alnazer
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة الحضارة - ول ديورانت

5 مشترك

صفحة 3 من اصل 4 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:53 pm




صفحة رقم : 564




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> موت أورشليم وبعثها







وكان يرجو أن يُبقي بهذه الخاتمة السعيدة على نفسية بني وطنه المنفيين ويؤخر اندماجهم في الثقافة البابلية وفي الدم البابلي. فقد خيل إليه كما خيل إلى غيره في هذه الأيام أن هذا الاندماج سيقضي على مجدة اليهود وعلى كيانهم أيضا؛ ذلك أنهم قد أثروا وحسنت حالهم في أرض الجزيرة الغنية، حيث كانوا يتمتعون بقسط موفور من الحرية في عاداتهم وفي عبادتهم؛ وسرعان ما زاد عديدهم ونمت ثروتهم، وأيسروا فيما عاد به عليهم خضوعهم من هدوء ووفاق لم يتعودوهما من قبل. أخذت طائفة منهم مطردة الزيادة تعبد الآلهة البابلية، وتؤلف الأساليب الشهوانية الشائعة في العاصمة القديمة، حتى إذا كان الجيل الثاني من أبناء المنفيين كان ذكرى أورشليم قد محيت أو كادت تمحى من أذهانهم.
وقد رأى المؤلف المجهول، الذي أخذ على عاتقه أن يكمل سفر إشعيا، أن يعيد ذلك الجيل المرتد إلى دين إسرائيل. وكان مما يمتاز به هذا المؤلف وهو يعمل على إعادتهم إلى دينهم القديم أن يرقى بهذا الدين إلى مستوى رفيع لم يرق إليه دين من الأديان التي ظهرت في الشرق الأدنى حتى ذلك الوقت ؛ فبينما كان بوذا في الهند ينادي بقمع الشهوات، وبينما كان كنفوشيوس في الصين يصوغ الحكمة لشعبه، كان "إشعيا الثاني" هذا يعلن لليهود المنفيين في نثر جزل مشرق مبادئ التوحيد، ويعرض عليهم إلهاً جديداً شفيقاً عليهم رحيماً بهم، يفوق في شفقته ورحمته ما كان عليه يهوه الغضوب كما صوره إشعيا الأول نفسه. وشرع هذا النبي العظيم يعلن في الناس رسالته بعبارات اختارها أحد الأناجيل المتأخرة ليستحث بها المسيح الشاب على أن يؤدي هو الآخر رسالته. ولم تكن هذه




صفحة رقم : 565




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> موت أورشليم وبعثها







الرسالة الجديدة هي صب اللعنات على الشعب لما ارتكب من الذنوب، بل كانت تهدف إلى بث الأمل في قلوبهم أيام استعبادهم. "روح السيد الرب علي لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب مكسوري القلب، لأنادي بالمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق"(133 )؛ فقد وجد هذا الكاتب أن يهوه ليس إله حرب وانتقام بل أباً محباً؛ وملأه هذا الكشف الجديد سعادة، وأوحى إليه أناشيد فخمة. فأخذ يبشر بالإله الجديد منقذ شعبه.
"صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا، كل وطاء يرتفع ، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيماً، والعراقيب سهلا ،... هو ذا الرب بقوة يأتي، وذراعه تحكم له... كراع يرعى قطيعه، بذراعه يجمع الحملان، وفي حضنه يحملها، ويقود المرضعات" .
ثم يبشر هذا بالمسيح المنقذ ويرفع من شأن هذا البشرى حتى تصير من الآراء السائدة بين شعبه ويصف "الخادم" الذي سينجي إسرائيل بالتضحية الأليمة:
"محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن... محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبجبره شفينا... والرب وضع عليه إثم جميعنا" .
ويتنبأ إشعيا الثاني بأن بلاد الفرس ستكون أداة هذا التحرير. وينادى بأن قورش رجل لا يقهر وأنه سيفتح بابل وينقذ اليهود من الأسر فيعودون إلى أورشليم ويشيدون هيكلاً جديداً ومدينة جديدة تكون جنة بحق. "الذئب والحمل يرعيان معاً، والأسد يأكل التبن كالبقر، أما الحية فالتراب طعامها،




صفحة رقم : 566




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> موت أورشليم وبعثها







لا يؤذون ولا يُهلِكون، في كل جبل قدسي يقول الرب"(135). ولعل الذي أوحى إلى هذا النبي فكرة وجود إله واحد للكون كله هو نهضة الفرس وانتشار قوتهم، وإخضاعهم دول الشرق الأدنى كلها، وجمعها في وحدة إمبراطورية أوسع رقعة وأحسن حكماً من أي نظام اجتماعي عرفه الناس من قبل. وهذا الإله لا يقول كما كان يقول يهوه:
"أنا الرب إلهك... لن تكون لك آلهة غريبة أمامي" بل يقول الآن: "أنا الرب وليس آخر لا إله سواي"(136)، ويصف النبي الشاعر هذا الإله العالمي في فقرة من أروع فقرات التوراة:
"من كان بكفه المياه، وقاس السموات بالشبر، وكال بالكير تراب الأرض، ووزن الجبال بالقبان، والآكام بالميزان... هو ذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان... هو ذا الجزائر يرفعها كَدُقّة... كل الأمم كلا شيء قدامه من العدم والباطل تحسب عنده. فبمن تشبهون الله؟ وأي شبه تعادلون به؟... الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب، والذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن... ارفعوا إلى العلاء عيونكم، وانظروا من خلق هذه"(137).
وكانت ساعة من أروع الساعات في تاريخ إسرائيل حين دخل قورش بابل فاتحاً عالمياً بعد طول انتظار، وأباح لليهود أن يعودوا إلى أورشليم بكامل حريتهم. ولكنه خيب رجاء بعض الأنبياء أظهر ما كان في طباعه من حضارة أرقى من حضارتهم، إذ ترك بابل وشأنها ولم يمس أهلها بسوء، وأظهر خضوعه لآلهتها، وإن كان في الواقع خضوعاً مشكوكاً فيه. كذلك أعاد قورش لليهود ما كان باقياً في خزائن الدولة البابلية من الذهب والفضة اللذين اغتصبهما نبوخدنصر من الهيكل، وأمر الجماعات التي كان اليهود المنفيون يعيشون بينها أن تعينهم بالمال الذي يحتاجونه في أثناء رحلتهم الطويلة إلى وطنهم. ولم يتحمس شباب اليهود




صفحة رقم : 567




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> موت أورشليم وبعثها







لهذا التحرير لأن الكثيرين منهم قد تأقلموا في التربة البابلية وامتدت أصولهم فيها، فترددوا طويلا في ترك حقولهم الخصبة وتجارتهم الرائجة ليعودوا إلى القفار الخربة في المدينة المقدسة. ومرت سنتان بعد مجيء قورش قبل أن تبدأ الفصيلة الأولى من اليهود المتحمسين رحلتها الطويلة التي دامت ثلاثة شهور إلى الأرض التي خرج منها آباؤها قبل ذلك الوقت بمائة عام(138).
ولم يجد هؤلاء العائدون ترحيباً كبيراً في وطنهم القديم، كما لا يجد العائدون إليه في هذه الأيام. ذلك أن أقواماً آخرين من الساميين قد استقروا في تلك البلاد، وتملكوا الأرض بحق احتلالها والعمل فيها، أخذت هذه القبائل تنظر بعين المقت إلى أولئك الذين خالوهم مغيرين على بلادهم وحقولهم، ولولا تلك الدولة القوية الصديقة التي كانت تحمي اليهود العائدين لما استطاعوا أن يستقروا في فلسطين. وأذن دارا الأول ملك الفرس للأمير زرَّ بابل أن يعيد بناء الهيكل، واستطاع هو وشيعته أن يتموا بناءه بعد اثنتي عشرة سنة من عودة اليهود، رغم قلة عدد أولئك المهاجرين وضآلة مواردهم، ورغم ما كانوا يصادفونه من عقبات في كل خطوة يخطونها بسبب هجمات الأهلين المعادين لهم وتآمرهم عليهم، وعادات أورشليم كما كانت مدينة يهودية شيئاً فشيئاً، وترددت في الهيكل أصداء الأناشيد التي كانت تتغنى بها بقية منهم آلت على نفسها أن تعيد اليهودية إلى سابق قوتها. وكانت عودتهم هذه نصراً عظيماً لا يفوقه إلا ذلك النصر الذي شهدناه في هذه الأيام .




صفحة رقم : 568




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب








الفصل السادس




أهل الكتاب




سفر الشريعة - تأليف الأسفار الخمسة - أساطير




"التكوين" - الشريعة الموسوية - الوصايا العشر - فكرة




الله - السبت - الأسرة اليهودية قيمة الشرائع الموسوية


لم يكن في وسع اليهود بعد عودتهم أن يقيموا لهم دولة حربية؛ ذلك أنهم لم يكن لهم من العدد ومن الثروة ما يمكنهم من إقامة هذه الدولة. ولما كانوا في حاجة إلى نوع من الإدارة يعترفون فيه بسيادة الفرس عليهم ويهيئ لهم هذا الوقت نفسه سبيل الوحدة القومية والنظام، فقد شرع الكهنة في وضع قواعد حكم ديني يقوم حكم يوشيا على المأثور من أقوال الكهنة وتقاليدهم، وعلى أوامر الله. وفي عام 444 ق.م دعا عزرا، وهو كاهن عالم، اليهود إلى اجتماع عام خطير، وشرع يقرأ عليهم من مطلع النهار إلى منتصفه "سفر شريعة موسى". وظل هو وزملاؤه اللاويون سبعة أيام كاملة يقرؤون عليهم ما تحتويه ملفات هذا السفر. ولما فرغوا من قراءتها أقسم الكهنة والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع ويتخذوها دستوراً لهم يتبعونه ومبادئ خلقية يسيرون على هديها ويطيعونها إلى أبد الآبدين(139). وظلت هذه الشرائع من تلك الأيام النكدة إلى يومنا هذا المحور الذي تدور عليه حياة اليهود، ولا يزال تَقيُّدهم بها طوال تجوالهم ومحنهم من أهم الظواهر في تاريخ العالم.
تُرى ماذا كان "كتاب شريعة موسى" هذا؟ لم يكن هذا الكتاب هو بعينه "كتاب العهد" الذي قرأه يوشيا من قبل، لأن هذا العهد قد جاء فيه بصريح العبارة أنه قُرئ على اليهود مرتين كاملتين في يوم واحد، على حين أن قراءة الكتاب الآخر قد احتاجت إلى أسبوع(140) كامل. وكل ما في وسعنا




صفحة رقم : 569




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







أن نفعله هو أن نحزر أن الكتاب الكبير كان يحتوي على جزء هام من أسفار العهد القديم الخمسة التي يسميها اليهود "توراة" ويسميها غيرهم البنتاتوش أو الأسفار الخمسة .
كيف كتبت هذه الأسفار؟ ومتى كتبت؟ وأين كتبت؟ ذلك سؤال بريء لا ضير منه ولكنه سؤال كتب فيه خمسون ألف مجلد، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة نتركه بعدها من غير جواب.
إن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هما القصتان المتشابهتان المنفصلة كلتاهما عن الأخرى في سفر التكوين، تتحدث إحداهما عن الخالق باسم "يهوه" على حين تتحدث الأخرى عنه باسم إلوهيم. ويعتقد هؤلاء العلماء أن القصص الخاصة بيهوه كتبت في يهوذا، وأن القصص الخاصة بإلوهيم كتبت في إفرايم، وأن هذه وتلك قد امتزجتا في قصة واحدة بعد سقوط السامرة. وفي هذه الشرائع عنصر ثالث يعرف بالتثنية




صفحة رقم : 570




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







أكبر الظن أن كاتبه أو كتابه غير كتاب الأسفار السالفة الذكر. وثمة عنصر رابع يتألف من فصول أضافها الكهنة فيما بعد. والرأي الغالب أن هذه الفصول تكون الجزء الأكبر من "سفر الشريعة" الذي أذاعه عزرا(142أ)، ويبدو أن هذه الأجزاء الأربعة قد اتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام 300 ق.م(143).
وكانت أساطير الجزيرة هي المعين الغزير الذي أخذت منه قصص الخلق والغواية والطوفان التي يرجع عهدها في تلك البلاد إلى ثلاثة آلاف سنة أو نحوها قبل الميلاد. ولقد رأينا صوراً قديمة من هذه القصص فيما مر بنا من صفحات من هذا الكتاب، ولعل اليهود قد أخذوا بعضها من الأدب البابلي في أثناء أسرهم(144). ولكن أرجح من هذا أنهم أخذوها قبل ذلك العهد بزمن طويل من مصادر سامية وسومرية قديمة كانت منتشرة في جميع بلاد الشرق الأدنى.
وتقول القصص الفارسية وقصص التلمود الخاصة بالخلق أن الله خلق في بادئ الأمر إنساناً مكوناً من ذكر وأنثى متصلين من الخلف كالتوأمين السياميين، ثم رأى فيما بعد أن يفصل أحدهما عن الآخر. وتحضرنا في هذه المناسبة جملة غريبة وردت في سفر التكوين (الآية الثانية من الأصحاح الخامس):
"يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله ذكراً وأنثى، خلقة وباركه ودعا اسمه آدم" ؛ ومعنى هذا أن ابنا الأول كان ذكراً وأنثى معا- ويبدو أن أحد من رجال الدين إذا استثنينا أرسطو فانيز لم يفطن إلى هذه العبارة .
أما قصة الجنة فتظهر في جميع القصص الشعبية في العالم كله- في مصر، والهند، والتبت، وبابل، وبلاد الفرس، واليونان وبولينيزيا والمكسيك




صفحة رقم : 571




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







وأبعدها عن المقصود منها، ذلك أن أهميتها ليست فيما تقصه من قصص، بل فيما تعرضه من أحكام. ومع ذلك فليس من العقل في شيء ألا يستمتع الإنسان ببساطتها التي تخلب اللب وبقصصها الواضحة وأحداثها السريعة.
وكانت الأسفار التي تليت على الشعب بأمر يوشيا وعزرا هي التي صيغت منها القوانين "الموسوية" التي قامت عليها الحياة اليهودية كلها فيما بعد. ويقول سارتن Sarton، وهو المعروف بشدة حرصه فيما يكتب، معلقاً على هذه الشرائع: " إن أهميتها في تاريخ الأنظمة والقوانين تفوق كل تقدير"(149). لقد كانت أكبر محاولة في التاريخ لاتخاذ الدين قاعدة لسياسة الأمم وأداة لتنظيم كل صغيرة وكبيرة في الحياة كلها. وفي ذلك يقول رينان Renan: "لقد صارت تلك الشريعة أضيق رداء شد على جسم الحياة الإنسانية"(150)، فقد جعلت الطعام ، والدواء، والشئون الصحية الفردية، وشئون الحيض والولادة، والشئون الصحية العامة، والانحراف الجنسي والشهوات البهيمية(152)، كل هذه جعلتها من موضوعات الفروض والهداية الإلهية. وفيها نشهد مرة أخري كيف أخذ الطبيب يفترق افتراقاً بطيئاً عن الكاهن(153)- ليصبح فيما بعد ألد أعدائه. فترى سفر اللاويين يحرص أشد الحرص على وضع القوانين الخاصة لعلاج الأمراض التناسلية، ويعنى بها أشد العناية، فينص على عزل المصابين وما يتطلبه علاجهم من تطهير وتبخير بل وحرق المنزل الذي فشا فيه المرض عن آخره إذا دعت الحال . وكان اليهود الأقدمون هم الذين وضعوا قواعد الوقاية من




صفحة رقم : 573




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







المرض(156)، ولكن يلوح أنهم لم يكونوا يعرفون من الجراحة غير عملية الختان، ولم تكن هذه السنة الدينية- الشائعة بين المصريين الأقدمين، وبين الساميين المحدثين- مجرد تضحية لله وفريضة يفرضها الولاء للجنس ، بل كانت فوق هذا وقاية صحية من الأقذار التي تتعرض لها الأعضاء التناسلية(158). ولعل ما في الشريعة من قواعد خاصة بالنظافة هو الذي أبقى على اليهود خلال تجوالهم الطويل وتشتتهم ومحنتهم.
أما ما بقي من شريعة موسى فيدور كله حول الوصايا العشر (سفر الخروج الآيات 1- 17 من الأصحاح العشرين) التي قدر لها أن يرددها نصف سكان العالم . وتضع الوصية الأولى أساس المجتمع الديني الجديد، وهو المجتمع الذي لا يقوم على أي شريعة مدنية بل على فكرة الله وهو الملك القدوس الذي لا تدركه الأبصار، والذي أنزل كل قانون، وفرض كل عقوبة، والذي سُمّي شعبُه بعدئذ شعب إسرائيل أي المدافعين عن الله.
لقد قامت الدولة العبرية ولكن الهيكل ظل باقياً، وشرع كهنة يهوذا




صفحة رقم : 574




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







يحاولون كما يحاول بابوات رومة أن يعيدوا ما عجز الكهنة عن إنقاذه. ومن ثم كان وضوح الوصية الأولى وما فيها من تكرار ونصها على أن الكفر وذكر الله بما لا يليق يعاقب عليهما بالإعدام ولو كان الكافر أقرب أقرباء الإنسان(161). ذلك أن الكهنة الذين وضعوا القانون كانوا يعتقدون كما يعتقد رجال محاكم التفتيش الأتقياء أن الوحدة الدينية شرط أساسي لقيام النظام والتضامن الاجتماعيين. وكان هذا التعصب الديني منضماً إلى الكبرياء الجنسي هو الذي أبقى على اليهود وأوقعهم في كثير من المشاكل.
وسمَت الوصية الثانية بفكرة الله بقدر ما حطّت من شأن الفن، إذ حرّمت أن تصور له أية صورة منحوتة. وقد افترضت هذه الوصية وجود مستوى عقلي راق لدى اليهود، لأنها نبذت كل الخرافات كما نبذت فكرة تجسد الإله، وحاولت أن تصور الله منزهاً عن جميع الأشكال والصور بالرغم من الصورة البشرية المحضة التي ترسمها ليهوه أسفار موسى الخمسة. وهي تخص الدين بكل ما تنطوي عليه قلوب العبرانيين من إخلاص وولاء، ولا تترك فيهما- في الأيام القديمة- مكاناً للعلم والفن. وحتى علم الفلك نفسه قد أهمل أمره لكيلا يزداد عدد الآلهة الزائفين أو تعبد النجوم وتتخذ آلهة من دون الله. وكان في هيكل سليمان قبل ذلك العهد عدد من الصور والتماثيل يكاد يجل عن الحصر(163)؛ أما الهيكل الجديد فلم يكن فيه شيء منها. ذلك أن التماثيل والصور القديمة قد نقلت من قبل إلى بابل، ويبدو أنها لم تعد مع ما أعيد من آنية الفضة والذهب(164). ومن أجل هذا لا نجد نحتاً ولا تصويراً ولا نقشاً بعد الأسر البابلي، كما لا نجد إلا القليل منها قبل الأسر إذا استثنينا عهد سليمان الذي يكاد أن يكون عهداً أجنبياً عن العبرانيين. وكل ما كان الكهنة يجيزونه من الفنون فنا العمارة والموسيقى؛ وكانت الأغاني والمراسم التي تقام في الهيكل هي التي تخفف من أكدار حياة الشعب وشقائه، فكانت فرقة موسيقية معها مختلف الآلات تنضم




صفحة رقم : 575




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







إلى جوقة المغنين في ترتيل المزامير، فتبدو "صوتاً واحداً لتسبيح الرب وحمده" وتمجيد الهيكل(165): "وداود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو بالعيدان، وبالرباب، وبالدفوف، وبالجنوك، وبالصنوج"(166).
وتنطق الوصية الثالثة بما كان يستمسك به اليهودي من تقى وتدين. فهو لا يحرم عليه أن ينطق باسم الله عبثاً فحسب، بل يحرم عليه أن ينطق باسم الله تحريماً مطلقاً، فإذا ورد اسم يهوه في صلاته وجب عليه أن يستبدل به اسم أدنيه- الرب. ولن نجد لهذه التقوى نظيراً إلا بين الهندوس.
وقدست الوصية الرابعة يوم الراحة الأسبوعي- السبت- وصار هذا التقديس سنة من أرسخ السنن البشرية. وهذه التسمية- ولعل هذه العادة نفسها- قد جاءتهم من البابليين. فقد كان هؤلاء يطلقون على الأيام "الحُرُم" أيام الصوم والدعاء اسم شيتو(167). وكان لديهم فضلاً عن هذه العطلة الأسبوعية أعياد أخري عظيمة منها مواسم كنعانية قديمة للزرع والحصاد، ومنها أعياد دورية للقمر والشمس: فكان مَزُّوث في بادئ الأمر عيد بداية حصاد الشعير، وشباؤوث الذي سمي فيما بعد بنتكست عيد ختام حصاد القمح؛ وسكوث عيد الكروم، وبساتش أو عيد الفصح عيد بداية نتاج قطعان الضأن؛ وكان رش- ها- شناه عيد رأس السنة. ولم تعدل هذه الأعياد لتخلد بها حوادث هامة في تاريخ اليهود إلا بعد ذلك الوقت(168أ). وكانوا في أول يوم من أيام عيد الفصح اليهودي يذبحون حملاً أو جدياً ويأكلونه ويرشون دمه على الأبواب إشارة على أن هذا الدم هو نصيب الإله، ثم ربط الكهنة فيما بعد هذه العادة بعادة قتل يهوه لأبناء المصريين البكر. وكان الحمل في أول الأمر طوطماً لإحدى القبائل الكنعانية. وكان عيد الفصح عند الكنعانيين عيد تقريب حمل لأحد الآلهة




صفحة رقم : 576




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







المحليين%=@وأصبح هذا الطوطم فيما بعد حمل بسكال في الدين المسيحي، وقيل أنه هو نفسه تخليد ذكرى موت المسيح.@ ونحن حين نقرأ الآن "في الأصحاح الثاني عشر من سفر الخروج" قصة هذا العيد، ثم نرى اليهود في هذه الأيام يحتفلون به على النحو الذي كانوا يحتفلون به قديماً، ندرك قدم هذه العبادة وقوة استمساك هذا الشعب بطقوسه القديمة.
والوصية الخامسة تقدس الأسرة وتضعها من حيث بناء المجتمع في منزلة لا تفوقها إلا منزلة الهيكل. وظلت المثل العليا التي طبع بها نظام الأسرة باقية في أوربا طوال تاريخها المتوسط والحديث حتى جاء الانقلاب الصناعي وأدى إلى انحلالها. لقد كانت الأسرة العبرانية الأبوية نظاماً اقتصادياً وسياسياً ضخماً يتألف من أكبر رجل متزوج فيها، ومن أزواجه، وأبنائه غير المتزوجين، وأبنائه المتزوجين وأزواجهم وأبنائهم، ومن عبيدهم إن كان لهم عبيد. وكان الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه هذه الجماعة هو قدرتها على زراعة الأرض؛ أما قيمتها السياسية فتنحصر في أنها كانت تهيئ للبلد نظاماً اجتماعياً بلغ من القوة حداً تكاد الدولة أن تصبح معه لا ضرورة لها إلا في زمن الحرب. وكان للأب على أفراد أسرته سلطاناً لا يكاد يُحد؛ فكانت الأرض ملكاً له، ولم يكن في وسع أبنائه أن يبقوا على قيد الحياة إلا إذا أطاعوا أمره؛ فقد كان هو الدولة، وكان في وسعه إن كان فقيراً أن يبيع ابنته قبل أن تبلغ الحلم لتكون جارية؛ كما كان له الحق المطلق في أن يزوجها بمن يشاء وإن كان في بعض الأحيان ينزل عن بعض حقه فيطلب إليها أن ترضى بهذا الزواج(170). وكانت الفكرة الشائعة أن الأولاد من نتاج الخصية اليمنى، وأن البنات من نتاج الخصية اليسرى، وكانت هذه في اعتقادهم أصغر وأضعف من اليمنى(171). وكان الزواج في أول الأمر




صفحة رقم : 577




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







يستتبع انتقال الزوج إلى دار زوجته، فقد كان عليه أن "يترك أباه وأمه وينضم إلى زوجته في عشيرتها"؛ لكن هذه العادة أخذت تزول شيئاً فشيئاً بعد تأسيس الملكية. وكانت أوامر يهوه إلى الزوجة هي: "ستكون رغبتك لزوجك، وسيكون له الحكم عليك".
ومع أن المرأة كانت من الوجهة الرسمية خاضعة للزوج، فإنها كانت في الواقع ذات كرامة وذات سلطان كبير؛ وقد اشتهرت في تاريخ اليهود أسماء سيدات مثل سارة، وراحيل، ومريم، وإستر؛ وكانت دبورة إحدى قضاة إسرائيل(172). وكانت النبية خلدة هي التي استشارها يوشيا في أمر الكتاب الذي وجده الكهنة في الهيكل(173). وكانت الأم الولود تضمن لنفسها الطمأنينة والكرامة، ذلك بأن هذه الأمة الصغيرة كانت تتوق إلى زيادة عددها، لأنها تشعر كما تشعر اليوم في فلسطين بما يتهددها من الخطر وسط الأقوام المحيطين بها. ومن أجل هذا كانت ُتعلي من شأن الأمومة، وترى العزوبة خطيئة وجريمة، وتجعل الزواج إجبارياً بعد سن العشرين، لا تستثني من ذلك الكهنة أنفسهم، وتزدري العذارى اللاتي في سن الزواج، والنساء العاقرات، وتنظر إلى الإجهاض وقتل الأطفال وغيرهما من وسائل تحديد النسل على أنها من أعمال الكفرة البغيضة التي تؤذي خياشيم الرب(174): "فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها وقالت ليعقوب هب لي بنين وإلا فأنا أموت"(175). وكانت الزوجة الكاملة هي التي لا تنقطع عن الكد في بيتها وحوله، ولا تفكر إلا في زوجها وأطفالها. وفي الأصحاح الأخير من سفر الأمثال وصف للمرأة المثالية كما يراها الرجل:
"امرأة فاضلة من يجدها لأن ثمنها يفوق اللآلئ، بها يثق قلب زوجها قلا يحتاج إلى غنيمة، تصنع له خيراً لا شراً كل أيام حياتها، تطلب صوفاً وكتاناً، وتشتغل بيدين راضيتين، هي كسفن التاجر تجلب طعامها من بعيد،




صفحة رقم : 578




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







وتقوم إذ الليل بعد، وتعطي أكلاً لأهل بيتها وفريضة لفتياتها، تتأمل حقلاً فتأخذه وبثمر يديها تغرس كرماً؛ تنطق حقويها بالقوة وتشدد ذراعيها، تشعر أن تجارتها جيدة، سراجها لا ينطفئ في الليل، تمد يديها إلى المغزل وتمسك كفاها بالفلكة، تبسط كفيها للفقير وتمد يديها إلى المسكين. لا تخشى على بيتها من الثلج لأن كل أهل بيتها لابسون حللاً، تعمل لنفسها موشيات، لبسها البز وأرجوان، زوجها معروف في الأبواب حين يجلس بين مشايخ الأرض، تصنع قمصاناً وتبيعها، وتعرض مناطق على الكنعاني، العز والبهاء لباسها، وتضحك على الزمن الآتي، تفتح فمها بالحكمة وفي لسانها سنة المعروف، تراقب طرق أهل بيتها ولا تأكل خبز الكسل، يقوم أولادها ويطربونها، ويقوم زوجها أيضاً فيمدحها، بنات كثيرات عملن فضلاً، أما أنتِ ففقتِ عليهن جميعاً، الحسن غش والجمال باطل؛ أما المرأة المتقية الرب فهي تمدح، أعطوها من ثمر يديها، ولتمدحها أعمالها في الأبواب" .
والوصية السادسة مبدأ مثالي صعب المنال. ذلك أننا لا نرى في كتاب ما نراه في أسفار العهد القديم من حديث عن التقتيل والتدمير، ففصوله كلها ما بين وصف لمذابح وتناسل لتعويض آثارها. لقد كان النزاع بين الأسباط، والانقسامات الحزبية، وعادة الأخذ بالثأر المتوارثة، كل هذه كانت لا تبقي على فترات السلم المنقطعة المملة إلا قليلاً. ولم يكن أنبياء إسرائيل من دعاة السلم رغم ما جاء في بعض أقوالهم من تمجيد للمحاريث ومناجل التشذيب. وكان الكهنة أنفسهم- إذا جاز لنا أن نحكم عليهم من خطبهم التي يُنطقون بها يهوه-




صفحة رقم : 579




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







مولعين بالحروب ولعهم بالمواعظ. ولقد قتل ثمانية من ملوك إسرائيل التسعة عشر(177). وكانت العادة المتبعة أن تدمر المدن التي يستولون عليها في حروبهم، وأن تقطع بحد السيف رقاب جميع الذكور من سكانها، وأن تتلف الأرض حتى لا تصلح للزرع إلا بعد زمن طويل، شأنهم في هذا شأن الناس في تلك الأيام(178). ولعل أعداد القتلى الواردة في أقوالهم كان يبالغ فيها كثيراً. فليس من المعقول مثلا أن "يقتل بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف رجل في يوم واحد"(179) بغير آلات الحرب الحديثة. وكان اعتقادهم أنهم شعب الله المختار(180) سبباً في ازدياد الكبرياء الطبيعي في أمة تشعر بما لها من مواهب متفوقة، كما كان سبباً في تقوية ما لديهم من نزعة إلى اعتزال غيرهم من الشعوب من الوجهتين العقلية والروحية، وفي حرمانهم من أن ينظروا إلى الأمور نظرة أممية كان أبناؤهم جديرين بأن يصلوا إليها. لكنهم مع ذلك بلغوا درجة عظيمة من الفضائل المتصلة بصفاتهم هم أنفسهم، وكان منشأ عنفهم هو ما كانوا يتصفون به من حيوية عارمة جامحة؛ وكانت عزلتهم ناشئة من تقواهم، كما كان ميلهم إلى الخصام والتذمر ناشئاً من حساسيتهم القوية التي أمكنتهم من إنتاج أعظم آداب الشرق الأدنى؛ وكان كبرياؤهم العنصري أقوى سند لشجاعتهم في خلال قرون التعذيب الطوال. ذلك أن الناس يكونون كما تضطرهم الظروف أن يكونوا.
والوصية السابعة تعترف بأن الزواج هو الأساس الذي تقوم عليه الأسرة، كما تعترف الخامسة بأن الأسرة هي أساس المجتمع، وهي تضفي على الزواج كل ما يستطيع الدين أن يضفي عليه من عون. ولا تذكر شيئاً عن العلاقات الجنسية قبل الزواج، ولكن ثمة أنظمة أخري تحتم على الفتاة أن تثبت أنها عذراء




صفحة رقم : 580




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







في يوم زواجها وإلا رجمت حتى تموت(181). ولكن الزنا كان رغم هذا منتشراً بين اليهود، ويلوح أن اللواط لم ينقطع بعد تدمير سدوم وعمورة(182). ولما كان القانون فيما يلوح لم يحرم الاتصال بالعاهرات الأجنبيات، فإن السوريات، والموآبيات والمَدْينيات وغيرهن من "النساء العازبات" انتشرن في الطرق العامة، حيث كن يعشن في مواخير وخيام، ويجمعن بين الدعارة وبيع مختلف السلع الصغيرة. ولما كان سليمان لا يتشدد كثيراً في هذه الأمور، فإنه قد تساهل في تطبيق القانون الذي كان يحرم على تلك النساء السكنى في أورشليم؛ وسرعان ما تضاعف عددهن حتى كان الهيكل نفسه في أيام المكابيين ماخوراً للزنا والفجور كما وصفه مصلح غضوب(183).
ويلوح أن الحب كان له عندهم نصيب، فقد "خدم يعقوب براحيل سبع سنين، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها"(183)، ولكن الحب لم يكن له إلا شأن قليل في اختيار الأزواج. وكان هذا الزواج قبل نفي بني إسرائيل من الأمور المدنية المحضة، يعقده أبوا الزوجين أو يعقده الخطيب وأبو العروس. وفي أسفار العهد القديم شواهد على زواج السبايا؛ ويجيز يهوه الزواج من سبايا الحروب(185)، ولما نقص عدد النساء أوصى الكبار "بني بنيامين قائلين امضوا واكمنوا في الكروم، وانظروا فإذا خرجت بنات شيلوه ليدرن في الرقص فاخرجوا أنتم من الكروم واخطفوا لأنفسكم كل واحد امرأته من بنات شيلوه واذهبوا إلى أرض بنيامين"(186). ولكن هذه الخطة كانت من الخطط النادرة، أما السنة المألوفة فكانت سنة الزواج بطريق الشراء، فقد ابتاع يعقوب ليئة وراحيل بعمله. واشترى بوعز راعوثَ اللطيفة شراء سافراً. وكان ممن أشد ما ندم عليه النبي هوشع أنه ابتاع زوجته بخمسين شاقلاً(187). وكان الاسم الذي يطلقه العبرانيون على الزوجة وهو "بولة" يعني "المملوكة"(188). وكان
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:54 pm

صفحة رقم : 581




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







والد الزوجة يعطيها في مقابل ما يتقاضاه ثمناً لها بائنة- وهو نظام يفيد أعظم فائدة في تضييق الثغرة الفاصلة بين نضج الأبناء الجنسي ونضجهم الاقتصادي في حضارة المدن، وهي ثغرة مفككة للمجتمع.
وإذا كان الرجل ثرياً أبيح له أن يتزوج بأكثر من واحدة؛ وإذا كانت الزوجة عاقراً، مثل سارة، أشارت على زوجها بأن يتخذ له خليلة. وكان الهدف الذي ترمي إليه هذه السنن هو تكثير النسل. وكان طبيعياً لديهم أن تقدم راحيل وليئة خادماتهما إلى يعقوب بعد أن ولدتا له كل ما تستطيعان أن تلدا من الأبناء، لكي يلدن له هن أيضاً أبناء(188). ولم يكن يسمح للمرأة بأن تظل عقيماً؛ ومن أجل ذلك فإن الأخ إذا مات أخوه كان يحتم عليه أن يتزوج أرملته مهما كان عدد زوجاته؛ فإذا لم يكن للميت أخ فرض هذا الواجب على أقرب الأحياء من أسرته (189) . ولما كانت الملكية الفردية أساس النظام الاقتصادي اليهودي فقد كان لكل من الرجل والمرأة معيار خلقي خاص. فللرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، أما المرأة فكانت تختص برجل واحد. وكان معنى الزنى عندهم اتصال رجل بامرأة ابتاعها رجل آخر بماله؛ ومن أجل ذلك كان اتصاله بها اعتداء على قانون الملكية تعاقب عليه المرأة والرجل بالإعدام(190). وكان الفسق محرماً على المرأة غير المتزوجة، أما الرجل غير المتزوج فقد كان عمله هذا ذنباً يغتفر له(191). وكان الطلاق مباحاً للرجل، ولكنه كان قبل أيام التلمود من أشق الأمور على المرأة(192). ويلوح أن الزوج لم يسرف في إساءة استعمال ماله من ميزة على المرأة في هذه الناحية، فهو يصور لنا على أنه في الجملة إنسان مخلص لزوجته وأبنائه، غيور عليهم، وكثيرا ما كان الزواج يثمر حبَّاً وإن لم يكن الحب هو الذي يقرر الزواج. "وأخذ إسحق رفقة فصارت له زوجة وأحبها، فتعزى إسحق بعد موت أمه"(193). ولعل الحياة في الأسرة لم تصل في أي شعب آخر- إذا استثنينا شعوب الشرق الأدنى- إلى ذلك المستوى الراقي الذي وصلت إليه عند اليهود.




صفحة رقم : 582




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







والوصية العاشرة تقدس الملكية الفردية ، وكانت هي والدين والأسرة الأسس الثلاثة التي قام عليها المجتمع العبري. وتكاد الملكية كلها تنحصر في ملكية الأرض، ذلك أن اليهود قبل أيام سليمان قلما كان لديهم شيء من الصناعات غير صناعتي الخزف والحديد. وحتى الزراعة نفسها لم ترق رقياً كبيراً، وكانت الكثرة العظمى من الشعب منصرفة إلى تربية الضأن والماشية، وزراعة الكروم والزيتون والتين. وكانت أغلب معيشتهم في الخيام لا في البيوت المبنية، حتى لا يجدوا صعوبة في انتجاع مراعي جديدة. ولما نمت ثروتهم وزاد ما ينتجونه على حاجتهم بدءوا يتجرون، وأخذت السلع اليهودية تروج في دمشق وصور وصيدا وحول الهيكل نفسه بفضل ما اتصف به التجار اليهود من مهارة وصبر على المشاق. وظلوا إلى ما قبل أيام الأسر لا يستخدمون نقوداً، وكان الذهب والفضة أساس التبادل عندهم وكانا يوزنان في كل عملية تجارية. وقامت بينهم مصارف كثيرة العدد لتمويل التجارة والمشروعات الاقتصادية. ولم يكن غريبا أن يتخذ هؤلاء "المقرضون" ساحات الهيكل موضعاً لعملهم، فقد كانت هذه عادة شائعة في الشرق الأدنى، ولا تزال باقية في كثير من أقطاره إلى هذا اليوم(196). وكان يهوه يطل من عليائه مغتبطا بسلطان رجال المال المتزائد، ومن أقواله في هذا المعنى: " فتقرض أمماً كثيرة وأنت لا تقترض"(197) وهي فلسفة كريمة جمعت لليهود ثروة طائلة، وإن لم يبد في هذا القرن أنها من وحي الدين. وكان اليهود يتخذون أسرى الحروب والمذنبين عبيداً لهم، وشأنهم في هذا شأن غيرهم من أمم الشرق الأدنى: ويستخدمون مئات الآلاف منهم في قطع الأخشاب ونقل مواد البناء للمنشآت العامة كهيكل سليمان وقصره. ولكن السيد




صفحة رقم : 583




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







لم يكن له على عبيده حق الحياة والموت، كما كان من حق العبد أن يمتلك المال ويبتاع به حريته(198). وكان يباح بيع الرجال المدينين ليكونوا خدماً أرقّاء إذا عجزوا عن أداء ديونهم، وكان في وسعهم أن يبيعوا أبناءهم بدلا منهم. وقد بقيت هذه العادة إلى أيام المسيح(199)، غير أن الصدقات السخية وما كان يقوم به الكهنة والأنبياء من حملات عنيفة على استغلال هؤلاء الأرقاء قد خففت في بلاد اليهود من آثار هذه النظم التي كانت منتشرة في بلاد الشرق الأدنى. وكان من القواعد الواردة في شريعة موسى: "ألا يغبن أحدكم أخاه"(200)، كما أنها كانت تطلب إليهم أن يطلقوا سراح الأرقاء من العبرانيين وأن يلغوا ما عليهم من الديون كل سبع سنين(211). ولما تبين أن هذا الأمر أكثر مما يطيقه سادة هؤلاء الأرقاء جاء القانون بسنة العيد الخمسيني، فكان كل العبيد والمدينين يعتقون كل خمسين سنة: "وتقدسون السنة الخمسين وتنادون بالعتق في الأرض لجميع سكانها. تكون لهم يوبيلاً وترجعون كل إلى مالكه وتعودون كلّ إلى عشيرته(202).
وليس لدينا ما يدل على أن هذه الوصية الجميلة قد أطيعت، وسواء كان ذلك أو لم يكن فإننا يجب أن نقر بالفضل للكهنة الذين لم يتركوا درساً في الإحسان إلا علموه: "إن كان فيك فقير أحد من أخوتك.. فلا تقس قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك له، واقرضه مقدار ما يحتاج إليه"، "لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة"(203). ويجب أن تشمل عطلة السبت كل العاملين، بل يجب أن تشمل الحيوانات نفسها فتترك ما عساه أن يكون على الأرض من النبات المقطوع والفاكهة الساقطة من الأشجار في الحقول والبساتين يجمعها الفقراء لأنفسهم(204). ومع أن اليهود هم الذين كانوا مقصودين بهذه الصدقات فإن الفقير الذي عند الأبواب يجب أن يعامل هو




صفحة رقم : 584




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







الآخر معاملة طيبة رحيمة، وأن يؤوى الغريب ويطعم ويعامل معاملة كريمة. وكان اليهود يؤمرون في كل حين بأن يذكروا أنهم هم أيضاً كانوا في وقت من الأوقات لا مأوى لهم بل أنهم كانوا عبيداً أرقاء في أرض غير أرضهم.
وكانت الوصية التاسعة تطلب أن يكون الشهود شرفاء أمناء إلى أقصى حد، وبذلك جعلت الدين عماداً للشريعة اليهودية بقضها وقضيضها. لقد كان الشاهد يقسم اليمين في حفل ديني، ولم يكن يكتفي بأن يضع المقسم يده على عورة من يقسم له كما كانت العادة قديماً(205)، بل كان يطلب إليه الآن أن يشهد الله نفسه على صدقه، وأن يُحَكّمه في أمره. وكان القانون ينص على أن يعاقب شاهد الزور بنفس العقاب الذي كان يراد توقيعه على المتهم بالاستناد إلى شهادته(206). لقد كانت شريعة إسرائيل كلها هي الشريعة الدينية وحدها، وكان الكهنة هم القضاة والهياكل هي المحاكم، وكان يحكم بالإعدام على من لا يخضعون لأحكام الكهنة(207). وكانت هناك حالات خاصة يترك الحكم فيها لله، وذلك بأن يشرب المتهم ماء ساماً إذا كانت جريمته مشكوكاً فيها(208). ولم تكن لديهم أداة لتنفيذ القانون سوى الأداة الدينية وحدها؛ فكان تنفيذه يترك إلى ضمير المتهم وإلى سلطان الرأي العام، وكانت بعض الجرائم الصغرى يكفر عنها بالاعتراف والفداء(209). وكانت جرائم القتل وخطف الآدميين؛ وعبادة الأوثان، والزنا، وضرب أحد الوالدين أو سبهما، وسرقة العبيد، أو "مضاجعة بهيمة" يحكم فيها بالإعدام بأمر يهوه، وأما قتل الخادم فلا يعاقب عليه بالإعدام(210)؛ كذلك كان الإعدام عقاباً على السحر: "لا تدع ساحرة تعيش"(211). وكان يرضى يهوه أن يقوم الأفراد أنفسهم في تنفيذ القانون في حالة القتل: "ولي الدم يقتل القاتل، حين يصادفه يقتله"(212). على أنهم كانوا يفردون بعض المدن يستطيع




صفحة رقم : 585




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







المجرم أن يفر إليها، فإذا فعل كان على ولي الدم أن يؤجل ثأره(213).
وفي وسعنا أن نقول بوجه عام أن المبدأ الذي كان يقوم عليه العقاب هو قانون القصاص: "وإن حصلت أذية تُعطى نفساً بنفس، وعيناً بعين، وسناً بسن، ويداً بيد، ورجلاً برجل، وكيَّاً بكي، وجرحاً بجرح، ورضَّاً برض(214). وما من شك في أن هذه المبادئ كانت ُمثلاً ُعليا لم تتحقق كلها على الوجه الأكمل، وإذا شئنا أن نقول كلمة عامة عن قانون اليهود الجنائي، قلنا إن هذا الجزء من القانون لا يفضل قانون حمورابي، وإن كان قد كُتب بعده بألف وخمسمائة سنة على الأقل. أما من حيث تنظيم القضاء نفسه فإن فيه رجوعاً كثيراً إلى الوراء، لأنه يعود بهذا التنظيم إلى السيطرة الكهنوتية البدائية.
ويتضح لنا من الوصية العاشرة كيف كانوا ينظرون إلى المرأة على أنها جزء من متاع الرجل: "لا تشته امرأة قريبك، ولا عبده ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره، ولا شيئاً مما لقريبك"(215). ولكنها مع هذا كانت تحوي مبادئ قيمة عظيمة، لو تقيد الناس بها لنجا العالم من نصف ما فيه من قلق واضطراب. ومن أعجب الأمور أن أفضل الوصايا كلها لم تكن بين هذه الوصايا العشر، وإن كانت جزءاً من "الشريعة" الموسوية. ونقصد بذلك ما ورد في الآية الثامنة عشرة من الأصحاح التاسع عشر من سفر اللاويين تائهاً بين "طائفة من القوانين المتكررة المختلفة الأنواع" ولا يزيد نصها على هذه العبارة : "تحب قريبك كنفسك" .
وقصارى القول أن الوصايا العشر شريعة سامية، فيها من العيوب ما لا يزيد على عيوب العصر الذي وضعت فيه، ولكن فيها من الفضائل ما لا يوجد في غيرها من الشرائع. ومن واجبنا أن نذكر على الدوام أنها كانت قانوناً لا أكثر، بل أن نذكر فوق هذا أنها كانت: "طوبى كهنوتية"(216)، ولم تكن وصفاً صادقاً للحياة اليهودية. وكانت ككل




صفحة رقم : 586




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أهل الكتاب







القوانين تعظم في عين أصحابها حين يخرقونها، ويمتدحونها كلما اعتدوا عليها، ولكن أثرها في سلوك أصحابها لم يكن يقل عن أثر معظم الشرائع القضائية أو الأخلاقية. وكان من أهم آثارها أنها جعلت لليهود في خلال تجوالهم الذي بدأ عقب وضعها بزمن قليل، والذي دام ألفي عام، "وطنا يحملونه معهم" كما سماه هين Heine فيما بعد، ودولة روحية لا تراها العين ولا تلمسها اليد، وضمت شملهم رغم تشتتهم وأبقت لهم كبرياءهم رغم هزائمهم، وأوصلتهم خلال القرون الطوال إلى وقتنا هذا وهم شعب قوي يبدو لنا أنه لن يبيد أبداً.




صفحة رقم : 587




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها








الفصل السابع




أدب التوراة وفلسفتها




التاريخ - القصص - الشعر - المزامير - نشيد الأنشاد - الأمثال-




أيوب - فكرة الخلود - تشاؤم سفر الجامعة - مجيء الإسكندر


ليس العهد القديم شريعة فحسب، بل هو فوق ذلك تاريخ، وشعر، وفلسفة من الطراز الأول. وإذا ما أنقصنا من قيمة الكتاب ما فيه من أساطير بدائية، ومن أغلاط مبعثها صلاح الكاتبين وتقواهم، وأقررنا أن ما فيه من أسفار تاريخية لا تبلغ من الدقة أو من القدم ما كان أجدادنا السابقون يفترضونه فيها، إذا ما فعلنا هذا كله فإنا لا نجد في الكتاب طائفة من أقدم الكتابات التاريخية فحسب، بل نجد فيه كذلك طائفة من أجمل تلك الكتابات. ولربما كانت أسفار القضاة وصموئيل والملوك قد وضعت على عجل، كما يعتقد بعض العلماء(217)، وفي أثناء السبي أو بعده بقليل ليجمع فيها واضعوها التقاليد القومية لشعب مشتت كسير، ويحتفظوا بها على مدى القرون؛ ولكن قصة شاؤل وداود وسليمان تفوق في جمال مبناها وأسلوبها غيرها من الكتابات التاريخية في الشرق الأدنى القديم. بل إن سفر التكوين نفسه- إذا استثنينا منه ما فيه من سلاسل الأنساب، وقرأناه ونحن ندرك الهدف الذي ترمي إليه الأقاصيص- إن هذا السفر نفسه لهو قصة ممتعة عظيمة، قُصَّت علينا من غير حواش ولا زينة في بساطة ووضوح وقوة. ولسنا نجد فيها تاريخاً فحسب، بل نجد فيها نوعاً من فلسفة التاريخ. ذلك أنها أول ما دوّن من الجهود التي بذلها الإنسان ليؤلف من الحوادث الماضية التي لا عداد لها وحدة متناسقة بالبحث عما يسري فيها من وحدة في الغرض، ومن مغزى، ومن تتابع العلة والمعلول على نحو ما، ومن إيضاح لحاضر




صفحة رقم : 588




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







الأشياء ومستقبلها. ولقد بقيت فكرة التاريخ- كما تصورها الأنبياء والكهنة واضعو أسفار موسى الخمسة- ألف عام بعد اليونان والرومان، وأصبحت آراء عالمية يعتنقها المفكرون الأوربيون من بوثيوس Boethius إلى بوسويه Bossuet.
والقصص الغرامية الساحرة الواردة في التوراة وسط بين التاريخ والشعر. وليس في المنثور من الكتابة ما هو أدنى إلى الكمال من قصة راعوث؛ ولا تقل عنها كثيراً قصة إسحق ورفقة، ويعقوب وراحيل، ويوسف وبنيامين، وشمشون ودليلة، وإستر، ويهوديت ودانيال. ويبدأ الأدب الشعري "بنشيد موسى" (سفر الخروج الفصل الخامس عشر) و "نشيد دبورة" (القضاة الفصل الخامس عشر) ويبلغ ذروته في المزامير. وكانت ترانيم "التوبة" البابلية هي التي مهدت السبيل إلى هذه الأناشيد، ولعل أناشيد اليهود قد أخذت منها مادتها كما أخذت عنها صورتها. ويخيل إلينا أن قصيدة إخناتون في الشمس كانت ذات أثر في المزمور الخامس والخمسين بعد المائة. وأكبر الظن أن المزامير ليست كلها من وضع داود وحده بل من وضع طائفة من الشعراء كتبوها بعد الأسر اليهودي بزمن طويل، ويغلب أن يكون ذلك في القرن الثالث قبل المسيح(218). على أن هذا البحث التاريخي كله لا يعنينا كما لا يعنينا اشتقاق اسم شكسبير أو المصادر التي استمد منها مسرحياته؛ إنما الذي يعنينا هو أن المزامير تحتل المكان الأول في شعر العالم الغنائي. ولم يكن يقصد بها أن يطالعها الإنسان في جلسة واحدة، أو أن يطالعها مطالعة الناقد المدقق؛ بل إن أجمل ما فيها أنها تصف لحظات من نشوة التقى والهيام الروحي والإيمان القوي المحرك للعواطف. ولكنها يفسدها علينا ما فيها من لعنات مريرة، و "تأوهات" وشكايات مملة، وملق لا ينتهي ليهوه الذي يصب الدخان صباً من خياشيمه والنار من فمه (المزمور الثامن)، ويتوعد الأشرار بالحرق في نار الجحيم (المزمور التاسع) . يتقبل الملق ويهدد "بقطع جميع الشفاه الملقة" (المزمور الثاني عشر). والمزامير مليئة بالحماسة




صفحة رقم : 589




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







الحربية البعيدة كل البعد عن الروح المسيحية، ولكنها مع ذلك تسري فيها روح الحجيج المجاهدين. على أن من المزامير ما يفيض رحمة وحناناً وما يعد مثلا في الخضوع والتذلل: "إننا تراب نحن... الإنسان مثل العشب أيامه، كزهر الحقل كذلك يزهر، لأن ريحاً تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد" (المزموران 39 ، 103). ونحس في هذه الأناشيد بأوزان الشعر الشرقي القديم ونكاد نسمع فيها أصوات المرنمين وهم يردون على المنشدين. وليس في الشعر كله ما يفوقه في تشبيهاته وتصويره، وليس ثمة ما يضارعه في قوة تعبيراته ووضوحها. ولهذه القصائد في نفوسنا من الأثر ما يفوق أثر أية أغنية من أغاني الحب، فهي تحرك أقسى العواطف وأكثر النفوس شكاً، لأنها تعبر في صورة عاطفية قوية عما في العقل الناضج من شوق إلى نوع من الكمال يهب له كل جهوده. وتقابلنا في أماكن متفرقة من الترجمة الإنجليزية التي صدرت في عهد الملك جيمس عبارات بليغة جرت على لسان جميع الناطقين باللغة الإنجليزية كقولهم: Out of the Mouths of babes (من أفواه الأطفال والرُّضَّع في المزمور الثامن)، The apple of the eye (حدقة العين في المزمور السابع عشر)، Trust not in princes (لا تتكلوا على الرؤساء- المزمور السادس والأربعون بعد المائة). وفي الأصل العبراني تشبيهات واستعارات لم تفقها تشبيهات واستعارات في أية لغة من اللغات. انظر إلى قوله في المزمور التاسع عشر، إن الشمس المشرقة: "مثل العروس الخارج من حجلته يبتهج مثل الجبار للسباق". ولا يسعنا إلا أن نتصور ما لهذه الأناشيد من جلال وجمال في لغتها الأصلية الطنانة الرنانة .
وإذا ما وضعنا إلى جانب هذه المزامير "نشيد سليمان" لاح لنا ما في الحياة

أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:54 pm

صفحة رقم : 590




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







اليهودية من عنصر شهواني دنيوي، لعل ُكتَّاب العهد القديم- وهم الذين يكادون كلهم أن يكونوا من الأنبياء والكهنة- قد أخفوه عنا، كما يكشف سفر الجامعة عن تشكك لا نتبينه فيما عنى الكتاب باختياره ونشره من أدب اليهود الأقدمين. وفي هذه الكتابات الغرامية العجيبة مجال واسع للحدس والتخمين. فقد تكون مجموعة من الأغاني البابلية الأصل، تشيد بذكر إشتار وتموز، وقد تكون من وضع جماعة من شعراء الغزل العبرانيين تأثروا بالروح الهيلينية التي دخلت إلى بلاد اليهود مع الإسكندر الأكبر (لأن في هذه الأغاني ألفاظاً مأخوذة من اللغة اليونانية)، أو قد تكون زهرة يهودية ترعرعت في الإسكندرية وقطفتها نفس محررة من ضفاف النيل (وذلك لأن العاشقَين يخاطب أحدهما الآخر بقوله أخي أو أختي كما يفعل المصريون الأقدمون). ومهما يكن أصلها فإن وجودها في التوراة سر خفي ولكنه سر ساحر جميل. ولسنا ندري كيف غفل- أو تغافل- رجال الدين عما في هذه الأغاني من عواطف شهوانية فأجازوا وضعها بين أقوال إشعيا والخطباء:


صرة المر حبيبي لي، بين ثديي يبيت




طاقة فاغبة حبيبي لي في كروم عين جدي (Engadi)




ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان




ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر...




أنا نرجس شارون سوسنة الأودية...




أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة جداً.




أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول إلا تيقظنّ




ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء...




حبيبي لي وأنا له الراعي له بين السوسن






صفحة رقم : 591




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها









إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال. ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي




أو غُفر الأيائل على الجبال المشعبة...




تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى




لنبكرنّ إلى الكروم لننظر هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل




نوّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي.


هذا هو صوت الشباب أما الأمثال فصوت الشيوخ. إن الناس يتطلبون كل شيء من الحب والحياة؛ وهم ينالون ما يتطلبون إلا قليلاً، ولكنهم يظنون أنهم لم ينالوا شيئا؛ وتلك هي المراحل الثلاث التي يتنقل فيها الإنسان المتشائم. وهكذا ترى هذا السليمان الأسطوري يحذر الشباب من شر المرأة. "لأنها طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء... أما الزاني بامرأة فعديم العقل... ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة لا أعرفها: طريق نسر في السموات، وطريق حية على صخر، وطريق سفينة في قلب البحر، وطريق رجل بفتاة"(221). وهو يتفق مع القديس بولص في أن أفضل للإنسان أن يتزوج من أن يحترق! "افرح بامرأة شبابك، الظبية المحبوبة، والوعلة الزهية، ليروك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها اسكر دائماً... أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة"(222). بحقك هل هذه ألفاظ من كانت له سبعمائة زوجة؟
ويلي الكسلُ الدنسَ في البعد عن الحكمة: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان... إلى متى تنام أيها الكسلان؟"(223).
"أرأيت رجلاً مجتهداً في عمله؟- أمام الملوك يقف"(224). ولكن




صفحة رقم : 592




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







هذا الفيلسوف لا يطيق الإسراف في الطمع: "المستعجل إلى الغنى لا يبرأ"، و "راحة الجهّال(225) تبيدهم" والعمل هو الحكمة، أما الكلام فحمق وسخف : "في كل تعب منفعة، وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر"... "الجاهل يظهر كل عبطه، والحكيم يسكنه أخيراً"، "ذو المعرفة يبقى كلامه وذو الفهم وقور الروح، بل الأحمق إذا سكت يحسب حكيماً ومن ضمّ شفتيه فهيماً"(226).
ومن النصائح التي لا ينفك ذلك الحكيم يرددها حكمة تكاد تنطبق ألفاظها على وصف سقراط للفضيلة والحكمة، تفوح بعطر مدارس الإسكندرية حيث كان علم اللاهوت العبري يمتزج بالفلسفة اليونانية لتخرج لنا من مزيجهما العقلية الأوربية: "الفطنة ينبوع حياة لصاحبها، وتأديب الحمقى حماقة... طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم، لأن تجارتها خير من تجارة الفضة، وربحها خير من الذهب الخالص، هي أثمن من اللآلئ وكل جواهرك لا تساويها، في يمينها طول أيامك وفي يسارها الغنى والمجد، طرقها طرق نعم، وكل مسالكها سلام"(227).
وسِفر أيوب أسهل من سِفر الأمثال؛ ولعل ذلك السِفر قد كتب في أيام السبي، ولعله يصف بطريق القياس الأَسْر البابلي ويقول فيه كارليل وهو




صفحة رقم : 593




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







من أشد الناس تحمسا له: "وأنا أقول عنه أنه من أعظم ما خط بالقلم... فهو كتاب نبيل؛ وهو كتاب الناس أجمعين! وهو أول وأقدم شرح لتلك المشكلة التي لا آخر لها- مشكلة مصير الإنسان وتصرف الله معه على ظهر هذه الأرض... واعتقادي أن لا شيء في التوراة أو في غير التورات يضارعه في قيمته الأدبية"(230أ) وقد قامت هذه المشكلة بسبب اهتمام العبرانيين بأمور هذه الدنيا. ذلك أنه لما كانت الجنة لا وجود لها في الديانة اليهودية القديمة (231) فقد كان من الواجب المحتم أن تنال الفضيلة ثوابها في هذا العالم، وإلا لم يكن لها ثواب على الإطلاق. ولكنهم كثيراً ما كان يبدو لهم أن الأشرار ينجحون ويفوزون، وأن أشد الآلام قد اختص بها خيار الناس، فَلِمَ إذن كما يقول كاتب المزامير: "هؤلاء هم الأشرار يكثرون ثروة"(232)؟ ولِمَ يخفي الله نفسه ولا يعاقب الأشرار ويثيب الأخيار؟(233)، وها هو ذا مؤلف سفر أيوب يسأل هذه الأسئلة وهو أكثر ممن سبقه عزماً وثباتاً ولعله يعرض بطله أمام الناس رمزاً لعقيدته. ولقد كان بنو إسرائيل كلهم يعبدون يهوه (في فترات متقطعة) كما كان يعبده أيوب، وكانت بابل تجحده وتكفر به؛ ومع ذلك فقد ازدهرت بابل، وتمرغ بنو إسرائيل في الوحل، ولبسوا الخيش حين أسروا وشردوا. فماذا يقول الإنسان في هذا الإله؟
وجاء في مقدمة لهذا السفر، لعل كاتباً أريباً قد دسها فيه ليمحو منه تلك الوصمة، أن الشيطان قال ليهوه أن أيوب إنسان "كامل مستقيم" لأنه رجل محظوظ، فهل يستمسك بتقواه إذا أصابه الضر؟ فيسمح يهوه للشيطان بأن يصب ألوانا من المصائب على رأس أيوب. ويظل البطل وقتاً ما صابراً "صبر أيوب" ولكن صبره هذا يفارقه في آخر الأمر، ويفكر في الانتحار، ويلوم ربه أشد اللوم لأنه نبذه وتخلى عنه. ويصر صوفَر- وقد خرج ليستمتع بآلام صديقه- على أن الله عادل وأنه سيثيب الإنسان الصالح في هذه الدنيا نفسها؛ ولكن أيوب يقطع عليه حديثه محتداً:




صفحة رقم : 594




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







"إنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة، غير أنه لي فهم مثلكم، لست أنا دونكم، ومن ليس عنه مثل هذه!... خيام المُخَرّبين مستريحة والذين يغيظون الله مطمئنون؛ الذين يأتون بإلههم في يدهم... هذا كله رأته عيني، سمعته أذني وفطنت به... أما أنتم فملفقو كذب أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتاً، يكون ذلك لكم حكمة"(234).
ثم يفكر في قصر الحياة وطول الموت فيقول:
"الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً، يخرج كالزهر ثم ينحسم، ويبرح كالظل ولا يقف،... لأن للشجرة رجاء أن قطعت تخلف ولا تعدم حراً عيبها... أما الرجل فيموت ويبلى؛ الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفد المياه من البحر، والنهر ينشف ويجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم..أن مات رجل أفيحيا؟"(235).
ويظل الجدل قائماً بشدة، ويزداد شك أيوب بربه، حتى يدعوه خصيمه، ويتمنى أن يهلك خصمه هذا نفسه بكتاب يكتبه- على نمط فسلفة ليبنتز Leibnitz وأقواله في العدالة الإلهية. وتوحي العبارة التي جاءت في ختام هذا الفصل"تمت أقوال أيوب"- بأن هذا كان في الأصل ختام حديث يمثل كما يمثل سفر الجامعة آراء أقلية جاحدة بين اليهود . ولكن فيلسوفاً آخر- إليهو- يبدأ الكلام من هذه النقطة ويشرح في مائة وخمس وستين آية عدالة الله في خلقه. وأخيراً يُسمع صوت من بين السحاب يتحدث حديثاً هو أجل ما في التوراة كلها.




صفحة رقم : 595




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال:
"من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة. اشدد الآن حقويك كرجل فإني أسألك فتعلمني. أين كنت حين أسستُ الأرض. أخبر إن كان عندك فهم من وضع قياسها، لأنك تعلم؟ أو من مد عليها مطماراً؟ على أي شيء قرت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها، عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بنى الله؟ ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم، إذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه وضرمتُ عليه حدى، وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعد وهنا تتخم كبرياء لججك؟ هل في أيامك أمرت الصبح؟ هل عرفت الفجر موضعه؟... هل انتهيت إلى ينابيع البحر أو في مقصورة القمر تمشيت؟ هل انكشفت لك أبواب الموت أو عاينت أبواب ظل الموت؟ هل أدركت عرض الأرض؟ أخبر إن عرفته كله؟... أدخلت إلى خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد؟... هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ُربُط الجبار؟ هل عرفت سنن السموات أو جعلت تسلطها على الأرض؟... من وضع في الضحاء حكمة أو من أظهر في الشهب فطنة؟
"هل يخاصم القديرَ موبخهُ، أم المحاج الله يجاوبه؟ أسألك فتعلمني"(237).
ويذل أيوب نفسه لهول ما يرى؛ ويرضى يهوه بهذا فيعفو عنه، ويقبل تضحيته، ويتوعد أصدقاء أيوب لما نطقوا به من حجج واهية(238)، ويهب أيوب نفسه أربعة عشر ألفاً من الغنم، وستة آلاف من الإبل، وألف فدان من الثيران، وألف أتان، وسبعة بنين، وثلاث بنات، وعاش بعد هذا مائة وأربعين سنة. وتلك خاتمة عرجاء ولكنها خاتمة سعيدة؛ لأن أيوب يحصل على كل شيء إلا جواب أسئلته؛ فالمشكلة تظل باقية؛ وسوف تكون لها آثار بعيدة في تفكير اليهود فيما بعد. ففي أيام دانيال (حوالي 167 ق.م) سكت اليهود عن هذه المشكلة وعدوها من المشاكل التي شرحها




صفحة رقم : 596




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







بعبارات تدركها العقول في هذه الحياة الدنيوية، ولا يستطاع الإجابة عنها- كما يقول دانيال وأخنوخ و(كانت Kant) إلا إذا آمن الإنسان بحياة بعد الممات، ترفع فيها كل المظالم وتصحح كل الأخطاء، يعاقب فيها المسيء، ويثاب المحسن أجزل الثواب. وكانت هذه إحدى الأفكار المختلفة التي سرت في المسيحية، وكانت من اكبر أسباب انتصارها على غيرها من الأديان المعاصرة لها.
ويجيب سفر الجامعة عن هذه المسألة جواباً متشائماً، فيقول إن الهناءة والشقاء في هذا العالم لا شأن لها بالفضيلة والرذيلة :
"قد رأيت الكل في أيام بُطْلى، قد يكون بارٌّ يبيد في برّه، وقد يكون شرير يطول في شره... ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس: فهو ذا دموع المظلومين ولا مقر لهم، ومن يد ظالميهم قهر... إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر... لأن فوق العالي عالياً"(241).
وليست الفضيلة والرذيلة هما اللتين تقوم عليهما سعادة الإنسان وشقاؤه، وإنما تقوم السعادة والشقاء على المصادفة العمياء: "فعدت ورأيت تحت الشمس أن السعي ليس للخفيف، ولا الحرب للأقوياء، ولا الخبز للحكماء، ولا الغني للفهماء، ولا النعمة لذوي المعرفة، لأن الوقت والفُرَصْ يلاقيانهم كافة"(242). وحتى الثروة نفسها لا بقاء لها ولا تسعد صاحبها طويلا: "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل. هذا أيضا باطل... نوم المشتغل حلو إن أكل قليلاً أو كثيراً. ووفر الغني لا يربحه حتى ينام"(243). ويذكر الكاتب أهله فيجمع مبادئ مالتس Maltus في سطر واحد: "إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها"(244). كذلك لا يخفف من آلامه ما يقال




صفحة رقم : 597




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







له عن ماض ذهبي أو مستقبل هنيء، فهو يرى أن الأمور جميعها كانت في ماضيها كما هي في حاضرها وكما ستكون في مستقبلها على الدوام: "لا تقل لماذا كانت الأيام الأولى خيراً من هذه؟ لأنه ليس عن حكمة تسأل عن هذا"(245). ومن واجب الإنسان أن يعنى باختيار مؤرخيه: "ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يُصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال له انظر: هذا جديد، فهو منذ زمان كان في الدهور التي قبلنا"(246). وهو يظن أن الرقي وهم باطل فالمدنيات القديمة قد نسيت وستنسى أيضاً المدنيات القائمة(247).
وهو يرى أن الحياة بوجه عام عمل محزن، وأن لا ضير من التخلص منها، فهي حركة دائرية لا غاية لها ولا هدف ولا نتيجة باقية، تنتهي حيث تبدأ؛ وهي صراع عقيم باطل ليس فيه شيء محقق إلا الهزيمة:
"باطل الأباطيل قال الجامعة؛ باطل الأباطيل الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس، دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق، والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة... فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد بعد، الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس... الصيت خير من الدهن الطيب، ويم الممات خير من يوم الولادة"(248).
وهو يقضي بعض الوقت يبحث عن حل للغز الحياة في الانغماس في الملذات. "فمدحت الفرح لأنه ليس للإنسان خير تحت الشمس إلا أن يأكل ويشرب ويفرح". ولكن "هذا أيضا باطل" . والصعوبة التي تواجهنا في مسراتنا هي المرأة، ويلوح أن الواعظ قد لاقى منها شراً لم يستطع نسيانه. "رجلاً واحداً




صفحة رقم : 598




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







بين ألف وجدت، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد... فوجدت أمرّ من الموت المرأة التي هي شباك، وقلبها أشراك ويداها قيود، الصالح قُدّام الله ينجو منها"(251). وهو يختم استطراده في دنيا الفلسفة الغامضة بالعودة إلى نصيحة سليمان وفلتير، وهي النصيحة التي لم يعمل بها كلاهما: "ألتذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إياها تحت الشمس"(252).
وحتى الحكمة نفسها مسألة مشكوك فيها؛ فهو يكيل لها المدح جزافاً، ولكنه يظن أن العلم إذا لم يكن بالقدر القليل كان بالغ الخطورة، فهو يقول في غير حذر: "لعمل كتب كثيرة لا نهاية، والدرس الكثير تعب للجسد"(253). وفي رأيه أنه قد يكون من الحكمة أن يسعى الإنسان للحكمة لو أن الله قد جعلها تثمر مالاً أكثر مما تثمره فعلاً: "الحكمة صالحة مثل الميراث بل أفضل لناظري الشمس" . فإذا لم يصحبها المال كانت شريكاً يقضي على طلابها(254).( إن الحكمة شبيهة بيهوه الذي قال لموسى: "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش" ). والحكيم يموت آخر الأمر كما يموت الأبله وكلاهما ينتهي إلى جيفة نتنة.
"ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت الشمس. هو عناء رديء جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض الريح... أنا ناجيت قلبي قائلاً هأنذا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم؛ وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة؛ ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل،




صفحة رقم : 599




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح، لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً يزيد حزناً"(256).
ولو أنه كان من مبادئ هذا الدين أن الرجل العادل يستطيع أن يتطلع إلى شيء من السعادة بعد الموت لكان في مقدوره أن يتحمل سهام مصائب الدهر وقلبه عامر بالأمل والشجاعة؛ ولكن كاتب سفر الجامعة "يحس" بأن هذا أيضاً وهم باطل، فالإنسان حيوان يموت كما يموت غيره من الحيوانات:
"لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما... فرأيت أنه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه، لأنه من يأتي به ليرى ما سيكون بعده؟... كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" (257).
إلا ما أغرب هذا تعليقاً على الحكمة التي يسبّح بحمدها سفر الأمثال! ولا شك في أن هذه الأقوال إنما تعبر عن الحضارة التي بلغت آخر مراحلها، فلقد نضب معين شباب إسرائيل في الكفاح المرير الذي قام بينها وبين الإمبراطوريات المحيطة بها، والتي لم ينقذها منها يهوه الذي كانت تعتمد على معونته، فلما تأزمت أمورها وافتقرت وتشتت رفعت إلى السماء في آدابها هذا الصوت وهو أشد الأصوات مرارة لتعبر به عن أعمق الشكوك التي طافت في يوم من الأيام بالنفس البشرية.
نعم إن أورشليم قد أعيد بناؤها، ولكنها لم تعد لتكون حصنا لإله لا يقهر، بل عادت لتكون مدينة تخضع للفرس حيناً ولليونان حيناً آخر. فقد وقف الإسكندر الشاب على أبوابها في عام 334 ق.م، وطلب إلى تلك العاصمة أن

أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:55 pm

صفحة رقم : 590




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







اليهودية من عنصر شهواني دنيوي، لعل ُكتَّاب العهد القديم- وهم الذين يكادون كلهم أن يكونوا من الأنبياء والكهنة- قد أخفوه عنا، كما يكشف سفر الجامعة عن تشكك لا نتبينه فيما عنى الكتاب باختياره ونشره من أدب اليهود الأقدمين. وفي هذه الكتابات الغرامية العجيبة مجال واسع للحدس والتخمين. فقد تكون مجموعة من الأغاني البابلية الأصل، تشيد بذكر إشتار وتموز، وقد تكون من وضع جماعة من شعراء الغزل العبرانيين تأثروا بالروح الهيلينية التي دخلت إلى بلاد اليهود مع الإسكندر الأكبر (لأن في هذه الأغاني ألفاظاً مأخوذة من اللغة اليونانية)، أو قد تكون زهرة يهودية ترعرعت في الإسكندرية وقطفتها نفس محررة من ضفاف النيل (وذلك لأن العاشقَين يخاطب أحدهما الآخر بقوله أخي أو أختي كما يفعل المصريون الأقدمون). ومهما يكن أصلها فإن وجودها في التوراة سر خفي ولكنه سر ساحر جميل. ولسنا ندري كيف غفل- أو تغافل- رجال الدين عما في هذه الأغاني من عواطف شهوانية فأجازوا وضعها بين أقوال إشعيا والخطباء:


صرة المر حبيبي لي، بين ثديي يبيت




طاقة فاغبة حبيبي لي في كروم عين جدي (Engadi)




ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان




ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر...




أنا نرجس شارون سوسنة الأودية...




أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة جداً.




أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول إلا تيقظنّ




ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء...




حبيبي لي وأنا له الراعي له بين السوسن






صفحة رقم : 591




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها









إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال. ارجع وأشبه يا حبيبي الظبي




أو غُفر الأيائل على الجبال المشعبة...




تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى




لنبكرنّ إلى الكروم لننظر هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل




نوّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي.


هذا هو صوت الشباب أما الأمثال فصوت الشيوخ. إن الناس يتطلبون كل شيء من الحب والحياة؛ وهم ينالون ما يتطلبون إلا قليلاً، ولكنهم يظنون أنهم لم ينالوا شيئا؛ وتلك هي المراحل الثلاث التي يتنقل فيها الإنسان المتشائم. وهكذا ترى هذا السليمان الأسطوري يحذر الشباب من شر المرأة. "لأنها طرحت كثيرين جرحى، وكل قتلاها أقوياء... أما الزاني بامرأة فعديم العقل... ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة لا أعرفها: طريق نسر في السموات، وطريق حية على صخر، وطريق سفينة في قلب البحر، وطريق رجل بفتاة"(221). وهو يتفق مع القديس بولص في أن أفضل للإنسان أن يتزوج من أن يحترق! "افرح بامرأة شبابك، الظبية المحبوبة، والوعلة الزهية، ليروك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها اسكر دائماً... أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة"(222). بحقك هل هذه ألفاظ من كانت له سبعمائة زوجة؟
ويلي الكسلُ الدنسَ في البعد عن الحكمة: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان... إلى متى تنام أيها الكسلان؟"(223).
"أرأيت رجلاً مجتهداً في عمله؟- أمام الملوك يقف"(224). ولكن




صفحة رقم : 592




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







هذا الفيلسوف لا يطيق الإسراف في الطمع: "المستعجل إلى الغنى لا يبرأ"، و "راحة الجهّال(225) تبيدهم" والعمل هو الحكمة، أما الكلام فحمق وسخف : "في كل تعب منفعة، وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر"... "الجاهل يظهر كل عبطه، والحكيم يسكنه أخيراً"، "ذو المعرفة يبقى كلامه وذو الفهم وقور الروح، بل الأحمق إذا سكت يحسب حكيماً ومن ضمّ شفتيه فهيماً"(226).
ومن النصائح التي لا ينفك ذلك الحكيم يرددها حكمة تكاد تنطبق ألفاظها على وصف سقراط للفضيلة والحكمة، تفوح بعطر مدارس الإسكندرية حيث كان علم اللاهوت العبري يمتزج بالفلسفة اليونانية لتخرج لنا من مزيجهما العقلية الأوربية: "الفطنة ينبوع حياة لصاحبها، وتأديب الحمقى حماقة... طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم، لأن تجارتها خير من تجارة الفضة، وربحها خير من الذهب الخالص، هي أثمن من اللآلئ وكل جواهرك لا تساويها، في يمينها طول أيامك وفي يسارها الغنى والمجد، طرقها طرق نعم، وكل مسالكها سلام"(227).
وسِفر أيوب أسهل من سِفر الأمثال؛ ولعل ذلك السِفر قد كتب في أيام السبي، ولعله يصف بطريق القياس الأَسْر البابلي ويقول فيه كارليل وهو




صفحة رقم : 593




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







من أشد الناس تحمسا له: "وأنا أقول عنه أنه من أعظم ما خط بالقلم... فهو كتاب نبيل؛ وهو كتاب الناس أجمعين! وهو أول وأقدم شرح لتلك المشكلة التي لا آخر لها- مشكلة مصير الإنسان وتصرف الله معه على ظهر هذه الأرض... واعتقادي أن لا شيء في التوراة أو في غير التورات يضارعه في قيمته الأدبية"(230أ) وقد قامت هذه المشكلة بسبب اهتمام العبرانيين بأمور هذه الدنيا. ذلك أنه لما كانت الجنة لا وجود لها في الديانة اليهودية القديمة (231) فقد كان من الواجب المحتم أن تنال الفضيلة ثوابها في هذا العالم، وإلا لم يكن لها ثواب على الإطلاق. ولكنهم كثيراً ما كان يبدو لهم أن الأشرار ينجحون ويفوزون، وأن أشد الآلام قد اختص بها خيار الناس، فَلِمَ إذن كما يقول كاتب المزامير: "هؤلاء هم الأشرار يكثرون ثروة"(232)؟ ولِمَ يخفي الله نفسه ولا يعاقب الأشرار ويثيب الأخيار؟(233)، وها هو ذا مؤلف سفر أيوب يسأل هذه الأسئلة وهو أكثر ممن سبقه عزماً وثباتاً ولعله يعرض بطله أمام الناس رمزاً لعقيدته. ولقد كان بنو إسرائيل كلهم يعبدون يهوه (في فترات متقطعة) كما كان يعبده أيوب، وكانت بابل تجحده وتكفر به؛ ومع ذلك فقد ازدهرت بابل، وتمرغ بنو إسرائيل في الوحل، ولبسوا الخيش حين أسروا وشردوا. فماذا يقول الإنسان في هذا الإله؟
وجاء في مقدمة لهذا السفر، لعل كاتباً أريباً قد دسها فيه ليمحو منه تلك الوصمة، أن الشيطان قال ليهوه أن أيوب إنسان "كامل مستقيم" لأنه رجل محظوظ، فهل يستمسك بتقواه إذا أصابه الضر؟ فيسمح يهوه للشيطان بأن يصب ألوانا من المصائب على رأس أيوب. ويظل البطل وقتاً ما صابراً "صبر أيوب" ولكن صبره هذا يفارقه في آخر الأمر، ويفكر في الانتحار، ويلوم ربه أشد اللوم لأنه نبذه وتخلى عنه. ويصر صوفَر- وقد خرج ليستمتع بآلام صديقه- على أن الله عادل وأنه سيثيب الإنسان الصالح في هذه الدنيا نفسها؛ ولكن أيوب يقطع عليه حديثه محتداً:




صفحة رقم : 594




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







"إنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة، غير أنه لي فهم مثلكم، لست أنا دونكم، ومن ليس عنه مثل هذه!... خيام المُخَرّبين مستريحة والذين يغيظون الله مطمئنون؛ الذين يأتون بإلههم في يدهم... هذا كله رأته عيني، سمعته أذني وفطنت به... أما أنتم فملفقو كذب أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتاً، يكون ذلك لكم حكمة"(234).
ثم يفكر في قصر الحياة وطول الموت فيقول:
"الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً، يخرج كالزهر ثم ينحسم، ويبرح كالظل ولا يقف،... لأن للشجرة رجاء أن قطعت تخلف ولا تعدم حراً عيبها... أما الرجل فيموت ويبلى؛ الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفد المياه من البحر، والنهر ينشف ويجف، والإنسان يضطجع ولا يقوم..أن مات رجل أفيحيا؟"(235).
ويظل الجدل قائماً بشدة، ويزداد شك أيوب بربه، حتى يدعوه خصيمه، ويتمنى أن يهلك خصمه هذا نفسه بكتاب يكتبه- على نمط فسلفة ليبنتز Leibnitz وأقواله في العدالة الإلهية. وتوحي العبارة التي جاءت في ختام هذا الفصل"تمت أقوال أيوب"- بأن هذا كان في الأصل ختام حديث يمثل كما يمثل سفر الجامعة آراء أقلية جاحدة بين اليهود . ولكن فيلسوفاً آخر- إليهو- يبدأ الكلام من هذه النقطة ويشرح في مائة وخمس وستين آية عدالة الله في خلقه. وأخيراً يُسمع صوت من بين السحاب يتحدث حديثاً هو أجل ما في التوراة كلها.




صفحة رقم : 595




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال:
"من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة. اشدد الآن حقويك كرجل فإني أسألك فتعلمني. أين كنت حين أسستُ الأرض. أخبر إن كان عندك فهم من وضع قياسها، لأنك تعلم؟ أو من مد عليها مطماراً؟ على أي شيء قرت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها، عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بنى الله؟ ومن حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم، إذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه وضرمتُ عليه حدى، وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعد وهنا تتخم كبرياء لججك؟ هل في أيامك أمرت الصبح؟ هل عرفت الفجر موضعه؟... هل انتهيت إلى ينابيع البحر أو في مقصورة القمر تمشيت؟ هل انكشفت لك أبواب الموت أو عاينت أبواب ظل الموت؟ هل أدركت عرض الأرض؟ أخبر إن عرفته كله؟... أدخلت إلى خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد؟... هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ُربُط الجبار؟ هل عرفت سنن السموات أو جعلت تسلطها على الأرض؟... من وضع في الضحاء حكمة أو من أظهر في الشهب فطنة؟
"هل يخاصم القديرَ موبخهُ، أم المحاج الله يجاوبه؟ أسألك فتعلمني"(237).
ويذل أيوب نفسه لهول ما يرى؛ ويرضى يهوه بهذا فيعفو عنه، ويقبل تضحيته، ويتوعد أصدقاء أيوب لما نطقوا به من حجج واهية(238)، ويهب أيوب نفسه أربعة عشر ألفاً من الغنم، وستة آلاف من الإبل، وألف فدان من الثيران، وألف أتان، وسبعة بنين، وثلاث بنات، وعاش بعد هذا مائة وأربعين سنة. وتلك خاتمة عرجاء ولكنها خاتمة سعيدة؛ لأن أيوب يحصل على كل شيء إلا جواب أسئلته؛ فالمشكلة تظل باقية؛ وسوف تكون لها آثار بعيدة في تفكير اليهود فيما بعد. ففي أيام دانيال (حوالي 167 ق.م) سكت اليهود عن هذه المشكلة وعدوها من المشاكل التي شرحها




صفحة رقم : 596




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







بعبارات تدركها العقول في هذه الحياة الدنيوية، ولا يستطاع الإجابة عنها- كما يقول دانيال وأخنوخ و(كانت Kant) إلا إذا آمن الإنسان بحياة بعد الممات، ترفع فيها كل المظالم وتصحح كل الأخطاء، يعاقب فيها المسيء، ويثاب المحسن أجزل الثواب. وكانت هذه إحدى الأفكار المختلفة التي سرت في المسيحية، وكانت من اكبر أسباب انتصارها على غيرها من الأديان المعاصرة لها.
ويجيب سفر الجامعة عن هذه المسألة جواباً متشائماً، فيقول إن الهناءة والشقاء في هذا العالم لا شأن لها بالفضيلة والرذيلة :
"قد رأيت الكل في أيام بُطْلى، قد يكون بارٌّ يبيد في برّه، وقد يكون شرير يطول في شره... ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس: فهو ذا دموع المظلومين ولا مقر لهم، ومن يد ظالميهم قهر... إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر... لأن فوق العالي عالياً"(241).
وليست الفضيلة والرذيلة هما اللتين تقوم عليهما سعادة الإنسان وشقاؤه، وإنما تقوم السعادة والشقاء على المصادفة العمياء: "فعدت ورأيت تحت الشمس أن السعي ليس للخفيف، ولا الحرب للأقوياء، ولا الخبز للحكماء، ولا الغني للفهماء، ولا النعمة لذوي المعرفة، لأن الوقت والفُرَصْ يلاقيانهم كافة"(242). وحتى الثروة نفسها لا بقاء لها ولا تسعد صاحبها طويلا: "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل. هذا أيضا باطل... نوم المشتغل حلو إن أكل قليلاً أو كثيراً. ووفر الغني لا يربحه حتى ينام"(243). ويذكر الكاتب أهله فيجمع مبادئ مالتس Maltus في سطر واحد: "إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها"(244). كذلك لا يخفف من آلامه ما يقال




صفحة رقم : 597




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







له عن ماض ذهبي أو مستقبل هنيء، فهو يرى أن الأمور جميعها كانت في ماضيها كما هي في حاضرها وكما ستكون في مستقبلها على الدوام: "لا تقل لماذا كانت الأيام الأولى خيراً من هذه؟ لأنه ليس عن حكمة تسأل عن هذا"(245). ومن واجب الإنسان أن يعنى باختيار مؤرخيه: "ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يُصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال له انظر: هذا جديد، فهو منذ زمان كان في الدهور التي قبلنا"(246). وهو يظن أن الرقي وهم باطل فالمدنيات القديمة قد نسيت وستنسى أيضاً المدنيات القائمة(247).
وهو يرى أن الحياة بوجه عام عمل محزن، وأن لا ضير من التخلص منها، فهي حركة دائرية لا غاية لها ولا هدف ولا نتيجة باقية، تنتهي حيث تبدأ؛ وهي صراع عقيم باطل ليس فيه شيء محقق إلا الهزيمة:
"باطل الأباطيل قال الجامعة؛ باطل الأباطيل الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس، دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد، والشمس تشرق، والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال، تذهب دائرة دورانا، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار، إلى هناك تذهب راجعة... فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد بعد، الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس... الصيت خير من الدهن الطيب، ويم الممات خير من يوم الولادة"(248).
وهو يقضي بعض الوقت يبحث عن حل للغز الحياة في الانغماس في الملذات. "فمدحت الفرح لأنه ليس للإنسان خير تحت الشمس إلا أن يأكل ويشرب ويفرح". ولكن "هذا أيضا باطل" . والصعوبة التي تواجهنا في مسراتنا هي المرأة، ويلوح أن الواعظ قد لاقى منها شراً لم يستطع نسيانه. "رجلاً واحداً




صفحة رقم : 598




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







بين ألف وجدت، أما امرأة فبين كل أولئك لم أجد... فوجدت أمرّ من الموت المرأة التي هي شباك، وقلبها أشراك ويداها قيود، الصالح قُدّام الله ينجو منها"(251). وهو يختم استطراده في دنيا الفلسفة الغامضة بالعودة إلى نصيحة سليمان وفلتير، وهي النصيحة التي لم يعمل بها كلاهما: "ألتذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إياها تحت الشمس"(252).
وحتى الحكمة نفسها مسألة مشكوك فيها؛ فهو يكيل لها المدح جزافاً، ولكنه يظن أن العلم إذا لم يكن بالقدر القليل كان بالغ الخطورة، فهو يقول في غير حذر: "لعمل كتب كثيرة لا نهاية، والدرس الكثير تعب للجسد"(253). وفي رأيه أنه قد يكون من الحكمة أن يسعى الإنسان للحكمة لو أن الله قد جعلها تثمر مالاً أكثر مما تثمره فعلاً: "الحكمة صالحة مثل الميراث بل أفضل لناظري الشمس" . فإذا لم يصحبها المال كانت شريكاً يقضي على طلابها(254).( إن الحكمة شبيهة بيهوه الذي قال لموسى: "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش" ). والحكيم يموت آخر الأمر كما يموت الأبله وكلاهما ينتهي إلى جيفة نتنة.
"ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت الشمس. هو عناء رديء جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض الريح... أنا ناجيت قلبي قائلاً هأنذا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم؛ وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة؛ ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل،




صفحة رقم : 599




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح، لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علماً يزيد حزناً"(256).
ولو أنه كان من مبادئ هذا الدين أن الرجل العادل يستطيع أن يتطلع إلى شيء من السعادة بعد الموت لكان في مقدوره أن يتحمل سهام مصائب الدهر وقلبه عامر بالأمل والشجاعة؛ ولكن كاتب سفر الجامعة "يحس" بأن هذا أيضاً وهم باطل، فالإنسان حيوان يموت كما يموت غيره من الحيوانات:
"لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم، موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما... فرأيت أنه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه، لأنه من يأتي به ليرى ما سيكون بعده؟... كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا اختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها" (257).
إلا ما أغرب هذا تعليقاً على الحكمة التي يسبّح بحمدها سفر الأمثال! ولا شك في أن هذه الأقوال إنما تعبر عن الحضارة التي بلغت آخر مراحلها، فلقد نضب معين شباب إسرائيل في الكفاح المرير الذي قام بينها وبين الإمبراطوريات المحيطة بها، والتي لم ينقذها منها يهوه الذي كانت تعتمد على معونته، فلما تأزمت أمورها وافتقرت وتشتت رفعت إلى السماء في آدابها هذا الصوت وهو أشد الأصوات مرارة لتعبر به عن أعمق الشكوك التي طافت في يوم من الأيام بالنفس البشرية.
نعم إن أورشليم قد أعيد بناؤها، ولكنها لم تعد لتكون حصنا لإله لا يقهر، بل عادت لتكون مدينة تخضع للفرس حيناً ولليونان حيناً آخر. فقد وقف الإسكندر الشاب على أبوابها في عام 334 ق.م، وطلب إلى تلك العاصمة أن

أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:56 pm

صفحة رقم : 600




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> اليهود -> أدب التوراة وفلسفتها







تستسلم له. وأبى الكاهن الأكبر في أول الأمر أن يجيبه إلى ما طلب، ولكنه صدع بالأمر في صباح اليوم الثاني على أثر حلم رآه في نومه، فأمر الكهنة أن يرتدوا من ملابسهم أعظمها روعة وأشدها وقعاً في النفوس، كما أمر الأهلين أن يلبسوا ثياباً بيضاً لا شية فيها، ثم سار على رأس الشعب إلى خارج أبواب المدينة في هدوء وسلام ليعرضوا الصلح على الغازين. وانحنى الإسكندر تعظيماً للكاهن الأكبر وأظهر له إعجابه ببني إسرائيل وبإلههم وتقبل منهم أورشليم(258).
على أن هذا لم يكن آخر حياة اليهود، بل كان هو الفصل الأول من هذه المسرحية العجيبة التي تمتد فصولها المختلفة طوال أربعين قرناً من الزمان، والتي تدور حوادث فصلها الثاني حول المسيح، وحوادث الفصل الثالث حول أحاسوروس. واليوم يمثل من هذه المسرحية فصل آخر ولكنه ليس آخر فصولها. لقد خربت أورشليم وأعيد بناؤها، ثم خربت وأعيد بناؤها من جديد.




صفحة رقم : 601




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> قيام دولة الميديين وسقوطها



الباب الثالث عشر




فارس




الفصل الأول




قيام دولة الميديين وسقوطها




أصولهم - حكامهم - معاهدة سرديس الدموية - انحطاطهم


ترى من هم الميديون الذين كان لهم شأن أيما شأن في تحطيم دولة أشور؟ أما معرفة أصلهم فأمر معجز الدرك عزيز المطلب، ذلك أن التاريخ كتاب يجب أن يبدأه الإنسان من وسطه. وأول ما وصل إلينا من أخبارهم في لوحة تسجل حملة بعث بها شلما نصّر الثالث إلى بلد يسمى بارسوا في جبال كردستان (837 ق. م). ويلوح أنه كان في ذلك البلد سبعة وعشرون من الرؤساء- الملوك، يحكمون سبعاً وعشرين ولاية قليلة السكان يسمى أهلها أماداي أو ماداي أو ميديين. وهم أقوام من الجنس الهندوربّي يرجح أنهم جاءوا من شواطئ بحر الخزر إلى غرب آسية قبل المسيح بنحو ألف عام، ويشيد الزند- أبستاق وهو كتاب الفرس المقدس بذكر هذا الموطن القديم ويصفه بأنه جنة من الجنان.
ذلك أن الأرض التي نقضي فيها شبابنا، وأيام هذا الشباب نفسه، جميلة على الدوام على شريطة ألا نضطر إلى الحياة من جديد في تلك الأرض أو في تلك الأيام.




صفحة رقم : 602




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> قيام دولة الميديين وسقوطها


ويلوح أن الميديين كانوا يضربون في إقليم بخارى وسمرقند، وأنهم توغلوا منه نحو الجنوب شيئاً فشيئاً، حتى وصلوا آخر الأمر إلى بلاد فارس(1)، فوجدوا النحاس والحديد والرصاص والذهب والفضة والرخام والحجارة الكريمة في الجبال التي اتخذوها موطناً لهم جديداً(2)، ولما كانوا قوماً أشداء بسطاء في معيشتهم، فقد أخذوا يفلحون أرض السيول وسفوح التلال وعاشوا عيشة رخية.
وفي إكباتانا أي "ملتقى الطرق الكثيرة" الواقعة في واد جميل المنظر أخصبته المياه الذائبة من الثلوج المغطية لقمم الجبال أنشأ ديوسيس أول ملوكهم عاصمته الأولى، وزينها بقصر ملكي يشرف عليها ويغطي ثلثي ميل مربع من الأرض. ويقول هيرودوت في فقرة من كتابه لم تجد ما يؤيدها: إن ديوسيس هذا قد وصل إلى ما وصل إليه من القوة بما اشتهر به من العدالة. فلما أن بلغ ما بلغ طغى وتجبر وأصدر أوامر تقضي "بأن لا يسمح لإنسان بالمثول بين يديه، بل عليه أن بعرض أمره على يد رسله، وأن يعد من سوء الأدب أن يضحك إنسان أو يبصق أمامه. وقد أراد بهذه المراسم التي فرضها حوله... أن يبدو لمن لا يرونه أنه من طبيعة غير طبيعتهم"(3) . واشتد ساعد الميديين في أيامه بفضل حياتهم الطبيعية الاقتصادية، وأصبحوا بتأثير عاداتهم وبيئتهم ذوي جلد وصبر على ضرورات الحروب، فكانوا بزعامته خطراً يهدد أشور، فأغارت هذه على بلاد ميديا مرة بعد مرة. وظنت أنها قد هزمتها هزيمة منكرة لا تجرؤ معها على مناوئتها ولكنها وجدتها لا تمل الكفاح لنيل حريتها. واستطاع سياخار (سيساكزارس) أعظم ملوك الميديين أن يحسم هذا النزاع بتدمير نينوى. وأوحى هذا النصر آمالاً كباراً فاجتاحت جيوشه بلاد آسية الغربية حتى وصلت إلى أبواب سرديس، ولم يَرُدّ هذه الجيوش عنها إلا كسوف الشمس. فقد ارتاع القائدان المتقاتلان لهذا الذي ظناه نذيراً لهما من السماء، فوقّعا معاهدة للصلح أبرماها بأن شرب كل




صفحة رقم : 603




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> قيام دولة الميديين وسقوطها


منهما جرعة من دماء عدوه (4). ومات كيخسرو في السنة التالية بعد أن وسع رقعة دولته في خلال حكمه وحده فأصبحت إمبراطورية تشمل أشور وميديا وفارس بعد أن كانت خاضعة لسلطان غيرها. لكن هذه الإمبراطورية قضي عليها ولم يمض على وفاة هذا الملك جيل واحد.
وقد كانت هذه الدولة قصيرة الأجل، فلم تستطع لهذا السبب أن تسهم في الحضارة بقسط كبير، إذا ما استثنينا ما قامت به من تمهيد السبيل إلى ثقافة بلاد الفرس. فقد أخذ الفرس عن الميديين لغتهم الآرية، وحروفهم الهجائية التي تبلغ عدتها ستة وثلاثين، وهم الذين جعلوا الفرس يستبدلون في الكتابة الرق والأقلام بألواح الطين(5)، ويستخدمون في العمارة العمد على نطاق واسع. وعنهم أخذوا قانونهم الأخلاقي الذي يوصيهم بالاقتصاد وحسن التدبير ما أمكنهم في وقت السلم، وبالشجاعة التي لا حد لها في زمن الحرب؛ ودين زردشت وإلهيه أهورا- مزدا، وأهرمان، ونظام الأسرة الأبوي، وتعدد الزوجات، وطائفة من القوانين بينها وبين قوانينهم في عهد إمبراطوريتهم المتأخر من تماثل ما جعل دانيال يجمع بينهما في قوله المأثور عن "شريعة ميدي وفارس التي لا تنسخ"(6). أما أدبهم وفنهم فلم يبق منهما لا حرف ولا حجر.
على أن انحطاط الميديين كان أسرع من نهضتهم نفسياً. فقد أثبت استياجس، الذي خلف أباه سياخار، ما أثبته التاريخ من قبل، وهو أن الملكية مغامرة لا تؤمن مغبتها، وأن الذكاء المفرط والجنون يتقاربان كل القرب في وراثة المُلك.
لقد ورث المُلك مطمئن القلب هادئ البال، وأخذ يستمتع بما ورث، وحذت الأمة حذو مليكها فنسيت أخلاقها الجافة الشديدة وأساليب حياتها الخشنة الصارمة، ذلك أن الثروة قد أسرعت إليها إسراعاً لم يستطع أهلها معه أن يحسنوا استخدامها، وأصبحت الطبقات العليا أسيرة الأنماط الحديثة والحياة المترفة،




صفحة رقم : 604




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> قيام دولة الميديين وسقوطها


فلبس الرجال السراويل المطرزة الموشاة، وتجملت النساء بالأصباغ والحلي، بل إن الخيل نفسها كثيراً ما كانت تزين بالذهب(7). وبعد أن كان هؤلاء الرعاة البسطاء يجدون السرور كل السرور في أن تحملهم مركبات بدائية ذات دواليب خشنة غليظة قطعت من سوق الأشجار(Cool، أصبحوا الآن يركبون عربات فاخرة عظيمة الكلفة ينتقلون بها من وليمة إلى وليمة.
وبعد أن كان الملوك الأولون يفخرون بعدالتهم جاء استياجس فغضب يوماً على هرباجس فقدم له أشلاء ابنه بعد أن قطع رأسه وأرغمه على أن يأكل لحمه(9)، فأكله هرباجس وهو يقول إن كل ما يفعله المليك يسره، ولكنه انتقم لنفسه بأن أعان قورش على خلع استياجس؛ ذلك أن قورش الشاب النابه حاكم ولاية أنشان الفارسية التي كانت تابعة للميديين خرج على طاغية إكتابانا المخنث، وابتهج الميديون أنفسهم بانتصاره على ذلك الطاغية وارتضوه ملكاً عليهم، ولم يكد يرتفع من بينهم صوت واحد للاحتجاج عليه. وما هي إلا واقعة واحدة حتى انقلبت الآية فلم تعد ميديا سيدة فارس بل أصبحت فارس سيدة ميديا وأخذت تعد العدة لتكون سيدة عالم الشرق الأدنى كله.




صفحة رقم : 605




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> عظماء الملوك



الفصل الثاني




عظماء الملوك




قورش صاحب الشخصية الروائية - خططه السياسية




المستنيرة - قمبيز - دار الأكبر - غزو بلاد اليونان


وكان قورش من الحكام الذين خُلقوا ليكونوا حكاما والذين يقول فيهم إمرسن أن الناس كلهم يبتهجون حين يتوجون. فلقد كان ملكاً بحق في روحه وأعماله، قديراً في الأعمال الإدارية والفتوح الخاطفة المسرحية، كريماً في معاملة المغلوبين، محبوباً من أعدائه السابقين- فلا عجب والحالة هذه أن يتخذ اليونان منه موضوعاً لعدة روايات، وأن يصفوه بأنه أكبر أبطال العالم قبل الإسكندر.
ومما يؤسفنا أننا لا نستطيع أن نرسم له صورة موثوقاً بصحتها مما نقرئه عنه في هيرودوت أو زينوفون. ذلك بأن أول الرجلين قد خلط تاريخه بكثير من القصص الخرافية(10)، وأن الثاني قد جعل السيروبيديا (سيرته) مقالة عن فنون الحرب تتخللها في بعض المواضيع محاضرات في التربية والفلسفة؛ ونرى زينوفون أحياناً يخلط بين قورش وسقراط. فإذا ما أخرجنا هذه الأقاصيص لم يبق لنا من شخصية قورش إلا أنه طيف خيال ممتع جذاب. وكل ما نستطيع أن نقوله عنه واثقين أنه كان وسيماً بهي الطلعة- لأن الفرس اتخذوه نموذجاً لجمال الجسم حتى آخر أيام فنهم القديم(11)؛ وأنه أسس الأسرة الأكمينية أسرة "الملوك العظام" التي حكمت بلاد الفرس في أزهى أيامها وأعظمها شهرة، وأنه نظم قوات ليديا وفارس الحربية فجعل منها جيشاً قوياً لا يقهر، وأنه استولى على سرديس وبابل، وقضى على حكم الساميين في غرب آسية فلم تقم له بعدئذ قائمة،




صفحة رقم : 606




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> عظماء الملوك


مدى ألف عام كاملة، وضم إلى الدولة كل البلاد التي كانت من قبل تحت سلطان أشور، وبابل، وليديا، وآسية الصغرى، حتى أصبحت تلك الإمبراطورية أوسع المنظمات السياسية في العالم القديم قبل الدولة الرومانية، ومن أحسنها حكماً في جميع عصور التاريخ.
ويبدو- على ما نستطيع أن نتصوره فيما يحيط به من سُدُم الأساطير والأوهام- أنه كان أحب الفاتحين إلى النفوس، وأنه أقام دولته على قواعد من النبل وكريم السجايا؛ وأن أعداءه كانوا يعرفون عنه لين الجانب فلم يحاربوه بتلك القوة المستيئسة التي يحارب بها الرجال حين لا يجدون بداً من أن يَقتلوا أو يُقتلوا. ولقد مر بنا من قبل- على ما يرويه هيرودوت- كيف أنجى كروسس من الحطب المحروق الذي وضع عليه في سرديس، وكيف أكرمه وجعله من أعظم مستشاريه، ومر بنا كذلك كرمه وحسن معاملته اليهود. وكانت أولى القواعد السياسية التي تقوم عليها دولته أن يترك للشعوب المختلفة التي تتألف منها حرية العبادة والعقيدة الدينية، لأنه كان عليماً كل العلم بالمبدأ الأول الذي يبني عليه حكم الشعوب، وهو أن الدين أقوى من الدولة؛ ومن أجل ذلك لا نراه ينهب المدن ويخرب المعابد، بل نراه يبدي كثيراً من الإكبار والمجاملة لآلهة الشعوب المغلوبة، ويساهم بماله في المحافظة على أضرحتها؛ بل إن البابليين أنفسهم، وهم الذين قاوموا طويلاً، قد التفوا حوله وتحمسوا له حين رأوه يحافظ على هياكلهم ويعظم آلهتهم. وكان أينما سار في فتوحه التي لم يسبقه إليها فاتح من قبله قرب القرابين إلى الآلهة المحلية في تقى وورع. وكان كنابليون يعترف بالأديان كلها على السواء، ويفوقه فيما يظهره من بشاشة وكياسة وهو يكرم جميع الآلهة.
وهو يشبه نابليون من ناحية أخرى، وهو أنه مات ضحية الإسراف في المطامع. ذلك أنه لما فرغ من فتح الشرق الأدنى بأجمعه وضمه إلى ملكه،




صفحة رقم : 607




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> عظماء الملوك


أراد أن يحرر ميديا وفارس من غزو البدو الهمج الضاربين في أواسط آسية. ويلوح أنه أوغل في حملاته حتى وصل إلى ضفاف نهر جيحون شمالاً وإلى الهند شرقاً؛ فلما وصل إلى ذروة مجده قتل فجأة وهو يحارب المسجيتة إحدى القبائل المجهولة التي كانت نازلة على السواحل الجنوبية لبحر الخزر، فكان كالإسكندر افتتح إمبراطورية متسعة الرقعة ولكن المنية عاجلته قبل أن ينظمها. لكن أخلاق قورش قد شابتها شائبة كبيرة، تلك هي قسوته المفرطة في بعض الأحيان.
وجاء بعده ابنه قمبيز وكان به شِبْهُ جِنّة، فورث عن أبيه قوته وإن لم يرث عنه شيئاً من كرمه. وبدأ قمبيز حكمه بأن قتل أخاه سمرديس منافسه في المُلك، ثم أغوته ثروة مصر الطائلة فزحف عليها ليمد حدود الإمبراطورية الفارسية إلى نهر النيل. وأفلح فيما كان يبتغيه، ولكنه على ما يظهر أضاع في سبيل ذلك رشده. ولم يكلفه الاستيلاء على منف كبير مشقة، ولكن الجيش الذي أرسله للاستيلاء على واحة أمون هلك في الصحراء، كما أخفقت حملة سيرها إلى قرطاجنة لأن بحارة الأسطول الفارسي الفينيقيين أبوا أن يهاجموا مستعمرة فينيقية؛ وجن جنون قمبيز، فذهبت عنه حكمة أبيه، وما كان يتصف به من رحمة وتسامح، فأخذ يسخر من دين المصريين، وطعن بخنجره العجل أبيس معبودهم وموضع إجلالهم وتقديسهم وهو يستهزئ به. ولم يكفه هذا، بل أخرج الجثث المحنطة من مدافنها ونبش قبور الملوك ولم يبال في ذلك بما كان عليها من لعنات قديمة، ودنس الهياكل وأمر بإحراق ما فيها من الأصنام، ظناً منه أن عمله هذا سوف يشفي المصريين من خرافاتهم وأوهامهم، فلما انتابه المرض- ويلوح أن مرضه كان نوبات مرض تشنجية- لم يبق لدى المصريين شك في أن مرضه إنما هو عقاب حل به من قبل آلهتهم وأن دينهم لم يبق فيه بعدئذ ريبة لمرتاب. وكأن قمبيز قد أراد أن يبرهن مرة أخرى على مساوئ الملكية المطلقة، ففعل ما فعله




صفحة رقم : 608




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> عظماء الملوك


نابليون في بعض ساعات امتعاضه، إذ أعدم ركسانا أخته وزوجته، وقتل ابنه بركسبيس بسهم من قوسه، ودفن اثني عشر من أعيان الفرس أحياء، وقضى بإعدام كروسس، ثم ندم على ما فعل، وسر حين علم أن حكمه لم ينفذ، ثم عاقب الموظفين الذين تأخروا عن تنفيذه(12). وعلم وهو عائد إلى بلاده أن مغتصباً قد استولى على عرش فارس وأن ثورة صماء اندلع لهيبها في طول البلاد وعرضها لتأييده. ومن هذه اللحظة يختفي قمبيز من التاريخ، وفي بعض الروايات أنه انتحر(13).
وكان المغتصب قد ادعى أنه سمرديس وأنه نجا بإحدى المعجزات من حسد أخيه قمبيز واعتزامه قتله. أما الحقيقة فإنه كان أحد رجال الدين المتعصبين من أتباع المذهب المجوسي القديم، وكان يعمل جاهداً للقضاء على الزردشتية دين الدولة الفارسية الرسمي. ثم شبت في البلاد ثورة أخرى أطاحت بعرشه، وكان الذين نظموها سبعة من أشراف البلاد اختاروا بعدئذ واحداً منهم هو دارا بن هشتسبش ورفعوه على العرش. وبهذه الوسيلة الدموية بدأ أعظم ملوك الفرس حكمه.
وكانت وراثة العرش في الممالك الشرقية تقترن بالفتن في القصور الملكية تقوم بين المتنازعين على أزمة الحكم، كما تقترن بالثورات في المستعمرات الخاضعة لحكمها، فقد كانت هذه المستعمرات تنتهز فرصة ما ينشأ عن الفتن الداخلية من فوضى واضطراب، أو عن تولي المُلك حاكم غير مجرب فتعمل لاسترداد حريتها. وكان اغتصاب المُلك في هذه المرة واغتيال سمرديس فرصة ثمينة انتهزتها الولايات الخاضعة لفارس، فخرج عليها حكام مصر وليديا، وثارت عليها في وقت واحد سوزانه، وبابل وميديا، وأشور ، وأرمينية، وساكيا، وغيرها من الولايات. ولكن دارا أخضعها جميعا واستخدم في إخضاعها منتهى القسوة. من ذلك أنه لما استولى على مدينة بابل بعد حصار طويل أمر بصلب ثلاثة آلاف من أعيانها ليرهب بذلك بقية الأهلين ويرغمهم على طاعته، ثم أتبع




صفحة رقم : 609




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> عظماء الملوك


ذلك بسلسلة من الوقائع الحربية السريعة "هدأ" بها الولايات الثائرة واحدة بعد واحدة.
ولما رأى أن هذه الإمبراطورية الواسعة قد تتقطع أوصالها إذا حلت بها أزمة من الأزمات، خلع دروع الحرب وأصبح من أعظم الحكام الإداريين وأعلمهم كعباً في التاريخ كله، وأخذ يعيد تنظيم ملكه على نسق أصبح مثالاً يحتذى في جميع الإمبراطوريات القديمة إلى سقوط الدولة الرومانية. وبفضل هذا النظام نعمت بلاد غربي آسية بفترة من الطمأنينة والرخاء لم ينعم هذا الصفح المضطرب بمثلها من قبل.
وكان يرجو بعدئذ أن يحكم بلاده في ظل السلام، ولكن سنة الأقدار قد جرت على ألا تنقطع الحروب في الإمبراطوريات، ذلك بأن الشعوب المقهورة يجب أن يعاد قهرها من آن إلى آن، وأن الغالبين يجب أن يحافظوا في شعوبهم على فنون الحرب وعادات المعسكرات وميادين القتال، وأن الأقدار التي لا تترك شيئاً على حاله قد تتمخض عن إمبراطورية جديدة تتحدى الإمبراطورية القديمة؛ وتلك ظروف تحتم خلق الحروب إن لم تشتعل نارها من تلقاء نفسها؛ ولابد إذن من أن يعود كل جيل على احتمال مشاق القتال، وأن يعلم بالمران كيف يستسيغ الموت في سبيل الأوطان.
ولعل هذا كان من الأسباب التي حدت بدارا إلى أن يزحف بجيوشه إلى جنوب الروسيا مجتازاً مضيق البسفور ونهر الدانوب إلى الفلجا ليؤدب السكوذيين الذين كانوا لا ينفكون يغيرون على أطراف الإمبراطورية الفارسية، وأن يقودها مرة أخري مخترقاً أفغانستان، ويجتاز العشرات من سلاسل الجبال حتى يصل إلى وادي نهر السند، وأن يضم بذلك إلى مملكته أقاليم واسعة الرقعة وآلاف من الأنفس والكثير من الأموال. أما حملته على بلاد اليونان فيجب أن نبحث لها عن سبب أقوى من هذا. ويريد هيرودوت أن يحملنا على الاعتقاد بأنه خطا هذه الخطوة




صفحة رقم : 610




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> عظماء الملوك


التاريخية الموفقة لأن أتوسا إحدى زوجاته كايدته بها في فراشه(14). لكن أكرم من هذا أن نعتقد أن الملك أدرك ما تتمخض عنه دويلات المدن اليونانية ومستعمراتها من إمبراطورية أو من حلف يهدد سيادة الفرس على غربي آسية. فلما ثارت أيونا وتلقت العون من إسبارطة وأثينا رضي دارا أن يخوض غمار الحرب وهو كاره لها. والعالم كله يعرف قصة اجتيازه بحر إيجه، وهزيمة جيشه في سهل مراثون، وعودته كسير القلب إلى فارس. وهناك أخذ يستعد استعداداً عظيماً ليحاول ضرب اليونان ضربة أخرى، ولكنه أصيب في هذه الأثناء بمرض مفاجئ أضعفه وقضى على حياته.




صفحة رقم : 611




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الحياة الفارسية والصناعات



الفصل الثالث




الحياة الفارسية والصناعات




الإمبراطورية - الشعب - اللغة - الزراع -




الطرق الإمبراطورية - التجارة والشئون المالية


كانت الدولة الفارسية حين بلغت أعظم اتساعها في أيام دارا تشمل عشرين ولاية أو "إمارة" (ستربية) تضم: مصر، وفلسطين، وسوريا، وفينيقية، وليديا، وفريجية، وأيونيا، وقبادوش، وقليقية، وأرمينية، وأشور، وقفقاسية، وبابل، وميديا، وفارس، والبلاد المعروفة في هذه الأيام باسم أفغانستان، وبلوخستان، والقسم الممتد من الهند غرب نهر السند، وسيمديانا، وبكتريا(بلخ)، وأقاليم المسجينة وغيرهم من قبائل آسية الوسطى. ولم يسجل التاريخ قبل هذه الإمبراطورية أن حكومة واحدة حكمت مثل هذه الرقعة الواسعة من البلاد.
ولم تكن بلاد الفرس في تلك الأيام، وهي البلاد التي قدر لها أن تحكم هذه الأربعين مليوناً من الأنفس مدى مائتي عام، هي بعينها البلاد المعروفة الآن باسم بلاد فارس، والتي يسميها بلاد إيران، بل كانت هي الإقليم الأصغر المصاحب للخليج الفارسي مباشرة من جهة الشرق، والمعروفة لدى الفرس الأقدمين باسم بارش والفرس المحدثين باسم فارس أو فارستان(15). وهذا الإقليم يكاد يكون كله صحراوات وجبالاً، أنهاره قليلة، معرضة للبرد القارس والحر الجاف اللافح ، ولذلك فإنه لم يكن فيه من الخيرات ما يكفي سكانه البالغ عددهم مليونين من الأنفس(17)، إلا إذا استعانوا بما قد يأتيهم من خارج بلادهم عن طريق




صفحة رقم : 612




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الحياة الفارسية والصناعات


التجارة والفتح. وأهل البلاد الجبليون الأشداء ينتمون كما ينتمي الميديون إلى الجنس الهندوربي، ولعلهم جاءوا إلى تلك البلاد من جنوب الروسيا؛ وتكشف لغتهم وديانتهم المبكرة عن صلة نسب وثيقة بينهم وبين الآريين الذين عبروا أفغانستان، وأصبحوا الطبقة الحاكمة في شمال الهند. ولقد وصف دارا الأول نفسه في نقش- رستم بأنه: "فارسي ابن فارسي، آرى من سلالة آرية" . ويسمي الزردشتيون وطنهم الأول: إيريانا فيجو أي "موطن الآريين" ، ويطلق استرابون لفظ أريانا على البلاد التي يطلق عليها الآن هذا اللفظ الذي لا يكاد يختلف عن اللفظ الأول وهو إيران(18).
ويلوح أن الفرس كانوا أجمل شعوب الشرق الأدنى في الزمن القديم. فالآثار الباقية في عهدهم تصورهم شعباً معتدل القامات، قوي الأجسام، قد وهبته حياة الجبال شدة وصلابة، ولكن ثروتهم الطائلة رققت طباعهم، وهم ذوو ملامح متناسبة متناسقة، شم الأنوف لا يكادون يفترقون في ذلك عن اليونان، تبدو على وجوههم سمات النبل والروعة؛ ولبس معظمهم الملابس الميدية ثم تحلوا فيما بعد بالحلي الميدية. وكانوا يعدون من سوء الأدب كشف أي جزء من أجزاء الجسم خلا الوجه، ولذلك كان كل جسمهم مغطى من عمامة الرأس أو عصابته أو قلنسوته إلى خفي القدمين أو حذاءيهما. فكان لباسهم سروالاً مثلث الطيات، وقميصاً أبيض من التيل، ومئزراً من طبقتين، ذا كُمّين يغطيان اليدين، ومنطقة في وسط الجسم. وكانت هذه الملابس تحفظ أجسامهم ، دفئة في الشتاء، حارة في الصيف. أما الملك فكان يمتاز بلبس سروال مطرز قرمزي، وحذاءين ذوي أزرار زعفرانية اللون. ولم تكن ملابس النساء تختلف عن ملابس الرجال إلا بفتحة عند الصدر. وكان الرجال يطيلون لحاهم ويتركون شعر رأسهم ينساب في غدائر، ثم استبدلوا بهما فيما بعد شعراً مستعاراً(19). ولما زادت الثروة




صفحة رقم : 613




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الحياة الفارسية والصناعات


في عهد الإمبراطورية أكثر الأهلون رجالهم ونساؤهم من استعمال أدوات التجميل، فاستعملوا الأدهان لتجميل الوجه، والأصباغ الملونة لدهن الجفون، لكي يزيدوا بذلك من سعة العينين وبريقهما الظاهر. ومن ثم نشأت عندهم طبقة من"المزينين" سماهم اليونان "الكزمتاي" كانوا خبراء في فن التجميل، وعملهم تجميل الأثرياء. وكان الفرس خبراء في عمل الروائح العطرية، وكان القدماء يعتقدون أنهم هم الذين اخترعوا أدهان التجميل. ولم يكن مليكهم يخرج إلى الحرب إلا ومعه علبة ثمينة من الزيوت العطرية، يتعطر بها في حالتي النصر والهزيمة(20).
وتكلم الفرس عدة لغات في أثناء تاريخهم الطويل. فكانت الفارسية القديمة لغة البلاط وأعيان البلاد في عهد دارا الأول، وهذه اللغة وثيقة الارتباط باللغة السنسكريتية حتى ليبدو لنا جلياً أن اللغتين كانتا في وقت من الأوقات لهجتين من لغة أقدم منهما عهداً، وأنهما هما واللغة الإنكليزية فروع من أصل واحد . وتطورت اللغة الفارسية القديمة وتفرعت إلى فرعين هما الزندية- لغة الزند- أبستاق. والبهلوية وهي لغة هندية اشتقت منها اللغة الفارسية الحالية(22). ولما مارس الفرس الكتابة استخدموا في نقوشهم الخط المسماري واستخدموا الحروف الهجائية الآرامية لكتابة وثائقهم(23). وبسطوا مقاطع اللغة البابلية الثقيلة الصعبة، فأنقصوها من ثلاثمائة رمز إلى ست وثلاثين




صفحة رقم : 614




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الحياة الفارسية والصناعات


علامة، تبدلت شيئاً فشيئاً من مقاطع إلى حروف حتى صارت حروفاً هجائية مسمارية(24). على أن الكتابة كانت تبدو للفرس لهواً خليقاً بالنساء لا يكادون يقتطعون له وقتاً من بين مشاغلهم الكثيرة في الحب والحرب والصيد، ولم ينزلوا من عليائهم فينشئوا أدباً.
وكان الرجل العادي أمياً راضياً عن أميته، يبذل جهده كله في فلاحة الأرض. ومجدت الزند- أبستاق الأعمال الزراعية وعدتها أهم أعمال الجنس البشري وأشرفها، يبتهج لها أهور- مزدا الإله الأعلى أكثر مما يبتهج بغيرها من الأعمال. وكانت بعض الأراضي يزرعها ملاكها المزارعون. وكان هؤلاء الملاك في بعض الأحيان يؤلفون جماعات زراعية تعاونية مكونة من عدة أسر لتزرع مجتمعة مساحات واسعة من الأراضي(25). والبعض يمتلكه الأشراف الإقطاعيون ويزرعه مستأجروه نظير جزء من غلته؛ وبعضها الآخر يزرعه الأرقاء الأجانب ( ولم يكونوا قط فرساً). وكانوا يستخدمون محاريث من الخشب ذات أطراف من حديد تجرها الثيران. وكانوا يجرون الماء من الجبال إلى الحقول بطرق الري الصناعية. وكان الشعير والقمح أهم محاصيل الأرض وأهم مواد الغذاء، ولكنهم كانوا يأكلون كثيراً من اللحم ويتجرعون كثيراً من الخمر. وقد أمر قورش بتقديم الخمر لجيوشه(26). ولم تكن مناقشة جدية في الشئون السياسية تدور في مجالس الفرس إلا وهم سكارى وإن كانوا يحرصون على أن يعيدوا النظر في قراراتهم في صباح اليوم التالي. وكان من مشروباتهم مشروب مسكر يسمى الهوما يقدمونه قرباناً محبباً لآلهتهم؛ وكانوا يعتقدون أنه لا يبعث في مدمنه الهياج والغضب، بل يبعث فيه التقى والاستقامة(28).

أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:56 pm


صفحة رقم : 615




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الحياة الفارسية والصناعات


ولم يكن للصناعة شأن في فارس؛ فقد رضيت أن تترك لأمم الشرق الأدنى ممارسة الحرف والصناعات اليدوية، واكتفت بأن تحمل هذه الأمم إليها منتجاتها مع ما يأتيها من الخراج. أما في شئون النقل والاتصال فكانت أكثر ابتكاراً منها في شئون الصناعة. فقد انشأ المهندسون إطاعة لأمر دارا الأول طرقاً عظيمة تربط حواضر الدولة بعضها ببعض. وكان طول إحدى هذه الطرق وهي الممتدة من السوس إلى سرديس ألفاً وخمسمائة ميل. وكان طولها يقدر تقديراً دقيقاً بالفراسخ ( وكان الفرسخ 3.4 ميل) ويقول هيرودوت: "إنه كان عند نهاية كل أربعة فراسخ محاط ملكية ونُزل فخمة، وكان الطريق كله يخترق أقاليم آمنة عامرة بالسكان"(29). وكان في كل محطة خيول بديلة متأهبة لمواصلة السير بالبريد، ولهذا فإن البريد الملكي كان يجتاز المسافة من السوس إلى سرديس بالسرعة التي يجتازها بها الآن رتل من السيارات الحديثة، أي في أقل قليلاً من أسبوع، مع أن المسافر العادي في تلك الأيام الغابرة كان يجتاز تلك المسافة في تسعين يوماً. وكانوا يعبرون الأنهار الكبيرة في قوارب، ولكن المهندسين كانوا يستطيعون متى شاءوا أن يقيموا على الفرات أو على الدردنيل نفسه قناطر متينة تمر عليها مئات الفيلة الوجلة وهي آمنة. وكان ثمة طرق تصل فارس بالهند مجتازة ممرات جبال أف انستان، وقد جعلت هذه الطرق مدينة السوس مستودعاً وسطاً لثروة الشرق التي كانت حتى في ذلك العهد البعيد ثروة عظيمة لا يكاد يصدقها العقل. وقد أنشأت هذه الطرق في الأصل لأغراض حربية وحكومية، وذلك لتسيير سيطرة الحكومة المركزية وأعمالها الإدارية؛ ولكنها أفادت أيضاً في تنشيط التجارة وانتقال العادات والأفكار، كما أفادت في تبادل خرافات الجنس البشري وهي من مستلزماته التي لا غنى له عنها. من ذلك أن الملائكة والشياطين قد انتقلت على هذه الطرق من الأساطير الفارسية إلى الأساطير اليهودية والمسيحية.




صفحة رقم : 616




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الحياة الفارسية والصناعات


ولم تبلغ الملاحة في فارس ما بلغه النقل البري من رقي عظيم. فلم يكن للفرس أسطول خاص بهم، بل كانوا يكتفون باستئجار سفن الفينيقيين أو الاستيلاء عليها لاستخدامها في الأغراض الحربية، وقد احتفر دارا الأول قناة عظيمة تصل فارس بالبحر الأبيض المتوسط عن طريق البحر الأحمر والنيل، ولكن إهمال خلفائه ترك هذا العمل العظيم تبعث به الرمال السافية.
وأصدر خشيارشاي أمره الملكي إلى قسم من قواته البحرية بأن يطوف حول إفريقية، ولكنه لم يكد يجتاز أعمدة هرقل (مضيق جبل طارق الحالي) حتى عاد من رحلته يجلله الخزي والعار(30). وكانت الأعمال التجارية تترك في الغالب لغير أبناء البلاد- للبابليين والفينيقيين واليهود؛ ذلك أن الفرس كانوا يحتقرون التجارة ويرون أن الأسواق بؤرة للكذب والخداع. وكانت الطبقات الموسرة تفخر باستطاعتها الحصول على معظم حاجاتها من حقولها وحوانيتها بغير واسطة، دون أن تدنس أصابعها بأعمال البيع والشراء(31). وكانت الأجور والقروض وفوائد الأموال تؤدى في بادئ الأمر سلعاً، وأكثر ما كانت تؤدى به الماشية والحبوب؛ ثم جاءتهم النقود من ليديا، وسكّ دارا "الداريق" من الذهب والفضة وطبع عليه صورته . ، وكانت نسبة قيمة الدريق الذهبي إلى الدريق الفضي كنسبة 13.5 إلى 1 . وكان هذا بداية وضع نسبة بين النقدين في الوقت الحاضر(33).




صفحة رقم : 617




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم



الفصل الرابع




تجربة في نظام الحكم




الملك - الأشراف - الجيش - القانون - عقاب




وحشي - الحواضر - الولايات - عمل جليل في الإدارة


كانت حياة فارس حياة سياسية وحربية أكثر منها اقتصادية؛ عماد ثروتها القوة لا الصناعة؛ ومن أجل ذلك كانت مزعزعة الكيان أشبه ما تكون بجزيرة حاكمة وسط بحر واسع خاضع لسلطانها خضوعاً غير قائم على أساس طبيعي. وكان النظام الإمبراطوري الذي يمسك هذا الكيان المصطنع من أقدر الأنظمة ولا يكاد يوجد له شبيه؛ فقد كان على رأسه الملك أوخشترا أي المحارب ، وهو لقب يدل على منشأ الملكية الفارسية العسكري وصبغتها العسكرية. وإذا كان تحت سلطانه ملوك يأتمرون بأمره فقد كان الفرس يلقبونه "ملك الملوك" ولم يعترض العالم القديم على هذه الدعوة، غير أن اليونان لم يكونوا يسمونه بأكثر من باسليوس أي الملك(34).
وكان له من الوجهة النظرية سلطة مطلقة؛ فكانت كلمة تصدر من فمه تكفي لإعدام من يشاء من غير محاكمة ولا بيان للأسباب، على الطريقة التي يتبعها أحد الحكام الطغاة في هذه الأيام. وكان في بعض الأحيان يمنح أمه أو كبيرة زوجاته حق القتل القائم على النزعات والأهواء(35). وقلما كان أحد من الأهلين، ومن بينهم كبار الأعيان، يجرؤ على انتقاد الملك أو لومه، كما كان




صفحة رقم : 618




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


الرأي العام عاجزاً عجزاً مصدره الحيطة والحذر، فكان ما يفعله الذي يرى الملك يقتل ابنه البريء أمام عينيه رمياً بالسهام أن يثني على مهارة الملك العظيمة في الرماية، وكان المذنبون الذين يلهب السياط أجسادهم بأمر الملك يشكرون له تفضله بأنه لم يغفل عن ذكرهم(36). ولو أن ملوك الفرس كان لهم من النشاط ما لقورش ودارا الأول لكان لهم أن يملكوا ويحكموا؛ ولكن الملوك المتأخرين كانوا يعهدون بأكثر شئون الحكم إلى الأشراف الخاضعين لسلطانهم، أو إلى خصيان قصورهم. أما هم فكانوا يقضون أوقاتهم في الحب أو لعب النرد أو الصيد(37). وكان القصر يموج بالخصيان يسرحون فيه ويمرحون، يحرسون النساء ويعلمون الأمراء، وقد استخدموا ما تخولهم هذه الأعمال من ميزة وسلطان في حبك الدسائس وتدبير المؤامرات في عهد كل ملك من الملوك . وكان من حق الملك أن يختار خلفه من بين أبنائه، ولكن وراثة العرش كانت تقرر في العادة بالاغتيال والثورة.
غير أن سلطة الملك كانت تقيدها من الوجهة العملية قوة الأعيان، وكانوا هم الواسطة بين الشعب والعرش. وقد جرت العادة أن يكون لأسر الرجال الستة الذين تعرضوا مع دارا الأول لأخطار الثورة التي قامت على سمرديس الزائف ميزات استثنائية. وأن يستشاروا في مهام الدولة الحيوية ، وكان كثير من الأشراف يحضرون إلى القصر ويؤلفون مجلساً يولي الملك مشورته في أكثر الأحيان أعظم رعاية. وكان يربط معظم أفراد الطبقة الموسرة بالعرش أن الملك هو الذي يهبهم ضياعهم؛ وكانوا في مقابل هذا يمدونه بالرجال والعتاد إذا نفر إلى القتال. وكان لهؤلاء الأشراف في إقطاعاتهم سلطان لا يكاد يحده شيء- فكانوا يجبون الضرائب، ويسنون القوانين، وينفذون أحكام القضاء ويحتفظون بقواتهم المسلحة.




صفحة رقم : 619




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


وكان الجيش العماد الحقيقي لسلطان الملك والحكومة الإمبراطورية، ذلك أن الإمبراطوريات إنما تدوم ما دامت محتفظة بقدرتها على التقتيل.
وكان يفرض على كل رجل صحيح الجسم بين الخامسة عشرة والخمسين من عمره أن ينضم إلى القوات العسكرية كلما أعلنت الحرب(41). وحدث مرة أن طلب والد ثلاثة أبناء أن يُعفى واحد منهم من الخدمة العسكرية فما كان من الملك إلا أن أمر بقتلهم هم الثلاثة؛ وأرسل والد آخر أربعة من أبنائه إلى ميدان القتال، ثم رجا خشيارشاي أن يسمح ببقاء أخيهم الخامس ليشرف على ضيعة الأسرة فقطع جسم هذا الابن نصفين بأمر من الملك، ووضع كل نصف على أحد جانبي الطريق الذي سيمر منه الجيش(42). وكان الجنود يسيرون إلى الحرب وسط دوي الموسيقى العسكرية وهتاف الجماهير التي تجاوزت سن التجنيد.
وكانت أهم فرق الجيش فرقة الحرس الملكي المؤلفة من ألفين من الفوارس وألفين من المشاة وكانت مهمتهم حراسة الملك.
وكان الجيش العامل كله بلا استثناء من الفرس والميديين، وكان يؤخذ من هذه القوات الدائمة معظم الحاميات القائمة في النقط العسكرية الهامة في الإمبراطورية لترهيب من تحدثه نفسه بالخروج عليها.
أما القوات الحربية الكاملة فكانت تتألف من فرق تجند من جميع الأمم الخاضعة لسلطان الفرس، وكانت كل فرقة تتكلم بلغتها، وتقاتل بأسلحتها وتتبع أساليبها الحربية الخاصة، ولم يكن عتادها وأتباعها أقل اختلافا من أصولها: فهناك القسي والسهام، والسيوف والحراب، والخناجر والرماح، والمقاليع والمدي، والتروس والخوذ، والمجنات المتخذة من الجلد، والزرد. وكانوا يركبون الجياد والفيلة، ويصحبهم المنادون، والكتبة، والخصيان، والعاهرات، والسراري، ومعهم العربات التي سلح كل جزء من عجلاتها بمناجل الصلب الكبيرة. وهذه الجحافل الجرارة التي بلغت عدتها في حملة




صفحة رقم : 620




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


خشيارشاي 000ر800ر1 مقاتل لم تتألف منها قط وحدة كاملة، ومن أجل ذلك فإن أول بادرة من بوادر الهزيمة كانت تحيلها إلى جموع من الغوغاء العديمة النظام. وكانت تهزم أعداءها بقوة عددها لا غير، وبمقدرته على استيعاب قتلاها، فإذا ما لاقاها جيش حسن التنظيم يتكلم أفراده لغة واحدة ويخضعون لنظام واحد حاقت بها الهزيمة. وهذا هو السر فيما أصابها عند مرثون وبلاتية.
ولم يكن يوجد في مثل هذه الدولة قانون غير إرادة الملك وقوة الجيش. ولم تكن فيها حقوق مقدسة تستطيع الوقوف أمام هاتين القوتين، كما أن التقاليد والسوابق لم تجد نفعاً إلا إذا كانت مستمدة من أمر ملكي سابق؛ ذلك أن الفرس كانوا يفتخرون بأن قوانينهم لا تبديل لها، وأن الوعد أو المرسوم الملكي لا ينقض بحال من الأحوال، فقد كان اعتقادهم أن قرارات الملك وأحكامه إنما يوحيها إليهم الإله أهورا- مزدا نفسه.
وعلى هذا الأساس كان قانون المملكة مستمداً من الإرادة الإلهية، وكان كل خروج على هذا القانون يعد خروجاً على إرادة الإله. فكان الملك صاحب السلطة القضائية العليا، ولكنه كان في العادة يعهد هذا العمل إلى أحد العلماء الشيوخ من أتباعه. ثم يأتي من بعده المحكمة العليا المؤلفة من سبعة قضاة، ومن تحتها محاكم محلية منتشرة في أنحاء المملكة. وكان الكهنة هم الذين يضعون القوانين، وظلوا زمناً طويلاً ينظرون في المظالم، ثم كان النظر فيها في العهود المتأخرة رجال بل نساء من غير رجال الدين ونسائه، وكانت الكفالة تقبل من المتهم في جميع القضايا إلا ما كان منها خطير الشأن، وكانوا يتبعون في المحاكمات إجراءات منتظمة. وكانت المحاكم تأمر أحياناً بمنح المكافآت كما كانت تأمر بتوقيع العقوبات، وكانت وهي تنظر في الجرائم تقدر ما للمتهم من حسنات وما أداه من خدمات. ولكي يحولوا بين إطالة الإجراءات القضائية كانوا يحددون




صفحة رقم : 621




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


زمناً معيناً تنتهي فيه كل قضية، ويعرضون على الخصوم أن يختاروا لهم حَكماً يحاول فض ما بينهم من نزاع بالطرق السلمية.
ولما تكاثرت السوابق القانونية وتعقدت القوانين نشأت طائفة من الناس يسمون "المتحدثين في القانون" كانوا يعرضون على المتخاصمين أن يفسروا لهم القانون ويساعدوهم على السير في قضاياهم(43). وكان يطلب إلى المتقاضين أن يقسموا الأيمان، وكانوا في بعض الأحيان يلجأون إلى الحكم الإلهي(44)، (فيفوضون أمر المتهم إلى الآلهة تقضي له أو عليه بوسائلها الخاصة، بأن تنجيه من النار أو الغرق إن كان بريئاً وتقضي عليه بهما إن كان مذنباً) ، وكانوا يقاومون الرشوة بجعل عرضها أو قبولها جريمة كبرى يعاقب مرتكبها بالإعدام.
وكان مما عمله قمبيز لضمان القضاة أن أمر بأن يسلخ جلد القاضي الظالم حياً وأن يستخدم جلده لتنجيد مقاعد القضاة، ثم كان يعين ابن القاضي القتيل بدلاً منه(45).
وكانت الجرائم الصغرى يعاقب عليها بالجلد- من خمس جلدات إلى مائتي جلدة- بسوط من سياط الخيل، وكان عقاب من يسمم كلب راع مائتي جلدة، ومن يقتل آخر خطأ كان عقابه تسعين جلدة(46). وكانت الدولة تحصل على بعض المال اللازم للشؤون القضائية من استبدال الغرامة بالجلد باحتساب كل ست روبيات للجلدة الواحدة(47). أما الجرائم التي هي أشد من هذه فكان يعاقب عليها بالوسم بالنار أو بتشويه الأعضاء أو بتر بعض الأطراف، أو سمل العين أو السجن أو الإعدام. وكان نص القانون يحرم على أي إنسان حتى الملك نفسه أن يحكم على إنسان بالقتل عقاباً على جريمة صغرى، ولكنه يحل القتل عقاباً على خيانة الوطن، أو هتك العرض، أو اللواط، أو القتل، أو الاستمناء، أو حرق الموتى، أو دفنهم سراً، أو الاعتداء على حرمة القصر الملكي، أو الاتصال




صفحة رقم : 622




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


بإحدى سراريه، أو الجلوس مصادفة على عرشه، أو الإساءة إلى أحد أفراد البيت المالك(48).
وكان المذنب في هذه الحالات يعدم إما بإرغامه على تجرع السم، أو خزقه أو صلبه، أو شنقه (وكان المجرم يشنق ورأسه عادة إلى الأسفل)، أو رجمه بالحجارة أو دفن الجسم إلى ما دون الرأس، أو تهشيم رأسه بين حجرين كبيرين، أو خنقه في رماد ساخن، أو بتوقيع ذلك العقاب الذي لا يصدقه العقل والمعروف باسم عقاب "الزورقين" . وقد ورث الأتراك الذين أغاروا على البلاد فيما بعد بعض هذه العقوبات الهمجية، وأورثوها العالم من بعدهم.
واستعان الملك هذه القوانين وهذا الجيش على حكم الولايات العشرين التابعة لدولته من عواصمه الكثيرة. وكانت العاصمة الأصلية بزارجادة، ولكنه كان ينتقل منها أحياناً إلى برسبوليس، وكانت إكباتانا عاصمته الصيفية. أما معظم إقامته فكانت في مدينة السوس عاصمة عيلام القديمة التي يجتمع فيها




صفحة رقم : 623




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


تاريخ الشرق القديم برمته ويرتبط أوله بآخره. وكان من مميزات هذه المدينة صعوبة الوصول إليها، كما كان من عيوبها بُعدها عن سائر عواصم الإمبراطورية، فلما أراد الإسكندر أن يستولي عليها كان لابد له أن يجتاز لها طريقاً طوله ألفا ميل؛ ولكنها كان عليها أن ترسل جيوشها ألفاً وخمسمائة ميل لتخضع الثروات التي تقوم في ليديا أو مصر. ولما أنشئت الطرق العظيمة في آخر الأمر كانت كل فائدتها أن مهدت السبل لليونان والرومان الذين غزوا بجيوشهم غرب آسية، كما ساعدت غرب آسية على أن يغزو اليونان ورومة بعقائده الدينية.
وكانت الإمبراطورية مقسمة إلى ستريبات أو ولايات لتسهل بذلك إدارتها وجباية خراجها. وكان في كل ولاية نائب "لملك الملوك" قد يكون أحياناً أميراً خاضعاً لسلطانه، ولكنه في العادة "سترب" (حاكم) يعينه الملك ويبقى في منصبه ما دام حائزاً لرضا البلاط الملكي.
وأراد دارا أن يضمن خضوع الوالي لسلطانه فبعث إلى كل ولاية بقائد من قواد جيشه ليشرف على ما فيها من قوى مسلحة مستقلاً عن الوالي؛ ولكي يضمن خضوع هذا وذاك عين لكل ولاية أميناً من قبله مستقلاً عن الوالي والقائد جميعاً، مهمته أن يبلغ عن مسلكهما. وزيادة في الاحتياط كان للملك إدارة للمخابرات السرية تعرف باسم "عيون الملك وآذانه" يفاجئ موظفوها الولايات ليفحصوا عن سجلاتها وشئونها الإدارية والمالية. وكان الوالي يعزل أحياناً بلا محاكمة، وأحياناً يتخلص منه بهدوء، وذلك بأن يسمه خدمه بأمر الملك نفسه. وكان تحت إمرة الوالي والأمين حشد من الكتبة يصرفون من شئون الحكم ما ليس في حاجة مباشرة إلى القوة. وكان هؤلاء يستمرون في عملهم وإن تغيرت الإدارات، بل وإن تغير الملوك، فالملك يموت ولكن البيروقراطية الحكومية باقية مخلدة.
ولم يكن موظفو الولايات يتناولون رواتبهم من الملك، بل كانوا يتناولونها


أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:57 pm

صفحة رقم : 624




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


من أهل الولاية التي يحكمونها. وكانت هذه الرواتب عالية تكفي لأن يكون لهؤلاء الولاة قصور وحريم. وبساتين للصيد، كان الفرس يسمونها بذلك الاسم التاريخي المأثور وهو الفردوس أي "الجنة". وكان على كل والٍ فضلاً عن هذا أن يبعث إلى الملك في كل عام قدراً معلوماً من المال والبضائع ضريبة مقررة على ولايته. فكانت الهند ترسل 680ر4 تالنتا، وأشور وبابل ألفاً، ومصر سبعمائة، وولايات آسية الصغرى الأربع ترسل مجتمعة 1760 الخ. فكان مجموع ما ترسله الولايات كلها 560ر14 في السنة، قدرت قيمتها تقديراً يختلف من000ر000ر160 ريال أمريكي إلى 000ر000ر218 ريال؛ وفوق هذا فقد كان ينتظر من كل ولاية أن تمد الملك بحاجته من السلع والمؤن: فقد كان على مصر مثلاً أن تمده في كل عام بما يحتاجه 000ر120 رجل من الغلال، وكان الميديون يمدونه بمائة ألف من الضأن، والأرمن بثلاثين ألف من الأمهار، والبابليون بخمسمائة من الغلمان الخصيان. وكانت هناك مصادر أخرى تستمد منها الخزانة المركزية الأموال الطائلة. وحسبنا دليلاً على مقدار هذه الثروة أن الإسكندر حين استولى على عاصمة الفرس وجد في الخزائن الملكية 000ر180 تالنت (وزنة) تبلغ قيمتها بحساب هذه الأيام 000ر000ر700ر2 ريال أمريكي، وذلك بعد مائة وخمسين عاماً من إسراف الفرس وتبديدهم، وبعد مائة حرب وثورة باهظة النفقات، وبعد أن حمل دارا الثالث معه في فراره 000ر8 تالنت(51).
ومع هذا كله فقد كانت الإمبراطورية الفارسية على الرغم من نفقاتها الإدارية الطائلة أنجح تجربة في نظام الحكم الإمبراطوري شهدتها بلاد البحر الأبيض المتوسط قبل الإمبراطورية الرومانية التي قدر لها أن ترث قسطاً كبيراً من النظم السياسية والإدارية لتلك الإمبراطورية القديمة. وإذا كانت هذه الإمبراطورية قد شهدت ما كانت عليه ملوكها المتأخرين من قسوة وبذخ، وما كان في بعض شرائعها من همجية، وما كان ينوء به كاهل الأهلين من ضرائب فادحة، فقد




صفحة رقم : 625




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> تجربة في نظام الحكم


كان يقابل هذه المساوئ ما كان يسود البلاد بفضل حكومتها من نظام وأمن أثرت في ظله الولايات على الرغم من هذه الأكلاف الباهظة، وما كانت تستمتع به تلك الولايات من حرية لم تستمتع بها الولايات الخاضعة لأكثر الإمبراطوريات رقياً واستنارة. ذلك أن كل إقليم كان يحتفظ بلغته، وشرائعه، وعاداته، وأخلاقه، ودينه، وعملته، كما كان يحتفظ في بعض الأحيان بالأسرة الحاكمة من أهله. وكانت بعض الأمم التي تؤدى إليها الجزية كبابل وفينيقية وفلسطين راضية كل الرضا بالوضع الذي وضعت فيه، ظناً منها أن قوادها وجباتها من أهلها لو وكل إليهم أمرها لكانوا أكثر من حكامها الفرس قسوة وأشد بطشاً. لقد بلغت الإمبراطورية الفارسية في عهد دارا الأول من حيث النظام السياسي مبلغاً لم يصل إليه غيرها من الإمبراطوريات إذا استثنينا الإمبراطورية الرومانية في عهد دراجان، وهدريان، والأنطونيين.




صفحة رقم : 626




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت



الفصل الخامس




زردشت




رسالة النبي - الديانة الفارسية قبل زردشت -




كتاب الفرس المقدس - أهورا مزدا - الأرواح




الطبية والخبيثة - كفاحها للاستيلاء على العالم


تروي الأقاصيص الفارسية أن نبياً عظيماً ظهر في إيريانا- فيجو، "موطن الآريين" القديم قبل ظهور المسيح بمئات السنين، وكان شعبه يسميه زرثسترا. ولكن اليونان لم يكونوا يطيقون هجاء "البرابرة" أسموه زروسترز. وقد حملت به أمه حملاً إلهياً قدسياً: ذلك أن الملاك الذي كان يرعاه تسرب إلى نبات الهَوْما، وانتقل مع عصارته إلى جسم كاهن حين كان يقرب القرابين المقدسة. وفي ذلك الوقت نفسه دخل شعاع من أشعة العظمة السماوية إلى صدر فتاة راسخة النسب متناسقة في الشرف. وتزوج الكاهن بالفتاة، وامتزج الحبيسان الملاك والشعاع، فنشأ زرثسترا من هذا المزيج(53). فلما ولد قهقه عالياً من أول يوم ولد فيه، ففرت من حوله الأرواح الخبيثة التي تجتمع حول كل كائن، وهي مضطربة وجلة(54). وأحب الوليد الحكمة والصلاح فاعتزل الناس وآثر أن يعيش في برية جبلية، وأن يكون طعامه الجبن وثمار الأرض. وأراد الشيطان أن يغويه ولكنه أخفق. وشق صدره بطعنة سيف وملئت أحشاؤها بالرصاص المنصهر، فلم يشك أو يتململ بل ظل مستمسكا بإيمانه بأهورا- مزدا (رب النور) الإله الأعظم. وتجلى له أهورا- مزدا ووضع في يديه الأبستاق أي كتاب العلم والحكمة، وأمره أن يعظ الناس بما جاء فيه. وظل العالم كله زمناً طويلاً يسخر منه ويضطهده، حتى سمعه أخيراً أمير إيراني




صفحة رقم : 627




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت


عظيم يدعى فشتشبا أو هستسبس، فأعجبه ما سمع، ووعده أن ينشر الدين الجديد بين شعبه، وهكذا ولد الدين الزردشتي. وعمر زرثسترا نفسه طويلاً، حتى أحرقه وميض برق وصعد إلى السماء(55).
ولسنا نعرف ما في هذه القصة من حق وما فيها من باطل. ولعل يوشع كيوشع بنى إسرائيل هو الذي كشف هذا النبي، ولكن اليونان صدقوا أن زرثسترا هذا كان شخصية تاريخية حقة وشرفوه بأن حددوا له تاريخاً يسبق تاريخهم بخمسة آلاف وخمسمائة عام(56). ويقرب بروس البابلي هذا التاريخ إلى عام 2000 ق. م(57). أما من يؤمن بوجوده من المؤرخين المحدثين فيحددون تاريخه فيما بين القرن العاشر والقرن السادس قبل الميلاد . ولما ظهر بين أسلاف الميديين والفرس، وجد بني وطنه يعبدون الحيوانات كما يعبدون أسلافهم(60)، ويعبدون الأرض والشمس، وأن لهم دينا يتفق في كثير من عناصره وآلهته مع دين الهندوس في العهد الفيدي.
وكان أكبر الآلهة في الدين السابق للدين الزردشتي مثرا إله الشمس، وأنيتا إلهة الخصب والأرض، وهَوْما الثور المقدس الذي مات ثم بعث حياً، ووهب الجنس البشري دمه شراباً ليسبغ عليه نعمة الخلود. وكان الإيرانيون الأولون يعبدونه بشرب عصير الهَوْما المسكر وهو عشب ينمو على سفوح جبالهم(61). وهال زردشت ما رأى من هذه الآلهة البدائية، وهذه الطقوس الخمرية، فثار على المجوس أي الكهنة الذين يصلون لتلك الآلهة ويقربون لها القرابين، وأعلن في شجاعة لا تقل عن شجاعة معاصريه عاموس وإشعيا أن ليس في العالم إلا إله واحد هو في بلاده أهورا- مزدا إله النور والسماء، وأن غيره من الآلهة ليست إلا مظاهر له وصفات من صفاته. ولعل دارا الأول حينما اعتنق الدين الجديد رأى فيه ديناً




صفحة رقم : 628




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت


ملهماً لشعبه، ودعامة لحكومته، فشرع منذ تولى الملك يثير حرباً شعواء على العبادات القديمة وعلى الكهنة المجوس، وجعل الزردشتية دين الدولة.
وكان الكتاب المقدس للدين الجديد هو مجموعة الكتب التي جمع فيها أصحاب النبي ومريدوه أقواله وأدعيته. وسمى أتباعه المتأخرين هذه الكتب الأبستا (الأبستاق)، وهي المعروفة عند العالم الغربي باسم الزند- أبستا، بناء على خطأ وقع فيه أحد العلماء المحدثين . ومما يروع القارئ غير الفارسي في هذه الأيام أن يعرف أن المجلدات الضخمة الباقية- وإن كانت أقل كثيراً من كتاب التوراة- ليست إلا جزءاً صغيراً مما أوحاه إلى زرثسترا إلهه .




صفحة رقم : 629




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت


وهذا الجزء الباقي يبدو للأجنبي الضيق الفكر كأنه خليط مهوش من الأدعية، والأناشيد، والأقاصيص، والوصفات، والطقوس الدينية، والقواعد الخلقية، تجلوها في بعض المواضع لغة ذات روعة، وإخلاص حار، وسمو خلقي، أو أغان تنم عن رقي وصلاح. وهي تشبه العهد القديم من الكتاب المقدس فيما تثيره في النفس من نشوة قوية. وفي وسع الدارس أن يجد في بعض أجزائها ما يجده في الرج- فدا من آلهة وآراء، ومن كلمات وتراكيب في بعض الأحيان. وتبلغ هذه من الكثرة حداً جعل بعض علماء الهنود يعتقدون أن الأبستاق ليست وحياً من عند أهورا- مزدا، بل هي مأخوذة من كتب الفِدا. ويعثر الإنسان في مواضع أخرى منها على فقرات من أصل بابلي قديم، كالفقرات التي تصف خلق الدنيا على ست مراحل ( السماوات، فالماء، فالأرض، فالنبات، فالحيوان، فالإنسان)، وتسلسل الناس جميعاً من أبوين أولين، وإنشاء جنة على الأرض(66)، وغضب الخالق على خلقه، واعتزامه أن يسلط عليهم طوفاناً يهلكهم جميعا إلا قلة صغيرة منهم(67). ولكن ما فيها من عناصر إيرانية خالصة يشتمل على كثير من الشواهد التي تكفي لصبغ الكتاب كله بالصبغة الفارسية العامة. فالفكرة السائدة فيه هي ثنائية العالم الذي يقوم على مسرحه صراع يدوم اثني عشر ألف عام بين الإله أهور- مزدا والشيطان أهرمان؛ وأن أفضل الفضائل




صفحة رقم : 630




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت


هما الطهر والأمانة وهما يؤديان إلى الحياة الخالدة؛ وأن الموتى يجب أن لا يدفنوا أو يحرقوا، كما كان يفعل اليونان أو الهنود القذرون، بل يجب أن تلقى أجسامهم إلى الكلاب أو الطيور الجارحة(68).
وكان إله زردشت في بادئ الأمر هو: "دائرة السماوات كلها" نفسها. فأهورا مزدا "يكتسي بقبة السماوات الصلبة يتخذها لباساً له؛ ... وجسمه هو الضوء والمجد الأعلى، وعيناه هما الشمس والقمر". ولما أن انتقل الدين في الأيام الأخيرة من الأنبياء إلى الساسة صُوّر الإله الأعظم في صورة ملك ضخم ذي جلال مهيب. وكان بوصفه خالق العالم وحاكمه يستعين بطائفة من الأرباب الصغار، كانت تصور أولا كأنها أشكال وقوى من أشكال الطبيعة وقواها- كالنار، والماء، والشمس، والقمر، والريح، والمطر. ولكن أكبر فخر لزردشت أن الصورة التي تصورها لإلهه هي أنه يسمو على كل شيء. وأنه عبَّر عن هذه الفكرة بعبارات لا تقل جلالاً عما جاء في سفر أيوب:
هذا ما أسألك عنه فاصدقني الخبر يا أهورا مزدا: من ذا الذي رسم مسار الشموس والنجوم؟- ومن ذا الذي يجعل القمر يتزايد ويتضاءل؟ ... ومن ذا الذي رفع الأرض والسماء من تحتها وأمسك السماء أن تقع؟- من ذا الذي حفظ المياه والنباتات- ومن ذا الذي سخر للرياح والسحب سرعتها- ومن ذا الذي أخرج العقل الخيّر يا أهورا مزدا؟(69)
وليس المقصود "بالعقل الخير" عقلاً إنسانياً ما، بل المقصود به حكمة إلهية لا تكاد تفترق في شيء عن "كلمة الله" يستخدمها أهورا مزدا واسطة لخلق الكائنات. وكان أهورا مزدا كما وصفه زردشت سبعة مظاهر أو سبع صفات




صفحة رقم : 631




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت


هي: النور، والعقل الطيب، والحق، والسلطان، والتقوى، والخير، والخلود. ولما كان أتباعه قد اعتادوا أن يعبدوا أرباباً متعددة فقد فسروا هذه الصفات على أنها أشخاص (سموهم أميشا اسبننا أو القديسين الخالدين) الذين خلقوا العالم ويسيطرون عليه بإشراف أهورا مزدا وإرشاده. وبذلك حدث في هذا الدين ما حدث في المسيحية فانقلبت الوحدانية الرائعة التي جاء بها مؤسسه شركا لدى عامة الشعب. وكان لديهم فضلاً عن هذه الأرواح المقدسة كائنات أخرى هي الملائكة الحرّاس. وقد اختص كل رجل وكل امرأة وكل طفل- حسب أصول اللاهوت الفارسي- بواحد منها، وكان الفارسي التقي يعتقد (ولعله كان في هذا الاعتقاد متأثراً بعقيدة البابليين في الشياطين) أنه يوجد إلى جانب هؤلاء الملائكة والقديسين الخالدين الذين يعينون الناس على التحلي بالفضيلة سبعة شياطين (ديو) أو أرواح خبيثة تحوم في الهواء، وتغوي الناس على الدوام بارتكاب الجرائم والخطايا، وتشتبك أبد الدهر في حرب مع أهورا- مزدا ومع كل مظهر من مظاهر الحق والصلاح. وكان كبير هذه الزمرة من الشياطين أنكرا- مينبوما أو أهرمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهرمان أمير الظلمة وحاكم العالم السفلي. وهو الطراز الأسبق للشيطان الذي لا ينقطع عن فعل الشر، والذي يلوح أن اليهود أخذوا فكرته عن الفرس ثم أخذتها عنهم المسيحية. مثال ذلك أن أهرمان هو الذي خلق الأفاعي، والحشرات المؤذية، والجراد، والنمل، والشتاء، والظلمة، والجريمة، والخطيئة، واللواط، والحيض، وغيرها من مصائب الحياة. وهذه الآثام التي أوجدها الشيطان هي التي خربت الجنة حيث وضع أهورا مزدا الجدين الأعليين للجنس البشري(71).
ويبدو أن زردشت كان يعد هذه الأرواح الخبيثة آلهة زائفة، وأنها تجسيد خرافي من فعل العامة للقوى المعنوية المجردة التي تعترض رقى الإنسان. ولكن أتباعه رأوا أنه أيسر لهم أن يتصوروها كائنات حية فجسدوها وجعلوا




صفحة رقم : 632




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> زردشت


لها صوراً مازالوا يضاعفونها حتى بلغت جملة الشياطين في الديانة الفارسية عدة ملايين(72).
ولقد كانت هذه العقائد وقت أن جاء بها زردشت قريبة كل القرب من عقيدة التوحيد، بل إنها حتى بعد أن أقحموا فيها أهرمان والأرواح ظل فيها من التوحيد بقدر ما في المسيحية بإبليسها وشياطينها وملائكتها. والحق أن الإنسان ليسمع في الديانة المسيحية الأولى أصداء كثيرة للثنائية الفارسية، لا تقل عما يسمع فيها من أصداء التزمت العبراني، أو الفلسفة اليونانية. ولعل الفكرة الزردشتية عن الإله كانت ترضى عقلاً يهتم بدقائق الأشياء وتفاصيلها كعقل ماثيو آرنلد. ذلك أن أهورا مزدا، كان جماع قوى العالم التي تعمل للحق؛ والأخلاق الفاضلة لا تكون إلا بالتعاون مع هذه القوى. هذا إلا أن في فكرة الثنائية بعض ما يبرر ما تراه في العالم من تناقض والتواء وانحراف عن طريق الحق لم تفسره قط فكرة التوحيد وإذا كان رجال الدين الزردشتيون يحاجون أحياناً كما يحُاجّ متصوفة الهنود والفلاسفة المدرسيون، بأن الشر لا وجود له في حقيقة الأمر(73)، فإنهم في الواقع يعرضون على الناس ديناً يصلح كل الصلاحية لأن يمثل لأوساط الناس ما يصادفهم في الحياة من مشاكل خلقية تمثيلاً يقربها إلى عقولهم وتنطبع فيها انطباع الرواية المسرحية، وقد وعدوا أتباعهم بأن آخر فصل من هذه المسرحية سيكون خاتمة سعيدة- للرجل العادل. ذلك أن قوى الشر ستُغلب آخر الأمر ويكون مصيرها الفناء بعد أن يمر العالم بأربعة عهود طول كل منها ثلاثة آلاف عام يسيطر عليه فيها على التوالي أهورا مزدا وأهرمان. ويومئذ ينتصر الحق في كل مكان وينعدم الشر فلا يكون له من بعد وجود. ثم ينضم الصالحون إلى أهورا مزدا في الجنة ويسقط الخبيثون في هوة من الظلمة في خارجها يطعمون فيها أبد الدهر سُمَّاً زعافاً(74).




صفحة رقم : 633




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية



الفصل السادس




الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية




الإنسان ميدان قتال - النار المخلدة - الجحيم




والمطهر والجنة - عبادة مثرا - المجوس - البارسيين


لمّا صوّر الزردشتيون العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير والشر، أيقظوا بعملهم هذا في خيال الشعب حافزاً قوياً مبعثه قوة خارجة عن القوى البشرية، يحض على الأخلاق الفاضلة ويصونها. وكانوا يمثلون النفس البشرية، كما يمثلون الكون، في صورة ميدان كفاح بين الأرواح الخيّرة والأرواح الشريرة؛ وبذلك كان كل إنسان مقاتلاً، أراد ذلك أو لم يرده، في جيش الله أو في جيش الشيطان، وكان كل عمل يقوم به أو يغفله يرجح قضية أهورا مزدا أو قضية أهرمان. وتلك فلسفة فيها من المبادئ الأخلاقية ما يعجب به المرء أكثر مما يعجب بما فيها من مبادئ الدين- إذا سلمنا بأن الناس في حاجة إلى قوة غير القوى الطبيعية تهديهم إلى طريقهم الخُلق الكريم. فهي فلسفة تضفي على الحياة الإنسانية من المعنى ومن الكرامة ما لا تضفيه عليه النظرة العالمية القائلة بأن الإنسان ليس إلا حشرة دنيئة لا حول لها ولا طول (كما كان يقول أهل العصور الوسطى)، أو آلة تتحرك بنفسها كما يقول أهل هذه الأيام. ذلك أن بني الإنسان حسب تعاليم زردشت ليسوا مجرد بيادق تتحرك بغير إرادتها في هذه الحرب العالمية؛ بل كانت لهم إرادة حرة، لأن أهورا مزدا، كان يريدهم شخصيات تتمتع بكامل حقوقها، وفي مقدورهم أن يختاروا طريق النور أو طريق الكذب. فقد كان أهرمان هو الكذبة المخلدة، وكان كل كذاب خادماً له.




صفحة رقم : 634




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية


ونشأ من هذه الفكرة قانون أخلاقي مفصل رغم بساطته يدور كله حول القاعدة الذهبية وهي أن "الطبيعة لا تكون خيّرة إلا إذا منعت صاحبها أن يفعل بغيره ما ليس خيراً له هو نفسه" . وتقول الأبستاق أن على الإنسان واجبات ثلاثة. "أن يجعل العدو صديقاً وأن يجعل الخبيث طيباً، وأن يجعل الجاهل عالماً"(76). وأعظم الفضائل عنده هي التقوى، ويأتي بعدها مباشرة الشرف والأمانة عملاً وقولاً. وحرّم أخذ الربا من الفرس، ولكنه جعل الوفاء بالدين واجباً يكاد أن يكون مقدساً(77). ورأس الخطايا كلها (في الشريعة الأبستاقية كما هي في الشريعة الموسوية) هو الكفر. ولنا أن نحكم من العقوبات الصارمة التي كانت توقع على الملحدين بأن الإلحاد كان له وجود بين الفرس، وكان المرتدون عن الدين يعاقبون بالإعدام من غير توان(78). لكن ما أمر به السيد من إكرام ورحمة لم يكن يطبق من الوجهة العملية على الكفار، أي على الأجانب، لأن هؤلاء كانوا صنفاً منحطاً من الناس أظلهم أهورا- مزدا فلم يحبوا إلا بلادهم وحدها لكي لا يغزو بلاد الفرس، ويقول هيرودوت أن الفرس: "يرون أنهم خير الناس جميعاً من جميع الوجوه ". وهم يعتقدون أن غيرهم من الأمم تدنوا من الكمال بقدر ما يقرب موقعها الجغرافي من بلاد فارس، وأن " شر الناس أبعدهم عنها"(79). إن لهذه الألفاظ نغمة حديثة وإنها لتنطبق على جميع الأمم في هذه الأيام.
ولما كانت التقوى أعظم الفضائل على الإطلاق فإن أول ما يجب على الإنسان في هذه الحياة أن يعبد الله بالطهر والتضحية والصلاة. ولم تك فارس الزردشتية تسمح بإقامة الهياكل أو الأصنام، بل كانوا ينشئون المذابح المقدسة على قمم الجبال، وفي القصور، أو في قلب المدن، وكانوا يوقدون النار فوقها تكريماً لأهورا- مزدا




صفحة رقم : 635




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية


أو لغيره من صغار الآلهة. وكانوا يتخذون النار نفسها إلهاً يعبدونه ويسمونها أنار، ويعتقدون أنها ابن إله النور. وكانت كل أسرة تجتمع حول موقدها، تعمل على أن تظل نار بيتها متقدة لا تنطفئ أبدا، لأن ذلك من الطقوس المقررة في الدين. وكانت الشمس نار السماوات الخالدة تعبد بوصفها أقصى ما يتمثل فيها أهورا- مزدا أو مثرا كما عبدها إخناتون في مصر. وقد جاء في كتابهم المقدس: "يجب أن تعظم شمس الصباح إلى وقت الظهيرة وشمس الظهيرة يجب أن تعظم إلى العصر، وشمس العصر يجب أن تعظم حتى المساء... والذين لا يعظمون الشمس لا تحسب لهم أعمالهم الطيبة في ذلك اليوم"(80)، وكانوا يقربون إلى الشمس ، والى النار، والى أهورا- مزدا القرابين من الأزهار، والخبز، والفاكهة، والعطور، والثيران، والضأن، والجمال، والخيل، والحمير، وذكور الوعول. وكانوا في أقدم الأزمنة يقربون إليها الضحايا البشرية شأن غيرهم من الأمم(81). ولم يكن ينال الآلهة من هذه القرابين إلا رائحتها، أما ما يؤكل منها فقد كان يبقى للكهنة والمتعبدين، لأن الآلهة- على حد قول الكهنة- ليست في حاجة إلى أكثر من روح الضحية(82). وظلت العادة الآرية القديمة عادة تقديم عصير الهوما المسكر قرباناً إلى الآلهة باقية بعد انتشار الدين الزردشتي بزمن طويل، وإن كان زردشت نفسه جهر بسخطه على هذه العادة، وإن لم يرد لها ذكر في الأبستاق. وكان الكهنة يحتسون بعض هذا العصير المقدس، ويوزعون ما بقي منه على المؤمنين المجتمعين للصلاة(83).فإذا حال الفقر بين الناس وبين تقديم هذه القرابين الشهية، استعاضوا عنها بالزلفى إلى الآلهة بالأدعية والصلوات. وكان أهورا مزدا كما كان يهوه يحب الثناء ويتقبله، ومن ثم فقد وضع للمتقين من عباده طائفة رائعة من صفاته أضحت من الأوراد المحببة عند الفرس(84).
فإذا ما وهب الفارسي حياة التقى والصدق كان في وسعه أن يلقى الموت في




صفحة رقم : 636




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية


غير خوف؛ ومهما يكن من الأغراض التي يهدف إليها الدين فإن هذا المطلب كان أحد مطالبه الخفية. وكان من العقائد المقررة أن أستواد إله الموت يعثر على كل إنسان أيا كان مقره؛ فهو الباحث الواثق، الذي لا يستطيع الإفلات منه آدمي ولو كان من أولئك الذين يغوصون في باطن الأرض. كما فعل أفرسياب التركي الذي شاد له تحت أطباق الثرى قصراً من الحديد يبلغ ارتفاعه قدر قامة الإنسان ألف مرة، وأقام فيه مائة من الأعمدة، تدور في سمائه النجوم والقمر والشمس تغمره بأشعة النهار. وكان في هذا القصر يفعل كل ما يحلو له ويحيا أسعد حياة. ولكن لم يستطع رغم قوته وسحره أن يفر من أستواد ... كذلك لم يستطع النجاة منه من حفر الأرض الواسعة المستديرة التي تمتد أطرافها إلى أبعد الحدود كما فعل دهاق إذ طاف بالأرض شرقاً وغرباً يبحث عن الخلود فلم يعثر عليه. ولم يفده بأسه وقوته في النجاة من أستواد...ذلك أن أستواد المخاتل يأتي متخفياً إلى كل إنسان، لا يعظّم شخصاً، ولا يتقبل الثناء ولا الارتشاء، بل يهلك الناس بلا رحمة(85).
ولما كان من طبيعة الأديان أن ترهب وتنذر، كما تأسو وتبشر، فإن الفارسي رغم هذا كله لم يكن ينظر إلى الموت في غير رهبة إلا إذا كان جندياً يدافع عن قضية أهورا مزدا. فقد كان من وراء الموت، وهو أشد الخفايا كلها رهبة، وجحيم، وأعراف، وجنة. وكان لا بد لأرواح الموتى بأجمعها أن تجتاز قنطرة تصفى فيها، تجتازها الأرواح الطيبة فتصل في جانبها الثاني إلى "مسكن الفناء" حيث تلقاها وترحب بها "فتاة عذراء، ذات قوة وبهاء، وصدر ناهد، مليء" ؛ وهناك تعيش مع أهورا- مزدا سعيدة منعمة إلى أبد الدهر.
أما الروح الخبيثة فلا تستطيع أن تجتاز القنطرة فتتردى في درك من الجحيم يتناسب عمقه مع ما اقترفت من ذنوب(86). ولم يكن هذا الجحيم مجرد دار سفلى تذهب إليها كل الأرواح طيبة كانت أو خبيثة كما تصفها الأديان الأقدم عهداً




صفحة رقم : 637




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية


من الدين الزردشتي، بل كانت هاوية مظلمة مرعبة تعذب فيها الأرواح المذنبة أبد الآبدين(87). فإذا كانت حسنات الإنسان ترجح على سيئاته قاسى عذاباً مؤقتاً يطهره من الذنوب، وإذا كان قد ارتكب كثيراً من الخطايا ولكنه فعل الخير، لم يلبث في العذاب إلا اثني عشر ألف عام يرفع بعدها إلى السماء(88).
ويحدثنا الزردشتيون الصالحون بأن العالم يقترب من نهايته المحتومة؛ ذلك بأن مولد زردشت كان بداية الحقبة العالمية التي طولها ثلاثة آلاف سنة، وبعد أن يخرج من صلبه في فترات مختلفة ثلاثة من النبيين ينشرون تعاليمه في أطراف العالم، يحلّ يوم الحساب الأخير، وتقوم مملكة أهورا- مزدا، ويهلك أهرمان هو وجميع قوى الشر هلاكاً لا قيام لها بعده. ويومئذ تبدأ الأرواح الطيبة جميعها حياة جديدة في عالم خال من الشرور والظلام والآلام(89): "فيُبعث الموتى، وتعود الحياة إلى الأجسام، وتترد فيها الأنفاس ... ويخلو العالم المادي كله إلى أبد الدهر من الشيخوخة والموت والفساد والانحلال"(90).
وهنا أيضاً نستمع، كما نستمع في كتاب الموتى المصري، إلى التهديد بيوم الحساب الرهيب، وهو تهديد يلوح أنه انتقل من فلسفة الحشر الفارسية إلى الفلسفة اليهودية أيام أن كانت للفرس السيادة على فلسطين- ألا ما أروعه من وصف خليق بأن يرهب الأطفال فيصدعوا أوامر آبائهم!
ولما كان من أغراض الدين أن ييسر ذلك الواجب الصعب الضروري، واجب تذليل الصغار على يد الكبار، فإن من حق الكهنة الزردشتيين أن نقرّ لهم بما كانوا عليه من مهارة في وضع قواعد الدين. وإذا ما نظرنا إلى هذا الدين في مجموعهِ ألفيناه ديناً رائعاً أقل وحشية ونزعة حربية، وأقل وثنية وتخريفاً من الأديان المعاصرة له، وكان خليقاً بألا يُقضى عليه هذا القضاء العاجل.
وأتى على هذا الدين حين من الدهر في عهد دارا الأول كان فيه المظهر الروحي لأمة في أوج عزها. ولكن بني الإنسان يولعون بالشعر أكثر من ولعهم



أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:58 pm

صفحة رقم : 638




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية


بالمنطق، والناس يهلكون إذا خلت عقائدهم من بعض الأساطير. ومن أجل هذا ظلت عبادة مثرا وأنيتا- إله الشمس وإلهة الإنبات والخصب والتوالد والأنوثة- ظلت هذه العبادة قائمة إلى جانب دين أهورا- مزدا الرسمي تجد لها أتباعاً مخلصين، وعاد إسماهما إلى الظهور من جديد في النقوش الملكية أيام أرت خشتر الثاني، وأخذ اسم مثرا بعدئذ يعظم ويقوى، كما أخذ أهورا- مزدا يضمحل. وما أن وافت القرون الأولى من التاريخ الميلادي حتى انتشرت عبادة مثرا الإله الشاب ذو الوجه الوسيم- الذي تعلو وجهه هالة من نور ترمز إلى الوحدة القديمة بينه وبين الشمس- في جميع أنحاء الدولة الرومانية، وكان انتشارها هذا من أسباب الاحتفال بعيد الميلاد عند المسيحيين . ولو أن زردشت كان من المخلدين لتوارى خجلاً حين يرى تماثيل أنيتا أفرديتي الفرس، تقام في كثير من مدن الإمبراطورية الفارسية بعد بضعة قرون من وفاته(91). وما من شك في أنه كان يسوئه أن يجد صحفاً كثيرة من صحف وحيه قد خصها المجوس بطلاسم لشفاء المرضى والتنبؤ بالغيب والسحر(92) وذلك أن "الرجال العقلاء" أي كهنة المجوس قد غلبوا زردشت على أمره، كما يغلب الكهنة في آخر الأمر كل عاتٍ عاصياً كان أو زنديقاً، وذلك بأن يضموه إلى دينهم أو يستوعبوه فيه؛ فسلكوا أولاً في عداد المجوس، ثم لم يلبثوا أن نسوا ذكره(93). وما لبث هؤلاء المجوس بزهدهم وتقشفهم، واقتصارهم على زوجة واحدة، ومراعاتهم لمئات من الطقوس المقدسة، ومن تطهرهم بمئات الأساليب اتباعا لأوامر الدين وطقوسه، وبامتناعهم عن أكل اللحوم، وبملبسهم البسيط الذي لا تكلف ولا تظاهر فيه، ما لبث هؤلاء أن اشتهروا بالحكمة بين الشعوب الأجنبية،




صفحة رقم : 639




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية


ومنهم اليونان أنفسهم، كما أصبح لهم على مواطنيهم سلطان لا تكاد تعرف له حدود. لقد أصبح ملوك الفرس أنفسهم من تلاميذهم، لا يقدمون على أمر ذي بال إلا بعد استشارتهم فيه، فقد كانت الطبقات العليا منهم حكماء، والسفلي متنبئين وسحرة، ينظرون في النجوم ويفسرون الأحلام(94)؛ وهل ثمة شاهد على كعبهم اكبر من أن اللفظ الإنكليزي المقابل لكلمة "السحر" Magic مشتق من اسمهم. وأخذت العناصر الزردشتية في الديانة الفارسية تتضاءل عاماً بعد عام؛ نعم إنها انتعشت وقتاً ما أيام الأسرة الساسانية (226- 651 ب. م)، ولكن الفتح الإسلامي وغزو التتار قضيا عليها القضاء الأخير. ولا يوجد أثر للديانة الزردشتية في هذه الأيام إلا بين عشائر قليلة العدد في ولاية فارس، وبين البارسيين من الهنود الذين يبلغ عددهم تسعين ألفاً.
ولا تزال هذه الجماعة حفيظة على كتبها المقدسة، تخلص لها وتدرسها، وتعبد النار والتراب، والأرض والماء، وتقدسها، وتعرض موتاها في "أبراج الصمت" للطيور الجارحة كي لا تدنس العناصر المقدسة بدفنها في الأرض أو حرقها في الهواء. وهم قوم ذوو أخلاق سامية وآداب رفيعة، وهم شاهد حي على فضل الدين الزردشتي وما له من أثر عظيم في تهذيب بني الإنسان وتمدينهم.




صفحة رقم : 640




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> آداب الفرس وأخلاقهم



الفصل السابع




آداب الفرس وأخلاقهم




العنف والشرف - قانون النظافة - خطايا




الجسد - العذارى والأعزب - الزواج - النساء-




الأطفال - آراء الفرس في التربية والتعليم


إن الذي يدهشنا بحق هو ما بقي لدى الميديين والفرس من وحشية رغم دينهم هذا. انظر إلى ما كتبه دارا الأول أعظم ملوكهم في نقش بهستون: "وقبض على فرافارتش وجيء به إليَّ. فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وقطّع لسانه، وفقأت عينيه، وأبقيته في بلاطي مقيداً بالأغلال يراه كل الناس. ثم صلبته بعدئذ في إكباتانا...وكان أهورا- مزدا أكبر معين لي، فقد بطش جيشي برعاية أهورا- مزدا بالجيش الثائر، وقبضوا على سترنكخارا وجاءوا به إليَّ، فجدعت أنفه، وصلمت أذنيه، وفقأت عينيه. وبقى مقيداً بالأغلال في بلاطي يراه الناس جميعاً، ثم صلبته"(95). وإن في حوادث الإعدام التي يقصها أفلوطرخس في سيرة أرت خشتر لصورة مروعة لما كانت عليه أخلاق ملوك الفرس في العهد الأخير. لقد كان الخونة يقضى عليهم بلا شفقة ولا رحمة: فكانوا يصلبون هم وزعمائهم، ثم يباع أتباعهم بيع الرقيق، وتنهب مدنهم، ويخصي غلمانهم، وتسبى بناتهم(96)ويبعن. ولكن ليس من العدالة في شيء أن يحكم الإنسان على شعب بأسره من سيرة ملوكه. ذلك أن الفضيلة لا ترويها الأخبار، وأفاضل الناس لا تاريخ لهم، شأنهم في هذا شأن الأمم الهنيئة السعيدة. بل إن الملوك أنفسهم كانوا يبدون في بعض المناسبات شيئاً من مكارم الأخلاق، وكانوا يشتهرون بين اليونان الغادرين بوفائهم. فإذا عاهدوا أوفوا بعهدهم، وكان من دواعي فخرهم




صفحة رقم : 641




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> آداب الفرس وأخلاقهم


أنهم لا ينقضون كلمتهم(97). ومما يجب أن نذكره للفرس مقروناً بالثناء والتقدير، أن من العسير علينا أن نجد في تاريخهم فارسياً قد استؤجر ليحارب الفرس، على حين أن أي إنسان كان يسعه أن يستأجر اليونان ليحارب اليونان .
وخليق بنا أن نذكر أن خلافهم لم تبلغ من القسوة ذلك الحد الذي يتبادر إلى أذهاننا من قراءة تاريخهم الحافل بالدم والحديد. لقد كان الفرس يتحلون بالصراحة والكرم وحفظ الود وسخاء اليد(99). يراعون آداب المجالس ويحرصون عليها حرصاً لا يكاد يقل عن حرص الصينيين. وكانوا إذا تقابل منهم شخصان متساويان في المرتبة تعانقا وقبل كل منهما الآخر في شفتيه؛ فإذا قابل الواحد منهم من هو أعلى منه منزلة انحنى له انحناءة كبيرة تشعر بالخضوع والاحترام، وإذا التقى بمن هو أقل منه قدّم له خده ليقبله، فإذا قابل أحد السوقة اكتفى بإحناء رأسه(100). وكانوا يستنكرون تناول شيء من الطعام أو الشراب على قارعة الطريق، كما يسوؤهم أن يبصق الإنسان أو يتمخط أمام الناس(101). وقد ظلوا أيام خشيرشا مقتصدين في مأكلهم ومشربهم، لا يطعمون إلا وجبة واحدة في اليوم، ولا يشربون إلا الماء القراح(102). وكانوا يعدون النظافة أكبر النعم لا تفضلها إلا الحياة نفسها، وأن الأعمال الطيبة إذا صدرت عن أيد قذرة كانت لا قيمة لها، "لأن الإنسان إذا لم يقض على الفساد (ولعله يريد "الجراثيم")فإن الملائكة لا تسكن جسمه"(103). وكانوا يفرضون أشد العقوبات على من يتسببون في نشر الأمراض المعدية. وكان الأهلون يجتمعون في الأعياد وكلهم يرتدون الملابس البيضاء(104). وكانت الشريعة الأبستاقية كالشريعتين البرهمية والموسوية مليئة بمراسم التطهير والحذر من القذارة. وفي كتاب الزردشتيين المقدس فقرات طويلة مملة خصت كلها بشرح القواعد




صفحة رقم : 642




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> آداب الفرس وأخلاقهم


الواجب اتباعها لطهارة الجسد والروح(105). وقد جاء فيها أن قلامة الأظفار، وقصاصات الشعر، وإخراج النفس من الفم كلها أقذار يجب على الفارسي العاقل أن يتجنبها إلا إذا كانت قد طهرت من قبل(106).
كذلك كانت الشرائع الفارسية صارمة في عقاب خطايا الجسد صرامة الشرائع اليهودية، فكان الاستمناء باليد يعاقب عليه بالجلد، وكان عقاب من يرتكب جريمة الزنا واللواط والسحاق من الرجال والنساء "أن يقتلوا لأنهم أحق بالقتل من الأفاعي الزاحفة والذئاب العاوية"(107). لكن في مقدورنا أن نستدل من الفقرة الآتية التي أوردها هيرودوت على وجود الخلف المعتاد بين القول والعمل: "يرى الفرس أن خطف النساء قوة واقتداراً عمل لا يأتيه إلا الأشرار، ولكن اشتغال الإنسان بالثأر لهن إذا اختطفن من أعمال الحمقى؛ أما إهمالهن إذا اختطفن فمن أعمال الحكماء؛ فغير خاف أنهن لو لم يكن راغبات لما اختطفن"(108). ويقول في موضع آخر إن الفرس "قد أخذوا عن اليونان اشتهاء الغلمان"(109)، وإنا وإن كنا لا نستطيع أن نثق بكل ما يقوله هذا الراوية العظيم لنستشف ما يؤيد قوله هذا في العبارات القاسية التي تشنع بها الأبستاق على اللواط. فهي تقول في مواضع كثيرة إن هذا الذنب لا يغتفر وإنه " لا شيء يمحوه قط"(110).
ولم يكن القانون يشجع البنات على أن يظللن عذارى ولا العزاب على أن يبقوا بلا زواج، ولكنه كان يبيح التسري وتعدد الزوجات، ذلك بأن المجتمعات الحربية في حاجة ماسة إلى كثرة الأبناء. وفي ذلك تقول الأبستاق: "إن الرجل الذي له زوجة يفضل كثيراً من لا زوجة له، والرجل الذي يعول أسرة يفضل كثيراً من لا أسرة له، والذي له أبناء يفضل من لا أبناء له، والرجل ذو الثراء أفضل كثيراً ممن لا ثروة له"(111)، وتلك كلها معايير للمركز الاجتماعي شائعة بين مختلف الأمم، وكانت الأسرة لديهم أقدس النظم الاجتماعية.




صفحة رقم : 643




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> آداب الفرس وأخلاقهم


وكان من الأسئلة التي ألقاها زردشت على أهورا- مزدا: "أي إلهي خالق العالم المادي- إلهي القدوس! ما هو المكان الثاني الذي تحس الأرض فيه أنها أسعد ما تكون؟". ويجيبه أهورا- مزدا عن سؤاله هذا بقوله : "إنه المكان الذي يشيد فيه أحد المؤمنين بيتا في داخله كاهن، وفيه ماشية، وفيه زوجة، وفيه أطفال، وفيه أنعام طيبة، والذي تكثر فيه الماشية بعدئذ من النتاج، وتكثر فيه الزوجة من الأبناء، وينمو فيه الطفل، وتشتعل فيه النار، وتزداد فيه جميع نعم الحياة"(112).
وكان الحيوان- خاصة الكلب- جزءاً أساسياً من الأسرة، كما كان شأنه في الوصية الأخيرة التي أنزلت على موسى، وكان واجبا مفروضاً على أقرب الأسر إلى أنثى الحيوان الحامل الضالة أن تعنى بها(113)، وفرضت أشد العقوبات على من يطعمون الكلاب طعاماً فاسداً، أو طعاماً شديد الحرارة؛ وكان عقاب من "يضرب كلبة علتها ثلاث كلاب "أن يجلد أربعمائة وألف جلدة(114). وكانوا يعظمون الثور لما له من قدرة عظيمة على الإخصاب. كما كانوا يصلون للبقرة ويقربون لها القربان(115).
وكان الآباء ينظمون شئون الزواج لمن يبلغ الحُلُم من أبنائهم. وكان مجال الاختيار لديهم واسعاً، فقد قيل لنا إن الأخ كان يتزوج أخته، والأب ابنته، والأم ولدها(116). وكان التسريّ من المتع التي اختص بها الأغنياء، ولم يكن الأشراف يخرجون للحرب إلا ومعه سراريهم(117). وكان عدد السراري في قصر الملك في العصور المتأخرة من تاريخ الإمبراطورية يتراوح بين 360ر329، فقد أصبحت العادة في تلك الأيام ألا يضاجع الملك امرأة مرتين إلا إذا كانت رائعة الجمال(118).
وكان للمرأة في بلاد الفرس مقام سام في أيام زردشت كما هي عادة القدماء؛




صفحة رقم : 644




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> آداب الفرس وأخلاقهم


فقد كانت تسير بين الناس بكامل حريتها سافرة الوجه، وكانت تمتلك العقار وتصرف شئونه، وكان في وسعها أن تدير شئون زوجها باسمه أو بتوكيل منه. ثم انحطت منزلتها بعد دارا، وخاصة بين الأغنياء، فأما المرأة الفقيرة فقد احتفظت بحريته في التنقل لاضطرارها إلى العمل، وأما غير الفقيرات فقد كانت العزلة المفروضة عليهن في أيام حيضهن على الدوام تمتد حتى تشمل جميع حياتهن الاجتماعية، وكان ذلك أساس نظام البردة عند المسلمين. ولم تكن نساء الطبقات العليا يجرؤن على الخروج من بيوتهن إلا في هوادج مسجفة، ولم يكن يسمح لهن بالاختلاط بالرجال علناً. وحرم على المتزوجات منهن أن يرين أحداً من الرجال ولو كانوا أقرب الناس إليهن كآبائهن أو إخوانهن. ولم تذكر النساء قط أو يرسمن في النقوش أو التماثيل العامة في بلاد الفرس القديمة. أما السراري فكن أكثر من غيرهن حرية، إذ كان للنساء في جميع الأوقات سلطان قوى في بلاط الملوك حتى في العهود الأخيرة، وكن ينافسن الخصيان في تدبير المؤامرات، والملوك في تمحيص وسائل التعذيب .
وكان الأبناء كما كان الزواج من الشروط الأساسية للإجلال والإكبار. فالذكور منهم ذوو فائدة اقتصادية لآبائهم وحربية لملوكهم؛ أما البنات فلم يكن يرغب فيهن، لأنهن كن ينشأن لغير بيوتهن، وليستفيد منهن غير آبائهن. ومن أقوال الفرس في هذا المعنى: "إن الرجال لا يدعون الله أن يرزقهم بنات، والملائكة لا تحسبهن من النعم التي أنعم بها على بني الإنسان"(120).




صفحة رقم : 645




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> آداب الفرس وأخلاقهم


وكان الملك في كل عام يرسل الهدايا إلى الآباء الكثيري الأبناء، كأن هذه الهدايا ثمناً لدمائهم يدفع مقدماً(121).
وكان الحمل سفاحاً سواء ممن لم يتزوجن من البنات أو ممن تزوجن منهن يغتفر أحياناً إذا لم تجهض الحامل، ذلك أن الإجهاض كان في تقديرهم أشد جرماً من سائر الجرائم، وكان عقابه الإعدام(122).
وقد ورد في أحد الشروح القديمة المسماة بالبندهش وصف لجملة وسائل لمنع الحمل، ولكنها تحذر الناس من الالتجاء إليها.
ومما جاء فيها: "وفيما يختص بالتناسل قيل في الكتاب المنزل إن المرأة إذا خرجت من الحيض تظل عشر ليال وعشرة أيام عرضة للحمل إذا اقترب منها الرجال"(123).
وكان الوليد يبقى في أحضان أمه حتى السنة الخامسة من عمره ثم يحتضنه أبوه حتى السابعة، وفي هذه السنة يدخل المدرسة. وكان التعليم يقصر في الغالب على أبناء الأغنياء، ويتولاه الكهنة عادة. فكان التلاميذ يجتمعون في الهيكل أو في بيت الكاهن؛ وكان من المبادئ المقررة ألا تقوم مدرسة بالقرب من السوق حتى لا يكون ما يسودها من كذب وسباب وغش سبباً في إفساد الصغار(124). وكانت الكتب الدراسية هي الأبستاق وشروحها، وكانت مواد الدراسة تشمل الدين، والطب أو القانون، أما طريقة الدرس فكانت الحفظ عن ظهر قلب، وتكرار الفقرات الطويلة غيباً(125). أما أبناء الطبقات غير الموسرة فلم يكونوا يفسدون بتلقي ذلك النوع من التعليم، بل كان تعليمهم مقصوراً على ثلاثة أشياء- ركوب الخيل، والرمي بالقوس، وقول الحق(126). وكان التعليم العالي عند أبناء الأثرياء يمتد إلى السنة العشرين أو الرابعة والعشرين، وكان من يعد إعداداً خاصا لتولي المناصب العامة أو حكم الولايات؛ وكانوا كلهم بلا استثناء يدربون على القتال. وكانت حياة الطلاب في هذه المدارس العليا




صفحة رقم : 646




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> آداب الفرس وأخلاقهم


حياة شاقة. فكان التلاميذ يستيقظون مبكرين، ويدربون على الجري مسافات طويلة، وعلى ركوب الخيل الجامحة وهي تركض بأقصى سرعتها، والسباحة، وصيد الحيوان، ومطاردة اللصوص، وفلاحة الأرض، وغرس الأشجار، والمشي مسافات طويلة في حر الشمس اللافح أو البرد القارس؛ وكانوا يدربون على تحمل جميع تقلبات الجو القاسية، وأن يعيشوا على الطعام الخشن البسيط، وأن يعبروا الأنهار دون أن تبتل ملابسهم أو دروعهم(127).
لقد كان هذا في الحق تعليماً ينشرح له صدر فردرك نتشة في اللحظات التي يستطيع فيها نسيان ثقافة اليونان الأقدمين وما فيها من تنوع وبريق.




صفحة رقم : 647




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> العلوم والفنون



الفصل الثامن




العلوم والفنون




الطب - الفنون الصغرى - قبرا قورش ودارا -




قصور برسبوليس - نقش الرماة - قيمة الفن الفارسي


يلوح أن الفرس قد تعلموا ألا يعلموا أبناءهم أي فن من الفنون عدا فن الحياة. فأما الأدب فقد كان في رأيهم ترفاً قل أن يحتاجوا إليه، وأما العلوم فقد كانت سلعاً يستطيعون أن يستوردوها من بابل. نعم إنهم كانوا يستسيغون بعض الاستساغة الشعر والروايات الخيالية، ولكنهم تركوا هذين الفنين للمستأجرين وذوي المنزلة الدنيا منهم، وآثروا متعة الحديث الفكه على لذة السكون والوحدة في البحث والقراءة.
وكان الشعر عندهم ُيغنى أكثر مما يقرأ، فلما مات المغنون مات الشعر معهم. وكان الطب في بادئ الأمر من أعمال الكهنة، وكانوا يمارسونه على أساس أن الشيطان خلق 99999 مرضاً يجب أن تعالج بمزيج من السحر ومراعاة قواعد الصحة العامة. وكانوا يعتمدون في علاج المرضى على الرقى أكثر من اعتمادهم على العقاقير، وحجتهم في هذا أن الرقى، إن لم تشف من المرض، لا تقتل المريض، وهو ما لا يستطاع قوله عن العقاقير(128). إلا أن الطب مع ذلك قد نشأ بين غير رجال الدين حينما زادت ثروة الفرس زيادة مطردة، حتى إذا كان عهد أرت خشتر الثاني تكونت في البلاد نقابة للأطباء والجراحين وحدد القانون أجورهم- كما حددها قانون حمورابي- وفقاً لمنزلة المريض الاجتماعية(129).
وقد نص القانون على أن يعالج الكهنة من غير أجر، وكان يطلب إلى الطبيب الناشئ عند الفرس أن يبدأ حياته الطبية بعلاج الكفرة والأجانب،


أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:59 pm

صفحة رقم : 648




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> العلوم والفنون


كما نفعل نحن هذه الأيام، إذ يقضي الطبيب المقيم سنة أو سنتين في المران على أجسام المهاجرين والفقراء. بذلك قضى ربُّ النور نفسه إذ قال:
"يا خالق الكون يا قدوس، إذا شاء عبد من عباد الله أن يمارس فن العلاج، فأي الناس يجب أن يجرب فيهم حذقه؟ أيجربه في عباد أهورا- مزدا أم في عبدة الشياطين؟. فأجاب أهورا- مزدا بقوله: يجب أن يجرب نفسه في عبدة الشياطين لا في عباد الله؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانياً من عبدة الشياطين فمات؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثاً من عبدة الشياطين فمات، كان غير صالح أبد الدهر؛ ويجب أن يمتنع عن علاج أي عبد من عباد الله...وإذا عالج بالمبضع عبداً من عبدة الشياطين وشفى؛ وإذا عالج بالمبضع عبداً ثانيا من عبدة الشياطين وشفى؛ فإذا عالج بالمبضع عبداً ثالثا من عبدة الشياطين وشفى، كان صالحا أبد الدهر؛ وكان له إذا أراد أن يعالج عباد الله، ويشفيهم من أمراضهم بالمبضع"(130).
ولما كان الفرس قد وهبوا أنفسهم لإقامة صرح الإمبراطورية، فإن وقتهم لم يتسع لغير الحرب والقتال، ولذلك كان جل اعتمادهم في الفنون على ما يأتيهم من البلاد الأجنبية، شأنهم في هذا شأن الرومان سواء بسواء. نعم إنهم كانوا يتذوقون جمال الأشياء، ولكنهم كانوا يكلون إلى الفنانين الأجانب أو إلى من في بلادهم من الفنانين أبناء الأجانب صنع هذه الأشياء، ويحصلون من الولايات التابعة لهم على المال الذي يؤدون منه أجور أولئك الفنانين. وكانت لهم بيوت جميلة وحدائق غنّاء، تستحيل في بعض الأحيان بساتين للصيد ومسارح للحيوان؛ وكان لهم أثاث قّيم غالي الثمن: من نضد مصفحة برقائق الفضة والذهب أو مطعمة بها، وسرر فرشت عليها أغطية جاءوا بها من غير بلادهم، وطنافس لينة جمعت كل ألوان الأرض والسماء يفرشون بها أرض حجراتهم(131). وكانوا يشربون في كؤوس من الذهب،




صفحة رقم : 649




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> العلوم والفنون


ويزينون نضدهم ورفوفهم بمزهريات من صنع الأجانب . وكانوا مولعين بالعزف والغناء وبأنغام الناي والقيثار والنقر على الطبول والدفوف.
وكانت الجواهر كثيرة لديهم من تيجان وأقراط، إلى خلاخيل وأحذية مذهبة. وحتى الرجال أنفسهم كانوا يتباهون بحليهم يزينون بها أعناقهم وآذانهم وأذرعهم. وكانوا يستوردون اللؤلؤ، والياقوت، والزمرد، واللازورد من خارج بلادهم؛ أما الفيروز فكانوا يستخرجونه من المناجم الفارسية، وكان هو المادة التي تصنع منها الطبقة الموسرة أختامها. وكانت لهم حليّ ذات أشكال رهيبة غريبة تمثل في ظنهم ملامح الشياطين المعروفة لديهم. وكان ملكهم يجلس على عرش من ذهب تغطيه أكنان ذهبية مرفوعة على قوائم من الذهب(133).
ولم يكن للفرس طراز فني خاص إلا في العمارة. فقد شادوا في أيام قورش، ودارا الأول، وخشيارشاى الأول مقابر وقصوراً، كشف علماء الآثار القليل منها، وقد يستطيع المعول والمجرف- وهما المؤرخان اللذان لا ينقطعان عن البحث والتنقيب- أن يكشفا لنا في المستقبل القريب ما يعلي من تقديرنا للفن الفارسي . ولقد أبقى لنا الإسكندر بفضل ما أثر عنه من كريم الشيم قبر قورش في بازار جادة، فأصبح طريق القوافل في هذه الأيام يمر بالطوار العاري الذي كان يقوم عليه من قبل قصر قورش وقصر ابنه المخبول. ولم يبق الآن من هذين القصرين غير عمد قليلة محطمة في مواضع متفرقة، أو كتف باب أو نافذة عليها نقوش تمثل ملامح قورش. وعلى مقربة من هذا الطوار في السهل المجاور له يشاهد القبر وقد




صفحة رقم : 650




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> العلوم والفنون


عدا عليه الزمان في خلال القرون الأربعة والعشرين، التي مرت به؛ فهو الآن ضريح حجري بسيط، يوناني في شكله وتحرج صانعه، يرتفع إلى ما يقرب من خمس وثلاثين قدماً فوق قاعدة مدرجة. وما من شك في أن هذا الأثر كان أعلى مما هو الآن وأنه كانت له قاعدة تتناسب مع ضخامته. أما الآن فإنه يبدو عارياً عطلاً من الزينة مهجوراً، توحي صورته بالجمال الذي لا يكاد يبقى منه أثر فيه؛ وكل ما يبعثه في النفس هو الأسى والحزن، لأن الجماد أبقى على الزمان من سواه. وإلى أقصى الجنوب عند نقش رستم غير بعيد من برسبوليس يقوم قبر دارا الأول منحوتاً في واجهة صخرة في الجبل كأنه ضريح هندوسي، وقد نقش مدخله ليمثل لمن يراه واجهة قصر لا قبر، وأقيمت عند هذا المدخل أربعة عمد دقيقة حول باب غير شامخ. ومن فوق هذا الباب شخوص قائمة كأنها فوق سقف يمثل أهل البلاد الخاضعة للفرس تحمل منصة رسم عليها الملك كأنه يعبد أهورا- مزدا والقمر. والفكرة التي أوحت بهذا الرسم وطريقة تنفيذها تسري فيهما روح البساطة والرقة الأرستقراطية.
والمباني الفارسية الأخرى التي نجت من الحروب والغارات والسرقات وفعل الأجواء مدى ألفين من الأعوام، هي خرائب القصور. فقد شاد ملوك الفرس الأولون في إكباتانا مسكناً لهم من خشب الأرز والسرو المصفح بالمعادن، كان لا يزال قائماً في أيام يوليبويس (حوالي 150 ق.م)، أما الآن فلم يبق له اثر. أما أروع الآثار الفارسية القديمة التي تنفرج عنها الأرض الكتوم يوماً بعد يوم فهي الدرج الحجرية والأرصفة والأعمدة التي كشفت في برسبوليس. ذلك أن دارا ومن جاء بعده من ملوك الفرس قد أقاموا لهم فيها قصوراً يحاولون بها أن يرجئوا الوقت الذي تنسى فيه أسمائهم. ولسنا نجد في تاريخ العمائر كلها ما يشبه الدرج الخارجية العظيمة التي كان القادم من السهل يرقاها إلى الربوة التي شيدت عليها القصور.




صفحة رقم : 651




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> العلوم والفنون


وأكبر الظن أن الفرس أخذوا هذا الطراز عن الدرج التي كانت توصل إلى الزجورات، أي أبراج أرض الجزيرة، وتلتف حولها، ولكنها كان لها مع ذلك خصائص لا يشاركها فيها غيرها من المباني. ذلك أنها كانت سهلة المرتقى واسعة يستطيع عشرة من ركاب الخيل أن يصعدوها جنبا إلى جنب . وما من شك في أن هذه الدرج كانت مدخلا بديعاً إلى الطور الفسيح الذي يعلو عن الأرض المجاورة له علواً يتراوح بين عشرين وخمسين قدماً، والذي يبلغ طوله خمسمائة وألف قدم، وعرضه ألفاً، والذي شيدت عليه القصور الملكية . وكان عند ملتقى الدرج الصاعدة من الجانبين مدخل أمامي كبير نصبت على جانبيه تماثيل ثيران مجنحة ذات رؤوس بشرية كأبشع ما خلفه الفن الآشوري. وكانت في الجهة اليمنى بعد هذا المدخل آية العمائر الفارسية على الإطلاق، ونعنى بها الجهل- منار أو الردهة العظمى التي شادها خشيارشاى الأول، والتي كانت هي وغرفات الانتظار المتصلة بها تشغل رقعة من الأرض تربى مساحتها على مائة ألف قدم مربع، فهي أوسع- إذا كان للسعة قيمة- من معبد الكرنك الفسيح ومن أية كنيسة أوربية عدا كنيسة ميلان(138).
وكانت هناك مجموعة أخرى من الدرج تؤدي إلى هذه الردهة الكبرى، وتحف بها من كلا الجانبين جدر لزينتها قليلة الارتفاع، وعلى جوانبها نقوش بارزة قليلاً هي أجمل ما كشف من النقوش الفارسية القليلة البروز إلى هذا اليوم(139).ولا يزال ثلاثة عشر عموداً من الاثنين والسبعين التي كانت قائمة في قصر خشيارشاى باقية إلى اليوم بين خربات القصر، كأنها جذوع نخل في واحة مقفرة موحشة. وتعد هذه الأعمدة المبتورة من الأعمال البشرية القريبة من الكمال، وهي أرفع من




صفحة رقم : 652




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> العلوم والفنون


مثيلاتها في مصر القديمة أو اليونان، وتعلو في الجو علواً لا تصل إليه معظم الأعمدة الأخرى، إذ يبلغ ارتفاعها أربعة وستين قدماً، وقد خطت في جذوعها ستة وأربعون محزاً، وتشبه قواعدها أجراساً تغطيها أوراق أشجار مقلوبة الوضع، ومعظم تيجانها في صورة لفائف من الأزهار تكاد تشبه اللفائف "الأيونية"، يعلوها صدرا ثورين أو حصانين مقرنين يتصل عنقاهما من الخلف وترتكز عليهما عوارض السقف. ولسنا نشك في أن هذه العوارض كانت من الخشب، لأن أمثال هذه العمد المتباعدة السريعة العطب لا تقوى على تحمل الدعامات الحجرية الثقيلة. وكانت أكتاف الأبواب وكفافات النوافذ من حجارة سود مزخرفة براقة كالأبنوس. أما الجدران فكانت من الآجر يغطيها القرميد المصقول رسمت عليه صور زاهية تمثل حيوانات وأزهاراً. وكانت العمد والفصوص والدرج من حجر الجير الجميل أو الرخام الأزرق الصلد. وقام من خلف الجهل- منار، أي من شرقيها "بهو العمد المائة" ولم يبق من هذا البهو سوى عمود واحد والحدود الخارجة لتصميمه العام. ولعل هذين القصرين كانا أجمل ما شاده الإنسان في العالم القديم والحديث على السواء.
وأقام أرت خشتر الأول والثاني في مدينة السوس قصرين لم يبق منهما إلا أساسهما. ذلك أنهما شُيّدا من الآجر المكسو بأجمل ما عرف من القرميد ذي الطلاء الزجاجي. وفي السوس عثر المنقبون على "نقش الرماة" وهم في أكبر الظن "المخلدون" الأمناء حراس الملك. ويبدو للناظر إلى هؤلاء الرماة ذوي الطلعة المهيبة أنهم قد ازينوا لحضور حفلة في القصر وليسوا خارجين لقتال أو حرب. فجلابيبهم تخطف الأبصار بألوانها الزاهية، وشعورهم ولحاهم مجعدة تجعيداً عجيباً، وهم يمسكون بأيديهم في قوة وخيلاء رماحهم رمز مناصبهم الرسمية. ولم يكن التصوير والنحت في السوس وفي غيرها من العواصم فنين مستقلين، بل كانا تابعين لفن العمارة، كذلك كانت الكثرة الغالبة من التماثيل من صنع




صفحة رقم : 653




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> العلوم والفنون


فنانين جيء بهم من أشور وبابل وبلاد اليونان(140).
وفي وسع الإنسان أن يقول عن الفن الفارسي ما يستطيع أن يقوله عن الفنون كلها تقريباً، وهو أن عناصره كلها مستعارة من خارج البلاد. فقبر قورش استعير شكله الخارجي من ليديا، وعمده الحجرية الرفيعة منقولة عن مثيلاتها من العمد الآشورية مع شيء من التحسين، وبهو الأعمدة الضخمة والنقوش القليلة البروز تشهد بأنها قد أوحت بها أبهاء مصر ونقوشها، وتيجان الأعمدة التي على صورة الحيوان عدوى تسربت إليهم من نينوى وبابل. أما الذي جعل فن العمارة الفارسي فناً قائماً بذاته مختلفاً عن غيره من فنون العمارة فهو اجتماع هذه العناصر كلها والمواءمة بينها، وهو الذوق الأرستقراطي الذي رقق العمد المصرية المهولة وكتل أرض الجزيرة الثقيلة فأحالها بريقاً ورشاقة، وتناسباً وتناغماً، يطالعنا في برسبوليس.
وكان اليونان يستمعون إلى وصف هذه الأبهاء وقصورهم وهم أشد ما يكونون دهشة منها وإعجابا بها، لأن تجارهم المجدين العاملين وساساتهم المطلعين كانوا يحدثونهم عن فنون الفرس وترفهم بما يثير عواطفهم ويحفزهم على منافستهم. وسرعان ما استبدلوا برؤوس العمد المزدوجة وبالحيوانات ذوات الأعناق الجامدة المتصلبة القائمة فوق العمد الرشيقة، نقول سرعان ما استبدلوا بها الفصوص الملساء التي نراها في تيجان العمد الأيونية؛ ثم قصروا سوقها، وزادوها قوة لكي تتحمل أي عارضة ترتكز عليها سواء أكانت من الخشب أو الحجر. والحق أنه لم يكن بين فني العمارة في برسبوليس وأثينا إلا خطوة واحدة، فقد كان عالم الشرق الأدنى على بكرة أبيه، وقد أوشك أن يستغرق في سبات عميق كأنه الموت إلا أنه موت لا يدوم إلا ألف عام، كان عالم الشرق يتأهب ليستودع اليونان تراثه القديم.




صفحة رقم : 654




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الانحطاط



الفصل التاسع




الانحطاط




كيف تموت الأمم - خشيارشاي - فقرة عن




التقتيل - أرت خشتر الثاني - قورش الأصغر -




دار الصغير - أسباب الانحطاط السياسية والحربية




والخلقية - الإسكندر - فتح فارس والزحف على الهند


لم تكن الإمبراطورية التي أقامها دارا تعمر إلا قرناً من الزمان. ذلك أن قواها الطبيعية المادية والأدبية قد تصدعت على أثر الهزائم التي منيت بها في مراثون، وسلاميس، وبلاتية. وأهمل الأباطرة شئون الحرب، وانغمسوا في الشهوات، وتردت الأمة في مهاوي الجمود والفساد. ويكاد اضمحلال فارس أن يكون في جملته وتفاصيله صورة معجلة من سقوط روما؛ فقد اقترن فيه عنف الأباطرة وإهمالهم بفساد أخلاق الشعب وانحلالهم، وحل بالفرس ما حل بالميديين قبلهم، إذ استحال ما كانوا يتصفون به من تقشف وزهد منذ أجيال قليلة إلى استمتاع طليق، وأصبح أكبر ما تهتم به الطبقات الأرستقراطية بملء بطونها بلذيذ المأكل والمشرب؛ وشرع هؤلاء الرجال الذين فرضوا على أنفسهم من قبل ألا يتناولوا إلا وجبة واحدة من الطعام في اليوم يفسرون معنى الوجبة الواحدة بأنها وجبة تمتد من الظهر إلى غسق الليل، فامتلأت مخازن مؤنهم بكل ما لذ وطاب، وكثيراً ما كانوا يقدمون الذبائح كاملة لضيوفهم، وملئوا بطونهم باللحوم السمينة النادرة، وتفننوا في ابتكار أنواع المُشَهّيات والحلوى(140أ). وغُصّت بيوت الأثرياء بالخدم الفاسدين المفسدين، وأصبح السُّكْر الرذيلة الشائعة بين كل الطبقات(140ب). وملاك القول أن قورش ودارا قد خلقا بلاد الفرس وأن خشيارشاي ورثها عنهما ثم جاء من خَلَفَهُم من الملوك فدمروها تدميرا.




صفحة رقم : 655




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الانحطاط


وكان خشيارشاي الأول ملكاً اجتمعت فيه كل صفات الملوك- الجسمية -؛ كان طويل القامة، قوي الجسم، يقر له الملوك بأنه أجمل إنسان في الإمبراطورية كلها(141). ولكن الرجل الوسيم غير المغتر لم يخلق بعد في هذا العالم، كما لم يخلق فيه بعد الرجل المغتر الذي لم تَقُدْهُ امرأة من أنفه. لقد كان خشيارشاي َنهِباً لسراريه، وما كان أكثرهن، وضرب أسوأ الأمثال لشعبه في الفسق والفجور. ولقد كانت هزيمته في سلاميس هزيمة طبيعية متوقعة؛ ذلك أن كل ما كان له من أسباب العظمة هو حب التعاظم لا قدرته على مغالبة الخطوب، والتحلي بصفات الملوك الحقة إذا دعا الداعي وتأزمت الأمور. وبعد أن قضى هذا الملك عشرين عاماً في غمرة الدسائس الشهوانية، والتراخي والإهمال في شئون الحكم، اغتاله أرتيان أحد رجال حاشيته، ووري في قبره باحتفال ملكي مهيب واغتباط شامل.
وليس في التاريخ كله ما يماثل المجازر المروعة والدم المراق اللذين تطالعنا بهما سجلات الفرس الملكية إلا سجلات رومة بعد تيبيريوس. لقد اغتال أرت خشتر الأول مغتال خشيارشاي، وبعد أن حكم أرت خشتر حكماً طويلاً خلفه خشيارشاي الثاني، ثم اغتاله بعد بضعة أسابيع من حكمه أخ له غير شقيق يدعى سجديانوس، ثم قتله دارا الثاني بعد ستة أشهر كما أمر بقتل تريتتشميس فأخمد بقتله فتنة أثار عجاجها في البلاد، ثم أمر بتقطيع زوجته إربا ودفن أمه وأخوته وأخواته أحياء. وخلف دارا الثاني على العرش ابنه أرت خشتر الثاني، واضطر هذا الملك أن يقاتل في واقعة كونسكا أخاه قورش الأصغر قتالاً مريراً، لأن هذا الشاب حاول أن يغتصب الملك. وحكم أرت خشتر حكماً طويلاً، وقتل ابنه دارا لأنه ائتمر به، ثم مات بائساً حزيناً إذ وجد أن ابناً آخر له يدعى أوكوس يأتمر به ليقتله. وحكم أوكوس عشرين سنة ثم مات مسموماً على يد




صفحة رقم : 656




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الانحطاط


قائده بجواس، وأجلس هذا القائد السفاح "صانع الملوك" ابناً لأوكوس يسمى أرسيس على العرش، واغتال أخاً لأرسيس ليثبت بذلك مركز صنيعته، ثم اغتال أرسيس وابناه الصغار، ورفع على العرش كودومانوس، وهو صديق له مخنث مطواع. وحكم كودومانوس ثماني سنين، وتسمى باسم دارا الثالث ثم مات وهو يحارب الإسكندر في واقعة إربل حين كانت بلاده تلفظ آخر أنفاسها. ولسنا نعرف في دولة من الدول حتى الدول الديمقراطية في هذه الأيام قائداً أقل كفاية وجدارة بقيادة الجيوش من هذا القائد.
أن الإمبراطوريات بطبيعة تكوينها سريعة الانحلال، وإن الذين يرثونها تعوزهم جهود الذين ينشئونها، وذلك في الوقت الذي تهب فيه الشعوب الخاضعة لسلطانها وتستجمع قواها لتناضل في سبيل ما فقدته من حريتها. كذلك ليس من طبيعة الأشياء أن تبقي الأمم التي تختلف لغاتها وأديانها وأخلاقها وتقاليدها متحدة متماسكة زمناً طويلاً. ذلك أن هذه الوحدة لا تقوم على أساس متماسك يحفظها من التصدع، ولا بد من الالتجاء إلى القوة مرة بعد مرة للاحتفاظ بهذه الرابطة المصطنعة. ولم يعمل الفرس في عهد إمبراطوريتهم التي دامت مائتي عام شيئاَ يخفف ما بين الشعوب الخاضعة لحكمهم من تباين، أو يضعف من أثر القوى الطاردة التي تعمل على تفكيك دولتهم، بل قنعت هذه الإمبراطورية بأن تحكم خليطاً من الأمم، ولم تفكر في يوم من الأيام في أن تنشئ منها دولة حقيقية. لذلك أخذ الاحتفاظ بوحدة الإمبراطورية يزداد صعوبة عاماً بعد عام، وكلما تراخى عزم الأباطرة قويت أطماع الولاة وزادوا جرأة، وأخذوا يرهبون أو يبتاعون بالمال قواد الجيش وأمناء الإمبراطور الذين أرسلوا إلى الولايات ليشتركوا مع الولاة في الحكم ويحدوا من سلطانهم. ثم أخذ الولاة يقودون مواردهم كما يحلو لهم، ويأتمرون بالملك المرة بعد المرة. وأوهنت الثورات والحروب المتكررة حيوية فارس الصغيرة، ذلك أن الحروب قد قضت على زهرة شبابها القوى حتى لم يبق من


أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 8:59 pm


صفحة رقم : 657




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الانحطاط


أبنائها إلا كل حذر محتاط. فلما أن جند هؤلاء لمواجهة الإسكندر تبين أنهم لا يكاد يوجد فيهم إلا كل منخوب القلب جبان. ولم يكن شئ من التحسين قد أدخل على تدريب الجنود أو على عتادهم الحربي، ولم يكن قوادهم على علم بما يستجد من فنون القتال. فلما دارت رحى الحرب ارتكب هؤلاء القواد أشنع الأغلاط، وكانت عساكرهم المختلة النظام، والتي كان معظمها مسلحاً بالسهام، أهدافاً صالحة لرماح المقدونيين الطويلة وفيالقهم المتراصة(142). لقد كان الإسكندر يلهو ويعبث، ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا بعد أن يتم له النصر، أما قواد الفرس فقد جاءوا معهم بسراريهم، ولم يكن منهم من هو راغب في القتال، ولم يكن في الجيش الفارسي جنود جديرون بهذا الاسم إلا مرتزقة اليونان.
ولقد تبين منذ اليوم الذي فر فيه خشيارشاي بعد هزيمته في سلاميس أن اليونان سيتحدون الدولة الفارسية في يوم من الأيام. ذلك أن فارس كانت تسيطر على أحد طرفي الطريق التجاري العظيم الذي يربط غرب آسية بالبحر الأبيض المتوسط، وأن بلاد اليونان تسيطر على طرفه الثاني، وكان ما ركب من طباع الناس من أقدم الأزمنة من طمع وحرص على الكسب مما يجعل هذه الحال مثارا للحرب بين الأمتين، ولم يكن اليونان ينتظرون لبدء الهجوم إلا أن يقوم بينهم سيد منهم يضم شتاتهم ويؤلف بين قلوبهم.
واجتاز الإسكندر مضيق الدردنيل دون أن يلقى مقاومة، ومعه قوة من رجاله، خالها الآسيويون ضئيلة، إذ كانت مؤلفة من ثلاثين ألفاً من المشاة وخمسة آلاف من الفرسان . وحاول جيش فارسي مؤلف من أربعين ألف مقاتل أن يصد جيش الإسكندر عند نهر غرانيقوس، فخسر الفرس في الواقعة عشرين ألف مقاتل، ولم يخسر الجيش اليوناني إلا 115 رجلاً(144). واتجه




صفحة رقم : 658




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الانحطاط


الإسكندر جنوباً وشرقاً، يخضع بعض المدائن، ويستسلم له البعض الآخر؛ ودام على ذلك عاماً كاملاً. وجمع دارا الثالث في هذه الأثناء خليطاً من 000ر600 رجل بين جندي ومغامر. وتطلَّب عبورهم نهر الفرات على جسر من القوارب خمسة أيام، كما تطلَّب حمل أموال الملك ستمائة بغل وثلاثمائة جمل(145). ولما تقابل الجيشان عند أسوس، لم يكن مع الإسكندر إلا ثلاثون ألفاً من رجاله، ولكن دارا كان يتصف بكل ما تتطلبه تصاريف الأقدار من غباء، فاختار للقتال ميداناً لا يتسع إلا لجزء صغير من جيشه أن يقاتل اليونان على حين يبقى سائره معطلاً. فلما انتهت المجزرة وجد أن اليونان قد خسروا نحو 450 رجلاً، وخسر الفرس 000ر110 رجل، قتل معظمهم وهم يفرون مذعورين. وطارد الإسكندر الجيوش المهزومة مطاردة طائشة عبر في أثنائها مجرى مائياً على جسر من جثث الفرس(146). وفر دارا من الميدان فرار الأنذال، وترك فيه أمه وزوجة من أزواجه وابنتين وعربة وخيمة مترفة. وعامل الإسكندر السيدات الفارسيات بشهامة أدهشت مؤرخين اليونان، واكتفى بأن تزوج إحدى ابنتي دارا. وإذا جاز لنا أن نصدق ما قاله كونتس كورتيس، فإن أم دارا أحبت الإسكندر حباً لم تر معه بدَّا من أن تقضي على حياتها بالامتناع عن الطعام حين علمت بوفاته(147).
وواصل الشاب الفاتح بعدئذ سيره في بطئ، يخيل إلى الإنسان أنه بطئ المستهتر، يريد أن يبسط سلطانه على غرب آسية بأجمعه. غير أن بطأه هذا لم يكن إلا ناشئاً من رغبته في ألا يتقدم قبل أن ينظم فتوحه، ويؤمن مواصلاته. وخرج سكان مدينة بابل على بكرة أبيهم، كما خرج أهل بيت المقدس من قبل، للترحيب به، وقدموا له مدينتهم وما فيها من ذهب؛ فتقبل منهم ما عرضوه في لطف وبشاشة، وسرّهم بأن أمر بإصلاح هياكلهم التي هدمها خشيارشاي من قبل دون تدبر وروية. وأرسل إليه دارا يعرض عليه الصلح، وكان مما عرضه أن يقدم للإسكندر




صفحة رقم : 659




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الانحطاط


عشرة آلاف تالنت من الذهب ، إذا رد إليه أمه وزوجته وابنتيه، وأن يزوجه ابنته، وأن يعترف له بالسيادة على جميع بلاد آسية الواقعة في غرب الفرات، وأنه لا يطلب إليه في نظير هذا كله إلا أن يأمر الإسكندر بوقف القتال وأن يتخذه صديقاً له. وقال بارمنيو القائد الثاني لجيوش اليونان أنه لو كان الإسكندر لقبل هذه العروض الطيبة مسروراً بشرفه من شر هزيمة قد تكون ساحقة. فما كان جواب الإسكندر إلا أنه لو كان هو برمنيو لقبل هذه العروض، أما وهو الإسكندر فقد رد على دارا بأن عروضه لا معنى لها، لأنه (أي الإسكندر) يمتلك بالفعل ما يعرضه عليه من بلاد آسية، ولأن في وسعه أن يتزوج ابنة الإمبراطور متى شاء. ووجد دارا أن لا أمل له في عقد الصلح مع هذا المنطق المستهتر، فوجّه همه على كره منه لجمع جيش آخر أكبر من جيشه الأول.
وكان الإسكندر في أثناء ذلك قد استولى على صور، وضم مصر إلى أملاكه، ثم اخترق إمبراطوريته العظيمة متجهاً نحو حواضرها النائية. وبعد مسيرة عشرين يوماً بعد بابل وصل جيشه إلى مدينة السوس، واستولى عليها دون أن يلقى مقاومة، ثم تقدم إلى برسبوليس بسرعة لم تمكن حراس الخزائن الملكية من إخفاء ما فيها من أموال. وفيها أتى الإسكندر عملاً يعد وصمة عار في حياته الحافلة بجلائل الأعمال، وأتاه رغم نصيحة برمنيو ليكسب بذلك- كما يقول مؤرخوه- رضاء تييس إحدى سراريه . ذلك أنه أحرق قصور برسبوليس عن آخرها، وأباح لجنوده نهب المدينة. فلما أن رفع روح جنوده المعنوية بما أباح لهم من السلب، وبما أغدقه عليهم من العطايا، اتجه نحو الشمال ليلقى دارا لآخر مرة.
وكان دارا قد جمع من الولايات الفارسية- وخاصة من ولاياته الشرقية-




صفحة رقم : 660




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> فارس -> الانحطاط


جيشاً جديداً عدته ألف ألف مقاتل(148)- يتألف من فرس، وميديين، وبابليين، وسوريين، وأرمن، وكبادوشيين، وبلخيين، وأرخزيان، وساكى، وهنود. ولم يسلحهم بالقسى والسهام، بل جهزهم بالحراب، والرماح والدروع، وأركبهم الخيل والفيلة والعربات ذات الدواليب التي ركبت فيها المناجل لكي يحصد بها أعدائه حصد الحنطة في الحقول.
حشدت آسية العجوز هذه القوة الهائلة لتحاول بها مرة أخرى أن تدفع عن نفسها أوربا الناهضة الفتية. والتقى الإسكندر ومعه سبعة آلاف من الفرسان، وأربعون ألفا من المشاة بهذا الخليط المختل النظام غير المتجانس، ودارت رحى القتال عند كواكميلا . واستطاع بتفوق أسلحته وحسن قيادته وشجاعته أن يبدد شمله في يوم واحد- واختار دارا مرة أخرى أن يفر من الميدان، ولكن قواده ساءهم هذا الفرار المزري للمرة الثانية، فقتلوه غيلة في خيمته. وأعدم الإسكندر من استطاع أن يقبض عليهم من قاتليه، وأرسل جثة دارا مكرمة إلى برسبوليس في موكب حافل، وأمر أن تدفن كما تدفن أجسام الملوك الأكمينيين وسرعان ما انضوى الشعب الفارسي تحت راية الإسكندر إعجابا منه بكرم أخلاقه ونضرة شبابه. ونظم شئون فارس وجعلها ولاية من ولايات الدولة المقدونية، وترك فيها حامية قوية لحراستها، ثم واصل زحفه إلى الهند.




صفحة رقم : 661




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> مكان المسرحية



الكتاب الثاني




الهند وجيرانها




الباب الرابع عشر




آساس الهند




الفصل الأول




مكان المسرحية




إعادة كشف الهند - نظرة عجلى إلى الخريطة - المؤتمرات المناخية


ليس ثمة ما يجلل طلب العلم في عصرنا بعارٍ أكثر من حداثة معرفته بالهند ونقص هذه المعرفة، فهاهنا شبه جزيرة فسيحة الأرجاء يبلغ اتساعها ما يقرب من مليوني ميل مربع، فهي ثلثا الولايات المتحدة في مساحتها، وهي أكبر من بريطانيا العظمى- صاحبة السيادة عليها - عشرين مرة، ويسكنها ثلاثمائة وعشرون مليوناً من الأنفس، وهو عدد أكبر من سكان أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية مجتمعتين، أو هو خُمسُ سكان الأرض جميعاً، وفيها اتصال عجيب في مراحل تطورها وفي مدنيتها من "موهنجو- دارو"، سنة 2900 ق.م أو قبل ذلك، إلى غاندي ورامان وطاغور، ولها من العقائد الدينية ما يمثل كل مراحل العقيدة من الوثنية البربرية إلى أدق عقيدة في وحدة الوجود وأكثرها روحانية، ولها من الفلاسفة من عزفوا مئات الأنغام على وتر التوحيد بادئين من أسفار "اليوبانشاد" في القرن الثامن قبل الميلاد، إلى شانكارا في القرن الثامن بعد الميلاد، ومنها من العلماء الذين تقدموا بالفلك منذ ثلاثة آلاف عام والذين ظفروا بجوائز "نوبل" في عصرنا هذا، ويسودها دستور ديمقراطي لا نستطيع أن نتعقبه إلى أصوله الأولى في القرى، كما سادها في العواصم حكام حكماء خيّرون مثل "أشوكا" و "أكبر" وأنشد لها من الشعراء من تغنى لهم بملاحم عظمى تكاد تعادل هومر في قدم العهد، ومن




صفحة رقم : 662




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> مكان المسرحية


يستوقف أسماع العالم اليوم، ولها من رجال الفن من شيدوا لها المعابد الجبارة لآلهة الهندوس، تراها منتشرة من التبت إلى سيلان؛ ومن كامبوديا إلى جاوة، أو مَن زخرفوا القصور الرائعة بالعشرات لملوك المغول وملكاتهم- تلك هي الهند التي يفتح لنا أبوابها البحثُ العلمي الدءوب، كأنها قارة عقلية جديدة يفتتحها البحث العلمي أمام العقل الغربي الذي كان بالأمس يظن أن المدنية نتاج أوربي خالص لا يشاركها فيه بلد آخر .




صفحة رقم : 663




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> مكان المسرحية


إن مسرح التاريخ مثلّث كبير تضيق جوانبه تدريجياً من ثلوج الهملايا الدائمة إلى حرارة سيلان التي لم تبرد منذ الأزل، وفي ركن من جهة اليسار تقع فارس التي تشبه الهند الفيدية شبهاً قوياً في أهلها ولغتها وآلهتها، فإذا ما تتبعت الحدود الشمالية متجهاً نحو الشرق، وقعت على أفغانستان، حيث ترى "قندهار"، وهي "جاندهار" قديماً، وفيها التقى النحت اليوناني الهندوسي حيناً ثم افترقا بحيث لا يلتقيان إلى الأبد، وإلى الشمال ترى "كابل" التي أغار منها المسلمون والمغول تلك الإغارات الدموية التي مكنتهم من الهند مدى ألف عام؛ فإذا توغلْت في حدود الهند مسيرة يوم قصير وأنت راكب من "كابل" وصلت "بشاور" التي لا تزال على العهد القديم الذي ألفناه في أهل الشمال؛ وأعني به الميل إلى غزو الجنوب، والْحَظْ كم تقرب الروسيا من الهند عند جبال البامير وممرات هندوكوش، فها هنا سترى كثيراً من المشكلات السياسية يثور؛ وإلى الطرف الشمالي من الهند مباشرة يقع إقليم "كشمير" الذي يدل اسمه نفسه على مجلد تليد ظفرت به صناعات النسيج في الهند وجنوبيها يقع البنجاب، ومعناها (أرض الأنهار الخمسة) بمدينتيه العظيمتين "لاهور" و "شِمْلا" عاصمة الصيف عند سطح الهملايا، ومعناها (بيت الثلج).
ويجري نهر السند خلال الجزء الغربي من بنجاب، وهو نهر جبار طوله




صفحة رقم : 664




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> مكان المسرحية


ألف ميل، واسمه مشتق من اللفظة الإقليمية التي معناها "نهر" (وهي سندو)، وقد حورها الفرس إلى كلمة "هندو" ثم أطلقوها على الهند الشمالية كلها في كلمتهم "هندوستان" (أي بلاد الأنهار)، ومن هذه الكلمة الفارسية "هندو" نحت الإغريق الغزاة كلمة "الهند" وهي التي بقيت لنا إلى اليوم.
وينبع من البنجاب نهرا جمنة والكنج، اللذان يجريان في خطوٍ وتيد، إلى الجنوب الشرقي، أما "جمنة" فيروي العاصمة الجديدة "دلهي" ويعكس على صفحته "تاج محل" عند "أجرا"، وأما نهر الكنج فيزداد اتساعاً كلما سار نحو "المدينة المقدسة" بنارس، ويطَّهر بمائه مائة ألف عابد من عُبَّاده كل يوم، ويخصب بمصباته الاثنى عشر إقليم البنغال والعاصمة البريطانية القديمة كلكتا؛ فإذا ما ازددت إيغالاً في مسيرك ناحية الشرق، ألفيت "بورما" بمعابدها الذهبية في رانجون وطريقها المشرق بشمسه إلى مندلاي، وعد من مندلاي عابراً الهند إلى مطارها الشرقي في كراتشي. تجدك قد قطعت في الهواء طريقاً يكاد يقرب من المسافة التي تقطعها بالطائرة من نيويورك إلى لوس أنجلوس، وإذ أنت في طائرتك عائداً، سترى جنوبي السند إقليم راجبوتانا، وهو الإقليم الذي شهد مدن راجبوت المعروفة ببطولتها، والمشهورة على الدهر، وهي "جواليور" و "شيتور" و "جابور" و "آجمر" و "أورايبور"، وإلى الجنوب والغرب ترى "مكان الرئاسة" أو إقليم بمباي، الذي تموج مدائنه بأهليها: سورات، احمد أباد، بمباي، بونا، وإلى الجنوب والشرق تقع دويلتان متقدمتان يحكمهما حكام وطنيون، وهما حيدر أباد وميسور، بعاصمتيهما الرائعتين المسماتين بهذين الاسمين؛ وعلى الساحل الغربي تقع "جوا"، وعلى الساحل الشرقي تقع "بندشيري"، حيث ترك الغزاة البريطانيون للبرتغاليين وللفرنسيين- على هذا التوالي- بضعة أميال مربعة على سبيل التعويض، وعلى امتداد خليج البنغال تمتد "رئاسة مِدْرَاسْ" بمدينتها مِدْرَاسْ المعروفة بدقة الحكم فيها، مركزاً لها، وبمعابدها الفخمة في اكتئاب عند "نانجور" و "ترتشيفوبولي" و "مادورا" و "رامشفارام" تزين حدودها




صفحة رقم : 665




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> مكان المسرحية


الجنوبية، ثم يأتي "جسر آدم"- وهو خط من الجزائر الغائصة في الماء- يأتي بعدئذ فيشير لنا داعياً أن نعبر عليه المضيق إلى سيلان حيث ازدهرت المدينة منذ ستة عشر قرناً، وكل هذه الأرجاء لا تزيد عن جزء صغير من الهند.
فلا ينبغي إذن أن ننظر إليها نظرتنا إلى أمة واحدة مثل مصر أو بابل أو إنجلترا، بل لابد من اعتبارها قارة بأسرها فيها من كثرة السكان واختلاف اللغات ما في القارة الأوربية، وتكاد تشبه القارة الأوربية كذلك في اختلاف أجوائها وآدابها وفلسفاتها وفنونها؛ فالجزء الشمالي منها يتعرض للرياح الباردة التي تهب عليه من الهملايا، كما يتعرض للضباب الذي يتكون حين تلتقي هذه الرياح الباردة بشمس الجنوب؛ وفي البنجاب تكونت بفعل الأنهار سهول خصيبة عظيمة لا يدانيها في خصوبتها بلد آخر(4)، لكنك إذا ما توجهت جنوبي وديان تلك الأنهار، وجدت الشمس تحكم حكم المستبد الذي لا يقف استبداده شيء، ولهذا جفت السهول وتعرّت، وتحتاج في زراعتها لكي تثمر، لا إلى مجرد الفلاحة، بل تحتاج من الجهود الشاقة إلى ما يكاد يدنو من العبودية المميتة(5) ولذلك لا يقيم الإنجليز في الهند أكثر من خمس سنوات في المرة الواحدة،، فإذا رأيت مائة ألف إنجليزي يحكمون من الهنود عدداً يكبر عددهم ثلاثة آلاف مرة فاعلم أن سبب ذلك هو أنهم لم يقيموا هناك مدة تكفي لصبغهم بصبغة الإقليم.
وتنتشر في أرجاء البلاد هنا وهناك غابات بدائية لم تزل باقية تكوّن خُمْس البلاد، ترتع فيها النمور والفهود والذئاب والثعابين، وفي الثلث الجنوبي من الهند يقع إقليم "دِكن" حيث تزداد حرارة الشمس جفافاً إلا إذا لطفتها نسائم تهب عليها من البحر، لكن الحرارة هي العنصر الرئيسي السائد من




صفحة رقم : 666




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> مكان المسرحية


دلهي إلى سيلان، تلك الحرارة التي أضعفت الأبدان، وقصرت الشباب، وأنتجت للناس هناك ديانتهم وفلسفتهم المسالمتين، فليس يخفف عنك هذه الحرارة إلا أن تجلس ساكناً، لا تعمل شيئاً، ولا ترغب في شيء، أو قد تأتي أشهر الصيف فتأتي رياحها الموسمية برطوبة منعشة ومطر مخصب من البحر، فإذا امتنعت الرياح الموسمية عن هبوبها، تضورت الهند بالجوع، وطافت بها أحلام النرفانا.




صفحة رقم : 667




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أقدم المدنيات



الفصل الثاني




أقدم المدنيات




الهند قبل التاريخ - موهنجو دارو - عصرها القديم


في العهد الذي كان المؤرخون فيه يفترضون أن التاريخ قد بدأ سَيْره باليونان، آمنت أوربا إيماناً اغتبطت له، بأن الهند قد كانت مباءة وحشية حتى هاجر إليها "الآريون" أبناء أعمام الأوربيين، هاجروا من شُطئان بحر قزوين ليحملوا معهم الفنون والعلوم إلى شبه جزيرة وحشية يكتنفها ظلام الليل، لكن الأبحاث الحديثة قد أفسدت هذه الصورة الممتعة- كما ستغير أبحاث المستقبل من الصورة التي نرسمها على هذه الصفحات، ففي الهند- كما سائر أقطار الأرض- بدايات المدنية دفينة تحت الثرى، ويستحيل على فؤوس البحث الأثري كلها أن تستخرجها جميعاً، فبقايا العصر الحجري القديم تملأ خزانات كثيرة في متاحف كلكتا ومِدْرَاسْ وبمباي، كما وجدت أشياء من العصر الحجري الحديث في كل دولة تقريباً(6)، ومع ذلك فقد كانت هذه ثقافات لم تصبح بعد مدنية.
وفي سنة 1924م ارتجت دنيا العلم الجديد مرة أخري بأنباء جاءتها من الهند، إذ أعلن "سير جون مارشال" أن أعوانه الهنود- وبصفة خاصة "ر.د. بانرجي"- قد اكتشفوا عند "موهنجو- دارو" على الضفة الغربية من السند الأدنى- آثاراً من مدنية يبدو أنها أقدم عهداً من أية مدنية أخري يعرفها المؤرخون، فهنالك - كما في "هارابا" على بعد بضع مئات من الأميال ناحية الشمال- أزيلت طبقة من الأرض عن أربع مدن أو خمس بعضها فوق بعض طبقات، فيها مئات من المنازل والدكاكين بنيت بالآجر بناء متيناً، واصطفت على امتداد طرق واسعة حيناً وحارات ضيقة حيناً آخر،




صفحة رقم : 668




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أقدم المدنيات


وترتفع حالات كثيرة عدة طبقات، ولنترك "سير جون" يحدثنا عن تقديره لعمر هذه الآثار.
"تؤيد هذه الكشوف قيام حياة مدنية بالغة الرقي، في السند (وهو إقليم في "رئاسة بمباي" يقع في أعلى الشمال) والبنجاب خلال الألف الرابعة والثالثة من السنين قبل الميلاد، ووجود آبار وحمامات ونظام دقيق للصرف في كثير من هذه المنازل، يدل على حالة اجتماعية في حياة أهل تلك المدن تساوي على الأقل ما وجدناه في "سومر"، وتفوق ما كان سائداً في العصر نفسه في بابل ومصر.. وحتى "أور" لا تضارع بمنازلها من حيث البناء، منازل موهنجو- دارو"(7).
وبين الموجودات في هذه الأماكن آنية منزلية وأدوات للزينة، وخزف مطلي وبغير طلاء، صاغه الإنسان بيده في بعض الحالات وبالعجلة في بعضها الآخر، وتماثيل من الخزف، وزهْر اللعب وشطرنج، ونقود أقدم من أي نقود وجدناها من قبل، وأكثر من ألف ختم معظمها محفور ومكتوب بكتابة تصويرية نجهلها، وخزف مزخرف من الطراز الأول، وحفر على الحجر أجود مما وجدناه في سومر(Cool وأسلحة وأدوات من النحاس، ونموذج نحاسي لعربة ذات عجلتين (وهي من أقدم ما لدينا من أمثلة للعربة ذات العجلات) وأساور وأقراط وعقود وغيرها من الحلي المصنوع من الذهب والفضة صناعة- كما يقول مارشال- "بلغت من دقة الإتقان ومهارة الصقل حداً يجعلها صالحة للعرض عند صائغ في شارع بُند (شارع في لندن مشهور بجودة معروضاته) في يومنا هذا، فذلك أقرب إلى المعقول من أن تستخرج من منزل مما قبل التاريخ يرجع إلى سنة 5000 ق.م"(9).
ومن العجيب أن الطبقات الدنيا من هذه الآثار أرفع في فنونها من الطبقات العليا- كأنما أقدم هذه الآثار عهداً يرجع إلى مدنية أقدم من مدنية زميلتها في الطبقات العليا بمئات السنين، وقد يكون بآلافها وبعض الآلات هناك




صفحة رقم : 669




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أقدم المدنيات


مصنوع من الحجر، وبعضها من النحاس، وبعضها من البرونز، مما قد يدل على أن هذه الثقافة السندية قد نشأت في مرحلة انتقال بين عصر الحجر، وعصر البرونز من حيث المادة التي تصنع منها الآلات(10).
وتنهض الدلائل على أن "موهنجو- دارو" كانت في ذروتها حين شيد خوفو الهرم الأكبر، وعلى أنها كانت تتصل مع سومر وبابل بصلات تجارية ودينية وفنية، وأنها ظلت قائمة أكثر من ثلاثة آلاف عام، حتى كان القرن الثالث قبل الميلاد ، ولسنا نستطيع الجزم برأي فيما إذا كانت




صفحة رقم : 670




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أقدم المدنيات


"موهنجو- دارو" تمثل أقدم ما كشف عنه الإنسان من مدنيات، كما يعتقد "مارشال"، لكن إخراج ما تكنه الهند في جوفها قد بدأ أمس القريب، فالبحث الأثري لم ينتقل من مصر عبر الجزيرة إلى الهند، إلا في حياتنا، فلما ننكت تربة الهند كما فعلنا بتربة مصر، فربما نجد هناك مدنية أقدم من المدنية التي ازدهرت من غرين النيل .




صفحة رقم : 671




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> الهنود الآريون



الفصل الثالث




الهنود الآريون




السكان الأصليون - الغزاة - المجتمع




القروي - نظام الطبقات -المحاربون -




الكهنة - التجار - الصناع - المنبوذون


على الرغم مما تدل عليه آثار السند وميسور من اتصال في تسلسل التاريخ، فإنا نشعر بأن بين ازدهار "موهنجو - دارو" وبين دخول الآريين، فجوة في علمنا، أو ربما كان الأقرب إلى الصواب هو أن علمنا بالماضي فجوة شاءتها المصادفة في جهلنا، وتشتمل آثار السند على خاتم عجيب يتألف من رأسين من رؤوس الثعابين، وهو الرمز المميز لأقدم سكان الهند ممن عرف التاريخ - هؤلاء هم "الناجا" الذين كانوا يعبدون الثعبان، والذين وجدهم الآريون الغزاة قابضين على المناطق الشمالية، والذين لا تزال سلالتهم متلكئة على قيد الحياة في التلال البعيدة(20)، فإذا توغلت ناحية الجنوب، وجدت الأرض التي كان يسكنها عندئذ قوم سود البشرة فطس الأنوف، ويسمون "بالدرافيديين"- ولا نعلم أصل الكلمة - وقد كانوا على شيء من المدنية حين هبط عليهم الآريون، وبحارتهم المغامرون شقوا البحار حتى بلغوا سومر وبابل، وعرفت مدائنهم كثيراً من رقة العيش وأسباب الترف(21)، فيجوز أن الآريين قد استمدوا من هؤلاء الناس نظام الجماعة القروية وملكية الأرض والضرائب(22) ولا يزال "الدكن" إلى يومنا هذا مسكناً رئيسيأ للدرافيديين ومركزاً لعاداتهم ولغتهم وأدبهم وفنونهم.
ولم تكن غزوة الآريين لهذه القبائل المزدهرة، وانتصارهم عليها، إلا حلقة




صفحة رقم : 672




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> الهنود الآريون


من سلسلة متصلة من الغزوات كانت تقع على فترات منتظمة بين الشمال والجنوب، فينقض الشمال انقضاضاً عنيفاً على الجنوب المستقر الآمن، وقد كان ذلك مجرى من المجاري الرئيسية التي سارت فيها حوادث التاريخ، إذ أخذت المدنيات تعلو على سطحه وتهبط كأنها أدوار الفيضان يعلو عصراً بعد عصر، فالآريون قد هبطوا على الدرافيديين، والآخيّون والدوريّون قد هبطوا على الكريتيِّين والإيجيِّين، والجرمان قد هبطوا على الرومان، واللمبارديون قد هبطوا على الإيطاليين، والإنجليز قد هبطوا على العالم بأسره، وسيظل الشمال إلى الأبد يمد العالم بالحاكمين والمقاتلين، والجنوب يمده بالفنانين والقديسين، فالجنة إنما يرثها الجبناء.
فمن هؤلاء الآريون الذين كانوا يضربون في الأرض؟ أما هم أنفسهم فقد استعملوا كلمة "آري" ليعنوا بها "الأشراف" (في السنسكريتية آرياً معناها شريف)، لكن ربما كان هذا الاشتقاق المبنى على النزعة الوطنية أحد الأفكار البَعْدِيَّة التي تُلقي شعاعاً من التهكم المر على علم اللغات ، ومن المرجح جداً أن يكونوا قد جاءوا من تلك المنطقة القزوينية التي كان بنو أعمامهم من الفرس يسمونها "إيريانا فيجو" ومعناها "الوطن الآري" ، وفي نفس




صفحة رقم : 673




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> الهنود الآريون


الوقت تقريباً الذي كان الكاسيّون الآريون يكتسحون فيه بابل، كان الآريون الفيديون قد أخذوا يدخلون الهند.
وكان هؤلاء الآريون أقرب إلى المهاجرين منهم إلى الفاتحين، شأنهم في ذلك شأن الجرمان في غزوهم لإيطاليا، لكنهم جاءوا ومعهم أجسام قوية، وشهيّة عارمة للطعام والشراب، ووحشية لا تتردد في الهجوم، ومهارة وشجاعة في الحروب، سرعان ما أدت بهم هذه الخصال كلها إلى السيادة على الهند الشمالية، وكانوا يحاربون بالقسىّ والسهام، يقودهم مقاتلون مدرعون في عربات حربية، أدواتهم في القتال هي الفؤوس إن كانوا على مقربة من العدو، والحراب يقذفون بها إن كانوا على مبعدة منه، وكانوا من الأخلاق البدائية على درجة لا تسمح بالنفاق، ولذلك أخضعوا الهند دون أن يدّعوا أنهم يرفعون مستواها، وكل ما في الأمر أرادوا أرضاً ومرعى لماشيتهم، ولم يحيطوا حروبهم بدعوى الشرف القومي، لكنهم قصدوا بالحرب صراحة إلى "رغبة في مزيد من الأبقار"(26) ، وجعلوا خطوة فخطوة يزحفون شرقاً على امتداد نهري السند والكنج، حتى خضعت الهندوستان كلها لسلطانهم.
ولما تحولوا من الحرب المسلحة إلى زراعة الأرض واستقرارها طفقت قبائلهم بالتدريج تأتلف لتِكوّن دويلات، كل منها يحكمها ملك يقيده مجلس من المقاتلين، وكل قبيلة يقودها "راجا" أو رئيس يحدد قوته مجلس قبلي، وكل قبيلة تتألف من جماعات قروية مستقل بعضها عن بعض استقلالاً نسبياً، ويحكم الجماعة القروية مجلس من رؤوس العائلات، ويروى عن بوذا أنه قال في سؤاله لمن كان له بمثابة القديس يوحنا: "هل سمعت يا "أناندا" أن الفاجيين يجتمعون عادة ليتشاوروا الأمر قبل الحسم فيه، وأنهم يرتادون الاجتماعات العامة التي تعقدها قبائلهم؟... فما دام الفاجيون يا "أناندا"




صفحة رقم : 674




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> الهنود الآريون


يجتمعون هكذا عادة، ويرتادون الاجتماعات العامة التي تعقدها قبائلهم، فتوقع منهم ألا يصيبهم انحلال، بل يصيبهم النجاح"(27).
والآريون - كسائر الشعوب - كانت لهم قواعد الزواج في حدود العشيرة وخارج حدودها معاً، بمعنى أن يحرم الزواج خارج حدود جنسهم، كما يحرم داخل حدود الأقرباء الأقربين، ومن هذه القواعد استمد الهندوس أميز ما يميزهم من أنظمة اجتماعية، وذلك أن الآريين عندما رأوا أنفسهم قلة عددية بالنسبة إلى من أخضعوهم ومن يعدُّونهم أحط منهم منزلة، أيقنوا أنهم بغير تقييد التزاوج بينهم وبين هؤلاء، فسرعان ما تضيع ذاتيتهم العنصرية، بحيث لا يمضي قرن واحد أو قرنان من الزمان حتى تهضمهم الأغلبية في ثناياها وتمتصهم في جسمها امتصاصاً، وإذن فقد كان أول تقسيم للطبقات قائماً على أساس اللون لا على أساس الحالة الاجتماعية، فتفرّق الناس فريقين : فريق الأنوف الطويلة وفريق الأنوف العريضة، وبذلك ميزوا بين الآريين من جهة، و "الناجا" و "الدرافيديين" من جهة أخري، ولم تكن التفرقة عندئذ أكثر من تنظيم الزواج بحيث يحرم خارج حدود الجماعة(28) ؛ وكاد نظام الطبقات ألا يكون له وجود في العهد الفيدي(29) بهذه الصورة التي اتخذها فيما بعد، حيث أسرف في تقسيم الناس على أساس الوراثة وعلى أساس العنصر وعلى أساس العمل الذي يزاولونه، أما بين الآريين أنفسهم فقد كان الزواج حراً من القيود (ما عدا ذوي القربى الأقربين)، ولم تكن المنزلة الاجتماعية تورث مع الولادة.
فلما انتقلت الهند الفيدية (2000 - 1000 ق.م) إلى عصر "البطولة" (1000- 500 ق.م)، أو بعبارة أخري لما انتقلت الهند من ظروف حياتها كما صوّرتها أسفار الفيدا، إلى حياة جديدة ترى وصفها في "الماها بهارتا" و "رامايانا"، أصبحت أعمال الناس مقسمة بينهم بالنسبة إلى طبقاتهم الاجتماعية، بحيث يرث الولد عمل طبقته، وتحددت الفوارق بين




صفحة رقم : 675




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> الهنود الآريون


الطبقات في وضوح وجلاء، ففي القمة كان "الكشاتريّة" أو المقاتلون الذين عدوها خطيئة من الخطايا أن يموت الرجل منهم في مخدعه(30)، حتى المحافل الدينية في الأيام الأولى كان يؤديها الرؤساء أو الملوك على نحو ما كان يقوم قيصر بدور كبير الكهنة، وكان البراهمة، أي الكهنة، لا يزيدون عندئذ عن مجرد شهود في الاحتفال بتقديم القرابين(31)، ففي "رامايانا" ترى رجلاً من طبقة "الكشاترية" يحتج احتجاجاً حنقاً على زواج "عروس شماء الأنف فريدة" من عنصر المقاتلين "من كاهن براهمي ثرثار"(32)، وفي الأسفار "الجانتية" ترى زعامة "الكشاترية" أمراً مسلماً به، بل يذهب الأدب البوذي إلى حد أبعد، فيسمى "البراهمة": "من أصل وضيع"(33). وهكذا ترى الأشياء يصيبها التغير حتى في الهند.
لكن ما حَلَّتْ السلم محل الحرب، وبالتالي ازدادت الديانة أهمية اجتماعية وتعقداً في الطقوس، لأنها أصبحت عندئذ عوناُ إلى حد كبير للزراعة، تقيها شر الكوارث الجوية التي لا يمكن أعداد العدة لها، فقد تطلبت الديانة وسطاء فنيين بين الناس وآلهتهم؛ ولهذا ازداد البراهمة عدداً وثروة وقوة، فباعتبارهم القائمين على تربية النشء، والرواة لتاريخ أمتهم وآدابها وقوانينها، استطاعوا أن يعيدوا خلق الماضي خلقاً جديداً، وتشكيل المستقبل على صورتهم، بحيث يصبون كل جيل صبّاً يزيد من تقديسه للكهنة، فيبنون بهذا لطبقتهم مكانة ستمكنهم في القرون المقبلة من احتلال المنزلة العليا في المجتمع الهندوسي، وقد بدءوا بالفعل أيام بوذا يَتَحَدَّوْنَ سيادة طبقة "الكشاترية"، وعَدُّوهم طبقة أحط من طبقتهم، على نحو ما كان يعدهم "الكشاترية" من قبل أدنى منهم منزلة(34)، وأحس بوذا أن لكل من وجهتي النظر ما يؤيده، لكن "الكشاترية" مع ذلك لم تخف زعامتها الفكرية بالقياس إلى البراهمة، حتى في عهد بوذا نفسه، بل إن الحركة البوذية نفسها، التي أسسها شريف من




صفحة رقم : 676




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> الهنود الآريون


أشراف الكشاترية، نافست البراهمة زعامتهم الدينية على الهند مدى ألف عام.
وتحت هذه الأقليات الحاكمة طبقات في منازل أدنى، فهناك طبقة "الفيزيا" أو التجار والأحرار، الذين كادوا قبل بوذا ألا يكون لهم ما يميزهم طبقة قائمة بذاتها؛ وهناك طبقة "الشودرا" أو الصناع الذين يشملون معظم السكان الأصليين، وأخيراً هناك "البارْيا" أو المنبوذون، وقوامهم قبائل وطنية لم ترتد عن ديانتها مثل قبيلة "شاندالا"، وأسرى الحرب، ورجال تحولوا إلى عبيد على سبيل العقاب(35)، ومن هذه الفئة التي كانت بادئ أمرها جماعة صغيرة لا تنتمي إلى طبقة من الطبقات، تكونت طبقة " المنبوذين" في الهند اليوم وعددها أربعون مليوناً.




صفحة رقم : 677




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> المجتمع الآري الهندي
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:00 pm


الفصل الرابع




المجتمع الآري الهندي




الرعاة - زراع الأرض - الصناع - التجار - العملة




والديون - الأخلاق - الزواج - المرأة


كيف كان هؤلاء الهنود الآريون يعيشون؟ بالحرب والسلب أول الأمر، ثم بالرعي والزراعة والصناعة على نمط ريفي كالذي ساد أوربا في العصور الوسطى لأنه حتى قامت الثورة الصناعية التي تظللنا اليوم، لبثت حياة الإنسان الرئيسية من حيث الاقتصاد والسياسة، على صورة واحدة لا تكاد تتغير في جوهرها منذ العصر الحجري الحديث؛ فكان الآريون الهنود يربون الماشية ويستخدمون البقرة دون أن ينزلوها من أنفسهم منزلة التقديس، ويأكلون اللحم أينما استطاعوا إليه سبيلاً، بعد أن يهبوا جزءاً منه للكهنة أو للآلهة(36)؛ ونعلم أن بوذا بعد أن أوشك على الموت جوعاً بما التزمه في شبابه من تقشف، كاد يودي بحياته بعد أكلة كبيرة من لحم خنزير(37)؛ وكذلك كانوا يزرعون الشعير، لكن يظهر أنهم لم يكونوا يعلمون عن الأرز شيئاً في العهد الفيدي؛ وكانت الحقول تقسمها الجماعة القروية بين عائلاتها، على أن يقوم الكل معاً بريّها، ولم يكن يجوز بيع الأرض لأجنبي عن القرية، ويمكن توريثها لأبناء الأسرة نفسها من نسل الذكور المباشر؛ وكانت الكثرة الغالبة من الناس فلاحين يملكون أرضهم التي يفلحونها، لأن الآريين كانوا يعدونه عاراً أن يعملوا لقاء أجر يتقاضونه؛ ويؤكد لنا العالمون بحياتهم أنه لم يكن بينهم مُلاّك كبار ولا متسولون، ولم يكن بينهم أصحاب الملايين ولا المعدمون(38).
وأما في المدن فقد ازدهرت الصناعات اليدوية على أيدي صناع وناشئين في الصناعة، كل منهم مستقل بذاته؛ ثم انتظمتم قبل ميلاد المسيح بنصف




صفحة رقم : 678




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> المجتمع الآري الهندي


ألف من السنين، نقابات قوية لصناع المعادن، وصناع الخشب، وصناع الحجر، وصناع الجلود، وصناع العاج، وصناع السلال، وطلاة المنازل والرسامين، والخزافين والصباغين والسماكين والبحارة والصيادين وبائعي جلود الحيوان، والجزارين وبائعي الحلوى والحلاقين والدلالين والزهارين والطهاة- إن مجرد النظر إلى هذه القائمة يبين لك كم كانت الحياة الآرية الهندية مليئة متعددة الجوانب؛ وكانت النقابات تقضي فيما ينشب بين مختلف الطوائف العمالية من أمور، بل كانت تقيم نفسها حكماً يفض النزاع بين الصناع وزوجاتهم؛ وكانت أسعار السلع تحدد-كما نفعل نحن اليوم- لا وفق قانون العرض والطلب، بل على أساس من غفلة الشاري؛ ومع ذلك فقد كان قصر الملك "مثمن" رسمي- يشبه ما لدينا الآن من مكتب لتحديد الأسعار- واجباته أن يخبر السلع المعروضة للبيع، ويملي الشروط على الصناع(39).
وتقدمت بينهم وسائل التجارة والسفر حتى بلغت مرحلة استخدام الجواد والعربة ذات العجلتين، لكنها كانت تعاني من الصعاب ما كانت تعانيه في القرون الوسطى؛ وكانت القوافل تستوقف للضرائب عند كل حد يفصل دويلة عن زميلتها مهما صغرت هذه الدويلات، كما كانت تتعرض لهجمات اللصوص في الطريق عند كل منعطف؛ وكان النقل بالنهر والبحر أكثر من ذلك رقياً؛ فكنت ترى في سنة 860 ق.م أو نحوها، سفناً تدفعها أشرعة متواضعة ومئات من المجاديف، في طريقها إلى بلاد الجزيرة وشبه جزيرة العرب ومصر، تحمل إليها منتجات تتسم بطابع الهند مثل العطور والتوابل والقطن والحرير والشيلان والنسيج الموصلي واللؤلؤ والياقوت والأبنوس والأحجار الكريمة ونسيج الحرير الموشى بالفضة والذهب(40).
وكان مما وقف في سبيل التجارة أساليب التبادل العقيمة التي اصطنعها الناس في معاملاتهم- فقد كانت وسيلتهم بادئ الأمر تبادل سلعة بسلعة؛ ثم




صفحة رقم : 679




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> المجتمع الآري الهندي


استخدموا الماشية عملة نقدية؛ حتى لقد كانت العروس تشترى بالأبقار(41)، كهؤلاء اللائي يقول عنهن هومر "عذارى يحملن أبقارا" وبعد ذلك ظهرت عملة نحاسية ثقيلة، لم يكن يضمن قيمتها إلا الأفراد بصفاتهم الشخصية؛ ولم يكن للقوم مصارف، ولذلك كان المال المخزون يُخبأ في المنازل أو يدفن في الأرض أو يوُدع عند صديق؛ ومن هنا تطور نظام للإيداع في عهد بوذا؛ وذلك أن التجار في المدن المختلفة كانوا ييسرون التجارة بأن يعطي كل منهم لزميله خطاباً يعترف فيه بما عليه له؛ وكان في المستطاع أن تستعير من هؤلاء- وهم أشباه أسرة روتشيلد- ديناً بربح مقداره ثمانية عشر في كل مائة(42) وكنت تسمع بين الناس حديثاً كثيراً عما بينهم من عهود مالية؛ وفي ذلك العصر لم تكن العملة النقدية من ثقل الوزن بحيث تثبط المقامرون عن استخدامها في قمارهم، وكان "زهر" القمار قد وطد لنفسه مكانة في المدينة؛ ففي حالات كثيرة كان الملك يعد قاعات للقمار لشعبه، على غرار "موناكو" إن لم تكن على صورتها؛ وكان جزء من المال المكسوب يذهب إلى الخزانة الملكية(43)؛ ولقد يبدو ذلك في أعيننا نظاماً يصم أصحابه بوصمة العار، لأننا لم نعتد أن نرى أنظمة القمار عندنا تمد رجال الحكم بيننا بالمال بطريقة مباشرة.
وكانت أخلاقهم في التجارة رفيعة المستوى؛ ولو أن الملوك في الهند الفيدية- كما كان أقرانهم في اليونان الهومرية- لم يرتفعوا عن اغتصاب الماشية من جيرانهم(44)، لكن المؤرخ اليوناني الذي أرخ لحملات الإسكندر، يصف الهنود بأنهم "يستوقفون النظر باستقامتهم، وأنهم بلغوا من سداد الرأي حداً يجعل التجاءهم إلى القضاء نادراً، كما بلغوا من الأمانة حداً يغنيهم عن الأقفال لأبوابهم وعن العهود المكتوبة تسجيلاً لما اتفقوا عليه، فهم صادقون إلى أبعد الحدود"(45). نعم إن في سفر "رج- فيدا" ذكراً للزواج المحرم وللتضليل وللعهر وللإجهاض وللزنا(46)، كما أن هناك علامات تدل على الانحراف الجنسي الذي يجعل الرجال يتصلون بالرجال(47)، إلا أن الصورة




صفحة رقم : 680




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> المجتمع الآري الهندي


العامة التي نستمدها من أسفار الفيدا ومن الملاحم، تدل على مستوى رفيع في العلاقات بين الجنسين وفي حياة الأسرة.
كان الزواج يتم باغتصاب العروس من أهلها أو بشرائها أو بالاتفاق المتبادل بين العروسين، لكن هذا النوع الأخير كان ينظر إليه بعين النقد إلى حد ما، فقد ظن نساؤهم أنه أشرف لهن أن يشترين وأن تدفع فيهن الأثمان، وأنه مما يزيد قدر المرأة أن يسرقها الزوج من أهلها(48)، وكان تعدد الزوجات جائزاً، ويشجعون عليه بين العلية، لأنه مما يسجل للرجل بالفخر أن يعول زوجات كثيرات وأن ينقل إلى الخلف قوته(49)، وكذلك كان هناك تعدد الأزواج، فقصة "دروبادي"(50) التي تزوجت خمسة إخوة دفعة واحدة تدل على وقوع تعدد الأزواج للزوجة الواحدة- في أيام الملاحم- حيناً بعد حين، وكان الأزواج عادة إخوة، وهي عادة بقيت في جزيرة سيلان حتى سنة 1859م، ولا تزال متلكئة في بعض قرى الجبال في التبت(51)، لكن التعدد كان في العادة ميزة يتمتع بها الذكر دون الأنثى، لأنه عند الآريين هو رب الأسرة يحكمها حكماً لا ينازعه في سيادته منازع، فكان له حق امتلاك زوجاته وأبنائه، وله الحق في ظروف معينة أن يبيعهم أو يرمي بهم في عرض الطريق(52).
ومع ذلك فقد تمتعت المرأة بحرية في العصر الفيدي أكثر جداً مما تمتعت به منها في العصور التالية، فقد كان لها حينئذ رأي في اختيار زوجها، أكثر مما قد تدل عليه ظواهر المراسيم في الزواج؛ وكان لها حق الظهور بغير قيود في الحفلات والرقص، وكانت تشارك الرجل في الطقوس الدينية التي تقدم بها القرابين؛ ولها حق الدرس، بل ربما ذهبت في ذلك إلى حد بعيد مثل "جارجي" التي اشتركت في المجادلات الفلسفية(53)، وإذا تركها زوجها أرملة فلم يكن على زواجها من قيود(54)، أما في عصر "البطولة" فيظهر أن المرأة قد فقدت بعض هذه الحرية، فكانوا لا يشجعونها على المضي في الأبحاث العقلية،




صفحة رقم : 681




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> المجتمع الآري الهندي


على أساس أن "المرأة إذا درست أسفار الفيدا كان ذلك دليلاً على اضطراب المملكة"(55)، وقل زواج المرأة بعد موت زوجها الأول، وبدأت "البردة"- التي تعني عزل المرأة- وزادت بين الناس عادة دفن الزوجة مع زوجها وهي عادة لم تكد تعرفها الأيام الفيدية(56)، وأصبحت المرأة المثالية هي التي جاءت على نموذج بطلة "رامايانا"- وهي "سيتا" الوفية التي تتبع زوجها وتطيعه في خضوع مهما تطلب منها ذلك من ضروب الوفاء والشجاعة، حتى آخر يوم من حياتها.




صفحة رقم : 682




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> ديانة أسفار الفيدا



الفصل الخامس




ديانة أسفار الفيدا




الديانة السابقة للفيدا - آلهة الفيدا - آلهة الأخلاق -




قصة الفيدا عن الخلق- الخلود - التضحية بالجوار


الظاهر أن أقدم ديانة نعرفها عن الهند، تلك الديانة التي وجدها الغزاة الآريون بين " الناجا " والتي لا تزال قائمة في الأجناس البشرية البدائية التي تراها هنا وهناك في ثنايا شبه جزيرة العظيمة، هي عبادة روحانية طموطمية لأرواح كثيرة تسكن الصخور والحيوان والأشجار ومجاري الماء والجبال والنجوم، وكانت الثعابين والأفاعي مقدسات- إذ كانت آلهة تعبد ومثلاً عليا تنشد في قواها الجنسية العارمة، كذلك شجرة "بوذِي" المقدسة في عهد بوذا كانت تمثل تقديسهم لجلال الأشجار الصامت(57)، وهو تقديس صوفي لكنه سليم: وهناك من آلهة الهنود الأولين ما هبط مع الزمن إلى هنود العصور التاريخية، مثل "ناجا" الإله الأفعوان، و "هاتومان" الإله القرد، و "ناندس" الثور المقدس، و "الياكشا" أو الآلهة من الأشجار(58)؛ ولما كان بعض هذه الأرواح طيباً وبعضها خبيثاً، فلا يستطيع حفظ الجسم من دخول الشياطين فيه وتعذيبه في حالات المرض أو الجنون، تلك الشياطين التي تملأ الهواء، إلا مهارة عظيمة في أمور السحر، ومن ثم نشأت مجموعة الرقى في "فيدا أثارفا" أي "سفر الإلمام بالسحر" ، فلا بد للإنسان من صيغ سحرية يتلوها إذا أراد الأبناء أو أراد اجتناب الإجهاض، أو إطالة العمر، أو دفع الشر، أو جلب النعاس، أو إيقاع الأذى أو الارتباك بالأعداء .




صفحة رقم : 683




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> ديانة أسفار الفيدا


وأقدم آلهة ذكرتها "أسفار الفيدا" هي قوى الطبيعة نفسها وعناصرها: السماء والشمس والأرض والنار والضوء والريح والماء والجنس(62)، فكان ديوس (وهو زيوس عند اليونان، وجوبتر عند الرومان)، أول الأمر هو السماء نفسها، كذلك اللفظة السنسكريتية التي معناها مقدس، كانت في أصلها تعني "اللامع" فقط، ثم أدت هذه النزعة الشعرية التي أباحت لهم أن يخلقوا لأنفسهم كل هذا العدد من الآلهة، إلى تشخيص هذه العناصر الطبيعية، فمثلاً جعلوا السماء أباً، وأسموها "فارونا"؛ وجعلوا الأرض أماً، وأطلقوا عليها اسم "بريثيفي" ، وكان النبات هو ثمرة التقائهما بوساطة المطر(63)، وكان المطر هو الإله "بارجانيا"، والنار هي "آجني" ، والريح كانت "فايو" ، وأما إن كانت الريح مهلكة فهي "رودْرا" ، وكانت العاصفة هي "إندرا"، والفجر "أوشاس"، ومجرى المحراث في الحقل كان اسمه "سيتا"، والشمس "سوريا" أو "مترا" أو "فشنو"؛ والنبات المقدس المسمى "سوما" ، والذي كان عصيره مقدساً ومسكراً للآلهة والناس معاً، كان هو نفسه إلهاً يقابل في الهند ما كان "ديونيسوس" عند اليونان، فهي الذي يوحي الإنسان- بمادته المنعشة- أن يفعل الإحسان ويهديه إلى الرأي الثاقب، وإلى المرح، بل يخلع على الإنسان حياة الخلود(64).
ولما كانت الأمة كالفرد تبدأ بالشعر وتنتهي بالنثر، فقد تحول كل شئ لمّا أصبحت الأشياء في أعين الناس أشخاصاً، إذ أصبحت صفات الأشياء أشياء قائمة بذاتها، وباتت نعوتها بمثابة الأسماء، والعبارات التي تجري مجرى الحكمة أصبحت آلهة، والشمس التي تهب الحياة انقلبت إلهاً جديداً اسمه "سافيتار واهب الحياة"، وأما ضوءها فإله آخر اسمه "فيفاسفات" أي الإله




صفحة رقم : 684




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> ديانة أسفار الفيدا


الساطع، والشمس التي تولد الحي أصبحت إلها عظيماً هو "براجاباتي" أي رب الأحياء جميعاً .
ولبثت النار "وهي الإله أجني" حيناً من الدهر أهم آلهة الفيدا جميعاً، إذ كان هذا الإله هو الشعلة المقدسة التي ترفع القربان إلى السماء، وكان هو البرق الذي يثب في أرجاء الفضاء، وكان للعالم حياته النارية وروحه المشتعلة، غير "أن" إندرا "الذي يتصرف في الرعد والعاصفة كان أشيع الآلهة كلهم ذكراً بين الناس، لأنه هو الذي يجلب للآري الهندي الأمطار النفسية التي بدت له عنصراً جوهرياً يكاد يزيد في أهميته للحياة على الشمس ذاتها، لذا فقد جعلوه أعظم الآلهة مقاماً، يلتسمون معونة رعودة وهم في حومات القتال، وصوروه- بدافع الحسد له- في صورة البطل الجبار الذي يأكل العجول مئات مئات، ويشرب الخمر بحيرات بحيرات(66)، وكان عدوة المحبب إلى نفسه هو "كرشنا" الذي لم يذكر في أسفار الفيدا إلا على أنه إله محلي لقبيلة "كرشنا" إذ لم يكن حينئذ قد تجاوز هذه المرحلة؛ كذلك كان "فشنو" أي الشمس التي تجتاز الأرض بخطواتها الجبارة، إلهاً ثانوياً، كأنما هو لا يدري أن المستقبل له ولـ "كرشنا" الذي يجسده؛ وإذن فمن فوائد أسفار الفيدا لنا أن تعرض علينا الدين وهو في طريق التكوين، فنرى مولده ونموه وموت الآلهة والعقائد، ونرى ذلك بادئين من النزعة الروحانية البدائية حتى نبلغ وحدة الوجود الفلسفية، بادئين بالخرافة في "فيدا أثارفاً" (أي سفر السحر) ومنتهين إلى الوحدانية الجليلة كما ذكرت في أسفار "يوبانشاد".
كان هؤلاء الآلهة بشراً في صورة الجسم وفي الدافع المحرك للعمل، بل




صفحة رقم : 685




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> ديانة أسفار الفيدا


كادت تكون بشراً في جهلها كذلك، فانظر أحدها وقد أحاطت به دعوات الداعي، فجعل يفكر ماذا عسى أن يهب هذا المتوسل : "هذا ما سأصنعه- كلا، لن أصنع هذا، سأعطيه بقرة- أم هل أعطيه جواداً؟ ترى هل تقرب إليّ حقاً بشراب السوما؟"(67)، لكن بعض هؤلاء الآلهة قد صعد في العصور الفيدية المتأخرة إلى مستوى خلق رفيع، خذ مثلاً "فارونا" الذي كان بادئ ذي بدء هو السماء المحيطة بالأرض، أنفاسه هي ريح العواصف، ورداؤه هو السماء، هذا الإله قد تطور على أيدي عُبَّادُه حتى أصبح أكثر آلهة الفيدا علواً في الأخلاق وقرباً من المثل الأعلى للآلهة، أصبح يرقب العالم بعينه الكبرى، التي هي الشمس، يعاقب الشر ويكافئ الخير، ويعفو عن ذنوب التائبين، وبهذا كان "فارونا" حارساً على القانون الأبدي ومنفذاً له، ذلك القانون الذي يسمونه "ريتا" وهو الذي كان أول أمره قانوناً يقيم النجوم في أفلاكها ويحفظها هناك فلا يضطرب مسيرها، ثم تطور بالتدريج حتى أصبح قانون الحق إطلاقا، أصبح نغمة خلقية كونية لا مندوحة لكل إنسان عن مراعاتها إذا أراد أن يجتنب الضلال والدمار(68).
ولما كثر عدد الآلهة نشأت مشكلة، هي: أي هؤلاء الآلهة خلق العالم؟ فكانوا يعزون هذا الدور الأساسي تارة لـ "آجنى" وتارة لـ "إندرا" وطوراً لـ "سوما" وطوراً رابعاً لـ "براجاباتي" ، وفي أحد أسفار "يوبانشاد" يعزي خلق العالم إلى خالق أول قهار:
"حقاً إنه لم يشعر بالسرور، فواحد وحده لا يشعر بالسرور، فتطلب ثانياً؛ كان في الحق كبير الحجم حتى ليعدل جسمه رجلاً وامرأة تعانقا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تنشق نصفين، فنشأ من ثمَّ زوج تملؤه الزوجة، وعلى ذلك تكون النفس الواحدة كقطعة مبتورة ... وهذا الفراغ تملؤه الزوجة، وضاجع زوجته وبهذا أنسل البشر؛ وسألت نفسها الزوجة قائلة: "كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرجني من نفسه، فلأختف" واختفت في صورة




صفحة رقم : 686




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> ديانة أسفار الفيدا


البقرة، وانقلب هو ثوراً، فزاوجها، وكان بازدواجهما أن تولدت الماشية، فاتخذت لنفسها هيئة الفرس، واتخذ لنفسه الجواد، ثم أصبحت هي حمارة فأصبح هو حماراً، وزاوجها حقاً، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عنزة فانقلب لها تيساً، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشاً، وزاوجها حقاً، وولدت لهما الماعز والخراف، وهكذا حقاً كان خالق كل شئ، مهما تنوعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في التدرج أسفله إلى حيث النمال، وقد أدرك هو حقيقة الأمر قائلاً: "حقاً إني أنا هذا الخلق نفسه، لأني أخرجته من نفسي، من هنا نشأ الخلق"(69).
في هذه الفقرة الفريدة بذرة مذهب وحدة الوجود وتناسخ الأرواح، فالخالق وخلقه شئ واحد، وكل الأشياء وكل الأحياء كائن واحد، فكل صورة من الكائنات كانت ذات يوم صورة أخرى، ولا يميز هذه الصورة من تلك ويجعلهما حقيقتين إلا الحس المخدوع وإلا تفريق الزمن بينهما؛ هذه النظرة لم تكن قد ظهرت بعد أيام الفيدا جزءاً من العقيدة الشعبية، وان تكن قد لقيت صياغتها على هذا النحو في "يوباتشاد" ، فالآرى الهندي- مثل زميله الآري الفارسي- بدل أن يعتقد في تناسخ الأرواح على صور متتابعة، آمن بعقيدة أبسط، إذ آمن بالخلود الشخصي، فالروح بعد الموت تلاقي إما عذاباً أو نعيماً، فإما أن يلقيها "فارونا" في هوة مظلمة سحيقة، أو في جهنم ذات السعير، وأما أن يتلقاها "ياما" فيرفعها إلى الجنة حيث كل صنوف اللذائذ الأرضية قد كمأت ودامت إلى أبد الآبدين(70)، وفي ذلك يقول سفر "كاثا" من أسفار يوبانشاد: "يفني الفاني كما تفني الغلال، ويعود إلي الحياة في ولادة جديدة كما تعود الغلال"(71).
وليست تدلنا الشواهد على أن الديانة الفيدية في أولى مراحلها كان لها معابد وأصنام(72)، بل كانت مذابح القرابين تنصب من جديد لكل قربان يراد تقديمه، كما هي الحال في فارس الزرادشتية، وكان يناط بالنار المقدسة أن




صفحة رقم : 687




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> ديانة أسفار الفيدا


ترفع القربان الممنوح إلى السماء، وفي هذه المرحلة تظهر آثار ضئيلة من التضحية بالإنسان، كما ظهرت في فاتحة المدنيات كلها تقريباً، لكنها آثار قليلة يحوطها الشك، وكذلك أشبهت الهند فارس في أنها كانت تحرق الحصان أحياناً ليكون قرباناً تقدمه للآلهة(74) وأن "أشفاميزا"- أو "تضحية الجواد"- لمن أغرب الطقوس جميعاً، إذ تخيل للناس فيها أن ملكة القبيلة زاوجت الحصان المقدس بعد ذبحه على أن القربان المعتاد هو أن يكسب قليل من عصير "سوما" وأن يصب شيء من الزبد السائل في النار(77)، وكانوا يحيطون القربان برقى السحر، فلو قدمه على النحو الأكمل جاءته بالجزاء المطلوب بغض النظر عما هو حقيق به من ثواب بالنسبة إلى خلقه الشخصي(78)، وكان الكهنة يتقاضون أجوراً عالية على مساعدة المتعبد في أداء طقوس القربان التي أخذت تزداد مع مر الزمن تعقداً، فإذا لم يكن قد وسع المتعبد أن يدفع للكاهن أجره، رفض أن يتلو له الصيغ اللازمة، فأجره لا بد أن يسبق ما يدفع لله من أجر، ولقد وضع رجال الدين قواعد تضبط مقدار ما يدفعه صاحب هذه العبادة- كم من الأبقار والجياد وكم من الذهب، وقد كان الذهب بصفة خاصة عميق التأثير في الكهنة والآلهة(79) وفي "أوراق البراهمانا" التي كتبها البراهمة، إرشادات للكاهن تدله على الطريقة التي يستطيع بها أن يقلب الصلاة أو القربان شراً على رؤوس أصحابه إذا لم يؤجروه أجراً كافياً(80)، وكذلك سنوا قوانين أخرى تفصل دقائق المحافل والطقوس التي ينبغي أن تقام في كل ظرف من ظروف الحياة تقريباً، وهي عادة تتطلب معونة الكهنة في أدائها، وهكذا أصبح البراهمة شيئاً فشيئاً طبقة ممتازة، تسيطر على الحياة الفكرية والروحية في الهند سيطرة تهددت كل تفكير وكل تغيير بالمقاومة المميتة.




صفحة رقم : 688




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أسفار الفيدا باعتبارها أدباً



الفصل السادس




أسفار الفيدا باعتبارها أدباً




السنسكريتية والإنجليزية - الكتابة - الفيدات




الأربعة سفر دج - ترنيمة الخلق


إنه لمما ينبغي أن يثير اهتمامنا الخاص، هذه اللغة السنسكريتية التي كان يكتبها الآريون الهنود، ذلك لأنها تعد من أقدم مجموعات اللغات "الأوربية الهندية" التي تنتمي إليها لغتنا التي نتحدث بها، فإننا نشعر للحظة من الزمن شعوراً عجيباً باتصال حلقات الثقافة عبر هذه الآماد الفسيحة من الزمان والمكان، حين نلاحظ أوجه الشبه- في السنسكريتية واليونانية واللاتينية والإنجليزية- بين الألفاظ التي تدل على الأعداد، وعلى أنواع الصلة في الأسرة؛ وفي كلمات صغيرة وكبيرة الدلالة في هذا الصدد، وهي الكلمات التي أطلق عليها اسم "الفعل المزاوج" ولعل هذا الاسم قد أطلق عليها في غفوة من رجال الأخلاق .
وبعيد جداً أن يكون هذا اللسان القديم الذي قال عنه "سير وليم جونز" أنه "أكمل من لغة اليونان، وأوسع من لغة الرومان، وأدق من كلتيهما معاً"(83)، بعيد جداً أن يكون هذا اللسان القديم هو ما كان يتحدث به الغزاة الآريون، فلسنا ندري بأية لغة كان هؤلاء يتكلمون، وكل ما نستطيعه في هذا الصدد هو أن نفرض فرضاً أنها كانت لغة قريبة الصلة باللهجة الفارسية القديمة التي كتبت بها "الأفستا" ، وأما السنسكريتية التي كتبت بها أسفار الفيدا والملاحم فتحتوي بالفعل على علامات اللغة الأدبية الكلاسيكية التي




صفحة رقم : 689




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أسفار الفيدا باعتبارها أدباً


لا يستخدمها إلا العلماء والكهنة، بل إن كلمة "سنسكريتي" نفسها معناها "المعدة، أو الخالصة، أو الكاملة، أو المقدسة" ، ولم يكن الناس في العصر الفيدي يستخدمون في كلامهم لغة واحدة، بل لغات، لكل قبيلة لهجتها الآرية الخاصة(84)، فلم يكن للهند في أي عصر من عصورها لغة واحدة.
ليس في الفيدات إشارة واحدة تدل على أن مؤلفيها عرفوا الكتابة، ولم يحدث إلا في القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد أن جاء التجار الهنود- والأرجح أن يكونوا من طائفة الدرافيدين- من آسيا الغربية بكتابة سامية قريبة الشبه بالكتابة الفينيقية، وأطلق فيما بعد على هذه الكتابة اسم "الكتابة البراهمية" ومنها اشتقت كل أحرف الهجاء في الهند(85).
ولقد لبثت الكتابة قروناً طويلة- فيما يظهر- لا تستخدم إلا لأغراض تجارية وإدارية، دون أن يرد على أذهان الناس إلا خاطر جد ضئيل بأن يتخذوها وسيلة أدبية، "وكان التجار- لا الكهنة- هم الذين ارتقوا بهذا الفن الأساسي"(86) حتى القانون البوذي لم يدون- على الأرجح- قبل القرن الثالث السابق لميلاد المسيح وأقدم ما بقي لنا من كتابات الهند المحفورة على الجدران، هي محفورات "آشوكا"(87) وإنه ليتعذر علينا نحن الذين جعلت منا القرون المتعاقبة قوماً تعتمد على عقولهم على رؤية عيونهم للمكتوب والمطبوع (حتى جاء هذا العهد الذي امتلأ به الهواء من حولنا ألفاظا وأنغاما) يتعذر علينا أن نفهم كيف اطمأنت الهند- بعد أن عرفت الكتابة بزمن طويل- أن استمساكها بالأساليب القديمة في نقل التاريخ والأدب عن طريق الرواية والذاكرة، فأسفار الفيدا والملاحم كانت أناشيد أخذت تنمو على تتابع الأجيال التي تناقلها بالرواية جيلاً بعد جيل، ولم يقصد بها إلى الكتابة لتراها العيون،



أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:01 pm

صفحة رقم : 690




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أسفار الفيدا باعتبارها أدباً


بل قصد بها إلى أن تكون أنغاماً تسمعها الآذان ومن هذا الإهمال للكتابة نشأت ضآلة علمنا بالهند القديمة.
إذن فما هي أسفار الفيدا التي نستمد منها جل عملنا بالهند في مرحلتها البدائية؟ إن كلمة "فيدا" معناها معرفة وإذن فسفر الفيدا معناه الحرفي كتاب المعرفة، و "والفيدات" يطلقها الهندوس على كل تراثهم المقدس الذي ورثوه عن أولى مراحل تاريخهم، وهي شبيهة بالإنجيل عندنا في أنها تدل على أدب أكثر مما تتخذ لنفسها صورة الكتاب، ولو حاولت تنظيم هذه المجموعة وتبوبيها لأحدثت خلطاً فظيعاً، ولم يبق لنا من الفيدات الكثيرة التي شهدها الماضي إلا أربعة أسفار:
1- سفر رج ، أو معرفة ترانيم الثناء.
2- سفر ساما، أو معرفة الأنغام.
3- سفر باجور، أو معرفة الصيغ الخاصة بالقرابين.
4- سفر أتارفا، أو معرفة الرقى السحرية.
وكل واحد من هذه الفيدات الأربعة، ينقسم إلي أربعة أقسام :
1- إلى "مانترا" أو الترانيم.
2- إلى "براهمانا" أو قواعد الطقوس والدعاء والرقي لهداية الكهنة في مهمتهم.
3- إلي "أرانياكا" أو نصوص الغابة، وهي خاصة بالقديسين الرهبان.
4- إلى "يوبانشاد" أو المحاورات السرية، وهي تقصد إلى الفلاسفة




صفحة رقم : 691




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أسفار الفيدا باعتبارها أدباً


وليس بين أسفار الفيدا إلا سِفر واحد ينتمي إلى الآداب أكثر مما تنتمي إلى الدين أو الفلسفة أو السحر، فسفر "رج" ضرب من الدواوين الدينية، يتألف من 1028 ترنيمة، أو أنشودة من أناشيد الثناء يتوجه بها الناس إلى مختلف معبودات الآريين الهنود- الشمس والقمر والسماء والنجوم والريح والمطر والنار والفجر والأرض وغيرها ومعظم الترانيم دعوات واقعية في سبيل القطعان والمحصول وطول العمر، وقليل جداً منها هو ما يرتفع إلى مستوى الأدب، وبينها عدد ضئيل يبلغ درجة "الأنشاد" في رشاقتها وجمالها(92) بعضها شعر طبيعي ساذج، كأنه الدهشة الفطرية يبديها الطفل إزاء ما يرى، فترنيمة أخرى تدهش لماذا لا تسقط الشمس على الأرض سقوطاً عمودياً حينما تبدأ في الانحدار، وترنيمة ثالثة تتساءل: كيف أمكن "لمياه الأنهار كلها أن تثب فواره إلى المحيط فلا تملؤه" ومنها ترنيمة على أسلوب "ثاناتويسيس" قيلت على جثمان زميل سقط صريعاً في ميدان القتال :




صفحة رقم : 692




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أسفار الفيدا باعتبارها أدباً




هاأنذا آخذ القوس من يد ميتة كانت تشدها




لتكسب لنا ملكاً وقوة ومجداً،




فأنت هناك، ونحن هاهنا، أعزاء بأبنائنا الأبطال،




سنهزم كل هجمة يوجهها لنا الأعداء،




اقترب من صدر الأرض، آمنا،




هذه الأرض الفسيحة الأرجاء العطوف بأبنائها،




هذه الشابة الناعمة كأنها الصوف المندوف تحت جنوب الأسخياء،




هاأنذا أضرع إليها أن تصونك من أيدي الفناء،




انفرجي له أيتها الأرض، ولا تضمي جسده ضماً ثقيلاً،




كوني له مثوى هينً، ومجديه بعونك الشفوق،




فكما تدثر الأم بالثوب ابنها،




كذلك دثري هذا الرجل أيتها الأرض.


وقصيدة أخرى (رج، الجزء العاشر ص10) عبارة عن حوار صريح بين الأبوين الأولين للبشر، هذين التوأمين من أخ وأخته، "ياما" و "يامي" ، فأما "يامي" فتأخذ في إغراء أخيها أن يضاجعها على الرغم من تحريم مثل هذا الاتصال الجنسي بين أفراد الأسرة الواحدة، زاعمة له أن كل ما تريده من الأمر هو استمرار الجنس البشري، فيقاومها "راما" على أسس خلقية رفيعة، وتحاول معه كل ضروب الإغراء وتفشل، وأخيرً تصفه بالضعف، والقصة كما هي بين أيدينا ليست كاملة، ولو أنه في مقدرونا أن نحكم كيف يكون تماماً من منطق السياق، وأسمي أجزاء القصيدة قصة هائلة هي "ترنيمة الخلق" وفيها ترى عقيدة وحدة الوجود مبسوطة بظلالها الرقيقة، بل ترى ريبة التقي الورع، في هذا الكتاب الذي أقدم كتاب




صفحة رقم : 693




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أسفار الفيدا باعتبارها أدباً


ظهر بين أشد الشعوب تمسكاً بالدين:


لم يكن في الوجود موجود ولا عدم، فتلك السماء الوضاءة




لم تكن هناك، كلا ولا كانت بردة السماء منشورة في الأعالي،




فماذا كان لكل شئ غطاء؟ ماذا كان موئلاً؟ ماذا كان مخبأ؟




أكانت هي المياه بهوتها التي ليس لها قرار؟




ولم يكن ثمة موت، ومع ذلك لم يكن هناك ما يوصف بالخلود




ولم يكن فاصل بين النهار والليل




و "الواحد الأحد لم يكن هناك سواه




ولم يوجد سواه منذ ذلك الحين حتى اليوم،




كانت هناك ظلمة، وكان كل شئ في البداية تحت ستار




من ظلام عميق- محيط بغير ضياء -




والجرثومية التي لم تزل كامنة في اللحاء




برزت طبيعة واحدة من الحر الحرور




ثم أضيف إلى الطبيعة الحب، وهو الينبوع الجديد




للعقل- نعم إن الشعراء في أعماقهم يدركون




إذ هم يتأملون- هذه الرابطة بين ما خلق




وما يخلق، فهل جاءت هذه الشرارة من الأرض




تتخلل كل شيء وتشمل كل شيء، أم جاءت من السماء؟




ثم بذرت الحبوب، ونهضت جبابرة القوى -




فالطبيعة في أسفل، والقوة والإرادة أعلى-




من ذا يعلم السر الدفين؟ من ذا أعلنه هاهنا،




من أين، من أين جاءت هذه الكائنات على اختلافها




إن الآلهة أنفسها جاءت متأخرة في مراحل الوجود-




من ذا يعلم أنى جاء هذا الوجود؟






صفحة رقم : 694




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> أسفار الفيدا باعتبارها أدباً




إن من صدر عنه هذا الخلق العظيم،




سواء خلقه بإرادته، أو صدر عنه وهو ساكن،




إنه هو ربنا الأعلى في السماوات العُلى،




إنه هو يعلم السر- بل لعله لا يعلم من الشر شيئاً(94)


ولبث الأمر هكذا حتى أدركه مؤلفو أسفار "يوبانشاد" فتناولوا هذه المشكلات بالحل، وهذه الإشارات بالتوضيح، فكان ما أخرجوه في ذلك أدل نتاج على العقل الهندوسي، بل لعله أعظم نتاج أخرجه ذلك العقل.




صفحة رقم : 695




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد



الفصل السابع




فلسفة أسفار يوبانشاد




مؤلفو هذه الأسفار - موضوعها - موازنة العقل بالبصيرة البديهية -




أثمان - براهمان - من هما - وصف الله - الخلاص - تأثير أسفار




يوبانشاد - ما يقوله إمرسن عن براهما


قال شوبنهور: "إنك لن تجد في الدنيا كلها دراسة تفيدك وتعلو بك أكثر مما تفيدك وتعلو دراسة أسفار يوبانشاد، لقد كانت سلواي في حياتي- وستكون سلاوي في موتي"(95) فلو استثنيت النتف التي خلفها لنا "فتاح حوتب" (المصري) في الأخلاق، كانت أسفار اليوبانشاد أقدم أثر فلسفي ونفسي موجود لدى البشر، ففيها مجهود بذله الإنسان دقيق دؤوب، يدهشك بدقته وما اقتضاه من دأب، محاولاً أن يفهم العقل وأن يفهم العالم وما بينهما من علاقة، إن أسفار اليوبانشاد قديمة قدم هومر، ولكنها كذلك حديثة حداثة "كانت".
والكلمة مؤلفة من مقطعين "يوبا" ومعناها "بالقرب" و "شاد" ومعناها "يجلس" ، ومن "الجلوس بالقرب" من المعلم، انتقل معنى الكلمة حتى أصبح يطلق على المذهب الغامض الملغز الذي كان يسره المعلم إلى خيرة تلاميذه واجهتم إليه(96)، وفي الأسفار مائة وثمان محاورات مما جرى بين المعلم وتلاميذه، ألفها كثير من القديسين والحكماء بين عامي 800 و 500 ق.م (97)، وهي لا تحتوي على مذهب فلسفي متسق الأجزاء، بل تحتوي على آراء وأفكار ودروس لرجال عدة، كانت الفلسفة والدين عندهم ما يزاولان موضوعاً واحداً، وقد حاول هؤلاء الرجال بهذه الآراء أن يفهموا الحقيقة البسيطة الجوهرية التي تكمن وراء كثرة الأشياء الظاهرة، حتى إذا ما فهموا أنفسهم بها توحيداً يحوطه إجلال الورع، وهذه الأسفار كذلك




صفحة رقم : 696




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


مليئة بالسخافات والمتناقصات، وهي في بعض مواضعها هنا وهناك تتسلف الاتجاه الذي سار فيه "هجل" فيما بعد بكل ما قاله من لغو الحديث(98)، وأحياناً فيها عبارات غريبة غرابة الصيغ التي يستعملها "توم سوير" في معالجته للزوائد الجلدية عند مرضاه(99)، ولكنها أحياناً أخرى تعرض عليك ما قد تظنه أعمق ما ورد في تاريخ الفلسفة من ضروب التفكير.
إننا نعلم أسماء مؤلفي هذه الأسفار(100) لكننا لا نعلم من حياتهم شيئاً إلا ما يكشفون لنا عنه حيناً بعد حين في ثنايا تعاليمهم، وأبرز شخصيتين بين هؤلاء هما: "ياجنافالكيا" الرجل و "جارجي" المرأة التي لها شرف الانخراط في سلك أقدم الفلاسفة، وقد كان "ياجنافالكيا" أحد لساناً من زميلته، ونظر إليه زملاؤه نظرهم إلي مجدد خطر، ثم جاء الخلف فاتخذ مذهبه أساساً للعقيدة السليمة التي لا يأتيها الباطل(101)، وهو يحدثنا كيف حاول أن يترك زوجتيه ليكون حكيماً راهباً، وأننا لنلمس في رجاء زوجته "ميتريى" له أن يأذن لها بصحبته، كم كان شغف الهند مدى قرون طوال بمتابعة التفكير في الفلسفة والدين.
"وبعدئذ كان ياجنافالكيا" على وشك أن يبدأ لوناً جديداً من ألوان الحياة.
قال ياجنافالكيا: "ميتريى! انظري، فأنا على وشك الرحيل من هنا لأجوب أقطار الأرض، فأصغيا إليّ أنت و "كاتيايانى" أقل لكما قولاً أخير".
وهنا تكلمت ميتريى: إذا ملئت لي هذه الأرض كلها الآن يا مولاي بالغني، أأكون بهذا كله بين الخالدين؟"،
فأجابها ياجنافالكيا : "كلا! كلا! يستحيل أن يكون الثراء طريق الخلود".
وهنا تكلمت ميتريي : "فماذا عساي أن أصنع بمال لا يخلدني؟ اشرح لي يا مولاي كل ما تعلمه"(102).




صفحة رقم : 697




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


وموضوع أسفار اليوبانشاد هو كل السر في هذا العالم الذي عز على الإنسان فهمه: "فمن أين جئنا، وأين نقيم، والى أين نحن ذاهبون؟ أيا من يعرف "براهمان" نبئنا من ذا أمر بنا فإذا نحن هاهنا أحياء.. أهو الزمان أم الطبيعة أم الضرورة أم المصادفة أم عناصر الجو، ذلك الذي كان سبباً في وجودنا، أم السبب هو من يسمي "بوروشا"- الروح الأعلى؟(103)، لقد ظفرت الهند بأكثر من نصيبها العادل من الرجال الذين لا يريدون من هذه الحياة "ما لا يعد بألوف الألوف، وإنما يريدون أن يجدوا الجواب عما يسألون" ، فتقرأ في سفر "ميتريى" من أسفار يوبانشاد عن ملك خلف ملكه وضرب في الغابة متقشفاً زاهداً، لعل عقله بذلك أن يصفوا ليفهم، فيجد حلاً للغز هذا الوجود، وبعد أن قضى الملك في كفارته ألف يوم، جاءه حكيم "عالم بالروح" ، فقال له الملك: "أنت ممن يعلمون طبيعة الروح الحقيقية، فهلا أنبأتنا عنها؟" فقال الحكيم منذراً: "اختر لنفسك مآرب أخرى" لكن الملك يلح، ويعبر في فقرة- لابد أن تكون قد لاءمت روح شوبنهور وهو يقرؤها- عن ضيقه بالحياة، وخوفه من العودة إليها بعد موته، ذلك الخوف الذي تمتد جذوره في كل ما تطرب به رءوس الهندوس من خواطر وأفكار، وهاك هذه الفقرة:
"سيدي، ما غناء إشباع الرغبات في هذا الجسد النتن المتحلل، الذي يتألف من عظم وجلد وعضل ونخاع ومنيّ ودم ومخاط ودموع ورشح أنفي وبراز وبول وفساء وصفراء وبلغم؟ ما غناء إشباع الرغبات في هذا الجسد الذي تملؤه الشهوة والغضب والجشع والوهم والخوف واليأس والحسد والنفور مما تنبغي الرغبة فيه والإقبال على ما يجب النفور منه، والجوع والظمأ والعقم والموت والمرض والحزن وما إليها؟ وكذلك نرى هذا العالم كله يتحلل بالفساد كما تتحلل هذه الحشرات الضئيلة وهذا البعوض وهذه الحشائش وهذه الأشجار التي تنمو ثم تذوي... وإني لأذكر من كوارث جفاف المحيطات الكبرى وسقوط قمم الجبال وانحراف النجم القطبي رغم ثباته...وطغيان البحر على




صفحة رقم : 698




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


الأرض...في هذا الضرب من تعاقب أوجه الوجود. ما غناء إشباع الرغبات، مادام بعد إشباع الإنسان لها، سيعود إلى هذه الأرض من جديد مرة بعد مرة"؟(104)
وأول درس سيعلمه حكماء اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل، إذ كيف يستطيع هذا المخ الضعيف الذي تتعبه عملية حسابية صغيرة أن يطمع في أن يدرك يوماً هذا العالم الفسيح المعقد، الذي ليس مخ الإنسان إلا ذرة عابرة من ذراته؟ وليس معنى ذلك أن العقل لا خير فيه، بل إن له لمكانه متواضعة، وهو يؤدي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات، أما إذا ما حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللانهائية، أو الحقيقة في ذاتها، فما أعجزه من أداة ! فإزاء هذه الحقيقة الصامتة التي تكمن وراء الظواهر كلها دعامة لها، والتي تتجلى أمام الإنسان في وعيه، لابد لنا من عضو آخر ندرك به ونفهم، غير هذه الحواس وهذا العقل "فلسنا ندرك "أتمان" (أي روح العالم) بالتحصيل، لسنا نبلغه بالنبوغ وبالاطلاع الواسع على الكتب...فليطرح البرهمي العلم ليجعل من نفسه طفلاً... لا يبحثن البرهمي عن كلمات كثيرة، لأنها ليست سوى عناء يشق به اللسان"(105) ، فأعلى درجات الفهم- كما كان سبينوزا يقول- هو الإدراك المباشر، أو نفاذ الرأي إلى صميم الأمر بغير درجات وسطى، إنه-كما كان الرأي عند برجسون- هو البصيرة، التي هي بصر باطني للعقل الذي أغلق- متعمداً- كل أبواب الحس الخارجي ما استطاع إلى ذلك من سبيل أن "براهمان" الواضح بذاته، قد تخلل فتحات الحواس من داخل حتى لقد استدارت هذه الفتحات إلى الخارج، ومن ثم كان الإنسان ينظر في الخارج، ولا ينظر إلى نفسه في داخل نفسه، أما الحكيم الذي يغلق عينيه ويلتمس لنفسه الخلود، فيرى النفس في دخيلته"(109).
فإذا ما نظر الإنسان إلى طوية نفسه ولم يجد شيئاً على الإطلاق، فذلك لا يقوم إلا على دقة استبطانه، لأنه لا يجوز لإنسان أن يتوقع مشاهدة




صفحة رقم : 699




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


الأبدي في نفسه إذا كان غارقاً في الظواهر وفي الجزئيات، فقبل أن يحس الإنسان هذه الحقيقة الباطنية، ينبغي له أولاً أن يطهر نفسه تطهيراً تاماً من أدران العمل والتفكير، ومن كل ما يضطرب به الجسد والروح (107) ، يجب أن يصوم الإنسان أربعة عشر يوماً، لا يشرب إلا الماء(108)، وعندئذ يتضور العقل جوعاً- إذا صح هذا التعبير- فيخلد إلى سكينة وهدوء، وتتطهر الحواس وتسكن، وكذلك تهدأ الروح هدوءاً يمكنها من الشعور بنفسها وبهذا المحيط الخصم من الأرواح، التي ليست هي إلا جزءاً منه، وبعدئذ لا يعود الفرد موجوداً باعتباره فرداً، ويظهر "الاتحاد وتظهر الحقيقة الذاتية" لأن الرائي لا يرى في هذه الرؤية الداخلية النفس الفردية الجزئية، فتلك النفس الجزئية إن هي إلا سلسلة من حالات مخية أو عقلية، إن هي إلا الجسم منظوراً من الداخل، إنما يبحث الباحث عن "أتمان" نفس النفوس كلها، وروح الأرواح كلها، والمطلق الذي لا مادة له ولا صورة، والذي ننغمس فيه بأنفسنا جميعاً إذا نسينا أنفسنا كل النسيان.
تلك إذن هي الخطوة الأولى في "المذهب السري" : وهي أن جوهر النفس فينا ليس هو الجسم، ولا هو العقل، ولا هو الذات الفردية، ولكنه الوجود العميق الصامت الذي لا صورة له، الكامن في دخيله أنفسنا، هو "أتمان" ؛ وأما الخطوة الثانية فهي "براهمان" وهو جوهر العالم الواحد الشامل الذي لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى غير المشخص في صفاته، المحتوي لكل شيء




صفحة رقم : 700




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


والكامن في كل شيء، الذي لا تدركه الحواس، هو "حقيقة الحقيقة" هو الروح الذي لم يولد ولا يتحلل ولا يموت(110)، أن "أتمان" الذي هو روح الأشياء كلها، هو روح الأرواح كلها، هو القوة الواحدة التي هي وراء جميع القوى وجميع الآلهة، وتحت جميع القوى وجميع الآلهة، وفوق جميع القوى وجميع الآلهة.
ثم سأله فيداجاداساكايلا قائلاً: كم عدد الآلهة ياجنافالكيا؟
فأجابه: "عددهم هو المذكور في "الترنيمة للآلهة جميعاً" فهم ثلاثمائة وثلاثة، وهم ثلاثة آلاف وثلاثة".


نعم، ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟




عددهم ستة.




نعم، ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟




هما اثنان.




نعم ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟




إله ونصف إله.




نعم ولكن كم عدد الآلهة على وجه اليقين ياجنافالكيا؟




إنه إله واحد.


والخطوة الثالثة من أهم الخطوات جميعاً: "أتمان" و "براهمان" إن هما إلا إله واحد بعينه، إن الروح (اللافردية) أو القوة الكائنة فينا هي هي بعينها روح العالم غير المشخص، إن أسفار يوبانشاد لا تدخر وسعاً في تركيز هذا المذهب في عقل طالب العقيدة، فما تزال تكرره وتعيده لا تمل له تكراراً




صفحة رقم : 701




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


وإعادة وإن قل ذلك السامعون، فعلى الرغم من كل هذه الصور الكثيرة وهذه الأقنعة الكثيرة، فإن هو ذاتي وموضوعي شئ واحد، الإنسان في حقيقته التي تتجرد من الفردية، هو هو بعينه الله باعتباره جوهراً للكائنات جميعاً، يوضح ذلك معلم في تشبيه مشهور:


هات لي تينة من ذلك التين




هذه هي يا مولاي




اقسمها نصفين




هاأنذا قد قسمتها يا مولاي




ماذا ترى هناك؟




أرى هذه الحبيبات الدِقّاق يا مولاي




تفضل فاقسم حُبيبة منها نصفين




هاأنذا قد قسمتها يا مولاي




ماذا ترى هناك؟




لست أرى شيئا على الإطلاق يا مولاي




حقاً يا ولدي العزيز، إن هذا الجوهر الذي هو أدق الجواهر والذي لا تستطيع رؤيته




حقاً إنه من هذا الجوهر الذي هو أدق الجواهر قد نبتت هذه الشجرة العظيمة،




فصدقني يا ولدي العزيز، إن روح العالم هو هذا الجوهر الذي ليس في دقته جوهر سواه




هذا هو الحق في ذاته




هذا هو "أتمان" ، هذا هو أنت يا شاوناكيتو




هل لك أن تزيدني بالأمر علماً يا مولاي؟




ليكن لك يا ولدي العزيز.


هذا التقابل بين "أتمان" و "براهمان" وما ينشأ عن تلاقيهما في حقيقة


أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:01 pm

صفحة رقم : 702




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


واحدة- الذي يكاد يكون تطبيقاً للتقابل الديالكتيكي عند هجل- هو صميم أسفار اليوبانشاد، وكثير غير هذا من الدروس نصادفه في هذه الأسفار، لكنها دروس فرعية بالقياس إلى ذلك، ففي هذه المحادثات نرى عقيدة تناسخ الأرواح قد تم تكوينها ، كما نرى الشقوق إلى الخلاص من هذه الدورات التناسخية الفادحة، فهذا هو "جاناكا" ملك "الفيديها" يتوسل إلى "ياجنافالكيا" أن ينبئه كيف يمكن التخلص من العودة إلى الولادة من جديد، ويجيب "ياجنافالكيا" بشرح "اليوجا" (أي رياضة النفس) فيقول : إذا اقتلع الإنسان بالتزهد كل شهوات نفسه، لم يعد هذا الإنسان فرداً جزئياً قائماً بذاته، وأمكنه أن يتحد في نعيم أسمي مع روح العالم، وبهذا الاتحاد يخلص من العودة إلى الولادة من جديد، وهنا قال له الملك الذي غلبته حكمه الحكيم على أمره، قال "أي سيدي الكريم، إني سأعطيك شعب الفيديها وسأعطيك نفسي، لنكون لك عبيداً"(118)، وإنها لجنّة صارمة تلك التي يعدها "ياجنافالكيا" ذلك الملك المتبتل، لأن الفرد هناك لن يشعر بفرديته(119)، بل كل ما سيتم هنالك هو امتصاص الفرد في الوجود، هو عودة الجزء إلى الاتحاد بالكل الذي انفصل عنه حيناً من الدهر، " فكما تتلاشى الأنهار المتدفقة في البحر، وتفقد أسماءها وأشكالها، فكذلك الرجل الحكيم إذا ما تحرر من اسمه وشكله، يفنى في الشخص القدسي الذي هو فوق الجميع"(120).
مثل هذا الرأي في الحياة والموت لن يصادف قبولاً عند الغربي الذي تتغلغل الفردية في عقيدته الدينية كما تتغلغل في أنظمته السياسية والاقتصادية، لكنه رأي اقتنع به الهندوسي الفيلسوف اقتناعاً يدهشك باستمراره واتصاله، فسنجد




صفحة رقم : 703




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> آساس الهند -> فلسفة أسفار يوبانشاد


هذه الفلسفة التي وردت في اليوبانشاد- هذا اللاهوت التوحيدي، هذا الخلود الهندي من بوذا إلى غاندي، ومن ياجنافالكيا إلى طاغور، فأسفار اليوبانشاد قد ظلت للهند إلى يومنا هذا بمنزلة العهد الجديد للأقطار المسيحية- مذهباً دينياً سامياً- يمارسه الناس أحياناً، لكنهم يجلّونه بصفة عامة، بل إن هذه الفلسفة اللاهوتية الطموحة لتجد حتى في أوربا وأمريكا ملايين بعد ملايين من الأتباع، من نساء مللن العزلة ورجال أرهقهم التعب، إلى شوبنهور وإمرسن، فمن ذا كان يظن أن الفيلسوف الأمريكي العظيم الذي دعا إلى الفردية سيجري قلمه بتعبير كامل للعقيدة الهندية بأن الفردية وهم من الأوهام؟


براهما




إذا ظن القاتل المخضب بدماء قتيله أنه القاتل




أو إذا ظن القتيل أنه قتيل




فليسا يدريان ما اصطنع من خفي الأساليب




فأحفظها لدي، ثم أنشرها، ثم أعيدها




البعيد والمنسي هو إليّ قريب




والظل والضوء عندي سواء




والآلهة الخفية تظهر لي




وشهرة الإنسان بخيره أو بشره عندي سواء




إنهم يخطئون الحساب من يخرجونني من الحساب




إنهم إذا طيروني عن نفوسهم فأنا الجناحان




إنهم إن شكوا في وجودي فأنا الشك والشاك معاً




وأنا الترنيمة التي بها البراهمي يتغنى.






صفحة رقم : 704




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة



الباب الخامس عشر




بوذا




الفصل الأول




الزنادقة




المتشككون - العدميون - السوفسطائيون -




الملحدون - الماديون - ديانات بغير إله


إن أسفار اليوبانشاد نفسها تدل على أنه قد كان بين الناس متشككون حتى في أيام اليوبانشاد؛ فقد كان الحكماء أحيانا يسخرون من الكهنة، مثال ذلك في سفر "شاندوجيا" من أسفار اليوبانشاد، تشبيه لرجال الدين المتشددين في تمسكهم بالعقيدة إذ ذاك بموكب من الكلاب أمسك كل منها ذيل سابقه، وهو يقول في ورع : "أم دعونا نأكل، أم دعونا نشرب"(1) ، وفي سفر "سواسانفد" من أسفار اليوبانشاد تصريح بأنه لا إله، ولا جنة، ولا نار، ولا تناسخ، ولا عالم؛ وإن أسفار الفيدا واليوبانشاد ليست إلا تأليفاً من عند جماعة من الحمقى المغرورين، وأن الأفكار أوهام والألفاظ كلها باطلة، وأن من تخدعهم العبارات البراقة يتمسكون بالآلهة، وبالمعابد، و "بالقديسين" مع أنه لا فرق في حقيقة الواقع بين "فشنو" (الإله) وبين كلب من الكلاب(2)، وإن قصة لتروى عن "فيروكانا" الذي عاش اثنين وثلاثين عاماً تلميذاً للإله العظيم "براجاباتي" نفسه، وأنه تعلم علماً كثيراً عن النفس "التي خلصت" من الشرور، والتي لا تشيخ، ولا تموت، ولا تحزن، ولا تجوع، ولا تظمأ، والتي لا ترغب إلا في الحق، ثم عاد "فيروكانا" بغتة إلى الأرض وطفق يعلم




صفحة رقم : 705




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة


الناس هذا المذهب الآتي الذي هو فضيحة الفضائح : "حياة الإنسان إنما تسعد هاهنا على الأرض، ونفس الإنسان لا بد من إشباع رغباتها، فمن استطاع أن يسعد نفسه على هذه الأرض، وأن يشبع رغبات نفسه، كسب الدارين معاً، هذه الحياة الدنيا والحياة الآخرة"(3)، وإذن فقد يكون البرهميون الصالحون الذين صانوا تاريخ بلادهم، قد خدعونا قليلاً حين أفهمونا أن نزعة التصوف والتقوى بين الهندوس كانت عامة لم يشذ عنها أحد.
والحق أنه كلما كشف لنا البحث العلمي عن شخصيات لم تكن في المنزلة العليا من احترام الناس، ممن اشتغلوا بالفلسفة الهندية قبل بوذا، ارتسمت لنا صورة تبين لنا إلى جانب القديسين السابحين في تأملاتهم عن إلههم "براهما"، طائفة من الأشخاص احتقرت الكهنة وشكت في الآلهة، وسميت- دون أن ترتاع لهذا الاسم- سميت بطائفة "اللا أدريين" و "العدميين"؛ فمثلاً رفض "سانجايا" اللا أدري أن يثبت أو أن ينفي الحياة بعد الموت، وتشكك في إمكان حصول الإنسان على العلم اليقيني، وحصر الفلسفة في محاولة استتباب السلام؛ كذلك أبى "بورانا كاشيابا" أن يعترف بالفوارق الخلقية، وعلم الناس أن الروح عبد للمصادفة لا يملك لها دفعاً؛ وذهب "ماسكارين جوسالا" إلى أن القدر قد خط في لوحه كل شئ يصيبه الإنسان بغض النظر عما هو جدير به حقاً؛ ورد "أجيتا كاسا كامبالين" الإنسان إلى عناصر هي التراب والماء والنار والهواء، وقال : "إن الحمقى وأرباب الحكمة يتشابهون إذا ما تحلل الجسد، فكلاهما يزول وينعدم ولا يكون له وجود بعد الموت"(4)، ولقد صور لنا مؤلف "رامايانا" صورة نموذجية للمتشكك حين صور لنا "جابالي" الذي جعل يسخر من راما" لأنه رفض مملكة ليفي بوعد تعهد بالوفاء به :
"جابالي وهو برهمي عالم وسوفسطائي مهر في الكلام، تشكك في الإيمان وفي القانون والواجب، وراح يحدث سيد أيوذيا الشاب قائلاً :




صفحة رقم : 706




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة




أنى لك يا "راما" هذه الحكم السخيفة التي ترين على قلبك وتكتنف عقلك.




هذه الحكم التي تضلل السذج ومن لا يتعمقون التفكير من بني الإنسان ...؟




أواه، إني لأبكي من أجل هؤلاء الفانين من الناس حين يخطئون فيكبون على واجب باطل.




ويضحون بهذه المتعة الحبيبة إلى النفس حتى تنقضي حياتهم القاحلة.




وما ينفكون يقدمون العطايا للآلهة وللأسلاف؛ ياله من ضياع للطعام!




لأنه لا الإله ولا السلف يأخذ منا هذا الذي نقدمه إليه في ولاء وتقوى!




وهل إذا أكل الطعام آكل، تغذى به ناس آخرون؟


فهذا الطعام تقدمونه لبرهمي، هل يمكن له إذن أن يشبع الآباء السالفين؛ إن الكهنة بخبثهم قد صاغوا هذه الحكم، وهم يقولون إذ هم ينظرون إلي أغراض أنانية:


"قدم قربانك وتب إلى الله؛ واترك مالك الدنيوي وأخلص للصلاة!"




كلا، يا "راما" ليس هناك حياة آخره، وكلها أباطيل




هذه الآمال وهذه العقائد عند الإنسان




فابحث عن لذائذ الحاضر، واطرد عن نفسك هذه الأوهام العابثة الواهية(5)


ولما شب بوذا رجلاً، وجد القيعان والشوارع بل وجد الغابات في شمال الهند، تتجاوب كلها بأصداء نزاع فلسفي، كان في جملته ينحو نحواً إلحاديا مادياً. وإنك لترى الأسفار الأخيرة من "يوبانشاد"، كما ترى أقدم الأسفار البوذية ملئاً بالإشارات إلى هؤلاء الزنادقة(6)؛ فقد كان هناك طائفة كبيرة من السوفسطائيين الجوالين- ويسمونهم باريباجاكا أو المتجولين- تنفق أحسن أيام السنة في الرحلة من مكان إلى مكان، باحثة لها عن تلاميذ أو معارضين في البحث الفلسفي؛ وبعضهم كان يعلم المنطق على أنه الفن الذي تستطيع به أن




صفحة رقم : 707




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة


تبرهن على أي شئ ، ولذلك أطلق عليهم بحق اسم "من يشققون الشعرة" أو "من يتلون تلوي ثعابين الماء"؛ وآخرون طفقوا يبرهنون على عدم وجود الله وعدم ضرورة اصطناع الفضيلة؛ وكانت جموع كبيرة من الناس تحتشد لتسمع أمثال هذه المحاضرات والمناقشات، وبنيت قاعات لهم خاصة، وكان الأمراء أحيانا يكافئون الظافرين في أمثال هذه الحلبات الفكرية(7)؛ حقاً لقد كان عصراً يدهشك بحرية فكره، وبألوان التجارب التي أجراها أهله في عالم الفلسفة.
ولم يبق لنا كثير مما قاله هؤلاء المتشككة، والفضل في خلود ذكراهم يرجع كله تقريباً إلى ما هاجمهم به أعداؤهم(Cool، وأقدم اسم بين تلك الطائفة هو "بريهاسباتي"، لكن أقواله الهدامة قد فنيت كلها، بحيث لم يبق لنا منها إلا قصيدة واحدة تحط من شأن الكهنة في لغة لا يشوبها غموض الميتافيزيقا:


ليس للجنة وجود، وليس هناك خلاص أخير؛




فلا روح، ولا آخرة، ولا طقوس للطبقات ...




إن فيدا ذات الوجوه الثلاثة، وأمر الإنسان لنفسه بلغات ثلاث؛




وهذه التوبة بكل ما فيها من تراب ورماد.




كل هذه وسائل عيش لقوم




خلوا من الذكاء والرجولة ...




كيف يمكن لهذا الجسد إذا ما أصبح تراباً




أن يعود إلى الظهور على الأرض؟ وإذا كان في وسع الشبح أن يمضي




إلى عوالم أخرى، فلماذا لا يجذبه الحب الشديد




لمن يخلفهم وراءه ، فيرجعه إليهم؟




إن هذه الطقوس الغالية التي تقام لمن يموتون




ليست إلا وسائل عيش دبّرها






صفحة رقم : 708




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة




دهاء الكهنة- لا أكثر من ذلك ...




فما دمت حياً، أنفق حياتك مطمئن البال




مرح النفس؛ ليقترض الإنسان مالا




من أصدقائه جميعاً، ويطعم نفسه بالزبد المذاب.


وعلى أساس القواعد التي أذاعها "بريهاسباتي" هذا، نشأت مدرسة هندوسية مادية بأسرها، أطلق عليها اسم واحد من رجالها، وهو "شارفاكا" وكان أتباع هذه المدرسة يضحكون من سخف الرأي القائل : أن أسفار الفيدا قد احتوت على الحق كما أوحى به الله، وقالوا في حجاجهم إن الحق يستحيل معرفته إلا عن طريق الحواس؛ وحتى العقل لا يجوز الركون إليه والثقة به، لأن كل استدلال عقلي لا يعتمد في صوابه على الملاحظة الدقيقة والتدليل الصحيح فحسب، بل يعتمد كذلك على افتراض أن المستقبل سيجيء على غرار الماضي؛ واليقين في مثل هذا الافتراض مستحيل، كما كان "هيوم" ليقول في الموضوع عندئذ(10)؛ قال فريق "الشارفاكا" إن ما لا تدركه الحواس ليس له وجود، وإذن فالروح وهم من الأوهام والإله "أتمان" أبطولة من الأباطيل؛ أننا لا نصادف في تجاربنا ولا في تجارب السالفين، إذ نستبطن أنفسنا، أية علامة تدل على وجود قوى خارقة للطبيعة في العالم؛ كل الظواهر طبيعية، ولا يردها إلى الشياطين أو الآلهة إلا السذج(11)؛ والمادة هي وحدها الحقيقة التي لا حقيقة سواها؛ والجسم مجموعة من ذرات اجتمع بعضها ببعض(12) وما العقل إلا مادة تفكر؛ والجسم- لا الروح- هو الذي يشعر ويرى ويسمع ويفكر(13) "من ذا الذي رأى روحاً موجودة في استقلال عن الجسم؟" فليس هناك خلود ولا عودة إلى الحياة؛ والدين كله تخليط وهذيان وسفسطة خادعة؛ وافتراض وجود الله لا ينفع شيئاً في شرح العالم أو فهمه، وإذا اعتقد الناس بضرورة الدين، فما ذاك إلا لأنهم تعوّدوه، ولذا فهم يحسون كأنما ضاع منهم ضائع، ويشعرون كأنهم في خلاء لا تطمئن




صفحة رقم : 709




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> الزنادقة


له النفوس، حين تنمو معارفهم نمواً يهدم العقيدة الدينية(14)؛ وكذلك الأخلاق أمر طبيعي؛ فهي عرف اجتماعي ووسيلة لراحة العيش في المجتمع، وليست بالأمر الصادر من الله؛ والطبيعة لا تأبه لخير أو لشر، لفضيلة أو رذيلة، وهي تشرق بشمسها في غير تفرقة بين الأوغاد والقديسين؛ فلو كان للطبيعة صفة أخلاقية إطلاقاً، فهي منافاتها للأخلاق كما تعرفها حدود البشر؛ ولا حاجة بالإنسان إلى إلجام غرائزه وشهواته، لأن هذه هي الإرشادات التي رسمتها الطبيعة للناس؛ الفضيلة غلطة من الغلطات، وغاية الحياة هي أن تعيش، والحكمة الوحيدة هي أن تعيش سعيداً(15).
كانت الفلسفة الثائرة التي أخذ بها فريق "الشارفاكا" ختاماً لأسفار الفيدا وأسفار اليوبانشاد؛ وزعزعت سلطة البراهمة على العقل الهندي، وتركت في المجتمع الهندوسي فراغاً كاد يضطر الناس اضطراراً أن يصطنعوا لأنفسهم ديناً جديداً؛ لكن أنصار المذهب المادي هؤلاء كانوا قد أجادوا أداء مهمتهم إجادة جعلت الديانتين اللتين نشأتا لتحلا محل العقيدة الفيدية، ديانتين ملحدتين، أو عقيدتين تعبديتين بغير إله- ولو أن هذا القول قد يبدو للقارئ تناقضاً- فكلتا الديانتين الجديدتين كانتا شعبتين من الحركة الهدامة؛ وكلتاهما لم تكونا من إنشاء الكهنة البراهمة، بل ابتدعهما فريق من "الكشاترية" أي طبقة المقاتلين، ليردوا بهما فعل اللاهوت والطقوس الكهنوتية؛ وبظهور هاتين الديانتين، وهما الجانتية والبوذية، بدأ التاريخ الهندي عصراً جديداً.




صفحة رقم : 710




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون



الفصل الثاني




ماهافيرا والجانتيوُّن




البطل العظيم - العقيدة الجانتية - تعدد




الآلهة والشرك بالله - التقشف - الخلاص




بالانتحار - تاريخ الجانتية في مراحلها الأخيرة


حول منتصف القرن السادس قبل الميلاد، ولد صبي لرجل ثري من أشراف قبيلة "لِشَّافي" في ضاحية من ضواحي مدينة "فابشالي" في الإقليم الذي يسمى الآن بالإقليم "بهار" . وكان أبواه على ثرائهما ينتميان إلى عقيدة تنظر إلى العودة إلى الحياة على أنها لعنة نزلت بمن يعود، وتنظر إلى الانتحار على أنه ميزة ينعم بها المنتحر؛ فلما أن بلغ وليدهما عامه الحادي والثلاثين، أزهقا روحيهما بجوع متعمد؛ فتأثر ابنهما الشاب تأثراً بلغ منه سويداء نفسه، فأطرح العالم كله وأساليب العيش فيه، وخلع عن جسده كل ثيابه، وضرب في أرجاء الإقليم الغربي من البنغال زاهداً متقشفاً، ينشد تطهير نفسه من أدرانها كما يقصد أن يزداد بسر الوجود فهماً وعلماً، وبعد أن قضى في إنكار ذاته على هذا النحو ثلاثة عشر عاماً، أعلنت جماعة من أتباعه أنه "جنا" (أي قاهر)؛ ومعنى ذلك أنه معلم من عظماء المعلمين الذين يكتب لهم القدر- هكذا كانوا يعتقدون- أن يظهروا على فترات دورية ليهدوا شعب الهند سواء السبيل.
واختار هؤلاء الأتباع لزعيمهم اسماً جديداً هو "ماهافيرا" أو "البطل العظيم"، واتخذوا لأنفسهم اسماً اشتقوه من اسم عقيدتهم، فأطلقوا على أنفسهم اسم "الجانتيين" ؛ ونظم "ماهافيرا" طائفة من رجاله يكونون




صفحة رقم : 711




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون


رهباناً عزاباً، وطائفة من النساء يكن راهبات عانسات؛ فلما أن جاءته منيته وهو في الثانية والسبعين من عمره، ترك وراءه أربعة عشر ألفاً من أشياع مذهبه.
وأخذت هذه العقيدة شيئاً فشيئاً تخرج من جوفها مذهباً من أعجب ما شهده تاريخ الديانات من مذاهب؛ فقد بدأ هؤلاء الأتباع بمنطق واقعي، إذ وصفوا المعرفة بأنها لا تتجاوز حدود النسبي الذي يقع في الزمان؛ فكانوا يعلمون الناس أن ليس ثمة حق إلا من وجهة نظر معينة، ولو نظر إلى هذا الحق من وجهات نظر أخرى لكان الأرجح أن يكون باطلاً؛ وكان يلذ لهم دائماً أن يرووا قصة العميان الستة الذين وضعوا أيديهم على أجزاء مختلفة من جسم الفيل، فمن وضع يده على أذنه ظن على أن الفيل مروحة ضخمة لذر الغلال، ومن وضع يده على ساقه قال أن الفيل عمود مستدير كبير(17)، فالأحكام كلها- إذن- محدود بحدود ومشروطة بشروط، وأما الحقيقة المطلقة فلا تتكشف إلا لهؤلاء المخلصين للبشر الذي يظهرون على فترات منتظمة، أو طائفة "الجنا" كما كانوا يسمونهم؛ وليست تنفع أسفار الفيدا لسد هذا النقص، لأنها لم تهبط من إله، وأقل ما يقال في التدليل على ذلك أن ليس هنالك إله؛ وقد قال الجانتيون أنه ليس من الضروري أن نفرض وجود خالق أو سبب أول، فكل طفل يستطيع أن يفند مثل هذا الفرض بقوله إن الخالق الذي لم ُيخْلَق أو السبب الذي لم يسبقه سبب، لا يقل صعوبة على الفهم عن افتراض عالم لم تسبقه أسباب ولم يخلقه خالق؛ وإنه لأقرب إلى المنطق السليم أن نعتقد أن الكون كان موجوداً منذ الأزل، وأن تغيراته وأطواره التي لانهاية لها ترجع إلى قوى كامنة في الطبيعة، من أن تعزو هذا كله إلى صناعة إله(18).
لكن مناخ الهند لا يساعد على عقيدة طبيعية تقوم بين الناس وتثبت، فلما أفرغ الجانتيون السماء من إلهها، لم يلبثوا أن عمروها من جديد بطائفة من القديسين المؤلهين ممن روى أخبارهم تاريخ الجانتين وأساطيرهم، وراحوا




صفحة رقم : 712




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون


يعبدونهم مخلصين لهم العبادة مقيمين لهم الشعائر؛ لكنهم اعتبروا هؤلاء المؤلهين أنفسهم خاضعين للتناسخ والتحلل، ولم يعدوهم خالقين للعالم أو سادة عليه يحكمونه بأي معنى من المعاني(19)، وليس معنى ذلك أن الجانتين كانوا يعتنقون مذهباً مادياً خالصاً، لأنهم فرقوا بين العقل والمادة في كل الكائنات، ففي كل شئ ، حتى الأحجار والمعادن، أرواح كامنة، وكل روح تحيا حياتها بغير شائبة تلام عليها، تصبح "بارماتمان"- أو روحاً سامية- وكانت تنجو بذلك من التقمص في جسد آخر، مدى حين، على أنها تتقمص جسدها الجديد إذا ما نالت من الجزاء حقها الموفور، ولا ينعم "بالخلاص" الكامل إلا أعلى الأرواح وأكملها؛ ومن هؤلاء تتكون طائفة "الأرْهات"- أي السادة المعظمين- الذين كانوا يعيشون، مثل آلهة أبيقور، في مملكة بعيدة ظليلة، وهم عاجزون عن التأثير في شئون الناس، لكنهم ينعمون بارتفاعهم عن كل احتمال يؤدي إلى عودتهم إلى الحياة(20).
والطريق المؤدية إلى الخلاص في رأي الجانتيين، هي توبة تقشفية، واصطناع "أهْمِساَ" موفورة كاملة، و"أهمسا" معناها الامتناع عن إيذاء أي كائن حي؛ ولزام على كل متقشف جانتي أن يأخذ على نفسه عهوداً خمسة؛ ألا يقتل كائناً حياً، وألا يكذب، وألا يأخذ ما لم يعطه، وأن يصون عفته، وأن ينبذ استمتاعه بالأشياء الخارجية كلها؛ وفي رأيهم أن اللذة الحسية خطيئة دائماً؛ والمثل الأعلى هو ألا تأبه للذة أو ألم وأن تستغني استغناءً تاماً عن الأشياء الخارجية كلها؛ فالزراعة حرام على الجانتي لأنها تمزق التربة وتسحق الحشرات والديدان؛ والجانتي الصالح يرفض أكل العسل لأنه حياة النحل، ويصفى الماء قبل شرابه خشية أن يقتل ما عساه أن يكون كامناً فيه من كائنات؛ ويغطى فمه حتى لا يستنشق مع الهواء أحياء عالقة في الهواء فيقتلها، ويحيط مصباحه بستار حتى يقي الحشرات لذع النار، ويكنس الأرض أمامه وهو يمشي خوفاً من




صفحة رقم : 713




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون


أن تدوس قدمه الحافية على كائن حي فترديه؛ ولا يجوز للجانتي أبداً أن يذبح حيواناً أو يضحي به؛ ولو كان "جانتياً" صميماً أقام المستشفيات والمصحات- كما ترى في احمد أباد- للحيوانات إن هرمت أو أصابها أذى؛ والحياة التي يجوز له أن يزهقها هي حياته دون غيرها؛ فالعقيدة الجانتية تجيز الانتحار ولا تقيم في سبيله العقبات، خصوصاً إذا تم بوسيلة الجوع، لأن ذلك أبلغ انتصار تظفر به الروح على إرادة الحياة العمياء؛ ولقد مات جانتيون كثيرون على هذا النحو، وقادة المذهب يبارحون هذه الدنيا- حتى في عصرنا هذا- بتجويع أنفسهم حتى الموت(21).
إن عقيدة دينية كهذه، قائمة على أساس من الشك العميق في قيمة الحياة والإنكار الشديد لها، كان يمكن أن تجد في الناس شيوعاً في بلد ما فتئت الحياة فيه عسيرة شاقة؛ لكن هذا التطرف في الزهد قد حال دون إقبال الناس عليها حتى في الهند؛ فمنذ ظهور المذهب الجانتي، والجانتيون صفوة مختارة؛ و على الرغم من أن "يوان شوانج" وجدهم عديدي النفر أقوياء الأثر في القرن السابع(22). فإنهم كانوا عندئذ في أوج حياتهم التي سلخت سيرتها في هدوء؛ وحدث سنة 79م أن انشقوا فريقين تفصلهما هوة سحيقة من اختلاف الرأي على موضوع العري؛ ومنذ ذلك الحين، كان الجانتي إما إن يكون منتسباً إلى طائفة "شويتامْبَارا"- أي طائفة ذوي الأردية البيض- وأما أن يكون منتسباً إلى طائفة "ديجامبارا"- أي المتزملين بالسماء، أو ذوي الأجساد العارية؛ وكلتا الطائفتين تلبس الثياب العادية كما يقضي المكان والزمان، وقدّيسوهم وحدهم هم الذين يجوبون الطرقات عراة الأجسام؛ وهذان المذهبان الفرعيان لهما فروع، فطائفة "ديجامبارا" لها أربعة فروع، وطائفة "شويتامبارا" لها أربعة وثمانون فرعاً(23)، ويبلغ عدد أتباع الطائفتين معاً مليوناً وثلاثمائة ألف نسمة من عدد السكان الذين يبلغون ثلاثمائة وعشرين




صفحة رقم : 714




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> ماهافيرا والجانتيون


مليوناً(24)، ولقد كان غاندي شديد التأثر بالمذهب الجانتي، واصطنع " أهمسا "- ومعناها الامتناع عن إيذاء الكائنات الحية على اختلافها- أساساً لسياسته وحياته، ورضي من الثياب بقطعة صغيرة من القماش تستر ردفيه، ولم يكن يستحيل عليه أن يزهق نفسه جوعاً؛ ومن يدري؟ فلعل الجانتيين يسلكونه في طائفة "الجنا" ، فيعدونه تجسّداً جديداً للروح العظمى التي تتقمص جسداً من لحم على فترات منتظمة من الدهر لتخلص العالم.




صفحة رقم : 715




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا



الفصل الثالث




أسطورة بوذا




بطانة بوذية - الولادة المعجزة - النشأة - أحزان




الحياة - الهرب - أعوام التقشف - الهداية -




رؤية النرفانا


إنه لمن العسير على أبصارنا أن نرى عبر ألفين وخمسمائة عام ماذا كانت الظروف الاقتصادية والسياسية والخلقية التي استدعت ظهور ديانتين تدعوان إلى مثل ما تدعوا إليه الجانتية والبوذية من تقشف وتشاؤم؛ فمما لا شك فيه أن الهند كانت قد خطت خطوات فسيحة في سبيلها إلى الرقي المادي منذ استقر بها الحكم الآري؛ فبنيت مدائن عظيمة مثل "باتاليبُترا" و "فايشالي" ؛ وزادت الصناعة والتجارة من ثروة البلاد؛ والثروة بدورها خلقت لطائفة من الناس فراغاً، ثم طَوَّر الفراغ العلم والثقافة؛ ومن الجائز أن تكون الثروة في الهند هي التي أشاعت فيها النزعة الأبيقورية المادية خلال القرنين السابع والسادس قبل الميلاد؛ ذلك لأن الدين لا يزدهر في حياة تزدهر بالثراء، إذ الحواس في ظل الثراء تحرر نفسها من قيود الورع وتخلق من الفلسفات ما يبرر هذا التحرر؛ وكما حدث في الصين أيام كونفوشيوس، وفي اليونان أيام بروتاجوراس- ولن نذكر في الهند أيام بوذا- أن أدى الانحلال العقلي للديانة القديمة إلى شك وفوضى في الأخلاق؛ فالجانتية والبوذية، ولو أنهما مترعتان في ثناياهما بلون من الإلحاد الكئيب، الذي ساد ذلك العصر بعد أن زالت عن عينيه غشاوة الأحلام وأوهامها؛ إلا أنهما في الوقت نفسه كانتا بمثابة رد الفعل من جانب الدين في مقاومته لمذاهب اللذة التي أخذت بها طبقة من الناس

أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:02 pm



صفحة رقم : 716




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


حررت نفسها ونعمت في حياتها بالفراغ .
وتصف الرواية الهندوسية والد بوذا- شُدْ ذُوذانا- بأنه رجل غمس نفسه في الحياة ، وهو من أبناء عشيرة "جواتاما" التي تنتسب إلى قبيلة "شاكيا" المُدِلَّة بنفسها؛ كان أميراً أو ملكاً على "كابيلافاستو" عند سفح الهمالايا(25)؛ ولكننا في حقيقة الأمر لا نعرف شيئاً عن بوذا معرفة اليقين؛ فلو رأيتنا قد قصصنا عليك هاهنا القصص التي تجمعت حول اسمه، فليس ذلك لأنها تاريخ نريد إثباته، ولكننا نرويها لأنها جزء ضروري من الأدب الهندي والديانة الآسيوية، ويحدد العلماء مولد بوذا بعام يقرب من سنة 563 ق.م. ثم لا يستطيعون أن يضيفوا إلى ذلك شيئاً، فتتناول الأساطير بقية قصته، وتكشف لنا عن الغرائب التي قد تحدث حين تحمل الأمهات بأعلام الرجال، فيذكر لنا سفر من أسفار "جاتاكا" . أنه في ذلك الوقت:
"في مدينة كابيلافاستو" أعلن عن الاحتفال بالبدر؛ وبدأت الملكة "مايا" قبل موعد البدر بسبعة أيام تقيم حفلاتها بالعيد دون أن تقدم فيها المسكرات، مكتفية بما أغرقت به ولائمها من أكاليل الزهور والعطور؛ وفي اليوم السابع- يوم اكتمال البدر- استيقظت مبكرة واستحمت في ماء عبق بالعطر،




صفحة رقم : 717




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


وأحسنت للفقراء بأربعمائة ألف قطعة من النقد؛ ولما أخذت زخرفها وازينت، جلست تأكل طعامها من أطيب الطعام، وقطعت على نفسها عهود "أبوساذا" ثم دخلت مخدعها الرسمي المزدان، واستلقت على سريرها، فأخذها النعاس ورأت هذا الحلم:
رأت أربعة ملوك عظماء يرفعونها في سريرها ويأخذونها إلى جبال الهمالايا ويضعونها على هضبة مانوسيلا... ثم رأت ملكات هؤلاء الملوك الأربعة، يأتين إليها فيأخذنها إلى بحيرة أنوتانا، ويغمسنها في الماء ليزلن عنها الصبغة البشرية، ويلبسنها أردية سماوية ويعطرنها بالعطور ويزينها بالزهور القدسية؛ ولم يكن على مبعدة منها أن رأت جبلاً من فضة وعليه قصر من ذهب؛ وهنالك أعددن لها سريراً إلهياً رأسه إلى الشرق، وأرقدنها عليه؛ وهاهنا انقلب "بوذيساتاوا" فيلاً أبيض؛ وكان على مقربة من المكان جبل من ذهب، فلما أن بلغه هبط منه إلى جبل الفضة آتياً إليه من جهة الشمال؛ وفي جعبته التي أشبهت حبلاً من فضة، كان يحمل زهراً أبيض من زهور اللوتس؛ وبعدئذ نفخ في الصور ودخل قصر الذهب ودار تجاه اليمين دورات ثلاثاً حول سرير أمه، ثم ضرب جنبها الأيمن وظهر لها كأنه يدخل رحمها؛ وبهذا تلقى... حياة جديدة.
واستيقظت الملكة في اليوم التالي وروت حلمها للملك؛ فدعا الملك إلى حضرته أربعة وستين من أعلام البراهمة، وخلع عليهم خلع التكريم وأشبعهم طعاماً فاخراً وقدم إليهم الهدايا؛ فلما أن رضيت نفوسهم بهذه اللذائذ كلها،




صفحة رقم : 718




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


أمر بالحلم أن تقص عليهم قصته، واستفسرهم ما يكنه الغيب، فقال البراهمة : لا يأخذنك الهم أيها الملك، فقد حملت الملكة، حملت ذكراً لا أنثى، وسيكون لك ابن؛ ولو سكن ذلك الولد بيتاً فسيكون ملكاً، سيكون ملكاً على الدنيا بأسرها، وأما إن ترك داره وخرج من أحضان العالم، فسيصبح بوذا، وسيكون في هذا العالم رافع الغشاوة عن أعين الناس (غشاوة الجهل)...
وحملت الملكة "مايا" "بوذيساتاوا" عشرة أشهر كأنه الزيت في القدح، ولما أن جاءها أو أنها رغبت في الذهاب إلى بيت أهلها، ووجهت الخطاب إلى الملك "شدذوذانا" قائلة: "أريد أيها الملك أن أذهب إلى "ديفاداذا" مدينة أسرتي" فوافق الملك وأمر بالطريق من "كابيلا فاستو" إلى "ديفاداذا" أن يمهد وأن يزين بأصص النبات، وبالرايات والأعلام، وأجلسها في هودج من ذهب يحمله ألف من رجال البلاط، وأرسلها إلى بيت أهلها في حاشية كبيرة؛ وبين البلدين حرج يملكه أهل المدينتين جميعاً، هو حرج يمرح فيه الناس يتألف من أشجار "الملح" ويسمى "حرج لمبيني" ، وكان الحرج إذ ذاك كتلة واحدة من الزهر الذي يغطي الأشجار من جذورها إلى رؤوسها... فلما رأته الملكة رغبت في أن تمرح في الحرج، وذهبت إلى جذع شجرة كبيرة من أشجار "الملح" وأرادت أن تمسك بغصن من غصونها، فانحنى الغصن حتى بات في متناول يدها كأنه الطرف الأعلى من قصبة لينة، ومدت يدها وتناولته، وفي هذه اللحظة عينها اهتزت بالمخاض، فأقامت لها الحاشية ستاراً يسترها، وأبعدت عنها، فوضعت وليدها وهي لم تزل واقفة ممسكة بغصن الشجرة في يدها؛ ولم ينزل "بوذيساتاوا"- كما ينزل سائر الأطفال من أجواق أمهاتهم- ملوثاً بالشوائب؛ بل نزل "بوذيساتاوا" كما ينزل الواعظ من منبر وعظه، نزل كأنه الرجل ينزل السلم، ومد يديه وقدميه، ووقف لا يلوثه القذر ولا تدنسه شائبة من الشوائب، وقف مشرقاً بالضوء كأنه جوهرة موضوعة على ثوب بنارسي، هكذا هبط من جوف أمه"(28).




صفحة رقم : 719




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


وفوق ذلك ينبغي أن تعلم أن عند مولد بوذا ظهر في السماء ضوء لامع، وسمع الأصم، ونطق الأبكم، واستقام الأعرج على ساقيه، وانحنت الآلهة من علياء سمائها لتمد له أيدي المعونة، وأقبل الملوك من نائي البلاد يرحبون بمقدمه، وتصور لنا الأساطير صورة زاهية لما أحاط نشأته من أسباب العز والترف؛ وعاش عيش الأمير الهانئ في ثلاثة قصور "كأنه إله" ، وكان أبوه يقيه، مدفوعاً بحبه الأبوي، شر الاتصال بما تعانيه الحياة البشرية من آلام وأحزان؛ وكان يقوم على تسليته أربع آلاف راقصة، ولما بلغ الرشد، عرضت عليه خمسمائة سيدة ليختار إحداهن زوجة له؛ ولما كان ينتمي إلى طبقة "الكشاترية"- أي المقاتلين- أحسن تدريبه في الفنون العسكرية، ولكنه إلى جانب ذلك جلس عند أقدام الحكماء حتى أتقن دراسة النظريات الفلسفية كلها التي كانت شائعة في عصره(29)؛ وتزوج وأصبح والداً سعيداً بحياته، وعاش في ثراء ودعة وطيب أحدوثة.
ويروى الرواة الصالحون أنه خرج من قصره ذات يوم إلى الطرقات حيث عامة الناس، وهنالك رأى شيخاً كهلاً؛ وخرج يوماً ثانياً فرأى رجلاً مريضاً؛ وخرج يوماً ثالثاً فرأى ميتاً... فاسمع له يروي القصة بنفسه- كما نقلها عنه أتباعه في الكتب المقدسة- يرويها فيحرك في نفسك كامن الشعور:
"وبعدئذ أيها الرهبان جرت خواطري على النحو الآتي- فيما كنت فيه من جلال عيش ورفاهية بالغة- قلت لنفسي: "إن رجلاً جاهلاً من سواد الناس، ستنال منه الكهولة كما نالت من ذلك الشيخ، وليس هو بالبعيد عن نطاق الشيخوخة، يضطرب ويستحي وتعاف نفسه حين يبصر بشيخ كهل، لأنه يتصور نفسه في مثل حالته؛ إنني كذلك قابل للشيخوخة، ولست بعيداً عن نطاقها؛ أفينبغي لي- وأنا القابل للشيخوخة- إذا ما رأيت شيخاً كهلاً، أن أضطرب وأن أستحي وأن تعاف نفسي؟ " لم أر ذلك مما يليق؛ ولما طاف برأسي هذا الخاطر، ذهب عني بغتة كل تيه بشبابي ...




صفحة رقم : 720




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


وهكذا أيها الرهبان، قبل أن أهتدي سواء السبيل، لما وجدتني ممن تجوز عليهم الولادة، بحثت في طبيعة هذه الولادة ماذا تكون؛ ولما وجدتني ممن تجوز عليهم الشيخوخة بحثت في طبيعة هذه الشيخوخة ماذا تكون، وكذلك المرض، وكذلك الحزن، وكذلك الدنس؛ ثم فكرت لنفسي: "مادمت أنا نفسي ممن تجوز عليهم الولادة، فماذا لو بحثت في طبيعتها ... فلما رأيت ما في طبيعة الولادة من تعس، جعلت أبحث عمن لا يولد، أبحث عن السكينة العليا، سكينة النرفانا"(30).
إن الموت هو أصل الديانات كلها؛ ويجوز أنه لم يكن هناك موت لما كان للآلهة عندنا وجود؛ هذه النظرات كانت بداية "التنوير" عند بوذا؛ وكما يرتد الإنسان عن دينه في لحظة، كذلك حدث لبوذا أن صمم فجأة أن يترك أباه وزوجته وابنه الرضيع، ليضرب في الصحراء زاهداً؛ ولما أسدل الليل ستاره، تسلل إلى غرفة زوجته، ونظر إلى ابنه "راهولا" نظرة أخيرة؛ وتقول الأسفار المقدسة البوذية، ففي فقرة يقدسها اتباع "جوتاما" جميعاً، أنه في هذه اللحظة عينها:
"كان مصباح يضيء بزيت عبق، وكانت أم "راهولا" نائمة على سرير مليء بأكداس الياسمين وغيره من ألوان الزهور، واضعة راحتها على رأس ابنها؛ فنظر "بوذيساتاوا"- بوذا المنتظر- وقدماه عند الباب، وقال لنفسه:
"لو أزحت يد الملكة لآخذ ابني، فستستيقظ الملكة، وسيكون ذلك حائلاً دون فراري؛ إنني إذا ما أصبحت بوذا سأعود لأراه" ونزل من القصر (31).
وفي ظلمة الصباح الباكر خلف المدينة على ظهر جواده "كانثاكا" يصحبه سائق عربته "شونا" وقد تعلق يائساً بذيل الجواد؛ وعندئذ تبدى له "مارا" أمير الشر، وأغواه بمُلك عريض، لكن بوذا أبى عليه غوايته، وظل راكباً جواده حتى صادفه نهر عريض فوثب من شاطئه إلى شاطئه بوثبة




صفحة رقم : 721




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


واحدة جبارة وطافت بنفسه رغبة أن ينظر إلى بلده لكنه أبى على نفسه اللفتة ليرى؛ ثم استدارت الأرض العظيمة حتى لا تصبح أمامه سبيل إلى النظر إلى وراء(32).
ووقف عند مكان اسمه "يوروفيلا" يقول: "قلت لنفسي إن هذا المكان رائع، وإن هذه لغابة جميلة؛ فالنهر ينساب صافياً، وأماكن الاستحمام تبعث في النفس السرور، وكل ما حولي مروج وقرى". وهاهنا في هذا الموضوع أخضع نفسه لأشق أنواع التقشف؛ ولبث ستة أعوام يحاول أساليب "اليوجا"- رياض النفس- التي كانت قد ظهرت قبل ذاك في ربوع الهند؛ وعاش على الحبوب والكلأ، ومضى عليه عهد اقتات فيه بالروث، وانتهى به التدرج إلى أن جعل طعامه حبة من الأرز كل يوم، ولبس ثياباً من الوبر وانتزع شعر رأسه ولحيته لينزل بنفسه العذاب لذات العذاب؛ وكان ينفق الساعات الطوال واقفاً أو راقداً على الشوك، وكان يترك التراب والقذر يتجمع على جسده حتى يشبه في منظره شجرة عجوزاً؛ وكثيراً ما كان يرتاد مكاناً تلقى فيه جثث الموتى مكشوفة ليأكلها الطير والوحش، فينام بين هذه الجثث العفنة. ثم اسمع له مرة أخرى يروي لك قصته:
"قلت لنفسي: ماذا لو زممت الآن أسناني، وضغطت لساني إلى لهاتي، وألجمت عقلي وسحقته وأحرقته بعقلي (وهكذا فعلت) ونضح العرق من إبطي... ثم قلت لنفسي: ماذا لو اصطنعت الآن غيبوبة شعورية يقف فيها التنفس؟ وهكذا أوقفت النفس شهيقاً وزفيراً من أنفي وفمي؛ ولما فعلت ذلك سمعت صوتاً عنيفاً للهواء يخرج من أذني... وكما يحدث للرجل إذا ما أراد أن يهشم لإنسان رأسه بسن سيفه، فكذلك رجت الرياح العنيفة رأسي ... ثم قلت لنفسي: ماذا لو قللت من طعامي، فلا آكل اكثر مما تسع راحتي من عصير الفول أو العدس أو البسلة أو الحمص... فضمر جسدي ضموراً شديداً، وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت العلامة التي أتركها على الأرض إذا ما جلست، في هيئة أثر الخف يتركه البعير على الرمال؛ وكان من أثر




صفحة رقم : 722




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


تقليل الطعام أن برزت عظام فقراتي إذا ما حنيتها أو فردتها حتى أشبهت صفاً من رؤوس المغازل؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن أصبحت عيني تبرقان عميقتين وطيئتين في محجريهما، كما يبرق الماء عميقاً وطيئاً في بئر عميقة؛ وكان من أثر تقليل الطعام أن ذبل جلد رأسي كما تتشقق وتذوي القرعة المرة المفصولة عن فرعها وهي فجة، بفعل الشمس والمطر؛ ولما كنت أمد يدي لأمس جلدة بطني، كنت أجدني في حقيقة الأمر أمسك بفقرات ظهري؛ وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا ما أردت برازاً وجدتني انبطح على الأرض سطيحاً، وكان من أثر تقليل الطعام أني إذا أردت راحة لجسمي وأخذت أدلكه بكفي، كانت الشعرات الذاوية تساقط منه"(33).
لكن فكرة أشرقت على بوذا ذات يوم وهي أن تعذيب النفس ليس هو السبيل لما يريد؛ وربما كان في ذلك اليوم أشد جوعاً منه في سائر الأيام، أو ربما ثارت في نفسه إذ ذاك ذكرى من ذكريات الجمال؛ ذلك أنه لم يلحظ تنويراً جديداً يأتيه من هذه الحياة القاسية بزهدها؛ "إنني بمثل هذه القسوة لا أراني أبلغ العلم والبصيرة الساميتين على مستوى البشر، وهما العلم والمعرفة اللتان تتصفان بالرفعة الحقيقية"؛ بل الأمر على نقيض ذلك، إن تعذيبه لنفسه قد ولد فيه شعور الزهو بنفسه مما يفسد أي نوع من أنواع التقديس التي كان من الجائز أن تفيض من نفسه؛ فأقلع عن زهده وذهب ليجلس تحت شجرة وارفة الظل وجلس هناك جلسة مستقيمة لا حركة فيها، مصمماً ألا يبرح ذاك المكان حتى يأتيه التنوير؛ وسأل نفسه: ما مصدر ما يعانيه الإنسان من أحزان وآلام وأمراض وشيخوخة وموت؟ وهنا أشرقت عليه فجأة صورة للموت والولادة يتعاقبان في مجرى الحياة تعاقباً لا ينتهي؛ ورأى أن كل موت يزول أثره بولادة جديدة؛ وكل سكينة وغبطة تقابلها شهوة جديدة وقلق جديد وخيبة أمل جديدة وحزن جديد وألم جديد. "وهكذا




صفحة رقم : 723




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


ركزت عقلي في حالة من نقاء وصفاء... ركزته في فناء الكائنات وعودتها إلى الحياة في ولادة جديدة؛ وبنظرة قدسية مطهرة إلهية، رأيت الكائنات الحية تمضي ثم تعود فتولد دنية أو سنية، خيرة أو شريرة، سعيدة أو شقية، حسب ما يكون لها من "كارما" وفق ذلك القانون الشامل الذي بمقتضاه سيتلقى كل فعل خير ثوابه، وكل فعل شرير عقابه، في هذه الحياة، أو في حياة تالية تتقمص فيها الروح جسداً آخر.
إن رؤيته لهذا التعاقب السخيف سخفاً لا يخفي على الرائي، هذا التعاقب بين الموت والولادة، هي التي جعلته يزدري الحياة البشرية ازدراء؛ فقال لنفسه: إن الولادة أم الشرور جميعاً، ومع ذلك فالولادة ماضية في طريقها لا تقف فيه عند حد، أنها ماضية إلى الأبد في طريقها تعيد إلى مجرى الأحزان البشرية فيضه إن فرغ مما يملؤه؛ فلو استطعنا وقف هذه الولادة ... لماذا لا نقفها؟ لأن قانون "كارما" يتطلب حالات جديدة من التقمص للروح، لكي يتاح لها أن تكفر عما اقترفت من شرور في حيواتها الماضيات؛ وإذن فإن استطاع الإنسان أن يعيش حياة يسودها عدل كامل، حياة يسودها صبر وشفقة لا يمتنعان إزاء الناس جميعاً، لو استطاع أن يحوم بفكره حول ما هو أبدي خالد، ولا يربط هواه بما يبدأ وينتهي- عندئذ يجوز أن يجنب نفسه العودة إلى الحياة، وسيغيض معين الشر بالنسبة إليه؛ لو استطاع الإنسان أن يخمد شهوات نفسه، ساعياً وراء فعل الخير دون سواه، عندئذ يجوز أن يمحو هذه الفردية التي هي أولى أوهام الإنسانية وأسوأها آثراً، وتتحد النفس آخر الأمر باللانهاية اللاواعية؛ فيالها من سكينة تحل بقلب طهر نفسه من شهواته الذاتية تطهيراً تاماً !- وهل ترى قلباً، لم يطهر نفسه على هذا النحو، قد عرف إلى السكينة سبيلاً ؟ إن السعادة مستحيلة، فلا هي ممكنة في هذه الحياة الدنيا كما يظن الوثنيون، ولا هي ممكنة في الحياة الآخرة كما يتوهم




صفحة رقم : 724




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> أسطورة بوذا


أنصار كثير من الديانات، أما ما يمكن أن نظفر به فهو السكينة، هو الهمود البارد الذي نصيبه إذا ما نفضنا عنا كل شهواتنا، هو النرفانا.
وهكذا بعد سنوات سبع قضاها متأملاً، أدرك "النبي المستنير" سبب ما يعانيه الناس من آلام فأخذ سمته نحو "المدينة المقدسة" مدينة بنارس، وهناك في روضة الغزلان عند "سارنات" طفق يبشر الناس بالنرفانا.




صفحة رقم : 725




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا



الفصل الرابع




تعاليم بوذا




صورة الزعيم - أساليبه - الحقائق السامية الأربع - الطريق ذو




الخمس شعب - قواعد الأخلاق الخمس - بوذا والمسيح - لا أدرية




بوذا ومناهضته لرجال الدين - إلحاده - علم النفس بغير نفس- معنى النرفانا


كانت وسيلة بوذا في نشر تعاليمه- شأنه في ذلك شأن سائر المعلمين في عصره- هي المحاورة والمحاضرة وضرب المثل؛ ولما لم يدر في خلده قط- كما لم يدر في خلد سقراط أو المسيح- أن يدون مذهبه، فقد لخصه في "عبارات مركزة" أريد بها أن يسهل وعيه على الذاكرة؛ وهذه المحادثات- على الصورة التي احتفظ لنا بها الرواة من أتباعه- تصور تصويراً لاشعورياً أول شخصية واضحة الحدود والمعالم في التاريخ الهندي: رجل قوى الإرادة، صادق الرواية، مزهو بنفسه، وديع المعاملة، رقيق الكلام، محسن إحساناً




صفحة رقم : 726




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


لا ينتهي عند حد معلوم؛ ولقد زعم لنفسه "الاستنارة" لكنه لم يدّعِ الوحي، فما زعم قط للناس أن إلهاً كان يتكلم بلسانه؛ وهو في جدله مع خصومه أكثر صبراً ومجاملة من أي معلم آخر ممن شهدت الإنسانية من أعلام المعلمين؛ ويصوره لنا أتباعه- وربما كانوا يضيفون إليه ما ليس فيه لتكمل صورته- يصورنه لنا مصطنعاً لـ "أهمسا" على أتم درجاتها (والأهمسا هي الامتناع عن قتل الكائنات الحية على اختلافها)؛ فيقولون عنه : "أن جوتاما الذي اعتزل الناس قد رفع نفسه عن الفتك بالحياة، بأن كف عن قتل الأحياء؛ لقد خلع عن نفسه الهراوة والسيف (مع أنه كان يوماً من طبقة الكشاترية- أي طبقة المقاتلين) وهو يزورُّ عن غلظة المعاملة ازوراراً، ويمتلئ قلبه بالرحمة، فهو رحيم شفوق بكل كائن تدب فيه بالحياة... وترفع عن النميمة، أو رفع نفسه عن دناءة الغيبة... هكذا كان يعيش رابطاً لما انحلت عراه، مشجعاً لدوام الصداقة بين الأصدقاء، مصلحاً ذات البين عند الخصوم، محباً للسلام، متحمساً للسلام، متحدثاً بكلمات تهيئ للسلام" (36)؛ لقد كان مثل "لاوتسي" ومثل "المسيح" يود أن يرد السيئة بالحسنة، والكراهية بالحب؛ وإذا أسيء إليه في النقاش أو أسيء التفاهم بينه وبين من يحاوره، آثر الصمت: "إذا أساء إلي إنسان عن حمق، فسأرد عليه بوقاية من حبي إياه حباً مخلصاً، وكلما زادني شراً، زدته خيراً" ؛ فإذا جاءه غر وإهانة، استمع إليه بوذا وهو صامت، حتى إذا ما فرغ الرجل من حديثه، سأله بوذا: "إذا رفض إنسان يا بني أن يقبل منحة تقدم إليه فمن يكون صاحبها؟" فيجيبه الرجل : "إن صاحبها عندئذ هو من قدمها"؛ فيقول له بوذا: "إني أرفض يا بني قبول إهانتك، والتمس منك أن تحفظها لنفسك"(37). إن بوذا- على خلاف الكثرة الغالبة من القديسين- كانت له روح الفكاهة، لأنه أدرك أن البحث الميتافيزيقي بغير ضحك يصاحبه، من ضروب الكبرياء.




صفحة رقم : 727




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


كانت طريقته في التعليم فريدة لا يماثلها نظير، ولو أنها مدينة بشيء "للجوالين" أو السوفسطائيين المتنقلين الذي عاصروه في بلده؛ فكان ينتقل من بلد إلى بلد، وفي صحبته تلاميذه المقربون، وفي أثره ما يقرب من ألف ومائتين من أتباعه المخلصين؛ ولم يكن أبداً يهتم لغده، فكان يكتفي بالزاد يقدمه له أحد المعجبين من سكان البلد الذي يحل فيه؛ ولقد وصم ذات يوم أتباعه بالعار، لأنه أكل في منزل امرأة فاجرة(38)؛ كانت طريقته دائماً أن يقف السير عند مدخل قرية من القرى، ويضرب خيامه في حديقة أو غابة أو على ضفة نهر؛ وكان يخصص ساعات العصر لتأملاته، وساعات المساء للتعليم؛ وكانت محادثاته تجري في صورة سقراطية من الأسئلة وضرب الأمثلة الخلقية والتلطف في الحوار، أو كان يسوق تعاليمه في عبارات مقتضبة يرمي بها إلى تركيز آرائه تركيزاً يجعلها في صورة من الإيجاز والترتيب بحيث تقر في الأذهان؛ وأحب "عباراته التعليمية المقتضبة" إلى نفسه هي "الحقائق السامية الأربع" التي بسط فيها رأيه بأن الحياة ضرب من الألم، وأن الألم يرجع إلى الشهوة، وأن الحكمة أساسها قمع الشهوات جميعاً:
1- تلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن الألم : الولادة مؤلمة، والمرض مؤلم، والشيخوخة مؤلمة، والحزن والبكاء والخيبة واليأس كلها مؤلم...
2- وتلك أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن سبب الألم : سببه الشهوة، الشهوة التي تؤدي إلى الولادة من جديد، الشهوة التي تمازجها اللذة والانغماس فيها، الشهوة التي تسعى وراء اللذائذ تتسقطها هنا وهناك، شهوة العاطفة، وشهوة الحياة، وشهوة العدم.
3- وتلك- أيها الرهبان هي الحقيقة السامية عن وقف الألم :




صفحة رقم : 728




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


أن نجتث هذه الشهوة من أصولها فلا تبقى لها بقية في نفوسنا، السبيل هي الانقطاع والعزلة والخلاص وفكاك أنفسنا مما يشغلها من شئون العيش.
4- وتلك- أيها الرهبان- هي الحقيقة السامية عن السبيل المؤدية إلى وقف الألم : إنها السبيل السامية ذات الشعب الثماني، ألا وهي: سلامة الرأي، وسلامة النية، وسلامة القول، وسلامة الفعل، وسلامة العيش، وسلامة الجهد، وسلامة ما نعني به، وسلامة التركيز(39).
كانت عقيدة بوذا التي يؤمن بصدقها، هي أن الألم أرجح كفة من اللذة في الحياة الإنسانية، وإذن فخير للإنسان ألا يولد؛ وهو في ذلك يقول أن ما سفح الناس من دموع لأغزر من كل ما تحتوي المحيطات العظيمة الأربعة من مياه(40)؛ فعنده إن كل لذة تحمل سمها في طيها، لمجرد أنها لذة عابرة قصيرة: "أذلك الذي يزول ولا يقيم هو الحزن أم السرور؟ "ألقى هذا السؤال على أحد تلاميذه، فأجابه هذا بقوله: "إنه الحزن يا مولاي"(41)؛ إذن فأس الشرور هو "تامبا"- وليس معناها الشهوة كائنة ما كانت، بل الشهوة الأنانية؛ الشهوة التي يوجهها صاحبها إلى صالح الجزء أكثر مما يريد بها صالح الكل؛ وفوق الشهوات كلها الشهوة الجنسية، لأنها تؤدي إلى التناسل الذي يطيل من سلسلة الحياة إلى ألم جديد بغير غاية مقصودة؛ وقد استنتج أحد تلاميذه من ذلك أنه- أي بوذا- بهذا الرأي يجيز الانتحار، لكن بوذا عنفه على استنتاجه ذاك، قائلاً: إن الانتحار لا خير فيه، لأن روح المنتحر- بسبب ما يشوبها من أدران- ستعود فتولد من جديد في أدوار أخرى من التقمص، حتى يتسنى لها نسيان نفسها نسياناً تاماً.
ولما طلب تلاميذه منه أن يحدد معنى الحياة السليمة في رأيه لكي يزيد الرأي وضوحاً، صاغ لهم "قواعد خلقية خمسة" يهتدون بها- وهي بمثابة




صفحة رقم : 729




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


الوصايا لكنها بسيطة مختصرة، غير أنها قد تكون "أشمل نطاقاً وأعسر التزاماً، مما تقتضيه الوصايا العشر" :
وأما وصاياه الخمس فهي :


1- لا يقتلن أحد كائناً حياً.




2- لا يأخذن أحد ما لم يعطه.




3- لا يقولن أحد كذباً.




4- لا يشربن أحد مسكراً.




5- لا يقمن أحد على دنس.


وترى بوذا في مواضع أخرى يضيف إلى تعاليمه عناصر يتسلف بها تعاليم المسيح على نحو يدعو إلى العجب: "على الإنسان أن يتغلب على غضبه بالشفقة، وأن يزيل الشر بالخير... إن النصر يولد المقت لأن المهزوم في شقاء... إن الكراهية يستحيل عليها في هذه الدنيا أن تزول بكراهية مثلها، إنما تزول الكراهية بالحب"(44). وهو كالمسيح لم يكن يطمئن نفساً في حضرة النساء، وتردد كثيراً قبل أن يسمح لهن بالانضمام إلى الطائفة البوذية؛ ولقد سأله تلميذه المقرب "أناندا" ذات يوم:


"كيف ينبغي لنا يا مولاي أن نسلك إزاء النساء؟".




"كما لو لم تكن قد رأيتهن يا أناندا".




"لكن ماذا نصنع لو تحتمت علينا رؤيتهن؟".




"لا تتحدث إليهن يا أناندا"




"لكن إذا ما تحدثن إلينا يا مولاي فماذا نصنع؟"




"كن منهن على حذر تام يا أناندا"






صفحة رقم : 730




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


كانت فكرته عن الدين خلقية خالصة؛ فكان كل ما يعنيه سلوك الناس، وأما الطقوس وأما شعائر العبادة، وما وراء الطبيعة واللاهوت، فكلها عنده لا تستحق النظر؛ وحدث ذات يوم أن هم برهمي بتطهير نفسه من خطاياها باستحمامه في "جايا" ، فقال له بوذا: "استحم هنا، نعم هاهنا ولا حاجة بك إلى السفر إلى جايا أيها البرهمي؛ كن رحيماً بالكائنات جميعاً؛ فإذا أنت لم تنطق كذباً، وإذا أنت لم تقتل روحاً، وإذا أنت لم تأخذ ما لم يعط لك، ولبثت آمناً في حدود إنكارك لذاتك- فماذا تجني من الذهاب إلى "جايا"؟ إن كل ماء يكون لك عندئذ كأنه جايا"(46)، إنك لن تجد في تاريخ الديانات ما هو أغرب من بوذا يؤسس ديانة عالمية، ومع ذلك يأبى أن يدخل في نقاش عن الأبدية والخلود والله؛ فاللانهائي أسطورة- كما يقول- وخرافة من خرافة الفلاسفة، الذين ليس لديهم من التواضع ما يعترفون به بأن الذرة يستحيل عليها أن تفهم الكون؛ وإنه ليبتسم(47) ساخراً من المحاورة في موضوع نهائية الكون أو لا نهائيته؛ كأنما هو قد تسلف بنظره إذ ذاك ما يدور بين علماء الطبيعة والرياضيات اليوم من مناقشة حول الموضوع مناقشة ما أقربها من حديث الأساطير؛ لقد رفض أن يبدي رأياً عما إذا كان للعالم بداية أو نهاية، أو إذا كانت النفس هي هي البدن أو شيئاً متميزاً منه، أو إذا كان في الجنة ثواب للناس حتى أقدس القديسين من بينهم؛ وهو يسمي هذه المشكلات "غاية التأمل النظري وصحراءه وبهلوانه والتواءه وتعقيده"(48) ويعتزم ألا يكون له شأن بأمثال هذه المسائل، فهي لا تؤدي بالباحثين فيها إلا إلى الخصومة الحادة، والكراهية الشخصية والحزن؛ ويستحيل أن تؤدي بهم إلى حكمة أو سلام؛ إن القدسية والرضى لا يكونان في معرفة الكون والله، وإنما يكونان في العيش الذي ينكر فيه الإنسان ذاته، ويبسط كفه للناس إحسانا(49)؛ ثم يضيف إلى ذلك تهكماً بشعاً فيقول أن الآلهة أنفسهم، لو كان



أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:04 pm

صفحة رقم : 731




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


لهم وجود، لما كان في وسعهم أن يجيبوا عن أمثال هذه المسائل.
حدث ذات مرة يا "كفاذا" أن طاف الشك بزميل من طائفة الزملاء هذه، حول النقطة الآتية : "أين تمضي هذه العناصر الأربعة الكبرى : التراب والماء والنار والهواء، بحيث لا تترك وراءها أثرا؟" وجعل ذلك الزميل يقدح زناد عقله حتى أخذته حالة من الوجد اتضحت له معها السبيل المؤدية إلى الله.
وعندئذ يا "كفاذا" صعد هذا الزميل إلى مملكة الملوك الأربعة الكبار، وخاطب آلهتهم قائلاً : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة




صفحة رقم : 732




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟"
فلما أن فرغ من سؤاله هذا، أجابه آلهة في سماء الملوك الأربعة الكبار: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك الملوك الأربعة الكبار، هم أقوى منا وأعظم، سلهم يجيبوك".
وعندئذ يا "كفاذا" ذهب ذلك الزميل إلى الملوك الأربعة وسأل نفس السؤال فأحيل بمثل ذلك الجواب إلى "الثلاثة والثلاثين" الذي أحالوه بدورهم إلى ملكهم "ساكا" الذي أحاله إلى آلهة "ياما" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوياما" الذي أحاله إلى آلهة "توسيتا" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سانتوسيتا" ، الذي أحاله إلى آلهة "نمانا- رتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "سوني ميتا" الذي أحاله إلى آلهة "بارانيميتا فاسافاتى" ، وهؤلاء أحالوه إلى ملكهم "فاسافاتى" الذي أحاله إلى آلهة العالم البرهمي).
وبعدئذ يا "كفاذا" جعل ذلك الزميل يركز تفكيره في نفسه تركيزاً استنفذ كل ذرة من انتباهه، وانتهى به ذلك التفكير المركز إلى شهوده بعقله الذي أمسك هكذا بزمامه، طريق العالم البرهمي واضحاً؛ فدنا من الآلهة التي تتألف منها حاشية براهما، وقال : "أين يا أصدقائي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟".
"فلما فرغ من سؤاله أجابته الآلهة التي تؤلف حاشية براهما قائلاً: "إننا يا أخانا لا ندري من ذلك شيئاً، لكن هنالك براهما، براهما العظيم، الواحد العلي، الواحد القدير، الواحد البصير، من بيده الأمر وله التدبير في جميع الشئون، فهو ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ ... هو السابق للزمان، وهو والد كل ما هو كائن وكل ما سيكون! إنه أقوى منا وأعظم، سله يجبك".
"أين إذن هذا البراهما العظيم؟".
"إننا يا أخانا لا ندري أين يكون براهما، ولا لماذا كان ولا من أين جاء؛ ولكن يا أخانا إذا ما بدت لنا بوادر مجيئه، إذا ما أشرق الضوء وسطع المجد، عندئذ سيبتدي للناظرين، لأن بادرة ظهور براهما هي إشراق الضوء وسطوح المجد".
ولم يمض طويل وقت بعد ذاك يا "كفاذا" حتى تبدى براهما العظيم، فدنا منه أخونا ذاك وسأله: "أين يا صديقي تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثرا؟".
فما فرغ من سؤاله أجابه براهما العظيم: "أنا يا أخي براهما العظيم العلي القوي البصير، بيدي الأمر والتدبير في كل شئ، وأنا ضابط كل شئ وخالق كل شئ وسيد كل شئ، أعين لكل شئ مكانه، أنا السابق للزمان ووالد كل ما هو كائن وكل ما سيكون!".
عندئذ أجاب الأخ براهما قائلاً: "أنا لم أسألك يا صديقي هل أنت حقاً كل هذا الذي ذكرت من صفات، لكني سألتك أين تذهب العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً؟".




صفحة رقم : 733




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


فأجابه براهما نفس الجواب مرة أخرى يا "كفاذا".
وأعاد أخونا سؤاله للمرة الثالثة إلى براهما.
فأخذ براهما العظيم- يا "كفاذا"- أخانا ذاك ونحاه جانباً وقال:
"إن هذه الآلهة التي منها تتألف حاشية براهما، تعتقد أني- يا أخي- أرى كل شئ وأعلم كل شئ وأتبين حقيقة كل شئ؛ ولهذا لم أجبك في حضرتهم؛ ولكنني، أيها الأخ، لست أدري أين تذهب هذه العناصر الأربعة الكبرى- التراب والماء والنار والهواء- بحيث لا تترك وراءها أثراً(50).
فإذا ما قال لبوذا بعض تلاميذه، إن البراهمة يزعمون الإلمام بحلول هذه المسائل، أجابهم بوذا ساخراً: "هنالك يا إخواني بعض الرهبان وبعض البراهمة يتلوون مثل ثعابين الماء، فإذا ما ألقيت عليهم سؤالاً في هذا الموضوع أو ذاك، عمدوا إلى غموض القول، وإلى تلوي الثعابين"(51)؛ ولو بدت من بوذا حدة إزاء أحد إطلاقاً، فإنما كان حاداً تجاه كهنة عصره، فهو يهزأ بدعواهم أن أسفار الفيدا من وحي الإله(52)، ويفضح البراهمة المعتزين بطبقتهم بقبوله في طائفته أعضاء الطوائف جميعاً بغير تفريق؛ إنه لا يهاجم نظام الطبقات مهاجمة صريحة، لكنه يقول لتلاميذه في وضوح وجلاء: "انتشروا في الأرض كلها وانشروا هذه العقيدة؛ قولوا للناس إن الفقراء والمساكين، والأغنياء والأعيان، كلهم سواء، وكل الطبقات في رأي هذه العقيدة الدينية تتحد لتفعل فعل الأنهار تصب كلها في البحر"(53)، وهو يرفض الأخذ بفكرة التضحية في سبيل الآلهة، ويفزع أشد الفزع لرؤية الحيوان يذبحونه ليقيموا أمثال هذه الطقوس(54)؛ ويرفض كل اعتقاد وكل عبادة لكائنات أعلى من هذه الطبيعة، ويربأ بنفسه عن التعزيم والرقى والتقشف والدعاء(55)، ويقدم للناس في هدوء وبغير محاجة ولجاج ديناً حراً أكمل الحرية من جمود الفكر ومن صناعة الكهنوت، ويفتتح طريقاً للخلاص، للكافرين والمؤمنين أن يسلكوه على السواء.




صفحة رقم : 734




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


وقد يتحول هذا القديس أحياناً، الذي هو أشهر من عرف الدهر من قديسي الهندوس، قد يتحول من اللا أدرية إلى إلحاد صريح ؛ إنه لا ينحرف عن جادته لينكر وجود الله، بل إنه حيناً بعد حين يذكر براهما كأنما هو حقيقة واقعة أكثر منه مثلاً أعلى(58) ثم هو لا يحرم عبادة الآلهة الشائعة بين الناس(59) لكنه يسخر من فكرة إرسال الدعوات إلى "المجهول" ، وفي ذلك يقول "إنه لمن الحمق أن تظن أن سواك يستطيع أن يكون سبباً في سعادتك أو شقائك(60) لأن السعادة والشقاء دائماً نتيجة سلوكنا نحن وشهواتنا نحن؛ وهو يأبى أن يبني تشريعه الخلقي على عقوبات تفرضها قوة وراء الطبيعة، كائنة ما كانت تلك العقوبات، ولا يجعل جزءاً من عقيدته جنة ولا مطهراً ولا جحيماً(61)؛ وهو أرهف حساسية للألم والقتل الذي ينزل بالكائنات الحية بحكم العملية البيولوجية في الحياة، من أن يفرض أن هذا القتل وذاك الألم قد أرادهما إله مشخص إرادة عن عمد وتدبير، وهو يرى أن هذه الأغلاط في نظام الكون ترجح ما فيه من آيات تدل على تدبير وتنسيق(62)؛ إنه لا يرى على هذا المسرح الذي تمتزج فيه الفوضى والنظام، والخير والشر، مبدأ ينم عن الدوام، ولا مركزاً لحقيقة أبدية خالدة(63)، وكل ما يراه في الحياة دوامة تدور وحركة ما تنفك في تغير؛ إن الحقيقة الميتافيزيقية النهائية في هذه الحياة هي التغير.
وكما أنه يقترح لاهوتاً بغير إله، فكذلك يقدم لنا علم النفس بغير النفس؛ فهو يرفض الروحانية في شتى صورها حتى في حالة الإنسان؛ وهو يوافق هرقليطس وبرجسن في رأيهما عن العالم، كما يوافق هيوم في رأيه عن العقل، فكل ما نعرفه هو إحساساتنا، وإذن، فإلى الحد الذي نستطيع أن نبلغه بعلمنا، لا نرى سوى أن المادة كلها ضرب من القوة، والعناصر كلها نوع من الحركة،




صفحة رقم : 735




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


الحياة تغير، هي مجرى دافق محايد من صيرورة وفناء؛ إن "الروح" أسطورة من الأساطير، فرضناها بغير مبرر يؤديها، لنريح بهذا الفرض أذهاننا الضعيفة، فرضناها قائمة وراء سلسلة الحالات الشعورية المتعاقبة(64) إن هذا "الرابط الذي يربط المدركات دون أن يكون واحداً منها" ، هذا "العقل" الذي ينسج خيوط إحساساتنا وإدراكاتنا في نسيج من الفكر، إن هو إلا شبح توهمناه؛ وكل ما هو موجود حقاً هو الإحساسات نفسها والإدراكات نفسها، تتكون بصورة آلية في هيئة تذكرات وأفكار(65)؛ حتى هذه "الذات" النفسية ليست كائناً قائماً بذاته متميزاً من سلسلة الحالات العقلية؛ ليست الذات سوى استمرار هذه الحالات، وتذكر الحالات اللاحقة للحالات السابقة، مضافاً إلى ذلك ما يتعوده الجسم العضوي من عادات عقلية وسلوكية، وما يتكون لديه من ميول واتجاهات(66)؛ إن تعاقب هذه الحالات لا تسببه "إرادة" أسطورية تضاف إليها من أعلى، بل تقررها الوراثة والعادة والبيئة والظروف(67) فهذا العقل السائل الذي لا يعدو أن يكون مجموعة من حالات عقلية، هذه النفس أو هذه الذات التي ليست إلا ميلاً نحو سلوك معين أو هوى إلى اتجاه بذاته، كونته الوراثة التي لا حول لها ولا قوة، كما كونته كذلك الخبرة العابرة خلال تجارب الحياة، أقول إن هذه النفس أو هذه الذات أو هذا العقل يستحيل أن ينطبق عليه معنى الخلود، إذا فهمنا من هذا المعنى استمرار الفرد في وجوده(68) فليس القديس، بل ليس بوذا نفسه بخالد بعد موته خلوداً يحفظه بشخصه(69).
ولكن إن كان ذلك كذلك، فكيف يمكن أن يعود الحي إلى الحياة من جديد في ولادة ثانية؟ إذا لم يكن هناك روح، فما الذي يتقمص أجساداً أخرى في ولادات تالية، ليلقي عذابه على خطاياه إذ هو حال في صورة الجسد؟ تلك هي أضعف الجوانب في فلسفة بوذا، فهو لا يحاول أبدا أن يزيل التناقص الكائن بين علم نفسه العقلي وبين قبوله لمذهب التقمص قبولاً




صفحة رقم : 736




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


أعمى؛ إن هذا الإيمان بحقيقة التناسخ أو تقمص الروح في أجساد متتالية، له في الهند قوة وشمول بحيث يعتنقه كل هندوسي على أنه بديهية أو فرض لا بد من التسليم بصحته، ولا يكاد يكلف نفسه عناء التدليل عليه؛ فتعاقب الأجيال هناك تعاقباً سريعاً متلاحقاً بسبب قصر الأعمار وكثرة النسل، يوحي إلى الإنسان إيحاء لا يستطيع أن يفر منه، بأن القوة الحيوية تنتقل من جسد إلى جسد- أو بأن الروح تحل بدناً بعد بدن، إذا عبرنا عن الأمر بعبارة لاهوتيه -؛ ولقد طافت الفكرة برأس بوذا مع مر الهواء في أنفاسه؛ فهذا الهواء يدخل شهيقاً ويخرج زفيراً هو الحقيقة الواحدة التي لم يشك فيها قط على ما يبدو(70)؛ إنه سلم تسليماً بعجلة التناسخ في دورانها وبقانون "كارما" وتفكيره كله إنما يدور حول سبيل الفرار من هذه العجلة الدوارة، كيف يمكن للإنسان أن يحقق لنفسه النرفانا في هذه الحياة الدنيا، والفناء التام في الحياة الآخرة.
ولكن ما "النرفانا"؟ أنه من العسير أن تجد لهذا السؤال جواباً خاطئاً، لأن الزعيم قد ترك الموضوع غامضاً، فجاء أتباعه وفسروا الكلمة بكل ما يستطيع أن يقع تحت الشمس من ضروب التفسير؛ فالكلمة في السنسكريتية بصفة إجمالية معناها " منطفئ "كما ينطفئ المصباح أو تنطفئ النار؛ أما الكتب البوذية المقدسة فتستعملها بمعان : (1) حالة من السعادة يبلغها الإنسان في هذه الحياة باقتلاعه لكل شهواته الجسدية اقتلاعاً تاماً؛ (2) تحرير الفرد من عودته إلى الحياة؛ (3) انعدام شعور الفرد بفرديته؛ (4) اتحاد الفرد بإلهه؛ (5) فردوس من السعادة بعد الموت؛ أما الكلمة في تعاليم بوذا فمعناها فيما يظهر إخماد شهوات الفرد كلها، وما يترتب على ذلك الإنكار للذات من ثواب وأعني به الفرار من العودة إلى الحياة(71)؛ وأما في الأدب البوذي، فكثيراً ما تتخذ الكلمة معنى دنيوياً، إذ يوصف القديس في هذا الأدب مراراً بأنه اصطنع النرفانا في حياته الدنيا، بجمعه لمقوماتها السبعة وهي: السيطرة على




صفحة رقم : 737




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> تعاليم بوذا


النفس، والبحث عن الحقيقة، والنشاط، والهدوء، والغبطة، والتركيز، وعلو النفس(73)؛ تلك هي مكنونات النرفاثا، لكنها تكاد لا تكون عواملها التي تسبب وجودها، أما العامل المسبب لوجودها، والمصدر الذي تنبثق عنه النرفانا، فهو إخماد الشهوة الجسدية؛ وعلى ذلك تتخذ كلمة "نرفانا" في معظم النصوص معنى السكينة التي لا يشوبها ألم، والتي يثاب بها المرء على إعدام نفسه إعداماً خلقياً(74)؛ يقول بوذا : "والآن فهذه هي الحقيقة السامية عن زوال الألم ؛ إنه في الحق فناء المرء حتى لا تعود له عاطفة تشتهي، إنه إطّراح هذا الظمأ اللاهث، والتخلص منه والتحرر من ربقته، ونبذه من نفوسنا نبذاً لا عودة له"(75) وأعني به هذه الحمى التي تنتابنا من شهوتنا في البحث عن أنفسنا؛ إن كلمة "نرفانا" في تعاليم الأستاذ الزعيم تكاد دائماً ترادف في معناها كلمة نعيم (76) وهو رضى النفس رضى هادئاً بحيث لا يعنيها بعدئذ أمر نفسها؛ لكن النرفاثا الكاملة تقتضي العدم : وإذن فثواب التقوى في أسمى منازلها هو ألا يعود التقي إلى الحياة(77).
ويقول بوذا إننا في نهاية الأمر ندرك ما في الفردية النفسية والخلقية من سخف؛ إن نفوسنا المضطرمة ليست في حقيقة الأمر كائنات وقوى مستقلاً بعضها عن بعض، لكنها موجات عابرة على مجرى الحياة الدافق؛ إنها عقد صغيرة تتكون وتتكشف في شبكة القدر حين تنشرها الريح؛ فإذا ما نظرنا إلى أنفسنا نظرتنا إلى أجزاء من كل، وإذا ما أصلحنا أنفسنا وشهواتنا إصلاحاً يقتضيه الكل، عندئذ لا تعود أشخاصنا بما ينتابها من خيبة أمل أو هزيمة، وما يعتورها من مختلف الآلام من موت لا مهرب منه ولا مفر، لا تعود هذه الأشخاص تحزننا حزناً مريراً كما كانت تفعل بنا من قبل؛ عندئذ تفنى هذه الأشخاص في خضم اللانهاية؛ إننا إذا ما تعلمنا أن نستبدل بحبنا لأنفسنا حباً للناس جميعاً وللأحياء جميعاً، عندئذ ننعم آخر الأمر بما ننشد من هدوء.




صفحة رقم : 738




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة



الفصل الخامس




بوذا في أيامه الأخيرة




معجزاته - زيارته لبيت أبيه - الرهبان البوذيون - موته


ننتقل من هذه الفلسفة العالية إلى الأساطير الساذجة التي هي كل ما لدينا عن بوذا في حياته الأخيرة وفي موته؛ فعلى الرغم من ازدرائه للمعجزات، انتحل تلاميذه ألف حكاية عن الأعاجيب التي تمت على يديه؛ فقد سار عبر نهر الكنج في لمحة بفعل السحر؛ وأسقط من يده شظية من الخشب كان يزيل بها ما بين أسنانه من فضلات الطعام، فنبتت الشظية شجرة؛ وعندما اختتم وعظه ذات يوم "اهتز العالم كله من أقصاه إلى أقصاه"(80)؛ ولما أطلق عليه عدوه "ديفانداتا" فيلاً مفترساً، "غلبه بوذا بالحب" حتى خضع الفيل له خضوعاً كاملاً(81)؛ وقد انتهى "سِنْارت" وآخرون إلى نتيجة من أمثال هذه المُلَح، وهي أن أسطورة "بوذا" قد تكونت على أساس من أساطير الشمس القديمة(82) ومهما يكن من أمر، فبوذا معناه عندنا الأفكار التي تنسب إليه في الأدب البوذي، ولاشك في أن "بوذا" صاحب هذه الأفكار كان حقيقة تاريخية.
إن الكتب البوذية المقدسة تصور لنا بوذا في صورة تشرح الصدور؛ فقد التف حوله أتباع كثيرون، وذاعت شهرته في مدائن الجزء الشمالي من الهند؛ ولما سمع أبوه أنه على مقربة من "كابيلافاستوا" أرسل إليه رسولاً يدعوه لقضاء يوم في مَدْرَج طفولته؛ وذهب بوذا إلى أبيه الذي كان قد حزن على أميره المفقود، فسُّرَ أبوه لعودة القديس ساعة من الزمن؛ وجاءته زوجته التي أخلصت له طوال غيابه عنها، فجثت أمامه وأمسكت بعقبيه، ووضعت قدميه حول رأسها، وقدسته كما تقدس الله؛ وقص عليه الملك "شدذوذانا" قصة حبها له حباً شديداً : "مولاي، إن زوجتك حين علمت أنك تلبس رداء




صفحة رقم : 739




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة


أصفر (وهو ثوب الزاهدين) لبست هي الأخرى رداء أصفر؛ ولما علمت أنك تأكل وجبة واحدة كل يوم، أكلت هي الأخرى وجبة واحدة؛ ولما علمت أنك أبيت النوم على سرير كبير، نامت هي الأخرى على كنبة ضيقة؛ ولما علمت أنك رفضت أكاليل الزهور ورفضت العطور، رفضتها هي الأخرى" فباركها بوذا ومضى إلى سبيله(83).
ثم جاءه ابنه "راهولا" وعبر له عن حبه قائلاً : "إن ظلك أيها الزاهد ليسر النفس" ؛ وضمه بوذا إلى طائفته الدينية، ولو أن أم "راهولا" كانت تأمل أن ترى ابنها ملكاً؛ لهذا نصبوا أميراً آخر، وهو "ناندا" ولياً للعهد يتولى العرش حين يحين الحين؛ لكن "ناندا" ترك حفلة التنصيب- كأنه في غيبوبة -، تركها قبل ختامها وغادر المملكة وقصد إلى بوذا، طالباً إليه أن يضمه هو أيضاً إلى طائفته الدينية؛ فلما سمع بذلك الملك "شدذوذانا" حزن والتمس عند بوذا مكرمة، قائلاً له: "لما طلق مولانا هذه الدنيا، لم يكن ذلك هين الوقع على نفسي، وكذلك حين غادرنا "ناندا" وقل ما هو أكثر من هذا عن فراق "راهولا" ؛ إن حب الوالد لولده يحز الجلد واللحم والمفاصل والنخاع؛ فرجائي إليك يا مولاي ألا تدع أتباعك الأشراف يضمون إلى طائفتكم ابناً إلا باستئذان أبيه وأمه" فوافق "بوذا" وجعل استئذان الوالدين شرطاً لازماً لانضمام العضو الجديد إلى طائفته(84).
ويظهر أن هذه العقيدة الدينية التي أرادت أن تستغني عن الكهنوت، كانت بالفعل قد كونت لنفسها طائفة من النساك الرهبان لا تقل خطراً عن كهنة الهندوس؛ ولن يطول الأمد بعد موت بوذا حتى يحيطوا أنفسهم بكل أسباب المجد التي كان البراهمة يحيطون أنفسهم بها؛ ولا عجب، فأول المتحولين من البرهمية إلى البوذية، إنما جاءوا من صفوف البراهمة أنفسهم، ثم تحول إلى البوذية بعدئذ جماعة من أغنى الشباب في بنارس والمدن المجاورة لها؛ واصطنع




صفحة رقم : 740




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة


هؤلاء الرهبان في حياة بوذا قاعدة بسيطة، فكانوا يحيون بعضهم بعضاً، كما يحيون كل من يتحدثون إليهم بعبارة جميلة هي : "السلام على الكائنات جميعاً" فلم يكن يجوز لهم أن يقتلوا كائناً حياً؛ ولم يكن يجوز لهم أن يأخذوا شيئاً لم يعطوه؛ وكان واجباً عليهم أن يجتنبوا الكذب والنميمة، وأن يصلحوا ما بين الناس من خصومة ويشجعوهم على الوفاق؛ وكان حتماً عليهم أن يظهروا الرحمة دائماً بالناس جميعاً والحيوان جميعاً، وأن يجتنبوا كل لذائذ الحس والجسد، فيجتنبوا الموسيقى ورقصات "ناوتش" والملاهي والألعاب وأسباب الترف واللغو في الحديث والنقاش والتنبؤ بالغيب؛ ولم يكن يجوز لهم أن يؤدوا شيئاً من التجارة بكل صنوف البيع والشراء، وفوق هذا كله، كان لا بد لهم أن يصونوا عفتهم، وأن يجانبوا النساء ويعيشوا في طهر كامل(85)، ولقد توجهت إلى بوذا التماسات كثيرة ناعمة، فاستجاب لها وأذن للنساء أن يدخلن طائفته راهبات، لكنه لم يوافق أبداً من صميم نفسه على هذا القرار، وفي ذلك قال: " إذا لم نأذن يا "أناندا" للنساء بالدخول في طائفتنا، دامت العقيدة الخالصة حيناً أطول، فالتشريع الصالح كان ليقاوم الفناء- بغير دخول النساء- ألف عام؛ أما وقد أذن لهن بالانضمام إلينا، فلن يدوم تشريعنا أكثر من خمسمائة عام"(86)، وكان في ذلك على صواب فعلى الرغم من أن الطائفة العظيمة قد لبثت حتى عهدنا هذا؛ إلا أنها قد أفسدت تعاليم الأستاذ منذ زمن طويل، بما أدخلته عليها من سحر وتعدد للآلهة وخرافات لا تقع تحت الحصر.
ولما دنت حياته الطويلة من ختامها، راح أتباعه يؤلهونه، لم ينتظروا في ذلك موته، على الرغم من أنه كان دائماً يحفزهم على الشك في صحة ما يقوله لهم، حتى يفسح كل منهم مجال التفكير الحر أمام نفسه؛ وورد في محاورة من أواخر محاوراته:




صفحة رقم : 741




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة


وجاء "ساريبوتا" الوقور إلى حيث كان النبي المعظم، وحياه وجلس إلى جانبه في احترام وقال:
"مولاي، إن إيماني بالنبي العظيم ليبلغ من القوة بحيث لا أظن أن أحداً فيما مضى أو فيما هو آت، أو أن أحداً فيمن يعاصروننا، سواء أكان من طائفة المتجولين أو طائفة البراهمة، أعظم وأحكم من النبي العظيم .... فيما يخص الحكمة العليا".
فأجابه الأستاذ : "كلماتك عظيمة جريئة يا "ساريبوتا" الحق أنك بعبارتك هذه قد رحت تنشد أغنية كما ينشد النشوان أغانيه! وكأني بك- إذن- قد عرفت كل الأنبياء المعظمين فيما مضى ... وفهمت آراءهم بعقلك، فعلمت كيف كانوا يسلكون وفيم كانوا يفكرون ... وأي ضروب التحرر قد بلغوا؟"
"لا يا سيدي، لم أبلغ من الأمر كل هذا".
"إذن فلا أقل يا "ساريبوتا" من أن تكون قد عرفتني ... وأن تكون قد تغلغلت في ضمير عقلي؟"...
"حتى ولا هذا يا مولاي".
"إذن فها أنت ذا ترى يا "ساريبوتا" إنك لا تعلم أفئدة الأنبياء القادرين المتيقظين الذين ظهروا فيما مضى، والذين سيظهرون في المستقبل؛ لماذا إذن تقول مثل هذه الكلمات العظيمة الجريئة؟ لماذا تنطلق منشداً لأغنية النشوان؟"(87)
وكذلك لقن "أناندا" أعظم دروسه وأشرفها:
"إن كل من صار لنفسه- يا أناندا- مصباحاً يهدي، وكل من صار لنفسه ملاذاً يؤوي، سواء في حياتي أو بعد موتي، فلن يلتمس لنفسه من غير




صفحة رقم : 742




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> بوذا -> بوذا في أيامه الأخيرة


نفسه مأوى، وسيستمسك بالحق مصباحاً... فلا يطلب من غير نفسه ملاذاً- أمثال هؤلاء ... هم الذين سيبلغون أعلى الذرى! لكن ينبغي أن يكون بهم شغف بالمعرفة"(88).
ومات بوذا عام 483 ق.م، وهو في عامه الثمانين، وكانت آخر كلماته لرهبانه: "والآن أيها الرهبان، هاأنذا أوجه إليكم الخطاب؛ إن كل ما هو مركب مصيره إلى الفساد، فجاهدوا جهاد المخلص الجاد".




صفحة رقم : 743




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا



الباب السادس عشر




من الإسكندر إلى أورانجزيب




الفصل الأول




تشاندرا جوبتا




الإسكندر في الهند - تشاندرا جوبتا محرر بلاده - الشعب - جامعة




تاكسيلا - القصر الملكي - يوم في حياة ملك - مكيافلي أسبق عهداً من مكيافلي




الحديث - الإدارة - القانون - الصحة العامة - النقل والطرق - الحكومة البلدية


في سنة 327 ق.م، عبر اسكندر الأكبر جبال هندوكوش آتياً في طريقه من فارس، وهبط على بلاد الهند؛ ولبث عاماً يجول بحملته بين دول الشمال الغربي من الهند، التي كانت جزءاً من أغنى أجزاء الإمبراطورية الفارسية وأخذ يجمع منها المؤن لجنوده والذهب لخزائنه؛ وعبر نهر السند في الجزء الأول من سنة 326 ق.م. وشق طريقه بالقتال بطيئاً، متخللا "تاكْسِلا" و "روالبندي" متجهاً نحو الجنوب والشرق، والتقى بجيش الملك بورس حيث هزم من جيش المشاة ثلاثين ألفاً، ومن الفرسان أربعة آلاف، ومن العربات الحربية ثلاثمائة، ومن الفيلة مائتين، وقتل اثني عشر ألف رجل، فلما أن أسلم "بورس" بعد أن قاتل حتى استنفذ جهده، أمره الإسكندر أن يقول على أي نحو يريده أن يعامله، ذلك لأنه أعجب بشجاعته وقوامه وجمال قسماته؛ فأجابه "بورس": "عاملني يا اسكندر معاملة تليق بالملوك" فقال الإسكندر: "سأعاملك معاملة الملوك بالنسبة إلى نفسي، وأما بالنسبة إليك أنت، فمر بما تريد" ، لكن "بورس" أجاب بأن كل شئ يريده
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:04 pm

صفحة رقم : 744




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


متضمن فيما طلب أولاً؛ وأعجب الإسكندر بهذا الجواب إعجاباً شديداً، ونصب "بورس" ملكاً على الهند المفتوحة كلها، باعتباره تابعاً خاضعاً لمقدونيا، ولقد وجده بعدئذ حليفاً نشيطاً أميناً(1)؛ وأراد الإسكندر أن يتقدم بجيوشه حتى يبلغ البحر من ناحية الشرق، لكن جنوده احتجوا على ما أراد؛ وكثر في ذلك بينهم القول وازداد التجهم، فخضع الإسكندر لمشيئتهم وقادهم- خلال قبائل معادية له إشفاقا على أوطانهم من اعتدائه، مما اضطر جنود الإسكندر أن يحاربوا في سيرهم عند كل قدم من الطريق، أو كادوا- قادهم حذاء "هِداسب" وإلى جوار الساحل؛ حتى اخترق بهم "جدروسيا" إلى بلوخستان؛ فلما وصل "سوزا" بعد عشرين شهراً من عودته بعد فتوحه لم يعد جيشه أكثر من فلول منهوكة من الجيش الذي كان قد دخل به الهند قبل ذلك بثلاثة أعوام.
وبعد ذلك بسبعة أعوام كان كل أثر للسلطان المقدوني قد زال عن الهند زوالاً تاماً(2)، وكان العامل الأول في زوال ذلك السلطان، رجل هو من أروع من يثير الخيال في تاريخ الهند من رجال؛ فهو وإن يكن أقل منزلة في صفاته العسكرية من الإسكندر، الا أنه أعظم منه حاكماً؛ ذلك هو "تشاندرا جوبتا" الشريف الشاب الذي ينتمي إلى طبقة الكشاترية المقاتلة، وقد نفته من "مجاذا" أسرة "ناندا" الحاكمة التي كان هو من أبنائها؛ وكان إلى جانبه ناصح مكيافلي ماكر، هو "كوتيلا تشاناكيا" الذي أعانه على تنظيم جيش صغير اكتسح به الحاميات المقدونية، وأعلن الهند حرة من الغازي؛ ثم تقدم إلى "باتاليبوترا" عاصمة مملكة "مجاذا" التي حكمت الهندستان وأفغانستان مدى مائة وسبعة ثلاثين عاماً؛ ولما استلم "تشاندرا جوبتا" بشجاعته لحكمه "كوتيلا" التي لم يكبح جماحها ضمير، سرعان ما أصبحت




صفحة رقم : 745




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


حكومته أقوى حكومة كان يعرفها العالم عندئذ؛ حتى إنه لما جاء المجسطي سفيراً في "باتاليبوترا" عن "سلوكس نكتار" ملك سوريا، أدهشه أن يرى هناك مدنية وصفها اليونان المدققين المتشككين الذي كانوا عندئذ لم يزالوا في موضع قريب من أوج حضارتهم، فقال إنها مدنية مساوية للمدنية اليونانية مساواة تامة(3).
وصف لنا هذا الإغريقي الحياة الهندية في عصره وصفاً ممتعاً، ربما مال فيه نحو التهاون في الدقة ليكون في صالح الهنود؛ وأول ما استوقف نظره هناك هو ألاّ ِرَّق في الهند على خلاف ما عهده في أمته، وهو اختلاف يجعل الأولى أعلى من الثانية منزلة في هذه الناحية، وإنه على الرغم من انقسام السكان إلى طبقات حسب ما يؤدونه من أعمال، فقد قبل الناس هذه الأقسام على أنها طبيعة ومقبولة؛ يقول السفير عنهم في تقريره أنهم كانوا "يعيشون عيشاً سعيداً" لأنهم:
"في سلوكهم يتصفون بالبساطة، وهم كذلك مقتصدون فهم لا يشربون الخمر قط إلا في الاحتفال بتقديم القرابين... والدليل على بساطة قوانينهم ومواثيقهم هو أنهم قلما يلجئون إلي القانون؛ فهم لا يتقدمون إلى محاكمهم بقضايا عن خرق العهود أو نهب الودائع، بل هم لا يحتاجون إلى أختام أو شهود، لكنهم يودعون أشياءهم على ثقة بعضهم ببعض... إنهم يقدرون الحق والفضيلة قدراً عظيماً... والجزء الأعظم من أرضهم يزرع بالري، ولذلك ينتج محصولين في العام... ولهذا كان من الثابت أن الهند لم تعرف المجاعة قط، ولم يكن بها قحط عام في موارد الطعام اللازم للتغذية" (5).
وأقدم المدائن الألفين التي كانت في الهند الشمالية في عهد "تشاندرا جوبتا" هي مدينة "تاكسيلا" التي تبعد عشرين ميلاً- جهة الشمال الغربي- عن




صفحة رقم : 746




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


مدينة "روالبندي" الحديثة؛ ويصفها "أريان" بأنها: "مدينة عظيمة مزدهرة" ؛ ويقول "سترابو": "إنها كبيرة وبها أرقى القوانين" ، فقد كانت مدينة عسكرية ومدينة جامعية في آن معاً، إذ تقع من الوجهة العسكرية على الطريق الرئيسية المؤدية إلى آسيا الغربية، وكان بها أشهر الجامعات الكثيرة التي كانت في الهند إذ ذاك، فكان يحج إليها الطلاب زرافات، كما كانوا يحجون زرافات إلى باريس في العصور الوسطى؛ ففي وسع الطلاب أن يدرسوا بها ما شاءوا من فنون وعلوم على أيدي أساتذة أعلام، وخصوصاً مدرستها للطب، فقد ذاع اسمها في العالم الشرقي كله مقروناً بالتقدير العظيم .
ويصف المجسطى مدينة "باتاليبوترا" عاصمة الملك "تشاندرا جوبتا" فيقول أنها تسعة أميال في طولها وميلان تقريباً في عرضها(10) وكان القصر الملكي بها من خشب، لكن السفير الإغريقي وضعه في منزلة أعلى من منزلة المساكن الملكية في "سوزا" و "إكياتانا" ولا يفوقه إلا قصور "برسوبوليس" (أي مدينة الفرس)؛ فأعمدته مطلية بالذهب ومزخرفة بنقوش من حياة الطير ومن ورق الشجر، وهو من الداخل مؤثث تأثيثاً فاخراً ومزدان بالأحجار الكريمة والمعادن النفسية(11)؛ وقد كان في هذه الثقافة قسط من حب الشرقيين للتظاهر، فمثلاً ترى ذلك واضحاً في استخدامهم لآنية من الذهب قطر الواحدة منها ست أقدام(12)؛ لكن مؤرخاً إنجليزياً يبحث الآثار المادية والأدبية والتصويرية لتلك المدينة فيصل إلى نتيجة، هي أنه "في القرنين الرابع والثالث قبل المسيح لم يكن ما يتمتع به ملك موريا من أسباب الترف بكل




صفحة رقم : 747




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


ضروبها، والصناعات اليدوية الماهرة بكل أنواعها، أقل مما كان يتمتع به أباطرة المغول بعد ذلك بثمانية عشر قرناً"(13).
أقام "تشاندرا جوبتا" في هذا القصر، بعد أن استولى على العرش بالقوة، مدى أربعة وعشرين عاماً، فكان كأنما يعيش منه في سجن مطلي بالذهب؛ وكان يظهر للشعب حيناً بعد حين، مرتدياً ثوباً من الموصلي الموشى بالأرجوان والذهب، محمولاً في محفة ذهبية، أو على فيل مطهم بأفخر الطهم؛ وكان وقته مليئاً بأعمال مملكته المتزايدة، إلا ساعات كان يقضيها في الصيد أو في غيره من أنواع التسلية؛ فيومه ينقسم ستة عشر جزءاً طول الجزء منها تسعون دقيقة، فكان يستيقظ في الجزء الأول من يومه فيعد نفسه بشيء من التأمل؛ وفي الثاني يقرأ التقارير التي يرفعها إليه موظفوه، ويصدر فيها تعليمات سرية؛ وفي الثالث يجتمع بمستشاريه في قاعة المقابلات الخاصة؛ وفي الرابع يبحث في أمور المالية والدفاع القومي؛ وفي الخامس يصغي إلى شكاوي رعيته وقضاياها؛ وفي السادس يستحم ويتناول غداؤه ويقرأ شيئاً من كتب الدين؛ وفي السابع يتقبل الضرائب والجزية ويضرب المواعيد الرسمية؛ وفي الثامن يلتقي بمستشاريه مرة ثانية ويستمع إلى ما يقرره له الجواسيس الذين كان يرصدهم، وبين هؤلاء عاهرات استخدمن لهذه الغاية(14)؛ وخصص الجزء التاسع من يومه للاستحمام والصلاة، والعاشر والحادي عشر للشئون العسكرية؛ والثاني عشر للتقارير السرية مرة أخرى؛ والثالث لحمام المساء ووجبته؛ والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للنوم(15)؛ ويجوز أن يكون المؤرخ قد صور لنا بهذه الصورة ما كان يمكن أن تجري عليه حياة "تشاندرا جوبتا" من نظام؛ أو هو يصور لنا بها ما أراد "كوتيلا" أن يتصوره الناس عن مليكه، أكثر مما يصور لنا حقيقة ذلك الملك في حياته، فالحقيقة قلما تفلت من أجواق القصور.
كان زمام الحكم الحقيقي في يد وزيره الماكر "كوتيلا" و "كوتيلا"




صفحة رقم : 748




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


برهمي عرف القيمة السياسية للدين، لكنه لم يتخذ من الدين هداية خلقية؛ فهو شبيه بدكتاتوريي هذا العصر، في إيمانه بأن كل الوسائل لها مبررات ما دامت تنتهي إلى صالح الدولة؛ وكان غادراً لا يزجره من نفسه ضمير، إلا إزاء مليكه؛ فقد خدم "تشاندرا جوبتا" في منفاه وفي هزيمته وفي مغامراته وفي دسائسه وفي اغتياله للناس وفي نصره؛ واستطاع بفضل حكمته ودهائه أن يجعل ُملك سيده أعظم ما عرفته الهند في تاريخها كله؛ ولقد رأى "كوتيلا"- كما رأى الأمير من بعده مؤلف "الأمير" - أنه من المفيد أن يدون للأجيال القادمة آراءه التي عالج بها الأمور العسكرية والسياسية؛ وأن الرواية لتنسب إليه كتاب "أرذاشاسترا" وهو أقدم كتاب مما بقي لنا من الأدب السنسكريتي(16)؛ ولكي نسوق لك مثلاً من واقعيته الدقيقة، نذكر لك ما ذكره من الوسائل التي تتبع في الاستيلاء على أحد الحصون، وهي: "الدسائس والجواسيس واستمالة شعب الأعداء، والحصار والهجوم"(17)- وفي هذه الدسائس اقتصاد حكيم للمجهود البدني.
لم تزعم الحكومة لنفسها اصطناع الأساليب الديمقراطية؛ والأرجح أنها كانت حكومة لم تشهد الهند طوال تاريخها حكومة أكفأ منها(18)؛ فلم يكن لدى "أكبر"- وهو أعظم المغول- "ما يماثلها كفاءة، ومما يدعوا إلى الشك أن يكون بين المدن اليونانية القديمة ما يفوقها نظاماً"(19)؛ كانت تقوم صراحة على القوة العسكرية؛ فكان "لشاندرا جوبتا" جيش قوامه- إذا أخذنا برأي المجسطي (الذي يجب أن يكون موضع ريبه كأي مراسل أجنبي آخر)- ستمائة ألف من المشاة، وثلاثون ألفا من الركبان، وتسعة آلاف من الفيلة، وعدد لم يحدد من العربات الحربية(20)؛ وكان البراهمة والفلاحون يعفون من الخدمة العسكرية، فيصف لنا "سترابو" هؤلاء الفلاحين و هم




صفحة رقم : 749




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


يحرثون الأرض في هدوء وآمن وسط حومات تضطرب بالقتال(21).
وكانت سلطة الملك مطلقة من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فكان يحدها مجلس للشورى كان من شأنه التشريع- أحيانا في حضور الملك وأحيانا في غيابه- وتنظيم المالية القومية والشئون الخارجية، وهو الذي كان يعين لكل المناصب الهامة في الدولة رجالها؛ ويشهد المجسطي بما كان لأعضاء ذلك المجلس من "خلق سام وحكمة عالية" كما يذكر ما كان لهم من نفوذ فعال(22).
كانت الحكومة مقسمة أقساماً لكل منها واجبات واضحة الحدود، وموظفون يتدرجون في درجاتهم تدرجاً أحسن تدبيره؛ فتقوم هذه الأقسام بالإشراف على الدخل، والجمارك، والحدود، وجوازات السفر، والمواصلات، والضرائب، والمناجم، والزراعة، والماشية، والتجارة، والمخازن، والملاحة، والغابات، والألعاب العامة، والدعارة، وسك النقود- لكل من هذه قسم خاص؛ وكان للمشرف على قسم ضريبة الإنتاج حق رقابة بيع العقاقير والمسكرات، وكان يقيد عدد الخانات ومواضعها، وكمية الخمور التي يجوز لها أن تبيعها؛ وللمشرف على المناجم أن يؤجر مواقع الاستنجام لأفراد يدفعون للحكومة أجراً معلوماً وجزءاً معيناً من الربح؛ وللإشراف على الزراعة نظام كهذا، لأن الأرض كلها كانت ملكاً للدولة؛ وللمشرف على الألعاب العامة الرقابة على قاعات القمار، وأن يقدم الزهر (زهر اللعب) للاعبين ويتقاضاهم رسماً على استخدامه، كما كان يقتطع لخزانة الدولة خمسة في كل مائة مما يدفعه اللاعبون؛ وأما المشرف على الدعارة، فكان من شأنه أن يراقب العاهرات، ويضبط أجورهن ومصروفهن، وكان يحدد لأعمالهن يومين من كل شهر، ويأخذ منهن اثنتين للقصر الملكي، تقومان هناك للمتعة من جهة وللجاسوسية من جهة أخرى؛ وفرضت الضرائب على كل مهنة وكل عمل وكل صناعة؛ أضف إلى ذلك ما كان الأغنياء يحملون على دفعه من "تبرعات" للملك؛ وكانت الحكومة تراقب الأسعار، وتراجع الموازين والمقاييس حيناً بعد حين؛ ثم كان للدولة مصانع خاصة بها تقوم




صفحة رقم : 750




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


فيها الحكومة بصناعة بعض الأشياء، كما كانت تبيع الخضر وتحتكر المناجم والملح والخشب والمنسوجات الدقيقة والجياد والفيلة(23).
وكان يقوم على القانون في الريف رؤساء محليون في القرى، أو مجالس قروية قوام الواحد منها خمسة رجال؛ وأما في المدن والأقاليم والمناطق فيعهد بأمره إلى محاكم دنيا ومحاكم عليا، وفي العاصمة يتولاه المجلس الملكي باعتباره محكمة عليا، ويتولاه الملك نفسه على أنه محكمة استئناف، لا نقض ولا إبرام لحكمها؛ وكانت العقوبات صارمة، منها بتر الأعضاء والتعذيب والموت، وهي تقوم عادة على مبدأ " العين بالعين والسن بالسن " أي مبدأ القصاص المتعادل؛ لكن الحكومة لم تكن مجرد أداة للضغط على الشعب، بل كانت كذلك تعني بالصحة العامة، فأقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء، وكانت توزع في السنين العجاف ما قد يكون في مخازن الدولة استعداداً لأمثال هذه الطوارئ ؛ وتضطر الأغنياء إلى المشاركة في معاونة المعوزين، وتنظم مشروعات عامة كبرى للعناية بالمتعطلين في سني الأزمات (24).
وأما قسم الملاحة فكان اختصاصه تنظيم النقل المائي ووقاية المسافرين في الأنهار والبحار؛ وكانت كذلك ترعى الجسور والمواني، وتهيئ "معدّيات" حكومية تعمل جنباً إلى جنب مع "المعدّيات" الخاصة التي يملكها ويديرها أفراد(25)- وهو نظام جميل يمكن الحكومة بدخولها في المنافسة من الحد من إسراف الأفراد في استغلال الجمهور، كما تمكن المنافسة الحرة من الحد من إسراف الحكومة بذبحها؛ وكان من واجب قسم المواصلات أن يشق الطرق ويعبدها ثم يقوم على صيانتها في أرجاء الإمبراطورية، من المدقات الضيقة التي تعد للعربات في الريف، إلى الطرق التجارية التي يبلغ عرض الواحد منها اثنين وثلاثين قدماً، ثم إلى الطرق الملكية التي يبلغ عرضها أربعاً وستين قدماً؛




صفحة رقم : 751




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


وكان طريق من هذه الطرق الملكية يمتد ألفاً ومائتين من الأميال، من "باتاليبترا" إلى الحدود الشمالية الغربية(26)- وهي مسافة تساوي نصف الطريق من هاتيك الطرق الرئيسية التي تعبر الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها؛ وعند كل ميل تقريباً من هذه الطرق- فيما يقول المجسطي- كانت تقوم أعمدة تشير إلي الاتجاهات وتبين المسافات إلى مختلف البلدان(27)، وكنت تجد على طول الطريق أشجاراً ظليلة وآباراً ومراكز للشرطة وفنادق، أعدوها على مسافات دورية من الطريق(28)؛ وكانت وسائل النقل هي العربات والمحفات والعربات تجرها الثيران، ثم الجياد والجمال والفيلة والحمير والناس؛ وكانت الفيلة من ألوان الترف التي تقتصر عادة على الملك وكبار رجال الدولة، وكانت من غلو القيمة عندهم بحيث عدُّوا عفة المرأة ثمناً متواضعاً للواحد منها .
وكان يتبع في حكومات المدن مثل هذا النظام بعينه من حيث تقسيم الإدارة إلى أقسام، فالعاصمة " باتاليبترا " كان يحكمها مجلس مؤلف من ثلاثين عضواً، ينقسمون ستة أقسام، يقوم قسم منها على تنظيم الصناعة، وآخر يراقب الأجانب فيعد لهم المساكن ويعين لهم من يقوم بخدمتهم ويراقب حركاتهم، وقسم ثالث يسجل المواليد والوفيات، ورابع يرخص للتجار مباشرة تجارتهم، وينظم بيع المحصول، ويراجع المقاييس والموازين، وخامس يراقب بيع المصنوعات، وقسم سادس يجمع ضريبة قدرها عشرة في كل مائة عن المبيعات كلها؛ وفي ذلك يقول "هافِلْ" : "وصفوة القول أن باتاليبترا في القرن الرابع قبل الميلاد، فيما يظهر، قد كانت مدينة على أتم ما تكون المدن نظاماً، وتقوم عليها إدارة تتمشى مع أحسن المبادئ في علم الاجتماع"(28)؛ وكذلك يقول "فنست سْمِث" : "إن الكمال الذي بلغته هذه النظم التي




صفحة رقم : 752




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تشاندرا جوبتا


أشرنا إليها، ليثير العجب حتى إن اقتصرت في ذكره على موجز مقتضب؛ ثم تزداد عجباً- إذا ألممت بتفصيلات الإدارة- كيف أمكن لمثل هذا النظام أن تدبَّر قواعده، وأن ينفذ تنفيذاً دقيقاً في الهند في سنة 300 ق.م"(28ب).
والنقص الوحيد في هذه الحكومة هو استبدادها، وبالتالي اعتمادها اعتماداً متصلاً على القوة وعلى الجواسيس؛ فحاكمها "تشاندرا جوبتا" شأنه شأن كل حاكم مستبد آخر- كان قلقاً على عرشه، لا ينقطع خوفه من الثورة والاغتيال؛ فكان ينام كل ليلة في مخدع يختلف عن مخدع الليلة السابقة، ولم يخل قط من حراسة الحراس؛ وتروي الراوية الهندية، ويؤيدها المؤرخون الأوربيون، أنه لما أطبقت مجاعة طويلة على مملكة "تشاندرا جوبتا" (راجع المجسطي) حمله اليأس على النزول عن عرشه؛ وعاش بعدئذ اثني عشر عاماً زاهداً جانتياً، ثم انتهى به الأمر أن فرض على نفسه الجوع حتى مات به؛ يقول فولتير: "إنك لو وضعت كل الظروف موضع الاعتبار، ألفيت حياة النوتي في "جندوله" خيراً من حياة حاكم المدينة، لكني أعتقد أن الفرق بين حياتيهما أتفه من أن يستحق منا التدقيق في أمره"(29).




صفحة رقم : 753




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف



الفصل الثاني




الملك الفيلسوف




أشوكا - مرسوم التسامح - أشوكا يرسل بعوثاً دينية - فشله - نجاحه


كان الذي خلف "تشاندرا جوبتا" في الحكم هو "بندوسارا" وهو رجل ذو نزعات عقلية لا تخفى؛ فيقال إنه طلب إلى "أنتيخوس" ملك سوريا أن يبعث إليه بفيلسوف إغريقي، وكتب إليه قائلاً إنه على استعداد أن يدفع ثمناً عالياً لفيلسوف إغريقي من الطراز الصحيح(30) ولكن "أنتيخوس" لم يستطيع إلى إجابة الطلب سبيلاً، لأنه لم يجد فيلسوفاً يونانياً معروضاً للبيع؛ ثم شاءت المصادفة أن تعوض "بندوسارا" خيراً، فجعلت له من ابنه فيلسوفاً.
وتولى "أشوكا فارذانا" العرش سنة 273 ق.م فوجد أنه يشمل بسلطانه إمبراطورية أوسع رقعة من أي قطر حكمه في الهند حاكم من قبله : فهو يشمل أفغانستان وبلوخستان، وكل الهند الحديثة إلا طرفها الجنوبي- وهي ما يسمى "بأرض تامِلْ" ؛ ولبث حيناً من الدهر يحكم على غرار جده "تشاندرا جوبتا" ، أي لبث يحكم بلاده في قسوة، لكنه يحكمها حكماً جيداً؛ فيحدثنا "يوان تشوانج" الرحالة الصيني الذي أنفق أعواماً طوالاً في الهند إبان القرن السابع الميلادي، بأن السجن الذي كان قائماً في عهد "أشوكا" شمالي العاصمة، لم يزل يذكره الناس في الهند جيلاً عن جيل باسم "جحيم أشوكا" ؛ إذ أنبأه المنبئون أن كل أنواع العذاب والتعذيب التي تشتمل عليها الجحيم الحقيقية، قد استعملت فعلاً في ذلك السجن عقاباً للمجرمين، بل إن الملك قد أضاف إلى تلك الأنواع التقليدية من عذاب الجحيم، مرسوماً بأن كل من يدخل ذلك الجب المخيف، لا يجوز له قط أن يخرج منه حياً؛ ولكن حدث ذات يوم أن ألقي في ذلك




صفحة رقم : 754




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف


السجن قديس بوذي بغير أن يكون هناك ما يبرر ذلك السجن، فقذفوا به في إناء كبير فيه ماء ساخن، فأبى الماء أن يغلي بما فيه؛ فأرسل السجان بالنبأ إلى "أشوكا" ، وجاء "أشوكا" ورأى وأخذه العجب؛ ولما استدار الملك ليأخذ طريقه إلى خارج السجن، ذكره السجان بأمره، قائلاً إنه لا يجوز له أن يغادر السجن حياً؛ فحزت هذه الملاحظة في نفس الملك بقوتها، وأمر بالسجان أن يقذف في إناء الماء الساخن.
ويقال أن "أشوكا" لما وصل إلى قصره، نال من نفسه انقلاب عجيب؛ وأمر من فوره أن يهدم السجن وأن يخفف قانون العقوبات؛ وفي نفس الوقت جاءه النبأ بأن جنوده قد ظفروا بانتصار باهر على قبيلة "كالنجا" الثائرة، وأنهم قد فتكوا بآلاف من الثائرين، وأسروا منهم عدداً كبيراً؛ فجعل "أشوكا" عندئذ يعاني لذعات ضميره كلما طاف برأسه كل هذا "العنف والتقتيل وإبعاد الأسرى عن ذويهم "فأمر أن يطلق سراح الأسرى، ورّد إلى قبيلة "كالنجا" أرضها، وأرسل إلى أهلها اعتذار لم يسبق له في التاريخ مثيل، ولم يقلده من بعده إلا القليل؛ وبعدئذ التحق بالطائفة البوذية، ولبس مسوح الرهبان حيناً، وأبطل الصيد وأكل اللحم، واصطنع "السبيل الشريفة ذات الإرشادات الثمانية"(31).
وإنه ليستحيل علينا الآن أن نقول كم من هذه الأنباء قد اختلقه الخيال اختلاقاً؛ وكم منها تاريخ صحيح، كما يستحيل علينا- والشقة بيننا وبين ذلك العهد بهذا البعد- أن نرى الدوافع التي حفزت الملك إلى ما فعل؛ فيجوز أنه رأى البوذية تتسع انتشاراً، وظن أن تعاليمها من تسامح وهدوء تصلح تشريعاً مفيداً لشعبه، فتوفر على الدولة عدداً لا يحصى من رجال الشرطة؛ وفي العام الحادي عشر من حكمه، أخذ يصدر مرسومات هي أعجب ما عرفناه في تاريخ الحكومات؛ وأمر أن تنقش هذه المرسومات على الصخور وعلى الأعمدة




صفحة رقم : 755




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف


في عبارة بسيطة وباللهجات التي يفهمها الناس، حتى يتسنى لكل هندي يعرف القراءة أن يفهم فحواها؛ ولقد عثرنا على "مرسومات الصخور" في كل جزء من أجزاء الهند تقريباً؛ ولا تزال عشرة أعمدة باقية في مكانها، وعرفنا أماكن عشرين أخرى؛ وتقرأ هذه المرسومات فتجد أن الإمبراطور يوافق على العقيدة البوذية بحذافيرها، ويطبقها في شأن من شئون الناس هو آخر ما تتوقع لها أن تطبق فيه وأعني السياسة؛ وشبيه بهذا أن تعلن إمبراطورية حديثة فجأة أنها صممت منذ الآن فصاعداً أن تتبع المسيحية في سياستها.
وعلى الرغم من أن هذه المرسومات بوذية العقيدة، فهي لا تبدو لنا دينية خالصة؛ فهي تفرض وجود حياة آخرة، وبهذا ترى كيف أنه لم يلبث تشكك بوذا أن زال ليحل محله عند أتباعه إيمان، لكنها إلى جانب ذلك لا تورد في نصوصها عبارة تدل على العقيدة بإله مشخص، بل لا تذكر الله في نصوصها إطلاقاً(32)، كلا، ولا هي تذكر كلمة واحد عن بوذا؛ فهذه المرسومات لا تعنى باللاهوت؛ فمرسوم "سارنات" يطالب الناس بالسير على مقتضى قواعد الدين، ويضع عقوبات لمن يشقون عليها عصا الطاعة(33)، أما سائر المرسومات فهي لا تنى تذكر مرة بعد مرة ضرورة التسامح الديني؛ فعلى المرء أن يحسن إلى كهنة البراهمة كما يحسن إلى كهنة البوذيين سواء بسواء؛ ولا ينبغي لأحد أن يسيء بالقول إلى عقيدة من العقائد؛ ويعلن الملك أن كل أفراد شعبه هم بمثابة أبنائه الذين يحنو عليهم، فهو لن يفرق بينهم بسبب اختلافهم في العقيدة(34)، فهذا هو "مرسوم الصخر" رقم 12 يتحدث بما يكاد أن يكون معاصراً لنا من حيث سداد رأيه:
"إن جلالة الملك المقدس الرحيم يقدم إجلاله للناس من شتى المذاهب، سواء في ذلك الزاهدون أو أصحاب الأسر، وهو يقدم إجلاله هذا بالهدايا وغيرها من مختلف ألوان التوقير.
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:05 pm


صفحة رقم : 756




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف


على أن جلالة الملك المقدس لا تعنيه كثيراً هذه الهدايا وهذا التوقير الظاهر، بقدر ما يعنيه أن ينمو في كل هذه العقائد لبها وجوهرها؛ ونمو هذا الجوهر وذلك اللب إنما يكون بطرائق شتى، لكن أساسها جميعاً هو ضبط اللسان عن الكلام، وأعني بذلك ألا يبجل المرء عقيدته وألا يحط من شأن عقيدة غير عقيدته إلا بما يمليه العقل؛ إن الحط من شأن العقائد الأخرى لا ينبغي أن يكون إلا لأسباب عقلية معينة، ذلك لأن عقائد الناس على اختلافها جديرة بالاحترام لهذا السبب أو ذاك.
وبمثل هذا التصرف، يرفع المرء من عقيدته، وينفع في الوقت نفسه سائر العقائد؛ وبالتصرف المضاد لهذا، يؤذي المرء عقيدته ويضر عقائد الناس... إن انسجام الأفراد أمر عظيم".
هذا إلى أن "مرسوم العمود الثاني" يلقى لنا ضوءاً أكثر على المقصود من "جوهر الموضوع"- وهي العبارة التي وردت في المرسوم الذي ذكرناه الآن- إذ يقول: "إن قانون التقوى شيء جميل، لكن مم يتكون قانون التقوى؟ يتكون من هذه الأشياء: قليل من عدم التقوى، وكثير من الأفعال الخيرة، والرحمة، والإحسان، والصدق، والصفاء" ؛ ولكي يضرب "أشوكا" المثال لما يريد، أمر موظفيه في كل مكان أن ينظروا إلى الناس نظرتهم إلى أبنائه، وأن يعاملوهم بالصبر والحسنى، فلا يعذبوهم ولا يسجنوهم بغير مبرر معقول؛ وأمر موظفيه أن يقرءوا هذه الإرشادات قراءة دورية على الشعب (35).
فهل كان لهذه المرسومات الخلقية أثر كائناً ما كان في إصلاح سلوك الناس؟ يجوز أنها ساعدت على نشر فكرة "الأَهِمْسا"- وهي عدم قتل الحيوان- كما شجعت على الامتناع عن أكل اللحم وشرب المسكرات بين الطبقات العليا من أهل الهند (36)؛ ويعتقد "أشوكا" اعتقاداً جازماً- شأنه في ذلك شأن المصلحين- أن لوعظه المنقوش على الحجر أبلغ الأثر؛ وهو يعلن في "مرسوم الصخر" رقم 4، أنه لمس بالفعل نتائج طيبة لمرسوماته، وربما أعان ملخصه على توضيح أساس مذهبه:




صفحة رقم : 757




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف


أما وقد اصطنع صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك أسباب التقوى في حياته، فقد سكتت أصداء طبول الحروب ليهتز الهواء بأصداء القانون ... لقد امتنع الناس اليوم، بفضل قانون التقوى الذي سنه صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، عن ذبح الكائنات الحية ليقدموها في قرابينهم، أكثر من امتناعهم عن ذلك من قبل؛ امتنعوا عن قتل الأحياء، وسلكوا إزاء أقربائهم سلوكاً فاضلاً، وكذلك إزاء البراهمة، وأصبحوا يستمعون لما يأمرهم به آباؤهم وأمهاتهم ومن هم أكبر منهم سناً؛ على هذا النحو- وعلى غيره من الأنحاء الكثيرة- ازداد إقبال الناس فوق هذه الزيادة.
إن أبناء صاحب الجلالة المقدسة الرحيمة الملك، وأحفاده وأحفاد أحفاده، سيعملون على زيادة اصطناع الناس لقانون التقوى، زيادة تضطرد إلى يوم الدين ".
لكن الملك الصالح قد بالغ في تقوى شعبه وولاء أبنائه؛ أما هو نفسه فقد بذل مجهوداً عظيماً في سبيل الديانة الجديدة، فجعل من نفسه رئيساً للطائفة البوذية، وأجزل لها العطايا، وشيد لها ثمانية وأربعين ألفاً من الأديرة لرجالها(37) وبنى باسمها في أرجاء مملكته كلها مستشفيات للإنسان والحيوان(38) وأرسل مبشرين بالعقيدة البوذية إلى أجزاء الهند جميعاً وإلى جزيرة سيلان، بل أرسل هاتيك البعوث إلى سوريا ومصر واليونان(39) حيث يحتمل أن تكون قد هيأت الطريق هناك للأخلاق المسيحية(40) ولم يمض بعد وفاته إلا زمن قصير حتى غادرت بعوث المبشرين بلاد الهند ليعظ رجالها الناس بالتعاليم البوذية في التبت والصين ومنغوليا واليابان، وبالإضافة إلى هذا النشاط الديني، توجه "أشوكا" بحماسة نحو إدارة بلاده في شئونها الدنيوية؛ فكان يطيل من ساعات العمل في يومه، ولم تكن الحوائل لتحول بينه وبين معاونيه، فلهؤلاء أن يتصلوا




صفحة رقم : 758




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف


به في شئون الدولة في أي ساعة شاءوا(41).
ونقيصته البارزة هي الأنانية؛ فمن العسير أن تكون متواضعاً ومصلحاً في آن معاً؛ إن احترامه لنفسه يسطع في كل مرسوم من مراسيمه، مما يجعله أخاً "لمرقس أورليوس" في شتى الوجوه؛ ولم يستطع أن يدرك أن البراهمة كانوا يمقتونه، ويتربصون به الدوائر ليفتكوا به، كما فتك كهنة طيبة بإخناتون قبل ذلك بألف عام؛ ولم يقتصر مقته على البراهمة الذي اعتادوا ذبح الحيوان من أجل أنفسهم ومن أجل آلهتهم، بل جاوزهم إلى ألوف مؤلفة من الصيادين والسماكين الذين كرهوا المراسيم التي فرضت كل هذه القيود القاسية على قتل الحيوان؛ حتى الفلاحون أخذوا يجأرون بالشكوى من الأمر الصادر "بألا يحرق قش الغلال خشية أن تحترق معه الكائنات الحية الكامنة فيه"(42)، فنصف الشعب في الإمبراطورية كان ينتظر موت "أشوكا" كما يرقب الإنسان تحقيق الأمل.
ويروي لنا "يوان تشوانج" أن رواة البوذيين يتناقلون النبأ بأن " أشوكا " في أخريات أعوامه، أكره على النزول عن عرشه، على يدي حفيده الذي فعل ما فعله بمعونة رجال البلاط؛ وحرم الملك كل سلطانه شيئاً فشيئاً، ووقف تيار الهدايا التي كان يمنحها للطائفة البوذية؛ بل إن ما كان يسمح به "لأشوكا" من أشياء، حتى الطعام، نقص مقداره، حتى بلغت به الحال أن أصبح نصيبه من الطعام في اليوم نصف ثمرة من ثمار "الأمالاكا"؛ ونظر الملك إلى نصف الثمرة نظرة حزينة، ثم أرسلها إلى إخوانه البوذيين قائلاً إنها كل ما يملك مما يستطيع تقديمه إليهم(43)؛ لكن حقيقة الأمر هي أننا لا ندري شيئاً عن أعوامه الأخيرة، بل لا ندري في أي سنة وافته منيته؛ ولم يمض بعد موته إلا مدى جيل واحد، حتى كانت إمبراطوريته- كإمبراطورية إخناتون- قد تقوض بنيانها؛ ذلك أنه لما تبين أن نفوذ العرش في مملكة "مجاذا" كانت تسنده




صفحة رقم : 759




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الملك الفيلسوف


قوة الدفع القديمة أكثر مما تدعمه إدارة قائمة على قوة الحاكم، فقد أخذت الدول التابعة له تعلن انسلاخها، دولة في إثر دولة، عن ملك الملوك في "باتاليبترا"؛ نعم إن سلالة "أشوكا" لبثت تحكم "مجاذا" حتى القرن السابع الميلادي، لكن أسرة "موريا" الحاكمة التي أنشأها "تشاندرا جوبتا" بلغت ختامها حين قتل الملك "برهادراذا"، وأن ذلك لدليل على أن الدول لا تبقي على المثل العليا، إنما ينهض بنيانها على طبائع الناس.
مني "أشوكا" بالفشل السياسي، ولو أنه من ناحية أخرى قد أدى مهمة من أعظم المهام في التاريخ؛ ففي القرنين التاليين لموته، انتشرت البوذية في أرجاء الهند، وبدأت غزوها لآسيا غزواً لا تراق فيه الدماء؛ فإذا رأيت إلى يومنا هذا، وجه "جوتاما" الهادئ يأمر الناس من "كاندي" في سيلان إلى "كاماكورا" في اليابان، أن يعامل بعضهم بعضاً بالحسنى، وأن يحبوا السلام، فاعلم أنه مما أدى إلى ذلك أن حاكماً، وإن شئت فقل قديساً، كتب له يوماً أن يتربع على عرش الهند.




صفحة رقم : 760




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند



الفصل الثالث




العصر الذهبي في الهند




عصر غزوات - ملوك كوشان - إمبراطورية جوبتا - رحلات




"فا - هين" - نهضة الأدب - قبائل الهون في الهند - هرشا




الكريم - رحلات يوانج تشوانج


منذ وفاة "أشوكا" إلى قيام إمبراطورية "جوبتا"- وهي مدة تكاد تبلغ ستمائة سنة- تقل النقوش والوثائق الهندية قلة تجعل تاريخ هذه الحقبة يضطرب بالغموض(44)؛ وليس هو بالضرورة عصراً مظلماً لقلة علمنا بتاريخه، فقد ظلت به جامعات عظيمة مثل جامعات "تاكسيلا" قائمة تنشر العرفان؛ كما أنه حدث في الجزء الشمالي الغربي من الهند إبان تلك الفترة أن ازدهرت حضارة في إثر غزوة الإسكندر، بتأثير الفرس في فن العمارة، واليونان في فن النحت؛ ففي القرنين الأول والثاني قبل المسيح، نزحت جموع من السوريين واليونان والسُّكيسْت إلى البنجاب، ففتحوه وأقاموا فيه هذه الثقافة "اليونانية البكترية" التي ظلت هناك ما يقرب من ثلاثمائة عام : وفي القرن الأول مما تواضعنا فيما بيننا نحن الغربيين أن نسميه بالعصر المسيحي، استولت قبيلة كوشان من قبائل أواسط آسيا، وهي قبيلة تصلها وشائج القربى بالأتراك، استولت هذه القبيلة على "كابل" ، واتخذتها عاصمة نشرت منها نفوذها في أرجاء الجزء الشمالي الغربي من الهند ومعظم آسيا الوسطى؛ فتقدمت الفنون والعلوم في عهد أعظم ملوكها "كانشكا" ، فها هنا أنتج النحت "اليوناني البوذي" مجموعة من أروع آياته؛ كما أقيمت مبان جميلة في "بشاور" و "تاكسيلا" و "ماثورة" وكذلك تقدم "تشاراكا" بفن الطب؛ ووضع "ناجارجونا" و "أشفاغوشا" الأسس التي قام عليها أحد المذاهب البوذية- هو مذهب




صفحة رقم : 761




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند


ماهايانا، ومعناها، العربة الكبرى- الذي ساعد "جوتاما" على كسب الصين واليابان في صف مذهبه؛ وكان "كانشكا" متسامحاً مع كثير من الديانات، وجرب بنفسه كثيراً من الآلهة يعبدها، حتى انتهى به الأمر أخيرا إلى اختيار البوذية الجديدة الأسطورية التي جعلت من بوذا إلهاً، والتي ملأت أجواز السماء ببوذوات منتظرة وقديسين من أشباه بوذا؛ ودعا إلى انعقاد مجلس عظيم من رجال اللاهوت البوذي، ليصوغوا هذه العقيدة فيتسنى نشرها في بلاده، وأوشك أن يكون "أشوكا" آخر في عمله على نشر العقيدة البوذية، ودون هذا المجلس قواعد بلغ عددها ثلاثمائة ألفاً، وهبط بالفلسفة البوذية إلى حاجات العاطفة عند النفس العادية، ورفع بوذا نفسه إلى منزلة الآلهة.
وكان "تشاندرا جوبتا الأول" (وهو غير تشاندرا جوبتا موريا على الرغم من اتفاقهما في الاسم والعدد الترتيبي) قد أنشأ حينئذ أسرة "جوبتا الحاكمة في مجاذا التي قوامها ملوك من أهل البلد أنفسهم؛ وأتيح لخلفه في الحكم، وهو "سامدرا جوبتا" أن يحكم خمسين عاماً فيجعل من نفسه ملكاً في طليعة ملوك الهند في تاريخها الطويل؛ وكان مما فعله أن نقل عاصمة الحكم من "باتاليبترا" إلى "أبوذيا"- التي هي الموطن القديم لـ " راما " ، ذلك الشخص الأسطوري- ثم بعث بجيوشه الفاتحة ومحصلي ضرائبه إلى بلاد البنغال وأسام ونيبال والهند الجنوبية؛ وأنفق ما تدفق عليه من أموال تلك الأقطار التابعة له، في النهوض بالأدب والعلم والدين والفنون؛ بل برع هو نفسه، فيما تخلل الحروب من فترات السلم، في الشعر والموسيقى؛ وجاء بعده ابنه "فِكرامادتيا" (ومعناها شمس القوة) فوسع من رقعة هذه الفتوحات الحربية والغزوات العقلية، وأيد أديب المسرحية "كالداسا" وجمع حوله في عاصمته "يوجين" طائفة ممتازة من الشعراء والفلاسفة والفنانين والعلماء والباحثين




صفحة رقم : 762




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند


حتى لقد بلغت الهند من التقدم في عهد هذين الملكين ذروة لم تكن قد جاوزتها منذ بوذا، كما بلغت في وحدتها السياسية مبلغاً لم تبلغ مثيله إلا في عهد "أشوكا" وعهد "أكبر".
ونستطيع أن نتتبع الخطوط الرئيسية في مدنية "جوبتا" من الوصف الذي قدمه "فارهين" عن زيارته للهند في مستهل القرن الخامس الميلادي؛ وهو أحد البوذيين الكثيرين الذين جاءوا من الصين إلى الهند إبان هذا العهد الذهبي من تاريخها؛ بل إن هؤلاء الحجاج الدينيين كانوا على الأرجح أقل عدداً من التجار والسفراء الذين طفقوا حينئذ- رغم ما يحيط بالهند من حواجز الجبال- يفدون إليها وقد اشتملها السلام، يفدون إليها من الشرق والغرب، بل يفدون إليها من روما النائية؛ وكانوا في وفودهم إليها يجتلبون معهم عاداتهم وأفكارهم، فسرعان ما تكون هذه الأفكار وتلك العادات الواردة من خارج حافزاً للبلاد على التغيير في أوضاعها؛ جاءها "فا- هين" فألفى نفسه، بعد أن تعرضت حياته للخطر أثناء مروره في الجزء الغربي من الصين، آمناً في الهند أمناً لا يأتيه الخطر من أية ناحية من نواحيه، فجعل ينتقل في طول البلاد وعرضها، دون أن يصادفه من يعتدي عليه بالإيذاء أو بالسرقة(45)؛ وهو يحدثنا في يومياته كيف استغرق في طريقه إلى الهند ستة أعوام، وأنفق في ربوع الهند ستة أعوام، ثم عاد إلى وطنه في الصين عن طريق سيلان وجاوه في ثلاثة أعوام(46).
وإنه ليصف لنا وصفاً يعبر به عن إعجابه بما كان للشعب الهندي من ثروة وازدهار وفضيلة وسعادة، ومن حرية دينية واجتماعية؛ ولقد أدهشته المدن الكبرى بكثرتها وحجمها وعدد سكانها، كما أدهشته المستشفيات المجانية وغيرها من مؤسسات الإحسان التي امتلأت بها أرجاء البلاد ؛ وعجب




صفحة رقم : 763




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند


لعدد الطلاب الذين يختلفون إلى الجامعات والأديرة، وللقصور الملكية الهائلة بعظمتها وفخامتها(48)؛ وإنك لتقرأ وصفه فلا تجد فيه إلا مدينة فاضلة (يوتوبيا)، إذا استثنيت عادتهم في قطع الأيدي لبعض الآثمين:
"الناس كثيرون وسعداء، فليس ثمة ما يلزمهم بتسجيل أفراد أسرهم، ولا ما يضطرهم إلى المثول بين أيدي القضاة أو الاستماع إلى ما يسنون من قوانين؛ ولم يكن بينهم من يدفع شيئاً سوى زراع الأرض الملكية، فهؤلاء يدفعون جزءاً من غلة الأرض؛ ولمن شاء أن يسافر أو يقيم حيث شاء؛ والملك يحكمهم لا يقتل منهم أحداً ولا ينزل بأحد منهم عقاباً، ولا يطالب المجرمون بأكثر من غرامة... وحتى في الحالات التي يتهم فيها الآثم بالثورة المتكررة التي يشق بها عصا الطاعة، لم يكن يحكم عليه بأكثر من قطع يده اليمنى... واذهب حيث شئت من أرجاء البلاد جميعاً فلن تجد أحداً يقتل كائناً حياً، أو يأكل البصل أو الثوم، إذا استثنيت قبيلة "شاندالا"... إنهم في تلك البلاد لا يربون الخنازير والطيور الداجنة ولا يبيعون الماشية حية، فلست ترى في أسواقهم دكاناً لقصاب ولا حانوتاً لبيع المسكرات"(49).
ولم يكد "فا- هين" يلحظ أن البراهمة، الذين كانوا من المغضوب عليهم لدى أسرة موريا الحاكمة منذ عهد "أشوكا" قد أخذوا يزدادون من جديد في ثرائهم ونفوذهم، في ظل التسامح الذي أبداه ملوك أسرة "جوبتا" ، فأحيوا تقاليدهم الدينية والأدبية التي كانت قائمة قبل العهد البوذي، وإنهم كانوا يطورون اللغة السنسكريتية بحيث تصبح هي لغة التفاهم المشتركة بين العلماء في أنحاء الهند كلها: فقد كتبت الملحمتان الهنديتان العظيمتان، "ماهابهاراتا" و "رامايانا" في صورتهما الحاضرة(50) في ظل هؤلاء الملوك وبرعايتهم؛ وكذلك بلغ الفن البوذي في عهد أسرتهم ذروة مجده في النقوش الموجودة بكهوف "أجانتا" ، وفي رأي عالم هندي معاصر أن "مجرد هذه الأسماء: "كاليداسا" و "فاراهاميهيرا" و "جنافارمان" و "فاشوباندو" و "أريابهاتا"




صفحة رقم : 764




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند


و "براهما جوبتا" يكفي ليجعل عصرهم ذاك أوج الثقافة الهندية"(51) ويقول "هَافِل": "في وسع المؤرخ المحايد أن يقول في غير إجحاف أن أعظم فوز ظفرت به الإدارة البريطانية للهند هو أن تعيد لتلك البلاد كل ما كانت قد بلغته في القرن الخامس الميلادي"(52)
لكن هذا العصر الزاهر للثقافة القومية قد اعترضته موجة من غزوات الهون التي كانوا يجتاحون بها إذ ذاك آسيا وأوربا، فيدمرون حضارة الهند وحضارة روما على السواء حيناً من الدهر؛ ففي الوقت الذي كان يجتاح فيه "أتلا" ربوع أوربا، كان "تورامانا" يستولي على "مالْوَا" كما كان "ميهيراجولا" الفظيع يطوح بملوك أسرة "جوبتا" من فوق عرشهم؛ وهكذا لبثت الهند قرناً كاملاً تتدهور إلى عبودية وفوضى؛ وبعدئذ جاء فرع من سلالة أسرة "جوبتا" ، وهو فرع "هارشا- فارذانا" ، وعاد فاستولى من جديد على الهند الشمالية، وابتنى عاصمة له في "كانوج" فأتاح لتلك المملكة الفسيحة سلاماً وأمنا مدى اثنين وأربعين عاماً، ازدهرت فيها مرة أخرى فنون البلاد وآدابها؛ وتستطيع أن تصور لنفسك عاصمتهم تلك "كانوج" من حيث اتساعها وفخامتها وازدهارها، إذا علمت هذه الحقيقة الآتية التي تعز على التصديق، وهي أن المسلمين حين أتوا عليها بالتخريب (سنة 1018 م) دمروا عشرة آلاف معبد(53)، ولم تكن حدائقها العامة الجميلة وأحواض السباحة المجانية فيها، إلا جزءاً ضئيلاً من حسنات الأسرة الجديدة؛ وكان "هارشا" نفسه أحد هؤلاء الملوك القلائل الذين يخلعون على الملكية مظهراً- ولو إلى حين- بحيث تبدو أفضل ألوان الحكم على اختلافها؛ فقد كان رجلاً له سحره وله جوانب كثيرة من الثقافة، فقرض شعراً وأنشأ مسرحيات لا تزال تقرأ في الهند حتى يومنا هذا، على أنه لم يسمح لهذه الصغائر أن تتدخل في إداراته الحازمة لمملكته، وفي ذلك يقول "يوان تشوانج": "كان لا يعرف الشعب، ويرى اليوم أقصر من أن يسد له مطالبه، حتى لقد نسي النوم في إخلاصه لأعمال الخير التي كان يقوم بإنشائها"(54) ولقد بدأ في ديانته عابداً




صفحة رقم : 765




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند


لـ "شيفا" لكنه تحول بعدئذ إلى العقيدة البوذية، وأصبح شبيهاً بـ "أشوكا" في حسناته التي صدر فيها عن تقواه؛ فحرم أكل الحيوان، وأقام محطات ينزل بها المسافرون في أرجاء ملكه جميعاً، وأنشأ ألوف الأضرحة البوذية على ضفاف الكنج.
ويروى لنا "يوان تشوانج"- وهو أشهر البوذيين من أهل الصين- وقد زار الهند، أن "هارشا" كان يعلن كل خمسة أعوام عن حفل عظيم لأعمال البر، كان يدعو إليه كل رجال الديانات على اختلافها، كما يدعو إليه كل الفقراء والمعوزين في مملكته، وكانت عادته في هذا الاجتماع أن يحسن على ملأ من الناس بكل الفائض عن حاجته في خزانة الدولة منذ الاحتفال الخمسي الماضي؛ ولكم دهش "يوانج" لما رأى مقداراً كبيراً من الذهب والفضة والنقود والجواهر والأثواب الدقيقة النسج والغلالات الموشاة، مكدساً أكواما في ميدان مكشوف يحيط به عشرات من الأروقة يضم كل منها ألف شخص؛ وكانت الأيام الثلاثة الأولى تخصص للطقوس الدينية، ثم يبدأ توزيع الصدقات في اليوم الرابع (لو أخذنا بما يقوله هذا الحاج وإنه لقول من العسير تصديقه)؛ وكانوا في ذلك الحفل يطعمون عشرة آلاف من الرهبان البوذيين، ويقدمون لكل منهم لؤلؤة وثياباً وأزهاراً وعطوراً ومائة قطعة من الذهب؛ وبعدئذ يعطون البراهمة من الصدقات ما يكاد يبلغ هذا المقدار، ثم يعطون الجانتيين صدقاتهم، ثم يعقبون على ذلك بسائر العقائد الدينية وبعد ذلك يحسنون على الفقراء واليتامى الذين جاءوا من كل ركن من أركان المملكة من غير رجال الدين؛ وكان التوزيع أحياناً يستغرق ثلاثة شهور أو أربعة؛ وفي ختام الحفل يخلع "هارشا" عن نفسه أرديته الثمينة ومجوهراته، ليضيفها إلى الصدقات(55).




صفحة رقم : 766




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند


وتدلنا مذكرات "يوان تشوانج" على أن الروح العقلي الذي ساد ذلك العصر كان روحاً من نشوة دينية؛ وهو يرسم لنا بمذكراته صورة رائعة تنم عن شهرة الهند إذ ذاك في سائر الأقطار؛ فهذا الصيني الأرستقراطي يغادر حياته المترفة الهينة في بلده النائي "تشانجان" ليعبر الصين الغربية التي لم تبلغ من الحضارة إلا مبلغاً ضئيلاً، ويمر بطشقند وسمرقند (التي كانت مدينة زاهرة إذ ذاك)، ثم يتسلق الهمالايا ليدخل الهند، يقيم ثلاثة أعوام يدرس دراسة المتحمس في جامعة الدير بمدينة "نالاندا" ؛ ولما كان "يوان تشوانج" ذائع الصيت باعتباره عالماً وباعتباره إنساناً له مكانته الاجتماعية، فقد توجه إليه أمراء الهند بالدعوات؛ وسمع "هارشا" أن "يوان" كان في بلاط "كومارا" ملك أسام، فدعا "كومارا" إلى زيادة " كانوج " مستصحباً "يوان" ، فرفض "كومارا" دعوته قائلاً أن "هارشا" يستطيع أن يفصل رأسه لكنه لا يستطيع أن يأخذ منه ضيفه؛ فأجابه "هارشا" قائلاً: "إنني لا أقلقك إلا ساعياً في سبيل رأسك" وجاءه "كومارا" وعندئذ أعجب "هارشا" بعلم "يوان" وأدبه، وأمر بأعيان البوذيين فعقدوا اجتماعاً أنصتوا فيه إلى "يوان" وهو يعرض عليهم مذهب "ماهايانا" ؛ وعلق "يوان" قائمة بآرائه على باب الرواق الذي أعد للاجتماع والنقاش، وأضاف إلى تلك الآراء حاشية على طريقة ذلك العصر، يقول فيها: "إذا وجد أحد من الحاضرين هنا غلطة في تسلسل آرائي، واستطاع تفنيد قول من أقوالي، فله أن يبتر رأسي عن جسدي" ؛ ودامت المناقشة ثمانية عشر يوماً، استطاع خلالها "يوان" (هكذا يقول يوان نفسه) أن يرد كل اعتراض، وأن يصد كل الزنادقة (وهناك رواية أخرى تقول أن معارضيه ختموا الاجتماع بإشعال النار في الرواق(56)؛ وبعد مغامرات كثيرة التمس "يوان" طريقه عائداً إلى بلده "تشانجان" حيث عمل إمبراطورها المستنير على صيانة الآثار البوذية في معبد فاخر، تلك الآثار البوذية التي أحضرها معه هذا الرحالة الورع،




صفحة رقم : 767




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> العصر الذهبي في الهند


الذي يشبه "ماركوبولو" في رحلاته؛ ثم عين له طائفة من العلماء يعاونونه على ترجمة المخطوطات التي اشتراها من الهند(57).
ومع ذلك كله، فقد كان هذا المجد الذي ازدهر به حكم "هارشا" مصطنعاً زائلاً، لأنه كان يعتمد على ملك واحد بما له من قدرة وسخاء، والملك يموت كما يموت البشر؛ فلما مات، اغتصب عرشه مغتصب وأبدى من الملكية وجهها الأقتم، وجاءت في أثره الفوضى، ثم دامت ما يقرب من ألف عام عانت الهند خلالها عصورها الوسطى- كما حدث لأوروبا- واجتاحها البرابرة، كما غزاها الغزاة ومزقوها وخربوها، فما عرفت للسلم والاتحاد طعماً إلا حين أدركها "أكبر" العظيم.




صفحة رقم : 768




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أبناء راجيوتانا



الفصل الرابع




أبناء راجبوتانا




ساموراي الهند - عصر الفروسية - سقوط شيتور


كانت ملحمة راجبوتانا بمثابة السراج الذي أضاء "العصر المظلم" أمداً قصيراً؛ ففي ذاك العهد قام في دويلات "موار" و "ماروار" و "عنبر" و "بيكانر" وكثير غيرها مما يرنّ بأسماء كهذه رنين النغمات، قام في هذه الدويلات شعب خليط، هو نتيجة تزاوج الوطنيين بالسُّكيَّت والهون الغزاة، وأقام مدينة إقطاعية تحت سلطان طائفة من الأمراء المقاتلين الذين جعلوا همهم فن الحياة أكثر مما جعلوه حياة الفن، وقد بدءوا بالاعتراف بسلطة الأسرتين الحاكمتين "موريا" و "جوبتا" ، ثم انتهوا بعدئذ إلى الدفاع عن استقلالهم، ثم الدفاع عن الهند بأسرها في وجه الجموع المحتشدة من المسلمين الذين جاءوها زاحفين؛ وكانت قبائل هؤلاء الأمراء تتميز بشهامة عسكرية وشجاعة لا نعهدهما عادة في أهل الهند ؛ فلو جاز لنا أن نأخذ بما يقوله عنهم مؤرخهم "تود" المعجب بهم، فكل رجل من رجالهم كان " كشاتريَّاً " جريئاً (الكشاترية هي طبقة المقاتلين) وكل امرأة من نسائهم كانت بطلة مقدامة؛ بل إن اسم هذه القبائل، وهو "أهل راجبوت" معناه "أبناء الملوك" ، فإن رأيتهم أحياناً يطلقون على بلادهم اسم "راجستان" فما ذاك إلا ليصفوها بأنها "مقر العنصر الملكي".
ولو نظرت إلى أنباء هذه الدويلات الباسلة لرأيت فيها كل ما جرينا على نسبته إلى "عصر الفروسية" من صفات الشجاعة والولاء والجمال والخصومات




صفحة رقم : 769




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أبناء راجيوتانا


وقتل بعضهم بعضاً بالسم والاغتيال والحروب وخضوع المرأة وما إلى ذلك كله من عبث القول وتفخيم الوصف؛ فيقول "تود" : "إن رؤساء راجبوت كانوا يتحلون بكل الفضائل التي عرف بها الرجل من فرسان الغرب، ثم هم يفوقونه بكثير من قدراتهم العقلية " (59) وكان لهم نساء جميلات لم يترددوا في الموت من أجلهن، وكانت المجاملة وحدها تحمل هؤلاء النساء على أن يصحبن أزواجهن إلى القبر مصطنعات طقوس قومهم في هذا الشأن؛ ومن هؤلاء النسوة فريق كان له حظ من التربية والتهذيب، كما كان بين الراجات شعراء وعلماء، حتى لقد شاع بينهم حيناً من الدهر ضرب رقيق من ضروب التصوير بألوان الماء على النمط الفارسي الوسيط، ولبثوا قروناً أربعة يزدادون في ثرائهم حتى بلغوا منه حداً استطاعوا معه أن ينفقوا عشرين مليوناً من الريالات على تتويج ملك المواريين(60).
وكان موضع فخرهم هو نفسه مأساتهم، وذلك أنهم يمارسون القتال على أنه أعلى ما تسمو إليه الفنون، لأنه الفن الوحيد الذي يليق بالسيد من أهل راجبوت ولقد مكنتهم هذه الروح الحربية من الصمود للمسلمين في بسالة يسجلها التاريخ ، لكن هذه الروح الحربية نفسها جعلت دويلاتهم الصغيرة على حال من الانقسام والضعف الناشئ عن مقاتلة بعضهم بعضاً، بحيث لم تعد شجاعتهم كلها قادرة على صيانة كيانهم في نهاية الأمر؛ وتقرأ ما يقوله "تود" في وصف سقوط شيتور- وهي إحدى عواصم الراجبوت- فتقرأ وصفاً لا يقل في خياله الشعري عن أية أسطورة من أساطير "أرثر" أو "شرلمان". ولما كان هذا الوصف مستمداً من مصدر واحد، وهو ما قاله المؤرخون الوطنيون الذين دفعهم إخلاصهم لوطنهم أن يحيدوا عن الصدق



أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:06 pm

صفحة رقم : 770




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أبناء راجيوتانا


فيما رووا، فلا شك أن هذه الأنباء العجيبة، "أنباء راجستان" ، يجوز أن تكون ذات نزعة أسطورية تقرّبها من "موت أرثر" أو "أنشودة رولان"، وفي رواية هؤلاء المؤرخين أن الفاتح المسلم علاء الدين لم يطلب شيتور لذاتها، بل سعياً للحصول على الأميرة "بودميني" - "وهذا لقب تلقب به من كانت فاتنة بجمالها فتنة ليس بعدها مزيد"- وقد عرض الرئيس المسلم أن يرفع الحصار عن شيتور إذا قبل القائم بالحكم فيها نيابة عن الملك أن يسلم له الأميرة، فلما رفض طلبه هذا، عاد علاء الدين فعرض أن ينسحب إذا أتيح له أن يرى "بودميني" ، وأخيراً وافق على الرحيل إذا مكّن له من رؤية "بودميني" في مرآة، لكنهم أبوا عليه حتى هذا، وبدل أن يجيبوا له رجاءه تضافرت نساء شيتور وانضممن إلى صفوف الدفاع عن مدينتهن، فلما رأى أهل راجبوت زوجاتهم وبناتهم يمتن إلى جوارهم، لبثوا يقاتلون حتى فني آخر رجل من رجالهم، حتى إذا ما دخل علاء الدين المدينة، لم يجد داخل أبوابها أثراً واحداً من آثار الحياة البشرية، فقد مات رجالها جميعاً في ميدان القتال، وأحرق زوجاتهم أنفسهن مصطنعات تلك الطقوس المخيفة التي كانت تعرف عندهم باسم "جوهور"(62).




صفحة رقم : 771




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه



الفصل الخامس




الجنوب في أوجه




ممالك الدكن - فيجايا ماجار - كرشنا رايا - مدينة عظمى




في العصر الوسيط - القوانين - الفنون - الدين - مأساة


كلما تقدم المسلمون في الهند تراجعت الحضارة الهندية نحو الجنوب خطوة بعد خطوة، حتى إذا ما دنت هذه العصور الوسطى من ختامها، كانت الدكن قد باتت بين أرجاء الهند تنتج أسمى ما تنتجه الحضارة الهندية؛ وكانت قبيلة "شاليوكا" قد استطاعت أن تكوّن نفسها مملكة مستقلة لبثت قائمة حيناً من الدهر، تمتد عبر الهند الوسطى، وكان لها من القوة والمجد في عهد "بولاكشين الثاني" ما تمكنت به من أن تهزم "هارشا" وأن تجذب إليها "يوان تشوانج" وأن تظفر من "خسرو الثاني" ملك الفرس بسفارة محترمة؛ وكذلك تمت في عهد "بولاكشين" وفي أرض مملكته أعظم التصاوير الهندية، وأعني بها نقوش أجانتا؛ ثم أسقط "بولاكشين" عن عرشه ملك الفلاويين الذي لبث حيناً قصيراً أعظم قوة في الهند الوسطى؛ وأما في أقصى الجنوب فقد أقام "البانداويون" ملكاً في عهد مبكر يقع في القرن الأول الميلادي، ويشتمل "مِدْراس" و "تِنِفلي" وبعض أجزاء" ترافانكور" ؛ وقد جعلوا من مدينة "مادورا" بلداً من أجمل بلدان الهند في العصر الوسيط وزينوها بمعبد شامخ وبمئات من الآثار المعمارية الفنية الصغرى؛ ودار الزمن دورته فإذا هم كذلك يُشَّل عرشهم على أيدي "الكوليين" أولا ثم على أيدي المسلمين بعد ذلك؛ فأما "الكوليّون" فقد بسطوا سلطانهم على الجزء الواقع بين "مادورا" و "مِدْراس" ومن ثم مدوا أرجاءه تجاه الغرب إلى "ميسور" ؛ ويمتد تاريخهم




صفحة رقم : 772




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه


إلى عهد بعيد في القِدَم، إذ ترى اسمهم مذكوراً في مراسيم "أشوكا" ، لكننا لا ندري عنهم شيئاً حتى القرن التاسع حين بدءوا شوطاً طويلاً تملؤه الغزوات التي جاءتهم بأموال الجزية من الهند الجنوبية كلها بما في ذلك جزيرة سيلان؛ ثم اضمحل سلطانهم وانطووا تحت حكم أعظم الدويلات الجنوبية، وهي دولة "فيجاياناجار" .
أن "فيجاياناجار"- وهو اسم يطلق على مملكة وعلى عاصمتها معاً- مَثلٌ حزين يساق للمجد الذي يعفى عليه النسيان؛ وقد كانت في أيام عزها تشتمل على الدويلات التي يحكمها الأهلون اليوم في جنوبي شبه الجزيرة، كما تشتمل على ميسور وعلى اتحاد مِدْراس بكل أجزائه؛ وحسبك إذا أردت أن تتصور ما كان لها من سلطان وثراء، أن تتذكر أن ملكها "كرشنارايا" زحف إلى موقعة تاليكونا بجيش قوامه 000ر703 من المشاة، و 600ر32 من الفرسان، و 551 فيلاً، يصحبهم ما يقرب من مائة ألف من التجار والبغايا وغير هؤلاء وأولئك ممن كانوا يصحبون معسكرات الجند في ذلك العصر إذا ما زحف الجيش في غزواته(63) ولقد حد من أوتوقراطية الملك قدر من الاستقلال الذاتي تمتعت به القرى، كما حد منها كذلك ملوك كانوا يظهرون آناً بعد آن، يتميزون عن سواهم بعقولهم المستنيرة وقلوبهم الرحيمة.
ولك أن تقارن "كرشنارايا" الذي حكم "فيجاياناجار" بمعاصرة هنري




صفحة رقم : 773




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه


الثامن مقارنة ستكشف لك عن تفوقه على هنري الثامن الذي ما فتئ محباً للنساء لأنك سترى فيه ملكاً أنفق حياته في العدل والرحمة، وبسط كفه بالإحسان الغزير. وتسامح إزاء الديانات الهندية، وكان له شغف بالآداب والفنون فأيدها، وكان كريماً مع من سقط في يديه من أعدائه فعفا عنهم ولم يمس مدنهم بسوء، وانصرف بجهده كله حتى الإفراط، إلى شئون الحكم، ولقد كتب مبشر برتغالي- هو دومنجوزبيز سنة 1522م- فوصفه بقوله:
"إنه بلغ أقصى ما يمكن لملك أن يبلغه من الهيبة والكمال وهو ذو مزاج بهيج وشديد المرح، ومن صفاته أنه لا يألو جهداً في تكريم الأجانب وفي الحفاوة بهم ... إنه حاكم عظيم ورجل يغلب على أخلاقه العدل، ولكنه يثور بالغضب فجأة حيناً بعد حين ... وهو بحكم منزلته أسمي منزلة من سائر الحاكمين، لما له من جيوش وسعة سلطان، لكنه فيما يبدو لم يكن في واقع الأمر يحظى بما كان ينبغي لرجل في مثل مكانته أن يحظى به؛ فهو من الشهامة والكمال في كل شئ بمكان" .
وربما كانت العاصمة التي تأسست سنة 1336م أغنى مدينة عرفتها الهند حتى ذلك الزمان؛ زارها "نيكولوكونتي" حول سنة 1420م فقدر محيطها بستين ميلاً، ووصفها "بيز" فقال إنها "في اتساع روما وتراها العين فترى جمالاً خلاباً" ثم أضاف إلى ذلك قوله: "إن بها أحراشاً كثيرة من الشجر وقنوات مائية عدة" ذلك لأن مهندسيها قد أقاموا سداً ضخماً على نهر تنجابادرا وأنشئوا بذلك خزاناً ينتقل الماء منه إلى المدينة بقناة طولها خمسة عشر ميلاً، وقد كان الخزان منحوتاً في صخر أصم مدى عدة أميال؛ وقال "عبد الرزاق" الذي شهد المدينة سنة 1443م أن فيها "ما لم تر مثيله في أي جزء من أجزاء العالم عين ولا سمعت بمثيله أذن" واعتبرها "بيز" "أوفر بلاد الدنيا مؤونة... ففيها من كل شئ وفرة" ويروى لنا أن عدد دورها قد أربى على مائة ألف،




صفحة رقم : 774




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه


يسكنها نصف مليون من البشر، وتراه يدهش لقصر من قصورها كانت فيه غرفة بنيت كلها من العاج؛ "إنها من الثراء والجمال بحيث يكاد يستحيل أن تجد لها ضريباً في أي مكان آخر"(66).
ولما تزوج "فيروز شاه" سلطان دلهي من ابنة ملك "فيجاياناجار" في عاصمة هذا الأخير، فرشت الطرقات لمسافة ستة أميال بالمخمل والحرير ورقائق الذهب وغير ذلك من المواد النفيسة(67)، لكن أذكر مع ذلك أن كل رحالة كذاب.
وإذا ما نفذت ببصرك وراء هذا الستار من الغنى، وجدت شعباً من عبيد وفعلة يعيشون في مسبغة وخرافة، ويخضعون لتشريع اصطنع القسوة الوحشية ليصون بين الناس ضرباً منشوداً من ضروب الأخلاق التجارية، فكان العقاب يتراوح بين قطع الأيدي أو الأقدام وقذف المذنب إلى الفيلة وجذ رأسه ووضعه حياً على قضيب مدبب ينفذ خلال معدته، أو تعليقه على مشبك من أسفل ذقنه وتركه هكذا حتى يموت(68)، وهذه العقوبة الأخيرة كانت تنزل بالمغتصب أو بالسارق الذي يمعن في سرقته؛ وكان البغاء مسموحاً به، تنظمه القوانين بحيث تجعل منه مورداً من موارد العرش، ويقول (عبد الرزاق) إنه رأى "أمام دار السكة ديوان عميد المدينة الذي قيل عنه أنه يهيمن على اثني عشر ألفاً من رجال الشرطة، الذين تدفع لهم رواتبهم ... مما يجبى من مواخير البغاء، وإنه لمما يعز على الوصف تصوير فخامة هذه الدور وجمال آهلاتها من الفاتكات بالقلوب، وما لهن من فتنة الحديث وحلاوة الغزل"(69) ، وقد كان للمرأة عندهم منزلة دنيا، وكان عليها أن تقتل نفسها عند وفاة زوجها، فكانوا يتركونها أحياناً تلقي بنفسها حية في القبر(70).
وازدهر الأدب في عصر "ملوك الرايا"- أي ملوك فيجاياناجار-




صفحة رقم : 775




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه


ازدهر مكتوباً بالسنسكريتية القديمة وبلهجة "تلوجو" التي ينطق بها أهل الجنوب؛ وكان "كرشنارايا" نفسه شاعراً كما كان راعياً سخياً للآداب، وإنهم ليضعون أمير شعرائه "آلاساني بدانا" في الرعيل الأول من شعراء الهند كلها؛ وكذلك ازدهر التصوير وفن العمارة، فشيدت المعابد الضخمة، وزينت في كل جزء من أجزائها تقريباً بالتماثيل والنقوش البارزة؛ وكانت البوذية قد فقدت سلطانها على الناس، وحل محلها ضرب من البراهمية التي تقدس " فشنو " قبل تقديسها لغيره من الآلهة، وكانت البقرة عندهم مقدسة فلا تمتد إليها أيديهم بالذبح، ولهم أن يقدموا للآلهة قرابين من ضروب الماشية الأخرى ومن الطيور الداجنة، كما كان لهم أن يأكلوا لحوم هذه الصنوف؛ وبالجملة كان الدين قاسي الأحكام على حين كانت أخلاق التعامل بين الناس على شئ من التهذيب.
لكن هذا السلطان كله وهذا الترف كله قد انمحى بين عشية وضحاها، وأخذ المسلمون الغزاة يشقون طريقهم رويداً رويداً بين الجنوب، وتحالف سلاطين "بيجابور" و "احمد ناجار" و "جولكوندا" و "بدار" فركزوا قواهم جميعاً ليخضعوا هذا المعقل الأخير الذي تحصن فيه ملوك الهند الوطنيون، والتقت جيوشهم المتحالفة بجيش "راماراجا" الذي يبلغ عدده نصف المليون في موقعة "تاليكوتا" وكان الغلب للمغيرين بسبب كثرة عددهم، ووقع "راماراجا" في الأسر وقطع رأسه على مرأى من أتباعه، فدب الرعب في أنفس هؤلاء الأتباع ولاذوا بالفرار، لكن عدداً يقرب من مائة ألف منهم قتل في طريق الفرار حتى اصطبغت بدمائهم مجاري الماء؛ وراح الجنود الفاتحون ينهبون العاصمة الغنية، وكانت الغنائم من الكثرة بحيث "أصبح كل جندي بسيط من جنود الجيوش المتحالفة غنياً بما ظفر به من ذهب ومجوهرات ومتاع وخيام وسلاح وجياد ورقيق"(71) ودام النهب خمسة أشهر، جعل الظافرون خلالها يفتكون بمن لا حول لهم من الأهالي في وحشية لا تفرق بين إنسان وإنسان، وراحوا يفرغون المخازن والدكاكين، ويقوضون المعابد




صفحة رقم : 776




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الجنوب في أوجه


والقصور، وبذلوا ما استطاعوا من جهد لإتلاف كل ما تحويه المدينة من تماثيل وتصاوير؛ وبعدئذ جاسوا خلال الشوارع يحملون المشاعل الموقدة فيشعلوا النار في كل ما يصلح وقوداً للنار، حتى إذا ما غادروا المدينة آخر الأمر، كانت " فيجاياناجار " قد باتت خراباً بلقعاً كأنما زلزل زلزلها فما أبقي منها حجراً على حجر؛ وهكذا كان الدمار فضيعاً لم يُبْق على شئ، يصوّر أدق تصوير غزو المسلمين للهند، ذلك الغزو الشنيع الذي كان قد بدأ قبل ذلك بألف عام، وبلغ حينئذ ختام مراحله .




صفحة رقم : 777




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي



الفصل السادس




الفتح الإسلامي




إضعاف الهند - محمود الغزنوي - سلطنة دلهي - انحرافاتها




الثقافية - سياستها الوحشية - عبرة التاريخ الهندي


لعل الفتح الإسلامي للهند أن يكون أكثر قصص التاريخ تلطخاً بالدماء ؛ وإن حكاية الفتح لمما يبعث اليأس في النفوس لأن مغزاها الواضح هو أن المدنية مضطربة الخطى، وأن مُركبَّها الرقيق الذي قوامه النظام والحرية، والثقافة والسلام، قد يتحطم في لحظة على أيدي جماعة من الهمج تأتي من الخارج غازية ، أو تتكاثر في الداخل متوالدة؛ فهؤلاء هم الهندوسيون قد تركوا أنفسهم للانقسام والقتال الداخليين يفتان في عضدهم، واتخذوا لأنفسهم البوذية والجانتية ديناً، فأخمد مثل هذا الدين جذوة الحياة في قلوبهم بحيث عجزوا عن الصمود لمشاقها؛ ولم يستطيعوا تنظيم قواهم لحماية حدودهم وعواصمهم وثروتهم وحريتهم من طوائف السُّكيَّت والهون والأفغان والأتراك الذين ما فتئوا يجوبون حول حدود البلاد يرقبون ضعف أهلها لينفذوا إلى جوفها، فكأنما لبثت الهند أربعة قرون (من 600 إلى 1000م) تغري الفاتحين بفتحها، حتى جاءهم هذا الفتح حقيقة واقعة آخر الأمر.
وكانت أول هجمة للمسلمين إغارة عابرة منهم على "ملطان" التي تقع في الجزء الغربي من البنجاب (سنة 664م)، ثم وقعت من المسلمين إغارات أخرى شبيهة بهذه كان فيها النجاح حليفهم مدى الثلاثة القرون التالية، حتى انتهى بهم الأمر إلى توطيد سلطانهم في وادي نهر السند في نحو الوقت الذي




صفحة رقم : 778




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي


كان زملاؤهم في الدين يقاتلون في الغرب موقعة "تور" (732م) ليخلصوا منها إلى فرض سيادتهم على أوربا، على أن الفتح الإسلامي الحقيقي للهند لم يقع إلا بعد نهاية الألف عام الأولى من التاريخ الميلادي.
ففي سنة 997 م تولى شيخ من الشيوخ الأتراك يسمى محمود سلطنة دولة صغيرة؛ تقع في الجزء الشرقي من أفغانستان، وهي دولة غزنة؛ وأدرك محمود أن ملكه ناشئ وفقير، ورأى الهند عبر الحدود بلداً قديماً غنياً، ونتيجة هاتين المقدمتين واضحة؛ فزعم لنفسه حماسة دينية تدفعه إلى تحطيم الوثنية الهندوسية، واجتاح الحدود بقوة من رجاله تشتعل حماسة بالتقوى التي تطمع في الغنيمة، والتقى بالهندوسيين آخذاً إياهم على غرة في "بهمناجار" ، فقتلهم ونهب مدائنهم وحطم معابدهم وحمل معه كنوزاً تراكمت هناك على مر القرون؛ حتى إذا ما عاد إلى غزنة، أدهش سفراء الدول الأجنبية بما أطلعهم عليه من "الجواهر واللآلئ غير المثقوبة والياقوت الذي يتلألأ كأنه الشرر، أو كأنه النبيذ جمده الثلج، والزمرد الذي أشبه غصون الريحان اليانعة، والماس الذي ماثل حب الرمان حجماً ووزناً"(72)؛ وكان محمود كلما أقبل شتاء هبط على الهند وملأ خزائنه بالغنائم، وأمتع رجاله بما أطلق لهم من حرية النهب والقتل، حتى إذا ما جاء الربيع عاد إلى عاصمة بلاده أغنى مما كان؛ وفي "ماثورة" (على جمنه) أخذ من المعبد تماثيله الذهبية التي كانت تزدان بالأحجار الكريمة؛ وأفرغ خزائنه من مكنونها الذي كان يتألف من مقادير كبيرة من الذهب والفضة والجواهر؛ وأعجبه فن العمارة في ذلك الضريح العظيم، ثم قدر أن بناء مثله يكلف مائة مليون دينار وعملاً متصلاً مدى قرنين، فأمر به أن يغمس في النفط، وأن يترك طعاماً للنار حتى أتت عليه(73)، وبعد ذلك بستة أعوام، أغار على مدينة غنية أخرى تقع في شمال الهند، وهي مدينة "سمنة" فقتل سكانها جميعاً وعددهم خمسون ألف نسمة، وحمل كنوزها إلى غزنة؛ ولعله في نهاية أمره قد أصبح أغنى ملك عرفه التاريخ؛ وكان أحياناً يبقي على سكان المدن المنهوبة ليأخذهم معه إلى وطنه فيبيعهم هناك رقيقاً، لكن هؤلاء




صفحة رقم : 779




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي


الأسرى بلغوا من الكثرة حداً أدي بهم إلى البوار بعد بضعة أعوام، بحيث يتعذر أن تجد من يدفع أكثر من شلنات قليلة ثمناً للعبد من هؤلاء؛ وكان محمود كلما هم بعمل حربي هام، جثا على ركبتيه مصلياً يدعو الله أن يبارك له في جيشه؛ وظل يحكم ثلث قرن، فلما جاءته منيته، كان قد أثقلته السنون ودواعي الفخار، فوصفه المؤرخون المسلمون بأنه أعظم ملوك عصره، ومن أعظم الملوك في كل العصور(74).
فلما رأى سائر الحكام المسلمين ما خلعه التوفيق من جلال على هذا اللص العظيم، حذوا حذوه، ولم يستطيع أحد منهم أن يبزه في خطته؛ ففي عام 1186م قامت قبيلة تركية من الأفغانستان، وهي قبيلة الغوريين، بغزو الهند والاستيلاء على دلهي، وخربوا معابدها وصادروا أموالها ونزلوا بقصورها ليؤسسوا لأنفسهم بذلك سلطنة دلهي - وهي سلطنة استبدادية وفدت إلى البلاد من خارج، وجثمت على شمالي الهند ثلاثة قرون، لم يخفف من عبئها إلا حوادث الاغتيال والثورة؛ وكان أول هؤلاء السلاطين الأشرار هو "قطب الدين أيبك" الذي يعد نموذجاً سوياً لنوعه - فهو متهوس في تعصبه غليظ القلب لا يعرف الرحمة؛ ويروي لنا عنه المؤرخ المسلم فيقول أن عطاياه "كانت توهب بمئات الألوف، وقتلاه كانوا كذلك يعدون بمئات الألوف ففي قصر واحد ظفر به هذا المحارب "الذي كان قد بيع عبدا "وضع في أغلال الرق 50 ألف رجل واسودت بطاح الأرض بالهنود"(75)؛ وكان "بَلْبان"- وهو سلطان آخر- يعاقب الثائرين وقطاع الطرق برميهم تحت أقدام الفيلة، أو ينزع عنهم جلودهم، ثم يحشو هذه الجلود بالقش ويعلقها على أبواب دلهي؛ ولما حاول بعض السكان المنغوليين الذين كانوا قد استوطنوا دلهي واعتنقوا الإسلام، أن يقوموا بثورة، أمر السلطان علاء الدين (فاتح شيتور) بالذكور جميعاً- ويقع عددهم بين خمسة عشر ألفاً وثلاثين ألفاً-




صفحة رقم : 780




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي


فقتلوا في يوم واحد؛ وجاء السلطان محمود بن طغلق فقتل أباه وتولى العرش من بعده، وقد أصبح في عداد العلماء الأعلام والأدباء أصحاب الأسلوب الرشيق، فدرس الرياضة والطبيعة والفلسفة اليونانية، ولكنه مع ذلك بز أسلافه في سفك الدماء وارتكاب الفظائع، من ذلك أنه جعل من ابن أخ له ثار عليه طعاماً أرغم زوجة القتيل وأبناءه على أكله؛ وأحدث في البلاد تضخماً مالياً باستهتاره فجلب الدمار إلى البلاد، وتركها خراباً بما أجراه فيها من نهب وقتل، حتى لقد لاذ سكانها بالفرار إلى الغابات، ولقد أوغل في قتل الهنود حتى قال عنه مؤرخ مسلم: "إن أمام رواقه الملكي وأمام محكمته المدينة لم يخل المكان قط من أكداس الجثث، حتى لقد مل الكناسون والجلادون، وأتعبهم جر الأجساد - أجساد الضحايا- لأعمال القتل فيهم زرافات"(76)؛ ولما أراد أن ينشئ عاصمة جديدة في "دولة أباد" أخرج سكان دلهي من بلدهم لم يبق منهم أحداً، وخلف المدينة قفراً يباباً؛ وسمع أن رجلاً أعمى قد ظل مقيماً في دلهي، فأمر به أن يجر على الأرض من العاصمة القديمة إلى العاصمة الجديدة، ولما بلغوا بالمسكين آخر رحلته لم يكن قد بقى من جسده إلا ساق واحدة(77) وشكا السلطان من نفور الشعب منه وعدم اعترافهم بعدله الذي لم ينحرف عن جادة السبيل.
وظل يحكم الهند ربع قرن ثم وافته منيته وهو في فراشه؛ وتبعه "فيروز شاه" فغزا البنغال، ووعد أن يكافئ كل من جاءه برأس هندي، حتى لقد دفع في ذلك مكافآت عن مائة وثمانين ألفاً من الرؤوس، وأغار على القرى الهندية طلباً للرقيق، ومات وهو شيخ معمر، بلغ من العمر ثمانين عاماً؛ وجاء السلطان احمد شاه، فكان يقيم الحفلات ثلاثة أيام متوالية كلما بلغ القتلى في حدود ملكه من الهنود العزل عشرين ألفاً في يوم واحد(78).
وكثيراً ما كان هؤلاء الحكام رجالاً ذوي قدرة، كما كان أتباعهم يمتلئون بسالة جريئة ونشاطاً؛ وبغير هذا الفرض فيهم لا نستطيع أن نفهم كيف أتيح




صفحة رقم : 781




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي


لهم أن يصونوا ملكهم وسط شعب معاد لهم ويفوقهم عدداً بنسبة كبيرة؛ وكانوا جميعاً مسلحين بعقيدة دينية حربية النزعة لكنها أسمى بكثير في توحيدها الجاد من كل المذاهب الدينية الشائعة إذ ذاك في الهند؛ ولقد عملوا على طمس ما لعقيدتهم تلك من ظاهر جذاب، بأن أرغموا الهنود على عدم القيام بشعائر دينهم علناً، وبهذا مهدوا للهنود طريق الانغماس في صميم الروح الهندية إلى أعماقها؛ وكان لبعض هؤلاء الحكام المستبدين العطشى للطغيان ثقافة إلى جانب ما كان لهم من قدرة، فرعوا الفنون وهيئوا سبل العيش لرجال الفن والصناعة- وهؤلاء عادة من أصل هندي- بأن استخدموهم في بناء المساجد والأضرحة الفخمة؛ وكذلك كان بعضهم علماء يمتعهم أن يحاوروا المؤرخين والشعراء ورجال العلوم؛ ولقد صحب محموداً الغزنوي إلى الهند عالم من أعظم علماء آسيا، وهو البيروني وهناك كتب استعراضاً علمياً عن الهند قريب الشبه بكتاب "التاريخ الطبيعي" لمؤلفه "بِلْني" و كتاب "الكون" "الهمبولت" وكان للمسلمين مؤرخون يكادون يبلغون عدد ما كان لهم من قادة الجيش، ولم يقلوا عنهم في حبهم لسفك الدماء والحرب؛ وأما السلاطين فقد ابتزوا من الشعب كل ما في مستطاع الناس أن يدفعوه من مال على سبيل الجزية، واصطنعوا في ذلك الوسائل العتيقة في فرض الضرائب، كما لجاءوا أيضا إلى السرقة الصريحة، لكنهم كانوا يقيمون في الهند وينفقون غنائمهم تلك في الهند، فأعادوا إلى الحياة الاقتصادية في الهند ما استلبوه منها؛ ومهما يكن من أمر فقد كانت وسائلهم الإرهابية واستغلالهم للناس مما زاد من إضعاف البنية الهندية وإضعاف الروح المعنوية بين الهنود، وهو إضعاف عمل عليه قبل ذلك مناخ البلاد المنهك للقوى وقلة ما يأكلونه من طعام، وتمزق البلاد من الوجهة السياسية والنظرة المتشائمة التي توحي بها دياناتهم.
وقد رسم علاء الدين تخطيطاً واضحاً للسياسة التي جرى عليها السلاطين في




صفحة رقم : 782




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> الفتح الإسلامي


معظم الأحيان، وذلك أنه طلب إلى مستشاريه أن يسنوا "قواعد وقوانين يكون من شأنها أن تسحق الهنود سحقاً، وأن تسلبهم تلك الثروة وهاتيك الكنوز التي كانت تولد في نفوسهم البغضاء والثورة"(80)؛ فكانت الحكومة تستولي على نصف مجموع المحصول الزراعي، بعد أن كان الحكام الوطنيون قبل ذلك يستولون من ذلك المحصول على سدسه فقط؛ يقول مؤرخ مسلم: "لم يستطيع هندي أن يرفع رأسه، ولم تكن لترى في دورهم أثراً لذهب أو فضة ... بل لم تكن لترى هناك شيئاً مما يزيد عن ضرورات الحياة ... وكانوا يجبرون على دفع الضريبة باللطمات وتقييد الأقدام والشد بالأغلال والزج في السجن" ، وكان علاء الدين إذا ما احتج مستشاريه على سياسته هذه، أجابه بقوله: "أيها الفقيه، إنك متبحر في العلم لكنك خلو من الخبرة، أما أنا فلا علم عندي لكني رجل محنك؛ فكن على يقين أن الهنود لن يذلوا أو يطيعوا حتى ننزل بهم الفقر، ولهذا أصدرت أمري بألا يترك في أيديهم إلا الضروري لحفظ الحياة مما يجمعونه عاماً بعد عام من محصول الغلال واللبن والجبن، وألا يسمح لهم قط بادخار الأموال والأملاك"(81).
وفي هذا سر التاريخ السياسي للهند الحديثة؛ فقد مزقها الانقسام حتى جثت أمام الغزاة ثم أفقرها هؤلاء الغزاة فأفقدوها قوة المقاومة، فاستجارت من هذا البلاء بعزاء في الحياة الآخرة، ومن هنا راحوا يؤمنون بأن السيادة والعبودية كلاهما وهم زائل، ويعتقدون بأن حرية البدن أو حرية الأمة لا تكادان تستحقان الجهاد في مثل هذه الحياة القصيرة؛ والعبرة المرة التي نستخلصها من هذه المأساة هي أن اليقظة الساهرة أبداً هي ضمان دوام المدنية؛ فالأمة ينبغي أن تحب السلام، لكنها يجب أن تكون دوماً على أهبة الاستعداد للقتال .


أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:07 pm

صفحة رقم : 783




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم



الفصل السابع




أكبر العظيم




تيمورلنك ، بابور - هميون ، أكبر ، حكومته - شخصيته -




رعايته للفنون - تحمسه للفلسفة - حسن علاقته بالهندوسية




والمسيحية - ديانته الجديدة - أكبر في أخريات أيامه


إن من طبيعة الحكومات أن يصيبها الانحلال، لأن القوة- كما قال شلي- تسمم كل يد تمسها(82) فقد أدي إسراف سلاطين دلهي إلى فقدانهم تأييد الهنود لهم، بل فقدانهم تأييد أتباعهم من المسلمين كذلك؛ حتى إذا ما أغارت على البلاد جيوش مغيرة جديدة من الشمال، مني هؤلاء السلاطين بالهزيمة بغير عناء كما كانوا هم أنفسهم قد كسبوا الهند بغير عناء.
وأول من انتصر عليهم في ذلك هو "تيمورلنك" الذي كان قد اعتنق الإسلام ليتخذ منه سلاحاً ماضياً، كما قد أعد لنفسه قائمة أنساب ترده إلى "جنكيز خان" لكي يعينه ذلك على كسب طائفة المغول إلى جانبه؛ فلما أن فرغ من استيلائه على عرش سمرقند، ولم يزل يحس الرغبة في مزيد من الذهب، أشرقت عليه فكرة مؤداها أن الهند لم تزل حينئذ مليئة بالكفار، لكن قواده كانوا يعلمون بسالة المسلمين، فلم يذهبوا معه في الرأي، موضحين له أن الكفار الذين يمكن الوصول إليهم من سمرقند، كانوا بالفعل تحت الحكم الإسلامي، ثم أفتى له الفقهاء العلماء بالقرآن بآية تبعث الحماسة في الصدور وهي: "يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"(83) فما هو إلا أن عبر تيمور نهر السند (1398م) وقتل أو استعبد كل من وقعت عليهم يداه من السكان فلم يستطيعوا الفرار منه، وهزم جيوش السلطان محمود طغلق




صفحة رقم : 784




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


واحتل دلهي، وذبح مائة ألف من الأسرى ذبحاً متعمداً، وسلب من المدينة كل أموالها التي كانت الأسرة الأفغانية المالكة قد كدستها هناك، وحملها معه إلى سمرقند، مستصحباً كذلك عدداً كبيراً من النساء والعبيد، تاركاً وراءه الفوضى والمجاعة والوباء(84).
وعاد سلاطين دلهي فاعتلوا عرشهم، واستغلوا الهند قرناً آخر من الزمان، حتى جاءهم الفاتح الحقيقي، وهو "بابور" الذي أسس أسرة المغول العظيمة وهو يشبه الإسكندر كل الشبه في شجاعته وجاذبيته، ولما كان سليل تيمور وجنكيز خان معاً، فقد ورث كل ما اتصف به هذان الحاكمان- اللذان ألهبا آسيا- من قدرة، دون أن يرث ما كان لهما من غلظة القلب؛ وكان يعاني من فيض نشاط في جسده وعقله، فطفق يقاتل ويخرج للصيد وللرحلة دون أن يروى بذلك غلته، ولم يكن عليه عسيراً أن يقتل بمفرده خمسة أعداء في خمس دقائق(87)، وحدث أن قطع في يومين مائة وستين ميلاً وهو راكب على ظهر جواده، ثم واصل مجهوده ذاك فسبح نهر الكنج مرتين كأن الرحلة لم تكفه دليلاً على نشاطه؛ ولقد قال وهو في أواخر سنيه أنه منذ عامه الحادي عشر لم يصم رمضان مرتين في مكان واحد(88).
وله "ذكريات" يستهلها بقوله: "لما بلغت من العمر اثني عشر عاماً أصبحت حاكماً على فرغانة"(89) ولما بلغ الخامسة عشرة حاصر سمرقند واستولى عليها، ثم ضاعت من يده لعجزه عن دفع رواتب جنده، واعتلّت صحته حتى أوشك على الموت، واعتصم بالجبال حيناً، ثم عاد إلى المدينة فاستولى عليها بقوة قوامها مائتان وأربعون رجلاً، وعاد من جديد ففقدها بخيانة غادر؛ فاختبأ في غمرة من الفقر عامين، حتى لقد فكر في نفض يده




صفحة رقم : 785




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


من حياة الجهاد مكتفياً بحياة الفلاحة في حقول الصين؛ لكنه عاود نفسه فنظم جيشاً جديداً وأبدى من الشجاعة ما ألهب الشجاعة في نفوس جنده واستولى على كابل وهو في عامه الثاني والعشرين من عمره، بعد أن أنزل الهزيمة الساحقة بجيش السلطان إبراهيم في موقعة بانبات، وقوامه مائة ألف جندي، مع أن جيشه لم يزد على اثني عشر ألفاً، ومعهم عدد من حر الجياد؛ وقتل الأسرى ألوفاً ألوفاً، واستولى على دلهي، وأسس بها أعظم وأكرم أسرة أجنبية مما حكم الهند من أجانب؛ وأخيراً نعم بحياة وادعة أربعة أعوام، كان يقرض فيها الشعر ويكتب ذكرياته، ومات في سن السابعة والأربعين بعد أن عاش قرناً كاملاً إذا عدت السنون بما فيها من نشاط وتجربة.
وكان ابنه "هميون" من الضعف والتردد والإدمان في الأفيون بحيث لم يستطع أن يتابع السير في طريق أبيه "بابور" ، فهزمه "شرشاه" وهو من شيوخ الأفغان، في موقعتين دمويتين، واستعاد حيناً من الدهر سلطة الأفغان في الهند؛ ولئن كان "شرشاه" قديراً على القتل في أحسن صوره الإسلامية، إلا أنه كذلك أعاد بناء دلهي في ذوق معماري جميل، وأقام في إدارة الحكم إصلاحات مهدت السبيل للحكم المستنير الذي تم على يدي "أكبر" ؛ وبعد أن تولى الملك شاهان قليلاً الشأن مدى عشرة أعوام، نظم "هميون" قوة في فارس، بعد اثني عشر عاماً قضاها في صعاب وتجواب، ثم عاد إلى الهند واستعاد العرش، لكنه لم يلبث بعد ذلك إلا ثمانية أشهر، إذ سقط من شرفة مكتبته فقضى نحبه.
وكانت زوجته قد أنجبت له أثناء نفيه وفقره ولداً أسماه (محمداً) تبركاً بهذا الاسم، لكن الهند أطلقت عليه "أكبر"- ومعناها "البالغ في عظمته حداً بعيداً"- ولم يدخروا من وسعهم شيئاً لتنشئته رجلاً عظيماً، بل إن أسلافه قد تعاونوا على اتخاذ التدابير كلها ليبلغوا به قمة العظمة، ففي عروقه تجري دماء "بابور" و "تيمور" و"جنكيز خان" وأعد له المُربّون في كثرة، لكنه رفضهم جميعاً وأبى أن يتعلم القراءة؛ وأخذ يعد نفسه بدل ذلك لتولي




صفحة رقم : 786




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


المُلك بالرياضة الخطرة التي ما فتئ يرتاضها، فأصبح فارساً يتقن ركوب الخيل إلى حد الكمال، وكان يلعب بالكرة والصولجان لعب الملوك، ومهر في فن سياسة الفيلة مهما بلغت من حدة الافتراس، ولم يتردد قط في ارتياد الغابة لصيد الأُسْد والنمور وفي تحمل المشاق مهما بلغ عناؤها، وفي مواجهة المخاطر كلها بشخصه؛ ولكي يكون تركياً أصيلاً، لم يضعف ضعف الإناث فيمج طعم الدماء البشرية؛ من ذلك أنه لما كان في عامه الرابع عشر، دعي ليظفر بلقب "غازي"- ومعناها قاتل الكفار- بأن قدموا له أسيراً هندياً ليقتله فبتر رأس الرجل بتراً في لمحة سريعة وبضربة واحدة من حسامه؛ تلك كانت البدايات الوحشية لرجل كتب له أن يكون من أحكم وأرحم وأعلم من عرفهم تاريخ الدنيا من ملوك .
لما بلغ الثامنة عشرة من عمره تسلم مقاليد الأمور من يد الوصي على عرشه، وكانت رقعة ملكه تمتد حينئذ فتشمل أكثر من ُثمن مساحة الهند كلها- فهي شريط من الأرض يبلغ عرضه نحو ثلاثمائة ميل، ويمتد من الحدود الشمالية الغربية عند ملطان إلى بنارس في الجانب الشرقي؛ وامتلأ بما كان يمتلئ به جده من حماسة وجشع، فشرع يوسع هذه الحدود، واستطاع بسلسلة من الحروب التي لم تعرف الرحمة أن يبسط سلطانه على الهندستان كلها، ماعدا مملكة راجبوت التي تخضع لأسرة موار؛ فلما عاد إلى دلهي نزع عن نفسه السلاح، وكرس جهده لإعادة تنظيم حكومة ملكه؛ وكان سلطانه مطلقاً فهو الذي يعين الرجال للمناصب الهامة كلها، حتى ما يقع منها في الأقاليم النائية؛ وكان معاونوه الأساسيون أربعة: رئيس الوزراء ويسمى "فقيراً"، ووزير المالية ويسمى "وزيراً" ، وأحياناً يسمى "ديواناً"،




صفحة رقم : 787




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


ورئيس للقضاء ويسمى "بخشي" ورئيس للديانة الإسلامية ويسمى "صدراً" ؛ وكان كلما ازداد حكمه استقراراً ورسوخاً في القلوب، قل اعتماده على القوة الحربية، مكتفياً بجيش دائم من خمسة وعشرين ألفاً، فإذا ما نشبت حرب، زادت هذه القوة المتواضعة بمن يجندهم الحكام العسكريون في الأقاليم- وهو نظام متصدع الأساس كان من عوامل سقوط الإمبراطورية المغولية في حكم "أورنجزيب" وفشت الرشوة والاختلاس بين هؤلاء الحكام ومعاونيهم، حتى لقد انفق "أكبر" كثيراً من وقته في مقاومة هذا الفساد؛ واصطنع الاقتصاد الدقيق في ضبط نفقات حاشيته وأهل أسرته، فحدد أسعار الطعام وسائر الأشياء التي كانت تشترى لهم، كما حدد الأجور التي تدفع لمن تستخدمهم الدولة في شئونها؛ ولما مات، ترك في خزينة الدولة ما يعادل بليون ريال، وكانت إمبراطوريته أقوى دولة على وجه الأرض طرًّا(90).
كانت القوانين والضرائب كلاهما قاسياً، لكنهما كانا مع ذلك أقل قسوة منهما قبل ذلك العهد، فقد كان مفروضاً على الفلاحين أن يعطوا الحكومة مقداراً من مجموع المحصول يتراوح بين السدس والثلث، حتى لقد بلغت ضريبة الأراضي في العام ما يساوي مائة مليون ريال؛ وكان الإمبراطور يجمع في شخصه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية؛ وكان إذا ما جلس في كرسي القضاء الأعلى، أنفق الساعات الطوال ينصت إلى أقوال المتخاصمين في القضايا الهامة؛ وكان من قوانينه تحريم زواج الأطفال وتحريم إرغام الزوجة على قتل نفسها عند موت زوجها، وأجاز زواج الأرامل، ومنع استرقاق الأسرى وذبح الحيوان للقرابين، وأطلق حرية العقيدة للديانات كلها، وفتح المناصب




صفحة رقم : 788




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


لذوي الكفاءة مهما يكن من أمر عقيدتهم أو جنسهم، ومنع ضريبة الرءوس التي كان الحكام الأفغان يفرضونها على الهندوسيين الذين يأبون الدخول في الإسلام(91)، وكان تشريعه في بداية حكمه يبيح عقوبات من قبيل بتر الأعضاء، أما في نهاية عهده فربما بلغ التشريع في بلاده من الرقي ما لم تبلغه أية حكومة أخرى في القرن السادس عشر؛ إن كل دولة تبدأ بالعنف ثم تأخذ في طريق الملاينة الذي ينتهي إلى الحرية (ذلك إن أمنت على نفسها الخطر).
لكن قوة الحاكم كثيراً ما تكون ضعفاً في حكومته، فقد كان بناء الحكم قائماً إلى حد كبير على "أكبر" بما كان له من صفات عقلية وخلقية ممتازة، ولذلك كان من البديهي أن يتعرض كل ذلك للانهيار بعد موته؛ وبالطبع قد تحلى بمعظم الفضائل ما دام قد استأجر معظم أقلام المؤرخين: فكان خير رياضي وخير فارس وخير محارب بالسيف، ومن خيرة المهندسين في فن العمارة، وكان كذلك أجمل رجل في البلاد كلها، أما الواقع فإنه كان طويل الذراعين، مقوس الساقين، ضيق العينين كسائر المنغوليين، رأسه يميل نحو اليسار، وفي أنفه ثؤلول (زائدة جلدية)(93)، لكنه كان يكتسب شكلاً محترماً بنظافته ووقاره وهدوئه وعينيه اللامعتين اللتين كانتا تتلألآن (كما يقول أحد معاصريه): "تلألأ البحر في ضوء الشمس" أو كانتا تشتعلان على نحو ترتعد له فرائص المعتدي كما حدث لفاندام أمام نابليون،كان ساذج الثياب، يغطي رأسه بغطاء مزركش، ويرتدي صدراً وسراويل، ويرصع نفسه بالجواهر، ويترك قدميه عاريتين؛ وكان لا يميل كثيراً إلى أكل اللحم، ثم امتنع عنه امتناعاً تاماً تقريباً في أواخر سنيه قائلاً "إنه لا يجمل بالإنسان أن يجعل من معدته مقبرة للحيوان" ومع ذلك فقد كان قوي الجسد قوي الإرادة، وبرع في كثير من أنواع الرياضة التي تحتاج إلى حركة ونشاط، واستخف بستة وثلاثين ميلاً يمشيها في يوم واحد، وكان يحب اللعب بالكرة والصولجان




صفحة رقم : 789




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


حباً حدا به أن يخترع كرة منيرة ليتمكن اللاعبون من القيام بلعبتهم هذه في ظلمة الليل؛ وورث من أسلافه في أسرته ميولها الاندفاعية القوية، وكان في شبابه (مثله في ذلك مثل معاصريه من المسيحيين) قادراً على حل مشكلاته بالاغتيال؛ لكنه راضَ نفسه شيئاً فشيئاً على أن يجلس على بركان نفسه- على حد تعبير وودرو ولسن- وامتاز من عصره امتيازاً بعيد المدى في ميله إلى العدل، وهو صفة لا يتميز بها حكام الشرق دائماً؛ يقول "فرِشْتا" : "إن رحمته لم تعرف حدوداً، بل إنه كثيراً ما ذهب في هذه الفضيلة حتى جاوز بها حدود الحكمة"(93) وكان كريماً ينفق الأموال الطائلة إحساناً، أحبه الناس جميعاً، وخصوصاً الطبقات الدنيا، فيقول عنه مبشّرٌ جوويتيّ: "إنه كان يتقبل من أهل الطبقات الدنيا عطاياهم الحقيرة بوجه باسم، فيتناولها بيديه ويضمها إلى صدره، مع إنه لم يكن يفعل مثل ذلك مع أفخر الهدايا التي كان يقدمها له الأشراف، وقال عنه أحد معاصريه إنه كان مصاباً بالصرع ؛ وروى عنه كثيرون أن داء السوداء كثيراً ما كان يستولي عليه إلى درجة تسود معها نظرته إلى الحياة اسوداداً مخيفاً، وكان يشرب الخمر ويأكل الأفيون في اعتدال، ولعله فعل ذلك ليكسب واقع حياته المظلم شيئاً من البريق، ولقد كان أبوه كما كان أبناؤه يشربون الخمر كما شربها ويأكلون الأفيون كما فعل، لكنهم لم يكونوا يشبهونه في ضبطه لنفسه وكان له حريم يتناسب مع سعة ملكه، فيروي لنا أحد الرواة " أن الملك له في "أجرا" وفي "فتحبور- سِكْرى"- هكذا يروون بصيغة الصدق- ألف فيل وثلاثون حصاناً وألف وأربعمائة غزال وثمانمائة خليلة" لكنه لم يكن له فيما يظهر شهوات حسية ولا ميول تدفعه إلى الانغماس فيها؛ نعم إنه أكثرَ من زوجاته، لكنه كان زواجاً سياسياً، فكان يتودد إلى أمراء الراجبوت بزواج بناتهم، وبهذا كسبهم في تعضيد عرشه،




صفحة رقم : 790




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


وأصبحت الأسرة الحاكمة المغولية منذ ذلك الحين نصف وطنية فيما يجري في عروقها من دماء؛ ولقد أعلى رجلاً من أسرة راجبوت حتى نصبه قائداً أعلى لجيشه، كما رفع أحد الراجات إلى منصب كبير وزرائه؛ وكانت أمنيته التي يحلم بها أن يوحد الهند(94).
لم يكن ذا عقل واقعي دقيق له برودة المنطق كما كان قيصر أو نابليون، بل كان ينزع بعاطفته نحو دراسة الميتافيزيقا، ولو أنه خلع عن عرشه لكان من الجائز أن يصبح صوفياً معتزلاً؛ كان لا يكف عن التفكير ولا ينقطع عن اختراع الجديد واقتراح الإصلاح لما هو قائم(95)؛ وكان من عادته مثل هارون الرشيد أن يعس بالليل متنكراً، ثم يعود إلى مأواه وهو جياش الصدر برغبة الإصلاح؛ واستطاع وسط هذه المناشط الكثيرة أن يفسح بعض الوقت لجمع مكتبة عظيمة تتألف كلها من مخطوطات جميلة الخط والنقش، دبجها له نساخون بارعون كانت لهم عنده منزلة الفنانين، فهم في عينه لا يقلون مكانة عن المصورين والمهندسين المعماريين الذين كانوا يزينون ملكه؛ وكان يزدري الطباعة باعتبارها آلية لا تتجلى فيها شخصية الكاتب، ولم يلبث أن استغنى عن العينات المختارة من الرسوم الأوربية المطبوعة التي قدمها له أصدقاؤه من الجزويت؛ ولم تزد مكتبته على أربعة وعشرين ألف كتاب، لكن قيمتها بلغت ما يساوي ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف ريال(97) عند أولئك الذين حسبوا أن أمثال هذه الكنوز الروحية يمكن تقديرها بأرقام مادية؛ وأجزل العطاء للشعراء بغير حساب، وقرب أحدهم من نفسه- هو بربال الهندي- تقريباً جعله ذا حظوة كبرى في حاشية قصره، وأخيراً نصبه في الجيش قائداً، فكان من نتيجة ذلك أن قام " بربال " بحملة حربية أظهر فيها عجزاً شديداً، وقتل في جو أبعد ما يكون الجو عن خيال الشعراء




صفحة رقم : 791




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


وأمر "أكبر" أعوانه من الأدباء أن يترجموا إلى الفارسية- وقد كانت لغة قصره- آيات الأدب والتاريخ والعلم في الهند، وراجع بنفسه ترجمة الملحمة الخالدة "ماهابهاراتا"(100) وازدهرت الفنون كلها في ظله وبتشجيعه، فشهدت الموسيقى الهندية والشعر الهندي في عهده عصراً من أعظم عصورهما، وبلغ التصوير- الفارسي منه والهندي- مرتبة تالية في ارتفاعها للأوج بفضل تشجيعه(101)وأشرف في "أجرا" على بناء "الحصن" المشهور، وأمر أن يبنى بداخله خمسمائة بناء، عدها معاصروه من أجمل ما تراه العين في العالم كله؛ لكن هذه المباني قد تحطمت تحطيماً على يدي "شاه جهان" الأرعن، وليس في مقدورنا أن نحكم عليها إلا استنتاجاً من آثار العمارة الباقية من عهد "أكبر" مثل مقبرة "هميون" في دلهي، والآثار الباقية في "فتحبور- سكرى" حيث أقيم ضريح لصديق "أكبر" المحبوب، الزاهد الشيخ سليم شستي، وهو بناء من أجمل ما في الهند من بناء.
ثم كان له اتجاه آخر أعمق من هذه الاتجاهات كلها، وهو ميله إلى التأمل، فهذا الإمبراطور الذي أوشك أن يكون قادراً على كل شئ، تحَرَّق فؤاده شوقاً إلى أن يكون فيلسوفاً- كما يشتهي الفلاسفة أن يكونوا أباطرة، ولا يستطيعون أن يسيغوا حمق القدر في حرمانه إياهم ما هم جديرون به من عروش، فبعد أن فتح "أكبر" العالم، أحس شقاء نفسه لأنه لم يستطع فهماً لهذا العالم الذي فتحه وقد قال: "على الرغم من أني أسود مثل هذا المُلك الفسيح، وزمام الحكومة كلها في يدي، فلست مطمئن الفؤاد لهذه العقائد الكثيرة والمذاهب المختلفة من حولي، مادامت العظمة الحقيقية كائنة في تنفيذ إرادة الله، فدع عنك هذه الأبهة الظاهرة المحيطة بي، وقل لي كيف أطيب بالاً، في مثل هذا اليأس، إذا




صفحة رقم : 792




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


ما حملت عبء الإمبراطورية؟ إني لأرقب ظهور رجل حصيف ذي مبدأ ليزيح عن ضميري هذه المشكلات التي يتعذر عليّ حلها...إن الحديث في الفلسفة يفتنني فتنة تصرفني عن كل ما عداها، وإني لأنصرف عن سماعها رغم أنفي حتى لا أهمل واجباتي التي تقتضيها أمور الساعة"(102) ويقول باودني: "كان يحج إلى قصره طوائف العلماء من كل أمة، والحكماء من كل ملة ومذهب، وكانوا يظفرون لديه بشرف استماعه إليهم؛ وإذا ما فرغوا من بحثهم وتقصيهم اللذين كانا شغلهم الشاغل ومهمتهم الأولى ليلاً ونهاراً، تحدثوا في مسائل عميقة في العلم، ونقط دقيقة في الوحي، وأعاجيب التاريخ وغرائب الطبيعة"(103)؛ ويقول "أكبر" : "إن سيادة الإنسان تعتمد على جوهرة العقل"(104).
ولما كان فيلسوفاً فلا عجب أن يأخذه شغف شديد بالدين؛ فقد أغرته قراءته الدقيقة لملحمة "ماهابهاراتا" ودراسته الوثيقة لشعراء الهنود وحكمائهم، بدراسة العقائد الهندية؛ ولبث حيناً- على الأقل- يؤمن بمذهب التناسخ، وخيب فيه ظن أتباعه من المسلمين حين ظهر على الملأ بعلامات دينية هندية على جبهته؛ فقد كان له شغف بملاطفة أصحاب العقائد كلها، لذلك تودد إلى الزرادشتيين بأن لبس ما يلبسوه من قميص ومنطقة مقدسين تحت ثيابه؛ وانصاع للجانتيين حين طلبوا إليه أن يمتنع عن الصيد، وأن يحرم قتل الحيوان في أيام معلومة، ولما سمع بالديانة الجديدة المسماة بالمسيحية، التي جاءت إلى الهند مع بعثة "جوا" البرتغالية، أرسل خطاباً إلى هؤلاء المبشرين التابعين لمذهب بولس، يدعوهم أن يبعثوا له باثنين من علمائهم؛ وحدث بعد ذلك أن قَدِم جماعة من الجزويت مدينة دلهي، وحببوه في المسيح حتى أمر كتابة أن يترجموا له العهد الجديد(105) وأباح لهؤلاء الجزويت كل حرية في أن ينصروا من شاءوا بل عهد إليهم بتربية أحد أبنائه؛ وفي الوقت الذي كان الكاثوليك يفتكون بالبروتستنت في فرنسا، والبروتستنت- في عهد اليصابات- يفتكون بالكاثوليك في إنجلترا، ومحاكم التفتيش تقتل اليهود في أسبانيا




صفحة رقم : 793




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


وتسلبهم أملاكهم و "برونو" يقذف به في النار في إيطاليا، كان "أكبر" يوجه الدعوة إلى ممثلي الديانات كلها في إمبراطوريته ليعقدوا مؤتمراً، وتعهد لهم بحفظ السلام بينهم وأصدر المراسيم بوجوب التسامح مع المذاهب كلها والعقائد كلها، ولكي يقيم الدليل على حياده، تزوج من نساء البراهمة، ومن نساء البوذية، ومن نساء المسلمين جميعاً.
وكان ألذ ما يمتعه بعد أن بردت في نفسه جذوة الشباب المضطرمة، المناقشات الحرة في العقائد الدينية؛ ولقد ترك تعاليم الإسلام الجامدة تركاً تاماً حتى أغضب بحياده هذا في الحكم رعيته من المسلمين؛ يقول عنه "سانت فرانسس زافير" في شئ من المغالاة : "لقد حطم هذا الملك مذهب محمد الفاسد، وهاجمه هجوماً بحيث لم يبق له فضيلة واحدة، ولم يعد في هذه المدينة مسجد أو قرآن- هو كتاب شريعتهم- وأما ما كان هناك من مساجد فقد اتخذوا منها حظائر للخيل أو مخازن"؛ ولم يؤمن الملك أقل إيمان بالوحي، ولم يكن ليصدق شيئاً لا يقوم على صحته برهان من العلم والفلسفة؛ وكثيراً ما كان يجمع طائفة من أصدقائه ومن رجال العقائد الدينية المختلفة ثم يأخذ في مناقشة الدين معهم من مساء الخميس إلى ظهر الجمعة، فإذا ما اعترك فقهاء المسلمين مع قساوسة المسيحيين، زجرهم قائلاً إن الله ينبغي أن يعبد بالعقل لا بالتمسك الأعمى بوحي مزعوم؛ وكان مما قاله، فجاء شبيهاً بروح كتاب "اليوبانشاد"، بل ربما كان في قوله هذا متأثراً "باليوبانشاد" و "كابر" : "كل إنسان يسمى الكائن الأسمى باسم يلائم وجهة نظره، والواقع أن تسميتنا لما يستحيل علينا إدراكه ضرب من العبث" واقترح بعض المسلمين أن تخبر المسيحية إزاء الإسلام بمحنة النار، وذلك أن يمسك شيخ من شيوخ المسلمين بالقرآن، وأن يمسك قسيس بالإنجيل، ثم يخوضان معاً في النار، فمن خرج منهما سالماً من الأذى، اعترف له منادياً في الأرض بصوت الحق،




صفحة رقم : 794




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


وتصادف أن "أكبر" لم يكن يحب الشيخ المسلم الذي اقترحوه لهذه التجربة، فتحسس للاقتراح، لكن الجزويت رفضوه لأنه إفك وخروج على الدين، لا لأنه خطر على حياة من تقع عليه التجربة؛ وجعل اللاهوتيون المتنافسون يجتنبون أمثال هذه الاجتماعات شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد يحضرها إلا "أكبر" نفسه مع أصدقائه من أصحاب النظرة العقلية(106).
وضاق "أكبر" ذرعاً بالانقسامات الدينية في مملكته، وأفزعه الاحتمال بأن تؤدي هذه الديانات المتنافسة إلى تمزيق المملكة بعد موته، فاستقر رأيه آخر الأمر على أن يكون منها ديانة جديدة، تضم أهم تعاليم العقائد المختلفة في صورة بسيطة ويحكي لنا المبشر الجزويتي هذا النبأ كما يأتي:
"عقد اجتماعاً عاماً دعا إليه كل رجال العلم البارزين والقواد العسكريين في المدن المجاورة، لم يستثن أحداً إلا الأب "رِدُلفو" الذي كان من العبث أن ترجو منه شيئاً غير مناصبة هذه الدعوة الدينية العداء؛ فلما أن اجتمعوا جميعاً أمامه، خطبهم بأسلوب سياسي ماهر ماكر قائلاً:
"إنه لمن الشر في إمبراطورية يحكمها رأس واحد أن ينقسم الأعضاء بعضهم على بعض وأن يتباينوا في الرأي...ومن ثم نشأ في البلاد أحزاب بمقدار ما فيها من عقائد دينية؛ وإذن فلزام علينا أن ندمج هذه العقائد كلها في دين واحد، على نحو يجعلها كلها ممثلة في هذا الواحد، وتكون الفائدة الكبرى التي يجنيها كل من هذه الديانات، أنه لن يخسر شيئاً من جوانبه الحسنة. ثم يكسب كل ما هو حسن في سائر الديانات؛ وبهذا وحده نمجد الله ونهيئ للناس سلاماً وللإمبراطورية أمناً"(107).
ووافق المجلس مرغماً، فأصدر "أكبر" مرسوماً يعلن نفسه رئيساً دينياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الرئاسة الدينية هي أهم ما أثرت به المسيحية على الديانة الجديدة؛ وكانت هذه العقيدة الجديدة توحيداً يمثل التقاليد الهندية في التوحيد خير تمثيل، مضافاً إليه قبس من عبادة




صفحة رقم : 795




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


الشمس والنار مأخوذاً من العقيدة الزرادشتية، وفيه عنصر شبيه بالمذهب الجانتي في إيثاره للامتناع عن أكل اللحوم، وعد ذبح الأبقار كبيرة من الكبائر، فما أشد ما اغتبط لذلك الهندوس، وما أقل ما اغتبط له المسلمون؛ وصدر بعدئذ مرسوم يجعل الاقتصار على أكل النبات إلزاماً على الناس جميعاً مدى مائة يوم على الأقل كل عام، ثم سار مع ميول الوطنيين خطوة أخرى فحرم الثوم والبصل، وحرم تشييد المساجد وصيام رمضان والحج إلى مكة وغير ذلك من شعائر المسلمين؛ ولما أراد المسلمون مناهضة هذه المراسيم، نفي كثيراً منهم(108)؛ وأقيم وسط "محكمة السلام" في "فتحبور- سكرى" معبد للديانة المتحدة الجديدة (ولا يزال هذا المعبد قائماً)رمزاً للأمل الذي كان يضطرم في صدر الإمبراطور، وهو أن يكون أهل البلاد جميعاً- بفضل العقيدة الجديدة- إخواناً يعبدون إلهاً لا يختلف من طائفة إلى طائفة.
ولم يكن النجاح حليف "الدين الإلهي باعتباره ديناً، ووجد "أكبر" أن التقاليد أقوى من أن يهدمها بقوله أن يجل عن الخطأ؛ نعم إن بضعة آلاف من الناس التفوا حول الدين الجديد، كان معظمهم ممن يريدون من وراء ذلك اكتساب حظوة عند الدولة، لكن الأغلبية العظمى مازالت مستمسكة بآلهتها الموروثة؛ وأما من الوجهة السياسية فقد كان لخطته الدينية بعض النتائج المعينة؛ فلئن كان "أكبر" بوحيه الديني الجديد قد أبدى شيئاً من الأنانية ومن الإسراف، فقد عوض عن ذلك خير العوض بإلغائه لضريبة الرؤوس وضريبة الحج المفروضتين على الهندوس، وبإطلاقه الحرية للعقائد الدينية كلها ، وبإضعافه لروح التعصب الديني والجنسي وما يتبع ذلك من جمود الرأي وانقسام الطوائف؛ ولقد كسب إلى جانبه بفضل دينه الجديد ولاء الهندوس، حتى أولئك لم يعتنقوا منهم تلك العقيدة الجديدة، فاستطاع بذلك أن يحقق غايته الرئيسية إلى حد بعيد، وأعني بها الوحدة السياسية للبلاد.




صفحة رقم : 796




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> أكبر العظيم


لكن هذا "الدين الإلهي" كان مصدر كراهية شديدة له في نفوس إخوانه في الإسلام،حتى لقد انتهى الأمر بهم مرة إلى شق عصا الطاعة علناً، وإثارة الأمير "جهان كير" على أبيه بحيث أخذ بحيث يدبر له المكائد ُخفْية؛ وكان مما أثار القلق في نفس الأمير أن "أكبر" قد ظل يحكم البلاد أربعين عاماً، وأن بنيته لم تزل من القوة بحيث لا أمل في موت قريب يصيبه؛ لهذا حشد "جهان كير" جيشاً من ثلاثين ألف فارس، وقتل "أبا الفضل" مؤرخ القصر وأحب الأصدقاء إلى نفس الملك، ثم أعلن نفسه إمبراطوراً؛ لكن "أكبر" حمل الأمير الشاب على التسليم، وعفا عنه بعد يوم واحد، غير أن خيانة الابن لأبيه عملت على قتل أمه وقتل صديقه، وحطمت قوته النفسية، وتركته فريسة هينة "للعدو الأعظم" حتى لقد تنكر له أبناؤه في أواخر أيامه وبذلوا جهدهم كله في النزاع على العرش، ومات "أكبر" فلم يكن إلى جانبه إلا طائفة قليلة من أصدقائه المقربين- مات بمرض الديسنتاريا، أو مات مسموماً بتدبير "جهان كير" على اختلاف الآراء في ذلك، وجاء الشيوخ الدينيون إلى فراش الموت يحاولون أن يردوه إلى الإسلام، لكنهم منوا الفشل؛ وهكذا "قضى الملك دون أن يجد من يصلي على روحه بين أنصار أية عقيدة أو مذهب"(109) ولم يشيع جنازته عدد كبير من الناس، فكانت جنازة متواضعة، ولبس أبناؤه ورجال حاشيته ثياب الحداد بمناسبة موته، لكنهم خلعوها في مساء اليوم نفسه، فرحين بوراثتهم للملك من بعده فكان موته موتاً مريراً، مع أنه أعدل وأحكم حاكم شهدته آسيا في كل عصورها.




صفحة رقم : 797




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول



الفصل الثامن




تدهور المغول




بناء العظماء - جهان كير - شاه جهان - عظمته - سقوطه -




أورنجزيب - تعصبه - موته - قدوم البريطانيين


عَزَّ على الأبناء الذين ظلوا يرقبون موته في صبر نافذ أن يبقوا للإمبراطورية على وحدتها، تلك الإمبراطورية التي خلقها نبوغه خلقاً، فلماذا يحدث غالباً أن ينسل عظماء الرجال سلالة متوسطة القدرات والمواهب؟ أيكون ذلك لأن البذور التي كانت قد أنتجت هؤلاء العظماء- أعني امتزاج عناصر الأسلاف وممكنات البيئة الحيوية- إنما سارت مدفوعة بالمصادفة وحدها، فمن الشطط أن نتوقع لها عودة إلى الظهور من جديد؟ أم يكون ذلك لأن العبقري يستنفذ في تفكيره وفي جهوده قوة كان يمكن أن يوجهها نحو رعاية أبنائه، وبذلك لا يبقى لورثته من بعده من دمه إلا أضعفه؟ أم يكون ذلك لأن الأبناء ينحلون في ظل النعمة واليسار، فتحرمهم بحبوحة العيش في سنّهم الباكر الحوافز نحو الطموح والرقي؟
على أن "جهان كير" لم يكن متوسط القدرات والمواهب بقدر ما كان منحلاً قادراً؛ فقد ولد لأب تركي وأميرة هندية، وانفتحت أمامه الفرص كلها التي تسنح لولي العهد، فانغمس في الخمر والدعارة، وأطلق لنفسه العنان في التمتع السادي بالقسوة على الآخرين، وقد كان هذا الميل مجبولاً في فطرة أسلافه "بابور" و "هميون" و "أكبر "لكنهم دسوه دساً في دمائهم التترية، فكان يمتعه أن يرى الناس يسلخون أحياء، أو تنفذ فيهم "الخوازيق" أو يقذفون إلى الفيلة تمزقهم تمزيقاً: وهو يروي لنا في "مذكراته" أن سائسه




صفحة رقم : 798




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول


وطائفة من الخدم قدموا ذات يوم إلى ساحة صيده، وكانوا من عدم الحذر بحيث أدى ظهورهم هناك إلى فزع الطرائد التي كان يتربص لها في صيده، حتى أفلتت منه تلك الطرائد، فأمر بالسائس أن يقتل، وبخدم السائس أن تخلخل ركبهم فيعيشوا أعمارهم كساحاً؛ وهو يقول إنه بعد أن أشرف على تنفيذ أمره هذا "مضى في صيده"(110)؛ ولما تآمر عليه ابنه "خسرو" جاء بسبعمائة من أنصار الثائر وأنفذ فيهم "الخوازيق" وصفهم صفاً على امتداد الشوارع في لاهور، وهو يذكر لنا في نشوة من السرور كم انقضى على هؤلاء الرجال من زمن حتى فاضت أرواحهم(111)، وكان له حريم من ستة آلاف امرأة يرعين له حياته الجنسية(112) لكنه فيما بعد انصرف إلى زوجة مفضلة، هي "نورجهان" ، التي ظفر بها بقتل زوجها؛ وكان يسود حكومته عدل محايد لكنه قاسٍ؛ غير أنه إلى جانب ذلك قد أسرف في نفقاته إسرافاً أبهظ أمة كانت قد أصبحت أغنى أمم الأرض طرا بفضل ما أبداه "أكبر" في سياسته لها من حكمة، وما أسداه عليها أمْنٌ طال أمده أعواماً كثيرة.
ولما دنا عهد "جهان كير" من ختامه، زاد الرجل انغماساً في خمره، وأهمل واجباته الرسمية في الحكومة، فكان من الطبيعي أن تنشأ المؤامرات لملء مكانه، وحدث فعلاً سنة 1622م أن حاول ابنه "جهان" أن يعتلي العرش، ثم لما فاضت روح "جهان كير" جاء "جهان" هذا مسرعاً من الدكن حيث كان مختفياً، وأعلن نفسه إمبراطوراً، وقتل كل إخوته ليضمن لنفسه راحة البال؛ وقد ورث عن أبيه صفات الإسراف وضيق الصدر والقسوة؛ فأخذت نفقات قصره والرواتب العالية التي كان يتقاضاها موظفوه الكثيرون، تزداد نسبتها بالقياس إلى دخل الأمة الذي كانت تنتجه لها صناعة مزدهرة وتجارة نافقة؛ وبعد التسامح الديني الذي أبداه "أكبر" وعدم المبالاة التي




صفحة رقم : 799




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول


أظهرها "جهان كير" جاء "جهان" فعاد إلى العقيدة الإسلامية، واضطهد المسيحيين، وراح يحطم أضرحة الهندوس تحطيماً واسع النطاق لا يعرف إلى الرحمة سبيلاً.
وعوَّض شاه جهان بعض نقائصه بسخائه لأصدقائه، وكرمه للفقراء، وبذوقه وتحمسه للفن مما حفزه إلى تزيين الهند بأجمل فن معماري شهدته في تاريخها السابق كله، ثم بإخلاصه لزوجته "ممتاز محل"- ومعناها "زينة القصر"- ولقد تزوج منها وهو في سن الحادية والعشرين ، بعد أن أنجب طفلين من خليلة أخرى ، وأنجبت "ممتاز" لزوجها الذي لم يعرف الكلل، أربعة عشر طفلاً في ثمانية عشر عاماً، ثم قضت نحبها في سن التاسعة والثلاثين، وهي تلد آخر هؤلاء الأبناء، فأقام "شاه جهان" "تاج محل" وهو آية بلغت حد الكمال، أقامه تخليداً لذكراها وذكرى خصوبتها، ثم انتكس بعدئذ إلى دعارة مخجلة(113)، وهذا القبر الذي هو أجمل قبور الدنيا جميعاً، إن هو إلا واحد من مائة آية فنية شيدها "جهان" ، خصوصاً ما شيده منها في "أجرا" وفي "دلهي الجديدة" التي نمت تحت إشرافه؛ وأن ما كلفته هذه القصور من مال، وما غرقت فيه حاشية القصر من بذخ، وما استنفذه "عرش الطاووس" من أحجار كريمة ليدل بعض الدلالة على ما فرض على الناس في سبيل ذلك من ضريبة جاءت على الهند خراباً؛ ومع ذلك كله، ورغم ما شهدته الهند إبان عهد "شاه جهان" من مجاعة هي من أسوأ ما مر بها في تاريخها من مجاعات، فقد كانت أعوامه الثلاثون التي قضاها في الحكم بمثابة الأوج




صفحة رقم : 800




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول


في ازدهار الهند وعلو مكانتها؛ لقد كان هذا الملك الشامخ بأنفه حاكماً قديراً، ولئن أهلك أنفساً كثيرة في حروبه الخارجية، فقد هيأ لبلاده جيلاً كاملاً من السلام؛ كتب حاكم بريطاني عظيم لبمباي، هو "مونت ستيوارت إلْفِنْستون" يقول:
إن من ينظر إلى الهند في حالتها الراهنة قد يميل إلى الظن بأن الكتاب الوطنيين إنما يسرفون في وصف ثراء البلاد قديماً؛ لكن المدن المهجورة والقصور الحاوية والقنوات المسدودة التي لا نزال نراها، بما هناك من خزانات كبرى وجسور في وسط الغابات، والطرق المتهدمة والآبار ومحطات القوافل التي كانت على امتداد الطرق الملكية، كل ذلك يؤيد شهادة الرحالة المعاصرين بحيث يميل بنا إلى العقيدة بأن هؤلاء المؤرخين كانوا يقيمون أقوالهم على سند صحيح"(115).
كان "جهان" قد بدأ حكمه بقتل إخوته، لكن فاته أن يقتل أبناءه كذلك فَكُتِب لأحد هؤلاء الأبناء أن يخلعه عن العرش، وذلك هو "أورنجزيب" الذي أثار ثورة سنة 1657م وجاء زاحفاً من الدكن؛ فأمر الشاه- شأنه في هذا شأن داود- أمر قواده أن يهزموا الجيش الثائر، على ألا يقتلوا ابنه إن وجدوا إلى إنقاذ حياته من سبيل؛ لكن "أورنجزيب" غلب جميع الجيوش التي أرسلت لمحاربته، وألقى القبض على أبيه وسجنه في "حصن أجرا" حيث لبث الملك المخلوع تسعة أعوام يعاني مُرَّ العذاب، لم يزره ابنه في سجنه قط، ولم يكن إلى جواره من يرعاه سوى ابنته المخلصة "جهانارا" ؛ وكان ينفق أيامه جالساً في "برج الياسمين" مرسلاً بصره عبر "جمنة" إلى حيث ترقد زوجته الحبيبة "ممتاز" في قبرها المزدان بالجواهر.
على أن هذا الابن الذي خلع أباه على هذا النحو القاسي، كان من أعظم القديسين في تاريخ الإسلام، بل ربما كان أميز الأباطرة المغول جميعاً بما كاد يتفرد به من صفات؛ فشيوخ الدين الذين تولوا تنشئته صبغوه بالدين صبغاً حتى لقد فكر هذا الأمير الشاب يوماً في أن ينفض يده من الإمبراطورية




صفحة رقم : 801




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول


بل من العالم كله، ليعتزل الدنيا راهباً متعبداً؛ ولبث حياته كلها- رغم طغيانه ودهاء سياسته وتوهمه بأن أخلاق لا تكون إلا في مذهبه الديني- لبث حياته كلها رغم ذلك مسلماً ورعاً، يقيم الصلاة وينفق فيها وقتاً طويلاً، ويحفظ القرآن كله، ويجاهد في قتال الكفار؛ وما أكثر ما قضى من ساعات يومه في عبادته، وما قضى من أيام حياته صائماً؛ وكان في معظم الأحيان يخلص في أداء شعائر دينه إخلاصه في الدعوة إليها؛ نعم لقد كان في السياسة بارداً يقدر عواقب الأمور تقديراً دقيقاً، وله قدرة على الكذب الماهر في سبيل بلاده وربه؛ لكنه مع ذلك كله كان أقل المغول قسوة وألطفهم مزاجاً؛ قل القتل في عهده، وكاد يستغني عن اصطناع العقاب في محاكمة المجرمين؛ وكانت شخصيته متسقة الجوانب فتواضع في عزة، وصبر في وجه المعتدي، وهدوء نفس في أوقات المحنة؛ وامتنع عن كل ما يحرمه دينه من ألوان الطعام والشراب وأسباب الترف امتناعاً كان يرقبه فيه ضميره؛ وعلى الرغم من براعته في عزف الموسيقى، أقلع عنها لأنها ضرب من اللذة الحسية والظاهر أنه نفذ ما صمم عليه وهو ألا ينفق على نفسه إلا ما كسبت يداه بالعمل(116) فكأنه كان بمثابة القديس أوغسطين أجلس على العرش.
كان "شاه جهان" قد خصص نصف دخله لترقية العمارة وغيرها من الفنون، أما "أورنجزيب" فلم يعبأ بالفنون، وهدم ما فيها من آثار "الكفر" مدفوعاً بتعصب ديني ساذج، وظل خلال نصف القرن الذي حكم البلاد فيه، يحارب في سبيل محو الديانات كلها من الهند إلا ديانته؛ وأمر عماله في الأقاليم وغيرهم من أتباعه أن يقوضوا كل المعابد التي تتبع الهندوس أو المسيحيين، وأن يحطموا الأصنام جميعاً، وأن يغلقوا مدارس الهندوس بغير استثناء؛ فكان من جرّاء ذلك أنه في عام واحد (1679- 1680م) هدم ستة وستين معبداً في "عنبر" وحدها، وثلاثة وستين معبداً في "شيتور" ، ومائة وثلاثة وعشرين معبداً في "أودايبور"(117)، وأقام مسجداً إسلامياً(118) في مكان




صفحة رقم : 802




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول


معبد كان قائماً بنارس وكان موضع قدسية خاصة عند الهندوس، بغية الإساءة المتعمدة إليهم؛ وحرم إقامة الشعائر الهندوسية علناً، وفرض ضريبة فادحة على كل هندي لم يعتنق الإسلام(119)، فكان من نتيجة هذا التعصب الديني أن خربت ألوف المعابد التي كان يتمثل في بنائها؛ أو تحتوي داخل جدرانها فنون الهند مدى ألف عام، فيستحيل علينا اليوم إذا ما أرسلنا الأبصار في جنبات الهند، أن نعلم شيئاً مما كان لها من جلال وجمال.
استطاع "أورنجزيب" أن يحول حفنة من جبناء الهندوسيين إلى الإسلام لكنه حطم أسرته وبلاده معاً، ولئن عده بعض المسلمين على أنه من القديسين، فقد عده ملايين الشعب الهندي الذين أخرست ألسنتهم وأرعبت قلوبهم، شيطاناً رجيماً، وفروا من جباة ضرائبه وتضرعوا إلى الله داعين له بالموت؛ نعم بلغت الإمبراطورية المغولية في الهند أثناء حكمه أوج رفعتها، إذ امتدت رقعتها إلى بطاح الدكن، لكنها كانت قوة لا تقيم أساسها على حب الشعب، وكان لا بد لها أن تنهار عند أول لمسة معادية قوية، حتى لقد بدأ الإمبراطور نفسه في أواخر سنيه يتبين أنه قد جلب الدمار إلى تراث آبائه بورعه الضيق الأفق، وأن ما كتبه في فراش موته من خطابات، ليعد وثائق تساق لمأساتها، يقول فيها:
"لست أدري من أنا، ولا إلى أين يكون مصيري ولا أعلم ماذا عساه أن يصيب هذا الآثم المليء بالذنوب...لقد انقضت أعوامي بغير غناء؛ كان الله ماثلاً في قلبي، لكن عيني المظلمتين لم يشهدا نوره... ليس لي في المستقبل رجاء؛ لقد ذهبت عني الحمى، لكن لم يعد لي من الجسد إلا إهابه، لقد كنت كبير الإثم ولست أدري أي عذاب أنا ملاقيه...وعليك سلام الله"(120).
وأمر قبل موته أن تكون جنازته بسيطة إلى حد الزهد، وألا ينفق في كفنه إلا الروبيات الأربع التي كسبها بحياكة الطواقي؛ وأن يغطى نعشه بقطعة




صفحة رقم : 803




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> من الإسكندر إلى أورانجزيب -> تدهور المغول


من "الخيش" الساذج؛ وترك للفقراء ثلاثمائة روبية كسبها بنسخه صورة من القرآن(121)، ومات وعمره تسعة وثمانون عاماً،بعد أن عمر على الأرض أمداً أكثر جداً مما أراد له أهل الأرض أن يعيش.
ولم تمض بعد موته سبعة عشر عاماً حتى تحطمت إمبراطوريته إرباً إرباً؛ وكان ما كسبه "أكبر" بحكمته من مناصرة الناس للحكومة، قد أضاعه "جهان كير" بقسوته، و "جهان" بإسرافه، و "أورنجزيب" بتعصبه؛ وكانت الأقلية المسلمة قد انهدمت قواها بحرارة الهند، وفقدت النخوة العسكرية والقوة الجسدية التي كانت لها أيام شبابها، ولم تأت إليها حملات جديدة من الشمال تشد أزر قواها المنهارة؛ ثم حدث في الوقت نفسه أن بعثت جزيرة صغيرة نائية في الغرب بطائفة من تجارها لتحصد في الهند من كنوز، ولم تلبث بعدئذ أن أرسلت مدافعها لتستولي على هذه الإمبراطورية الفسيحة الأرجاء، التي تعاون فيها الهندوس والمسلمون على بنيان حضارة من حضارات التاريخ الكبرى.




صفحة رقم : 804




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة



الباب السابع عشر




حياة الشعب




الفصل الأول




منتجو الثروة




البداية في الغابة - الزراعة - التعدين - الصناعات




اليدوية - التجارة - المال - الضرائب - المجاعات - الفقر والغنى


لم تتلق تربة الهند بذور المدنية عن رضى، فقد كان شطر عظيم منها تغطيه الغابات تسكنها وتذود عنها سباع ونمور وفيلة وثعابين وغيرها من الكائنات الفردية غير الاجتماعية التي تزدري المدنية على مذهب روسو؛ فقام صراع حيوي لانتزاع الأرض من هذه الأعداء، ودام الصراع متخفياً وراء ستار الحركات الاقتصادية والسياسية جميعاً؛ فقد كان "أكبر" يصيد النمور بالقرب من "مأثورة" ويمسك بالفيلة المتوحشة في أماكن كثيرة تخلو منها اليوم خلواً تاماً؛ وقد كنت تصادف الأُسْد إبان العصور الفيدية أينما سرت في الشمال الغربي من الهند أو في أجزائها الوسطى، أما اليوم فلا يكاد يوجد في شبه الجزيرة كلها؛ لكن الثعبان وصنوف الحشرات لا تزال هناك ماضية في حربها؛ ففي سنة 1926م فتكت الحيوانات المفترسة من الهنود بما يقرب من ألفين (من بين هؤلاء 875 قتلتهم النمور الضارية في أرجاء البلاد)، أما سم الأفاعي فقد أودى بعشرين ألفاً من الهنود ذلك العام(1).




صفحة رقم : 805




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


ولما خلصت الأرض على مر الزمن من الكواسر، تحولت إلى حقول يزرع فيها الأرز والقطاني والذرة والخضر والفواكه؛ فلقد رضيت الكثرة الغالبة من السكان خلال الشطر الأعظم من تاريخ الهند بعيش متواضع قوامه هذه الأغذية الطبيعية، وكانوا يجففون اللحم والسمك والطيور لطائفتي المنبوذين والأغنياء ، ولكي يجعلوا طعامهم أشهى- أو ربما أرادوا معونة أفروديت(4)- زرعوا وأكلوا مقداراً غير مألوف في سائر البلاد من التوابل، مثل البهار الهندي والزنجبيل والقرنفل والقرفة؛ ولقد صادفت هذه التوابل تقديراً عظيماً عند الأوربيين حتى لقد انطلقوا في البحار سعياً وراءها فوقعوا على نصف الكرة الأرضية الذي كان مجهولاً؛ مع أننا جميعاً نظن أن أمريكا قد كشفت لتكون للحب مسرحاً؛ كانت الأرض في العصور الفيدية ملكاً للشعب في الهند(5) ومنذ أيام "تشاندرا جوبتا موريا" أصبح العرف بين المُلاَّك أن يطالبوا لأنفسهم بملكية الأرض كلها، ثم يؤجرونها للزراع مقابل أجر وضريبة يدفعان كل عام(6)وكان الري في العادة من واجبات الحكومة، ولقد ظل أحد السدود التي شيدها "تشاندرا جوبتا" حتى سنة 150م ، ولا نزال نشاهد آثار القنوات القديمة في شتى أرجاء الهند، كما نشاهد آثار البحيرة التي احتفرها احتفاراً "راج سنج"- راجبوت رانا في موار- لتكون خزاناً لمياه الري (1661م) وأحاطها بحائط من المرمر طوله اثنا عشر ميلاً(7).
والظاهر أن قد كان الهنود أول شعب استنجم الذهب(Cool فيحدثنا هيرودوت(9)والمجسطي(10) عن "النمل الكبير الذي يحفر الأرض طلباً للذهب، وهو أصغر قليلاً في حجمه من الكلاب، لكنه أكبر من الثعالب" وقد عاون هذا النمل عمال المناجم في إخراجهم للذهب، وذلك حين يخدش




صفحة رقم : 806




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


الرمل فيظهر الذهب الدفين ولقد كانت الهند مصدراً لكثير من الذهب الذي استخدم في امبراطورية فارس في القرن الخامس قبل الميلاد؛ كذلك استنجمت هناك الفضة والنحاس والرصاص والقصدير والزنك والحديد- وكان استنجام الحديد في وقت باكر من التاريخ إذ كان في سنة 1500 ق.م(11)؛ وارتقت صناعة طرق الحديد وصبه في الهند قبل ظهورها المعروف لنا في أوربا بزمن طويل، فمثلاً أقام "فكرامادتيا" (حوالي سنة 380م) في دلهي عموداً من حديد لا يزال محتفظاً ببريقه حتى اليوم، بعد أن انقضى عليه خمسة عشر قرناً؛ ولا يزال سر احتفاظه ببريقه من عوامل الصدأ والتآكل، الذي يرجع إلى نوع المعدن ذاته أو إلى طريقة طرقه وصبه، لا يزال سر ذلك لغزاً يحير علم المعادن الحديث(12)؛ وقد كان صهر الحديد في أفران صغيرة توقد بالفحم من كبرى صناعات الهند قبل الغزو الأوربي لتلك البلاد(13) لكن هذه الصناعة الهندية لم تصمد لمقاومة مثيلتها في أوربا، لأن الثورة الصناعية في أوربا علمتها كيف تؤدي هذه الصناعة بنفقات قليلة وعلى نطاق واسع؛ ولم يعد الناس من جديد إلى استغلال الموارد المعدنية الغنية في الهند واستكشافها إلا في يومنا هذا(14).
وظهرت زراعة القطن في الهند في عصر سابق لظهوره في أي بلد آخر، والأرجح أنه كان ينسج قماشاً في "موهنجو دارو"(15) يقول هيرودوت في نص هو أقدم ما بين أيدينا من مراجع عن القطن، يقول في جهل ممتع: "وهناك أشجار حوشية تثمر الصوف بدل الفاكهة، وصوفها يفوق صوف الأغنام جودة وجمالاً؛ ويصنع الهنود ثيابهم من هذه الأشجار"(16) ؛فلما شن الرومان حروبهم في الشرق الأدنى، عرفوا هذا "الصوف" الذي تثمره الأشجار(17)؛ وروى لنا الرحالة العرب الذين زاروا الهند في القرن التاسع بأنه "في هذه البلاد يصنع الناس أثواباً يبلغون بها درجة من الكمال لا تصادف




صفحة رقم : 807




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


لها مثيلاً في أي مكان آخر- فهي من الحياكة و
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:07 pm


صفحة رقم : 808




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


وازدهرت التجارة الداخلية، حتى لقد كانت جوانب الطرقات- وما تزال- أسواقا للبيع والشراء؛ وأما تجارة الهند الخارجية فهي من القدم مثل تاريخها(22) فهناك آثار وجدناها في سومر وفي مصر تدل على تبادل تجاري بين هذين القطرين والهند، وفي عهد ليس أحدث تاريخاً من سنة 3000 ق.م(23)؛ وازدهرت التجارة بين بابل والهند عن طريق الخليج الفارسي بين عامي 700 و 480 ق.م؛ ومن يدري فلعل "العاج والقردة والطواويس" التي جاء بها سليمان، إنما جاءت من المورد نفسه وعن نفس الطريق؛ وأخذت سفن الهند تشق البحار إلى بورما والصين في عهد "تشاندرا جوبتا" ؛ وازدحمت أسواق الهند "الدرافيدية" بالتجار اليونان الذين أطلق عليهم الهنود اسم "يافنا" (الآيونيين)، وكان ذلك في القرون التي سبقت والتي لحقت مولد المسيح(24)؛ وكذلك اعتمدت روما في أيام ترفها المادي، على الهند في استيراد التوابل والعطور والدهون، ودفعت أثماناً عالية فيما ابتاعته من الهند من حرير ووشي وموصلي وأثواب الذهب، حتى لقد اتهم "بلني" روما بالإسراف لأنها كانت تنفق كل عام خمسة ملايين دولار على ما تستورده من الهند من أسباب الترف؛ وكانت روما تستعين كذلك بالفهود والنمور والفيلة التي تأتي بها من الهند، على إقامة ألعابها في المصارعة، وتأدية طقوس القرابين عند الكولوسيوم(25)؛ وما حاربت روما الحروب البارئية إلا ليظل لها طريق التجارة إلى الهند مفتوحاً؛ ثم حدث في القرن السابع أن استولى العرب على فارس ومصر، ومنذ ذلك الحين، أخذت التجارة بين أوربا وآسيا تمر خلال أيدي المسلمين، ومن ثم قامت الحروب الصليبية، وظهر كولمبس؛ وانتعشت التجارة الخارجية من جديد في ظل المغول؛ ولهذا ازدهرت بالغنى مدينة البندقية ومدينة جنوا وغيرهما من المدن الإيطالية، بسبب قيامها بما تقوم به الموانئ للتجارة الأوربية مع الهند والشرق؛ وإن النهضة الأوربية لتدين للثروة التي جاءت بها هذه التجارة، أكثر مما تدين للمخطوطات التي جاء بها اليونان إلى إيطاليا؛ وكان




صفحة رقم : 809




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


"لأكبر" إدارة بحرية تشرف على بناء السفن وتنظم حركة الملاحة في المحيطات، فاشتهرت موانئ البنغال والسند ببناء السفن، وبلغت تلك الموانئ بهذه الصناعة حداً من الاتقان حدا بسلطان القسطنطينية أن يصنع سفنه هناك بدل صناعتها في الإسكندرية، لقلة النفقات هناك؛ بل إن "شركة الهند الشرقية" ذاتها بنت كثيراً من سفنها في موانئ البنغال(26).
واستغرق تطور النقد الضروري لتيسير هذه التجارة عدة قرون؛ ففي أيام بوذا كانت قطع النقد مستطيلة الشكل غليظة الصنعة، وكانت تصدرها سلطات اقتصادية وسياسية مختلفة، ولم تصل الهند إلى مرحلة النقد الذي تضمن الحكومة قيمته إلا في القرن الرابع قبل الميلاد، بتأثير فارس واليونان(27)؛ فأصدر "شرشاه" قطعاً نقدية جميلة الشكل من النحاس والفضة والذهب، وجعل الروبية العملة الأساسية في أرجاء المملكة(28).
وفي عهد "أكبر" و "جهان كير" كانت قطع النقود في الهند أرقى من مثيلاتها في أية دولة أوربية حديثة من حيث تصميم شكلها من الوجهة الفنية، وصفاء معدنها(29)، وكما كانت الحال في أوربا في العصور الوسطى، كذلك كانت في الهند في تلك العصور، مع أن نمو الصناعة والتجارة قد عاقته هنا وهناك كراهة دينية للربا.
يقول المجسطي: "إن الهنود لا يقرضون مالهم بالربا ولاهم يعرفون كيف يقترضون؛ وإنه لمما يجافي الأوضاع المقررة عند الهندي أن يقترف الخطأ في حق غيره أو أن يحتمل الإيذاء من غيره، ولهذا تراهم لا يبرمون عقوداً ولا يطلبون الضمانات"(30).
فإذا ما عجز الهندي عن استغلال ما ادخره في مشروعاته التي يقوم بها بنفسه آثر أن يخفيه أو أن يشتري به جواهر لكونها ثروة يسهل إخفاؤها(31)، ولعل عجزهم هذا عن اصطناع نظام ييسر القروض كان مما عاون "الثورة الصناعية" أن تمهد سبيل السيطرة الأوربية على آسيا؛ ومع ذلك فعلى الرغم




صفحة رقم : 810




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


من كراهة البراهمة للاقتراض، أخذت عمليات الاقتراض تزداد شيئاً فشيئاً، وكانت نسبة الربح تختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها المقترض، من اثني عشرة إلى ستين في المائة، وكان المتوسط في جملته عشرين في المائة(32)، ولم يكن الإفلاس يتخذ وسيلة لتصفية الديون، وإذا مات مدين عن دين، كان على أبنائه وأبناء أبنائه إلى الجيل السادس أن ينوبوا في الوفاء بذلك الدين(33).
وفرضت ضرائب باهظة على الزراعة والتجارة تدعيماً لأركان الحكومة، وكان على الفلاح أن يتنازل من محصوله عن مقدار يتراوح بين سدسه ونصفه، وكذلك فرضت ضرائب كثيرة على تبادل السلع وإنتاجها كما كانت الحال في أوربا في عصورها الوسطى، وفي أوربا في عصرنا القائم(34)؛ جاء "أكبر" فرفع ضريبة الأراضي إلى ثلث المحصول، لكنه لقاء ذلك ألغى كل صنوف الضرائب الأخرى(35)؛ ولئن كانت هذه الضريبة على الأرض باهظة، إلا أن من حسناتها أنها كانت ترتفع مع ازدهار المحصول وتهبط مع الأزمات؛ وإذا ما أصيبت البلاد بمجاعة، فقد كان الفقراء- على الأقل- يموتون دون أن تفرض عليهم الضرائب؛ ولم تخل البلاد من سني المجاعة حتى في أيام "أكبر" ذات الرخاء (1595- 1608)، والظاهر أن مجاعة سنة 1556م أدت بالناس إلى أكل اللحوم البشرية وإلى الخراب الشامل؛ إذ كانت الطرق رديئة والمواصلات بطيئة الحركة، فلم يكن يسيراً على فائض منطقة من المناطق أن يطعم أخرى مما أصيب بالقحط.
وكما هي الحال في كل أرجاء العالم، كان في الهند إذ ذاك تفاوت واسع بين الفقر والغنى، ولكنه لم يبلغ اليوم في الهند أو أمريكا؛ ففي أسفل السُّلَّم كانت هناك أقلية صغيرة من العبيد، ويتلوهم صعوداً فئة "الشودرا" الذين لم يكونوا عبيداً بقدر ما كانوا مأجورين على عملهم، ولو أن منزلتهم الاجتماعية كإجراء كانت تُوَرَّث، كما هو الحال في سائر المنازل الاجتماعية




صفحة رقم : 811




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


بين الهنود؛ وكان الفقر الذي وصفه "الأب دِبْوَا" (1820م)(36) نتيجة الخمسين عاماً من الفوضى السياسية، ولو أن حالة الشعب في ظل المغول كانت مزدهرة نسبياً (37)، فلئن كانت الأجور متواضعة تتراوح بين ما يساوي ثلاث سنتات (السنت عملة أمريكية تساوي مليمين) وتسعاً كل يوم في عهد "أكبر" إلا أن الأثمان كانت بخسة بما يقابل تلك الأجور القليلة؛ ففي سنة 1600م كانت الروبية (وهي تساوي في المتوسط 5ر32 سنت) تشتري 194 رطلاً من القمح أو 287 رطلاً من الشعير؛ وأما في سنة 1901م فلم تكن الروبية تشتري إلا 29 رطلاً من القمح أو 44 رطلاً من الشعير(38)؛ ولقد وصف الحالة إنجليزي سكن الهند في سنة 1616م فوصف "وفرة المواد كلها "بأنها" وفرة عظيمة جداً في طول البلاد وعرضها".
ثم أضاف إلى ذلك قوله: "إن كان إنسان هناك في مستطاعه أن يجد زاده من الخبز في وفرة لا تعرف قحطاً"(39). وقال إنجليزي آخر طاف بالهند في القرن السابع عشر: "إن نفقاته كانت تبلغ في المتوسط أربع سنتات كل يوم"(40).
بلغت ثروة البلاد ذروتها في عهد "تشاندرا جوبتا موريا" و "شاه جهان" فقد ضربت الأمثال في أرجاء العالم كله بثروة الهند في ظل ملوك "جوبتا" ؛ وصور "يوان شوانج" مدينة هندية بقوله إنها جميلة تزينها الحدائق وأحواض الماء، ومعاهد الآداب والفنون، "وسكانها من ذوي اليسار وبينهم أسر على ثراء عظيم؛ وتكثر بالمدينة الفاكهة والأزهار... وللناس مظهر رقيق يلبسون أردية الحرير اللامعة؛ وحديثهم...واضح يوحي بالمعاني، وهم منقسمون نصفين متعادلين، نصف يتبع الأرثوذكسية في الدين، ونصف آخر يمقت هذه الرجعية الدينية"(41)، ويقول "إلْفِنْستون" : "إن الممالك الهندية التي ثل المسلمون عروشها كانت من الثراء بحيث كَلَّ المؤرخون عن ذكر ما غنمه الغزاة هناك من جواهر هائلة المقدار ونقود كثيرة"(42)، ووصف "نِكُولو كونتي" ضفاف الكنج (حوالي سنة 1420م) فقال إنها تمتلئ بصف من




صفحة رقم : 812




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> منتجو الثروة


المدن الزاهرة واحدة في إثر أخرى، وكلها حسن التخطيط غني بالحدائق والبساتين والفضة والذهب والتجارة والصناعة(43)؛ وكانت خزينة "شاه جهان" مفعمة بما فيها حتى لقد احتفر تحت الأرض غرفتين قويتين، سعة كل منهما 000ر150 قدماً مكعبة، وتكاد تمتلئ بالفضة والذهب(44) ويقول "فنسنت سمث" : "إن الشواهد المعاصرة لذلك الزمن لتقطع باليقين الذي لا يعرف الشك أن سكان الحضر الذين كانوا يسكنون أهم المدن، كانوا من ذوي اليسار"(45)، ووصف الرحالة مدينتي "أجرا" و"فتحبور سكرى" بأن كلاً منهما أعظم من لندن وأعرض منها ثراء(46)؛ ولقد ألفى "أنكتيل دوبرون" نفسه حين طاف بأقاليم "الماهاراتا" سنة 1760م "وسط العصر الذهبي ببساطته وسعادته.. فقد كان الناس باسمين أقوياء وفي صحة جيدة"(47)، وزار "كلايف" مرشد أباد سنة 1759م فقال إن تلك العاصمة القديمة للبنغال تساوي لندن التي عرفها في عصره مساحة وعدد سكان وثراء، وفيها من القصور ما لا تقاس إليه قصور أوربا، ومن الأغنياء رجال لا يدنو منهم غنيٌّ في لندن(48)، ويقول "كلايف": "كانت الهند قطراً لا ينفد ثراؤه"(49)، ولقد حاكمه مجلس النواب على الإسراف في الأموال التي اغتصبها لنفسه، فدافع كلايف عن نفسه في براعة، إذ جعل يصف الغنى الذي وجد نفسه محاطاً به في الهند- فمدنٌ غنية تعرض عليه أي مبلغ أراد ليجنيها من فوضى النهب، وأغنياء يفتحون له أسراباً تكدس فيها الذهب والجواهر أكداساً أكداساً ليأخذ منها ما أراد، ثم ختم دفاعه قائلاً: "إنني في هذه اللحظة أقف هاهنا دهشاً كيف قنعت بالقليل الذي أخذت"(50)




صفحة رقم : 813




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع



الفصل الثاني




تنظيم المجتمع




الملكية - القانون - تشريع مانو - تطور نظام الطبقات - نشأة




البراهمة - امتيازاتهم ونفوذهم - واجباتهم - دفاع عن نظام الطبقات


لما كانت الطرق رديئة والمواصلات عسيرة، كان غزو الهند أيسر من حكمها؛ فلقد حتمت طبيعة سطحها أن تظل هذه البلاد الشبيهة بأن تكون قارة بأسرها، خليطاً من دويلات مستقل بعضها عن بعض، حتى جاءتها السكك الحديدية فوصلت ما تفرق من أجزائها؛ وفي مثل هذه الظروف لا يمكن لحكومة أن تضمن لنفسها البقاء إلا بجيش قوي؛ ولما كان الجيش بحاجة إلى قائد مستبد الرأي ليحكمه بكلمة منه دون التأثر بفصاحة الكلام يقوله غيره في شئون السياسة، فإن صورة الحكومة التي تكونت في الهند هي الملكية بطبيعة الحال؛ ولقد تمتع الناس بقدر كبير من الحرية في ظل الأسرات الحاكمة الوطنية، وذلك من جهة يرجع إلى الاستقلال الذاتي الذي كانت تتمتع به القرى في الريف ونقابات العمال في المدن، كما يرجع من جهة أخرى إلى القيود التي فرضتها الطبقة الأرستقراطية البرهمية على سلطة الملك(51)؛ وإنك لتجد في قوانين "مانو" تعبيراً عن الأفكار الرئيسية في الهند عن الملكية، على الرغم من أن تلك القوانين أقرب إلى التشريع الخلقي منها إلى التشريع القانوني لأوضاع الحياة الجارية؛ فعندهم إن الملكية ينبغي أن تكون قوية الشكيمة في حياد، وأن ترعى مصالح الناس رعاية الوالد لولده(52)؛ غير أن الحكام المسلمين كانوا أقل مبالاة من أسلافهم الهنود بهذه المثل العليا وهذه القيود؛ لأنهم كانوا أقلية فاتحة، فأقامت حكمها صراحة على تفوقها العسكري؛ فيقول مؤرخ مسلم في وضوح جميل: "إن




صفحة رقم : 814




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


الجيش هو عدة الحكومة وعتادها"(53)، وقد كان أكبر شذوذاً في هؤلاء الحكام المسلمين، لأنه اعتمد قبل كل شئ على رضى الشعب لازدهاره تحت حكومته المستبدة في اعتدال ورحمة؛ ولعل حكومته في ظروفها كانت خير حكومة يمكن قيامها، وأهم عيوبها - كما أسلفنا - هو اعتمادها على شخصية الملك، لأن السلطة العليا المتركزة في يد الحاكم كانت خيراً في عهد "أكبر" لكنها كانت شراً مستطيراً في عهد "أورنجزيب"؛ ولما كان الحكام الأفغان والمغول قد ارتفعوا إلى سلطانهم بالعنف، فقد كانوا دائماً عرضة إلى الهبوط عن سلطانهم بالاغتيال، وكادت الحروب التي تشن ليحل ملك مكان آخر، تكلف من النفقات ما تكلفه الانتخابات في عصرنا الحديث، ولو أن تلك الحروب لم تكن عقبة في سبيل اضطراد الحياة الاقتصادية كما هي الحال مع انتخاباتنا اليوم .
لم يكن القانون في ظل الحكام المسلمين إلا إرادة الإمبراطور أو السلطان؛ وأما في ظل الملوك الهنود فقد كان مزيجاً مضطرباً من الأوامر الملكية ومن تقاليد القرى وقواعد الطبقات وكان الذي يتولى القضاء رئيس




صفحة رقم : 815




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


الأسرة، أو رئيس القرية، أو شيوخ الطبقة، أو محكمة النقابة، أو مدير الإقليم أو زير الملك أو الملك نفسه(55) على أن المحاكمة كانت سريعة الإجراء سريعة الحكم، ولم تعرف البلاد نظام المحاماة في القضايا على أيدي رجال القانون إلا بعد قدوم البريطانيين(56) وكان التعذيب مألوفاً في عهود الأسرات الحاكمة كلها حتى ألغاه "فيروزشاه"(57) والموت هو العقوبة في عدد كبير جداً من الجرائم، فقد كانوا يعاقبون به سرقة المنازل وإتلاف أملاك الملك خاصة، أو السرقة على النطاق الذي نراه اليوم يجعل من السارق عموداً من عمدان المجتمع؛ وكانت سائر ألوان العقاب قاسية تشمل بين أنواعها بتر الأيدي والأقدام والأنوف والآذان وفقء الأعين وصب الرصاص المصهور في الحلوق وتهشيم عظام الأيدي والأقدام بمطرقة خشبية وإحراق الجسم بالنار وإنفاذ المسامير في الكفوف والأقدام والصدور، وقطع أعصاب المفاصل ونشر الناس بمناشير الخشب ثم قطع جسومهم أجزاء وإنفاذ القضبان المسنونة فيهم وشويهم على النار أحياء وقذفهم تحت أقدام الفيلة لتدقهم دقاً حتى يموتوا أو رميهم فريسة للكلاب المتوحشة الجائعة .
ولم يكن هناك تشريع قانوني واحد يشتمل الهند بأسرها، فكان يحل محل القانون في شئون الحياة اليومية ما يسمونه "ذارماشاسترا" أي النصوص العرفية التي تفصل ما للطبقات من نظم وواجبات، والذي كتب هذه النصوص رجال من البراهمة،كتبوها من وجهة نظر برهمية خالصة؛ وأقدم هذه النصوص ما يسمى "بتشريع مانو" ؛ ومانو هذا هو السلف الأسطوري الذي تسلسلت عنه جماعة المانوية (أو مدرستها الفكرية) المؤلفة من براهمة بالقرب من دلهي؛ وقد صورته هذه النصوص ابناً لله يتلقى القوانين من براهما نفسه(59) وهذا التشريع مؤلف من 2685 بيتاً من الشعر، كانوا يرجعونه إلى سنة 1200 ق.م، لكن الباحثين اليوم يردونه إلى القرون الأولى بعد ميلاد المسيح(60)




صفحة رقم : 816




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


ولقد أريد بهذا التشريع بادئ الأمر أن يكون بمثابة الدليل أو الكتاب الصغير الذي يرشد براهمة المانوية هؤلاء إلى أوضاع السلوك الصحيح، لكنه أخذ على التدريج يتطور فيصبح تشريعاً يحدد قواعد السلوك للمجتمع الهندي كله، وعلى الرغم من أن ملوك المسلمين لم يعترفوا به قط، إلا أنه اكتسب كل ما للقانون من قوة داخل حدود نظام الطبقات، وستتبين خصائص هذا التشريع إلى حد ما خلال الصفحات الآتية بما أوردناه فيها من تحليل للمجتمع الهندي وأخلاقه، لكنه على وجه العموم كان يتسم بمظهر خرافي من حيث قبوله لمبدأ المحاكمة بالمحنة وتطبيقه تطبيقاً متزمتاً لقانون العين بالعين والسن بالسن، وإشادته مرة بعد مرة بطبقة البراهمة في فضائلها وحقوقها ونفوذها(62)، وكان من تأثير هذا الكتاب أن زاد زيادة عظيمة من سيطرة نظام الطبقات على المجتمع الهندي.
كان هذا النظام الطبقي قد ازداد تزمتاً وتعقيداً منذ العصر الفيدي، لأن طبيعة النظم الاجتماعية من شأنها أن تزيد تلك النظم صلابة على مر الزمن، ولأن اجتياح الهند- من جهة أخرى- بالشعوب الأجنبية والعقائد الخارجية قد زاد من صلابة نظام الطبقات ليقوم سداً قوياً يحول دون امتزاج دم المسلمين بدم الهنود، فقد كان أساس الطبقات في العصر الفيدي هو اللون، ثم أصبح الأساس في العصور الوسطى الهندية هو المولد، وكان معنى التقسيم الطبقي شيئين،




صفحة رقم : 817




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


معناه من جهة وراثة الوضع الاجتماعي، ومعناه من جهة أخرى قبول كتاب "ذارما"- أي قبول ما تفرضه التقاليد على أفراد كل طبقة من التزامات وصنوف أعمال.
وعلى رأس الطبقات وأكبر المستفيدين من نظامها، وهم الثمانية ملايين من ذكور طبقة البراهمة(63)؛ وكانت طبقة البراهمة هذه قد أصابها الضعف حيناً من الزمن بسبب نهضة البوذية في عهد "أشوكا" لكن البراهمة بما كان لهم من دأب وصبر يتصف بهما الكهنة على اختلاف أوطانهم، مالوا للحوادث، ثم استعادوا نفوذهم وسيادتهم في ظل ملوك "جوبتا" ؛ وما نزال نرى وثائق منذ القرن الثاني بعد الميلاد بمنح عظيمة - خصوصاً إقطاعيات من الأرض - توهب لطبقة البراهمة وكانت هذه المنح - شأنها شأن أملاك البراهمة كلها - معفاة من الضرائب حتى جاء البريطانيون(66) فتشريع مانو يحذر الملك من فرض ضريبة على برهمي، حتى إن نضبت كل موارد المال الأخرى، لأن البرهمي إذا ما أثار غضبه يستطيع أن يسحق الملك وجيشه جميعاً بتلاوة لعنات ونصوص سحرية(67)؛ ولم يكن من عادة الهنود أن يوصوا بشيء قبل موتهم فيما يختص بميراثهم، لأن من تقاليدهم أن أملاك الأسرة لا بد أن تظل ملكاً مشاعاً للأسرة كلها، وهي تنتقل انتقالاً آلياً من موتى الذكور في الأسرة إلى أحيائهم لكن الأوربيين بما يسودهم من نزعة نحو الفردية، لم يكادوا يدخلون في الهند نظام الوصايا، حتى رحب به البراهمة ترحيباً عظيماً، ليتخذوا منه حيناً بعد حين وسيلة للاستيلاء على الأراضي لأغراض كهنوتية(70) وكان أهم عنصر في تقديم القرابين للآلهة هو الرسوم التي تدفع للكاهن المشرف على إقامة الطقوس الخاصة بذلك، ورأس التقوى كلها هو السخاء في دفع تلك الرسوم(71) وكذلك كان من موارد الكهنة الخصبة الإتيان بالمعجزات




صفحة رقم : 818




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


وغير ذلك من ألوف الخرافات، فلقاء رسم معين يستطيع البراهمي أن يجعل من العاقر ولوداً، ونظير أجر معلوم ينبئ البرهمي بما خط في لوح القدر؛ وكان البراهمة يستخدمون رجالاً يطلبون إليهم أن يتظاهروا بالجنون وأن يعترفوا بأن هذا المس الذي أصابهم إنما جاءهم جزاء وفاقاً لما قتروا في العطاء للكهنة؛ وكان الرجل من البراهمة يقصد في كل حالات المرض أو المحاكمات أو حالات التشاؤم ببعض النذر السيئة أو الأحلام المزعجة أو البدء في مشروع جديد، كان الرجل من البراهمة يقصد في كل تلك الحالات طلباً لمشورته، وللمشير أجر مشورته(72).
وكان البراهمة يستمدون نفوذهم من احتكارهم للعلم، فهم القائمون على صيانة التقاليد وهم الذين يدخلون على تلك التقاليد ما شاءوا من تعديل؛ وهم الذين يتولون تربية النشء، ويكتبون الأدب أو يقومون على نشر المكتوب منه، وهم الخبراء بكتب الفيدا التي هبط بها الوحي ولا يأتيها الباطل؛ ولو أنصت رجل من طبقة "الشودرا" إلى تلاوة الكتب المقدسة، امتلأت أذناه بالرصاص المصهور (هكذا تقول كتب القانون البرهمية)، وإن تلاها هو انشق لسانه، ولو حفظ شيئاً منها قطع جسده نصفين(73)، هذه النذر وأمثالها - التي لم توقع فعلاً إلا في حالات نادرة - هي التي كان يلجاً إليها الكهنة ليصونوا لأنفسهم العلم فلا يشاركهم فيه معتد؛ وهكذا أصبحت البرهمية مذهباً خاصاً بفئة معينة تحيط نفسها بسياج، لا تأذن لأحد من غير أفرادها أن يسهم في العلم به(74) وينص تشريع مانو على أن يكون من حق البرهمي سيادته على سائر الكائنات(75) على أن الفرد منهم لم يكن ليتمتع بكل ما للبراهمة من نفوذ وامتيازات حتى ينفق في مرحلة الاستعداد أعواماً كثيرة، وبعدئذ "يولد ولادة جديدة" وتجري له طقوس الخيط الثلاثي(76)، فإذا ما تم له ذلك، أصبح منذ هذه اللحظة كائناً مقدساً، وأصبح شخصه وملكه مما لا يجوز عليه الاعتداء؛ بل يذهب "مانو" في ذلك بعيداً فيقرر أن "كل




صفحة رقم : 819




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


ما هو كائن في الوجود ملك للبراهمة"(77)؛ وكان لا بد لصيانة الطبقة البراهمية من منح عامة وخاصة - وهي لا توهب لهم على سبيل الإحسان، بل من باب الواجب المقدس(78) وكان السخاء في العطاء للبرهمي من أسمى الواجبات الدينية؛ ويستطيع البرهمي الذي لا يجد ترحيباً كريماً في أحد المنازل أن يُذهِبَ عن صاحب البيت كل ما كان استحقه من جزاء عن حسناته السابقة جميعاً ولو اقترف البرهمي كل جريمة ممكنة، لما حَقَّ عليه القتل، فللملك أن ينفيه، لكن لا بد له أن يأذن بالاحتفاظ بملكه(82) ومن حاول أن يضرب برهمياً، كان لزاماً عليه أن يصلى عذاب النار مائة عام، وأما من ضرب برهمياً بالفعل، فقد حقت عليه الجحيم ألف عام(83) وإذا اعتدى رجل من الشودرا على عفاف زوجة رجل من البراهمة، صودرت أملاكه وحكم عليه بالخصي(84) وإذا قتل رجل من الشودرا زميلاً له من الشودرا، كان له أن يكفر عن جريمته بعشر بقرات يهبها للبراهمة، فإذا قتل أحداً من "الفيزيا" كانت كفارته للبراهمة مائة بقرة، وإذا قتل أحداً من "الكشاترية" ارتفعت كفارته إلى ألف بقرة يعطيها للبراهمة، أما إذا قتل برهمياً فلا بد من قتله، ذلك لأن جريمته القتل عندهم لم تكن إلا بقتل برهمي(85).
وكان على البرهمي في مقابل هذه الامتيازات أعمال والتزامات كثيرة وفادحة؛ فلم يكن يقوم بواجبات الكاهن العملية وكفى ، لكنه كان إلى جانب ذلك يعد نفسه للمهن الكتابية والتربوية والأدبية، وكان ينتظر منه




صفحة رقم : 820




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


أن يدرس القانون وأن يحفظ كتب الفيدا وكل واجب آخر من واجباته، إنما يأتي بعد ذلك في الأهمية(86)، ولو لم يستطع البرهمي سوى إن يتلو كتب الفيدا، فإنه بذلك وحده يصبح جديراً بطمأنينة النفس بغض النظر عما قام به غير ذلك من طقوس أو إنتاج(87)، أما إن حفظ عن ظهر قلب كتاب "رج فيدا" ، فإنه يستطيع بعد ذلك أن يحطم العالم تحطيماً دون أن يعد ذلك منه اقترافاً لجريمة(88)، وليس من حقه أن يتزوج خارج طبقته، فإن تزوج امرأة من طبقة الشودرا، عد أبناؤه من الطبقة الدنيا، طبقة "الباريا" ، وفي ذلك جاء في كتاب مانو : "إن الرجل الطيب العنصر بمولده إنما يفسد عنصره بصحبة الأَدْنين، أما من كان دنياً بمولده فيستحيل أن يسمو بصحبة الأعلين"(89)، كان على البرهمي أن يستحم كل يوم، وأن يعود فيستحم مرة أخرى إذا حلق له حلاق من الطبقة الدنيا؛ وعليه أن يطهر المكان الذي أعده لنومه بروث البقر، ولا بد له أن يراعي طقوساً صحية دقيقة في مباشرته لضرورات طبيعته(90)، ومحتوم عليه أن يمتنع عن أكل البصل والثوم ونبات الفطر ونبات الكرات؛ ولم يكن يجوز له أي ضرب من ضروب الشراب غير الماء، ويشترط أن يستخرجها وأن يحملها برهمي(91)، وتحرم عليه صنوف الدهون والعطور واللذة الحسية والجشع والغضب(92)، وإذا مس شيئاً نجساً، أو لمس أجنبياً (حتى إن كان ذلك الأجنبي هو الحاكم العام للهند) كان لا بد له من أن يطهر نفسه بالوضوء الذي تحدده الطقوس، ولو اقترف إثما، كان لزاماً عليه أن يتقبل عقاباً أعنف مما يقع على مرتكب الإثم نفسه من طبقة دنيا؛ فمثلاً لو سرق رجل من طبقة الشودرا شيئاً، حكم عليه أن يدفع غرامة




صفحة رقم : 821




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


قدرها ثمانية أمثال قيمة الشيء المسروق، وإذا سرق رجل من طبقة " الفيزيا " شيئاً دفع غرامة تساوي ستة عشر مثلاً، والرجل من "الكشاترية" يدفع اثنين وثلاثين مثلاً، وأما البرهمي فيدفع غرامة قدرها أربعة وستين مثلاً؛ وكان يستحيل على البرهمي أن يؤذي كائناً حياً(93).
وأخذت قوة الكهنة تزداد من جيل إلى جيل حتى أصبحوا أطول ما عرفه التاريخ من طبقات الأرستقراطية بقاء على وجه الدهر، وذلك لاعتدالهم في مراعاة هذه القواعد من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم وجدوا شعباً أثقلته فلاحة الأرض فأخضعته لتقلبات الجو التي بدت لهم كأنها تقلبات أهواء شخصية، فشغلهم ذلك كله عن النهوض بأنفسهم من الخرافة إلى نور العرفان؛ فيستحيل أن تجد هذه الظاهرة العجيبة في أي مكان آخر غير الهند - وهي ظاهرة نموذجية تمثل بطء التغير في الهند - وأعني بها أن تظل طبقة عليا محتفظة بامتيازاتها وعلو مكانتها على مر العصور بكل ما شهدته من غزوات وأسر حاكمة وحكومات مدى 2500عام؛ ولا ينافسهم طول البقاء إلا "الشاندالا" طريدة الطبقات؛ أما فئة "الكشاترية" القديمة التي كان لها السلطان على الميدان الفكري والسياسي في عهد بوذا، فقد توارت بعد عصر جوبتا؛ وعلى الرغم من أن البراهمة اعترفوا بمحاربي "راجبوت" واعتبروهم بمثابة تطور طرأ على الطبقة المحاربة القديمة، إلا أن الكشاترية - بعد سقوط راجبوتانا- لم يلبثوا أن زالت دولتهم، وأخيراً لم يبق إلا طائفتان كبيرتان، وهما طائفة البراهمة التي كانت طبقة الحكام في الهند من الناحية الاجتماعية والفكرية، ثم يأتي تحتهم ثلاث آلاف طبقة هي في حقيقة الأمر عبارة عن النقابات الصناعية .
ولو استثنيت نظام الزوجة الواحدة من حيث إساءة تطبيقه، لجاز لك أن تقول إن نظام الطبقات أكثر النظم الاجتماعية سوء تطبيق، ولولا ذلك لوجدت ما تقوله في الدفاع عن هذا النظام، فله حسنة التصفية الاجتماعية التي تصون ما نزعم أنه دم نقي من الشوائب ومن الانقراض اللذين ينتجان حتماً عن فك




صفحة رقم : 822




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> تنظيم المجتمع


قيود الامتزاج بالزواج؛ وكذلك لنظام الطبقات حسنة أخرى، وهي تدعيمه لطائفة من عادات الطعام والنظافة التي كان يتحتم على كل إنسان أن يراعيها وأن يسمو إليها صوناً لكرامته؛ وكذلك خلع ثوب النظام على ما بين الناس من تفاوت وفروق، لولاه لأصبحت فوضى بغير ضابط، ووفّر على الناس هذه الحمى التي تطغى عليهم في عصرنا الحديث، حمى الصعود في سلم المجتمع والزيادة من كسب المال؛ ونظم الحياة لكل إنسان بأن حدد له تشريعاً معيناً للسلوك في طبقته، كما أعطى أفراد الطبقة الواحدة وسائل تعينهم على الاتحاد في العمل ضد كل استغلال أو استبداد؛ ثم هيأ نظام الطبقات أيضاً مهرباً من الطغيان أو الدكتاتورية العسكرية اللذين لا محيص عن أحدهما بديلاً للأرستقراطية، وأتاح لبلد حرم الاستقرار السياسي بسبب ما قاساه من مئات الغزوات والثورات أتاح له نظاماً واستقراراً في شؤونه الاجتماعية والخلقية والثقافية، لم ينافسه فيهما بلد آخر إلا الصين؛ ولقد طرأ على الدولة مئات التغيرات الفوضوية، لكن البراهمة احتفظوا باستقرار المجتمع بفضل نظام الطبقات، وبهذا احتفظوا بالمدنية وزادوا منها ونقلوها إلى الخلَف، واحتملتهم الأمة صابرة، بل احتملتهم فخورة بهم، لأنه لم يغب عن إنسان واحد أنهم في النهاية هم القوة الحاكمة التي ليس للهند عنها محيص.




صفحة رقم : 823




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج



الفصل الثالث




الأخلاق والزواج




"ذارما" - الأطفال - زواج الأطفال - فن الحب - الزنا - الحب




الشعري - الزواج - الأسرة - المرأة - حياتها العقلية - حقوقها -




"البردة" - السوتي (أي موت الزوجة لموت زوجها) - الأرملة


إذا ما انقرض من الهند نظام الطبقات، تحتم أن يطرأ على الحياة الخلقية فيها طور طويل الأمد تسوده الفوضى، لأن التشريع الخلقي في هذه البلاد قد ارتبط بنظام الطبقات ارتباطاً يكاد لا يكون له انفصام، والأخلاق عندهم هي "ذارما"- أي أنها هي قواعد السلوك في الحياة لكل إنسان كما تحددها له طبقته؛ فلأن تكون هندوسي المذهب، فليس معنى ذلك اعتناقك لعقيدة بقدر ما هو اتخاذك مكاناً معيناً في نظام الطبقات، وقبولك "الذارما" أي الواجبات التي تترتب على مكانك ذاك، وفق ما تقضي به التقاليد والقوانين؛ ولكل مكان من ذلك النظام التزاماته وقيوده وحقوقه، ولا مندوحة للهندوسي الورع أن يسلك حياته ملتزماً تلك الالتزامات والقيود والحقوق، واجداً فيها قناعة الراضي بالطريق الذي مهد له لكي يسير فيه، ولا يطوف بباله قط أن يجاوز حدود طبقته إلى طبقة أخرى؛ جاء في كتاب "بهاجافادجيتا"(98): "خير لك أن تؤدي عملك المقسوم لك أداء سيئاً من أن تؤدي عملاً مقسوماً لغيرك أداء حسناً"؛ إن "ذارما" للفرد من الناس هي بمثابة النمو الطبيعي للبذرة- تحقيق مرسوم الطريق لطبيعة كامنة فيها وقضاء مكتوب عليها(99)، ولقد بلغ هذا التصور للأخلاق من الرسوخ في القدم مبلغاً جعل من المتعذر على الهندوس جميعاً ومن المستحيل على الكثرة الغالبة منهم أن ينظروا إلى أنفسهم نظرة لا تجعلهم أعضاء طبقة معينة، تهديهم وتقيدهم وقوانينها؛ وفي ذلك يقول


أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:08 pm

صفحة رقم : 824




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


مؤرخ إنجليزي : "يستحيل تصور المجتمع الهندي بغير نظام الطبقات"(100).
وإلى جانب "ذارما" الخاصة بكل طبقة على حدة؛ نرى الهندوسيين يعترفون "بذارما" عامة، أي التزامات تلتزم بها جميع الطبقات، وتتضمن قبل كل شئ احتراماً للبراهمة وتقديساً للبقر(101)؛ ويأتي بعد ذلك في الأهمية واجب النسل، ففي تشريع "مانو" ما يلي(102): "النسل وحده يكمل الرجل، فهو يكمل إذا ما أصبح ثلاثة- شخصه وزوجه وابنه"؛ فليس الأبناء حسنة اقتصادية لآبائهم فحسب، يعولونهم في شيخوختهم بغير أدنى تردد في هذا الواجب؛ بل هم إلى جانب ذلك سيمضون في عبادة الأسرة لأسلافها، ويقدمون لأرواح هؤلاء الأسلاف طعاماً آناً بعد آن، حتى لا تفنى أرواحهم إذا امتنع عنها الطعام(103)، وبناء على ذلك لم يعرف الهنود ضبط النسل، وعد الإجهاض جريمة تساوي في فداحتها جريمة قتل برهمي(104)، نعم كان يحدث أحيانا أن تقضي الأمهات على الأجنة(105)، لكن ذلك كان نادر الوقوع، لأن الوالد كان يسره أن ينسل الأبناء، ويفخر إذا كان له منهم عدد كبير؛ وإن حنان الشيوخ على الصغار بين الهنود لمن أجمل ظواهر المدنية الهندية(106).
ولم يكد الطفل عندهم يشهد النور حتى كان يأخذ أبواه في التفكير في زواجه، لأن الزواج- في النظام الهندي- إجباري للجميع، والرجل الأعزب طريد الطبقات، ليس له في المجتمع مكانه ولا اعتبار، وكذلك بالنسبة للفتاة إن طال بها الأمد عذراء بغير زواج، فذلك عار أي عار(107) على أن الزواج لم يكن يترك لأهواء الفرد يختار من يشاء، أو لدفعة الحب تدفع العاشق إلى زواج من يهوى، بل كان الزواج عندهم أمراً حيوياً تهتم له الجماعة كلها والجنس كله، فيستحيل أن يوكل أمره إلى العاطفة بما لها من قصر بعواقب الأمور، أو إلى المصادفة تجمع من شاءت بمن شاءت(108) فلا بد أن يتولى الوالدان أمر زواج الوليد قبل أن تستولي عليه حمى الرغبة




صفحة رقم : 825




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


الجنسية فتقذف به إلى زواج مصيره في نظر الهنود- إلى خيبة الرجاء واليأس المرير: ولقد أطلق "مانو" اسم "زواج الجانذارفا" على الزيجات التي تتم باتفاق الزوجين، ووصف أمثال هؤلاء وصفاً شائناً إذ وصفهم بأنهم وليدو الشهوة؛ نعم إن التشريع يبيح مثل هذا الزواج، لكن الزوجين عندئذ يوشكان ألا يجدا عند الناس شيئاً من الاحترام .
ولقد أدى النضوج المبكر بين الهنود، الذي يجعل البنت في سن الثانية عشرة مساوية لزميلتها في أمريكا في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، إلى خلق مشكلة عويصة في النظام الاجتماعي والخلقي فهل الأفضل أن يدبر الزواج بحيث يطابق سن النضوج الجنسي، أم الأفضل أن يرجأ- كما في أمريكا- حتى يبلغ الرجل نضوجه الاقتصادي؟ والظاهر أن الحل الأول للمشكلة يؤدي إلى ضعف البنية في أبناء الأمة(110) ويزيد من عدد السكان زيادة سريعة لا تتمشى مع مقتضيات الظروف، ويضحي بالمرأة تضحية تكاد تكون تامة في سبيل النسل؛ وأما الحل الثاني فيؤدي إلى مشكلة أخرى وهي التأخير الذي تأباه الطبيعة، وإلى كبح الرغبة الجنسية كبحاً يؤدي إلى حبوطها، كما يؤدي إلى الدعارة والأمراض السرية؛ ولقد آثر الهنود لأنفسهم زواج الأطفال على اعتبار أنه أهون الشرين، وحاولوا أن يخففوا من أخطاره بأن يجعلوا بين الزواج وبين إثماره فترة تبقى فيها العروس مع والديها حتى يتم نضجها (111)؛ هذا عندهم نظام اجتماعي قديم، ومن قدمه جاءت قداسته، وإنما نبتت جذوره بادئ ذي بدء في رغبة الناس في منع التزاوج بين الطبقات تزاوجاً قد تسببه مجرد الجاذبية الجنسية العابرة(112) ثم ازداد في نفوس الناس




صفحة رقم : 826




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


قوة فيما بعد، بسبب أن المسلمين الغزاة، الذين لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلاً حتى لو لم يكونوا غزاة فاتحين، كانت ديانتهم لا تحرم عليهم أن يسبوا النساء المتزوجات ليكن لهم إماء(113)؛ وأخيراً اتخذ النظام شكله الجامد الذي جعله تصميماً عند الأبوين على وقاية ابنتهما من استثارة الذكور لحساسيتها الجنسية.
والدليل على أن هذه الحساسية عند البنت كانت مرهفة إلى حد ما، وعلى أن الذكر قد يعهد إليه أداء وظيفته البيولوجية لأقل مثير يثير شهوته، ظاهر في أدب العشق عن الهنود؛ فكتاب "كاما سوترا" ومعناها "مذهب الشهوة" هو أشهر كتاب من بين مجموعة كبرى كلها تعبر عن اشتغال عقولهم إلى حد ملحوظ بفنون العلاقة الجنسية في صورتيها الجسدية والعقلية؛ ويؤكد لنا مؤلف الكتاب أنه كتبه "وفق المبادئ التي جاءت في الكتاب المقدس لفائدة العالم؛ وكاتبه هو فاتسيابانا، كتبه عندما كان يحيا حياة طالب ديني في بنارس، ولا يعينه شئ في الدنيا سوى التأمل في ذات الله"(114) ويقول هذا الناسك : "إن من يهمل فتاة، ظناً منه أنها أكثر حياء من أن تكون موضع صلة جنسية، تزدريه هذه الفتاة نفسها وتعده حيواناً يجهل طبيعة ما يدور في عقل المرأة"(115) ويصور لنا "فاتسيابانا" صورة جميلة لفتاة عاشقة(116) لكنه يتجه بمعظم حكمته إلى تصوير فن الأبوين في التخلص منها بالزواج، وفن الزواج في إشباع رغبات جسدها.
ولا يجوز لنا أن نفرض بأن الحساسية الجنسية عند الهنود وقد انتهت بهم إلى إباحية أكثر من الحد المألوف عند غيرهم؛ فقد أقام زواج الأطفال سداً في وجه العلاقات الجنسية السابقة للزواج؛ والعقوبات الدينية الصارمة التي كانوا ينذرون بوقوعها ليحملوا الزوجة على الوفاء لزوجها، جعلت الزنا أصعب جداً وأندر جداً مما هو عليه في أوربا أو أمريكا؛ وكان الزنا في الأعم الأغلب مقصوراً على المعابد؛ ففي الأصقاع الجنوبية كانت رغبات الرجل الشهواني




صفحة رقم : 827




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


تشبعها له من كن يطلق عليهن "خادمات الله" طائعات في ذلك أوامر السماء، وما خادمات الله- أو "دفاداس" كما يسمونهن- إلا العاهرات؛ وفي كل معبد في "تامل" مجموعة من "النساء المقدسات" اللائي يستخدمن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاع الكهنة البراهمة؛ وبعض هؤلاء النسوة- فيما يظهر- قد قصرن حياتهن على عزلة المعابد وكهانها، وبعضهن الآخر قد وسع من نطاق خدماته بحيث يشمل كل من يدفع أجراً لمتعته، على شريطة أن يدفعن لرجال الدين جزءاً من كسبهن عن هذا الطريق، وكان كثير من زانيات المعابد- أو فتيات الرقص- يقمن بالرقص والغناء في الحفلات العامة والاجتماعات الخاصة، على نحو ما يفعل فتيات "الجيشا" في اليابان؛ وكان بعضهن يتعلمن القراءة، فيكن وسيلة أحاديث ثقافة في المنازل حيث لا تجد الزوجة ما يشجعها على القراءة، ولا يسمح لها بمخالطة الأضياف، وهؤلاء الفتيات القارئات شبيهات بمن كن يسمين hetairai عند اليونان؛ ويحدثنا نص مقدس أنه في سنة 1004 م كان في معبد الملك الكولي "راجا راجا" في تانجور أربعمائة امرأة من "خادمات الله" ؛ وأكسب الزمان هذه العادة صبغة الجلال، فلم ير فيها أحد ما يتنافى مع الأخلاق؛ حتى إن السيدات المحترمات كن آناً بعد آن يهبن ابنة إلى مهنة العهر في المعابد، بنفس الروح التي يوهب بها الابن إلى الكهنوت(117)، ويصف "ديبوا"- في أول القرن التاسع عشر- معابد الجنوب بأنها في بعض الحالات كانت "تتحول إلى بيوت للدعارة ولا شئ غير هذا" ، وكانت عامة الناس تطلق على "خادمات الله"- بغض النظر عن مهمتهن في بداية الأمر- اسم الزانيات، ويستخدمونهن على هذا الأساس؛ ولو أخذنا بقول هذا "الأب" الكهل، الذي لم يكن أمامه ما يبرر أن يتعصب للهند فيما يكتب، علمنا أن :




صفحة رقم : 828




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


"واجباتهن الرسمية تتألف من الرقص والغناء داخل المعابد مرتين كل يوم ... وكذلك في الاحتفالات العامة كلها؛ وهن يؤدين الرقص أداء رشيقاً إلى درجة مرضية، على الرغم من أن طريقة الرقص تثير الشهوة وليس في إشارتهن شئ من الوقار؛ وأما غناؤهن فيكاد كله يتألف من أشعار فاحشة تصف ما مر في تاريخ آلهتهم من حوادث الإباحية الجنسية"(118).
في هذه الظروف التي يسودها عهر المعابد وزواج الأطفال، لم يبق أمام ما نسميه "بالحب الشعري" إلا أضيق الفرص؛ نعم إن التفاني المثالي الذي يبديه أحد الجنسين تجاه الآخر، له آثاره الظاهرة في الأدب الهندي- مثال ذلك ما نراه في أشعار "شاندي داس" و "جاياديفا"- لكنه في الأغلب يتخذ رمزاً للروح تسلم زمامها لله؛ أما في الحياة الواقعة، فأكثر ما تظهر فيه هذه الروح هو تفاني الزوجة في زواجها تفانياً كاملاً؛ وأحيانا ترى شعرهم الغزلي من الطراز الخيالي السامي كالذي يصوره شعراؤنا المحافظون على تقاليد الأخلاق المتزمتة من أمثال "تنسن" و "لنجلفو" ، وأحياناً أخرى تراه من الطراز الجسدي الحسي كالذي نعرفه في عصر اليصابات(119)؛ فهذا أديب منهم يوحد بين الدين والحب، ويرى الجانبين معاً متمثلين في نشوة الدين ونشوة الحب؛ وهذا أديب آخر يذكر قائمة من ثلاثمائة وستين عاطفة مختلفة تملأ قلب المحب، ويعد الأشكال المختلفة التي رسمتها أسنانه على جسد حبيبته، أو يصف كيف أخذ يزين نهدي حبيبته برسوم أزهار من معجون الصندل العبق؛ وكذلك يصف لنا مؤلف قصتي "نالا" و "داما يانتي" في ملحمة "ماهابهاراتا" آهات المحبين الحزينة وشحوبهم كأحسن ما تراه عند الشعراء الجوالين في فرنسا(120).
لكن أمثال هذه الأهواء المتقلبة لم يركن إليها نادراً في تقرير الزواج في الهند؛ ولقد أباح "مانو" ثمانية صنوف من الزواج، كان أدناها في القيمة الخلقية هو الزواج بالاغتصاب والزواج "بالحب" ؛ وأما الزواج بالشراء فهو




صفحة رقم : 829




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


الصورة المقبولة على أنها الطريقة المعقولة لتدبير الزواج بين رجل وامرأة؛ فالمشرع الهندي من رأيه أن صور الزواج التي تنبني على أسس اقتصادية هي في نهاية الأمر أسلم الصنوف عاقبة(121)، وفي أيام "دبوا" كانت العبارة الهندية التي تعنى "يتزوج" ، والعبارة التي تعني "يشتري زوجة" "عبارتين مترادفتين" .
وأحكم الزواج زواج يدبره الوالدين مراعين فيه كل قواعد الزواج من داخل أو من خارج، فالشاب ينبغي أن يتزوج داخل طبقته الاجتماعية، لكنه يختار زوجته من خارج مجموعته العائلية(123)؛ وله أن يتزوج من زوجات كثيرات لكن واحدة منهن فقط يكون لها السيادة على الأخريات، ويشترط فيها أن تكون من طبقته الاجتماعية؛ على أن الأفضل- في رأي مانو- أن يقتصر الزوج على زوجة واحدة وكان على الزوجة أن تحب زوجها في تفان ُيصبّره على المكاره، وأما الزوج فلم يكن ينتظر منه أن يبدي لزوجته حباً شعرياً، بل حماية أبوية(126).
كانت الأسرة الهندية من الطراز الأبوي الصميم، فالوالد هو السيد الكامل السيادة على الزوجة والأبناء والعبيد(127) وكانت المرأة مخلوقاً جميلاً يحب،




صفحة رقم : 830




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


لكنها أحط منزلة من الرجل؛ تقول أسطورة هندية: أن "تواشتري" المبدع الإلهي، حين أراد في البداية أن يخلق المرأة وجد أن مواد الخلق قد نفذت كلها في صياغة الرجل، ولم يبق لديه من العناصر الصلبة بقية، فإزاء هذه المشكلة طفق يصوغ المرأة من القصاصات والجذاذات التي تناثرت من عمليات الخلق السابقة، يختار قصاصة من هنا وجذاذة من هناك:
"فأخذ استدارة القمر، وتثنى الزواحف وتعلق المحلاق وارتعاش الكلأ ودقة قصبة الغاب وازدهار الزهور وخفة أوراق الشجر وانخراط خرطوم الفيل ونظرات الغزال وتجمع النخل وخلاياه، وبهجة أشعة الشمس المرحة وبكاء السحاب وتقلب الريح وجبن الأرنب وزهو الطاووس وطراوة صدر الببغاء، وصلابة جلمود الصخر، وحلاوة العسل، وقسوة النمر، ووهج النار الدافئ وبرودة الثلج وثرثرة أبي زريق، وهديل الحمام، ونفاق الكركي ووفاء الشكرافاكا، ومزج كل هذه العناصر مزجاً صنع منه المرأة ثم وهبها للرجل"(129) لكن على الرغم من هذه العدة كلها، لم يكن للمرأة في الهند ألا أسوأ الحظوظ؛ فمكانتها العالية التي بلغتها في العصور الفيدية، زالت عنها بتأثير نفوذ الكهنة وبفعل المثل الذي رسمه المسلمون؛ فترى الروح العامة في "تشريع مانو" موجهة ضدها في عبارات تذكرنا بمرحلة أولى من مراحل اللاهوت المسيحي: "إن مصدر العار هو المرأة، ومصدر العناء في الجهاد هو المرأة، ومصدر الوجود الدنيوي هو المرأة، وإذاً فإياك والمرأة "(130) وفي فقرة أخرى تقرأ : "إن المرأة لا تقتصر قدرتها على تضليل الأحمق عن جادة السبيل في هذه الحياة، بل هي كذلك قادرة على تضليل الحكيم؛ فهي تستطيع أن تمسك بزمامه وأن تخضعه لشهوته أو لغضبته" (131) ولقد نص التشريع على أن المرأة طوال حياتها ينبغي أن تكون تحت إشراف الرجل، فأبوها أولاً وزوجها ثانياً وابنها ثالثاً(132)، وكانت الزوجة تخاطب زوجها في خشوع قائلة له: "يا مولاي" و "يا سيدي" بل "يا إلهي" وهي تمشي خلفه




صفحة رقم : 831




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


بمسافة إن مشيا على مرأى من الناس، وقلما يوجه إليها هو كلمة واحدة (133) وينتظر من المرأة أن تبدي إخلاصها بخدماتها في كل المواقف، بإعدادها للطعام، وبأكلها لما يتبقى بعد أكل زوجها وأولادها، وبضمها لقدمي زوجها إذا حانت ساعة النوم(124) يقول مانو: "إن الزوجة الوفية ينبغي أن تخدم ... سيدها كما لو كان إلهاً، وألا تأتي شيئاً من شأنه أن يؤلمه، مهما تكن حالته، حتى إن خلا من كل الفضائل"(135) أما الزوجة التي تعصي زوجها فمآلها أن تتقمص روحها جسد ابن آوى في خلقها التالي(136).
ولم يكن نساء الهند يتلقين تعليماً -كأخواتهن في أوربا وأمريكا قبل عصرنا هذا الحديث- إلا إن كن من سيدات الطبقة الراقية أو من زانيات المعبد(137)، ففن القراءة كان في عرفهم لا يليق بامرأة؛ ذلك لأن سلطانها على الرجال لا يقوى به، ثم هو يؤدي إلى نقص فتنتها؛ فيقول "طاغور" على لسان "شترا" في إحدى مسرحياته: "إن المرأة يسعدها أن تكون امرأة فقط- أن تلف نفسها حول قلوب الرجال بابتسامتها وتنهداتها وخدماتها وملاطفاتها؛ فماذا يجدي عليها العلم وجليل الأعمال؟"(138) وليس من حقها أن تلم بكتب الفيدا(139)، ففي الماهابهاراتا: "إذا درست المرأة كتب الفيدا كانت هذه علامة الفساد في المملكة" ، ويروي المجسطي عن أيام "تشاندرا جوبتا": "إن البراهمة يحولون بين زوجاتهم- ولهم زوجات كثيرات- وبين دراسة الفلسفة، لأن النساء إن عرفن كيف ينظرن إلى اللذة والألم، والحياة والموت نظرة فلسفية، أصابهن مس من جنون، أو أبين بعد ذلك أن يظللن على خضوعهن"(141).




صفحة رقم : 832




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


ثلاثة أشخاص في تشريع مانو لا يجوز لهم أن يملكوا شيئاً : الزوجة والابن والعبد، فكل ما يكسبه هؤلاء يصبح ملكاً لسيد الأسرة(142)؛ على أنه يجوز للزوجة أن تحتفظ بملكية المهر والهدايا التي جاءتها عند زواجها، وكذلك يجوز لأم الأمير أن تحكم البلاد في مكان ابنها حتى يبلغ الرشد(143)؛ ومن حق الرجل أن يطلق الزوجة لخيانتها الزوجية، لكن الزوجة لا تستطيع أن تطلق زوجها لأي سبب من الأسباب(144)، وفي مقدور الزوج إذا ما شربت زوجته الخمر أو إذا مرضت أو إذا شقت عليه عصا الطاعة أو كانت مسرفة أو شكسة، أن يتزوج من غيرها في أي وقت شاء (لا أن يطلقها)؛ على أن في "التشريع" فقرات توحي بالرفق المستنير في معاملة المرأة: فلا يجوز ضربهن "حتى بزهرة" ولا يجوز مراقبتهن مراقبة تجاوز الحدود في صرامتها، لأن دهاء مكرهن عندئذ يجد سبيلاً للشر، وإذا أحببن جميل الثياب فمن الحكمة أن تشبع فيهن ما أحببن "لأن الزوجة إذا حرمت أنيق الثياب فلن تثير في صدر زوجها ميلاً إليها" على حين أنه "إذا زينت الزوجة زينة بهيجة، اكتسب المنزل كله مسحة الجمال"(145) ، ويجب أن تخلى الطريق للمرأة كما تخليه للكهول والكهنة، والواجب أن يطعم "الحاملات والعرائس والكواعب قبل سائر الأضياف"(146) ولئن فات المرأة عندهم أن تحكم باعتبارها زوجة، فلها أن تحكم بوصفها أما، وإن كانت المرأة أما لأطفال كثيرين، استحقت عند الناس أعظم العطف والتقدير؛ فحتى تشريع مانو الذي يؤيد سيطرة الوالد في الأسرة، ينص على أن "الأم أولى بالتوقير من ألف والد"(147).
ولاشك أن دخول الأفكار الإسلامية كان عاملاً على تدهور مكانة المرأة في الهند بعد العصر الفيدي، فقد جاءت إليها عادة "البردة" (أي الستار)- وهي عزل النساء المتزوجات- مع الفرس والمسلمين، ولذلك فهي أقوى جذوراً في شمال البلاد منها في الجنوب؛ ولكي يحمي الأزواج الهنود




صفحة رقم : 833




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


زوجاتهم من المسلمين- وهذا عامل من عدة عوامل- فقد اصطنعوا نظام "البردة" وتمسكوا به في تزمت بلغ من شدته أن المرأة المحترمة لا تستطيع أن تبدي نفسها لغير زوجها وأبنائها، ولا يمكنها الانتقال خارج دارها إلا مستورة بقناع سميك؛ حتى الطبيب الذي يعالجها ويجس نبضها، لا مندوحة له عن أداء واجبه خلال ستار(148)؛ وإنه لمن الخروج على القواعد الخلقية في بعض الأوساط أن تسأل عن زوجة غيرك أو أن تتحدث وأنت ضيف إلى سيدات البيت الذي يضيفك(149).
كذلك عادة إحراق الأرامل على الكومة التي احترق فيها أزواجهن جاءت إلى الهند من خارج، ويقول عنها "هيرودوت" أنها كانت عادة جارية بين السُّكَّيت القدماء وأهل تراقيا؛ ولو كان لنا أن نصدقه في روايته، إذن لعلمنا أن زوجات الرجل من أهل تراقيا كن يقتتلن تسابقاً على امتياز القتل على قبر الزوج(150)، ولعل هذه الشعيرة قد هبطت إلى الهنود من عادة قديمة كادت تشمل شعوب العالم البدائية كلها، وهي التضحية بواحدة أو اكثر من زوجات الأمير أو الغني، أو من خليلاته، والتضحية معها بطائفة من عبيده، وغير ذلك مما لابد من تقديمه قرباناً إثر وفاته، وذلك ليعنى هؤلاء بالميت في الحياة الآخرة(151)؛ ويذكرها كتاب "إتارفا فيدا" على أنها عادة قديمة؛ أما "رج فيدا" فيذكر لنا أن هذه العادة في العصر الفيدي كانت قد خف شأنها حتى أصبحت محصورة في مطالبة الأرملة بالرقاد على كومة الحطب التي أعدت لزوجها لحظة قبل إحراق جثته(152).
ثم تعود قصيدة "ماهابهاراتا" فتصف هذه العادة الاجتماعية وصفاً يدل على عودتها كاملة بغير شعور من الناس بفداحة ما يفعلون، وهي تذكر أمثلة




صفحة رقم : 834




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


كثيرة لهذه العادة ثم تضع للناس قاعدة عامة مؤداها أن الأرملة الطاهرة لا تحب أن تحيى بعد زوجها، بل تراها تدخل النار فخورة بصنيعها(153)، وكانوا في هذه المناسبات يحرقون جسد الزوجة في حفرة من الأرض، أو يدفنونها حية، كما كان يحدث بين قبيلة "تلوج" في الجنوب(154)؛ ويروي لنا سترابو أن عادة قتل الزوجة بعد موت زوجها كانت شائعة في الهند أيام الإسكندر، وأن قبيلة "كاثي"- وهي قبيلة تسكن البنجاب- اتخذت من هذه العادة قانوناً حتى لا تدس زوجة لزوجها السم فتقتله(155) ولا يذكر "مانو" عن هذه العادة شيئاً؛ ولقد عارضها البراهمة أول الأمر، لكنهم عادوا فقبلوها، وأخيراً خلعوا عليها قداسة دينية تحميها من العبث، وذلك بأن جعلوها مرتبطة بأبدية الرابطة الزوجية: فالمرأة إذا ما تزوجت رجلا كان عليها أن تظل زوجته إلى الأبد، وستعود إلى الارتباط الزوجي به في حياته المقبلة(156)؛ وهذه الملكية المطلقة من الزوج لزوجته، اتخذت في "راجستان" صورة ما يسمونه "جوهور" وهي عادة تقضي على الرجل من أهل راجبوت، إذا ما أصابه نوع معين من الهزيمة، أن يضحي بزوجاته قبل أن يتقدم هو إلى الموت في ساحة القتال(157)؛ وانتشرت العادة في حكم المغول انتشارا واسعاً على الرغم من كراهية المسلمين لها، ولقد فشل ملوك المسلمين، حتى "أكبر" بكل نفوذه، في زحزحة هذه العادة من النفوس، وحاول "أكبر" ذات مرة أن يثني عروساً هندية عن تقديم نفسها طعاماً للنار على كومة الحطب التي أحرقت خطيبها الميت، وتوسل إليها البراهمة بما يؤيد رجاء الملك، لكن العروس أصرت على التضحية فلما دنت منها السنة اللهب، وكان "دانيال"- ابن "أكبر"- عندئذ ماضيا في إقناعها بالعدول، إجابته قائلة: "كفى، كفى"؛ وحدث كذلك لأرملة أخرى أن رفضت مثل هذه التوسلات بالإقلاع عن التضحية بنفسها، ووضعت إصبعها في شعلة مصباح حتى التهمتها النار،




صفحة رقم : 835




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


ولكونها أمسكت عن إظهار ألمها بأية علامة من علاماته، فقد عبرت عن ازدرائها لأولئك الذين نصحوها بالإقلاع عن إحراق نفسها جرياً مع الطقوس(158)؛ وفي "فيجاياناجار" كان قتل الزوجة هذا يتخذ صورة جمعية، فلا يكتفي فيه بقتل زوجة واحدة أو عدد قليل من زوجات الأمير أو القائد بعد موته، بل كان لابد لكل زوجاته أن يتبعنه إلى الموت؛ ويروى لنا "كونتي" أن "الرايا" أو الملك قد اختار ثلاثة آلاف من زوجاته البالغ عددهن اثني عشر ألفاً، ليكن مقربات له "على شرط أن يحرقن أنفسهن مختارات عند موته، وأن ذلك ليعد شرفاً عظيماً لهن"159) وأنه من العسير علينا أن نحكم إلى أي حد كانت الأرملة الهندية في عصور الهند الوسطى راضية النفس عن هذه العادة بقوة التأثير الديني والعقيدة، وبقوة الرجاء في أن تعود إلى الاتحاد بزوجها في الحياة الآخرة.
وأخذت "السوتي"- قتل الزوجة بعد موت زوجها- تقل شيئاً فشيئاً كلما ازدادت الهند اتصالاً بأوربا، ولو أن الأرملة لم تزل تعاني صعاباً كثيرة، فما دام الزواج قد ربط المرأة بزوجها رباطاً أبدياً، فإن زواجها مرة ثانية بعد موت زوجها كان يعد جريمة فادحة، ومن نتائجه المحتومة أن يحدث للزواج اضطراباً في حياته المقبلة، وعلى ذلك كان لابد للأرملة وفق قانون البرهمي أن تظل بغير زواج وأن تحلق شعرها وتحيى حياتها (إذا لم تؤثر لنفسها القتل في نار زوجها) معنية بأطفالها ومشتغلة بأعمال البر والإحسان(160) ولم يكن يحكم على الأرملة بالفقر، بل الأمر على عكس ذلك، إذ كان لها الحق الأول في أملاك زوجها(161) غير أن هذه القواعد لم تجد قبولاً إلا عند النساء المحافظات على التقاليد من نساء الطبقتين العليا والوسطى- وهؤلاء نسبتهن ثلاثون في المائة من مجموع السكان- وأما المسلمون والسيخ والطبقات الدنيا فقد أهملوا تلك القواعد إهمالاً تاماً(162) والرأي عند الهنود هو أن هذه العذرية الثانية التي تصطنعها الأرملة عندهم شبيهة بامتناع الراهبات في المسيحية عن الزواج




صفحة رقم : 836




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> الأخلاق والزواج


ففي كلتا الحالين ترى طائفة من النساء يرفضن الزواج ويكرسن حياتهن لأعمال الإحسان




صفحة رقم : 837




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق



الفصل الرابع




آداب السلوك والعادات والأخلاق




الاحتشام الجنسي - الصحة - الملبس - المظهر - رقة الفن




عند الهنود- سيئات وحسنات - الألعاب - الأعياد - الموت


إن العقل الساذج قد يصعب عليه التصوير بأن هؤلاء الناس الذين قبلوا نظماً اجتماعية مثل زواج الأطفال وعهر المعابد وقتل الزوجة بعد موت زوجها، هم كذلك غاية في رقة الحاشية والاحتشام والمجاملة؛ فلو غضضت النظر عن عدد قليل هن زانيات المعابد، لوجدت البغاء نادراً في الهند، وألفيت العفة الجنسية مصونة إلى حد يستوقف النظر؛ يقول "دبوا" الذي لا يعطف على الهنود في كتابته: "لابد من الاعتراف بأن آداب السلوك واحترام المعاملة الاجتماعية أوضح في قواعدها وأكثر اتباعاً لدى طبقات الهنود كلها، حتى أدنى هذه الطبقات منزلة، منها عند أي شعب أوربي له ما للهنود من مكانة اجتماعية"(164)؛ فالدور الرئيسي الذي يلعبه الجنس في الحديث وفي النكات عند الغربيين، لا تعرفه آداب السلوك بين الهنود، فهذه الآداب تحرم تحريماً قاطعاً كل علاقة علنية بين الرجال والنساء من شأنها أن تعبر عما بينهم من ارتفاع الكلفة، وهي تعتبر التلاصق البدني بين الجنسين في الرقص شيئاً مرذولاً قبيحاً(165)؛ وتستطيع المرأة الهندية أن تذهب خارج دارها أنى شاءت دون أن تخشى من أحد اعتداء أو إساءة(166)؛ بل إن الوضع في عين الشرقي على عكس ذلك؛ إذ يرى الخطر في ذلك واقعا كله على الجنس الآخر، فترى "مانو" يحذر الرجال: "إن المرأة نزاعة بطبعها دائماً أن تغري الرجل، ومن ثم كان واجباً على الرجل ألا يجلس في عزلة مع امرأة حتى إن كانت من أقرب ذوات قرباه" ولا ينبغي لرجل أن ينظر إلى أعلى من عقبي فتاة عابرة(167).




صفحة رقم : 838




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


وتأتي النظافة في منزلة بعد العبادة مباشرة؛ فليست القواعد الصحية "بالخلق الأوحد" كما ظن أناتول فرانس، بل هي عندهم جزء حيوي من العبادة؛ ولقد سن "مانو" من عدة قرون تشريعاً يستلزم تهذيب البدن، ففي تعليماته مثلاً: "يجب على البرهمي أن يستحم في الصباح الباكر وأن يزن جسده وينظف أسنانه، ويغسل عينيه ويعبد الآلهة"(168) والمدارس الأهلية تجعل أولى المواد في برامجها آداب السلوك الطيب والنظافة الشخصية؛ فعلى الهندي ذي المكانة المحترمة أن يغسل جسده كل يوم وأن يغسل ثوبه الذي سيرتديه، وإنه ليقشعر تقززاً إذا ما لبس الثوب- بغير غسل- أكثر من يوم واحد(169) ويقول "سير وليم هيوبر": "إن الهنود يضربون المثل لنظافة الأجسام بين القبائل الأسيوية كلها، بل لعلهم يضربونه بين أجناس العالم بأسره ولقد أصبح وضوء الهنود يجري مجرى الأمثال"%=‌@قال هندي كبير- هو لاجبات راي- مخاطباً أوربا: "قبل أن تعرف الشعوب الأوربية شيئاً من قواعد الصحة بزمن طويل، وقبل أن تتبين فوائد فرجون الأسنان والاستحمام اليومي بزمن طويل، كان الهنود بصفة عامة يتبعون العادتين، فلم يكن في منازل لندن أحواض الاستحمام حتى عشرين سنة مضت، وكان فرجون الأسنان من أسباب الترف الكمالي"(171).@
وفيما يلي وصف عادات الأكل عند الهنود كما وصفها يوان شوانج منذ ألف وثلاثمائة عام:
"إنهم يندفعون إلى التطهر بدافع من أنفسهم، لا يجبرهم عليه أحد، فحتم عندهم أن يغتسل الآكل قبل وجبته، ويستحيل أن تقدم الفتات والبقايا لوجبة أخرى؛ ولا تستعمل أوعية الطعام لأكثر من أكلة واحدة، فما كان منها مصنوعاً من الخزف أو من الخشب يجب رميه بعد استعماله، وأما ما كان منها مصنوعاً من ذهب أو فضة أو نحاس أو حديد، وجب إعادة صقله؛ ولا يلبث الهنود بعد فراغهم من طعامهم أن يلوكوا مساويكهم لتنظيف أسنانهم، ولا يلمس أحد منهم أحداً إلا إذا اغتسلوا متوضئين"(172).




صفحة رقم : 839




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


فمن عادة البرهمي أن يغسل يديه وقدميه وأسنانه قبل كل وجبة وبعدها؛ وهو يأكل بأصابعه من الطعام الذي يقدم على ورقة من أوراق الشجر، اعتقاداً منه مما يتنافى وقواعد النظافة أن يأكل مرتين من طبق واحد، بسكين واحدة أو شوكة واحدة، حتى إذا ما فرغ من طعامه، غسل أسنانه سبع مرات(173) وفرجون أسنانه دائماً، لأنها غصن شجرة يقطعه لتوه لأن الهندي يعتقد أنه مما يسئ إلى سمعته أن ينظف أسنانه بفرجون من شعر الحيوان، أو أن يستعمل الفرجون الواحد مرتين(174)، فما أكثر السبل التي يستطيع بها الناس أن يحتقروا بعضهم بعضاً؛ ولا ينفك الهندي يمضغ ورقة من أوراق نبات الفلفل التي تصبغ الأسنان صبغة قاتمة لا يرضاها لنفسه الأوربي؛ بل لا يرضاها الهندي لنفسه، لكن هذه المضغة مضافة إلى الأفيون الذي يأكله حيناً بعد حين، يعوضانه عن امتناعه المألوف عن تدخين التبغ واحتساء المسكرات.
في كتب القانون الهندي نصوص صريحة على ما ينبغي اتباعه من القواعد الصحية في حيض المرأة(175)، وفي تلبية نداء الطبيعة؛ فلن تجد من القوانين ما هو أدق في ذكر التفصيلات وأرصن في طريقة التعبير، من تلك التي تذكر طقوس التبرز عند البراهمة(176) فالبرهمي إذا ما انخرط في سلك الكهنوت وجب ألا يستعمل في هذه الطقوس إلا يده اليسرى، ويجب أن يستخدم الماء في تنظيف هذه الأجزاء، وإنه ليعد بيته نجساً إذا دخله الأوربيون، لأنهم يكتفون في هذه العملية بالورق(177)؛ وأما المنبوذون وكثيرون من طبقة الشودرا فهم أقل من ذلك مراعاة للدقة، وقد يزيلون هذه الضرورة الطبيعية في أي مكان من جانب الطريق(178)، ولذا فإن الأحياء التي تسكنها هذه الطوائف يكتفي فيها من أجل الصحة العامة "بمجرور" مفتوح يشق في وسط الطريق(179).
وفي مناخ حار كمناخ تلك البلاد، تكون الثياب نافلة، فكنت ترى السائلين والأولياء الصالحين عراة الأجسام، وبذلك العرى أكملوا درجات




صفحة رقم : 840




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


السلم الاجتماعي؛ ولقد تهددت إحدى طوائف الجنوب- كما فعلت قبيلة دوخوبور في كندا- بالهجرة إلى مكان آخر لو اضطر أفرادها إلى لبس الثياب(180)، وكانت العادة حتى أواخر القرن الثامن عشر- على الأرجح- أن يسير الجنسان في الهند الجنوبية (ولا يزال الناس على هذه الحال في بالي) عراة فيما يعلو أوساطهم(181)، وكان الأطفال يكتسون في الأغلب بخرزات وحلقات؛ ومعظم الناس يمشون حفاة الأقدام؛ وإن لبس الهندي الأصيل حذاء اتخذه من القماش، لأنه لا يجوز تحت أي ظرف أن ينتعل حذاء من الجلد؛ وعدد كبير من الرجال كان يكفيه من الثياب خرقة على ردفيه، فإذا أرادوا الزيادة من الغطاء لفوا أوساطهم بثوب، وطرحوا طرفه المرسل على الكتف اليسرى؛ وأما أهل راجبوت فكانوا يلبسون السراويل من كل لون وشكل، وصداراً مخروماً بمنطقة في أسفله، ولفاعاً حول الرقبة، وخفاً أو حذاء في القدم، وعمامة على الرأس؛ جاءتهم هذه العمامة مع المسلمين، ثم أخذها الهنود، وجعلوا من عاداتهم أن يلفوها لفاً متقناً حول رءوسهم في أشكال مختلفة تدل على طبقة لابسيها، لكنها في جميع الحالات تتألف من قماش حريري لا ينتهي طوله، تظل تفكه بغير نهاية كأنه مسحور، فقد يبلغ طول القماش في العمامة الواحدة إذا ما نشرته- سبعين قدماً(182)؛ ونساؤهم يلبسن أثواباً فضفاضة من حرير يسمونها "ساري" أو يلبسن "خداراً" من نسيج البلاد، يتلفعن به على أكتافهن، ويربطنه عند الوسط ربطاً وثيقاً، ثم يرسلنه على القدمين، وهن يتركن أحيانا جزءاً من أجسادهن البرونزية عارياً تحت الثديين؛ ومن عاداتهم كذلك أن يطلوا شعورهم بالزيت فيقيهم حرارة الشمس اللافحة؛ أما الرجال فيفرقون شعورهم في الوسط، ثم يجمعون أطرافه في حزمة خلف الأذن اليسرى، وأما النساء فيضفرن بعض شعرهن حوية فوق الرأس، ثم يرسلن بقية الشعر إرسالاً، وكثيراً ما يزينه بالزهور، أو يغطينه بلفاع؛ فكان لرجالهم هندام لطيف، ولفتياتهم جمال، وجميعهم




صفحة رقم : 841




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


ذوو قوام رائع(183)، وكثيراً ما يكون الهندي من عامة الناس بقماشة ثوبه على ردفيه أكثر في طلعته جلالا من دبلوماسي أوربي كامل الثياب الرسمية.
ومن رأى "بييرلوتي": "أنه مما لا يحتمل جدالا أن جمال الجنس الآري يبلغ ذروة كماله ورقته في الطبقة العليا في الهند"(184) وكلا الجنسين ماهر في استخدام الدهون للتجمل. ونساؤهم يشعرن كأنما هن عراة إذا كن بغير حلى، وعندهم أن خاتماً يوضع في جانب الأنف الأيسر يدل على الزواج، وفي معظم الحالات، تراهم يرسمون على الجبهة رمزاً يدل على العقيدة الدينية.
وإنه لمن العسير أن تنفذ خلال هذه الظواهر الخارجية لتصف أخلاق الهنود، لأن كل شعب فيه خليط من فضائل ورذائل، وترى الزائرين يختارون من هذه ما يروقهم بحيث يؤيدون وجهة نظرهم أو يزينون روايتهم بما يمتع. يقول "الأب دبو": "أظن أن أبشع رذائلهم هي الخيانة والخداع والغش... وهي صفات شائعة بين الهنود جميعاً... ويقيناً إنك لن تجد على الأرض شعباً يستخف بحلف اليمين أو شهادة الزور كما يستخفون(185). ويقول "وستر مارك": "لقد قيل أن الكذب هو الرذيلة القومية عند الهنود"(186). ويقول ماكولي: "الهنود مخادعون متلونون"(187) فالكذب إذا اقترف بنية حسنة كان مغتفراً في رأي "مانو" وفي مواضعات الحياة العملية؛ فمثلاً إن كان قول الصدق سيؤدي إلى موت كاهن، فالكذب عندئذ له ما يبرره(188) لكن "يوان شوانج" يروى لنا فيقول: "إنهم لا يعرفون الخدع ويرعون التزاماتهم التي أقسموا عليها... وهم لا يعتدون على ما ليس لهم متعمدين، ويتنازلون عن حقوقهم أكثر مما تقتضي العدالة"(189). ويقول "أبو الفضل" الذي لا يذهب بهواه من الهنود، يقول عن هنود القرن السادس عشر: "إنهم متدينون، محببون إلى النفوس، مرحون، محبون للعدل، زاهدون في الحياة، قادرون في التجارة، يدعون للصدق، ويعترفون بالجميل، ويتصفون بالوفاء
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:09 pm

صفحة رقم : 842




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


الذي لا حد له"(190).ويقول عنهم "كير هاردي" الأمين: "إن أمانتهم مضرب الأمثال، فهم يقترضون ويقرضون، لا تلزمهم في ذلك إلا كلمة غير مكتوبة، ويكادون لا يعرفون عدم الوفاء للدين" (191). ويقول قاض بريطاني في الهند: "لقد عرضت أمامي مئات القضايا التي كانت أملاك الفرد منهم وحريته وحياته متوقفة كلها على كذبة يقولها، ومع ذلك يأبى على نفسه الكذب"(192). فكيف لنا أن نوفق بين هذه الشهادات المتضاربة؟ يجوز أن يكون التوفيق بينها غاية في البساطة، وهو أن بعض الهنود أمين وبعضهم خائن.
وكذلك قل إن الهنود غاية في القسوة وغاية في الرقة في آن معاً؛ فلقد استحدثت اللغة الإنجليزية لفظة قصيرة قبيحة، استعارتها من تلك الجمعية السرية العجيبة- التي تكاد تكون طبقة اجتماعية- جمعية "الغادرين" التي ارتكبت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر آلاف الجرائم الشنيعة، وذلك- كما قالوا- بغية تقديم هؤلاء الضحايا قرابين للإلهة "كالي"(193)، وأما الكلمة التي استحدثتها اللغة الإنجليزية لتدل على هؤلاء الغادرين فهي Jhugs وقد كتب عنهم "فنسنت سمث" بلغة ليست غربية عن عصرنا هذا، فقال:
"هذه العصابات توشك ألا تخشى أحداً، وتكاد تتمتع بحصانة تامة... فلها دائماً حماة أقوياء؛ ولقد هبط الشعور الخلقي عند الناس هبوطاً بحيث لا تشهد فيهم أثراً للجزع من هذه الجرائم المدبرة التي يقترفها هؤلاء "الغادرون" ، وذلك أن هذه الفئة المجرمة قد انخرطت في مجرى أمور الحياة جزءاً منها لا يتجزأ؛ وقبل أن يفتضح سر هذه الجمعية، ... كان يستحيل عادة أن تظفر بدليل يثبت الجريمة على هؤلاء الغادرين، حتى الذين اشتهروا منهم بين الناس"(193أ).
ورغم ذلك فالجرائم في الهند قليلة نسبياً، وحوادث الاعتداء نادرة، فالعالم كله مجمع على أن الهنود من الوداعة بما أوشك أن يكون جبناً وضعفاً(194)




صفحة رقم : 843




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


فهم يجاوزون الحدود في التزلف وحسن الطوية، وقد طحنتهم رحى الغزو والحكومات المستبدة الأجنبية زمناً امتد وطال إلى حد افقدهم القدرة على أن يكونوا من المقاتلين الأشداء، إلا إذا فهمنا القتال بمعنى احتمال الألم، عندئذ ترى لديهم من الشجاعة ما لا يشق لهم فيه غيار(195) ولعل أبشع سيئاتهم عدم المبالاة والكسل، ولو أن هاتين الصفتين في أعين الهنود ليستا من السيئات، بل هما ضرورتان للمناخ ومواءمة أنفسهم لجو بلادهم، مثل حلاوة الطبع، التي تتصف بها الشعوب اللاتينية؛ والحمى الاقتصادية التي جن بها الأمريكيون؛ والهنود حساسون، عاطفيون، ذوو أهواء وأصحاب خيال؛ ولذلك تراهم أبرع في الفن والشعر منهم في الحكم والتنفيذ، فلئن وجدتهم يستغلون بعضهم بعضاً استغلالاً فيه من الشدة والعنف ما تلمسه في المستغلين بسواهم في أي بلد من بلاد العالم، فقد كانوا كذلك يتصفون بسخاء لا يقف عند حد، وهم أكرم أهل الأرض للضيف، إذا ما غضضت النظر عن الشعوب الهمجية الأولى(196) فحتى أعداؤهم لا يسعهم إلا الاعتراف بحسن مجاملتهم(197)؛ وهذا هو إنجليزي سمح الأخلاق يلخص لنا تجاربه الطويلة فيعزو للطبقات العليا من أهل كلكتا "آداب السلوك المهذبة ووضوح التفكير وكماله وشعور التسامح والتمسك بالمبدأ، مما يطبعهم بطابع السادة المهذبين في أي بلد من بلاد العالم"(198).
والعبقرية الهندية في عين الغريب عن البلاد تبدو حزينة سوداء، ولاشك في أن الهنود لم يصادفهم في الحياة كثير مما يبرر لهم المرح؛ وتشير محاورات بوذا إلى أنواع كثيرة مختلفة من اللعب، بينها لعبة شديدة الشبه جداً بلعبة الشطرنج%=@الشطرنج من القدم بحيث ترى نصف الشعوب القديمة تدعيه لنفسها، لكن الرأي السائد بين الباحثين في منشأ هذه اللعبة هو أنها نشأت في الهند، ويقيناً أننا نجد هناك أقدم شبيه لها مما لا يحتمل الجدل (حوالي سنة 750 م)، وكلمة شطرنج بالإنجليزية chess جاءت اشتقاقاً من الكلمة الفارسية شاه ومعناها ملك، وكلمة "كش الملك" بالإنجليزية Checkmate هي في الأصل "شاه مات" أي "مات الملك" ويسميه الفرس "شطرنج" ولقد أخذوا الكلمة واللعبة كليهما من الهند عن طريق العرب، وكانت اللعبة في الهند يطلق عليها اسم "شاطورنجا" ومعناها "الزوايا الأربع"- الفيلة والجياد والعربات الحربية والمشاة؛ ولا يزال العرب يسمون القطعة التي هي بالإنجليزية "Bishop" بالفيل(200).
ويروى لنا الهنود أسطورة ممتعة يعللون بها نشأة اللعبة، فتقول هذه الأسطورة أنه في بداية القرن الخامس من التاريخ الميلادي، أساء ملك هندي إلى أعوانه المعجبين به من طبقتي البراهمة والكشاترية، وذلك بأن أهمل مشورتهم ناسيا أن حب الشعب له هو أرسخ دعامة لعرشه، فأخذ برهمي- يدعى سيسا- على نفسه أن يفتح عيني الملك الشاب باختراعه لعبة تكون فيها القطعة التي تمثل الملك- رغم سموها عما عداها في الجلال والقيمة (كما هي الحال في حروب الشرق)- إن تركت وحدها تكاد تتجرد من كل حول وقوة، ومن ثم جاءت لعبة الشطرنج؛ ولقد أعجب الملك باللعبة إعجابا دعاه إلى أن يطلب إلى سيسا أن يحدد لنفسه ما شاء من جزاء، فطلب سيسا في تواضع حفنة من أرز، وإنما يحدد مقدارها بأن توضع حبة واحدة من الأرز في المربع الأول من مربعات رقعة الشطرنج، وعددها أربعة وستون، ثم يضاعف في كل مربع لاحق عدد حبات الأرز في المربع السابق، فوافق الملك من فوره، لكنه سرعان ما دهش إذ رأى أن وعده ذاك يقتضي أن يدفع كل ما في ملكه، فانتهز "سيسا" هذه الفرصة السانحة، وأشار إلى مولاه كيف يمكن الملك أن يضل عن جادة السبيل إذا ازدرى رأي مستشاريه.@ ، لكن لا هذه الألعاب التي أعقبتها تدل على فرح




صفحة رقم : 844




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


ومرح كاللذين تراهما في ألعاب الغربيين؛ وأدخل "أكبر" لعبة "البولو" في الهند في القرن السادس عشر، التي جاءت على الأرجح من بلاد فارس ثم شقت طريقها عبر التبت إلى الصين واليابان(202) وكان يمتعه أن يلعب بلعبة "باشيسي" (وهي التي تسمى اليوم بارشيسي) في مربعات تحفر في أرض فناء القصر في "أجرا" وكان يتخذ اللعبة قطعاً حية من الإماء الجميلات(203).
وكانت الأعياد الدينية الكثيرة تخلع لوناً زاهياً على حياة الشعب، وأعظم هذه الأعياد "دورجا- بوجا" الذي يقام تكريماً للإلهة الكبرى أم الإلهات "كالي"، فيأخذ الهنود في الاحتفال والغناء عدة أسابيع قبل قدوم ذلك العيد؛ ثم يأتي يوم الحفل العظيم، فيسير موكب تحمل فيه كل أسرة تمثالاً للإلهة، ويتجه صوب الكنج حيث يلقون في النهر بتلك التماثيل الصغيرة، ثم يعود الجميع إلى ديارهم ليس على وجوههم شئ من علائم المسرح السابق(204).




صفحة رقم : 845




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


وأما الاحتفال "المقدس" الذي كانوا يقيمونه تكريماً للإلهة "فاسانتي" فقد كان يصطبغ بشيء من المجون، إذ يحملون- وهم مشاة في صف- رموزاً للعلاقة الجنسية يهزونها هزات تمثل حركات العملية الجنسية(205) وكان وقت الحصاد في "شوتاناجبور" إيذاناً بإباحية خلقية "حيث يطّرح الرجال جانباً كل أوضاع التقاليد، ويخلع النساء عن أنفسهن كل حياء، ويترك للفتيات الحبل على الغارب يفعلن ما شئن بغير قيود" ؛ وهناك قبيلة تدعى "بارجاني"- وهي طبقة من الفلاحين تسكن تلال "راج محل"- تقيم احتفالاً زراعياً كل عام، يباح فيه لغير المتزوجات أن ينغمسن في علاقات جنسية حرة من كل ضابط أو نظام(206).
ولاشك أن في هذه الحفلات آثاراً من السحر الزراعي القديم، الذي كان مراده أن يزيد الأسر والحقول خصوبة؛ وأما حفلات الزواج التي تتمثل فيها أكبر حادثة في حياة الهندي، فقد كانت أكثر احتشاماً؛ وكم من أب جلب على نفسه الخراب في إعداد وليمة فاخرة بمناسبة زواج ابنته أو ابنه(207).
وفي ختام الحياة يقام حفل ختامي- هو الاحتفال بإحراق جثمان الميت، فقد كانت الطريقة المألوفة في أيام بوذا هي الطريقة الزرادشتية في تعريض الجثة لسباع الطير؛ إلا إن كان الميت علماً من الأعلام البارزين، فعندئذ تحرق جثته بعد موته، على كومة من الحطب، ثم يدفن رماده في ضريح يحفظ ذكراه(208) لكن هذه الطريقة في إحراق الجثة عمت الناس جميعاً فيما بعد، حتى لترى كل ليلة حطباً يجمع ويكوم لإحراق الموتى؛ وفي عصر "يوان شوانج" لم يكن من الحوادث النادرة أن يقبل الكهول المتقدمون في السن على الموت راضين، فيطلبوا إلى أبنائهم أن يسبحوا بهم في زورق على نهر الكنج إلى منتصفه حيث يقذفون بأنفسهم في نهر الخلاص(209) ومثل هذا الانتحار في ظروف معينة قد صادف في الشرق قبولاً أكثر مما صادف في الغرب؛ فكان مباحاً في عهد "أكبر" للكهول وللمرضى الذين لا رجاء




صفحة رقم : 846




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> حياة الشعب -> آداب السلوك والعادات والأخلاق


في شفائهم، ولأولئك الذين ابتغوا تقديم أنفسهم قرباناً للإلهة؛ وأن بين الهنود آلافاً كان آخر عبادتهم أن يجيعوا أنفسهم حتى الفناء، أو أن يدفنوا أنفسهم في الثلج، أو يهيلوا على أنفسهم روث البقر ثم يشعلوا فيه النار، أو أن يتركوا أنفسهم للتماسيح تلتهمهم عند مصب الكنج؛ ولقد نشأ بين البراهمة نوع من "الهاراكيري" (وهو اسم للانتحار عند اليابانيين يأتونه تخلصاً من عار) فينتحر المنتحر ليرد عن نفسه أذى أو يحتج على إهانة؛ وحدث أن فرض أحد ملوك راجبوت ضريبة على طبقة الكهنة، فطعن عدد كبير من أغنى البراهمة أنفسهم انتحاراً بين يديه، وهم يستنزلون عليه لعنة هي في زعمهم أبشع اللعنات وأشدها أثراً- ألا وهي لعنة يستنزلها كاهن وهو يلفظ الأنفاس الأخيرة؛ وتنص كتب التشريع البرهمي على أن من أراد أن ينتزع روحه بيده، عليه صيام ثلاثة أيام، وأما من حاول الانتحار وفشل في إنجازه فعليه أن يؤدي أقسى ما عرفوه من كفارة وتوبة(210)، إلا أن الحياة مسرح له مدخل واحد ومخارج عدة.




صفحة رقم : 847




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> مقدمة



الباب الثامن عشر




فردوس الآلهة


لم تبلغ العقيدة الدينية من القوة أو الأهمية في أي قطر من أقطار الأرض ما بلغته في الهند؛ فلئن أباح الهنود لحكومات أجنبية أن تقوم عليهم مرة بعد مرة، فبعض السبب في ذلك هو أنهم لم يأبهوا كثيراً من ذا عسى أن يحكمهم أو أن يستغلهم- فسواء أكان هؤلاء من بني وطنهم أم من الأجانب- ذلك لأن الأمر الخطير في رأيهم هو الدين، لا السياسة؛ الروح لا البدن، هو الحيوات الآتية التي لا نهاية لعددها، لا هذه الحياة العابرة؛ وأن قوة الدين وتمكنها من أقوى الرجال بأساً لتظهر جلية في اصطناع "أشوكا" حياة القديسين، وفي إقبال " أكبر" على الديانة الهندية إقبالاً كاد يكون تاماً؛ وهانحن أولاء في عصرنا هذا نرى أن من وحد أجزاء الهند أمة واحدة رجل أقرب إلى القديسين منه إلى رجال السياسة.




صفحة رقم : 848




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية



الفصل الأول




الشطر الثاني من تاريخ البوذية




البوذية في أوجها- البلاغان - "ماهايانا" - البوذية




والرواقية والمسيحية - تدهور البوذية - انتشارها في




سيلان، وبورما، وتركستان، وتبت، وكمبوديا، والصين، واليابان


بلغت البوذية أوج رفعتها في الهند بعد موت "أشوكا" بمائتي عام؛ وقد كانت الفترة التي ارتفعت فيها البوذية من "أشوكا" إلى "هارشا" فترة صعود بمعان كثيرة، صعود في الدين والتعليم والفن؛ غير أن البوذية التي سادت لم تكن بوذية بوذا؛ والأقرب إلى الصواب أن نقول في وصفها أنها بوذية تلميذه الثائر "صَجاذا" الذي قال للرهبان عند سماعه بموت أستاذه : "كفى يا سادة! كفوا عن البكاء وعن الرثاء! فلقد تخلصنا من "سامانا" العظيم، لقد أسأمنا أن يقال لنا: هذا يجدر بكم وهذا لا يجدر، أما الآن ففي مقدورنا أن نصنع ما شاء لنا هوانا، وأما ما لا يصادف من نفوسنا هوى، فلن يلزمنا أحد على أدائه"(1).
وأول ما أوحت لهم حريتهم أن يصنعوه هو أن ينشقوا أحزاباً؛ فلم يمض على موت بوذا قرنان من الزمان، حتى انقسم تراثه ثمانية عشر مذهباً متبايناً فأما أتباع البوذية في جنوب الهند وجزيرة سيلان، فقد استمسكوا حيناً بمذهب صاحب العقيدة في بساطته وصفائه؛ وقد أطلق على هذه الشعبة من مذهبه فيما بعد اسم "هنايانا" ومعناها "البلاغ الأصغر" ؛ فقد عبدوا بوذا باعتباره معلماً عظيماً، لا إلهاً؛ وكان كتابهم المقدس هو النصوص المكتوبة باللغة "الباليّة" التي تبسط العقيدة في صورتها القديمة ؛ وأما في الأرجاء الشمالية من الهند والتبت ومنغوليا والصين واليابان،فالبوذية التي سادت هي التي يطلق عليها اسم "ماهايانا" ومعناها "البلاغ الأكبر" الذي رسم حدوده ونشر




صفحة رقم : 849




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية


دعوته "مجلس كانِشْكا" ؛ فأعضاء هذا المجلس، وهم من اللاهوتيون الموهوبين (من الوجهة السياسية) قد أعلنوا ألوهية بوذا وأحاطوه بالملائكة والقديسين، واصطنعوا تقشف "اليوجا" الذي عرف في "باتانجالي" وأصدروا باللغة السنسكريتية مجموعة جديدة من المراسيم المقدسة التي على الرغم من قبولها بعد حين قصير للشقشقة الميتافيزيقية والاسكولاتية إلا أنها قد أعلنت وأيدت عقيدة دينية أقرب إلى نفوس الناس من الصورة السوداء المتشائمة المتزمتة التي عرفت في "شاكيا موني".
كان مذهب "ماهايانا" بوذية خففت من حدتها آلهة وطقوس وأساطير برهمية، ولاءمت بين نفسها وبين حاجات قبائل التتار في "كوش" والمنغول في التبت، الذين بسط عليهم "كاتشكا" سلطانه؛ فقد صور ذلك المذهب جنة فيها بوذيون كثيرون، كان أحبهم إلى عامة الناس "أميدا بوذا" المخلص؛ وهذه الجنة وجهنم التي تقابلها كانتا ثواباً أو عقاباً لما يأتيه الناس على هذه الأرض من خير أو شر؛ وهذان العاملان الرادعان كان لهما أثر في تحويل بعض جنود الملك من رقابة سلوك الناس إلى خدمات أخرى؛ وأعظم القديسين في هذا اللاهوت الجديد هم فئة "بوذا بساتوا" ومعناها "بوذا المستقبل" الذين امتنعوا باختيارهم عن القيام بالنرفانا (ومعناها هنا التخلص من العودة إلى ولادة جديدة) التي كانت من حقهم وفي مقدورهم، وذلك لكي يولدوا في حياة بعد حياة، فيساعدوا غيرهم من الناس في هذه الدنيا والاهتداء إلى سواء السبيل وهؤلاء القديسون (مثلهم مثل نظائرهم في مسيحية البحر الأبيض المتوسط- سرعان ما ظفروا بحب الناس لهم حتى كاد عبادهم والمعجبون بهم من رجال الفن يزحمون بهم وبتماثيلهم مدافن العظماء؛ وازدهرت في البوذية كما ازدهرت في مسيحية العصور الوسطى- بل لعلها ظهرت في




صفحة رقم : 850




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية


البوذية في تاريخ أسبق - قدسية الآثار الباقية من السلف، واستخدم الماء المقدس، والشموع، والبخور، والمسبحة، والثياب الكهنوتية، ولغة الكهنوت الميتة، والرهبان والراهبات وقص الشعر والفردية مما تقتضيه حياة الأديرة والاعتراف والصيام أياماً معينة، وتدشين القديسين والتطهير والصلاة والدعاء للموتى؛ ولقد أصبح كتاب "ماهايانا" بالقياس إلى "هنايانا" أي البوذية الأولى ما كانت الكاثوليكية بالنسبة إلى الرواقية والمسيحية الأولى؛ فقد أخطأ بوذا- كما أخطأ لوثر- في ظنه أن شعائر الطقوس الدينية العلمية يمكن أن تحل محلها المواعظ والدروس الأخلاقية؛ وما أقرب الشبه بين نجاح البوذية حين امتلأت بالأساطير والمعجزات والاحتفالات والقديسين الذين يتوسطون بين الأرض والسماء بالنجاح الذي لقيته الكاثوليكية قديماً وحاضراً، لما فيها من زخرف وتمثيل، وانتصارها على المسيحية الأولى والبروتستنتية الحديثة في بساطتها الخالية من كل زخرف.
وإيثار عامة الناس لتعدد الآلهة والمعجزات والأساطير، هذا الإيثار نفسه الذي قضى على بوذية بوذا، قضى كذلك في نهاية الأمر على بوذية " البلاغ الأكبر " نفسها في الهند؛ ذلك لأن البوذية- ودعنا هاهنا نتحدث بحكمة المؤرخ التي تشرق بعد فوات الحوادث- إذا كانت لا تأخذ كل هذا الذي أخذته من الديانة الهندية ومن أساطيرها وطقوسها وآلهتها، فما كان ليمضى وقت طويل قبل أن تنمحي الفوارق بين الديانتين ولا يبقى من مميزات الواحدة من الأخرى إلا قليل جد قليل؛ وإذن تمتص إحداهما الأخرى شيئاً فشيئاً، والتي يتاح لها أن تطغي على الأخرى هي التي تكون أعمق الديانتين جذوراً




صفحة رقم : 851




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية


وأقربها إلى نفوس الناس وأكثرها مالاً وأعزها سنداً سياسياً؛ لهذا أخذت الخرافة- ولعلها أن تكون من جنسنا البشري بمثابة دماء الحياة- أخذت تتدفق من العقيدة الأقدم إلى العقيدة الأحدث تدفقاً سريعاً، حتى رأينا الظواهر الجنسية الانفعالية نفسها التي كانت من طقوس العقائد "الشاكتية" تلتمس لنفسها مكاناً في طقوس البوذية واستعاد البراهمة في صبر ودأب نفوذهم ورعاية السلطان لهم شيئاً فشيئاً؛ وأخيراً جاء نجاح الفيلسوف الشاب "شانكارا" في استعادة الكلمة العليا لكتب الفيدا، وجعلها أساسا للتفكير الهندي، بمثابة الخاتمة لزعامة البوذيين العقلية في الهند.
وجاءت الضربة القاضية من الخارج، وكانت البوذية نفسها هي التي هيأت لهذه الضربة سبيلها، على وجه من الوجوه؛ ذلك أن حسن السمعة التي كان يتمتع بها أتباع بوذا، واسمهم "سانفا" قد اجتذب إلى تلك الفئة- بعد عهد أشوكا- صفوة أهل "مجازا" وبهذا قضى على خير دماء القوم أن تفنى في طائفة من رجال الدين لا تتزوج ولا تجاهد في الحياة، فشكا بعض المحبين لوطنهم، حتى في أيام بوذا نفسه، من أن الراهب "جوتاما" لا يسمح للآباء أن ينسلوا الأبناء، ويؤدي بالأسر إلى الانقراض(5)؛ وكان من نتائج انتشار البوذية ونظام الأديرة في السنة الأولى من التاريخ المسيحي، أن امتصت من الهند عصارة الرجولة، وتآمر ذلك العامل مع عامل الانقسام السياسي، فأدى العاملان إلى فتح أبواب الهند للغزو الخارجي بغير عناء؛ ولما جاء العرب وأخذوا على أنفسهم أن ينشروا وحدانية بسيطة رواقية النزعة، نظروا في ازدراء إلى الرهبان البوذيين الكسالى الذي يفتحون أيديهم للرشوة ويتجرون بالمعجزات؛ وحطموا الأديرة وقتلوا ألوف الرهبان، ونفروا كل حريص على حياته من نظام الرهبنة في الدير، فأما من أفلتوا من يد القتل من هؤلاء الرهبان، فقد عادوا واندمجوا في الديانة الهندية التي كانت الأرومة الأولى




صفحة رقم : 852




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية


لهم؛ وفتحت هذه الديانة القديمة الأصلية صدرها تستقبل هؤلاء الزنادقة التائبين، وهكذا "قتلت البرهمية البوذية بضمة أخوية"(6).
ولا عجب فقد كانت البرهمية دائماً متسامحة، تجادل البوذية وغيرها من مئات المذاهب إبان ارتفاعها وسقوطها، بل قد تطيل معها الجدال، لكنك لن تجد في تاريخها كله مثلاً واحداً للاضطهاد، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ ترى البرهمية قد يسرت سبيل العودة لهؤلاء الخارجين عليها أن اعترفت ببوذا إلهاً (اعتبرته مجسداً للإله فشنو) وأقلعت عن التضحية بالحيوان، وقبلت في صميم طقوسها مذهب البوذيين في تقديس حياة الحيوان بأسره؛ وهكذا أخذت البوذية تختفي في هدوء وسلام من الهند، إبان خمسة قرون كانت خلالها نهباً لعوامل التدهور البطيء .
لكنها في ذلك الوقت نفسه كانت تكسب لنفسها كل ماعدا الهند من العالم الآسيوي تقريباً؛ فانتشرت أفكارها وأدبها وفنها في سيلان وشبه جزيرة الملايو في الجنوب، وفي التبت وتركستان في الشمال، وفي بورما وسيام وكمبوديا والصين وكوريا واليابان في الشرق؛ وعلى هذا النحو امتصت كل هذه الأصقاع- ماعدا الشرق الأقصى- ما استطاعت امتصاصه وهضمه من المدنية؛ بنفس الطريقة التي امتصت بها أوربا وروسيا الحضارة من الرهبان الرومانيين والبيزنطيين في العصور الوسطى؛ فمعظم هذه الأمم قد بلغ ذروة ثقافته بحافز من البوذية؛ ولقد لبثت "أنورا ذابورا" في سيلان من منذ عهد أشوكا حتى انحلال البوذية في القرن التاسع، إحدى المدن الكبرى في العالم الشرقي، وظل الناس هناك ألفي عام يعبدون شجرة التين المقدسة عند




صفحة رقم : 853




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية


البوذيين، وكان المعبد القائم على قمة جبال كاندي كعبة يحج إليها مائة وخمسون مليوناً من البوذيين في آسيا .
ولعل البوذية في بورما أخلص ما بقي من ألوان البوذية من الشوائب الدخيلة، وكثيراً ما يدنوا رهبانها من المثل الأعلى الذي ضربه بوذا؛ واستطاع أهل بورما البالغ عددهم ثلاثة عشر مليوناً من الأنفس أن يبلغوا بفضل تعاليم أولئك الرهبان مستوى من العيش أعلى مما في الهند بدرجة ملحوظة(7)؛ وكشف "سفن هيدن" و "أورل شتاين" و "بليوت" من جوف الرمال في بلاد التركستان مئات من المحفوظات البوذية وغيرها من شواهد الثقافة التي ازدهرت هناك منذ عهد "كانشكا" حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
وحدث في القرن السابع من تاريخنا المسيحي أن أقام المحارب المتنور "سترونج- تسانجامبو" حكومة قادرة في التبت وضم إليها ينبال، وبنى مدينة "لهاسا" لتكون عاصمة لها، وهيأ لها طريق الغنى بجعلها محطاً وسطاً في التجارة بين الصين والهند، ودعا طائفة من الرهبان البوذيين من الهند لينشروا البوذية والتعليم في شعبه، وعندئذ ترك الحكم أربعة أعوام أنفقها في تعلم القراءة والكتابة؛ فكأنما كان فاتحة عهد ذهبي في بلاد التبت؛ فأقيمت آلاف الأديرة في الجبال وعلى النجد الفسيح، ونشر كتاب تشريعي يضم الكتب البوذية، ويقع في ثلاثة وثلاثين وثمانمائة مجلد، حفظت للعلم الحديث كثيراً من أحوال هذه الكتب التي كانت قد ضاعت أصولها الهندية منذ زمن طويل(Cool، وهاهنا، في هذه الصومعة التي أغلقت أبوابها دون العالم بأسره، راحت البوذية تتطور في شبكة معقدة من الخرافات والرهبنة والكهنوت، لا ينافسها في ذلك سوى




صفحة رقم : 854




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الشطر الثاني من تاريخ البوذية


أوربا في أوائل عصورها الوسطى؛ ولا يزال "دالاي لاما" (أي الكاهن الشامل لكل شيء) الذي اختفى في دير بوتالا العظيم الذي يطل على مدينة لهاسا، موضع عقيدة عند أهل التبت، بما تنطوي عليه نفوسهم من السذاجة الطيبة، بأنه تجسيد حي "لبوذا المستقبل" (بوذا المنتظر)(9)؛ وفي كمبوديا والهند الصينية تعاونت البوذية مع الديانة الهندية في تخطيط الإطار الذي قامت عليه روائع الفن في عصر هو من أغنى العصور في تاريخ الفن الشرقي؛ وهكذا ترى البوذية- مثل المسيحية- قد ظفرت بأعظم انتصاراتها خارج الأرض التي أنبتتها، وإنما ظفرت بتلك الانتصارات دون أن تريق نقطة واحدة من دماء.




صفحة رقم : 855




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة



الفصل الثاني




الآلهة الجديدة




الديانة الهندية - براهما، فشنو، شيفا - كرشنا - كالي




الآلهة الحيوانية - البقرة المقدسة - تعدد الآلهة والوحدانية


لم تكن الديانة الهندية التي حلت محل البوذية ديانة واحدة، كلا ولا كانت مقتصرة على كونها عقيدة دينية؛ بل كانت خليطاً من عقائد وطقوس لا يشترك القائمون بها في أكثر من أربع صفات؛ فهم يعترفون بنظام الطبقات وبزعامة البراهمة، وهم يقدسون البقرة باعتبارها تمثل الألوهية على نحو تمتاز به من سواها، وهم يقبلون قانون "كارما" وتناسخ الأرواح، وهم يضيفون إلى آلهتهم الجديدة آلهة الفيدات؛ ولقد كان بعض هذه العقائد أسبق من عبادة الطبيعة التي جاءت بها الفيدا، كما ظلت قائمة بعد زوال تلك العبادة، وأما بعضها الآخر فقد نشأ من أن البراهمة كانوا يغضون أبصارهم عن ضروب من الطقوس والآلهة والعقائد لم ينص عليها كتابهم المقدس، بل تناقضه روح الفيدا مناقضة ليست باليسيرة؛ فأتيحت الفرصة لتلك العقائد أن تنضج في وعاء الفكر الديني عند الهنود، ومضت في نضجها ذاك حتى في الفترة العابرة التي ارتفعت فيها البوذية إلى مكان السيادة العقلية في البلاد.
كان آلهة العقيدة الهندية يتميزون بكثرة أعضائهم الجسدية التي يمثلون بها على نحو غامض قدرتهم الخارقة في العلم والنشاط والقوة؛ "فبراهما" الجديد كان له أربعة وجوه، وكان لـ "كارتكيا" ستة وجوه، ولـ "شيفا" ثلاثة أعين، ولـ "هندرا" ألف عين؛ وكل إله عندهم تقريباً كان له أربع أذرعة(10) وعلى رأس هذه المجموعة الجديدة من الآلهة "براهما" الذي كان له من الشهامة ما أبعده عن الميل مع الهوى، وهو سيد الآلهة المعترف له بتلك السيادة، على الرغم




صفحة رقم : 856




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة


من أنه مهمل في شعائر العبادة الفعلية إهمال الملك الدستوري في أوربا الحديثة؛ و"براهما" و"شيفا" و"فشنو" هم الثلاثة الآلهة (لا الثالوث) الذي يسيطرون على الكون، وأما "فشنو" فهو إله الحب الذي كثيراً ما انقلب إنسانا ليتقدم بالعون إلى بني الإنسان؛ وأعظم من يتجسد فيه "فشنو" هو "كرشنا" ، وهو في صورته "الكرشنية" هذه، قد ولد في سجن وأتى بكثير من أعاجيب البطولة والغرام، وشفى الصم والعمي، وعاون المصابين بداء البرص، وذاد عن الفقراء، وبعث الموتى من قبورهم؛ وكان له تلميذ محبب إلى نفسه، وهو "أرجونا" ، وأمام "أرجونا" تبدلت خلقة "فشنو" حالاً بعد حال؛ ويزعم بعض الرواة أنه مات مطعوناً بسهم، ويزعم آخرون أنه قتل مصلوباً على شجرة؛ وهبط إلى جهنم ثم صعد إلى السماء، على أن يعود في اليوم الآخر ليحاسب الناس أحياءهم وأمواتهم(11).
الحياة، بل الكون كله، لها في رأي الهندي ثلاثة وجوه رئيسية: الخلق، والاحتفاظ بالمخلوق، ثم الفناء؛ ومن ثم كان للألوهية عنده ثلاث صور: براهما الخالق، وفشنو الحافظ، وشيفا المدمر؛ تلك هي "الأشكال الثلاثة" التي يقدسها الهنود أجمعين ماعدا الجانتيين منهم ؛ والناس منقسمون بحبهم طائفتين: إحداهما تميل إلى ديانة فشنو، والأخرى إلى ديانة شيفا؛ وكلتا العقيدتين بمثابة الجارتين المسالمتين، بل قد تتقدم كلتاهما بالقرابين في معبد واحد(13)، والحكماء من البراهمة- تتبعهم الأكثرية العظمى من سواد الناس- تكرم الإلهين معاً بغير تمييز لأحدهما؛ أما الفشنيون الأتقياء فيرسمون




صفحة رقم : 857




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة


على جباههم كل صباح بالطين الأحمر علامة فشنو، وهي شوكة ذات أسنان ثلاث؛ وأما الشيفيون المخلصون لعقيدتهم فيرسمون ثلاثة خطوط أفقية على جباههم برماد من روث البقر، أو يلبسون "اللنجا"- رمز عضو الذكورة- ويربطونه على أذرعتهم أو يعلقونه حول أعناقهم(14).
وعبادة "شيفا" هي من أقدم وأعمق وأبشع العناصر التي منها تتألف الديانة الهندية؛ فيقدم لنا "سير جون مارشل" "دليلاً لا يأتيه الباطل" على أن عقيدة "شيفا" كانت موجودة في "موهنجو- دارو"، متخذة أحياناً صورة شيفا ذي الرءوس الثلاثة، وأحياناً أخرى صورة أعمدة حجرية صغيرة، يزعم لنا أنها ترمز لعضو الذكورة على نحو ما ترمز له عندهم بدائلها في العصر الحديث؛ وهو يخلص من ذلك إلى نتيجة هي أن "العقيدة الشيفية أقدم عقيدة حية في العالم كله" .
واسم الإله- أعني كلمة شيفا- لفظة أريد بها التخفيف من بشاعة هذا الإله، فالكلمة شيفا معناها الحرفي "العطوف" مع أن شيفا في حقيقة الأمر إله القسوة والتدمير قبل كل شئ آخر؛ هو تجسيد لتلك القوة الكونية التي تعمل واحدة بعد أخرى، على تخريب جميع الصور التي تتبدى فيها حقيقة الكون- جميع الخلايا الحية وجميع الكائنات العضوية، وكل الأنواع، وكل الأفكار وكل ما أبدعته يد الإنسان، وكل الكواكب، وكل شيء؛ ولم يسبق الهنود شعب قط في شجاعتهم في مواجهة الحقيقة التي هي عدم ثبات الأشياء على صورها ووقوف الطبيعة من كل شئ موقف الحياد، مواجهة صريحة ؛ولم يسبقهم شعب قط في اعترافهم اعترافاً واضحاً بأن الشر يتوازن مع الخير، والهدم




صفحة رقم : 858




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة


يساير الخلق خطوة خطوة، وأن ولادة الأحياء بأسرها جريمة كبرى عقابها الموت؛ فالهندي الذي تعذبه آلاف العوامل من عثرة الحظ والآلام، يرى في تلك الألوان من التعذيب أثراً ينم عن قوة نشيطة يمتعها- فيما يظهر- أن تحطم كل ما أنتجه براهما، وهو القوة الخالقة في الطبيعة؛ إن "شيفا" ليطرب راقصاً إذا ما سمع نغمة العالم فأدرك منها عالماً لا يني يتكون وينحل ويعود إلى التكون من جديد.
ولكن كما أن الموت عقوبة الولادة، فكذلك الولادة تخييب لرجاء الموت؛ فالإله نفسه الذي يرمز للتدمير، يمثل كذلك للعقل الهندي تلك الدفعة الجارفة نحو التناسل الذي يتغلب على موت الفرد باستمرار الجنس؛ وهذه الحيوية الخلاقة الناسلة (شاكتي) التي يبديها شيفا- أو الطبيعة- تتمثل في بعض جهات الهند، وخصوصاً في البنغال، في صورة زوجة شيفا، واسمها "كالي" (بارفاتي، أو أوما أو درجا) وهي موضع عبادة في عقيدة من العقائد الكثيرة التي تأخذ بمذهب "الشاكتي" هذا؛ ولقد كانت هذه العبادة- حتى القرن الماضي- وحشية الطقوس كثيراً ما تتضمن في شعائرها تضحية بشرية، لكن الآلهة اكتفت بعدئذ بضحايا الماعز(17)؛ وهذه الآلهة صورتها عند عامة الناس شبح أسود بفم مفغور ولسان متدل، تزدان بالأفاعي وترقص على جثة ميتة؛ وأقراطها رجال موتى، وعقدها سلسلة من جماجم، ووجهها وثدياها تلطخها الدماء(18) ومن أيديها الأربعة يدان تحملان سيفاً ورأساً مبتوراً، وأما اليدان الأخريان فممدودتان رحمة وحماية؛ لأن "كالي- بارفالي" هي كذلك الإله الأمومة كما أنها عروس الدمار والموت؛ وفي وسعها أن تكون رقيقة الحاشية كما في وسعها أن تكون قاسية، وفي مقدورها أن تبتسم كما في مقدورها أن تقتل؛ ولعلها كانت ذات يوم إلهة أماً في سومر، ومن ثم جاءت إلى الهند قبل أن تتخذ هذا الجانب البشع من جانبيها(19) ولاشك أنها هي وزوجها قد اتخذا أبشع صورة ممكنة لكي يلقيا الرعب في نفوس الرعاديد من



أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:09 pm

صفحة رقم : 859




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة


عبادها فيحتشموا، أو قد تكون هذه البشاعة كلها قد أريد بها أن يلقي الرعب في نفوس العباد فيجودوا بالعطاء للكهنة .
تلك هي أعظم آلهة الهندوسيين، لكنا لم نذكر إلا خمسة من ثلاثين مليوناً من الآلهة تزدحم بها مقبرة العظماء في الهند؛ ولو أحصينا أسماء هاتيك الآلهة لاقتضى ذلك مائة مجلد؛ وبعضها أقرب في طبيعته إلى الملائكة، وبعضها هو ما قد نسميه نحن بالشياطين، وطائفة منها أجرام سماوية مثل الشمس، وطائفة منها تمائم مثل "لاكشمي" (إلهة الحظ الحسن)، وكثير منها هي حيوانات الحقل أو طيور السماء؛ فالهندي لا يرى فارقاً بعيداً بين الحيوان والإنسان، فالحيوان روح كما للإنسان، والأرواح تمضي دواماً متنقلة من بني الإنسان إلى بني الحيوان، ثم تعود إلى بني الإنسان مرة أخرى؛ وكل هذه الصنوف الإلهية قد نسجت خيوطها في شبكة واحدة لا نهاية لحدودها، هي "كارما" وتناسخ الأرواح؛ فالفيل مثلاً قد أصبح الإله "جانيشا" واعتبروه ابن شيفا(21)، وفيه تتجسد طبيعة الإنسان الحيوانية، وكانت صورته في الوقت نفسه تتخذ طلسماً يقي حامله من الحظ السيئ؛ كذلك كانت القردة والأفاعي مصدر رعب، فكانت لذلك من طبيعة الآلهة؛ فالأفعى التي تؤدي عضة واحدة منها إلى موت سريع، واسمها "ناجا" كان لها عندهم قدسية خاصة؛ وترى الناس في كثير من أجزاء الهند يقيمون كل عام حفلاً دينياً تكريماً للأفاعي، ويقدمون العطايا من اللبن والموز لأفاعي "الناجا" عند مداخل جحورها(22)؛ كذلك أقيمت المعابد تمجيداً للأفاعي كما هي الحال في شرقي ميسور، وهناك في هذه المعابد تسكن جموع زاخرة من الزواحف، ويقوم




صفحة رقم : 860




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة


الكهنة على إطعامها والعناية بها(23)؛ وللتماسيح والنمور والطواويس والببغاوات، بل والفئران حقها من العبادة(24).
وأكثر الحيوان قدسية عند الهندي هي البقرة، فنرى تماثيل الثيرة مصنوعة من كل مادة وفي شتى الأحجام تراها في المعابد والمنازل وميادين المدن؛ وأما البقرة نفسها فأحب الكائنات الحية جميعاً إلى الهنود، ولها مطلق الحرية في ارتياد الطرقات كيف شاءت، وروثها يستخدم وقوداً أو مادة مقدسة يتبركون بها، وبولها خمر مقدس يطهر كل ما في الجسم من نجاسة في الظاهر والباطن؛ ولا يجوز للهندي تحت أي ظرف أن يأكل لحمها أو أن يصطنع من جلدها لباساً يرتديه- فلا يصنع منه غطاء للرأس ولا قفازاً ولا حذاء؛ وإذا ماتت البقرة وجب دفنها بجلال الطقوس الدينية(25)، ولعل السياسة الحكيمة هي التي رسمت فيما مضى هذا التحريم احتفاظاً للزراعة بحيوان الجر حتى يسد حاجة السكان الذين يتكاثرون(26)، وقد بلغ عدد البقر اليوم ربع عدد السكان(27) ووجهة نظر الهندي في ذلك هي أنه ليس أبعد عن المعقول أن تشعر بالحب العميق للبقرة والمقت الشديد لفكرة أكلها، من أن تكن أمثال هذه المشاعر للحيوانات المستأنسة من قطط وكلاب، لكن الذي يبعث على السخرية المرة في الأمر هو عقيدة البراهمة بأن الأبقار لا يجوز ذبحها قط، وأن الحشرات لا يحل إيذاؤها قط، وأن الأرامل من النساء ينبغي أن يحرقن أحياء؛ فحقيقة الأمر هي أن عبادة الحيوان قد ظهرت في تاريخ الشعوب كلها، فإن جاز للإنسان أن يؤلمه الحيوان اطلاقاً، فالبقرة الرحيمة الهادئة حقها في هذا التقديس؛ ولا يجوز لنا أن نغلو في كبريائنا حين تأخذنا الدهشة لهذه المعارض الحيوانية من آلهة الهنود، فلنا كذلك إبليس عدن في صورة حية، والثور الذهبي في العهد القديم من الإنجيل، والسمك المقدس في سراديب الموتى، وحمل الله الوديع.
إن سر تعدد الآلهة هو عجز العقل الساذج عن التفكير فيما ليس




صفحة رقم : 861




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> الآلهة الجديدة


مشخصاً؛ فأيسر عليه أن يفهم الأشخاص من أن يعقل القوى، وأن يفهم الإرادات من أن يتصور القوانين(28)، والظن عند الهندي هو أن حواسنا البشرية لا ترى من الحوادث التي تدركها سوى ظاهرها، ويعتقد أن وراء هذه الظواهر كائنات روحية لا حصر لعددها، يمكن إدراكها بالعقل لا بالحواس- على حد تعبير "كانت"؛ ولقد أدى تسامح البراهمة ذو المسحة الفلسفية، إلى الزيادة من ذخيرة آلهتهم حتى ازدادت كثرة على كثرة، وذلك أن الآلهة المحليين وآلهة القبائل المختلفة قد صادفت عند الهندي سهلاً ومرحباً، فقبلها وفسرها بأنها جميعاً تصور جوانب من آلهته الأصلية؛ فكل عقيدة يسمح لها بالدخول عندهم إن كان في مستطاعها أن تدفع الضريبة على ذلك؛ حتى كاد كل إله آخر الأمر أن يكون صورة أو صفة أو تجسيداً لإله آخر، ثم تناول العقل الهندي الرشيد كل هذه الآلهة فدمجها في إله واحد؛ هكذا تحول تعدد الآلهة إلى عقيدة بوحدة الوجود، أوشكت عندهم أن تكون توحيداً، والتوحيد بدوره أوشك أن يكون عندهم واحدية فلسفية؛ فكما يتوجه المسيحي الورع بالدعاء إلى العذراء، أو إلى قديس من آلاف القديسين ومع ذلك لا يتحول عن توحيده لله، بمعنى أنه لا يعترف إلا بإله واحد على أنه ذو الجلال الأسمى، فكذلك الهندي يتوجه بالدعاء إلى "كالي" أو "راما" أو "كرشنا" أو "جانيشا" دون أن يتطرق إلى ذهنه لحظة واحدة أن هذه آلهة لها السيادة العليا فترى بعض الهنود يتخذ من "فشنو" إلهاً أعلى، وبعضهم يتخذ من "شيفا" إلهاً أعلى، ويجعل فشنو أحد ملائكته؛ وإذا وجدت بين الهنود أقلية تعبد "براهما" فما ذلك إلا لأنه مجرد عن التشخص، ممتنع على الحواس، بعيد عن البشر، ولهذا السبب عينه ترى معظم الكنائس في البلاد المسيحية قد أقيمت تكريماً لمارية أو لأحد القديسين، وكان على المسيحية أن تنتظر حتى يجيئها فولتير فيقيم معبداً لله.




صفحة رقم : 862




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد



الفصل الثالث




العقائد




كتب "بيورانا" - عودة الكون بالتناسخ مرة بعد مرة




تقمص الروح في عدة أجساد - "كارما" - جوانبها




الفلسفية - الحياة باعتبارها شراً - الخلاص


ويمتزج بهذا اللاهوت المعقد، مجموعة معقدة من الأساطير فيها التخريب وفيها عمق الفكرة في آن معاً؛ فلما كانت كتب الفيدا قد دفنت في اللغة التي كتبت بها، ثم لما كانت فلسفة البراهمة الميتافيزيقية تجاوز حدود أفهام الناس، فقد نهض "فياسا" وآخرون في مدة تطاولت إلى ألف عام (من 500 ق.م إلى 500 م) وأنشئوا كتب "بيورانا"- ومعناها القصص القديمة- أنشئوها شعراً في أربعمائة ألف دوبيت (الدوبيت بيتان من الشعر) يعرضون فيها لعامة الناس حقيقة خلق العالم بصورتها الدقيقة، وما يطرأ عليه من مراحل الكون والفساد المتعاقبة على فترات دورية، ونسب الآلهة، وتاريخ عصر البطولة؛ وليست تدعي هذه الكتب لنفسها قالباً أدبياً ولا نظاماً منطقياً، ولا اعتدالاً في تقدير الأشياء بالأعداد، من ذلك مثلاً أنها تذكر عن الحبيبين "إرفاشي" و "بورورافاس" أنهما قضيا واحداً وستين ألف عام في سرور وغبطة (30)؛ لكنها مع ذلك أصبحت للديانة الهندية إنجيلاً ثانياً لوضوح لغتها وروعة قصصها وسلامة العقيدة التي تشرحها، كما أصبحت تلك الكتب للديانة الهندية مستودعاً عظيماً لخرافاتها وأساطيرها، بل وفلسفتها؛ فهناك على سبيل المثال قطعة من "فشنوبورانا" تعبر عن أقدم فكرة جالت برأس الهندي وما فتئت تعاوده على طول الزمن- وأعني بها الفكرة القائلة بأن استقلال الأفراد في ذوات منفصل بعضها عن بعض، وهم، وأن الحياة كلها حقيقة واحدة :




صفحة رقم : 863




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد




"جاء "ربهو" بعد ألف عام.




إلى "نداغا" في مدينته ليزيده علماً.




فرآه خارج المدينة.




في نفس اللحظة التي كان الملك فيها على وشك الدخول بحشد كبير من الأتباع،




رآه واقفاً على معبده، معتزلاً بنفسه عن الزحام،




ذاوي العنق من أثر الصيام، وكان في طريقه عائداً من الغابة ومعه بعض الوقود والكلأ




لما رآه "ربهو" قصد إليه وحياه قائلاً:




"أيها البرهمي! فيم وقوفك هاهنا وحيداً؟"




فقال "نداغا" : "انظر إلى الحشد محيطاً بالملك




الذي يوشك أن يدخل المدينة؛ هذا هو علة وقوفي وحيداً"




فقال "ربهو" : "أي هؤلاء يكون الملك؟




ومن عسى أن يكون الآخرون؟




أنبئني فيبدو عليك أنك بالأمر عليم"




فقال "نداغا" : "إن من يركب الفيل الأحمر،عالياً برأسه كأنه قمة الجبل




هذا هو الملك، والآخرون هم تابعوه".




فقال "ربهو" : "إنك تشير إلى هذين، إلى الملك والفيل




دون أن تميز بينهما بفاصل




قل لي أين أجد الفاصل بين هذا وذاك؟




أريد أن أعلم أي هذين هو الملك، وأيهما يكون الفيل؟"




فقال "نداغا" : "الفيل أسفل، والملك من فوقه،






صفحة رقم : 864




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد




من ذا الذي لا يعلم علاقة الحامل بالمحمول؟"




فقال "ربهو" : "علمني ذلك فقد أستطيع تعلمه"،




ما هذا الذي تشير إليه بقولك "أسفل" وبقولك "فوقه"؟




فوثب نداغا من فوره على المعلم وخاطبه قائلاً:




"هاأنذا أعلمك ما أردت أن تتعلمه مني،




أنا "أعلى" مثل الملك وأنت "أسفل" مثل الفيل،




وإنما أسوق لك هذا المثل لأعلمك"




فقال ربهو: "إذا كنت في موضع الملك، وأنا في موضع الفيل




فما أزال أطلب منك أن تنبئني: أينُّا أنت أينُّا أنا؟"




فما لبث نداغ أن جثا أمامه وأمسك بقدميه وقال:




"حقاً إنك "ربهو" أستاذي ...




بجوابك هذا عرفت أنك أنت شيخي قد أتى "




فقال "ربهو": "نعم، جئت لأعلمك




لأنك فيما سبق أبديت استعداداً لخدمتي،




أنا هو "ربهو" قد جئت إليك




وهذا الذي علمتك إياه اختصاراً-




وهو صميم الحقيقة العليا- يتلخص في نفي الثنائية من الوجود"




وبعد أن فرغ الشيخ "ربهو" من حديثه هذا مع نداغا، مضى لسبيله




ومن ثم أدار نداغا فكره- مهتدياً بهذا الدرس الرمزي الذي تعلمه- فركزه كله في اللاثنائية






صفحة رقم : 865




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد




ومن ذلك الحين أخذ ينظر في الكائنات كلها فلا يجد فيها ما يفرق شيئاً منها عن نفسه




وبهذا شاهد براهما، وحقق الخلاص الأعظم.


في كتب "بيورانا" هذه، وفي أمثالها من آثار الهند في عصورها الوسطى، تقرأ نظرية عن الكون بعينها النظرية التي يقول بها العصر الحديث؛ فليس هناك خلق بمعنى التكوين بعد العدم، إنما هو كون يعقبه فساد أبد الدهر، هو نماء يعقبه ذبول، دورة بعد دورة؛ كهذا الذي تراه متمثلاً في كل نبات في العالم وكل حيوان؛ والذي يحفظ مراحل هذه السيرة فلا تقف دورتها، هو براهما- أو إن شئت فقل براجاباتي كما يسمى الخالق في هذه الكتب التي نحن الآن بصددها- براهما هو القوة الروحية التي تفعل ذلك، ولسنا ندري كيف بدأ العالم، إن كانت للعالم بداية؛ يجوز أن يكون براهما- كما تذهب كتب بيورانا- قد جعل بداية العالم بيضة ثم احتضنها حتى أفرخت؛ ويجوز أن يكون هذا العالم غلطة عابرة من الصانع، أو فكاهة رأى فيها قليلاً من تسلية(32)؛ وكل دورة- أو كالبا كما يسمونها- في تاريخ الكون منقسمة إلى عصور كبرى- ويسمون كل عصر منها ماهايوجا- طول الواحد منها 000ر320ر4 عام؛ ثم ينقسم كل "ماهايوجا" إلى أربعة "يوجات"- أي عصور "يطرأ على الجنس البشري خلالها تدهور تدريجي؛ ولقد مضت ثلاثة أعصر من "الماهايوجا"- أي العصر الأعظم- الحاضر، بلغ مداها 888ر888ر3 عام، ونحن الآن نعيش في العصر الرابع- ويسمونه "اليوجا الكالي" ومعناها عصر الشقاء؛ ومن هذه المرحلة الرابعة انسلخ 035ر5 عام، وبقى منها 965ر426عام، وعندئذ يصيب العالم موت من ميتاته الدورية، بعدها يبدأ براهما يوماً آخر من "أيام براهما" وما يومه إلا "كالبا" أي دورة طولها 000ر000ر320ر4عام؛ وفي كل دورة "كالبية" من هذه الدورات يتطور الكون بفعل العوامل الطبيعية ماراً بالخطوات الطبيعية، وبفعل العوامل




صفحة رقم : 866




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد


الطبيعية ماراً بالخطوات الطبيعية يعود إلى الانحلال، وفناء العالم كله لا يقل في يقينه عن موت فأر؛ وليس هناك غاية نهائية يتحرك كله في نظر الفيلسوف بأخطر من موت الفأر؛ وليس هناك غاية نهائية يتحرك نحوها الكون، أي ليس هناك "تقدم" بل كل ما هناك تكرار لا ينتهي(33).
وحدث إبان هذه العصور صغراها أن تحولت بلايين الأنفس من نوع إلى نوع ومن جسم إلى جسم ومن حياة إلى حياة في دورات من التناسخ تبعث الملل لتكرارها؛ فليس الفرد فرداً في حقيقة أمره، وإنما هو حلقة في سلسلة الحياة، وصفحة واحدة من تاريخ نفس من الأنفس؛ والنوع من الأحياء ليس في حقيقة أمره نوعاً قائماً بذاته، لأن الأنفس الحالّة في هذه الزهور أو هذه البراغيث ربما كانت أمس، أو ربما تكون غداً، أرواحاً من أرواح البشر؛ فالحياة كلها واحدة؛ وإذن فالإنسان إن هو إلا إنسان إلى حد ما؛ لأنه كذلك حيوان ، ولا تزال عالقة به نتف وأصداء من حيواته الدنيا الماضية، مما يجعله أقرب صلة بالحيوان منه إلى الحكيم من الناس؛ إن الإنسان جزء من طبيعة لا أكثر ، فليس هو من هذه الطبيعة مركزها ولا سيدها(34)، والحياة الواحدة في الفرد ليست إلا فصلاً واحداً من سيرة نفس واحدة، وليست هي كل ما تتألف منه هذه النفس؛ فكل صورة من صور الأحياء مصيرها التغير، وأما الحقيقة فدائمة وواحدة؛ والأبدان الكثيرة التي تحل فيها النفس واحداً بعد واحد، شبيه بالأعوام أو بالأيام في حياة الفرد الواحد، وقد تعلو بالنفس نحو النماء حيناً أو قد تهبط بها نحو الذبول حيناً آخر؛ فكيف يمكن لحياة الفرد الواحد، وهي على هذه الحالة من القصر في تيار الأجيال المتعاقبة العنيف الجارف، فكيف يمكن أن تشتمل على كل ما للنفس الفردة من تاريخ، أو أن تهيئ لها ما هي جديرة به من




صفحة رقم : 867




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد


عقاب أو ثواب على شرها أو خيرها؟ وإذا فرضنا للنفس خلوداً، فكيف يجوز لحياة واحدة قصيرة أن تقرر مصيرها إلى الأبد؟
يقول الهندي إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس تعاني العذاب أو تتمتع بالثواب، جزاء وفاقاً لما وقع من النفس في حياة ماضية من رذيلة أو فضيلة؛ إذ يستحيل على فعل صغير أو كبير، خير أو شرير، أن يمضى بغير أثر؛ إن كل شئ لا بد له من أثر يظهر ذات يوم، ذلك هو قانون "كارما"- ومعناه قانون الفعل- أو قانون السببية في دنيا الروح، وهو أسمى قوانين العالم وأبشعها؛ فإذا أقام إنسان العدل، وكان رحيماً دون أن يقترف خطيئة، فيستحيل أن يجيء جزاؤه في مرحلة واحدة فانية من مراحل الحياة، بل يمتد نطاقه إلى حيوات أخرى يولد فيها ليكون ذا مكانة أعلى وحظ أوفر، لو ظل على فضيلته الأولى؛ أما إن عاش حياته عيش الرذيلة، أعيدت ولادته في حياة تالية منبوذاً أو ابن عِرْس أو كلباً ، وقانون "كارما" هذا- مثل قانون القَدَر عند اليونان- هو فوق الآلهة والبشر معاً لأن الآلهة أنفسهم لا يستطيعون تغيير سننه التي يطّرد فعلها؛ أو إن شئت فقل ما قاله رجال اللاهوت، وهو أن "كارما" وإرادة الآلهة أو فعلها، شيء واحد بذاته(38)، لكن ليس "كارما" و "القدر" بشيء واحد، لأن "القدر" يتضمن عجز الإنسان عن تقرير مصير نفسه، أما "كارما" فتجعل الإنسان (إذا أخذنا كل حيواته جملة واحدة) خالق مصير نفسه؛ وليست الجنة والجحيم بخاتمة ينتهي عندها فعل "كارما" ، وهو سلسلة الولادات والميتات؛ نعم إن الروح بعد موت جسدها، يجوز




صفحة رقم : 868




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد


أن ترسل إلى الجحيم لتلقى عذابها على جرم بعينه، أو أن ترسل إلى الجنة لتنعم بجزاء سريع على فشيلة بذاتها لكن يستحيل على روح أن تقيم في الجحيم، وقليل من الأرواح هي التي يسمح لها بالإقامة في الجنة إلى الأبد؛ ذلك لأن الروح لا بد لها بعد فترة تقضيها في الجنة أو الجحيم، أن تعود إلى الأرض من جديد، لتنفذ بحياة جديدة ما يقضي به عليها "كارما"
كان هذا المذهب صادقاً من الوجهة البيولوجية إلى حد كبير، فلا ريب في أننا حقاً تجسيد جديد لأسلافنا، وسنعود بدورنا فنتجسد من جديد في أبنائنا، وعيوب الآباء تهبط على الأبناء إلى حد ما(ولو أنها لا تهبط بالمقدار الذي يفرضه الجامدون الخيرون) حتى ولو بعد أجيال كثيرة؛ فقد كان "كارما" أسطورة بارعة في صرف الحيوان البشري عن القتل والسرقة والمماطلة والتقتير في العطايا، فضلاً عن أنها وسعت من نطاق الوحدة الخلقية والشعور بالواجب حتى شمل ذلك النطاق مراحل الحياة كلها، ومهدت أمام التشريع الخلقي سبيل التطبيق على نطاق أوسع رقعة وأكثر منطقاً مما وجده في أية حضارة




صفحة رقم : 869




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد


أخرى، فالهنود الأخيار لا يقتلون الحشرات إذ وسعهم ذلك، " وحتى أولئك الذين يتواضعون منهم في طموحهم الخلقي يعاملون الحيوان معاملتهم لأخوة لهم أدنى شأناً، لا معاملتهم لكائنات أحط نوعاً سلطهم الله عليهم"(41)، وقد فسرت "كارما" للهنود- من الوجهة الفلسفية- كثيراً من الحقائق التي كانت تكون بغيرها غامضة المعنى أو مجحفة إجحافاً يوغر الصدور؛ فهذه الفوارق الأزلية التي تفرق بين أقدار الناس والتي تخيب آمال الناس منذ الأزل في المساواة والعدل؛ وهذه الشرور في صورها المختلفات التي تسود وجه الأرض وتصبغ بحمرة الدماء مجرى للتاريخ؛ وهذه الآلام التي تدخل حياة الإنسان مع ولادته ثم يصاحبه حتى وفاته؛ كل هذه وهذه وتلك بدت معقولة للهندي إذا ما انعقد في "كارما" ؛ ذلك لأن هذه الشرور وهذا الظلم وهذه الفوارق المتدرجة من الخبل العقلي إلى النبوغ، وهذه الدرجات من الفقر والغني، كل هذه نتيجة للحيوات الماضية وهي نتيجة لازمة تترتب على فعل قانون، إن رأيته ظالماً مدى حياة واحدة أو لحظة واحدة، فستراه أعدل ما تكون القوانين في نهاية الأمر كله ، فكارما إحدى الوسائل الكثيرة التي ابتكرها الإنسان لنفسه لتعينه على تحمل الشر صابراً، وعلى مواجهة الحياة متفائلاً؛ فالمهمة التي اضطلعت بها معظم الديانات وحاولت أداءها هي أن تفسر الشر وأن تشرح للناس نظاماً كونياً يبرر لهم أن يقبلوا الشر جزءاً منه، قبولاً إلا يكن مليئاً بالبِشْر، فحسبه أن يكون مصحوباً بسكينة الفؤاد، ولما كانت مشكلة الحياة الحقيقية ليست هي آلامها، لكنها الآلام التي تصادف من لا يستحقونها، فإن ديانة الهند تخفف من هذه المأساة البشرية بأن تخلع




صفحة رقم : 870




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد


على الحزن والألم شيئاً من المعنى وقدراً من القيمة؛ فللروح- بناء على اللاهوت الهندي- هذا العزاء على الأقل، وهو أنها لا بد لها أن تتحمل نتائج فعلها وحدها دون أفعال سواها؛ فما لم تضجر الروح من الوجود كله جملة واحدة ، فستجد نفسها راضية عن الشر باعتباره عقاباً عابراً مؤقتاً، وسترقب تحقيق آمالها في ثوابها على ما أتت من فضيلة.
لكن الهنود في حقيقة الأمر يرتابون في قيمة الوجود كله جملة واحدة؛ ذلك أنه لما كانت البيئة ترهق قواهم إرهاقا، ولما كان الحاكم يذل قوميتهم إذلالاً، ويستغل مواردهم استغلالاً، فقد مالوا إلى النظر إلى الحياة على أنها عقوبة مُرة أكثر منها فرصة سانحة أو ثواباً يرتجى؛ فكتب الفيدا التي كتبها القوم وهم أشداء عند قومهم من الشمال، كانت في تفاؤلها لا تقل عما يكتبه اليوم أديبنا "وتمن"؛ ومضت خمسمائة عام، وظهر بوذا من هؤلاء القوم أنفسهم، لكنه أنكر قيمة الحياة؛ ثم مضت خمسة قرون أخرى، وظهرت كتب " بيورانا " فعبرت عن نظرة بلغت في تشاؤمهما حداً لم يبلغه متشائم في الغرب، إذا استثنينا لحظات شرودا من الشك الفلسفي ؛ لقد تعذر على الشرق- حتى تناوله أطراف الثورة الصناعية- أن يفهم هذه الحماسة التي يقبل بها الغرب على الحياة ، ولم يجد إلا سذاجة وطفولة في مشاغلنا التي لا تعرف الرحمة، ومطامعنا التي لا تقنع، ورسائلنا التي تحطم الأعصاب وتوفر العمل،




صفحة رقم : 871




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد


وتقدمنا وسرعة سيرنا؛ لم يفهم الشرق من الغرب هذا الانغماس العميق في سطوح دون لبابها ، ولا هذا الرفض الماكر منه أن يواجه حقائق الوجود مواجهة صريحة؛ لكن الغرب في الوقت نفسه لم يستطع أن يسبر في الشرق التقليدي أغوار هذا السكون الهامد، ولا هذا "الركود" و "اليأس" ؛ إلا أن الحرارة لا تفهم البرودة.
"ياما" يوجه السؤال إلى "يودشتيرا" قائلاً: "ما أعجب شئ في العالم؟" فيجيبه "يودشتيرا": "أن يموت الإنسان في أثر الإنسان، وأن يرى الناس ذلك ثم ينطلق في سعيهم كأنهم من الخالدين"(44) وجاء في "الماهابهاراتا": "العالم مصاب بكارثة الموت، ومقيد في نشاطه بالشيخوخة، والليالي متتابعات، تأتي ثم تمضي، لا تتخلف أبداً؛ فإذا ما أيقنت أن الموت يستحيل عليه الوقوف، فماذا أرتجي من السير تحت غطاء من الحكمة"(45)؛ وتدعو "سيتا" في "رامايانا" لما رأت أن ثوابها على وفائها رغم ما يصادفها من إغراء ومحنة هو الموت ولا شئ غير الموت، تدعو قائلة:


لو كنت بوفائي لزوجي قد برهنت على أني زوجة أمينة.




فيا أمنا الأرض أريحي ابنتك "سيتا" من أعباء هذه الحياة(46).


وهكذا ترى الكلمة الأخيرة في التفكير الديني عند الهنود هي ما يسمونه "فكشا" ومعناها الخلاص- الخلاص أولاً من الشهوة، ثم الخلاص من الحياة؛ والنرفانا هي هذا الخلاص أو ذاك، لكنها لا تبلغ غاية أمدها إلا إذا تحقق الخلاصان معاً؛ ولقد عبر الحكيم "بهارتري- هاري" عن الخلاص الأول فقال:
"إن كل شئ على الأرض يبرر الخوف، والطريق الوحيدة للخلاص من الخوف هي في إنكار الشهوات إنكاراً تاماً ... لقد مضى على عهد كانت تطول فيه أيامي حين كان سؤال الحسنة من الأغنياء يثخن في قلبي أليم الجراح؛ ثم بدت أيامي قصيرة كل القصر حين جعلت أسعى نحو تحقيق كل رغباتي وغاياتي




صفحة رقم : 872




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> العقائد


الدنيوية؛ أما الآن فقد تفلسفت وجلست على حجر صلب في كهف على سفح الجبل، وتراني لا أنفك عن الضحك كلما فكرت في حياتي الماضية"(47).
ويعبر غاندي عن الصورة الثانية من صورتي الخلاص فيقول:
"لست أريد عودة إلى ولادة جديدة"(48) إن أسمي وآخر ما يتمانه الهندي هو أن ينجو من العودة إلى الحياة في جسد آخر، وأن تزول عنه هذه الحمى التي تلتهب بها الذات كلما عاودتها الحياة في بدن جديد وولادة جديدة؛ وليس طريق الخلاص إيماناً، كلا ولا نتاجاً، إنما طريق الخلاص إنكار للذات إنكاراً متصلاً، ونفاذ بالبصيرة إلى الكل الذي يبتلع في جوفه الأجزاء، حتى ينتهي الأمر بالنفس إلى الموت الذي يفنيها ولا يبقي منها ما يولد مرة أخرى؛ وهكذا يتحول جحيم الفردية إلى سكينة الاتحاد مع سائر الوجود وفردوسه المقيم؛ هكذا تتحول الفردية إلى فناء تام في "براهما" الذي هو من العالم روحه أو قوته.




صفحة رقم : 873




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين



الفصل الرابع




غرائب الدين




الخرافات - التنجيم - عبادة العلاقة الجنسية -




الطقوس - الضحية - التطهير - المياه المقدسة


في هذا الجو اللاهوتي المفعم بالخوف والألم، ازدهرت الخرافة- وهي أول معونة ترسلها القوة الكامنة فوق الطبيعة لتعالج بها الأدواء الصغرى في الحياة- ازدهاراً خصيباً، حتى أصبحت القرابين، والتمائم، وإخراج الشياطين الحالّة في الأبدان، والتنجيم، والنبوءة بالغيب، والتعزيم، والنذور ، وقراءة الكف، والعرافة، وطائفة الكهان التي بلغت 812ر728ر2، و "فاتحو البخت" الذين يبلغون المليون، ومروضو الثعابين بالسحر وعددهم مائة ألف ، و "الفقراء" وهم مليون، ومن يمارسون "اليوجا" وغيرهم من الأولياء- أصبح ذلك كله جانباً واحداً من الصورة التاريخية التي تمثل الهند؛ فقد كان للهنود منذ ألف ومائتي عام عدد كبير من الكتب التي تشرح أصول التصوف والسحر والعرافة وتذكر الصيغ السحرية التي تهيئ السبيل لتحقيق أية غاية شئت؛ وأما البراهمة فقد نظروا نظرة ازدراء صامت إلى هذه الديانة التي يملؤها السحر، واحتملوا وجودها لأنهم من جهة خشوا أن تكون الخرافة بين عامة الناس عاملاً ضرورياً لصيانة قوة البراهمة أنفسهم، لأنهم من جهة أخرى ربما ظنوا أن لا خرافة يستحيل فناؤها، فإن ماتت في إحدى صورها، فما ذاك إلا لكي تعود إلى الوجود في صورة أخرى، وأحس البراهمة أن أقل الحكمة يقتضي ألا تقاوم مثل هذه القوة التي في وسعها أن تجسد نفسها في كل هذه الصور.
اعتقد الهندي الساذج- كما يعتقد كثيرون من الأمريكان المثقفين- في




صفحة رقم : 874




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين


التنجيم، وسلموا تسليماً بأن كل نجمة لها تأثير خاص على أولئك الذين ولدوا وهي في أوجها(50)؛ فالنساء إبان الحيض كن- مثل أوفيليا- يتقين ضوء الشمس، فذلك قد يسبب لهن الحمل(51)؛ وجاء في كتاب "كاوشيتاكي يوبانشاد" أن سر النجاح المادي هو تقديس الهلال كما ظهر؛ وكان العرافون والسحرة والمنبئون بالغيب، إذا ما أجريتهم أجراً زهيداً، يعلنون لك ماضي الحوادث ومستقبلها بدراستهم للأكف أو للبراز، أو للأحلام، أو لعلامات في السماء، أو للخروق التي أحدثتها الفئران في الثياب؛ ويزعمون بترتيلهم لعبارات السحر التي لم يكن ترتيلها في مقدور أحد سواهم، أنهم يخدمون الشياطين ويسحرون الثعابين، ويستعبدون الطيور، ويلزمون الآلهة أنفسهم بمعاونة من دفع لهم أجر ما يصنعون؛ كذلك كان السحرة نظير أجر معلوم يسلطون الشيطان على العدو، أو يطردونه من هذا الذي يؤجرهم، كانوا ينزلون الموت المفاجئ على العدو أو يلحقون به علة ليس لها شفاء؛ حتى البرهمي إذا ما تثاءب، جعل يفرقع بأصابعه ذات اليمين وذات الشمال حتى يطرد الأرواح الشريرة فلا يسمح لها بالدخول من فمه المفتوح ؛ وكان الهندي في شتى عصوره- مثل كثيرين من الفلاحين الأوربيين- يتحوط من عين الحسد؛ فأعداؤه قد يستخدمون السحر في أية لحظة شاءوا لينزلوا به تعاسة الحظ أو ليقضوا على حياته؛ ويستطيع الساحر فوق هذا كله أن يجدد الحيوية الجنسية أو أن يخلق الحب في أي إنسان لأي إنسان، أو أن يهيئ سبيل الولادة للعاقرات من النساء(53).
لم يكن يعدل رغبة الهنود في الأطفال شيء حتى النرفانا، ومن ثم إلى حد ما كانت رغبة الهندي الشديدة في القوة الجنسية، وكان تقديسه الديني للرموز التي تشير إلى النسل والخصوبة؛ فعبادة العلاقة الجنسية التي سادت




صفحة رقم : 875




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين


معظم الأقطار في هذا العصر أو ذاك، قد لبثت قائمة في الهند من العصور القديمة إلى القرن العشرين؛ وكان إلههاً هو شيفا، ورمزها هو عضو التذكير، وكتابها المقدس هو "أجزاء من التانترا" (ومعناها كتب للنصوص)؛ و "شاكتي" (ومعناها القوة التي تبعث النشاط) بالنسبة إلى شيفا هي- كما كانوا يتصورونها أحياناً- زوجته كالي، وأحيانا أخرى يتصورون تلك القوة الباعثة شيفا على نشاطه الجنسي، عنصراً نسوياً في طبيعة شيفا نفسه، وبهذا تكون طبيعته مشتملة على قوتي الذكورة والأنوثة في آن معاً؛ وهاتان القوتان يمثلها الهنود بأوثان يطلقون عليها اسم "لنجا" أو "يوني" ، وهي تصور عضوي التناسل عند الرجل والمرأة(53) وأينما سرت في الهند ألفيت آثاراً لهذه العبادة للعلاقة الجنسية: تراها في التماثيل الرمزية لأعضاء التناسل في معبد نياليز، وغيره من المعابد في بنارس، وتراها في أوثان "اللنجا" الهائلة التي تزين أو تحيط بمعابد شيفا في الجنوب، وتراها في المواكب والاحتفالات التي يرمزون بها إلى العملية الجنسية، ثم تراها قي تمائم ترمز إلى تلك العلاقة الجنسية أيضا، ويلبسونها على الذراع أو حول العنق؛ بل قد تصادف أحجار " اللنجا " ملقاة في عرض الطريق، ومن عادة الهنود أن يكسروا على هاتيك الأحجار جوز الهند الذي ينوون تقديمه في قرابينهم(54)، وهم يغسلون حجر "اللنجا" في معبد "رامشفرام" كل يوم بماء الكنج، ثم يباع ذلك الماء فيما بعد للمتدينين(55) كما كان يباع الماء المقدس في أوربا؛ وطقوس هذه العبادة الجنسية في العادة تكون بسيطة وملتزمة حدود الاحتشام، فقوامها أن يصب على الحجر ماء مقدس أو زيت مقدس ويزين بأوراق الشجر(56).
ولا ريب في أن الطبقات الدنيا من الهنود تستمد بعض المتعة الداعرة من مواكب العلاقة الجنسية(57)، لكن الكثرة الغالبة من الناس- فيما يظهر- لا يجدون حافزاً إلى الفاحشة في "اللنجا" أو "اليوري" أكثر مما يجد المسيحيون




صفحة رقم : 876




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين


من هذا الحافز في تأملهم للعذراء وهي ترضع طفلها؛ إن العادة تزيل الفحش عن أي شيء، والزمن يخلع القداسة على أي شئ؛ ويظهر أن الناس قد نسوا الرمزية الجنسية في هذه الأشياء منذ زمن طويل، ولم تعد هذه الأوثان الآن إلا وسائل تقليدية مقدسة تمثل لهم قوة شيفا(58)؛ ولعل الفرق بين تصور الأوربي وتصور الهندي للأمر منشؤه الفارق بين سن الزواج في أوربا وسن الزواج في الهند؛ فالزواج المبكر ينفس عن تلك الدوافع الطبيعية التي إن طال أمد كبحها، دارت على نفسها وأنتجت إما دعارة وأما حباً عذرياً؛ وعلى وجه الجملة تجد الأخلاق والعادات الخاصة بالعلاقات الجنسية في الهند أعلى منها في أوربا وأمريكا، وهي هناك أكثر منها هنا احتشاماً وعفة بدرجة كبيرة، وعبادة شيفا هي من أكثر العبادات في الهند تزمتاً وتقشفاً، وأخلص عُبَّاد "اللنجا" عقيدةٌ هم "اللنجايات" ، وهم يمثلون أشد مذاهب الهند تزمتاً وطهراً(59)، يقول غاندي : "جاءنا أضيافنا الغربيون آخر الأمر يفتحون أعيننا لجوانب الفحش التي في طقوسنا، بعد أن كنا نمارسها حتى عهدهم ممارسة بريئة؛ لقد عرفت لأول مرة أن "شيفا لنجام" ترمز إلى فاحشة، من كتاب لمبشر مسيحي"(60).
إن استخدام الهنود "للنجا" و "اليوني" ليس إلا صورة واحدة من ألوف الصور في طقوسهم التي تبدو للعين العابرة الغربية عن البلاد، لا مجرد صورة للديانة الهندية، بل جزءاً أساسياً من صميم لبابها؛ ذلك لأن كل فعل من أفعال الحياة، حتى الغسل ولبس الثياب ، له عندهم طقوسه الدينية؛ وفي كل دار يسكنها متدينون ترى آلهة خاصة بأهل تلك الدار، تمثل لهم أشياء معينة، كما ترى أسلافاً يضعونها موضع التكريم كل يوم؛ والواقع أن الديانة للهندي واجب يؤدى في الدار أكثر مما يؤدى في مراسم المعابد التي يحتفظون بها لأيام الأعياد؛ ومع ذلك فالناس يمرحون مرحاً عظيماً في الأعياد الدينية الكثيرة التي تملأ السنة الكهنوتية، فكانوا يسيرون مواكب عظيمة أو أفواجاً من
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:10 pm

صفحة رقم : 877




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين


الحجاج، قاصدين إلى الأضرحة القديمة؛ ولم يكونوا ليفهموا ما يقال من عبارات الصلاة في تلك المعابد، لأنها كانت تقال بالسنسكريتية، لكنهم كانوا يفهمون الأوثان، فيزينونها بالحلي ويطلونها بالطلاء ويرصعونها بكريم الأحجار؛ وكانوا أحياناً يعاملونها كأنها كائنات بشرية فيقضونها ويغسلونها ويلبسونها الثياب، ويطعمونها ويؤنبونها وينيمونها في مخادعها عند خاتمة النهار(61).
وأعظم الطقوس الجماعية هي تقديم القرابين، وأعظم الطقوس الخاصة الفردية هي التطهير؛ فالقربان عند الهندي ليس مجرد صورة خاوية، لأنه يعتقد أنه إذا لم يعقد الآلهة طعاماً فإنها تموت جوعاً(62) ولما كان الإنسان في مرحلة أكل اللحوم البشرية، كانت القرابين في الهند كما في غيرها من بلاد العالم ضحية بشرية؛ وكانت "كالي" تحب أن يكون قربانها رجالاً، ثم فسر البراهمة هذا بأنها إنما تحب أن تأكل رجالاً من أهل طبقات الدنيا وحدها فلما تقدمت الأخلاق، أخذ الآلهة يكتفون بالحيوان قرباناً؛ فكان الناس يضحون لهم بكثير منه؛ على أن الماعز كان ذا منزلة خاصة في هذه الاحتفالات؛ ثم جاءت البوذية والجانتية و "أهمسا" فحرمت التضحية بالحيوان في بلاد الهندستان(67) ثم عادت العادة إلى مجراها القديم حين حلت الديانة الهندية محل البوذية؛ ولبثت قائمة على نطاق يثير الدهشة باتساعه، حتى يومنا هذا؛ وإنه لمن حسنات البراهمة أنهم رفضوا أن يسهموا بنصيب في أية تضحية فيها إراقة للدماء(68).
وأما طقوس التطهير فقد كانت تستغرق من حياة الهندي ساعات كثيرة، لأن مخاوف النجاسة كانت من الكثرة في الديانة الهندية كما هي في قواعد




صفحة رقم : 878




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين


الصحة الحديثة؛ فما أكثر ما قد يصاب الهندي بما يرده نجساً- إن أكل طعاماً حراماً، وإن لمس قمامة أو مس إنساناً من طبقة الشودرا، أو منبوذاً أو جثة أو امرأة في فترة حيضها، وغير ذلك مئات الحالات؛ وبالطبع كانت المرأة نفسها ينجسها حيضها أو وضعها وليداً؛ ولذا تطلب القانون البرهمي عزل المرأة في مثل هذه الحالات، واشترط تحوطات صحية معقدة(69)؛ وبعد كل هذه النجاسات- أو احتمال العدوى على حد تعبيرنا الحديث- كان من واجب الهندي أن يؤدي طقوساً تطهيرية معينة؛ فأما الحالات الصغرى فتكفيها طقوس بسيطة كأن يرش من إصابته النجاسة بالماء المقدس(70) وأما الحالات الكبرى فلا بد لهما من طرائق معقدة تبلغ أقصى مداها في بشاعة ما يسمونه "بانشاجافيا" وهو ضرب من التطهير كان يحكم به عقاباً لمن انتهك قوانين الطبقات على خطورتها (مثال ذلك أن يغادر الهند) ويتألف ذلك التطهير من شرب مزيج فيه "خمسة عناصر" من البقرة المقدسة : اللبن، والخثارة، والسمن، والبول، والروث .
وأقرب من ذلك قليلاً إلى ذوقنا ما يوجبه عليهم دينهم من استحمام كل يوم؛ فهاهنا كذلك ترى تدبيراً صحياً تمس إليه الحاجة مساً شديداً في مناخ شبه استوائي؛ وترى هذا التدبير الصحي مصبوباً في قالب من الدين حتى يكون أقوى تأثيراً في النفوس؛ ولهذا بنيت برك وأحواض "مقدسة" ، وجعلت أنهار كثيرة أنهاراً مقدسة وقيل للقوم إنهم إذا استحموا في هذه الأماكن تطهروا جسماً وروحاً؛ وقد كان ملايين الناس في أيام الرحالة "يوان شوانج" يستحمون في نهر الكنج كل صباح(73)؛ ومنذ ذلك العهد إلى يومنا لم تشهد تلك الأمواج شروقاً للشمس دون أن تسمع صلوات المستحمين الذين جاءوها




صفحة رقم : 879




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> غرائب الدين


سعياً وراء الطهر والخلاص، يرفعون أذرعهم نحو السماء المقدسة، ويصيحون في نغمة الصابرين: "أوم، أوم، أوم" وأصبحت بنارس هي المدينة المقدسة للهند، إذ باتت كعبة لملايين الحجاج، يؤمها الشيوخ من الرجال والعجائز من النساء، جاءوا من كل أرجاء البلاد ليستحموا في النهر. حتى يستقبلوا الموتى برآء من كل إثم أطهاراً من كل رجس؛ إن الإنسان ليأخذه الخشوع، بل يأخذه الفزع، حين يتذكر أن أمثال هؤلاء الناس قد حجموا إلى بنارس مدى ألفي عام، وغمسوا أنفسهم في مياهها وهم يرتعشون من لذعة البرد في فجر الشتاء؛ وشموا بنفس متقززة لحم الموتى وهو يحترق، فعلوا كل ذلك وهم يفوهون بنفس الدعوات التي كان يقينهم أن تجاب، فعلوا كل ذلك قرناً بعد قرن، توجهوا بالدعاء إلى نفس الآلهة التي لبثت على صمتها؛ لكن عد استجابة إله من الآلهة لا يحول دون تعلق القلوب به، فلا تزال الهند تعتقد اليوم بنفس القوة التي كانت تعتقد بها في أي عصر مضى، في الآلهة الذي لبثوا كل هذا الزمن ينظرون إلى فقرها وبؤسها فلا تأخذهم من أجلها الرحمة.




صفحة رقم : 880




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون



الفصل الخامس




القديسون والزاهدون




أساليب التقديس - الزنادقة - السامح - نظرة عامة في ديانة الهنود


يظهر أن القديسين في الهند أكثر منهم في أي بلد آخر، حتى ليشعر الزائر في تلك البلاد أنهم نتاج طبيعي لها كالخشخاش والثعبان، وللقداسة في رأي المتدين الهندي ثلاث وسائل : الأولى طريق "جنانا- يوجا" أي طريق التأمل، والثانية "كارما- يوجا" أي طريق العمل؛ الثالثة "بهاكتي- يوجا" أي طريق الحب؛ ولا يمانع البرهمي في أي من هذه الطرق الثلاث، بما يقضي به قانون " الأَشْرامات " الأربع، أي مراحل القداسة، فعلى البرهمي الناشئ أن يبدأ الطريق بأن يكون "براهما شاري" يقسم على صيانته لعفته قبل زواجه، وعلى أن يلتزم التقوى ويواصل الدرس، وأن يكون صادقاً، خدوماً "لشيخه" أي لأستاذه الذي يعلمه؛ فإذا ما تزوج- ولا ينبغي أن يتأخر زواجه عن الثامنة عشرة من عمرة- كان عليه أن يدخل المرحلة الثانية من الحياة البرهمية، وهي مرحلة "جريها ستا" أي رب الأسرة، التي ينسل فيها الأبناء ليعبدوه ويعنوا به وبأسلافه؛ وفي المرحلة الثالثة (وقلما يمارسها الآن واحد) ينسحب الطامع في القداسة مع زوجته ليعيش كـ "فانا براستا" أي ساكن الغابات، فيتقبل عسر الحياة مطمئناً راضياً، ويحصر العلاقة الزوجية في نسل الأطفال، وأخيراً إن أراد فيصبح "ساناياسي" أي "الهاجر" للعالم، مستغنياً عن كل أملاكه وكل أمواله وكل ما يربطه بغيره من علاقات، فلا يحتفظ إلا بجلد وعل يغطي به جسده، وعكازة يتوكأ عليها، وقرعة ماء لظمئه؛ ويجب عليه أن يلطخ جسده بالرماد كله يوم، وأن يشرب "العناصر




صفحة رقم : 881




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون


الخمسة" مراراً متقاربة، وأن يعيش معتمداً على صدقات المحسنين؛ وتنص القاعدة البرهمية على أنه "لا بد أن ينظر إلى الناس على أنهم سواسية، فلا يتأثر بأي شيء مما يحدث، وأن تكون له القدرة على النظر إلى الأشياء نظرة هادئة لا يعرف هدوءها معنى الاضطراب، حتى إن بلغ الأمر حد الثورات التي تثل العروش؛ وغايته الوحيدة ينبغي أن تكون حصوله على ذلك القدر من الحكمة ومن الروحانية الذي يمكّنه في نهاية الأمر من الاتحاد بالربوبية العليا، تلك الربوبية التي تفصلنا عنها شهواتنا العاطفية وبيئاتنا المادية" .
وإنك لتصادف أحياناً وسط هذا التدين صوتاً شكاكاً يرتفع كصرير النشاز في نغمات الحياة الهندية التي تسودها استكانة التسليم؛ لا شك أن الشُكّاك كانوا كثيرين حينما كانت الهند غنية، لأن الإنسانية تزداد تشككاً في آلهتها ازدياداً يبلغ أقصاه في حالات ازدهارها المادي، وتزداد لها تعبداً ازدياداً يبلغ غاية مداه حين يعمها البؤس؛ ولقد أسلفنا القول في فئة "شارفاكا" وغيرهم من زنادقة العصر البوذي؛ وهنالك مؤلف يكاد يساوي في قدمه ذلك العصر، وهو يسمى - على طريقة الهنود في تطويل الأسماء- "شواسا مْفِديُوبانشاد" الذي يبسّط اللاهوت في أربع قضايا:
(1) أن ليس هناك عودة للروح إلى تجسيد جديد، ولا إله ولا جنة ولا نار ولا عالم.
(2) وأن كل الكتب الدينية التقليدية من تأليف جماعة من الحمقى المغرورين.




صفحة رقم : 882




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون


(3) وأن ما يحكم الأشياء كلها هو "الطبيعة" التي تبدع، و "الزمان" الذي يهدم؛ وهما لا يأبهان بفضيلة أو برذيلة حين يقسمون بين الناس أنصبتهم من السعادة والشقاء.
(4) وأن الناس تخدعهم حلاوة الكلام فيعتنقون الاعتقاد في الآلهة والمعابد والكهنة، مع أنه من الواقع لا فرق بين فشنو وكلب(76).
وهناك قانون بوذي مكتوب باللغة الباليّة، تراه يضم المتناقضات، شأنه في ذلك شأن أي كتاب مقدس يحمي مصالح الكهنوت، وفي هذا القانون رسالة تستوقف النظر لعلها قديمة قدم المسيحية، وتسمى "أسئلة الملك مِلِنْدا" وفيها المعلم البوذي "نجاسينا" يجيب إجابات جد مثيرة للأسئلة الدينية التي يوجهها إليه "الملك مناندر" الإغريقي الباكتريّ الذي حكم شمالي الهند في مستهل القرن الأول قبل المسيح؛ يقول "نجاسينا" إن الدين لا ينبغي أن يتخذ مجرد وسيلة فرار يلوذ بها المعذبون ، بل يجب أن يكون سعي الزاهد حتى يبلغ مرحلة القداسة والحكمة دون أن يزعم وجود جنة أو إله، لأن هذا القديس يؤكد لنا أنه لا وجود لجنة أو إله(77).
وتهاجم ملحمة "الماهابهاراتا" هؤلاء الشكاك والملاحدة الذين- كما تزعم لنا- ينكرون حقيقة الأرواح ويحتقرون الخلود، وهي تقول أن أمثال هؤلاء الناس "يضربون في فجاج الأرض كلها" ؛ وهي تنذرهم بعقابهم المقبل، ضاربة لهم مثلاً ابن آوى الذي يعلل وجوده ووجود نوعه بقوله إنه كان في حياته الماضية "باحثاً عقلياً،وناقداً لكتب فيدا...مهيناً للكهنة معارضاً لهم... كافراً بكل شيء شكاكاً في كل شئ"(78)؛ ويشير "بهاجافاد- جيتا" إلى الزنادقة الذين ينكرون وجود الله ويصفون الدنيا بأنها "لا تزيد عن كونها منزلاً للشهوات"(79) وكثيراً ما كان البراهمة أنفسهم شكاكين لكنهم كانوا يذهبون في الشك إلى غاية مداه بحيث لا يسمحون لأنفسهم أن يهاجموا عقيدة الناس؛ وعلى الرغم من أن شعراء الهند بصفة عامة يتميزون بالورع الشديد




صفحة رقم : 883




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون


ترى بعضهم، مثل "كابر" و "فيمانا" يدافعون عن نوع من العقيدة في الله متحلل من كثير جداً من القيود، فقد كتب "فيمانا"- وهو شاعر ظهر في جنوبي الهند في القرن السابع عشر- بروح السخرية من الرهبان الزاهدين ومن حجاج المعابد، ونظام الطبقات؛ يقول:
"عزلة الكلب،‍‍‍ تأمل الكركيّ، ترتيل الحمار، استحمام الضفدعة" ... كيف تكون أحسن حالاً إذا لطخت جسمك بالرماد؟ إنه ينبغي أن تركز فكرك في الله وحده، أما عن بقية ما تصنعه، فالحمار في وسعه أن يتمرغ في الوسخ كما تفعل... إن كتب "الفيدا" أشبه ما تكون بالفاجرات اللائي يخدعن الرجال وليس لهن أغوار تسبر ؛ وأما علم الله الخبئ فهو شبيه بالزوجة الشريفة... أيمكن لتلطيخ الجسم بالرماد الأبيض أن يذهب برائحة وعاء الخمر؟ أيمكن؟ لحبل تلفه حول عنقك أن يجعل منك إنساناً آخر؟... لماذا نرى واجباً علينا أن نسيء إلى طبقة الباريا إساءة لا تنقطع؟ أليس المنبوذ مثلنا في لحمه ودمه؟ ومن أي طبقة عسى أن يكون الإله الذي يحل جسد البراريا؟ ... إن من يقول "إني لا أعلم شيئاً" هو أبلغ الناس حكمه(80).
وإنه لمما يجدر ملاحظته في هذا الصدد أن تذاع أقوال كهذه بغير مؤاخذة قائليها، في مجتمع تتحكم في عقوله طبقة من الكهان؛ فلوا استثنينا كبح الحكم الأجنبي للهنود (بل ربما جاز أن نقول أنه بسبب وجود الحكام الأجانب الذين لم يكونوا يأبهون للعقائد الدينية الأهلية) فقد تمتعت الهند بقدر من حرية الفكر أعظم جداً مما تمتعت به أوربا في عصورها الوسطى، وهي الفترة التي تقابلها مدنية الهند؛ ولقد باشر البراهمة نفوذهم في تدبر ورفق؛ وكان اعتمادهم في صيانة العقيدة الأصلية على الفقراء وما يتصفون به من جمود على القديم؛ وكان هؤلاء الفقراء في ذلك عند حسن ظن البراهمة بهم؛ فإذا ما شاعت في الناس ضروب في الزندقة أو الآلهة الغريبة شيوعاً يعد خطراً على العقيدة، تسامح البراهمة إزاءها حتى يمتصوها امتصاصاً في ذلك الغور




صفحة رقم : 884




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون


الفسيح الأبعاد الذي منه تتكون العقيدة الهندية، فإذا أضفت إلى تلك العقيدة إلهاً أو حذفت منها إلهاً، فلا يكون لهذا أثر كبير؛ ومن ثم قلت الحزازات المذهبية قلة نسبية في المجتمع الهندي، ولم تشتد إلا بين الهندوس والمسلمين؛ كذلك لم تسفح على أرض الهند دماء من أجل الدين، اللهم إلا دماء سفحها الفاتحون(81)؛ وجاء التعصب الديني إلى البلاد مع الإسلام والمسيحية، أما المسلمون فقد كانوا يبغون شراء الجنة بدم "الكفار" وأما البرتغاليون حين استولوا على "جوا" فقد أدخلوا فيها محاكم التفتيش(82).
وإذا بحثنا في هذا الخليط من العقائد عن عناصر مشتركة تعرف بها ديانة الهنود فسنجدها فيما يوشك أن يكون إجماعاً بين الهندوس على عبادة فشنو وشيفا معاً، وعلى تبجيل الفيدات والبراهمة والبقرة، وعلى اعتبار ملحمتي "ماهابهاراتا" و "رامايانا" لا مجرد ملحمتين أدبيتين، بل اعتبارها آيات مُنَزَّلة تأتي في التقديس بعد الفيدات(83) وإنه لمما ينم عن مغزى: أن نرى آلهة الهند وتقاليدها الدينية اليوم مختلفة عما قررته كتب الفيدا؛ فإلى حد ما يمكن القول بأن الديانة الهندية تمثل انتصار الهند الدرافيدية الأصلية على آريي العصر الفيدي؛ فقد كان من نتائج الغزو والنهب والفقر، أن أوذيت الهند جسماً وروحاً، والتمست ملاذاً من الهزيمة الأرضية النكراء، في انتصارات سهلة ظفرت بها الأساطير والخيال؛ فالبوذية رغم ما فيها من عناصر الشمم، هي- كالرواقية- فلسفة للعبيد، ولا يغير الموقف أن ينطق بها أمير؛ لأنها ترمي إلى وجوب الزهد في كل شهوة وفي كل كفاح حتى لو كانت الشهوة وكان الكفاح من أجل الحرية الفردية أو الحرية القومية؛ ومثلها الأعلى هو حالة جمود لا يعرف الرغبات؛ وواضح أن حرارة الهند التي تنهك الأجسام، هي التي نطقت بهذا اللسان الذي يعبر عن التعب تعبيراً يلتمس سنداً من العقل؛ إن الديانة الهندية ما انفكت تفت في عضد الهند، بأن غلّت نفسها عن طريق




صفحة رقم : 885




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون


نظام الطبقات بأغلال العبودية الدائمة للكهنوت؛ وتصورت آلهتها تصوراً لا تراعي فيه حدود الأخلاق، واحتفظت خلال القرون بعادات وحشية مثل التضحية بأفراد من الإنسان وإحراق الأرملة عند وفاة زوجها؛ تلك العادات التي كان كثير من الأمم قد نبذها منذ زمن طويل؛ وصورت الحياة على أنها شر لا مفر منه، وعملت على تثبيط الهمة عند اتباعها وإشاعة الكآبة في نفوسهم؛ واستحالت الظواهر الدنيوية على يديها أوهاماً، فمحت بذلك الفوارق بين الحرية والعبودية، بين الخير والشر، بين الإفساد والإصلاح؛ ولقد قال في ذلك هندي جرئ "إن الديانة الهندية... قد استحالت الآن إلى عبادة أوثان وطقوس تقليدية، تعتبر الظواهر الشكلية كل يء، واللباب لا شيء"(84) ولما كانت الأمة يمسك الكهنة بزمامها، وينخر القديسون عظامها، فإن الهند لترقب في شغف لم يجد اللسان المعبر به:" ترقب النهوض والإصلاح الديني وحركة التنوير.
ومع ذلك فلا ينبغي أن نفكر في الهند بغير أن تكون صورتنا التاريخية ماثلة أمام أعيننا؛ فقد كان لنا كذلك فترة كانت لنا عصورنا الوسطى، حيث آثرنا التصوف على العلم وحكومة الكهنة على حكومة الأغنياء- ولعلنا نعود إلى ذلك مرة أخرى، إننا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء المتصوفة، لان أحكامنا في الغرب مبنية على خبرة جسدية ونتائج مادية، وهي فيما يظهر أمور لا تمس الموضوع الذي تحكم عليه ولا تتعمق الأشياء في رأي القديس الهندي؛ فماذا لو تبين أن الثروة والقوة والحرب والفتح كلها أوهام تجري على السطح لا أكثر، وليست جديرة بالتفكير عند العقل الناضج؟ ماذا لو كان هذا العلم الذي يقيم نفسه على ذرات وعوامل وراثة كلها فروض، وعلى كهارب وخلايا، وغازات يتولد منها عباقرة مثل شكسبير، وعناصر كيماوية يتمخض عنها المسيح، ماذا لو كان كل هذا لا يزيد على عقيدة لا أكثر، سبقتها عقائد، بل إنها لعقيدة من أغرب العقائد، وأبعدها عن التصديق




صفحة رقم : 886




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> فردوس الآلهة -> القديسون والزاهدون


وأكثرها ميلاً نحو التغير والزوال؟ إن الشرق في مقاومته لما هو فيه من ذل ومرض، قد يغمس نفسه في العلم والصناعة في نفس اللحظة التي ينظر فيها أبناء الغرب إلى آلاتهم التي أفقرتهم وإلى علومهم التي أزالت عن أعينهم غلالة الخيال، فينزلوا بمدائنهم وآلاتهم الخراب بما يثيرونه من ثورات فوضوية أو حروب؛ ثم هم قد يعودون بعد ذلك مهزومين مكدودين جائعين، إلى الزراعة حيث يصوغون لأنفسهم إيماناً صوفياً جديداً يبث فيهم الشجاعة في وجه الجوع والقسوة والظلم والموت؛ فإنك لن تجد بين المتفكهين من يتفكه كما يتفكه التاريخ.




صفحة رقم : 887




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي



الباب التاسع عشر




الحياة العقلية




الفصل الأول




العلم الهندي




أصوله الدينية - الفلكيون - التفكير الرياضي - الأعداد "العربية" -




النظام العشري - الجبر - الهندسة - الطبيعة - الكيمياء -علم وظائف




الأعضاء - الطب الفيدي - الأطباء الجراحون - البنج - التطعيم - التنويم


جهود الهند في العلم قديمة جداً وحديثة جداً في آن معاً؛ فهي حديثة إذا نظرنا إلى العلم باعتباره بحثاً مستقلاً دنيوياً، وهي قديمة إذا نظرنا إليه باعتباره مشغلة فرعية من مشاغل الكهنة؛ ولما كان الدين هو لب الحياة الهندية وصميمها، فإن العلوم التي كان من شأنها أن تعاون الدين هي التي سبقت غيرها بالرعاية والنمو: فالفلك قد نشأ من عبادة الأجرام السماوية ومشاهدة حركاتها لتحديد أيام الأعياد والقرابين؛ ونشأ النحو وعلم اللغة عن الرغبة الملحة بأن تكون كل صلاة وكل صيغة دينية، صحيحة في تركيبها وفي مخارج أصواتها، على الرغم من أنها تقال أو تكتب بلغة ميتة(1) فقد كان علماء الهند - كما كانت الحال في عصورنا الوسطى - هم كهنتها، بكل ما في ذلك من خير ومن شر.
نشأ علم الفلك عن التنجيم نشأة غير مقصودة، ثم أخذ رويداً رويداً ينفض عن نفسه الأغلال في ظل اليونان؛ وأقدم الرسائل الفلكية - وهي السِدْ ذانتا حوالي 425 ق.م - كانت قائمة على أساس العلم اليوناني(2) حتى لقد اعترف "فارهاميرا" الذي أطلق على مؤلفه الموسوعي اسماً له مغزاه إذ أطلق




صفحة رقم : 888




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


عليه "مجموعة كاملة للتنجيم الطبيعي" - اعترف صراحة باعتماده على اليونان، وحث "آريا بهاتا"- وهو أعظم الفلكيين والرياضيين الهنود - في قصائد منظومة موضوعات مثل المعادلات الرباعية والجيب (في حساب المثلثات) وقيمة النسبة التقريبية المستعملة في استخراج مساحة الدائرة. كما علل الكسوف والخسوف والاعتدالين والانقلابين (في حركة الأرض حول الشمس) وأعلن عن كروية الأرض ودورتها اليومية حول محورها، وجاء ما يأتي فيما كتبه سابقاً لعلم النهضة الأوربية سبقاً جريئاً : "إن عالم النجوم ثابت، والأرض في دورانها هي التي تحدث كل يوم ظهور الكواكب والنجوم من الشرق واختفاءها في الغرب"(4) وجاء بعده خلفه المشهور "براهما جوبتا" فنسق المعلومات الفلكية في الهند، ولو أنه أعاق تقدم الفلك هناك برفضه لنظرية "آريا بهاتا" الخاصة بدوران الأرض، هؤلاء الرجال وأتباعهم هم الذين لاءموا بين حاجات الهنود والتقسيم البابلي للسماء إلى أبراج، وهم الذين قسموا العام اثني عشر شهراً، كل شهر منها ثلاثون يوماً، وكل يوم ثلاثون ساعة، وكانوا يضيفون شهراً زائداً كل خمسة أعوام، وحسبوا بدقة تستوقف النظر قطر القمر وخسوف الشمس، وموضع القطبين ومواضع النجوم الرئيسية ودورانها(5)، وشرحوا نظرية الجاذبية- ولو أنهم لم يصلوا إلى قانونها- عندما كتبوا في "سِدْ ذانت" : "إن الأرض تجذب إليها كل شيء بما لها من قوة جاذبة"(6)
ولكي يحسبوا هذه العمليات المعقدة ، فكر الهنود في حساب رياضي يفوق ما كان لليونان في كل شيء إلا الهندسة(7)، ولذا فان من أهم ما ورثناه عن الشرق الأعداد "العربية" والنظام العشري، وقد جاءنا كلاهما من الهند على أيدي العرب؛ فإن ما يسمى خطأ بالأعداد "العربية" نراها منقوشة على "صخرة المراسيم" التي خلفها "أشوكا" (256 ق.م)، أي قبل استخدامها




صفحة رقم : 889




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


في الكتابات العربية بألف عام؛ يقول "لابلاس" العظيم النابغ :
"إنها الهندية هي التي علمتنا الطريقة العبقرية في التعبير عن كافة الأعداد برموز عشرة، لكل منها قيمة تستمد من مكانة في العدد فضلاً عن قيمته الذاتية المطلقة، وإنها لفكرة عميقة هامة تبدو لنا اليوم من البساطة بحيث ننسى ما هي جديرة به من خطر؛ لكن بساطتها هذه، والسهولة العظيمة التي أدخلتها في العمليات الحسابية كلها، قد جعلتا من علم الحساب عندنا مخترعاً لعظمة هذا الابتكار إذا ما تذكرنا أنه غاب عن عبقرية أرشميديس وأبولونيوس، وهما من أعظم من أنجبت العصور القديمة من رجال"(Cool.
وعرف "آريا بهاتا" و "براهما جوبتا" النظام العشري قبل ظهوره في كتابات العرب والسوريين بزمن طويل؛ وأخذته الصين عن المبشرين البوذيين ويظهر أن محمداً بن موسى الخوارزمي- وهو أعظم رياضي في عصره (مات حوالي 850 م)- قد أدخله في بغداد؛ أما الصفر فأقدم استخدام له معروف لنا في آسيا وأوربا هو في وثيقة عربية تاريخها 873 م. أي قبل أول ظهور له- فيما نعلم- في الهند بثلاثة أعوام؛ لكن الرأي مجمع على أن العرب قد استعاروا الصفر أيضاً من الهند(9)؛ هكذا ترى أكثر الأعداد تواضعاً وأكبرها نفعاً كان هدية من الهدايا الرقيقة التي قدمتها الهند لسائر البشر.
وتقدم الجبر عند الهنود وعند اليونان دون أن يأخذ فريق عن فريق فيما يظهر لكن احتفاظنا باسمه العربي (الجبر كلمة عربية معناها ملاءمة




صفحة رقم : 890




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


التركيب) يدل على أن العلم به قد أتى إلى أوربا الغربية من العرب- وهذا معناه أنه جاء إليها من الهند لا من اليونان(11)، وأبطال هذا الميدان من الهنود هم- كما في علم الفلك- آريا بهاتا وبراهما جوبتا وبهاسكارا؛ ويظهر أن أخيرهم (ولد سنة 1114 م) قد ابتكر العلامة الجذرية وكثيراً غيرها من الرموز الجبرية(12)، وهؤلاء الرجال هم الذين ابتكروا فكرة الكمية السلبية التي كان يستحيل الجبر بغيرها(13)، وصاغوا القواعد التي يمكن بها إيجاد التباديل والتوافيق، وحسبوا الجذر التربيعي للعدد 2، وحلوا في القرن الثامن الميلادي معادلات غير متعينة من الدرجة الثانية، كانت تجهلها أوربا حتى أيام "يولر" بعد ذلك بألف عام(14)، ولقد صاغوا علمهم هذا في قالب شعري، وخلعوا على مسائل الرياضة رشاقة تميز العصر الذهبي في تاريخ الهند، وهناك مثلين يوضحان الجبر في صوره البسيطة عند الهنود:
"هناك خلية من النحل، استقر خمسها على زهرة كادامبا، وهبط ثلثها على زهرة سلنذرة، وطار ثلاثة أمثال الفرق بين هذين العددين إلى زهر الكوتاجا، وظلت نحلة واحدة- وهي كل ما تبقى- حائمة في الهواء فأنبئيني أيتها المرأة الفاتنة عدد النحل كله... لقد اشتريت لك يا حبيبتي هذه الياقوتات الثماني، والزمردات العشر، واللؤلؤات المائة، التي ترينها في قرطك، واشتريتها بأثمان متساوية، وكان مجموع أثمان الأنواع الثلاثة من الأحجار الكريمة أقل من نصف المائة بثلاثة، فأنبئيني ثمن كل منها أيتها المرأة المجدودة"(15).
غير أن الهنود لم يكونوا على هذه الدرجة من التوفيق في الهندسة؛ ولو أن الكهنة استطاعوا في قياس مذابح القرابين وبنائها أن يصوغوا النظرية الفيثاغورسية (التي مؤداها أن المربع المنشأ على وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين) قبل ميلاد المسيح ببضع مئات من السنين(16) وكذلك استطاع "آريا بهاتا"- وقد يكون متأثراً باليونان في ذلك-

أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

قصة الحضارة - ول ديورانت - صفحة 3 Empty رد: قصة الحضارة - ول ديورانت

مُساهمة من طرف أحمد بدوى الأربعاء يونيو 01, 2011 9:10 pm

صفحة رقم : 891




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


أن يحسب مساحة المثلث والمعَّين والدائرة وأن يقدر قيمة النسبة التقريبية ( في حساب النسبة بين طول قطر الدائرة ومحيطها) بـ 1416ر3- وهو رقم لم يعادله في دقة الحساب رقم آخر حتى عهد "بير باخ" (1423-61) في أوربا(17)؛ وكان "بهاسكارا" سباقاً إلى حساب التفاضل، إذ فكر فيه على نحو تقريبي، وأعد "آريا بهاتا" قائمة بحساب الجيب، وجاء في كتاب "سوريا سِدْ ذانتا" مجموعة منسقة في حساب المثلثات، كانت أرفع مستوى من كل ما عرفه اليونان في هذا الباب(18).
ولدى الهنود مدرستان فكريتان لكل منهما نظرية فيزيائية شبيهة بما كان لليونان في ذلك شبهاً يوحي بما كان بين البلدين من اتصال؛ مذهب "كانادا" مؤسس الفلسفة الفايشيشيكية، إلى أن العالم مؤلف من ذرات يبلغ عدد أنواعها عدد العناصر المختلفة؛ وأما الجانتيون فقد ازدادوا شبهاً بديمقريطس في مذهبهم بأن كافة الذرات من نوع واحد، تحدث آثاراً مختلفة بسبب الاختلاف في طريقة تركيبها(19)؛ ويرى "كانادا" أن الضوء والحرارة ظاهرتان مختلفتان لعنصر واحد؛ ويذهب "يودايانا" إلى أن جميع الحرارة مصدرها الشمس؛ ويفسر "فاشاسباتي"- مثل نيوتن- الضوء بأنه مؤلف من ذرات صغيرة تنبعث من الأشياء وتطرق العين(20)؛ وتجد في رسائل الهنود التي ألفوها في الموسيقى تحليلاً وحساباً رياضياً للنغمات الموسيقية وأطوال موجاتها، وكذلك ارتفاع النغمة، يتناسب عكسياً مع طول الوتر فيما بين نقطة اتصاله ونقطة لمسه؛ وهنالك ما يدل على أن البحارة الهنود في القرون الأولى




صفحة رقم : 892




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


بعد الميلاد، قد استعملوا بوصلة صنعوها من سمكة جديدة تسبح في إناء من الزيت وتشير إلى الشمال(21).
وتقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين: الطب والصناعة؛ فقد أسلفنا بعض القول في براعتهم الكيماوية في صب الحديد في الهند القديمة، وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور "جوبتا" ، حينما كان ُينظر إلى الهند- حتى من روما القيصرية- على أنها أمهر الأمم جميعاً في صناعات كيماوية مثل الصباغة والدبغ وصناعة الصابون والزجاج والأسمنت؛ وفي تاريخ بلغ من القدم القرن الثاني قبل الميلاد، خصص "ناجارجونا" كتاباً بأكمله للبحث في الزئبق؛ فلما أن كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية، فكانوا أساتذة في التكليس والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة، وخلط المساحيق المنومة والمخدرة، وتحضير الأملاح المعدنية، والمركبات والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند القديمة حداً من الكمال لم تعرفه أوربا إلا في أيامنا هذه، ويقال أن الملك يورس ، قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للإسكندر ثلاثين رطلاً من الصلب(22)، إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل المسلمون كثيراً مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية إلى الشرق الأدنى وأوربا؛ فمثلاً نقل العرب عن الفرس، وكان الفرس قد نقلوا بدروهم عن الهند سر صناعة السيوف "الدمشقية"(22أ).
وكان التشريح وعلم الوظائف الأعضاء- مثل بعض الجوانب الكيمياء- نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد- رغم أنه عهد يغوص في القدم، كان الأطباء الهنود يعرفون خصائص الأربطة العضلية ورتق العظام والجهاز اللمفاوي، والضفائر العصبية واللفائف والأنسجة




صفحة رقم : 893




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


الدهنية والأوعية الدموية والأغشية المخاطية والمفصلية وأنواع من العضلات أكثر مما نستطيع أن نتبينه من جثة حديثة(23).
وقد زلَّ أطباء الهند في العصر السابق لميلاد المسيح في نفس الخطأ الذي وقع فيه أرسطو حين تصور القلب مركز الشعور وأداته، وظنوا أن الأعصاب تصعد من القلب وتهبط إليه، لكنهم فهموا عمليات الهضم فهماً يستوقف النظر بدقته- أعني الوظائف المختلفة للعصارات المعدية، وتحول الكيموس إلى كيلوس، ثم تحول الكيلوس إلى دم(24)، وسبق "أتريا" ، "وايزمان" بألفين وأربعمائة عام حين ذهب (حوالي 500 ق.م) إلى أن نطفة الوالد مستقلة وكانوا يحبذون فحص الرجال للتحقق من توافر عناصر الرجولة فيهم قبل إقدامهم على الزواج؛ وجاء في تشريع "مانو" تحذير من عقد الزواج بين أشخاص مصابين بالسل أو الصرع أو سوء الهضم المزمن أو البواسير أو شقشقة اللسان(26) وكان مما فكرت فيه مدارس الطب الهندية سنة 500 ق.م، ضبط النسل على آخر طراز يأخذ به رجال اللاهوت، وهو يقوم على نظرية هي أن الحمل مستحيل في مدى اثني عشر يوماً من موعد الحيض(27)؛ ووصفوا تطور الجنين وصفاً فيه كثيراً جداً من الدقة ، وكان مما لوحظ في هذا الصدد أن جنس الجنين لا يتعين إلا بعد مدة، وزعموا أن جنس الجنين في بعض الحالات يمكن التأثير فيه بفعل الطعام أو العقاقير(28).
وتبدأ مدونات الطب الهندي بكتاب "أترافا- فيدا" ، ففي هذا الكتاب تجد قائمة بأمراض مقرونة بأعراضها، لكنك تجدها محاطة بكثير جداً من السحر والتعزيم؛ فقد نشأ الطب ذيلاً للسحر؛ فالقائم بالعلاج كان يدرس ويستخدم وسائل جثمانية لشفاء المريض، على أساس أن هذه تساعد على نجاح ما يكتبه له من صيغ روحانية؛ ثم أخذ على مر الزمن يزيد من اعتماده على




صفحة رقم : 894




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


الوسائل الدنيوية، ماضياً إلى جواز ذلك في تعاويذه السحرية لتكون هذه معينة لتلك من الوجهة النفسية، كما نفعل اليوم بتشجيعنا للمريض.
وفي ذيل كتاب "أترافا- فيدا" ملحق يسمى "أجو- فيدا" (ومعناها علم إطالة العمر)؛ ويذهب هذا الطب الهندي القديم إلى أن المرض يسببه اضطراب في وحد من العناصر الأربعة (الهواء والماء والبلغم والدم) وطرائق العلاج هي الأعشاب والتمائم السحرية؛ ولا يزال كثير من طرائق الطب القديم في وصف الأمراض وعلاجها مأخوذاً به في الهند اليوم، وإن ذلك ليصيب من النجاح أحياناً ما يثير الغيرة في صدور الأطباء الغربيين؛ وتجد في كتاب "رجْ- فيدا" نحو ألف اسم من أسماء هذه الأعشاب، وهو يحبذ الماء على أنه خير علاج لمعظم الأمراض؛ على أن الأطباء والجراحين حتى في العهد الفيدي كانوا يتميزون بما يفرق بينهم وبين المعالجين بالسحر؛ وكانوا يسكنون منازل تحيط بها حدائق يستنبتون فيها الأعشاب الطبية(29).
وأعظم اسمين في الطب الهندي هما "سوشروتا" في القرن الخامس قبل الميلاد و "شاراكا" في القرن الثاني بعد الميلاد؛ فقد كتب "سوشروتا"- وكان أستاذا للطب في جامعة بنارس، باللغة السنسكريتية مجموعة من أوصاف الأمراض وطرائق علاجها، وكان قد ورث العلم بها من معمله "ذانوانتاري" ؛ فبحث في كتابه بإطناب في الجراحة والتوليد والطعام الصحي والاستحمام والعقاقير وتغذية الرضع والعناية بهم والتربية الطبية(30)، وأما "شاركا" فقد أنشأ "سامهيتا" (ومعناها موسوعة) تشمل علم الطب، وهي لا تزال مأخوذاً بها في الهند(31)؛ وبث في أتباعه فكرة عن مهنتهم كادت تقرب من فكرة أبقراط : "لا ينبغي أن تعالجوا مرضاكم ابتغاء منفعة لأنفسكم، ولا إشباعاً لشهوة كافة ما كانت من شهوات الكسب الدنيوية، بل عالجوهم من أجل غاية واحدة هي التخفيف عن الإنسانية المعذبة، بهذا تفقدون سائر الناس"(32) ويتلو هذين الاسمين التماعاً في تاريخ الطب الهندي اسم "فاجبهاتا"




صفحة رقم : 895




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


(625 م) الذي أعد موسوعة طبية نثراً ونظماً، ثم اسم "بهافامِسْراً" (1550 م) الذي جاء في كتابة الضخم عن التشريح ووظائف الأعضاء والطب، ذكر الدورة الدموية قبل أن يذكرها "هارفي" بمائة عام، ووصف الزئبق علاجاً لذلك المرض الجديد- مرض الزهري- الذي كان من عهد قريب مع البرتغاليين، جزءاً من التراث الذي خلّفته أوربا للهند(33).
وصف "سوشوترا" كثيراً من العمليات الجراحية- الماء في العين، والفتق وإخراج الحصاة من المثانة، وبقْر الأمهات عن الأجنة وغير ذلك، كما ذكر إحدى وعشرين ومائة أداة من أدوات الجراحة منها المشارط والمسابير والملاقط والقثاطير ومناظير القُبُل والدُّبرُ(34)، وعلى الرغم من تحريم البراهمة لتشريح جثث الموتى، جعل يدافع عن ضرورة ذلك في تدريب الجراحين؛ وكان أول من رقع أذناً جريحة بقطع من الجلد اقتطعها من أجزاء أخرى من الجسم، وعنه وعن أتباعه من الهنود أخذ الطب الحديث عملية تقويم الأنف(35)؛ ويقول "جارِسُنْ": "لقد أجرى قدماء الهنود كل العمليات الجراحية الكبرى تقريباً، ما عدا عملية ربط الشرايين"(36)؛ فقد بتروا الأطراف، وأجروا الجراحات في البطن، وجبروا كسور العظام، وأزالوا البواسير؛ وقَعَّد "سوشوترا" القواعد الدقيقة لإجراء الجراحة، ويعد اقتراحه بتعقيم الجرح بالتبخير أول ما نعرفه من جهود في وسائل التطهير أثناء الجراحة(37)؛ ويذكر لنا "سوشوترا" و "شاراكا" كلاهما فوائد أنواع من الشراب الطبي في تخدير الجسم عند الألم، وحدث في سنة 927 م أن قام جراحان بتربنة الجمجمة لملك هندي، فخدره عن الجراحة بفعل عقار يسمى "ساموهيني" .
وأوصى "سوشوترا" بأن تتبع في تشخيص الأمراض التي أحصى منها ألفاً ومائة وعشرين، طريقة النظر بالمنظار وطريقتا جس النظر والتسمع بالأذن(40) وقد جاء وصف لجسّ النبض في رسالة تاريخها 1300م(41)؛ وكان تحليل البول طريقة مستحسنة في تشخيص الأمراض؛ حتى لقد اشتهر أطباء التبت بقدرتهم على شفاء أي مريض دون النظر في أي شئ يتعلق به ما عدا بوله(42)؛ وكان العلاج الطبي في الهند في عهد يوان شوانج، يبدأ بصيام مداه سبعة أيام، وكثيراً ما كان يشفى المريض في هذه الفترة ، فإذا بقى المريض لجئوا بعدئذ إلى استخدام العقاقير(43) لكنهم لم يكونوا يسرفون في استخدام العقاقير حتى في أمثال هذه الحالات، إذ كان معظم اعتمادهم على تدبير الطعام الملائم والاستحمام والحقن الشرجية والاستنشاق والحقن في مجاري البول وإخراج الدم بدود العلق أو بالكؤوس(44)، وكان لأطباء الهنود شهرة خاصة في تكوين ترياقات السموم، ويزالون يفوقون الأطباء الأوربيين في علاج عضة الثعبان(45)؛ ولقد عرفت الهند التطعيم منذ سنة 550 م ، مع أن أوربا لم تعرفه إلا في القرن الثامن عشر، ذلك لو حكمنا من نص يعزى إلى "ذانوانتاري" وهو طبيب من أقدم أطباء الهنود، وهذا هو: "خذ السائل من البثور التي تراها على ضرع البقرة ... خذه على سنان المشرط، ثم طعم به الأذرعة بين الأكتاف والمرافق، حتى يظهر الدم؛ عندئذ يختلط السائل بالدم فتنشأ عن اختلاطه حمى الجدري"(46) ويعتقد الأطباء الأوربيون المحدثون أن التفرقة بين الطبقات تفرقه تعزل بعضها عن بعض، منشؤها إيمان عند البراهمة بوجود عوامل خفية في نقل الأمراض؛ وكثير من قوانين الصحة التي أوصى بها "سوشوترا" و "مانو" تسلم تسليماً- فيما يظهر- بما نسميه نحن المحدثون الذين نحب الأسماء الجديدة نطلقها على ما هو قديم، أقول إنها تسلم بما نسميه نحن المحدثون بنظرية المرض عن طريق الجراثيم(47)؛ ويبدو لنا أن التنويم كوسيلة للعلاج قد نشأ عند




صفحة رقم : 896




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> العلم الهندي


الهنود الذين كثيراً ما كونا ينقلون مرضاهم إلى المعابد لمعالجتهم بالإيحاء التنويمي أو "نعاس المعبد" كما كان يحدث في مصر واليونان(48) والأطباء الإنجليز الذين أدخلوا طريقة العلاج بالتنويم في إنجلترا- وهم "بريد" و"ازديل" و"إِليوتسُن" "ولاشك في أن ما أوحى لهم بآرائهم تلك، وببعض خبرتهم، هو اتصالهم بالهند"(49).
فالطب الهندي بصفة عامة قد تطور تطوراً سريعاً في العهدين الفيدي والبوذي، ثم أعقب ذلك قرون سار فيه التقدم بخطوات الوئيد الحذر؛ ولسنا ندري كم يدين "أتريا" و "ذانوانتاري" و "سوشوترا" لليونان، وكم تدين اليونان لهم؛ يقول "جارسن" إنه في أيام الإسكندر "كان لأطباء الهنود وجراحيهم شهرة- هم جديرون بها- بما يتميزون به من تفوق في العلم والمهارة في العمل" ، وحتى أرسطو نفسه- في رأي طائفة من الباحثين- مدين لهم(50) وكذلك قل في الفرس والعرب، فمن العسير أن تقطع برأي في مدى ما أخذه الطب الهندي من بغداد، ومن الطب البابلي في الشرق الأدنى عن طريق بغداد؛ فمن جهة ترى بعض طرائق العلاج مثل الأفيون والزئبق، وبعض وسائل الكشف عن حقيقة المرض مثل جس النبض، قد جاءت إلى الهند من فارس فيما يظهر؛ لكنك من جهة أخرى ترى الفرس والعرب قد ترجموا إلى لغتيهما في القرن الثامن الميلادي موسوعتي "سوشوترا" و "شراكا" اللتين كانتا قد مضى عليهما ألف عام(51) ولقد اعترف الخليفة هارون الرشيد بالتفوق العلمي والطبي للهنود، واستدعى الأطباء الهنود لتنظيم المستشفيات ومدارس الطب في بغداد(52) ؛ وينتهي "لورد آمِتهِل" إلى نتيجة هي أن أوربا الوسيطة والحديثة مدينة بعلمها الطبي للعرب بطريق مباشر، وللهند عن طريق العرب(53)؛ ولعل هذا العلم الذي هو أشرف العلوم وأبعدها عن اليقين، قد نشأ في بلاد مختلفة في وقت واحد تقريباً، ثم جعل يتطور بما كان بين الأمم المتعاصرة في سومر ومصر والهند من صلات وتبادل فكري.




صفحة رقم : 897




قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الهند وجيرانها -> الحياة العقلية -> الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة -> مقدمة



الفصل الثاني




الفلسفة البرهمية ومذاهبها الستة




قِدَمْ الفلسفة الهندية - أهميتها - أعلامها -




ألوانها - مذهب القدماء - مزاعم الفلسفة الهندية
أحمد بدوى
أحمد بدوى
سوبر ستار المنتدى

رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 3 من اصل 4 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى