستجيش العقول , ويعلقها جميعاً بفاعلية الخالق المتجددة ; وبتسبيح البارىء الحاضر في كل لحظة وفي كل حركة وفي كل حدث آناء الليل وأطراف النهار .
كذلك يربط السياق القرآني بين حقيقة الحياة الناشئة بإرادة الله وقدره في هذه الأرض , وبين النشأة الآخرة , التي تتحقق كذلك بمشيئة الله وقدره ; على المنهج الذي يراه الأحياء في نشأة هذه الحياة:
(كذلك نخرج الموتى , لعلكم تذكرون). .
إن معجزة الحياة ذات طبيعة واحدة , من وراء أشكالها وصورها وملابساتها . . هذا ما يوحي به هذا التعقيب . . وكما يخرج الله الحياة من الموات في هذه الأرض , فكذلك يخرج الحياة من الموتى في نهاية المطاف . . إن المشيئة التي تبث الحياة في صور الحياة وأشكالها في هذه الأرض , هي المشيئة التي ترد الحياة


وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
في الأموات . وإن القدر الذي يجري بإخراج الحياة من الموات في الدنيا , لهو ذاته القدر الذي يجري بجريان الحياة في الموتى مرة أخرى . .
(لعلكم تذكرون). .
فالناس ينسون هذه الحقيقة المنظورة ; ويغرقون في الضلالات والأوهام !
الدرس الرابع:58 الطيب والخبيث من الأرض والإنسان
ويختم السياق هذه الرحلة في أقطار الكون وأسرار الوجود , بمثل يضربه للطيب وللخبيث من القلوب . ينتزعه من جو المشهد المعروض , مراعاة للتناسق في المرائي والمشاهد , وفي الطبائع والحقائق:
(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه , والذي خبث لا يخرج إلا نكداً . كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون).
والقلب الطيب يشبه في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله [ ص ] بالأرض الطيبة , وبالتربة الطيبة . والقلب الخبيث يشبه بالأرض الخبيثة وبالتربة الخبيثة . فكلاهما . . القلب والتربة . . منبت زرع , ومأتى ثمر . القلب ينبت نوايا ومشاعر , وانفعالات واستجابات , واتجاهات وعزائم , وأعمالاً بعد ذلك وآثاراً في واقع الحياة . والأرض تنبت زرعاً وثمراً مختلفاً أكله وألوانه ومذاقاته وأنواعه . .
(والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه). .
طيباً خيراً , سهلاً ميسراً .
(والذي خبث لا يخرج إلا نكداً). .
في إيذاء وجفوة , وفي عسر ومشقة . .
والهدى والآيات والموعظة والنصيحة تنزل على القلب كما ينزل الماء على التربة . فإن كان القلب طيباً كالبلد الطيب , تفتح واستقبل , وزكا وفاض بالخير . وإن كان فاسداً شريراً - كالذي خبث من البلاد والأماكن - استغلق وقسا , وفاض بالشر والنكر والفساد والضر . وأخرج الشوك والأذى , كما تخرج الأرض النكدة !
(كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون).
والشكر ينبع من القلب الطيب , ويدل على الاستقبال الطيب , والانفعال الطيب . ولهؤلاء الشاكرين الذين يحسنون التلقي والاستجابة تصرف الآيات . فهم الذين ينتفعون بها , ويصلحون لها , ويصلحون بها . .
والشكر هو لازمة هذه السورة التي يتكرر ذكرها فيها . . كالإنذار والتذكير . وقد صادفنا هذا التعبير فيما مضى من السياق , وسنصادفه فيما هو آت . . فهو من ملامح السورة المميزة في التعبير , كالإنذار والتذكير . .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:12 pm

الوحدة السادسة:59 - 93 الموضوع:جولة مع قصص الأنبياء مقدمة الوحدة
نحن مع موكب الإيمان . . هذه أعلامه . . وهذه علائمه . . وهذه هي معالم طريقه . . وهو يواجه البشرية في رحلتها الطويلة على هذا الكوكب الأرضي . . يواجهها كلما التوت بها الطريق ; وكلما انحرفت عن صراطالله المستقيم ; وكلما تفرقت بها السبل . تحت ضغط الشهوات , التي يقودها الشيطان من خطامها , محاولاً أن يرضي حقده ; وأن ينفذ وعيده , وأن يمضي ببني آدم من خطام هذه الشهوات إلى جهنم ; فإذا الموكب الكريم يواجه البشرية بالهدى , ويلوّح لها بالنور , ويستروح بها ريح الجنة , ويحذرها لفحات السموم , ونزغات الشيطان الرجيم , عدوها القديم . .
. . إنه مشهد رائع . . مشهد الصراع العميق , في خضم الحياة , على طول الطريق . .
إن التاريخ البشري يمضي في تشابك معقد كل التعقيد . . إن هذا الكائن المزدوج الطبيعة , المعقد التركيب . . الذي يتألف كيانه من أبعد عنصرين تؤلف بينهما قدرة الله وقدره . . عنصر الطين الذي نشأ منه , وعنصر النفخة من روح الله , التي جعلت من هذا الطين إنساناً . . إن هذا الكائن ليمضي في تاريخه مع عوامل متشابكة كل التشابك , معقدة كل التعقيد . . يمضي بطبيعته هذه يتعامل مع تلك الأفاق والعوالم التي أسلفنا في قصة آدم الحديث عنها . . يتعامل مع الحقيقة الإلهية:مشيئتها وقدرها , وقدرتها وجبروتها , ورحمتها وفضلها . . الخ . . . ويتعامل مع الملأ الأعلى وملائكته . . ويتعامل مع إبليس وقبيله . . ويتعامل مع هذا الكون المشهود ونواميسه وسنن الله فيه . . ويتعامل مع الأحياء في هذه الأرض . . ويتعامل مع بعضه البعض . . يتعامل مع هذه الآفاق وهذه العوالم بطبيعته تلك , وباستعداداته المتوافقة والمتعارضة مع هذه الآفاق والعوالم . .
وفي هذا الخضم المتشابك من العلاقات والروابط , يجري تاريخه . . ومن القوة في كيانه والضعف . ومن التقوى والهدى . ومن الالتقاء بعالم الغيب وعالم الشهود . ومن التعامل مع العناصر المادية في الكون والقوى الروحية , ومن التعامل مع قدر الله في النهاية . . من هذا كله يتكون تاريخه . . وفي ضوء هذا التعقيد الشديد يفسر تاريخه .
والذين يفسرون التاريخ الإنساني تفسيراً "اقتصادياً" أو "سياسياً" . والذين يفسرونه تفسيراً "بيولوجياً" . والذين يفسرونه تفسيراً "روحياً" أو "نفسياً" . والذين يفسرونه تفسيراً "عقلياً" . . . كل أولئك ينظرون نظرة ساذجة إلى جانب واحد من جوانب العوامل المتشابكة , والعوالم المتباعدة , التي يتعامل معها الإنسان ; ويتألف من تعامله معها تاريخه . . والتفسير الإسلامي للتاريخ هو وحده الذي يلم بهذا الخضم الواسع , ويحيط به ; وينظر إلى التاريخ الإنساني من خلاله .
ونحن هنا أمام مشاهد صادقة من هذا الخضم . . لقد شهدنا مشهد النشأة البشرية ; وقد تجمعت في المشهد كل العوالم والآفاق والعناصر - الظاهرة والخفية - التي يتعامل معها هذا الكائن منذ اللحظة الأولى . . ولقد شهدنا هذا الكائن باستعداداته الأساسية . . شهدنا تكريمه في الملأ الأعلى وإسجاد الملائكة له ; والبارىء العظيم يعلن ميلاده . . وشهدنا ضعفه بعد ذلك وكيف قاده منه عدوه . . وشهدنا مهبطه إلى الأرض . . وانطلاقه في التعامل مع عناصرها ونواميسها الكونية . .
ولقد شهدناه يهبط إلى هذه الأرض مؤمناً بربه ; مستغفراً لذنبه ; مأخوذاً عليه عهد الخلافة:أن يتبع ما يأتيه من ربه ولا يتبع الشيطان ولا الهوى , مزوداً بتلك التجربة الأولى في حياته . .
ثم مضى به الزمن ; وتقاذفته الأمواج في الخضم ; وتفاعلت تلك العوامل المعقدة المتشابكة في كيانه ذاته


لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
وفي الوجود من حوله . تفاعلت في واقعه وفي ضميره . ثم ها نحن أولاء في هذا الدرس نشهد كيف صارت به هذه العوامل المعقدة المتشابكة إلى الجاهلية !!!
إنه ينسى . . وقد نسي . . إنه يضعف . . إنه ضعف . . وقد الشيطان يغلبه . . وقد غلبه . . ولا بد من الإنقاذ مرة أخرى !!!
لقد هبط إلى هذه الأرض مهتدياً تائباً موحداً . . ولكن ها نحن أولاء نلتقي به ضالاً مفترياً مشركاً !!! لقد تقاذفته الأمواج في الخضم . . ولكن هنالك معلماً في طريقه . . هنالك الرسالة ترده إلى ربه . فمن رحمة ربه به أن لا يتركه وحده !
وها نحن أولاء في هذه السورة نلتقي بموكب الإيمان , يرفع أعلامه رسل الله الكرام:نوح . وهود . وصالح . ولوط . وشعيب . وموسى . ومحمد - صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً . . ونشهد كيف يحاول هذا الرهط الكريم - بتوجيه الله وتعليمه - إنقاذ الركب البشري من الهاوية التي يقوده إليها الشيطان , وأعوانه من شياطين الإنس المستكبرين عن الحق في كل زمان . كما نشهد مواقف الصراع بين الهدى والضلال . وبين الحق والباطل , وبين الرسل الكرام وشياطين الجن والإنس . . ثم نشهد مصارع المكذبين في نهاية كل مرحلة , ونجاة المؤمنين , بعد الإنذار والتذكير . .
والقصص في القرآن لا يتبع دائماً ذلك الخط التاريخي . ولكنه في هذه السورة يتبع هذا الخط . ذلك أنه يعرض سير الركب البشري منذ النشأة الأولى , ويعرض موكب الإيمان وهو يحاول هداية هذا الركب واستنقاذه كلما ضل تماماً عن معالم الطريق , وقاده الشيطان كلية إلى المهلكة ليسلمه في نهايتها إلى الجحيم !
وفي وقفتنا أمام المشهد الكلي الرائع نلمح جملة معالم نلخصها هنا قبل مواجهة النصوص:
إن البشرية تبدأ طريقها مهتدية مؤمنة موحدة . . ثم تنحرف إلى جاهلية ضالة مشركة - بفعل العوامل المتشابكة المعقدة في تركيب الإنسان ذاته , وفي العوالم والعناصر التي يتعامل معها . . وهنا يأتيها رسول بذات الحقيقة التي كانت عليها قبل أن تضل وتشرك . فيهلك من يهلك , ويحيا من يحيا . والذين يحيون هم الذين آبوا إلى الحقيقة الإيمانية الواحدة . هم الذين علموا أن لهم إلهاً واحداً , واستسلموا بكليتهم إلى هذا الإله الواحد . هم الذين سمعوا قول رسولهم لهم: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . فهي حقيقة واحدة يقوم عليها دين الله كله , ويتعاقب بها الرسل جميعا على مدار التاريخ . . فكل رسول يجيء إنما يقول هذه الكلمة لقومه الذين اجتالهم الشيطان عنها , فنسوها وضلوا عنها , وأشركوا مع الله آلهة أخرى - على اختلاف هذه الآلهة في الجاهليات المختلفة - وعلى أساسها تدور المعركة بين الحق والباطل . . وعلى أساسها يأخذ الله المكذبين بها وينجي المؤمنين . . والسياق القرآني يوحد الألفاظ التي عبر بها جميع الرسل - صلوات الله عليهم - مع اختلاف لغاتهم . . يوحد حكاية ما قالوه , ويوحد ترجمته في نص واحد: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . وذلك لتحقيق معني وحدة العقيدة السماوية - على مدار التاريخ - حتى في صورتها اللفظية ! لأن هذه العبارة دقيقة في التعبير عن حقيقة العقيدة , ولأن عرضها في السياق بذاتها يصور وحدة العقيدة تصويراً حسياً . . ولهذا كله دلالته في تقرير المنهج القرآني عن تاريخ العقيدة . .
وفي ضوء هذا التقرير يتبين مدى مفارقة منهج "الأديان المقارنة " مع المنهج القرآني . . يتبين أنه لم يكن هناك تدرج ولا "تطور" في مفهوم العقيدة الأساسي , الذي جاءت به الرسل كلها من عند الله , وأن الذين يتحدثون عن "تطور" المعتقدات وتدرجها ; ويدمجون العقيدة الربانية في هذا التدرج "والتطور" يقولونغير ما يقوله الله سبحانه ! فهذه العقيدة - كما نرى في القرآن الكريم - جاءت دائماً بحقيقة واحدة . وحكيت العبارة عنها في ألفاظ بعينها: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)وهذا الإله الذي دعا الرسل كلهم إليه هو (رب العالمين). . الذي يحاسب الناس في يوم عظيم . . فلم يكن هنالك رسول من عند الله دعا إلى رب قبيلة , أو رب أمة , أو رب جنس . . كما أنه لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى إلهين اثنين أو آلهة متعددة . . وكذلك لم يكن هناك رسول من عند الله دعا إلى عبادة طوطمية , أو نجمية , أو "أرواحية ! " أو صنمية ! ولم يكن هناك دين من عند الله ليس فيه عالم آخر . . كما يزعم من يسمونهم "علماء الأديان" وهم يستعرضون الجاهليات المختلفة , ثم يزعمون أن معتقداتها كانت هي الديانات التي عرفتها البشرية في هذه الأزمان , دون غيرها !
لقد جاءت الرسل - رسولاً بعد رسول - بالتوحيد الخالص , وبربوبية رب العالمين ! وبالحساب في يوم الدين . . ولكن الانحرافات في خط الاعتقاد , مع الجاهليات الطارئة بعد كل رسالة , بفعل العوامل المعقدة المتشابكة في تكوين الإنسان ذاته وفي العوالم التي يتعامل معها . . هذه الانحرافات تمثلت في صور شتى من المعتقدات الجاهلية . . هي هذه التي يدرسها "علماء الأديان ! " ثم يزعمون أنها الخط الصاعد في تدرج الديانات وتطورها !
وعلى أية حال فهذا هو قول الله - سبحانه - وهو أحق أن يتبع , وبخاصة ممن يكتبون عن هذا الموضوع في صدد عرض العقيدة الإسلامية , أو صدد الدفاع عنها ! أما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن , فهم وما هم فيه . .
والله يقص الحق وهو خير الفاصلين . .
إن كل رسول من الرسل - صلوات الله عليهم جميعاً - قد جاء إلى قومه , بعد انحرافهم عن التوحيد الذي تركهم عليه رسولهم الذي سبقه . . فبنو آدم الأوائل نشأوا موحدين لرب العالمين - كما كانت عقيدة آدم وزوجه - ثم انحرفوا بفعل العوامل التي أسلفنا - حتى إذا جاء نوح - عليه السلام - دعاهم إلى توحيد رب العالمين مرة أخرى . ثم جاء الطوفان فهلك المكذبون ونجا المؤمنون . وعمرت الأرض بهؤلاء الموحدين لرب العالمين - كما علمهم نوح - وبذراريهم . حتى إذا طال عليهم الأمد انحرفوا إلى الجاهلية كما انحرف من كان قبلهم . . حتى إذا جاء هود أهلك المكذبون بالريح العقيم . . ثم تكررت القصة . . وهكذا . .
ولقد أرسل كل رسول من هؤلاء إلى قومه . فقال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). . وقال كل رسول لقومه: إني لكم ناصح أمين , معبراً عن ثقل التبعة ; وخطورة ما يعلمه من عاقبة ما هم فيه من الجاهلية في الدنيا والآخرة ; ورغبته في هداية قومه , وهو منهم وهم منه . . وفي كل مرة وقف "الملأ" من عليه القوم وكبرائهم في وجه كلمة الحق هذه ; ورفضوا الاستسلام لله رب العالمين . وأبوا أن تكون العبودية والدينونة لله وحده - وهي القضية التي قامت عليها الرسالات كلها وقام عليها دين الله كله - وهنا يصدع كل رسول بالحق في وجه الطاغوت . . ثم ينقسم قومه إلى أمتين متفاصلتين على أساس العقيدة . وتنبتٌ وشيجة القومية ووشيجة القرابة العائلية ; لتقوم وشيجة العقيدة وحدها . وإذا "القوم" الواحد , أمتان متفاصلتان لا قربى بينهما ولا علاقة ! . . وعندئذ يجيء الفتح . . ويفصل الله بين الأمة المهتدية والأمة الضالة , ويأخذ المكذبين المستكبرين , وينجي الطائعين المستسلمين . . وما جرت سنة الله قط بفتح ولا فصل قبل أن ينقسم القوم الواحد إلى أمتين على أساس العقيدة , وقبل أن يجهر أصحاب العقيدة بعبوديتهم لله وحده . وقبل أن يثبتوا في وجه الطاغوت بإيمانهم . وقبل أن يعلنوا مفاصلتهم لقومهم . . وهذا ما يشهد به تاريخ دعوة الله على مدار التاريخ .
إن التركيز في كل رسالة كان على أمر واحد:هوتعبيد الناس كلهم لربهم وحده - رب العالمين - ذلك أن هذه العبودية لله الواحد , ونزع السلطان كله من الطواغيت التي تدعيه , هو القاعدة التي لا يقوم شيء صالح بدونها في حياة البشر . ولم يذكر القرآن إلا قليلاً من التفصيلات بعد هذه القاعدة الأساسية المشتركة في الرسالات جميعاً . ذلك أن كل تفصيل - بعد قاعدة العقيدة - في الدين , إنما يرجع إلى هذه القاعدة ولا يخرج عنها . وأهمية هذه القاعدة في ميزان الله هي التي جعلت المنهج القرآني يبرزها هكذا , ويفردها بالذكر في استعراض موكب الإيمان ; بل في القرآن كله . . ولنذكر - كما قلنا في التعريف بسورة الأنعام أن هذا كان هو موضوع القرآن المكي كله ; كما كان هو موضوع القرآن المدني كلما عرضت مناسبة لتشريع أو توجيه .
إن لهذا الدين "حقيقة " ; و "منهجاً" لعرض هذه الحقيقة . "والمنهج" في هذا الدين لا يقل أصالة ولا ضرورة عن "الحقيقة " فيه . . وعلينا أن نعرف الحقيقة الأساسية التي جاء بها هذا الدين . كما أن علينا أن نلتزم المنهج الذي عرض به هذه الحقيقة . . وفي هذا المنهج إبراز وإفراد وتكرار وتوكيد لحقيقة التوحيد للألوهية . . ومن هنا ذلك التوكيد والتكرار والإبراز والإفراد لهذه القاعدة في قصص هذه السورة . .
إن هذا القصص يصور طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر في نفوس البشر ; ويعرض نموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للإيمان , ونموذجاً مكرراً للقلوب المستعدة للكفر أيضاً . . إن الذين آمنوا بكل رسول لم يكن في قلوبهم الاستكبار عن الاستسلام لله والطاعة لرسوله ; ولم يعجبوا أن يختار الله واحداً منهم ليبلغهم وينذرهم . فأما الذين كفروا بكل رسول فقد كانوا هم الذين أخذتهم العزة بالإثم , فاستكبروا أن ينزلوا عن السلطان المغتصب في أيديهم لله صاحب الخلق والأمر , وأن يسمعوا لواحد منهم . . كانوا هم "الملأ" من الحكام والكبار والوجهاء وذوي السلطان في قومهم . . ومن هنا نعرف عقدة هذا الدين . . إنها عقدة الحاكمية والسلطان . . فالملأ كانوا يحسون دائماً ما في قول رسولهم لهم: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره). .
(ولكني رسول من رب العالمين). . كانوا يحسون أن الألوهية الواحدة والربوبية الشاملة تعني - أول ما تعني - نزع السلطان المغتصب من أيديهم ; ورده إلى صاحبه الشرعي . . إلى الله رب العالمين . . وهذا ما كانوا يقاومون في سبيله حتى يكونوا من الهالكين ! وقد بلغ من عقدة السلطان في نفوسهم ألا ينتفع اللاحق منهم بالغابر , وأن يسلك طريقه إلى الهلاك , كما يسلك طريقه إلى جهنم كذلك ! . . إن مصارع المكذبين - كما يعرضها هذا القصص - تجري على سنة لاتتبدل:نسيان لآيات الله وانحراف عن طريقه . إنذار من الله للغافلين على يد رسول . استكبار عن العبودية لله وحده والخضوع لرب العالمين . اغترار بالرخاء واستهزاء بالإنذار واستعجال للعذاب . طغيان وتهديد وإيذاء للمؤمنين . ثبات من المؤمنين ومفاصلة على العقيدة . . ثم المصرع الذي يأتي وفق سنة الله على مدار التاريخ !
وأخيراً فإن طاغوت الباطل لا يطيق مجرد وجود الحق . . وحتى حين يريد الحق أن يعيش في عزلة عن الباطل - تاركاً مصيرهما لفتح الله وقضائه - فإن الباطل لا يقبل منه هذا الموقف . بل يتابع الحق وينازله ويطارده . . ولقد قال شعيب لقومهSadوإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا , فاصبروا حتى يحكم الله بيننا , وهو خير الحاكمين). . ولكنهم لم يقبلوا منه هذه الخطة , ولم يطيقوا رؤية الحق يعيش ; ولا رؤية جماعة تدين لله وحده وتخرج من سلطان الطواغيت: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه:لنخرجنك


قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:12 pm

يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا). . وهنا صدع شعيب بالحق رافضاً هذا الذي يعرضه عليهم الطواغيت: قال:أولو كنا كارهين ? قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها . .
ذلك ليعلم أصحاب الدعوة إلى الله أن المعركة مع الطواغيت مفروضة عليهم فرضاً , وأنه لا يجديهم فتيلاً أن يتقوها ويتجنبوها . فالطواغيت لن تتركهم إلا أن يتركوا دينهم كلية , ويعودوا إلى ملة الطواغيت بعد إذ نجاهم الله منها . وقد نجاهم الله منها بمجرد أن خلعت قلوبهم عنها العبودية للطواغيت ودانت بالعبودية لله وحده . . فلا مفر من خوض المعركة , والصبر عليها , وانتظار فتح الله بعد المفاصلة فيها ; وأن يقولوا مع شعيب:
(على الله توكلنا . ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين). . ثم تجري سنة الله بما جرت به كل مرة على مدار التاريخ . .
ونكتفي بهذه المعالم في طريق القصص القرآني , حتى نستعرض النصوص بالتفصيل:
إن موكب الإيمان الذي يسير في مقدمته رسل الله الكرام , مسبوق في السياق بموكب الإيمان في الكون كله . في الفقرة السابقة مباشرةSadإن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام , ثم استوى على العرش , يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً , والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره , ألا له الخلق والأمر , تبارك الله رب العالمين). .
وإن الدينونة لهذا الإله , الذي خلق السماوات والأرض , والذي استوى على العرش , والذي يحرك الليل ليطلب النهار , والذي تجري الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره , والذي له الخلق والأمر . إن الدينونة لهذا الإله وحده هي التي يدعو إليها الرسل كافة . هي التي يدعون إليها البشرية كلها , كلما قعد لها الشيطان على صراط الله فأضلها عنه ; وردها إلى الجاهلية التي تتبدى في صور شتى ; ولكنها كلها تتسم بإشراك غير الله معه في الربوبية .
والمنهج القرآني يكثر من الربط بين عبودية هذا الكون لله , ودعوة البشر إلى الاتساق مع الكون الذي يعيشون فيه ; والإسلام لله الذي أسلم له الكون كله ; والذي يتحرك مسخراً بأمره . ذلك أن هذا الإيقاع بهذه الحقيقة الكونية كفيل بأن يهز القلب البشري هزاً ; وأن يستحثه من داخله على أن ينخرط في سلك العبادة المستسلمة ; فلا يكون هو وحده نشازاً في نظام الوجود كله !
إن الرسل الكرام لا يدعون البشرية لأمر شاذ ; إنما يدعونها إلى الأصل الذي يقوم عليه الوجود كله ; وإلى الحقيقة المركوزة في ضمير هذا الوجود . . وهي ذاتها الحقيقة المركوزة في فطرة البشر ; والتي تهتف بها فطرتهم حين لا تلوي بها الشهوات , ولا يقودها الشيطان بعيداً عن حقيقتها الأصيلة . .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:13 pm

وهذه هي اللمسة المستفادة من تتابع السياق القرآني في السورة على النحو الذي تتابع به .
الدرس الأول:59 - 64 لقطات من قصة نوح مع قومه
قد أرسلنا نوحاً إلى قومه , فقال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره , إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قال الملأ من قومه:إنا لنراك في ضلال مبين . قال:يا قوم ليس بي ضلالة , ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي , وأنصح لكم , وأعلم من الله ما لا تعلمون . أو عجبتم أن جاءكم ذكر منربكم على رجل منكم لينذركم , ولتتقوا , ولعلكم ترحمون ? فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك , وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا , إنهم كانوا قوماً عمين). .
تعرض القصة هنا باختصار , ليست فيها التفصيلات التي ترد في مواضع أخرى من القرآن في سياق يتطلب تلك التفصيلات , كالذي جاء في سورة هود , وفي سورة نوح . . إن الهدف هنا هو تصوير تلك المعالم التي تحدثنا عنها آنفاً . . طبيعة العقيدة . طريقة التبليغ . طبيعة استقبال القوم لها . حقيقة مشاعر الرسول . تحقق النذير . . لذلك تذكر من القصة فحسب تلك الحلقات المحققة لتلك المعالم , على منهج القصص القرآني .
(لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه). .
على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه , وبلسانهم , تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم , وتيسيراً علي البشر في التفاهم والتعارف . وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة , ولا يستجيبون , ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم , ويطلبون أن تبلغهم الملائكة ! وإن هي إلا تعلة . وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى , مهما جاءهم من أي طريق !
لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه , فخاطبهم بتلك الكلمة الواحدة التي جاء بها كل رسول:
(فقال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).
فهي الكلمة التي لا تتبدل , وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها , وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره , وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ووحدة الرباط . وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى , والعبودية لأمثالهم من العبيد , وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد .
إن دين الله منهج للحياة , قاعدته أن يكون السلطان كله في حياة الناس كلها لله . وهذا هو معنى عبادة الله وحده , ومعنى ألا يكون للناس إله غيره . . والسلطان يتمثل في الاعتقاد بربوبيته لهذا الوجود وإنشائه وتدبيره بقدرة الله وقدره . كما يتمثل في الاعتقاد بربوبيته للإنسان وإنشائه وتدبير أمره بقدرة الله وقدره . وعلى نفس المستوى يتمثل في الاعتقاد بربوبية الله لهذا الإنسان في حياته العملية الواقعية , وقيامها على شريعته وأمره , تمثله في التقدم بشعائر العبادة له وحده . . كلها حزمة واحدة . . غير قابلة للتجزئة . وإلا فهو الشرك , وهو عبادة غير الله معه , أو من دونه !
ولقد قال نوح لقومه هذه القولة الواحدة , وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه , وفي صدق الرائد الناصح لأهله:
(إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم). .
وهنا نرى أن ديانة نوح . . أقدم الديانات . . كانت فيها عقيدة الآخرة . عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم , يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب . . وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة , ومناهج الخابطين في الظلام من "علماء الأديان" وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن .
فكيف كان استقبال المنحرفين الضالين من قوم نوح لهذه الدعوة الخالصة الواضحة المستقيمة ?
(قال الملأ من قومه:إنا لنراك في ضلال مبين)!
كما قال مشركو العرب لمحمد [ ص ] إنه صبأ , ورجع عن دين إبراهيم !
وهكذا يبلغ الضال من الضلال أن يحسب من يدعوه إلى الهدى هو الضال ! بل هكذا يبلغ التبجح الوقحبعدما يبلغ المسخ في الفطر ! . . هكذا تنقلب الموازين , وتبطل الضوابط , ويحكم الهوى ; ما دام أن الميزان ليس هو ميزان الله الذي لا ينحرف ولا يميل .
وماذا تقول الجاهلية اليوم عن المهتدين بهدى الله ? إنها تسميهم الضالين , وتعد من يهتدي منهم ويرجع بالرضى والقبول ! . . أجل من يهتدي إلى المستنقع الكريه , وإلى الوحل الذي تتمرغ الجاهلية فيه !
وماذا تقول الجاهلية اليوم للفتاة التي لا تكشف عن لحمها ? وماذا تقول للفتى الذي يستقذر اللحم الرخيص ? إنها تسمي ترفعهما هذا ونظافتهما وتطهرهما "رجعية " وتخلفاً وجموداً وريفية ! وتحاول الجاهلية بكل ما تملكه من وسائل التوجيه والإعلام أن تغرق ترفعهما ونظافتهما وتطهرهما في الوحل الذي تتمرغ فيه في المستنقع الكريه !
وماذا تقول الجاهلية لمن ترتفع اهتماماته عن جنون مباريات الكرة ; وجنون الأفلام والسينما والتليفزيون وما إليه ; وجنون الرقص والحفلات الفارغة والملاهي ? إنها تقول عنه:إنه "جامد" . ومغلق على نفسه , وتنقصه المرونة والثقافة ! وتحاول أن تجره إلى تفاهة من هذه ينفق فيها حياته . .
إن الجاهلية هي الجاهلية . . فلا تتغير إلا الأشكال والظروف !
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:13 pm

وينفي نوح عن نفسه الضلال , ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومنبعها , فهو لم يبتدعها من أوهامه وأهوائه . إنما هو رسول من رب العالمين . يحمل لهم الرسالة . ومعها النصح والأمانة . ويعلم من الله ما لا يعلمون . فهو يجده في نفسه , وهو موصول به , وهم عنه محجوبون:
(قال:يا قوم ليس بي ضلالة , ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي , وأنصح لكم , وأعلم من الله ما لا تعلمون). .
ونلمح هنا فجوة في السياق . . فكأنما عجبوا أن يختار الله رسولاً من البشر من بينهم , يحمله رسالة إلى قومه , وأن يجد هذا الرسول في نفسه علماً عن ربه لا يجده الآخرون , الذين لم يختاروا هذا الاختيار . . هذه الفجوة في السياق يدل عليها ما بعدها:
أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم , ولتتقوا , ولعلكم ترحمون ? . .
وما من عجب في هذا الاختيار . فهذا الكائن الإنساني شأنه كله عجيب . . إنه يتعامل مع العوالم كلها , ويتصل بربه بما ركب في طبيعته من نفخة الله فيه من روحه . . فإذا اختار الله من بينه رسوله - والله أعلم حيث يجعل رسالته - فإنما يتلقى هذا المختار عنه , بما أودع في كيانه من إمكانية الاتصال به والتلقي عنه , بذلك السر اللطيف الذي به معنى الإنسان , والذي هو مناط التكريم العلوي لهذا الكائن العجيب التكوين .
ويكشف لهم نوح عن هدف الرسالة:
(لينذركم , ولتتقوا , ولعلكم ترحمون). .
فهو الإنذار لتحريك القلوب بمشاعر التقوى , ليظفروا في النهاية برحمة الله . . ولا شيء وراء ذلك لنوح , ولا مصلحة , ولا هدف , إلا هذا الهدف السامي النبيل .
ولكن الفطرة حين تبلغ حداً معيناً من الفساد , لاتتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر , ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكير:
(فكذبوه , فأنجيناه والذين معه في الفلك , وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا , إنهم كانوا قوماً عمين). .
ولقد رأينا من عماهم عن الهدى والنصح المخلص والنذير . . فبعماهم هذا كذبوا . . وبعماهم لاقوا هذا المصير !
الدرس الثاني:65 - 72 لقطات من قصة هود مع قومه عاد
وتمضي عجلة التاريخ , ويمضي معها السياق , فإذا نحن أمام عاد قوم هود:
وإلى عاد أخاهم هودا , قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره , أفلا تتقون ? قال الملأ الذين كفروا من قومه:إنا لنراك في سفاهة , وإنا لنظنك من الكاذبين . قال:يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي , وأنا لكم ناصح أمين . أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ? واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح , وزادكم في الخلق بسطة , فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون . قالوا:أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ? فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . قال:قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب , أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ? فانتظروا , إني معكم من المنتظرين . فأنجيناه والذين معه برحمة منا , وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا , وما كانوا مؤمنين .
إنها نفس الرسالة , ونفس الحوار , ونفس العاقبة . . إنها السنة الماضية , والناموس الجاري , والقانون الواحد . .
إن قوم عاد هؤلاء من ذراري نوح والذين نجوا معه في السفينة , وقيل:كان عددهم ثلاثة عشر . . وما من شك أن أبناء هؤلاء المؤمنين الناجين في السفينة كانوا على دين نوح عليه السلام - وهو الإسلام - كانوا يعبدون الله وحده , ما لهم من إله غيره , وكانوا يعتقدون أنه رب العالمين , فهكذا قال لهم نوح: (ولكني رسول من رب العالمين). . فلما طال عليهم الأمد , وتفرقوا في الأرض , ولعب معهم الشيطان لعبة الغواية , وقادهم من شهواتهم - وفي أولها شهوة الملك وشهوات المتاع - وفق الهوى لا وفق شريعة الله , عاد قوم هود يستنكرون أن يدعوهم نبيهم إلى عبادة الله وحده من جديد:
(وإلى عاد أخاهم هودا , قال:يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . أفلا تتقون ?). .
القولة التي قالها نوح من قبله , والتي كذب بها قومه , فأصابهم ما أصابهم , واستخلف الله عادا من بعدهم - ولا يذكر هنا أين كان موطنهم , وفي سورة أخرى نعلم أنهم كانوا بالأحقاف , وهي الكثبان المرتفعة على حدود اليمن ما بين اليمامة وحضرموت - وقد ساروا في الطريق الذي سار فيه من قبل قوم نوح , فلم يتذكروا ولم يتدبروا ما حل بمن ساروا في هذا الطريق , لذلك يضيف هود في خطابه لهم قوله: (أفلا تتقون ?)استنكاراً لقلة خوفهم من الله ومن ذلك المصير المرهوب .
وكأنما كبر على الملأ الكبراء من قومه أن يدعوهم واحد من قومهم إلى الهدى , وأن يستنكر منهم قلة التقوى ; ورأوا فيه سفاهة وحماقة , وتجاوزا للحد , وسوء تقدير للمقام ! فانطلقوا يتهمون نبيهم بالسفاهة وبالكذب جميعاً في غير تحرج ولا حياء:
(قال الملأ الذين كفروا من قومه:إنا لنراك في سفاهة , وإنا لنظنك من الكاذبين). .
هكذا جزافاً بلا تروّ ولا تدبر ولا دليل !
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب - صفحة 2 Empty رد: تفسير - سورة الأعراف - للسيد قطب

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأحد نوفمبر 21, 2010 9:13 pm

(قال:يا قوم ليس بي سفاهة , ولكني رسول من رب العالمين . أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين). .
لقد نفى عن نفسه السفاهة في بساطة وصدق - كما نفى عن نفسه الضلالة - وقد كشف لهم - كما كشف نوح من قبل - عن مصدر رسالته وهدفها ; وعن نصحه لهم فيها وأمانته في تبليغها . وقال لهم ذلك كله في مودة الناصح وفي صدق الأمين .
ولا بد أن يكون القوم قد عجبوا - كما عجب قوم نوح من قبل - من هذا الاختيار , ومن تلك الرسالة , فإذا هود يكرر لهم ما قاله نوح من قبل , كأنما كلاهما روح واحدة في شخصين:
أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ? . .
ثم يزيد عليه ما يمليه واقعهم . . واقع استخلافهم في الأرض من بعد قوم نوح , وإعطائهم قوة في الأجسام وضخامة بحكم نشأتهم الجبلية , وإعطائهم كذلك السلطان والسيطرة:
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح , وزادكم في الخلق بسطة . فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون). . فلقد كان من حق هذا الاستخلاف , وهذه القوة والبسطة , أن تستوجب شكر النعمة , والحذر من البطر , واتقاء مصير الغابرين . وهم لم يأخذوا على الله عهداً:أن تتوقف سنته التي لا تتبدل , والتي تجري وفق الناموس المرسوم , بقدر معلوم . وذكر النعم يوحي بشكرها ; وشكر النعمة تتبعه المحافظة على أسبابها ; ومن ثم يكون الفلاح في الدنيا والآخرة .
ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر . . وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم , واختصروا الجدل , واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح , ويهزأ بالإنذار:
(قالوا:أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ? فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين). . لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه , ولا يصبرون على النظر فيه:
(أجئتنا لنعبد الله وحده , ونذر ما كان يعبد آباؤنا ?);
إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول . هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة:حرية التدبر والنظر , وحرية التفكير والاعتقاد . ويدعه عبداً للعادة والتقليد , وعبداً للعرف والمألوف , وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله , ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور . .
وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق , بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد ; وقالوا لنبيهم الناصح الأمين:
(فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين)!
ومن ثم كان الجواب حاسماً وسريعاً في رد الرسول:
(قال:قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب . أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ? فانتظروا , إني معكم من المنتظرين).
لقد أبلغهم العاقبة التي أنبأه بها ربه , والتي قد حقت عليهم فلم يعد عنها محيص . . إنه العذاب الذي لا دافع له , وغضب الله المصاحب له . . ثم جعل بعد هذا التعجيل لهم بالعذاب الذي استعجلوه ; يكشف لهم عن سخافة معتقداتهم وتصوراتهم:
أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ? . .
إن ما تعبدون مع الله ليس شيئاً ذا حقيقة ! إنها مجرد أسماء أطلقتموها أنتم وآباؤكم ; من عند أنفسكم , لم يشرعها الله ولم يأذن بها , فما لها إذن من سلطان ولا لكم عليها من برهان .
والتعبير المتكرر في القرآن: (ما نزل الله بها من سلطان). . هو تعبير موح عن حقيقة أصيلة . . إن كل كلمة أو شرع أو عرف أو تصور لم ينزله الله , خفيف الوزن , قليل الأثر , سريع الزوال . . إن الفطرة تتلقى هذا كله في استخفاف , فإذا جاءت الكلمة من الله ثقلت واستقرت ونفذت إلى الأعماق , بما فيها من سلطان الله الذي يودعها إياه .
وكم من كلمات براقة , وكم من مذاهب ونظريات , وكم من تصورات مزوقة , وكم من أوضاع حشدت لها كل قوى التزيين والتمكين . . ولكنها تتذاوب أمام كلمة من الله , فيها من سلطانه - سبحانه - سلطان !
وفي ثقة المطمئن , وقوة المتمكن , يواجه هود قومه بالتحدي:
(فانتظروا , إني معكم من المنتظرين). .
إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله . . إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال . كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله .
ولا يطول الإنتظار في السياق:
(فأنجيناه والذين معه برحمة منا , وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا , وما كانوا مؤمنين). .
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 2 من اصل 3 الصفحة السابقة  1, 2, 3  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى