تابع كتاب الحيوان للجاحظ
3 مشترك
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
تابع كتاب الحيوان للجاحظ
ذكر محاسن الخصي ومساوِيه
ثم رجَعَ بنا القولُ إلى ذكرِ مَحاسِن الخصيّ ومساويه.
الخصيُّ يَنْكِحُ ويتّخذ الجواري ويشتدُّ شغفه بالنساء، وشغفُهنَّ به، وهو وإن كان مجبوب العضو فإنَّه قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجبُ إليهنَّ، وقد يحتلم ويخرجُ منه عند الوطء ماءٌ، ولكنَّه قليلٌ متغيِّر الريح، رقيقٌ ضعيف، وهو يباشِر بمشقّة، ثم لا يمنعه من المعاودة الماءُ الذي يخرج منه إذْ كان قليل المقدار لا يخرجه من القوّة إلى الضعف، مثل الذي يعتري من يخرج منه شيء يكون من إنسان، وهو أخثرُ، وأكثر، وأحدُّ ريحاً، وأصحُّ جوهراً، والخصيُّ يجتمع فيه أُمنيَّةُ المرأة، وذلك أنَّها تبغض كلَّ سريعِ الإراقة، بطيء الإفاقة، كما تَكرهُ كلَّ ثقيل الصدر، وخفيف العَجْز، والخصيُّ هو السريع الإفاقة، البطيء الإراقة، المأمونُ الإلقاح، فتقيمُ المرأةُ معَه، وهي آمنة العار الأكبر، فهذا أشدُّ لتوفير لذّتها وشهوتها، وإذا ابتذلن الخِيصانَ، وحَقَرن العبيد، وذهبت الهيبةُ من قلوبهنّ، وتعظيمُ البعول، والتصنُّع لذوي الأقدار باجتلاب الحياء وتكلّفِ الخجل، ظهَر كلُّ شيء في قوى طبائِعهنّ وشَهوَاتهنّ، فأمكنَهَا النَّخير والصِياح، وأن تكون مرَّةً من فوقُ، ومرَّةً من أسفل، وسمحت النفسُ بمكنونِها، وأظَهرت أقصى ما عنِدها.
وقد تجد في النساء مَنْ تؤْثر النساءَ، وتجدُ فيهنَّ من تُؤثر الرجال، وتجد فيهنَّ مَنْ تؤْثرُ الخِصيان، وتجد فيهنَّ من تجمعُ ولا تفرِّق، وتعمُّ ولا تخصُّ، وكذلك شأنُ الرجال في الرجال، وفي النساء والخصيان فالمرأة تنازِع إلى الخصيِّ لأَنَّ أمرَه أستر وعاقبتهُ أسلم، وتحرِص عليه لأنَّه ممنوعٌ منها، ولأنَّ ذلك حرام عليها، فلها جاذبان: جاذبُ حرصٍ كما يُحْرَص على الممنوع، وجاذبُ أَمْنٍ كما يُرغَب في السلامة،
ثم رجَعَ بنا القولُ إلى ذكرِ مَحاسِن الخصيّ ومساويه.
الخصيُّ يَنْكِحُ ويتّخذ الجواري ويشتدُّ شغفه بالنساء، وشغفُهنَّ به، وهو وإن كان مجبوب العضو فإنَّه قد بقي له ما عسى أن يكون فيه من ذلك ما هو أعجبُ إليهنَّ، وقد يحتلم ويخرجُ منه عند الوطء ماءٌ، ولكنَّه قليلٌ متغيِّر الريح، رقيقٌ ضعيف، وهو يباشِر بمشقّة، ثم لا يمنعه من المعاودة الماءُ الذي يخرج منه إذْ كان قليل المقدار لا يخرجه من القوّة إلى الضعف، مثل الذي يعتري من يخرج منه شيء يكون من إنسان، وهو أخثرُ، وأكثر، وأحدُّ ريحاً، وأصحُّ جوهراً، والخصيُّ يجتمع فيه أُمنيَّةُ المرأة، وذلك أنَّها تبغض كلَّ سريعِ الإراقة، بطيء الإفاقة، كما تَكرهُ كلَّ ثقيل الصدر، وخفيف العَجْز، والخصيُّ هو السريع الإفاقة، البطيء الإراقة، المأمونُ الإلقاح، فتقيمُ المرأةُ معَه، وهي آمنة العار الأكبر، فهذا أشدُّ لتوفير لذّتها وشهوتها، وإذا ابتذلن الخِيصانَ، وحَقَرن العبيد، وذهبت الهيبةُ من قلوبهنّ، وتعظيمُ البعول، والتصنُّع لذوي الأقدار باجتلاب الحياء وتكلّفِ الخجل، ظهَر كلُّ شيء في قوى طبائِعهنّ وشَهوَاتهنّ، فأمكنَهَا النَّخير والصِياح، وأن تكون مرَّةً من فوقُ، ومرَّةً من أسفل، وسمحت النفسُ بمكنونِها، وأظَهرت أقصى ما عنِدها.
وقد تجد في النساء مَنْ تؤْثر النساءَ، وتجدُ فيهنَّ من تُؤثر الرجال، وتجد فيهنَّ مَنْ تؤْثرُ الخِصيان، وتجد فيهنَّ من تجمعُ ولا تفرِّق، وتعمُّ ولا تخصُّ، وكذلك شأنُ الرجال في الرجال، وفي النساء والخصيان فالمرأة تنازِع إلى الخصيِّ لأَنَّ أمرَه أستر وعاقبتهُ أسلم، وتحرِص عليه لأنَّه ممنوعٌ منها، ولأنَّ ذلك حرام عليها، فلها جاذبان: جاذبُ حرصٍ كما يُحْرَص على الممنوع، وجاذبُ أَمْنٍ كما يُرغَب في السلامة،
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
وقال الأَصمعيّ: قال يونس بن عُبَيد: لو أُخِذْنا بالْجَزَعِ لصَبَرنا، قال الشاعر:
وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا وزادها كَلَفاً بالحبِّ أَنْ منـعَـتْ
والحرصُ على الممنوعِ بابٌ لا يَقْدِر على الاحتجاز منه، والاحتراسِ من خُدَعه، إلاَّ كلُّ مبرِّز في الفطنة ومتمهِّل في العزيمة، طويلِ التجارب، فاضِل العقل على قُوَى الشهوات، وبئس الشيءُ القرينُ السوء، وقالوا: صاحب السُّوءِ قِطعةٌ من النار.
وبابٌ من هذا الشكل، فَبِكم أعظُم حاجةٍ إلى أن تعرفوه وتقِفُوا عندَه، وهو ما يصنع الخَبَرُ السابق إلى السمع، ولا سيَّما إذا صادفَ من السامع قلَّةَ تجرِبة، فإنْ قرَن بين قلَّة التجربةِ وقلَّةِ التحفُّظِ، دخل ذلك الخبر السابقُ إلى مستقرِّه دُخولاً سهلاً، وصادفَ موضعاً وطيئاً، وطبيعة قابلة، ونفساً ساكنة؛ ومتى صادفَ القلبَ كذلك، رسَخَ رسوخاً لا حيلة في إزالته، ومتى أُلقِيَ إلى الفِتيان شيءٌ من أمور الفَتيات، في وقت الغَرَارةِ، وعند غلَبةِ الطبيعة، وشَبابِ الشهوَةِ، وقلَّة التشاغُل؛ وكذلك متى أُلقِي إلى الفِتيان شيءٌ من أمورهنَّ وأُمُورِ الغِلْمان، وهناك سُكْر الشَّباب، فكذلك تكون حالهم، وإنَّ الشُّطَّار لَيخلُو أحدُهم بالغلام الغَرير فيقول له: لا يكون الغلامُ فتًى أبداً حتَّى يصادِقَ فتًى وإلاّ فهو تِكش، والتكش عندهم الذي لم يؤدّبه فتًى ولم يخرِّجه، فما الماءُ العذْبُ البارد، بأسرعَ في طباع العطشان، من كلمته، إذا كان للغُلام أدنى هوًى في الفتوَّة، وأدنَى داعيةٍ إلى المنالة، وكذلك إذا خلَت العجوز المدربة بالجارية الحَدَثة كيف تخلبها، وأنشدنا:
تخلط الجِدَّ بأصنافِ اللعـبْ فأتـتْـهـا طَـبَّةٌ عـالـمةٌ
وتَنَاهَى عند سَورات الغَضَب ترفعُ الصوتَ إذا لانت لهـا
وقال الشاعر فيما يشبهُ وقوعَ الْخَبَرِ السابق إلى القلب:
ما الحبُّ إلاَّ للـحـبـيبِ الأَوَّلِ نقِّلْ فؤادَك حيثُ شئْتَ من الهوى
وحنينُـه أبـداً لأوَّلِ مَـنْـزِلِ كم منزلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتَى
وقال مجنون بني عامر:
فصادفَ قلباً خالياً فتـمـكَّـنَـا أتاني هَواهَا قَبْلَ أنْ أعرِفَ الهوَى
وحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعا وزادها كَلَفاً بالحبِّ أَنْ منـعَـتْ
والحرصُ على الممنوعِ بابٌ لا يَقْدِر على الاحتجاز منه، والاحتراسِ من خُدَعه، إلاَّ كلُّ مبرِّز في الفطنة ومتمهِّل في العزيمة، طويلِ التجارب، فاضِل العقل على قُوَى الشهوات، وبئس الشيءُ القرينُ السوء، وقالوا: صاحب السُّوءِ قِطعةٌ من النار.
وبابٌ من هذا الشكل، فَبِكم أعظُم حاجةٍ إلى أن تعرفوه وتقِفُوا عندَه، وهو ما يصنع الخَبَرُ السابق إلى السمع، ولا سيَّما إذا صادفَ من السامع قلَّةَ تجرِبة، فإنْ قرَن بين قلَّة التجربةِ وقلَّةِ التحفُّظِ، دخل ذلك الخبر السابقُ إلى مستقرِّه دُخولاً سهلاً، وصادفَ موضعاً وطيئاً، وطبيعة قابلة، ونفساً ساكنة؛ ومتى صادفَ القلبَ كذلك، رسَخَ رسوخاً لا حيلة في إزالته، ومتى أُلقِيَ إلى الفِتيان شيءٌ من أمور الفَتيات، في وقت الغَرَارةِ، وعند غلَبةِ الطبيعة، وشَبابِ الشهوَةِ، وقلَّة التشاغُل؛ وكذلك متى أُلقِي إلى الفِتيان شيءٌ من أمورهنَّ وأُمُورِ الغِلْمان، وهناك سُكْر الشَّباب، فكذلك تكون حالهم، وإنَّ الشُّطَّار لَيخلُو أحدُهم بالغلام الغَرير فيقول له: لا يكون الغلامُ فتًى أبداً حتَّى يصادِقَ فتًى وإلاّ فهو تِكش، والتكش عندهم الذي لم يؤدّبه فتًى ولم يخرِّجه، فما الماءُ العذْبُ البارد، بأسرعَ في طباع العطشان، من كلمته، إذا كان للغُلام أدنى هوًى في الفتوَّة، وأدنَى داعيةٍ إلى المنالة، وكذلك إذا خلَت العجوز المدربة بالجارية الحَدَثة كيف تخلبها، وأنشدنا:
تخلط الجِدَّ بأصنافِ اللعـبْ فأتـتْـهـا طَـبَّةٌ عـالـمةٌ
وتَنَاهَى عند سَورات الغَضَب ترفعُ الصوتَ إذا لانت لهـا
وقال الشاعر فيما يشبهُ وقوعَ الْخَبَرِ السابق إلى القلب:
ما الحبُّ إلاَّ للـحـبـيبِ الأَوَّلِ نقِّلْ فؤادَك حيثُ شئْتَ من الهوى
وحنينُـه أبـداً لأوَّلِ مَـنْـزِلِ كم منزلٍ في الأرضِ يألَفُه الفتَى
وقال مجنون بني عامر:
فصادفَ قلباً خالياً فتـمـكَّـنَـا أتاني هَواهَا قَبْلَ أنْ أعرِفَ الهوَى
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
زهد الناس فيما يملكونه ورغبتهم فيما ليس يملكونه
وإنَّمَا قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللّه تعالى عنهُ: اضربُوهنَّ بالعُرْي لأَنَّ الثيابَ هي المدعاةُ إلى الخُروج في الأَعراس، والقيامِ في المَناحات، والظهورِ في الأعياد، ومتَى كثر خروجُها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها، ولو كان بعلُها أتمَّ حسناً، والذي رأتْ أنقَصَ حسناً، لكان ما لا تملكه، أطرفَ ممَّا تملكُه، ولكان ما لم تنلْه، ولم تَستكثر منهُ، أشدَّ لها اشتغالاً وأشد لها اجتذاباً، ولذلك قال الشاعر:
هوى النفس شيءٌ كاقتيادِ الطرائف ولِلعين مَلْهًى بالـتِّـلادِ ولـم يقُـدْ
وقال سعيد بن مسلم: لأَن يرى حرمتي ألفُ رجل على حالٍ تكشَف منها وهي لا تراهم، أحبُّ إليّ من أن ترى حُرْمتي رجلاً واحداً غيرَ منكشف.
وقال الأوَّل: لا يضرُّك حُسْنُ من لم تعرف؛ لأنَّك إذا أتبعتها بصَرك، وقد نقضت طبعك، فعلمْتَ أنَّك لا تصل إليها بنفسك ولا بكتابك ولا برسولك، كان الذي رأيت منها كالحلم، وكما يتصور للمتمنِّي، فإذا انقضى ما هو فيهِ مِنَ المنى، ورجعت نفسُه إلى مكانها الأوَّل، لم يكن عليه من فقدها إلاّ مثلُ فقد ما رآه في النوم، أو مثَّلته له الأمانيّ.
عقيل بن علفة وبناته
وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة: لو زوَّجْتَ بناتِك فإنَّ النساءَ لحمٌ على وَضَمٍ إذا لم يكنَّ غانيات قال: كلا، إنِّي أُجِيعُهنَّ فلا يأشَرْنَ، وأُعْرِيهنَّ فلا يظهرْن فوافقت إحدى كلمتيه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ووافقت الأخرى قول عمر بن الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصَّوْمُ وِجَاء، وقال عمر: استعينُوا عليهنّ بالعُرْي، وقد جاء في الحديث: وفِّروا أشعارهن فإنَّ ترك الشعر مَجْفَرة، وقد أتينا على هذا الباب في الموضع الذي ذكرنا فيه شأن الغيرة، وأوَّلَ الفسادِ، وكيف ينبُت، وكيف يُحصَد.
بعض ميول الخصيان
وقد رأيتُ غيرَ خَصيٍّ يتلوَّط، ويطلب الغلمان في المواضع، ويخلو بهم ويأخذهم على جِهة الصداقة، ويحمل في ذلك الحديد، ويقاتل دون السخول، ويتمشى مع الشطَّار. وقد كانَ في قطيعةِ الربيعِ خصيٌّ أثيرٌ عندَ مولاه، عظيم المنزلة عنده؛ وكان يثِق به في مِلْكِ يمينِه، وفي حُرَمه من بنتٍ وزوجَةٍ وأختٍ، لا يخصُّ شيئاً دونَ شيء، فأشرَفَ ذاتَ يومٍ على مِرْبَدٍ له، وفي المِربد غنمٌ صفايا، وقد شدَّ يَدي شاةٍ وركبها من مؤخَّرها يكُومُها، فلمَّا أبصره بَرِقَ وَبَعِل وسُقِطَ في يديه، وهجم عليه أمرٌ لو يكون رآه من خصيٍّ لعدوٍّ لَهُ لَمَا فارقَ ذلك الهولُ أبداً قلبَه، فكيف وإنّما عايَن الذي عاين فيمَن كان يخلُفُه في نسائه مِن حُرَمه ومِلْكِ يمينه، فبينما الرجلُ وهو واجم حزين، وهو ينظر إليه وقد تحرَّق عليه غيظاً إذْ رَفَع الخصيُّ رأسَه، فلمَّا أثبَت مولاهُ مَرَّ مُسرِعاً نحوَ باب الدار ليركَبَ رأسَه، وكان المولى أقربَ إلى الباب منه، فسبقه إليه، وكان الموضعُ الذي رآه منه موضعاً لا يُصعَد إليه، فحدَثَ لشقائِهِ أمرٌ لم يجد مولاه معه بُدّاً من صُعودِه، فلبثَ الخصيُّ ساعةً ينتفِض من حُمَّى ركِبته ثم فاظ، ولم يُمسِ إلاَّ وهو في القبر.
ولفرْط إرادتِهم النساء، وبالحسرة التي نالتهم، وبالأسف الذي دخلَهم، أبغَضُوا الفحولَ بأشدَّ مِنْ تباغُضِ الأعداءِ فيما بينهم، حتَّى ليس بين الحاسدِ الباغي وبينَ أصحابِ النِّعَم المتظاهرة، ولا بين المَاشي المعنَّى وبين راكب الهِمْلاجِ الفارِه، ولا بين ملوكٍ صاروا سُوقةً، وبينَ سُوقَةٍ صاروا ملوكاً، ولا بينَ بني الأعمام مع وقوع التنافسِ، أو وقوعِ الحربِ، ولا بين الجِيرانِ والمتشاكلين في الصناعات، من الشنف والبغضاء، بقدرِ ما يلتحف عليه الخِصيانُ للفحول.
وبُغضُ الخصيِّ للفَحل من شِكل بُغض الحاسِدِ لذِي النعمة، وليس مِنْ شكل ما يولِّده التنافسُ وتُلحِقُه الجنايات.
وإنَّمَا قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللّه تعالى عنهُ: اضربُوهنَّ بالعُرْي لأَنَّ الثيابَ هي المدعاةُ إلى الخُروج في الأَعراس، والقيامِ في المَناحات، والظهورِ في الأعياد، ومتَى كثر خروجُها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها، ولو كان بعلُها أتمَّ حسناً، والذي رأتْ أنقَصَ حسناً، لكان ما لا تملكه، أطرفَ ممَّا تملكُه، ولكان ما لم تنلْه، ولم تَستكثر منهُ، أشدَّ لها اشتغالاً وأشد لها اجتذاباً، ولذلك قال الشاعر:
هوى النفس شيءٌ كاقتيادِ الطرائف ولِلعين مَلْهًى بالـتِّـلادِ ولـم يقُـدْ
وقال سعيد بن مسلم: لأَن يرى حرمتي ألفُ رجل على حالٍ تكشَف منها وهي لا تراهم، أحبُّ إليّ من أن ترى حُرْمتي رجلاً واحداً غيرَ منكشف.
وقال الأوَّل: لا يضرُّك حُسْنُ من لم تعرف؛ لأنَّك إذا أتبعتها بصَرك، وقد نقضت طبعك، فعلمْتَ أنَّك لا تصل إليها بنفسك ولا بكتابك ولا برسولك، كان الذي رأيت منها كالحلم، وكما يتصور للمتمنِّي، فإذا انقضى ما هو فيهِ مِنَ المنى، ورجعت نفسُه إلى مكانها الأوَّل، لم يكن عليه من فقدها إلاّ مثلُ فقد ما رآه في النوم، أو مثَّلته له الأمانيّ.
عقيل بن علفة وبناته
وقيل لعَقِيل بن عُلَّفة: لو زوَّجْتَ بناتِك فإنَّ النساءَ لحمٌ على وَضَمٍ إذا لم يكنَّ غانيات قال: كلا، إنِّي أُجِيعُهنَّ فلا يأشَرْنَ، وأُعْرِيهنَّ فلا يظهرْن فوافقت إحدى كلمتيه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ووافقت الأخرى قول عمر بن الخطاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصَّوْمُ وِجَاء، وقال عمر: استعينُوا عليهنّ بالعُرْي، وقد جاء في الحديث: وفِّروا أشعارهن فإنَّ ترك الشعر مَجْفَرة، وقد أتينا على هذا الباب في الموضع الذي ذكرنا فيه شأن الغيرة، وأوَّلَ الفسادِ، وكيف ينبُت، وكيف يُحصَد.
بعض ميول الخصيان
وقد رأيتُ غيرَ خَصيٍّ يتلوَّط، ويطلب الغلمان في المواضع، ويخلو بهم ويأخذهم على جِهة الصداقة، ويحمل في ذلك الحديد، ويقاتل دون السخول، ويتمشى مع الشطَّار. وقد كانَ في قطيعةِ الربيعِ خصيٌّ أثيرٌ عندَ مولاه، عظيم المنزلة عنده؛ وكان يثِق به في مِلْكِ يمينِه، وفي حُرَمه من بنتٍ وزوجَةٍ وأختٍ، لا يخصُّ شيئاً دونَ شيء، فأشرَفَ ذاتَ يومٍ على مِرْبَدٍ له، وفي المِربد غنمٌ صفايا، وقد شدَّ يَدي شاةٍ وركبها من مؤخَّرها يكُومُها، فلمَّا أبصره بَرِقَ وَبَعِل وسُقِطَ في يديه، وهجم عليه أمرٌ لو يكون رآه من خصيٍّ لعدوٍّ لَهُ لَمَا فارقَ ذلك الهولُ أبداً قلبَه، فكيف وإنّما عايَن الذي عاين فيمَن كان يخلُفُه في نسائه مِن حُرَمه ومِلْكِ يمينه، فبينما الرجلُ وهو واجم حزين، وهو ينظر إليه وقد تحرَّق عليه غيظاً إذْ رَفَع الخصيُّ رأسَه، فلمَّا أثبَت مولاهُ مَرَّ مُسرِعاً نحوَ باب الدار ليركَبَ رأسَه، وكان المولى أقربَ إلى الباب منه، فسبقه إليه، وكان الموضعُ الذي رآه منه موضعاً لا يُصعَد إليه، فحدَثَ لشقائِهِ أمرٌ لم يجد مولاه معه بُدّاً من صُعودِه، فلبثَ الخصيُّ ساعةً ينتفِض من حُمَّى ركِبته ثم فاظ، ولم يُمسِ إلاَّ وهو في القبر.
ولفرْط إرادتِهم النساء، وبالحسرة التي نالتهم، وبالأسف الذي دخلَهم، أبغَضُوا الفحولَ بأشدَّ مِنْ تباغُضِ الأعداءِ فيما بينهم، حتَّى ليس بين الحاسدِ الباغي وبينَ أصحابِ النِّعَم المتظاهرة، ولا بين المَاشي المعنَّى وبين راكب الهِمْلاجِ الفارِه، ولا بين ملوكٍ صاروا سُوقةً، وبينَ سُوقَةٍ صاروا ملوكاً، ولا بينَ بني الأعمام مع وقوع التنافسِ، أو وقوعِ الحربِ، ولا بين الجِيرانِ والمتشاكلين في الصناعات، من الشنف والبغضاء، بقدرِ ما يلتحف عليه الخِصيانُ للفحول.
وبُغضُ الخصيِّ للفَحل من شِكل بُغض الحاسِدِ لذِي النعمة، وليس مِنْ شكل ما يولِّده التنافسُ وتُلحِقُه الجنايات.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
نسك طوائف من الناس
ولرجالِ كلِّ فَنٍّ وضربٍ من الناس، ضربٌ من النسك، إذْ لا بدَّ لأحدِهم من النزوع، ومن تركِ طريقته الأولى: فنسك الخصيِّ غزْو الروم، لِمَا أَنْ كانوا هم الذين خَصَوهم، ولُزُومُ أَذَنة والرِّباطُ بطَرَسُوسَ وأَشباهِها، فظنَّ عند ذلك أهلُ الفِراسة أنَّ سببَ ذلك إنّما كان لأنَّ الرُّوم لِما كانوا هم الذين خَصَوهم، كانوا مغتاظين عليهم، وكانت متطلِّبةً إلى التشفِّي منهم، فأخرج لهم حبُّ التشفِّي شدَّةَ الاعتزامِ على قتلهم، وعلى الإنفاقِ في كلِّ شيء يَبلُغ منهم، ونُسكُ الخراسانيِّ أن يُحجَّ: ونسكُ البنوي أن يَدَع الديوان، ونسكُ المغنِّي: أن يُكثر التسبيحُ وهو يشربُ النبيذ، والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة في جماعة، ونسك الرافضيِّ: إظهارُ ترْك النبيذ، ونسك السَّواديِّ ترْكُ شرب المطبوخ فقط، ونسكُ اليهوديِّ: إقامة السبت، ونسك المتكلِّم: التسرُّع إلى إكفارِ أهل المعاصي، وأنْ يرمَي الناسَ بالجبْر، أو بالتعطيلِ، أو بالزندقة، يريد أن يوهم أموراً: منها أنَّ ذلك ليس إلاّ من تعظيمه للدِّين، والإغراق فيه، ومنها أن يقال: لو كان نَطِفاً، أو مرتاباً، أو مجتنحاً على بليَّة، لما رمى الناسَ، ولرضي منهم بالسلامة، وما كان ليرميَهم إلاّ للعزِّ الذي في قلبه، ولو كان هناك من ذُلِّ الرِّيبة شيء لقطَعَه ذلك عن التعرُّض لهم، أو التنبيه على ما عسى إنْ حرَّكهم له أنْ يتحرَّكوا، ولم نجدْ في المتكلِّمين أنْطفَ ولا أكثرَ عيوباً، ممَّن يرمي خصومَه بالكفر.
الجماز وجارية آل جعفر وكان أبو عبد اللّه الجمَّاز، وهو محمد بن عمرو، يتعشَّق جاريةً لآلِ جعفر يقال لها طُغْيان، وكان لهم خصِيٌّ يحفظُها إذا أرادتْ بيوتَ المغنِّين، وكان الخصيُّ أشدَّ عشقاً لها من الجمَّاز، وكان قد حال بينَه وبينَ كلامِها، والدنوِّ منها، فقال الجماز وكان اسم الخادم سناناً:
ولِلظِّباءِ المِلاحِ ما للمَقِيتِ سِنانٍ
غازٍ بغير سلاحِ لَبِئْسَ زانٍ خَصِيٌّ
وقال فيه أيضاً وفيها:
يحبُّني وأُحـبُّـهْ نَفْسِي الفداءُ لظبيٍ
إذا رآني يَسُبُّـهْ ن أجلِ ذاكَ سِنانٌ
يَنيكهُ أين زُبُّـه َبْهُ أجابَ سِنـانـاً
وقال أيضاً فيهما:
فيه فبئسَ الشرِيكُ ظبيٌ سنانُ شريكي
ولا يَدَعْنا نـنـيكُ ا يَنِـيكُ سِـنـانٌ
ما قيل من الشعر في الخصاء وقال الباخَرزيّ يذكرُ محاسِنَ خِصال الخِصيان:
ورجال إن كانت الأسفارُ ونساء لمطمـئنِّ مُـقـيمٍ
وقال حميد بن ثور يهجو امرأته:
بفِي من بغَى خيراً إليها الجلامدُ جُلُبَّانةٌ ورهاء تخصي حمارهـا
وقال مزرِّد بن ضِرار:
ولا جَاجَةٌ منها تلُوحُ علـى وَشْـمِ فجاءتْ كخاصي العَيرِ لم تَحْلَ عَاجةً
وقال عمرو الخارَكى:
نصيحٌ زادَني حـرصـا إذا لامَ علـى الـمـرد
لع ما عمِّرت أو أُخْصى ولا والـلّـه مـــا أقْ
وقال آخر:
ولا عافاكَ من جَهْد البَـلاءِ رَمَاك اللّهُ من أيْرٍ بأفـعَـى
إذا بلغت بي رَكَبَ النسـاء جَزَاكَ اللّهُ شَرّاً من رفـيقٍ
وما تنفكُّ تُنعِظ في الخَـلاَءِ أجُبْناً في الكريهة حين نلقى
ولولا البولُ عُوجِل بالخصاء فلا واللّه ما أمسَى رفيقـي
وقال بعض عبد القيس:
يرجو المناكحَ في بني الجـارودِ ما كان قَحذَمٌ ابنُ واهِصَة الْخُصى
ولكلِّ دهرٍ عَـثـرةٌ بـجُـدُود ومِن انتكاس الدهرِ أن زُوِّجتَهـا
حيّاً لكان خَصَاكَ بالمـغـمـود لو كان منذرُ إذ خطبت إلـيهـم
وقال أبو عبيدة: حدَّثني أبو الخطاب قال: كان عندنا رجلٌ أحدبُ فسقَط في بئرٍ فذهبت حَدَبته وصار آدَر فقيل له: كيف تجِدك? فقال: الذي جاءَ شرٌّ من الَّذِي ذهب.
وأبو الحسن عن بعض رجاله قال: خرج معاويةُ ذاتَ يومٍ يمشي ومَعه خَصِيٌّ له، إذ دخلَ على ميسونَ ابنة بحدل وهي أمُّ يزيد، فاستترت منه فقال: أتستترين منه، وإنَّما هو مثلُ المرأَة? قالت: أتُرَى أنَّ المثلة به تُحِلُّ ما حرَّم اللّه تعالى.
ذكر ما جاء في خصاءِ الدوابّ ذكر آدمُ بن سليمان عن الشعبيّ قال: قرأت كتابَ عمر رضي اللّه تعالى عنه إلى سعد، يَنْهَى عن حذْف أذناب الخيل وأعرافها، وعن خصائها، ويأمره أن يُجْرِيَ من رأس المائتين، وهو أربعة فراسخ.
وسُفيان الثَّوري عن عاصم بن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان ينهى عن خِصَاء البهائم ويقول: هل الإنماء إلاّ في الذكور.
وشَريك بن عبد اللّه، قال: أخبرني إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم النَّخَعي أنّ عمرَ رضي اللّه تعالى عنه نَهَى عن خصاءِ الخيل.
وسفيان الثوري عن إبراهيم بن المهاجر قال: كتب عمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لبعض عماله: لا تُجرِيَنَّ فرساً إلاَّ من المائتين، ولا تخْصِينَّ فرساً.
وقال: وسمعتُ نافعاً يقول: كان عبد اللّه بن عمر يكرَه خِصاءَ الذكورِ من الإبل، والبقر، والغنم.
وعبيد اللّه بن عمر عن نافع: أنَّ ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان يكره الخصاء ويقول: لا تقطعوا ناميةَ خَلْقِ اللّهِ تعالى.
وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن نافع قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أن تُخصَى ذكورُ الخيلِ، والإبلِ، والبقر، والغنم، يقول: فيها نشأة الخلق، ولا تصلح الإناث إلاَّ بالذكور.
ومحمد بن أبي ذئب قال: سألت الزُّهريَّ: هل بخِصاء البهائم بأس? قال: أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عُتبة بن مسعود، أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهِرين، نهى عن صَبْرِ الروح، قَالَ الزُّهريُّ: والخِصاءُ صبرٌ شديد.
وأبو جعفَر الرَّازيّ قال: حدَّثنا الرَّبيعُ بن أنس، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه" قال: هو الخِصاء.
وأبو جرير عن قتادة عن عِكرِمة عن ابن عبَّاس نحوه.
أبو بكر الهذليّ قال: سألتُ الحسنَ عن خِصاء الدواب فقال: تسألني عَن هذا? لعن اللّه من خَصَى الرجال.
أبو بكر الهذليُّ عن عِكرِمة في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرَنَّ خَلْقَ اللّهِ" قال: خصاء الدواب، قال: وقال سعيد بن جبير: أخطأ عكرمة، هو دين اللّه.
نَصر بن طريف قال: حدَّثنا قَتادة عن عِكرمة في قوله تعالى: "فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ" قال: خصاء البهائم، فبلغ مجاهداً فقال: كذَبَ هو دين اللّه. فمن العجب أن الذي قال عكرمة هو الصواب، ولو كان هو الخطأ لما جاز لأحد أن يقول له: كذبت، والناسُ لا يضعون هذه الكلمةَ في موضِع خطأ الرأي ممَّن يُظَنُّ به الاجتهاد، وكان ممَّن له أن يقول، ولو أنَّ إنساناً سمِع قولَ اللّه تبارك وتعالى: "فَلَيُغَيِّرُنََّ خَلْقَ اللّهِ" قال: إنَّما يعني الخِصاء، لم يقبل ذلك منه؛ لأنَّ اللفظ ليست فيه دلالةٌ على شيءٍ دونَ شيء، وإذا كان اللفظُ عامّاً لم يكن لأحدٍ أن يقصِد به إلى شيءٍ بعينه إلاَّ أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مع تلاوةِ الآية، أو يكونَ جبريلُ عليهِ السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يضمر ولا ينوي، ولا يخصُّ ولا يعمُّ بالقصد؛ وإنَّما الدلالةُ في بِنيةِ الكلام نفسِه، فصورة الكلام هو الإرادة وهو القصد، وليس بينه وبين اللّه تعالى عملٌ آخر كالذي يكون من الناس، تعالى اللّهُ عن قول المشبِّهة علوّاً كبيراً.
أبو جرير عن عمار بن أبي عمار أَنَّ ابنَ عباسٍ قَالَ في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ" قَالَ: هو الخصاء.
وأبو جرير عن قَتادة عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ مثله.
أبو داود النَّخَعِيّ، عن محمَّدِ بن سعيدٍ عن عبادة بن نسيّ، عن إبراهيم بن محيريز قال: كان أحبَّ الخيلِ إلى سَلَفِ المسلمين، في عهد عمر، وعثمان، ومعاوية، رضي اللّه تعالى عنهم، الخِصْيان؛ فَإنَّها أخفى للكَمينِ والطلائع، وأبقَى على الجَهْدِ.
أبو جرير قال: أخبرني ابن جُريج عن عطاء أنَّه لم يَرَ بأساً بخصاء الدواب.
وأبو جرير عن أيُّوبَ عن ابن سيرين، أنَّه لم يكن يرى بأساً بالخصاء، ويقول: لو تُرِكت الفحولةُ لأكل بعضُها بعضاً.
وعمر ويونس عن الحسن: أنّه لم يكن يرى بأساً بخصاءِ الدواب.
سفيان بن عُيينة عن ابن طاوس عن أبيه: أنّه خَصى بعيراً.
وسفيان بن عيينة عن مالك بن مِغوَل عن عطاء، أنه سئل عن خصاء البغل فقال: إذا خفت عِضاضه.
ولرجالِ كلِّ فَنٍّ وضربٍ من الناس، ضربٌ من النسك، إذْ لا بدَّ لأحدِهم من النزوع، ومن تركِ طريقته الأولى: فنسك الخصيِّ غزْو الروم، لِمَا أَنْ كانوا هم الذين خَصَوهم، ولُزُومُ أَذَنة والرِّباطُ بطَرَسُوسَ وأَشباهِها، فظنَّ عند ذلك أهلُ الفِراسة أنَّ سببَ ذلك إنّما كان لأنَّ الرُّوم لِما كانوا هم الذين خَصَوهم، كانوا مغتاظين عليهم، وكانت متطلِّبةً إلى التشفِّي منهم، فأخرج لهم حبُّ التشفِّي شدَّةَ الاعتزامِ على قتلهم، وعلى الإنفاقِ في كلِّ شيء يَبلُغ منهم، ونُسكُ الخراسانيِّ أن يُحجَّ: ونسكُ البنوي أن يَدَع الديوان، ونسكُ المغنِّي: أن يُكثر التسبيحُ وهو يشربُ النبيذ، والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة في جماعة، ونسك الرافضيِّ: إظهارُ ترْك النبيذ، ونسك السَّواديِّ ترْكُ شرب المطبوخ فقط، ونسكُ اليهوديِّ: إقامة السبت، ونسك المتكلِّم: التسرُّع إلى إكفارِ أهل المعاصي، وأنْ يرمَي الناسَ بالجبْر، أو بالتعطيلِ، أو بالزندقة، يريد أن يوهم أموراً: منها أنَّ ذلك ليس إلاّ من تعظيمه للدِّين، والإغراق فيه، ومنها أن يقال: لو كان نَطِفاً، أو مرتاباً، أو مجتنحاً على بليَّة، لما رمى الناسَ، ولرضي منهم بالسلامة، وما كان ليرميَهم إلاّ للعزِّ الذي في قلبه، ولو كان هناك من ذُلِّ الرِّيبة شيء لقطَعَه ذلك عن التعرُّض لهم، أو التنبيه على ما عسى إنْ حرَّكهم له أنْ يتحرَّكوا، ولم نجدْ في المتكلِّمين أنْطفَ ولا أكثرَ عيوباً، ممَّن يرمي خصومَه بالكفر.
الجماز وجارية آل جعفر وكان أبو عبد اللّه الجمَّاز، وهو محمد بن عمرو، يتعشَّق جاريةً لآلِ جعفر يقال لها طُغْيان، وكان لهم خصِيٌّ يحفظُها إذا أرادتْ بيوتَ المغنِّين، وكان الخصيُّ أشدَّ عشقاً لها من الجمَّاز، وكان قد حال بينَه وبينَ كلامِها، والدنوِّ منها، فقال الجماز وكان اسم الخادم سناناً:
ولِلظِّباءِ المِلاحِ ما للمَقِيتِ سِنانٍ
غازٍ بغير سلاحِ لَبِئْسَ زانٍ خَصِيٌّ
وقال فيه أيضاً وفيها:
يحبُّني وأُحـبُّـهْ نَفْسِي الفداءُ لظبيٍ
إذا رآني يَسُبُّـهْ ن أجلِ ذاكَ سِنانٌ
يَنيكهُ أين زُبُّـه َبْهُ أجابَ سِنـانـاً
وقال أيضاً فيهما:
فيه فبئسَ الشرِيكُ ظبيٌ سنانُ شريكي
ولا يَدَعْنا نـنـيكُ ا يَنِـيكُ سِـنـانٌ
ما قيل من الشعر في الخصاء وقال الباخَرزيّ يذكرُ محاسِنَ خِصال الخِصيان:
ورجال إن كانت الأسفارُ ونساء لمطمـئنِّ مُـقـيمٍ
وقال حميد بن ثور يهجو امرأته:
بفِي من بغَى خيراً إليها الجلامدُ جُلُبَّانةٌ ورهاء تخصي حمارهـا
وقال مزرِّد بن ضِرار:
ولا جَاجَةٌ منها تلُوحُ علـى وَشْـمِ فجاءتْ كخاصي العَيرِ لم تَحْلَ عَاجةً
وقال عمرو الخارَكى:
نصيحٌ زادَني حـرصـا إذا لامَ علـى الـمـرد
لع ما عمِّرت أو أُخْصى ولا والـلّـه مـــا أقْ
وقال آخر:
ولا عافاكَ من جَهْد البَـلاءِ رَمَاك اللّهُ من أيْرٍ بأفـعَـى
إذا بلغت بي رَكَبَ النسـاء جَزَاكَ اللّهُ شَرّاً من رفـيقٍ
وما تنفكُّ تُنعِظ في الخَـلاَءِ أجُبْناً في الكريهة حين نلقى
ولولا البولُ عُوجِل بالخصاء فلا واللّه ما أمسَى رفيقـي
وقال بعض عبد القيس:
يرجو المناكحَ في بني الجـارودِ ما كان قَحذَمٌ ابنُ واهِصَة الْخُصى
ولكلِّ دهرٍ عَـثـرةٌ بـجُـدُود ومِن انتكاس الدهرِ أن زُوِّجتَهـا
حيّاً لكان خَصَاكَ بالمـغـمـود لو كان منذرُ إذ خطبت إلـيهـم
وقال أبو عبيدة: حدَّثني أبو الخطاب قال: كان عندنا رجلٌ أحدبُ فسقَط في بئرٍ فذهبت حَدَبته وصار آدَر فقيل له: كيف تجِدك? فقال: الذي جاءَ شرٌّ من الَّذِي ذهب.
وأبو الحسن عن بعض رجاله قال: خرج معاويةُ ذاتَ يومٍ يمشي ومَعه خَصِيٌّ له، إذ دخلَ على ميسونَ ابنة بحدل وهي أمُّ يزيد، فاستترت منه فقال: أتستترين منه، وإنَّما هو مثلُ المرأَة? قالت: أتُرَى أنَّ المثلة به تُحِلُّ ما حرَّم اللّه تعالى.
ذكر ما جاء في خصاءِ الدوابّ ذكر آدمُ بن سليمان عن الشعبيّ قال: قرأت كتابَ عمر رضي اللّه تعالى عنه إلى سعد، يَنْهَى عن حذْف أذناب الخيل وأعرافها، وعن خصائها، ويأمره أن يُجْرِيَ من رأس المائتين، وهو أربعة فراسخ.
وسُفيان الثَّوري عن عاصم بن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه تعالى عنه كان ينهى عن خِصَاء البهائم ويقول: هل الإنماء إلاّ في الذكور.
وشَريك بن عبد اللّه، قال: أخبرني إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم النَّخَعي أنّ عمرَ رضي اللّه تعالى عنه نَهَى عن خصاءِ الخيل.
وسفيان الثوري عن إبراهيم بن المهاجر قال: كتب عمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لبعض عماله: لا تُجرِيَنَّ فرساً إلاَّ من المائتين، ولا تخْصِينَّ فرساً.
وقال: وسمعتُ نافعاً يقول: كان عبد اللّه بن عمر يكرَه خِصاءَ الذكورِ من الإبل، والبقر، والغنم.
وعبيد اللّه بن عمر عن نافع: أنَّ ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما كان يكره الخصاء ويقول: لا تقطعوا ناميةَ خَلْقِ اللّهِ تعالى.
وعبد اللّه وأبو بكر ابنا نافع عن نافع قال: نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أن تُخصَى ذكورُ الخيلِ، والإبلِ، والبقر، والغنم، يقول: فيها نشأة الخلق، ولا تصلح الإناث إلاَّ بالذكور.
ومحمد بن أبي ذئب قال: سألت الزُّهريَّ: هل بخِصاء البهائم بأس? قال: أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عُتبة بن مسعود، أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلى آله الطاهِرين، نهى عن صَبْرِ الروح، قَالَ الزُّهريُّ: والخِصاءُ صبرٌ شديد.
وأبو جعفَر الرَّازيّ قال: حدَّثنا الرَّبيعُ بن أنس، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه" قال: هو الخِصاء.
وأبو جرير عن قتادة عن عِكرِمة عن ابن عبَّاس نحوه.
أبو بكر الهذليّ قال: سألتُ الحسنَ عن خِصاء الدواب فقال: تسألني عَن هذا? لعن اللّه من خَصَى الرجال.
أبو بكر الهذليُّ عن عِكرِمة في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرَنَّ خَلْقَ اللّهِ" قال: خصاء الدواب، قال: وقال سعيد بن جبير: أخطأ عكرمة، هو دين اللّه.
نَصر بن طريف قال: حدَّثنا قَتادة عن عِكرمة في قوله تعالى: "فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ" قال: خصاء البهائم، فبلغ مجاهداً فقال: كذَبَ هو دين اللّه. فمن العجب أن الذي قال عكرمة هو الصواب، ولو كان هو الخطأ لما جاز لأحد أن يقول له: كذبت، والناسُ لا يضعون هذه الكلمةَ في موضِع خطأ الرأي ممَّن يُظَنُّ به الاجتهاد، وكان ممَّن له أن يقول، ولو أنَّ إنساناً سمِع قولَ اللّه تبارك وتعالى: "فَلَيُغَيِّرُنََّ خَلْقَ اللّهِ" قال: إنَّما يعني الخِصاء، لم يقبل ذلك منه؛ لأنَّ اللفظ ليست فيه دلالةٌ على شيءٍ دونَ شيء، وإذا كان اللفظُ عامّاً لم يكن لأحدٍ أن يقصِد به إلى شيءٍ بعينه إلاَّ أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك مع تلاوةِ الآية، أو يكونَ جبريلُ عليهِ السلام قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يضمر ولا ينوي، ولا يخصُّ ولا يعمُّ بالقصد؛ وإنَّما الدلالةُ في بِنيةِ الكلام نفسِه، فصورة الكلام هو الإرادة وهو القصد، وليس بينه وبين اللّه تعالى عملٌ آخر كالذي يكون من الناس، تعالى اللّهُ عن قول المشبِّهة علوّاً كبيراً.
أبو جرير عن عمار بن أبي عمار أَنَّ ابنَ عباسٍ قَالَ في قوله تعالى: "وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ" قَالَ: هو الخصاء.
وأبو جرير عن قَتادة عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ مثله.
أبو داود النَّخَعِيّ، عن محمَّدِ بن سعيدٍ عن عبادة بن نسيّ، عن إبراهيم بن محيريز قال: كان أحبَّ الخيلِ إلى سَلَفِ المسلمين، في عهد عمر، وعثمان، ومعاوية، رضي اللّه تعالى عنهم، الخِصْيان؛ فَإنَّها أخفى للكَمينِ والطلائع، وأبقَى على الجَهْدِ.
أبو جرير قال: أخبرني ابن جُريج عن عطاء أنَّه لم يَرَ بأساً بخصاء الدواب.
وأبو جرير عن أيُّوبَ عن ابن سيرين، أنَّه لم يكن يرى بأساً بالخصاء، ويقول: لو تُرِكت الفحولةُ لأكل بعضُها بعضاً.
وعمر ويونس عن الحسن: أنّه لم يكن يرى بأساً بخصاءِ الدواب.
سفيان بن عُيينة عن ابن طاوس عن أبيه: أنّه خَصى بعيراً.
وسفيان بن عيينة عن مالك بن مِغوَل عن عطاء، أنه سئل عن خصاء البغل فقال: إذا خفت عِضاضه.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
أقوال في النتاج المركب
ولْنَصِلْ هذا الكلام بالكلام الذي قبل هذا في الخلق المَركب وفي تلاقح الأجناس المختلفة، زعموا أن العِسبارَ ولد الضبع من الذئب، وجمعه عسابر، وقال الكميت:
نَ من الفَراعِل العَسابِرْ وتجمَّع المـتـفـرِّقُـو
يرميهم بأنَّهم أخلاطٌ وَمُعَلْهَجُونَ.
السمع ولد الذئب من الضبع وزعموا أنّ السِّمع ولد الذئب من الضبع، ويزعمون أنّ السِّمع كالحيَّةِ لا تعرف العِلَل، ولا تموتُ حَتْفَ أنفِها، ولا تموت إلاّ بِعَرَض يَعْرِض لها، ويَزْعمون أنّه لا يَعدو شيءٌ كعدو السِّمع، وأنّه أسرعُ مِنَ الريح والطَّير.
وقال سهم بن حنظلة يصف فرسه:
بذي شبيبٍ يُقاسِي لـيْلَـهُ خَـبَـبَـا فاعْصِ العواذل وارْمِ اللَّيلَ في عرضٍ
ولم يَدِجْه ولم يَغمِز لـه عَـصَـبَـا كالسِّمع لم يَنقب البَـيْطَـار سـرّتـه
وقَالَ ابن كُناسة يصف فرساً:
لُّ وقد صَوَّبَتْ على عِسبـار كالعقاب الطلوب يَضْرِبُها الطّ
وقال سؤر الذئب:
وعُقابٌ يحثُّها عِسْبـارُ هو سِمْعٌ إذا تمطَّرَ شيئاً
يقول: إذا اشتدَّ هربُ المطلوبِ الهاربِ من الطالب الجادّ، فهو أحث للطالب، وإذا صار كذلك صار المطلوبُ حينئذٍ في معنى من يحثٌّ الطلب، إذ صار إفراط سرعَتِه سبباً لإفراط طلبِ العُقاب.
وقال تأبط شرّاً، أو أبو محرز خلف بن حيَّان الأحمر:
وإذا يَعْدُو فسِمْـعٌ أَزَلُّ مُسْبِلٌ بالحيِّ أحوى رِفَلُّ
وإنَّما قال أَزَلّ وجعَلَه عادياً ووصفهُ بذلك، لأنَّه ابن الذئب، وقال الأصمعي:
يدير عيني لمظةٍ عِسبارَه
وقال في موضع آخر:
كأن منها طرفه استعارَه
وقال آخر:
تَلقى بها السِّمْعَ الأَزَلَّ الأطلَسَا
وزعموا أنَّ ولدَ الذئب من الكلبة الدَّيْسَم، ورووا لبشَّارِ بنِ بُرْد في دَيْسَمٍ العَنزِيّ أنّه قال:
أَتَرْوِي هِجائِي سادراً غَيْرَ مُقْصِرِ أدَيْسَمُ يا ابنَ الذئبِ مِنْ نسلِ زارعٍ
وزارع: اسم الكلب، يقال للكلاب أولاد زارعٍ.
زعم لأرسطو في النتاج المركب وزعم صاحب المنطق أنّ أصنافاً أُخَرَ من السباع المتزاوِجات المتلاقِحات مع اختلاف الجنس والصورة، معروفة النتاج مثل الذئاب التي تسفَد الكلابَ في أرض رُومِيَة: قال: وتتولَّد أَيضاً كلابٌ سَلوقيةٌ من ثعالبَ وكلاب، قال: وبين الحيوان الذي يسمَّى باليونانيَّة طاغريس وبين الكلب، تحدث هذه الكلابُ الهندية، قال: وليس يكون ذلك من الولادة الأولى.
قال أبو عثمان: عن بعض البصريين عن أصحابه قال: وزعموا أنَّ نِتاجَ الأولَى يخرجُ صعباً وحشيّاً لا يلقَّن ولا يؤلَّف.
تلاقح السبع والكلبة وزعم لي بعضهم عن رجلٍ من أهل الكوفة من بني تميم أنَّ الكلبةَ تعرِض لهذا السبع حتَّى تلقَح، ثم تعرَض لمثله مراراً حتى يكون جرو البطن الثالث قليلَ الصعوبة يقبلُ التلقين، وأنَّهم يأخذون إناثَ الكلاب، ويربِطونها في تلك البراريّ، فتجيءُ هذه السباعُ وتسفَدُها، وليس في الأرض أنثى يُجتَمَع على حبِّ سفادها، ولا ذكرٌ يجتمع له من النزوع إلى سفاد الأجناسِ المختلفة، أكثرَ في ذلك من الكلب والكلبة.
قال: وإذا رَبَطوا هذه الكلابَ الإناثَ في تلك البراري، فإن كانت هذه السباع هائجةً سفِدَتها، وإن لم يكن السبع هائجاً فالكلبة مأكولة، وقال أبو عدنان:
تَرُودُ بها عينُ المَهَا والجـآذرُ أيا باكيَ الأطلالِ في رَسْمِ دمنةٍ
وسنداوة فضفاضة وحَضَاجِرُ وعاناتُ جَوَّال وهَيْق سَفَـنَّـجٌ
وثُرْمَلَةٌ تعتادها وعَـسـابـرُ وسِمْعٌ خَفِيُّ الرِّزِّ ثِلْبٌ ودَوْبَـلٌ
وقد سمعنا ما قال صاحبُ المنطق من قبل، وما نظنُّ بمثله أن يخلِّد على نفسه في الكتب شهاداتٍ لا يحقِّقُها الامتحان، ولا يعرِف صدقَها أشباهُه من العلماء، وما عندَنا في معرفةِ ما ادَّعى إلاّ هذا القول.
وأمَّا الذين ذَكروا في أشعارهم السِّمْع والعِسبار، فليس في ظاهر كلامهم دليلٌ على ما ادَّعى عليهم النّاسُ من هذا التركيب المختلف، فأدَّينا الذي قالوا وأمسكْنا عن الشهادة، إذ لم نجد عليها بُرهاناً.
ولاد السعلاة وللنَّاس في هذا الضَّرْب ضروبٌ من الدعوى، وعلماءُ السوء يُظهرون تجويزَها وتحقيقَها، كالذي يدَّعون من أولاد السَّعَالِي من الناس، كما ذكروا عن عمرو بن يربوع، وكما يروي أبو زيدٍ النحويُّ عن السِّعلاة التي أقامت في بني تميم حتى وَلَدت فيهم، فلمَّا رأتْ برقاً يلمَعُ من شقِّ بلاد السَّعالِي، حنَّت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:
فَلاَ بِكِ ما أسَالَ وما أغاما رأى بَرْقاً فأوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ
وأنشدني أن الجنَّ طرقوا بعضَهم فقال:
فقالوا الجِنُّ قلتُ عِموا ظَلامَا أتَوا ناري فَقُلْتُ مَنُونَ أنـتـمْ
زعيمٌ نَحْسُدُ الإنسَ الطَّعامـا فقلتُ إلى الطَّعام فقال منهـم
ولم أعِب الرواية، وإنَّما عبتُ الإيمانَ بها، والتوكيدَ لمعانيها، فما أكثَرَ من يَروي هذا الضربَ على التعجُّبِ منه، وعلى أن يجعَلَ الرواية له سبباً لتعريفِ النَّاس حقَّ ذلك من باطِلِه، وأبو زيدٍ وأشباهُه مأمونون على النَّاس؛ إلاَّ أنَّ كلَّ من لم يكن متكلِّماً حاذقاً، وكان عند العلماء قدوةً وإماماً، فما أقرَبَ إفسادَه لهم من إفسادِ المتعمِّد لإفسادهم وأنشدوا في تثبيتِ أولاد السعلاة:
وحَسَنٌ أَنْ كَلَّفَتْنِي مَـا أجِـد تقول جمع من بُـوان ووَتِـدْ
أو ولدِ السِّعلاةِ أو جِروِ الأسَدْ وَلَمْ تقل جِيء بأبَـان ٍأو أُحُـدْ
أو ملكِ الأعجام مأسوراً بقِدّ
وقال آخر:
يا قاتَلَ اللّه بَنِي السِّعلاةِ عمراً وقابوساً شِرَارَ الناتِ
ما زعموا في جرهم وذكروا أَنَّ جُرهُماً كان من نِتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكان الملَكُ من الملائكة إذا عصى ربَّه في السماء أهبَطَه إلى الأرض في صورة رجل، وفي طبيعته، كما صنع بهاروت وماروت حين كان من شأنهما وشأنِ الزُّهَرة، وهي أناهيد ما كان، فلَّما عصى اللّهَ تعالى بعضُ الملائكة وأهبطَه إلى الأرض في صورةِ رجل، تزوَّج أمَّ جُرهمٍ فولدتْ له جُرهماً، ولذلك قال شاعرهم:
الناس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا لا هُمَّ إنَّ جُرهُماً عِبادُكا
ما زعموا في بلقيس وذي القرنين ومن هذا النسل ومن هذا التركيب والنجل كانت بِلْقِيسُ ملكةُ سَبأ، وكذلك كان ذو القرنين كانت أمُّه فيرى آدميَّة وأبوه عبرى من الملائكة، ولذلك لما سمِع عمرُ بن الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه رجلاً ينادي: يا ذا القرنين، فقال: أفَرَغْتُمْ من أسماءِ الأنبياء فارتفعتم إلى أسماءِ الملائكة?.
وروى المختارُ بن أبي عبيد أَنَّ عليّاً كان إذا ذَكَر ذا القرنين قال: ذلك المَلكُ الأمرط.
ما زعموا من تلاقح الجن والإنس وزعموا أنَّ التناكُح والتلاقُح قد يقع بين الجنِّ والإنس، لقوله تعالى: "وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ"، وذلك أن الجِنِّيَّاتِ إنَّما تعرِض لصَرْع رجالِ الإنس على جهة التعشُّق وطلبِ السِّفاد، وكذلك رجال الجنِّ لنساء بني آدم، ولولا ذلك لعرض الرِّجالُ للرِّجال، والنساءُ للنساء، ونساؤهم للرجال والنساء.
ومن زعَم أن الصَّرْعَ من المِرَّة، ردَّ قوله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُون الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ" وقال تعالى: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ"، فلو كان الجانُّ لا يفتضُّ الآدَمِيَّاتِ، ولم يكنْ ذلك قطُّ، وليس ذلك في تركيبِه، لَما قال اللّه تعالى هذا القول.
ما زعموا في النسناس وغيره وزعموا أنّ النَّسْنَاسَ تركيبُ ما بين الشِّق والإنسان، ويزعمون أنَّ خلقاً من وراء السدِّ تركيبٌ من النَّسْنَاسِ، والناس، والشقِّ، ويأجوج ومَأجوج، وذكروا عن الوَاق واق والدوَال باي أنهُمْ نِتاجُ ما بينَ بعض النَّباتِ والحيوان، وذكروا أنَّ أمَّةً كانت في الأرض، فأمرَ اللّه تعالى الملائكة فأجلوَهم؛ وإيَّاهم عَنَوا بقولهم: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلَّ لآدم وحواء: "وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمينَ"،فهذا يدلُّ على أن ظالماً وظُلماً قد كان في الأرض.
قال الأصمَعيُّ - أو خلَفٌ - في أرجوزة مشهورة، ذكرَ فيها طُوْلَ عمر الحَيَّة:
حَسِبْتَ وَرْساً خالَطَ اليَرَنَّا أرْقَشُ إنْ أسبَطَ أو تَثَنَّـى
إذا تراءَاهُ الحواةُ استَنَّـا خالَطَهُ مِنْ هَاهُنَا وَهَنَّـا
قال: وكان يقال لتلك الأمَّة مهنا.
قول المجوس في بدء الخلق وزعم المجوس أنَّ الناسَ من ولد مهنة ومهنينة، وأنَّهما تولدا فيما بينَ أرحام الأرَضين، ونطفتين ابتدرتا من عينَي ابن هُرمُز حين قتله هرمر، وحماقات أصحابِ الاثنَين كثيرةٌ فِي هذا الباب، ولولا أنِّي أحببْتُ أن تسمَعَ نوعاً من الكلام، ومبلغَ الرأي، لتُحدِثَ للّه تعالى شكراً على السلامة، لما ذكرتُ كثيراً من هذا الجنس.
عبد الله بن هلال صديق إبليس وختنه وزعم ابن هيثم أنَّه رأى بالكوفة فتًى من ولد عبد اللّه بن هلال الحميري، صديق إبليس وخَتَنِهِ، وأنَّهم كانوا لا يشكُّون أنَّ إبليسَ جَدُّه من قِبَل أمَّهاتِه، وسنقولُ في ذلك بالذي يجبُ إن شاء اللّه تعالى، وصِلَة هذا الكلام تجيءُ بعد هذا إن شاء اللّه تعالى.
ولْنَصِلْ هذا الكلام بالكلام الذي قبل هذا في الخلق المَركب وفي تلاقح الأجناس المختلفة، زعموا أن العِسبارَ ولد الضبع من الذئب، وجمعه عسابر، وقال الكميت:
نَ من الفَراعِل العَسابِرْ وتجمَّع المـتـفـرِّقُـو
يرميهم بأنَّهم أخلاطٌ وَمُعَلْهَجُونَ.
السمع ولد الذئب من الضبع وزعموا أنّ السِّمع ولد الذئب من الضبع، ويزعمون أنّ السِّمع كالحيَّةِ لا تعرف العِلَل، ولا تموتُ حَتْفَ أنفِها، ولا تموت إلاّ بِعَرَض يَعْرِض لها، ويَزْعمون أنّه لا يَعدو شيءٌ كعدو السِّمع، وأنّه أسرعُ مِنَ الريح والطَّير.
وقال سهم بن حنظلة يصف فرسه:
بذي شبيبٍ يُقاسِي لـيْلَـهُ خَـبَـبَـا فاعْصِ العواذل وارْمِ اللَّيلَ في عرضٍ
ولم يَدِجْه ولم يَغمِز لـه عَـصَـبَـا كالسِّمع لم يَنقب البَـيْطَـار سـرّتـه
وقَالَ ابن كُناسة يصف فرساً:
لُّ وقد صَوَّبَتْ على عِسبـار كالعقاب الطلوب يَضْرِبُها الطّ
وقال سؤر الذئب:
وعُقابٌ يحثُّها عِسْبـارُ هو سِمْعٌ إذا تمطَّرَ شيئاً
يقول: إذا اشتدَّ هربُ المطلوبِ الهاربِ من الطالب الجادّ، فهو أحث للطالب، وإذا صار كذلك صار المطلوبُ حينئذٍ في معنى من يحثٌّ الطلب، إذ صار إفراط سرعَتِه سبباً لإفراط طلبِ العُقاب.
وقال تأبط شرّاً، أو أبو محرز خلف بن حيَّان الأحمر:
وإذا يَعْدُو فسِمْـعٌ أَزَلُّ مُسْبِلٌ بالحيِّ أحوى رِفَلُّ
وإنَّما قال أَزَلّ وجعَلَه عادياً ووصفهُ بذلك، لأنَّه ابن الذئب، وقال الأصمعي:
يدير عيني لمظةٍ عِسبارَه
وقال في موضع آخر:
كأن منها طرفه استعارَه
وقال آخر:
تَلقى بها السِّمْعَ الأَزَلَّ الأطلَسَا
وزعموا أنَّ ولدَ الذئب من الكلبة الدَّيْسَم، ورووا لبشَّارِ بنِ بُرْد في دَيْسَمٍ العَنزِيّ أنّه قال:
أَتَرْوِي هِجائِي سادراً غَيْرَ مُقْصِرِ أدَيْسَمُ يا ابنَ الذئبِ مِنْ نسلِ زارعٍ
وزارع: اسم الكلب، يقال للكلاب أولاد زارعٍ.
زعم لأرسطو في النتاج المركب وزعم صاحب المنطق أنّ أصنافاً أُخَرَ من السباع المتزاوِجات المتلاقِحات مع اختلاف الجنس والصورة، معروفة النتاج مثل الذئاب التي تسفَد الكلابَ في أرض رُومِيَة: قال: وتتولَّد أَيضاً كلابٌ سَلوقيةٌ من ثعالبَ وكلاب، قال: وبين الحيوان الذي يسمَّى باليونانيَّة طاغريس وبين الكلب، تحدث هذه الكلابُ الهندية، قال: وليس يكون ذلك من الولادة الأولى.
قال أبو عثمان: عن بعض البصريين عن أصحابه قال: وزعموا أنَّ نِتاجَ الأولَى يخرجُ صعباً وحشيّاً لا يلقَّن ولا يؤلَّف.
تلاقح السبع والكلبة وزعم لي بعضهم عن رجلٍ من أهل الكوفة من بني تميم أنَّ الكلبةَ تعرِض لهذا السبع حتَّى تلقَح، ثم تعرَض لمثله مراراً حتى يكون جرو البطن الثالث قليلَ الصعوبة يقبلُ التلقين، وأنَّهم يأخذون إناثَ الكلاب، ويربِطونها في تلك البراريّ، فتجيءُ هذه السباعُ وتسفَدُها، وليس في الأرض أنثى يُجتَمَع على حبِّ سفادها، ولا ذكرٌ يجتمع له من النزوع إلى سفاد الأجناسِ المختلفة، أكثرَ في ذلك من الكلب والكلبة.
قال: وإذا رَبَطوا هذه الكلابَ الإناثَ في تلك البراري، فإن كانت هذه السباع هائجةً سفِدَتها، وإن لم يكن السبع هائجاً فالكلبة مأكولة، وقال أبو عدنان:
تَرُودُ بها عينُ المَهَا والجـآذرُ أيا باكيَ الأطلالِ في رَسْمِ دمنةٍ
وسنداوة فضفاضة وحَضَاجِرُ وعاناتُ جَوَّال وهَيْق سَفَـنَّـجٌ
وثُرْمَلَةٌ تعتادها وعَـسـابـرُ وسِمْعٌ خَفِيُّ الرِّزِّ ثِلْبٌ ودَوْبَـلٌ
وقد سمعنا ما قال صاحبُ المنطق من قبل، وما نظنُّ بمثله أن يخلِّد على نفسه في الكتب شهاداتٍ لا يحقِّقُها الامتحان، ولا يعرِف صدقَها أشباهُه من العلماء، وما عندَنا في معرفةِ ما ادَّعى إلاّ هذا القول.
وأمَّا الذين ذَكروا في أشعارهم السِّمْع والعِسبار، فليس في ظاهر كلامهم دليلٌ على ما ادَّعى عليهم النّاسُ من هذا التركيب المختلف، فأدَّينا الذي قالوا وأمسكْنا عن الشهادة، إذ لم نجد عليها بُرهاناً.
ولاد السعلاة وللنَّاس في هذا الضَّرْب ضروبٌ من الدعوى، وعلماءُ السوء يُظهرون تجويزَها وتحقيقَها، كالذي يدَّعون من أولاد السَّعَالِي من الناس، كما ذكروا عن عمرو بن يربوع، وكما يروي أبو زيدٍ النحويُّ عن السِّعلاة التي أقامت في بني تميم حتى وَلَدت فيهم، فلمَّا رأتْ برقاً يلمَعُ من شقِّ بلاد السَّعالِي، حنَّت وطارت إليهم، فقال شاعرهم:
فَلاَ بِكِ ما أسَالَ وما أغاما رأى بَرْقاً فأوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ
وأنشدني أن الجنَّ طرقوا بعضَهم فقال:
فقالوا الجِنُّ قلتُ عِموا ظَلامَا أتَوا ناري فَقُلْتُ مَنُونَ أنـتـمْ
زعيمٌ نَحْسُدُ الإنسَ الطَّعامـا فقلتُ إلى الطَّعام فقال منهـم
ولم أعِب الرواية، وإنَّما عبتُ الإيمانَ بها، والتوكيدَ لمعانيها، فما أكثَرَ من يَروي هذا الضربَ على التعجُّبِ منه، وعلى أن يجعَلَ الرواية له سبباً لتعريفِ النَّاس حقَّ ذلك من باطِلِه، وأبو زيدٍ وأشباهُه مأمونون على النَّاس؛ إلاَّ أنَّ كلَّ من لم يكن متكلِّماً حاذقاً، وكان عند العلماء قدوةً وإماماً، فما أقرَبَ إفسادَه لهم من إفسادِ المتعمِّد لإفسادهم وأنشدوا في تثبيتِ أولاد السعلاة:
وحَسَنٌ أَنْ كَلَّفَتْنِي مَـا أجِـد تقول جمع من بُـوان ووَتِـدْ
أو ولدِ السِّعلاةِ أو جِروِ الأسَدْ وَلَمْ تقل جِيء بأبَـان ٍأو أُحُـدْ
أو ملكِ الأعجام مأسوراً بقِدّ
وقال آخر:
يا قاتَلَ اللّه بَنِي السِّعلاةِ عمراً وقابوساً شِرَارَ الناتِ
ما زعموا في جرهم وذكروا أَنَّ جُرهُماً كان من نِتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكان الملَكُ من الملائكة إذا عصى ربَّه في السماء أهبَطَه إلى الأرض في صورة رجل، وفي طبيعته، كما صنع بهاروت وماروت حين كان من شأنهما وشأنِ الزُّهَرة، وهي أناهيد ما كان، فلَّما عصى اللّهَ تعالى بعضُ الملائكة وأهبطَه إلى الأرض في صورةِ رجل، تزوَّج أمَّ جُرهمٍ فولدتْ له جُرهماً، ولذلك قال شاعرهم:
الناس طِرْفٌ وهُمُ تِلادُكا لا هُمَّ إنَّ جُرهُماً عِبادُكا
ما زعموا في بلقيس وذي القرنين ومن هذا النسل ومن هذا التركيب والنجل كانت بِلْقِيسُ ملكةُ سَبأ، وكذلك كان ذو القرنين كانت أمُّه فيرى آدميَّة وأبوه عبرى من الملائكة، ولذلك لما سمِع عمرُ بن الخطَّاب رضي اللّه تعالى عنه رجلاً ينادي: يا ذا القرنين، فقال: أفَرَغْتُمْ من أسماءِ الأنبياء فارتفعتم إلى أسماءِ الملائكة?.
وروى المختارُ بن أبي عبيد أَنَّ عليّاً كان إذا ذَكَر ذا القرنين قال: ذلك المَلكُ الأمرط.
ما زعموا من تلاقح الجن والإنس وزعموا أنَّ التناكُح والتلاقُح قد يقع بين الجنِّ والإنس، لقوله تعالى: "وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ"، وذلك أن الجِنِّيَّاتِ إنَّما تعرِض لصَرْع رجالِ الإنس على جهة التعشُّق وطلبِ السِّفاد، وكذلك رجال الجنِّ لنساء بني آدم، ولولا ذلك لعرض الرِّجالُ للرِّجال، والنساءُ للنساء، ونساؤهم للرجال والنساء.
ومن زعَم أن الصَّرْعَ من المِرَّة، ردَّ قوله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُون الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ" وقال تعالى: "لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ"، فلو كان الجانُّ لا يفتضُّ الآدَمِيَّاتِ، ولم يكنْ ذلك قطُّ، وليس ذلك في تركيبِه، لَما قال اللّه تعالى هذا القول.
ما زعموا في النسناس وغيره وزعموا أنّ النَّسْنَاسَ تركيبُ ما بين الشِّق والإنسان، ويزعمون أنَّ خلقاً من وراء السدِّ تركيبٌ من النَّسْنَاسِ، والناس، والشقِّ، ويأجوج ومَأجوج، وذكروا عن الوَاق واق والدوَال باي أنهُمْ نِتاجُ ما بينَ بعض النَّباتِ والحيوان، وذكروا أنَّ أمَّةً كانت في الأرض، فأمرَ اللّه تعالى الملائكة فأجلوَهم؛ وإيَّاهم عَنَوا بقولهم: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"، ولذلك قال اللّه عزَّ وجلَّ لآدم وحواء: "وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمينَ"،فهذا يدلُّ على أن ظالماً وظُلماً قد كان في الأرض.
قال الأصمَعيُّ - أو خلَفٌ - في أرجوزة مشهورة، ذكرَ فيها طُوْلَ عمر الحَيَّة:
حَسِبْتَ وَرْساً خالَطَ اليَرَنَّا أرْقَشُ إنْ أسبَطَ أو تَثَنَّـى
إذا تراءَاهُ الحواةُ استَنَّـا خالَطَهُ مِنْ هَاهُنَا وَهَنَّـا
قال: وكان يقال لتلك الأمَّة مهنا.
قول المجوس في بدء الخلق وزعم المجوس أنَّ الناسَ من ولد مهنة ومهنينة، وأنَّهما تولدا فيما بينَ أرحام الأرَضين، ونطفتين ابتدرتا من عينَي ابن هُرمُز حين قتله هرمر، وحماقات أصحابِ الاثنَين كثيرةٌ فِي هذا الباب، ولولا أنِّي أحببْتُ أن تسمَعَ نوعاً من الكلام، ومبلغَ الرأي، لتُحدِثَ للّه تعالى شكراً على السلامة، لما ذكرتُ كثيراً من هذا الجنس.
عبد الله بن هلال صديق إبليس وختنه وزعم ابن هيثم أنَّه رأى بالكوفة فتًى من ولد عبد اللّه بن هلال الحميري، صديق إبليس وخَتَنِهِ، وأنَّهم كانوا لا يشكُّون أنَّ إبليسَ جَدُّه من قِبَل أمَّهاتِه، وسنقولُ في ذلك بالذي يجبُ إن شاء اللّه تعالى، وصِلَة هذا الكلام تجيءُ بعد هذا إن شاء اللّه تعالى.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
حوار في الكلب والديك
وقلت: ولو تمَّ للكلب معنى السبع وطباعه، لما أَلف الإنسانَ، واستوحش من السبع، وكرِه الغياض، وألِف الدُّور، واستوحَشَ من البرارِي وجانب القفار، وألِفَ المجالسَ والدِّيار، ولو تمَّ له معنى البهيمة في الطبع والخلق والغذاءِ، لما أكل الحيوانَ، وكَلِب على النَّاس، نعمْ حتَّى رُبَّما كلِب وَوَثَبَ على صاحبِه وكلِبَ على أهله، وقد ذكر ذلك طرفةُ فقال:
تَقْتُلُ حالَ النَّعِيم بالبُؤُس كُنْتَ لَنَا والدُّهـورَ آوِنةً
يَعُلُّه بالحَليبِ في الغَلَسِ ككَلْبِ طَسْمٍ وقد تَرَبَّبـه
إلاَّ يَلَغ في الدماءِ يَنْتهِسِ ظلَّ عليه يوماً يُفَرْفِـرُه
وقال حاجب بن دينار المازِنيُّ في مثل ذلك:
بمالٍ وسُلطانٍ إذا سَلِم الـحَـبْـلُ وكم من عدُوٍّ قد أعنتمْ عـلـيكُـم
بإحدى الدَّواهي حينَ فَارَقَه الجهلُ كذِي الكلبِ لمَّا أسمَنَ الكَلْبَ رابَهُ
وقال عوف بن الأحوص:
تُخَدِّشُهُ أَنْيَابُه وأظَافِـرُه فإنِّي وقيساً كالمسمِّنِ كَلْبَه
وأنشد ابن الأعرابي لبعضهم:
ولو ظَفِروا بالحزْمِ مَا سُمِّنَ الكَلْبُ وهُمْ سَمَّنُوا كلباً ليأكُلَ بعضَـهـمْ
وفي المثل: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْك.
وكان رجلٌ من أهل الشام مع الحجَّاج بن يوسف، وكان يحضُر طعامَه، فكتب إلى أهله يخبرُهم بما هو فيه من الخِصْب، وأنه قد سَمِن فكتبت إليه امرأته:
وأنتَ على بابِ الأمـيرِ بَـطِـينُ أتُهدِي ليَ القِرطَاسَ والخبْزُ حاجَتِي
فأنتَ على ما في يَدَيك ضَـنِـينُ إذا غِبْتَ لم تَذْكُرْ صَدِيقاً وإن تقـمْ
فيُهْزَلُ أهلُ الكلب وهو سَـمِـينُ فأنت ككَلْبِ السَّوْءِ في جُوعِ أهلِـه
وفي المثل: سمن كلب في جوعِ أهلِه، وذلك أنه عند السُّواف يصيب المال، والإخداجِ يعرض للنُّوق، يأكُلُ الجِيفَ فيسمَن، وعلى أنه حارِسٌ مُحتَرَسٌ منه، ومؤنسٌ شديد الإيحاش من نفسه، وأليفٌ كثير الخيانةِ على إلفِه، وإنما اقتنوه على أنْ ينذِرَهم بموضع السارق، وتركوا طَرده لينبههُم على مكان المبيِّت، وهو أسرقُ من كل سارق، وأدومُ جنايةً من ذلك المبيِّت، ويدلُّ على أنَّه سروقٌ عندَهم، قولُ الشاعر:
وجَبْجَبةً للوَطب لَيْلَى تُطلقُ أَفِي أَنْ سرَى كلبٌ فبيَّت جُلَّةً
فهو سَرَّاق، وصاحب بَيات، وهو نَبَّاشٌ، وآكلُ لحومِ النَّاس، أَلا إنَّه يجمعُ سِرقة الليل مع سرقة النّهار، ثم لا تجده أبداً يمشي في خِزانةٍ، أَو مطبَخ، أَو عَرْصةِ دار، أو في طريقٍ، أَو في بَراريَّ، أَو في ظهرِ جَبل، أو في بَطْن وادٍ، إلاَّ وخطمُه في الأرض يتشمَّم ويستروح، وإنْ كانت الأرضُ بيضاءَ حَصَّاءَ ودَوِّيَّةً ملساءَ، أو صخرةً خلقاء؛ حرصاً وجشعاً، وشرهاً وطمعاً، نعم حتَّى لا تجده أيضاً يرى كلباً إلاَّ اشتمَّ استَه، ولا يتشمَّم غيرهَا مِنهُ، ولا تراه يُرمَى بحجر أيضاً أبداً إلاَّ رجَع إليه فعضَّ عليه؛ لأنَّه لمَّا كان لا يكاد يأكلُ إلاَّ شيئاً رمَوا به إليه صار ينسَى لِفَرْط شرَهِه وغلَبة الجشعِ على طبعه، أنَّ الراميَ إنَّما أراد عقْره أو قتلَه، فيظنّ لذلك أنَّه إنَّما أراد إطعامه والإحسانَ إليه، كذلك يخيِّل إليه فرْطُ النَّهم وتُوهِمُه غلبَةُ الشَّرَه، ولكنَّه رَمى بنفسِه على الناس عجزاً ولؤماً، وفُسولةً ونقصاً، وخافَ السباعَ واستوحش من الصَّحارى.
ولَمَّا سمِعوا بعضَ المفسِّرين يقول في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" إنَّ المحروم هو الكلب؛ وسمِعوا في المثل: اصنَعُوا المعروفَ ولو إلى الكلب عَطفُوا عليه واتَّخَذُوه في الدُّور، وعلى أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ من سِفْلتهم وأغبيائهم، ومن قلَّ تقزُّزُهُ وكثُر جهلُه، وردَّ الآثارَ إمَّا جهلاً وإمَّا معانَدة.
وأما الديك فمِن بهائم الطير وبغاثها، ومن كلولِها والعِيال على أربابها، وليس مِنْ أحرارها ولا مِنْ عِتاقِها وجوارحها، ولا ممَّا يطرِب بصوته ويُشجِي بلحنه، كالقَماريِّ والدَّباسيِّ والشَّفَانين والوراشِين والبلابل والفواخت، ولا ممَّا يُونِق بمنظره ويمتع الأبصار حسنُه، كالطواويس والتَّدارِج، ولا مما يعجِب بهدايته ويُعقَد الذمام بإلْفه ونِزاعه، وشدةِ أُنسه وحنينه، وتُرِيده بإرادته لك، وتَعطِف عليهِ لحبِّهِ إياك، كالحمام، ولا هو أيضاً من ذوات الطيران منها، فهو طائرٌ لا يطير، وبهيمةٌ لا يَصيد، ولا هو أيضاً مما يكون صيداً فيمْتِع من هذه الجهة ويُراد لهذه اللَّذة.
والخُفَّاش أمرَطُ، وهو جيِّدُ الطيران، والدِّيكُ كاسٍ وهو لا يطير، وأيُّ شيءٍ أعجبُ من ذي ريشٍ أرضيٍّ، ومن ذي جلدةٍ هوائيّ. وأجمعُ الخلق لخصال الخير الإنسان، وليس الزِّواجُ إلاّ في الإنسان وفي الطير، فلو كان الديك من غير الطير ثمَّ كان ممن لا يزاوج، لقد كان قد مُنِع هذه الفضيلة وعَدِم هذه المشاكَلَة الغريبة، وحُرم هذا السَّببَ الكريم والشِّبْه المحمود، فكيف وهو لا يزاوج، وهو من الطيرِ الذي ليس الزواجُ والإلْف وثباتُ العهْد، وطلَبُ الذرء وحبُّ النَّسل، والرجوعُ إلى السكن والحنين إلى الوطن - إلاَّ له وللإنسان، وكلُّ شيء لا يزاوج فإنَّما دخله النقصُ وخسِر هذه الفضيلَة من جهةٍ واحدة، وقد دخل الديكَ النقص مِنْ جهتين، ووصف أبو الأخزَر الحِمَّانيُّ الحِمارَ وعَيْر العانةِ خاصَّة، فإنَّه أمثلُ في باب المعرفة من الأهْليّ، فذكركيف يضرِب في الأُتُن، ووصَفَ استبهامَه عن طلب الولد، وجهلَه بموْضِع الذَّرْء، وأنَّ الولدَ لم يجئ منه عن طلبٍ له، ولكن النُّطفة البريئة من الأسقام، إذا لاقت الأرحام البريئَة مِن الأسقام حَدَث النِّتاج على الخلقة، وعلى ما سوِّيت عليه البِنية، وذكر أنّ نزوَه على الأتان، من شكل نَزْوه على العير، وإنَّما ذلك على قدْر ما يحضُره من الشَّبَق، ثمَّ لا يلتفِت إلى دُبرٍ من قُبُل، وإلى ما يَلقَحُ من مثلِه ممَّا لا يُلقَحُ فقال:
لا مُبْتَغِي الضِّنْءِ ولا بالعازلِ
يقول: هو لا يريد الولَد ولا يعزل.
والأشياء التي تألفُ الناسَ ولا تريدُ سِواهم، ولا تحنُّ إلى غيرهم، كالعصفور والخُطّاف والكلْب والسِّنَّور، والدِّيك لا يألَفُ منزِلَه ولا رَبْعه ولا يُنازع إلى دجاجته ولا طَرُوقته، ولا يحنُّ إلى ولده، بل لم يَدرِ قطُّ أنّ له ولداً؛ ولو دَرَى لكان على دِرايتِهِ دليل، فإذ قد وجدناه لبيضِه وفراريجهِ الكائنةِ منه، كما نجدُه لما لم يلدْه ولِمَا ليسَ من شَكلهِ ولا يرجِع إلى نسبه، فكيف تُعرَف الأمور إلاَّ بهذا وشبهه، وهو مع ذلك أبلَهُ لا يعرِف أهلَ دارِه، ومبهوتٌ لا يُثْبِتُ وَجهَ صَاحِبه، وهو لم يُخْلَق إلاَّ عندَه وفي ظلِّه، وفي طعامِه وشرابِه، وتَحْتَ جناحه.
والكلْبُ على ما فيه يعرف صاحبَهُ، وهو والسِّنَّور يعرِفان أسماءهما، ويألَفَان موضعَهما، وإن طُردا رَجعا، وإن أُجِيعا صَبَرَا، وإن أُهِينا احتملا.
والديك يكون في الدار من لَدُنْ كانَ فَرُّوجاً صغيراً إلى أن صار ديكاً كبيراً، وهو إن خرَج من باب الدار، أو سقط على حائط من حيطان الجيران، أو على موضعٍ من المواضع، لم يعرِفْ كيف الرُّجوعُ، وإن كان يُرَى منزلُه قريباً، وسهل المطلبِ يسيراً، ولا يَذكُر ولا يتذَكَّر، ولا يهتدي ولا يتصوَّر لَه كيف يكونُ الاهتداء، ولو حنَّ لَطَلَبَ، ولو احتاج لالتمس، ولو كان هذا الخُبْرُ في طباعه لظَهَر، ولكنَّهَا طبيعةٌ بلهاءُ مستبهِمة، طامحة وذاهلة، ثمَّ يسفَدُ الدَّجاجةَ ولا يعرفُها، هذا مع شدَّةِ حاجته إليهنَّ وحِرصِه على السِّفاد، والحاجةُ تفتِقُ الحِيلَة، وتَدُلُّ على المعرفة، إلاَّ ما عليه الديك؛ فإنَّه مع حِرصهِ على السِّفاد، لا يعرفُ التي يسفَد، ولا يقصِد إلى ولدٍ، ولا يحضُن بيضاً ولا يعطِفُه رَحِمٌ، فهو من ها هنا أحمقُ من الحُبارَى وأعقُّ من الضبِّ، وقال عثمان بن عفَّان رضي اللّه تعالى عنه: كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتى الحُبَارى، فضرَب بها المثلَ كما ترى في المُوقِ والغفْلة، وفي الجهل والبَلَه، وتقول العرب: أعَقُّ من الضَّبِّ؛ لأنَّه يأكلُ حُسُولَه.
أكل الهرة أولادها وكرُمَ عند العرَب حظُّ الهِرَّة، لقولهم: أَبَرُّ مِنْ هِرَّة، وأعقُّ مِنْ ضَبٍّ، فوَجَّهوا أكلَ الهرَّةِ أولادَها على شدَّة الحبِّ لها، ووجَّهوا أَكْلَ الضبِّ لها على شدَّةِ البغْض لها، وليس ينجو مِنْهُ شيءٌ منها إلاّ بشغْلِه بِأَكْل إخْوته عنه، وليس يحرُسُها ممَّا يأكلُها إلاَّ ليأكلَها، ولذلك قال العَمَلَّسُ بن عَقيل، لأبيه عَقيل بن عُلَّفَة:
وَجدتَ مَرارةَ الكلأ الوبيل أكلْتَ بَنِيك أكْلَ الضَّبِّ حتَّى
منَعْتَ فِناءَ بيتك من بَجيلِ فلو أنَّ الأُلَى كانوا شهـوداً
وقال أيضاً:
ترَكت بَنِيك لَيْسَ لَهُمْ عديد أكلْت بَنِيك أَكل الضَّبِّ حتَّى
وشبَّه السّيِّدُ بن محمَّد الحميريُّ، عائشةَ رضي اللّه تعالى عنها في نصْبِها الحربَ يوم الجملِ لقتال بنيها، بالهرَّةِ حين تأكلُ أولادَها، فقال:
تُزْجِي إلى البَصْرَةِ أجْنَادَها جَاءَتْ معَ الأَشْقَينَ في هَوْدَجٍ
تُريدُ أن تـأكُـلَ أولادَهَـا كأنَّها في فِعـلِـهـا هِـرَّةٌ
رعاية الذئبة لولد الضبع وتقول العرب أيضاً: أحمَقُ مِنْ جَهِيزَة، وهي عِرس الذئب؛ لأنَّها تدعُ ولدها وترضع ولد الضبع.
قال: وهذا معنى قولِ ابن جِذْل الطِّعَان.
بَنِيهَا فلم تَرْقَع بذلك مَرْقَـعـا كَمُرضِعَةٍ أولادَ أُخرَى وضَيَّعَتْ
رعاية الذئب لولد الضبع ويقولون: إنَّ الضبعَ إذا صِيدَت أو قُتلت، فإنَّ الذئب يأتي أولادَها باللحم،
وقلت: ولو تمَّ للكلب معنى السبع وطباعه، لما أَلف الإنسانَ، واستوحش من السبع، وكرِه الغياض، وألِف الدُّور، واستوحَشَ من البرارِي وجانب القفار، وألِفَ المجالسَ والدِّيار، ولو تمَّ له معنى البهيمة في الطبع والخلق والغذاءِ، لما أكل الحيوانَ، وكَلِب على النَّاس، نعمْ حتَّى رُبَّما كلِب وَوَثَبَ على صاحبِه وكلِبَ على أهله، وقد ذكر ذلك طرفةُ فقال:
تَقْتُلُ حالَ النَّعِيم بالبُؤُس كُنْتَ لَنَا والدُّهـورَ آوِنةً
يَعُلُّه بالحَليبِ في الغَلَسِ ككَلْبِ طَسْمٍ وقد تَرَبَّبـه
إلاَّ يَلَغ في الدماءِ يَنْتهِسِ ظلَّ عليه يوماً يُفَرْفِـرُه
وقال حاجب بن دينار المازِنيُّ في مثل ذلك:
بمالٍ وسُلطانٍ إذا سَلِم الـحَـبْـلُ وكم من عدُوٍّ قد أعنتمْ عـلـيكُـم
بإحدى الدَّواهي حينَ فَارَقَه الجهلُ كذِي الكلبِ لمَّا أسمَنَ الكَلْبَ رابَهُ
وقال عوف بن الأحوص:
تُخَدِّشُهُ أَنْيَابُه وأظَافِـرُه فإنِّي وقيساً كالمسمِّنِ كَلْبَه
وأنشد ابن الأعرابي لبعضهم:
ولو ظَفِروا بالحزْمِ مَا سُمِّنَ الكَلْبُ وهُمْ سَمَّنُوا كلباً ليأكُلَ بعضَـهـمْ
وفي المثل: سمِّن كَلْبَكَ يَأْكُلْك.
وكان رجلٌ من أهل الشام مع الحجَّاج بن يوسف، وكان يحضُر طعامَه، فكتب إلى أهله يخبرُهم بما هو فيه من الخِصْب، وأنه قد سَمِن فكتبت إليه امرأته:
وأنتَ على بابِ الأمـيرِ بَـطِـينُ أتُهدِي ليَ القِرطَاسَ والخبْزُ حاجَتِي
فأنتَ على ما في يَدَيك ضَـنِـينُ إذا غِبْتَ لم تَذْكُرْ صَدِيقاً وإن تقـمْ
فيُهْزَلُ أهلُ الكلب وهو سَـمِـينُ فأنت ككَلْبِ السَّوْءِ في جُوعِ أهلِـه
وفي المثل: سمن كلب في جوعِ أهلِه، وذلك أنه عند السُّواف يصيب المال، والإخداجِ يعرض للنُّوق، يأكُلُ الجِيفَ فيسمَن، وعلى أنه حارِسٌ مُحتَرَسٌ منه، ومؤنسٌ شديد الإيحاش من نفسه، وأليفٌ كثير الخيانةِ على إلفِه، وإنما اقتنوه على أنْ ينذِرَهم بموضع السارق، وتركوا طَرده لينبههُم على مكان المبيِّت، وهو أسرقُ من كل سارق، وأدومُ جنايةً من ذلك المبيِّت، ويدلُّ على أنَّه سروقٌ عندَهم، قولُ الشاعر:
وجَبْجَبةً للوَطب لَيْلَى تُطلقُ أَفِي أَنْ سرَى كلبٌ فبيَّت جُلَّةً
فهو سَرَّاق، وصاحب بَيات، وهو نَبَّاشٌ، وآكلُ لحومِ النَّاس، أَلا إنَّه يجمعُ سِرقة الليل مع سرقة النّهار، ثم لا تجده أبداً يمشي في خِزانةٍ، أَو مطبَخ، أَو عَرْصةِ دار، أو في طريقٍ، أَو في بَراريَّ، أَو في ظهرِ جَبل، أو في بَطْن وادٍ، إلاَّ وخطمُه في الأرض يتشمَّم ويستروح، وإنْ كانت الأرضُ بيضاءَ حَصَّاءَ ودَوِّيَّةً ملساءَ، أو صخرةً خلقاء؛ حرصاً وجشعاً، وشرهاً وطمعاً، نعم حتَّى لا تجده أيضاً يرى كلباً إلاَّ اشتمَّ استَه، ولا يتشمَّم غيرهَا مِنهُ، ولا تراه يُرمَى بحجر أيضاً أبداً إلاَّ رجَع إليه فعضَّ عليه؛ لأنَّه لمَّا كان لا يكاد يأكلُ إلاَّ شيئاً رمَوا به إليه صار ينسَى لِفَرْط شرَهِه وغلَبة الجشعِ على طبعه، أنَّ الراميَ إنَّما أراد عقْره أو قتلَه، فيظنّ لذلك أنَّه إنَّما أراد إطعامه والإحسانَ إليه، كذلك يخيِّل إليه فرْطُ النَّهم وتُوهِمُه غلبَةُ الشَّرَه، ولكنَّه رَمى بنفسِه على الناس عجزاً ولؤماً، وفُسولةً ونقصاً، وخافَ السباعَ واستوحش من الصَّحارى.
ولَمَّا سمِعوا بعضَ المفسِّرين يقول في قوله تعالى: "وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" إنَّ المحروم هو الكلب؛ وسمِعوا في المثل: اصنَعُوا المعروفَ ولو إلى الكلب عَطفُوا عليه واتَّخَذُوه في الدُّور، وعلى أنَّ ذلك لا يكون إلاَّ من سِفْلتهم وأغبيائهم، ومن قلَّ تقزُّزُهُ وكثُر جهلُه، وردَّ الآثارَ إمَّا جهلاً وإمَّا معانَدة.
وأما الديك فمِن بهائم الطير وبغاثها، ومن كلولِها والعِيال على أربابها، وليس مِنْ أحرارها ولا مِنْ عِتاقِها وجوارحها، ولا ممَّا يطرِب بصوته ويُشجِي بلحنه، كالقَماريِّ والدَّباسيِّ والشَّفَانين والوراشِين والبلابل والفواخت، ولا ممَّا يُونِق بمنظره ويمتع الأبصار حسنُه، كالطواويس والتَّدارِج، ولا مما يعجِب بهدايته ويُعقَد الذمام بإلْفه ونِزاعه، وشدةِ أُنسه وحنينه، وتُرِيده بإرادته لك، وتَعطِف عليهِ لحبِّهِ إياك، كالحمام، ولا هو أيضاً من ذوات الطيران منها، فهو طائرٌ لا يطير، وبهيمةٌ لا يَصيد، ولا هو أيضاً مما يكون صيداً فيمْتِع من هذه الجهة ويُراد لهذه اللَّذة.
والخُفَّاش أمرَطُ، وهو جيِّدُ الطيران، والدِّيكُ كاسٍ وهو لا يطير، وأيُّ شيءٍ أعجبُ من ذي ريشٍ أرضيٍّ، ومن ذي جلدةٍ هوائيّ. وأجمعُ الخلق لخصال الخير الإنسان، وليس الزِّواجُ إلاّ في الإنسان وفي الطير، فلو كان الديك من غير الطير ثمَّ كان ممن لا يزاوج، لقد كان قد مُنِع هذه الفضيلة وعَدِم هذه المشاكَلَة الغريبة، وحُرم هذا السَّببَ الكريم والشِّبْه المحمود، فكيف وهو لا يزاوج، وهو من الطيرِ الذي ليس الزواجُ والإلْف وثباتُ العهْد، وطلَبُ الذرء وحبُّ النَّسل، والرجوعُ إلى السكن والحنين إلى الوطن - إلاَّ له وللإنسان، وكلُّ شيء لا يزاوج فإنَّما دخله النقصُ وخسِر هذه الفضيلَة من جهةٍ واحدة، وقد دخل الديكَ النقص مِنْ جهتين، ووصف أبو الأخزَر الحِمَّانيُّ الحِمارَ وعَيْر العانةِ خاصَّة، فإنَّه أمثلُ في باب المعرفة من الأهْليّ، فذكركيف يضرِب في الأُتُن، ووصَفَ استبهامَه عن طلب الولد، وجهلَه بموْضِع الذَّرْء، وأنَّ الولدَ لم يجئ منه عن طلبٍ له، ولكن النُّطفة البريئة من الأسقام، إذا لاقت الأرحام البريئَة مِن الأسقام حَدَث النِّتاج على الخلقة، وعلى ما سوِّيت عليه البِنية، وذكر أنّ نزوَه على الأتان، من شكل نَزْوه على العير، وإنَّما ذلك على قدْر ما يحضُره من الشَّبَق، ثمَّ لا يلتفِت إلى دُبرٍ من قُبُل، وإلى ما يَلقَحُ من مثلِه ممَّا لا يُلقَحُ فقال:
لا مُبْتَغِي الضِّنْءِ ولا بالعازلِ
يقول: هو لا يريد الولَد ولا يعزل.
والأشياء التي تألفُ الناسَ ولا تريدُ سِواهم، ولا تحنُّ إلى غيرهم، كالعصفور والخُطّاف والكلْب والسِّنَّور، والدِّيك لا يألَفُ منزِلَه ولا رَبْعه ولا يُنازع إلى دجاجته ولا طَرُوقته، ولا يحنُّ إلى ولده، بل لم يَدرِ قطُّ أنّ له ولداً؛ ولو دَرَى لكان على دِرايتِهِ دليل، فإذ قد وجدناه لبيضِه وفراريجهِ الكائنةِ منه، كما نجدُه لما لم يلدْه ولِمَا ليسَ من شَكلهِ ولا يرجِع إلى نسبه، فكيف تُعرَف الأمور إلاَّ بهذا وشبهه، وهو مع ذلك أبلَهُ لا يعرِف أهلَ دارِه، ومبهوتٌ لا يُثْبِتُ وَجهَ صَاحِبه، وهو لم يُخْلَق إلاَّ عندَه وفي ظلِّه، وفي طعامِه وشرابِه، وتَحْتَ جناحه.
والكلْبُ على ما فيه يعرف صاحبَهُ، وهو والسِّنَّور يعرِفان أسماءهما، ويألَفَان موضعَهما، وإن طُردا رَجعا، وإن أُجِيعا صَبَرَا، وإن أُهِينا احتملا.
والديك يكون في الدار من لَدُنْ كانَ فَرُّوجاً صغيراً إلى أن صار ديكاً كبيراً، وهو إن خرَج من باب الدار، أو سقط على حائط من حيطان الجيران، أو على موضعٍ من المواضع، لم يعرِفْ كيف الرُّجوعُ، وإن كان يُرَى منزلُه قريباً، وسهل المطلبِ يسيراً، ولا يَذكُر ولا يتذَكَّر، ولا يهتدي ولا يتصوَّر لَه كيف يكونُ الاهتداء، ولو حنَّ لَطَلَبَ، ولو احتاج لالتمس، ولو كان هذا الخُبْرُ في طباعه لظَهَر، ولكنَّهَا طبيعةٌ بلهاءُ مستبهِمة، طامحة وذاهلة، ثمَّ يسفَدُ الدَّجاجةَ ولا يعرفُها، هذا مع شدَّةِ حاجته إليهنَّ وحِرصِه على السِّفاد، والحاجةُ تفتِقُ الحِيلَة، وتَدُلُّ على المعرفة، إلاَّ ما عليه الديك؛ فإنَّه مع حِرصهِ على السِّفاد، لا يعرفُ التي يسفَد، ولا يقصِد إلى ولدٍ، ولا يحضُن بيضاً ولا يعطِفُه رَحِمٌ، فهو من ها هنا أحمقُ من الحُبارَى وأعقُّ من الضبِّ، وقال عثمان بن عفَّان رضي اللّه تعالى عنه: كلُّ شيءٍ يحبُّ ولدَه حتى الحُبَارى، فضرَب بها المثلَ كما ترى في المُوقِ والغفْلة، وفي الجهل والبَلَه، وتقول العرب: أعَقُّ من الضَّبِّ؛ لأنَّه يأكلُ حُسُولَه.
أكل الهرة أولادها وكرُمَ عند العرَب حظُّ الهِرَّة، لقولهم: أَبَرُّ مِنْ هِرَّة، وأعقُّ مِنْ ضَبٍّ، فوَجَّهوا أكلَ الهرَّةِ أولادَها على شدَّة الحبِّ لها، ووجَّهوا أَكْلَ الضبِّ لها على شدَّةِ البغْض لها، وليس ينجو مِنْهُ شيءٌ منها إلاّ بشغْلِه بِأَكْل إخْوته عنه، وليس يحرُسُها ممَّا يأكلُها إلاَّ ليأكلَها، ولذلك قال العَمَلَّسُ بن عَقيل، لأبيه عَقيل بن عُلَّفَة:
وَجدتَ مَرارةَ الكلأ الوبيل أكلْتَ بَنِيك أكْلَ الضَّبِّ حتَّى
منَعْتَ فِناءَ بيتك من بَجيلِ فلو أنَّ الأُلَى كانوا شهـوداً
وقال أيضاً:
ترَكت بَنِيك لَيْسَ لَهُمْ عديد أكلْت بَنِيك أَكل الضَّبِّ حتَّى
وشبَّه السّيِّدُ بن محمَّد الحميريُّ، عائشةَ رضي اللّه تعالى عنها في نصْبِها الحربَ يوم الجملِ لقتال بنيها، بالهرَّةِ حين تأكلُ أولادَها، فقال:
تُزْجِي إلى البَصْرَةِ أجْنَادَها جَاءَتْ معَ الأَشْقَينَ في هَوْدَجٍ
تُريدُ أن تـأكُـلَ أولادَهَـا كأنَّها في فِعـلِـهـا هِـرَّةٌ
رعاية الذئبة لولد الضبع وتقول العرب أيضاً: أحمَقُ مِنْ جَهِيزَة، وهي عِرس الذئب؛ لأنَّها تدعُ ولدها وترضع ولد الضبع.
قال: وهذا معنى قولِ ابن جِذْل الطِّعَان.
بَنِيهَا فلم تَرْقَع بذلك مَرْقَـعـا كَمُرضِعَةٍ أولادَ أُخرَى وضَيَّعَتْ
رعاية الذئب لولد الضبع ويقولون: إنَّ الضبعَ إذا صِيدَت أو قُتلت، فإنَّ الذئب يأتي أولادَها باللحم،
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
وأنشد الكُميت:
لِذِي الحبل حتى عَال أوسٌ عِيالها كما خَامَرَتْ في حِضْنِها أمُّ عامرٍ
وأوس هو الذئب، وقال في ذلك:
ضِغْثٌ يَزيد على إبَالَه في كلِّ يومٍ من ذُؤَالَه
أوساً أُويسُ من الهباله فلأحْشأنَّك مِشْقَـصـاً
الأوس: الإعطاء، وأويس هو الذئب، وقال في ذلك الهذليّ:
ما فَعَلَ اليومَ أُويسٌ في الغنمْ يا ليتَ شعري عنك والأَمْرُ أَمَمْ
وقال أميَّةُ بن أبي الصّلْت:
وَيُحوطُهم في كلِّ عامٍ جامد وأبو اليتامى كانَ يُحْسِنُ أوسهم
حمق النعامة ويقولون: أحْمَقُ مِنْ نَعَامة كما يقولون: أَشْرَدُ مِنْ نعامة قالوا ذلك لأنّها تدَعُ الحَضْن على بيضِها ساعةَ الحاجة إلى الطُّعم، فإن هي في خروجِها ذلك رأتْ بيضَ أخرى قد خرجت للطُّعم، حضَنت بيضَها ونسِيت بيضَ نفسها، ولعلَّ تلك أن تُصادَ فلا ترجعُ إلى بيضها بالعَرَاء حتَّى تهلِك، قالوا: ولذلك قال ابن هَرْمة:
وقَدْحِي بكَفِّيَ زَنْداً شَحَاحا فإنِّي وتَرْكي نَدَى الأَكرَمِينَ
ومُلبِسةٍ بَيضَ أُخْرَى جناحا كتاركةٍ بيضَها بالـعَـرَاء
وقد تحضُن الحمامُ على بيض الدَّجاج، وتحضُن الدَّجاجةُ بيضَ الطاوُس، فأمَّا أن يَدَعَ بَيضَه ويحضُنَ بيضَ الدَّجاجة، أو تَدَعَ الدجاجةُ بيضَها وتحضُن بيضَ الطاوس فلا، فأمَّا فَرُّوجُ الدَّجاجة إذا خرج من تحت الحمامة؛ فإنَّهُ يكونُ أكيسَ، وأَمَّا الطاوُس الذي يخرج من تحت الدَّجاجة فيكون أقلَّ حسناً وَأَبْغَضَ صوتاً.
الفرخ والفروج وكلُّ بيضةٍ في الأرض فإنَّ اسمَ الذي فيها والذي يخرُج منها فرخ، إلاَّ بيضَ الدَّجاج فإنَّه يسمى فرُّوجاً، ولا يسمَّى فرخاً، إلاَّ أن الشعراء يجعلون الفَرُّوج فَرخاً على التوسُّع في الكلام، ويجوِّزون في الشعر أشياءَ لا يجوِّزونها في غير الشعر، قال الشاعر:
وسَودٌ تَدَاعى بالعشيِّ نَـواعِـبُـه لَعَمْرِي لأَصْواتُ المَكَاكيِّ بالضُّحَى
ومِنْ دِيكِ أنباطٍ تَنُوسُ غباغِـبُـه أحبُّ إلينـا مـن فِـراخِ دَجـاجةٍ
وقال الشمَّاخ بن ضِرار:
تأمَّلْ حِينَ يضربُك الشِّتـاءُ ألا مَنْ مُبلغٌ خاقانَ عـنِّـي
ومن شيخٍ أَضرَّ به الفَنـاءُ فتجعل في جنابك من صغير
يَلُذْنَ به إذا حَمِس الوَغَـاء فراخ دَجاجةٍ يَتْبَعْـنَ دِيكـاً
فإنْ قلت: وأيُّ شيء بلَغَ من قدْر الكلبِ وفضيلة الديك، حتَّى يتفرّغ لذكر محاسِنهما ومساويهما، والموازنة بينهما والتنوية بذكرهما، شيخان من عِلْيةِ المتكلِّمين، ومن الجلة المتقدِّمين، وعلى أنَّهما متى أبرما هذا الحكمَ وأفصحا بهذه القضيَّة، صار بهذا التدبير بهما حظٌّ وحكمة وفضيلة وديانة، وقلدَهما كلُّ مَن هو دونَهما، وسيعودُ ذلك عذراً لهما إذا رأيتهما يوازيان بين الذِّبَّان وبناتِ وَرْدانَ، وبين الخنافس والجِعْلان، وبينِ جميع أجناس الهمَج وأصناف الحشراتِ، والخشاش، حتَّى البعوض والفَراش والديدان والقِردان فإن جاز هذا في الرأي وتمَّ عليه العمل، صار هذا الضَّربُ من النظر عِوضاً من النَّظَر في التوحيد، وصار هذا الشكلُ من التمييز خَلَفاً من التعديل والتجوير، وسقَط القولُ في الوعد والوعيد، ونُسي القياسُ والحكم في الاسم، وبطَلَ الردُّ على أهلِ الملل، والموازنةُ بين جميع النِّحَل، والنظرُ في مراشد الناس ومصالحهم، وفي منافِعهم ومَرافقهم؛ لأنَّ قلوبَهم لا تتَّسع للجميع، وألسنَتهم لا تنطِلق بالكلِّ، وإنَّما الرأيُ أن تبدأ من الفتق بالأعظم، والأخوف فالأخوف.
وقلتَ: وهذا بابٌ من أبواب الفراغ وشكل من أشكال التطرُّف وطريق من طرق المزاح، وسَبيلٌ من سُبُل المضاحك، ورجالُ الجدَِّ غير رجالِ الهزْل، وقد يحسُن بالشَّبَابِ ويقبُح مثلُه من الشيوخ، ولولا التحصيلُ والموازنَة، والإبقاء على الأدب، والدَّيانة بشدَّة المحاسبة، لما قالوا: لكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ زمانٍ رجالٌ، ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، ولكلِّ طعامٍ أكلة.
تنوع الملكات وقوتها وضرورة ظهورها قد زعم أناسٌ أنَّ كلِّ إنسانٍ فيه آلةِ لَمِرْفِقٍ من المرافق، وأداةٌ لمنفعةٍ من المنافع، ولا بدَّ لتلك الطبيعة من حركةٍ وإنْ أبطأَت، ولا بدَّ لذلك الكامنِ من ظهور، فإنْ أمكَنهُ ذلك بعثَه، وإلاَّ سَرَى إليه كما يسري السمُّ في البدن، ونمَى كما يَنْمِي العرق، كما أنّ البُزور البرّيَّة، والحبَّةَ الوحشيَّة الكامنةَ في أرحام الأَرَضين، لا بدَّ لها من حركةٍ عندَ زمانِ الحركة، ومن التفتُّق والانتشار في إبَّانِ الانتشار، وإذا صارت الأمطارُ لتلك الأرحامِ كالنُّطفة، وكان بعضُ الأرض كالأُم الغاذية فلا بدَّ لكلِّ ثديٍ قوِيٍّ أن يُظهِر قُوَّتَه، كما قال الأوّلُ:
ولا بدَّ للمصدور يوماً من النَّفْثْ
وقال:ولا بدَّ من شَكوى إذا لم يكنْ صبرُ ولذلك صارَ طلبُ الحسابِ أخفَّ على بعضهم، وطلبُ الطِّبِّ أحبَّ إلى بعضهم، وكذلك النِّزاع إلى الهندسة، وشغَفُ أهلِ النُّجوم بالنُّجوم، وكذلك أىضاً ربَّما تحرَّك له بعد الكَبرَة، وصَرف رغبتَه إليه بعد الكهولة، على قدر قوَّة العِرق في بدنه، وعلى قدْر الشَّواغل له وما يعترضُ عليه، فتجد واحداً يَلهج بطلب الغِناء واللحون، وآخر يلهج بشهوة القتال، حتى يَكْتَتِبَ مع الجُند، وآخر يختار أن يكون ورّاقاً، وآخر يختارُ طلبَ الملك، وتجِدُ حرصَهم على قدر العلل الباطِنة المحرِّكة لهم، ثمَّ لا تَدْرِي كيف عرضَ لهذا هذا السّببُ دونَ الآخَرِ إلاَّ بجملة من القول، ولا تجدُ المختارَ لبعض هذه الصناعات على بعضٍ يعَلمْ لم اختارَ ذلك في جملةٍ ولا تفسير، إذْ كان لم يَجْرِ منه عَلَى عِرْق، ولا اختارَه على إرْث.
من سار على غير طبعه وليس العجبُ من رجلٍ في طباعه سببٌ يَصِل بينه وبينَ بعض الأمور ويحرِّكه في بعض الجهات، ولكنَّ العجبَ ممَّن يموت مغنِّياً وهو لا طبعَ له في معرفة الوزن، وليس له جِرمٌ حسَن، فيكون إن فاته أن يكون معلِّماً ومغنِّيَ خاصَّة أنْ يكون مُطرباً ومُغَنِّيَ عامّة، وآخر قد ماتَ أن يُذكرَ بالجود، وأن يسخَّى على الطعام، وهو أبِخلُ الخلق طبعاً، فتراه كلفاً باتِّخاذ الطيِّبات ومستَهتَراً بالتكثير منها، ثمّ هو أبداً مفْتَضِحٌ وأبداً منتقض الطباع، ظاهرُ الخطأ، سيِّئ الجزع عندَ مؤاكلةِ من كان هو الداعيَ له، والمرسِلَ إليه، والعارفِ مقْدارَ لَقْمِه ونهايةَ أكله، فإنْ زعمتم أنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء إنَّما هو رهنٌ بأسبابه، وأسيرٌُ في أيدي عِلَله، عذَرتم جميعَ اللئام وجميع المقصِّرين، وجميعَ الفاسقين والضالِّين، وإن كان الأمر إلى التمكين دونَ التسخير،أفَليس من أعجبِ العجبَ ومن أسوأ التقدير التمثيل بين الدِّيَكة والكِلاب.
قَدْ عَرَفنا قولَك، وفهمْنا مذهبَك.
فأما قولُك: وما بلَغ من خَطَر الديك وقدر الكلب فإنَّ هذا ونحوَه كلامُ عبدٍ لم يفهم عن ربِّه، ولم يَعقِل عن سيِّده، إلاَّ بقدْر فهمِ العامَّةِ أو الطبقةِ التي تلي العامَّة، كأنَّكَ، فهَّمك اللّه تعالى، تظنُ أنَّ خَلْقَ الحيَّةِ والعقرَب، والتدبيرَ في خلقِ الفَراش والذباب، والحكمةَ في خلْق الذئاب والأسدِ وكلِّ مبغَّضٍ إليك أو محقَّر عندك، أو مسخَّرٍ لك أو واثبٍ عليك، أنَّ التدبير فيه مختلِفٌ أو ناقص، وأنَّ الحكمةَ فيه صغيرةٌ أو ممزوجة.
مصلحة الكون في امتزاج الخير بالشر اعلم أنَّ المصلحةَ في أمرٍ ابتداء الدنيا إلى انقضاءِ مُدَّتها امتزاجُ الخير بالشرِّ، والضارِّ بالنافع، والمكروهِ بالسارِّ، والضَّعَةِ بالرِّفعة، والكَثرة بالقِلَّة، ولو كان الشرُّ صِرْفاً هلَكَ الخلقُ، أو كان الخيرُ مَحضاً سقَطت المِحْنة وتقطَّعَتْ أسبابُ الفِكرة، ومع عَدَم الفِكرةِ يكون عَدَمُ الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالِمِ تثبُّتٌ وتوقُّف وتعلُّم، ولم يكن علم، ولا
لِذِي الحبل حتى عَال أوسٌ عِيالها كما خَامَرَتْ في حِضْنِها أمُّ عامرٍ
وأوس هو الذئب، وقال في ذلك:
ضِغْثٌ يَزيد على إبَالَه في كلِّ يومٍ من ذُؤَالَه
أوساً أُويسُ من الهباله فلأحْشأنَّك مِشْقَـصـاً
الأوس: الإعطاء، وأويس هو الذئب، وقال في ذلك الهذليّ:
ما فَعَلَ اليومَ أُويسٌ في الغنمْ يا ليتَ شعري عنك والأَمْرُ أَمَمْ
وقال أميَّةُ بن أبي الصّلْت:
وَيُحوطُهم في كلِّ عامٍ جامد وأبو اليتامى كانَ يُحْسِنُ أوسهم
حمق النعامة ويقولون: أحْمَقُ مِنْ نَعَامة كما يقولون: أَشْرَدُ مِنْ نعامة قالوا ذلك لأنّها تدَعُ الحَضْن على بيضِها ساعةَ الحاجة إلى الطُّعم، فإن هي في خروجِها ذلك رأتْ بيضَ أخرى قد خرجت للطُّعم، حضَنت بيضَها ونسِيت بيضَ نفسها، ولعلَّ تلك أن تُصادَ فلا ترجعُ إلى بيضها بالعَرَاء حتَّى تهلِك، قالوا: ولذلك قال ابن هَرْمة:
وقَدْحِي بكَفِّيَ زَنْداً شَحَاحا فإنِّي وتَرْكي نَدَى الأَكرَمِينَ
ومُلبِسةٍ بَيضَ أُخْرَى جناحا كتاركةٍ بيضَها بالـعَـرَاء
وقد تحضُن الحمامُ على بيض الدَّجاج، وتحضُن الدَّجاجةُ بيضَ الطاوُس، فأمَّا أن يَدَعَ بَيضَه ويحضُنَ بيضَ الدَّجاجة، أو تَدَعَ الدجاجةُ بيضَها وتحضُن بيضَ الطاوس فلا، فأمَّا فَرُّوجُ الدَّجاجة إذا خرج من تحت الحمامة؛ فإنَّهُ يكونُ أكيسَ، وأَمَّا الطاوُس الذي يخرج من تحت الدَّجاجة فيكون أقلَّ حسناً وَأَبْغَضَ صوتاً.
الفرخ والفروج وكلُّ بيضةٍ في الأرض فإنَّ اسمَ الذي فيها والذي يخرُج منها فرخ، إلاَّ بيضَ الدَّجاج فإنَّه يسمى فرُّوجاً، ولا يسمَّى فرخاً، إلاَّ أن الشعراء يجعلون الفَرُّوج فَرخاً على التوسُّع في الكلام، ويجوِّزون في الشعر أشياءَ لا يجوِّزونها في غير الشعر، قال الشاعر:
وسَودٌ تَدَاعى بالعشيِّ نَـواعِـبُـه لَعَمْرِي لأَصْواتُ المَكَاكيِّ بالضُّحَى
ومِنْ دِيكِ أنباطٍ تَنُوسُ غباغِـبُـه أحبُّ إلينـا مـن فِـراخِ دَجـاجةٍ
وقال الشمَّاخ بن ضِرار:
تأمَّلْ حِينَ يضربُك الشِّتـاءُ ألا مَنْ مُبلغٌ خاقانَ عـنِّـي
ومن شيخٍ أَضرَّ به الفَنـاءُ فتجعل في جنابك من صغير
يَلُذْنَ به إذا حَمِس الوَغَـاء فراخ دَجاجةٍ يَتْبَعْـنَ دِيكـاً
فإنْ قلت: وأيُّ شيء بلَغَ من قدْر الكلبِ وفضيلة الديك، حتَّى يتفرّغ لذكر محاسِنهما ومساويهما، والموازنة بينهما والتنوية بذكرهما، شيخان من عِلْيةِ المتكلِّمين، ومن الجلة المتقدِّمين، وعلى أنَّهما متى أبرما هذا الحكمَ وأفصحا بهذه القضيَّة، صار بهذا التدبير بهما حظٌّ وحكمة وفضيلة وديانة، وقلدَهما كلُّ مَن هو دونَهما، وسيعودُ ذلك عذراً لهما إذا رأيتهما يوازيان بين الذِّبَّان وبناتِ وَرْدانَ، وبين الخنافس والجِعْلان، وبينِ جميع أجناس الهمَج وأصناف الحشراتِ، والخشاش، حتَّى البعوض والفَراش والديدان والقِردان فإن جاز هذا في الرأي وتمَّ عليه العمل، صار هذا الضَّربُ من النظر عِوضاً من النَّظَر في التوحيد، وصار هذا الشكلُ من التمييز خَلَفاً من التعديل والتجوير، وسقَط القولُ في الوعد والوعيد، ونُسي القياسُ والحكم في الاسم، وبطَلَ الردُّ على أهلِ الملل، والموازنةُ بين جميع النِّحَل، والنظرُ في مراشد الناس ومصالحهم، وفي منافِعهم ومَرافقهم؛ لأنَّ قلوبَهم لا تتَّسع للجميع، وألسنَتهم لا تنطِلق بالكلِّ، وإنَّما الرأيُ أن تبدأ من الفتق بالأعظم، والأخوف فالأخوف.
وقلتَ: وهذا بابٌ من أبواب الفراغ وشكل من أشكال التطرُّف وطريق من طرق المزاح، وسَبيلٌ من سُبُل المضاحك، ورجالُ الجدَِّ غير رجالِ الهزْل، وقد يحسُن بالشَّبَابِ ويقبُح مثلُه من الشيوخ، ولولا التحصيلُ والموازنَة، والإبقاء على الأدب، والدَّيانة بشدَّة المحاسبة، لما قالوا: لكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ زمانٍ رجالٌ، ولكلِّ ساقطةٍ لاقطة، ولكلِّ طعامٍ أكلة.
تنوع الملكات وقوتها وضرورة ظهورها قد زعم أناسٌ أنَّ كلِّ إنسانٍ فيه آلةِ لَمِرْفِقٍ من المرافق، وأداةٌ لمنفعةٍ من المنافع، ولا بدَّ لتلك الطبيعة من حركةٍ وإنْ أبطأَت، ولا بدَّ لذلك الكامنِ من ظهور، فإنْ أمكَنهُ ذلك بعثَه، وإلاَّ سَرَى إليه كما يسري السمُّ في البدن، ونمَى كما يَنْمِي العرق، كما أنّ البُزور البرّيَّة، والحبَّةَ الوحشيَّة الكامنةَ في أرحام الأَرَضين، لا بدَّ لها من حركةٍ عندَ زمانِ الحركة، ومن التفتُّق والانتشار في إبَّانِ الانتشار، وإذا صارت الأمطارُ لتلك الأرحامِ كالنُّطفة، وكان بعضُ الأرض كالأُم الغاذية فلا بدَّ لكلِّ ثديٍ قوِيٍّ أن يُظهِر قُوَّتَه، كما قال الأوّلُ:
ولا بدَّ للمصدور يوماً من النَّفْثْ
وقال:ولا بدَّ من شَكوى إذا لم يكنْ صبرُ ولذلك صارَ طلبُ الحسابِ أخفَّ على بعضهم، وطلبُ الطِّبِّ أحبَّ إلى بعضهم، وكذلك النِّزاع إلى الهندسة، وشغَفُ أهلِ النُّجوم بالنُّجوم، وكذلك أىضاً ربَّما تحرَّك له بعد الكَبرَة، وصَرف رغبتَه إليه بعد الكهولة، على قدر قوَّة العِرق في بدنه، وعلى قدْر الشَّواغل له وما يعترضُ عليه، فتجد واحداً يَلهج بطلب الغِناء واللحون، وآخر يلهج بشهوة القتال، حتى يَكْتَتِبَ مع الجُند، وآخر يختار أن يكون ورّاقاً، وآخر يختارُ طلبَ الملك، وتجِدُ حرصَهم على قدر العلل الباطِنة المحرِّكة لهم، ثمَّ لا تَدْرِي كيف عرضَ لهذا هذا السّببُ دونَ الآخَرِ إلاَّ بجملة من القول، ولا تجدُ المختارَ لبعض هذه الصناعات على بعضٍ يعَلمْ لم اختارَ ذلك في جملةٍ ولا تفسير، إذْ كان لم يَجْرِ منه عَلَى عِرْق، ولا اختارَه على إرْث.
من سار على غير طبعه وليس العجبُ من رجلٍ في طباعه سببٌ يَصِل بينه وبينَ بعض الأمور ويحرِّكه في بعض الجهات، ولكنَّ العجبَ ممَّن يموت مغنِّياً وهو لا طبعَ له في معرفة الوزن، وليس له جِرمٌ حسَن، فيكون إن فاته أن يكون معلِّماً ومغنِّيَ خاصَّة أنْ يكون مُطرباً ومُغَنِّيَ عامّة، وآخر قد ماتَ أن يُذكرَ بالجود، وأن يسخَّى على الطعام، وهو أبِخلُ الخلق طبعاً، فتراه كلفاً باتِّخاذ الطيِّبات ومستَهتَراً بالتكثير منها، ثمّ هو أبداً مفْتَضِحٌ وأبداً منتقض الطباع، ظاهرُ الخطأ، سيِّئ الجزع عندَ مؤاكلةِ من كان هو الداعيَ له، والمرسِلَ إليه، والعارفِ مقْدارَ لَقْمِه ونهايةَ أكله، فإنْ زعمتم أنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء إنَّما هو رهنٌ بأسبابه، وأسيرٌُ في أيدي عِلَله، عذَرتم جميعَ اللئام وجميع المقصِّرين، وجميعَ الفاسقين والضالِّين، وإن كان الأمر إلى التمكين دونَ التسخير،أفَليس من أعجبِ العجبَ ومن أسوأ التقدير التمثيل بين الدِّيَكة والكِلاب.
قَدْ عَرَفنا قولَك، وفهمْنا مذهبَك.
فأما قولُك: وما بلَغ من خَطَر الديك وقدر الكلب فإنَّ هذا ونحوَه كلامُ عبدٍ لم يفهم عن ربِّه، ولم يَعقِل عن سيِّده، إلاَّ بقدْر فهمِ العامَّةِ أو الطبقةِ التي تلي العامَّة، كأنَّكَ، فهَّمك اللّه تعالى، تظنُ أنَّ خَلْقَ الحيَّةِ والعقرَب، والتدبيرَ في خلقِ الفَراش والذباب، والحكمةَ في خلْق الذئاب والأسدِ وكلِّ مبغَّضٍ إليك أو محقَّر عندك، أو مسخَّرٍ لك أو واثبٍ عليك، أنَّ التدبير فيه مختلِفٌ أو ناقص، وأنَّ الحكمةَ فيه صغيرةٌ أو ممزوجة.
مصلحة الكون في امتزاج الخير بالشر اعلم أنَّ المصلحةَ في أمرٍ ابتداء الدنيا إلى انقضاءِ مُدَّتها امتزاجُ الخير بالشرِّ، والضارِّ بالنافع، والمكروهِ بالسارِّ، والضَّعَةِ بالرِّفعة، والكَثرة بالقِلَّة، ولو كان الشرُّ صِرْفاً هلَكَ الخلقُ، أو كان الخيرُ مَحضاً سقَطت المِحْنة وتقطَّعَتْ أسبابُ الفِكرة، ومع عَدَم الفِكرةِ يكون عَدَمُ الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز، ولم يكن للعالِمِ تثبُّتٌ وتوقُّف وتعلُّم، ولم يكن علم، ولا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
يُعرف بابُ التبيُّن، ولا دفعُ مضرةٍ، ولا اجتلابُ منفعة، ولا صَبْر على مكروهٍ ولا شكْرٌ على محبوب، ولا تفاضُلٌ في بيانٍ، ولا تَنَافس في درجةٍ، وبطلَت فَرحةُ الظَّفَر وعزُّ الغلبة، ولم يكن على ظهرها مُحِقٌّ يجد عزَّ الحق، ومُبْطِلٌْ يجد ذِلَّة الباطل، وموقنٌ يجد بَرْدَ اليقين، وشاكٌّ يجد نقصَ الحَيرةِ وكَرْبَ الوُجوم؛ ولم تكن للنفوس آمالٌ ولم تتشعَّبْهَا الأطماع، ومَن لم يعرف كيف الطَّمعُ لم يعرِفِ اليأس، ومن جَهِل اليأسَ جهِلَ الأمن، وعادت الحالُ من الملائكة الذين هم صفوة الخلق، ومن الإنس الذين فيهم الأنبياءُ والأولياءُ، إلى حالِ السبُعِ والبهيمة، وإلى حال الغباوةِ والبلادة، وإلى حال النجوم في السُّخْرة؛ فإنها أنقص من حالِ البهائم في الرَّتْعَةِ، ومَنْ هذا الذي يسرُّه أن يكون الشمسَ والقمرَ والنَّارَ والثلج، أو برجاً من البروج أو قطعةً من الغيم؛ أو يكونَ المَجرَّةَ بأسْرها، أو مكيالاً من الماء أو مقداراً من الهواء? وكلُّ شيءٍ في العالم فإنما هو للإِنسان ولكلِّ مختَبَرٍ ومُختَار، ولأهل العقول والاستطاعة، ولأهل التبيُّن والرويَّة.
وأين تقَعُ لَذَّة البهيمة بالعَلُوفة، ولذَّة السبع بلَطْع الدَّمِ وأكل اللحم - مِن سرورِ الظَّفَر بالأعداء؛ ومِنِ انفتاحِ بابِ العلم بعد إدْمان القَرْع? وأين ذلك من سرورِ السُّودَد ومن عزِّ الرياسة? وأين ذلك من حال النُّبوّةِ والخِلافة، ومِن عزِّهِما وساطعِ نورهما، وأينَ تقعُ لذَّةُ درْك الحواسِّ الذي هو ملاقاةُ المطعَم والمشرب، وملاقاةُ الصوتِ المُطرِبِ واللّونِ المونق، والملمسة الليِّنة - مِن السرور بنَفاذ الأمرِ والنَّهي، وبجواز التوقيع، وبما يُوجب الخاتَمُ من الطاعة ويُلزِم من الحجَّة?، ولو استَوت الأمور بطَلَ التمييزُ، وإذا لم تكن كلفةٌ لم تكن مَثوبة، ولو كان ذلك لبطلتْ ثمرةُ التوكُّلِ على اللّه تعالى، واليقينِ بأنَّه الوَزَرُ والحافظ، والكالئ والدافع، وأَنَّ الذي يحاسِبُك أَجْوَدُ الأَجْوَدِين، وأرحَمُ الراحمين، وأنه الذي يقبلُ اليسيرَ ويَهَبُ الكثير، ولا يهلِك عليه إلاّ هالك، ولو كان الأمرُ على ما يشتهيه الغَرِير والجاهلُ بعواقبِ الأمور، لبطلَ النَّظَرُ وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطَّلت الأرواحُ من معانيها، والعقولُ من ثِمارها، ولعَدِمت الأشياءُ حظوظَها وحقوقَها. فسبْحَان من جعل منافعَها نعمةً، ومضارَّها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسّمها بين مُلِذٍّ ومُؤلم، وبين مؤنِسٍ ومُوحش، وبين صَغيرٍ حقير وجليل كبير، وبين عدوٍّ يرصُدُك وبين عقيلٍ يحرسك، وبين مُسَالمٍ يَمْنَعُكَ، وبين مُعينٍ يعضُدك، وجعَل في الجميع تمامَ المصلحة، وباجتماعها تتمُّ النعمة، وفي بطلانِ واحدٍ منها بُطلانَ الجميع، قياساً قائماً وبرهاناً واضحاً، فإنّ الجميع إنَّما هو واحدٌ ضُمّ إلى واحدٍ وواحدٌ ضُمَّ إليهما، ولأنّ الكلَّ أبعاضٌ، ولأنّ كلَّ جُثَّةٍ فمن أجزاء، فإذا جوَّزتَ رفْعَ واحدٍ والآخرُ مثلُه في الوزن وله مثلُ علَّتِه وحظِّه ونصيبِه، فقد جوَّزْتَ رفعَ الجميع؛ لأنّه ليس الأولُ بأحقَّ من الثاني في الوقت الذي رجوتَ فيه إبطالَ الأوَّل، والثاني كذلك والثالث والرابع، حتَّى تأتيَ على الكلِّ وتستفرغ الجميع، كذلك الأمورُ المضمَّنة والأسباب المقيَّدة؛ ألا ترى أنَّ الجبلَ ليس بأدلَّ على اللّه تعالى مِنْ الحصاة، وليس الطاوسُ المستحسنُ بأدَلَّ على اللّه تعالى مِنْ الخِنزير المستقبح، والنارُ والثلج وإنْ اختلفا في جِهَة البرودة والسُّخونة، فإنَّهما لم يختلفا في جهة البرهان والدَّلالة.
وأظنُّك ممَّن يرى أنَّ الطاوسَ أكرمُ على اللّه تعالى من الغراب، وأن التُّدْرُجَ أعزُّ على اللّه تعالى من الحِدَأةِ، وأنّ الغزالَ أحبُّ إلى اللّه تعالى من الذئب، فإنَّما هذه أمور فرّقها اللّه تعالى في عيون الناس، وميَّزها في طبائع العباد، فجعَلَ بعضها بهم أقربَ شبهاً، وجعل بعضَها إنسيّاً، وجعل بعضَها وحشيّاً، وبعضها غاذِياً، وبعضها قاتلاً، وكذلك الدُّرَّة وَ الخَرَزة والتمرة والجَمرة.
فلا تَذْهَبْ إلى ما تريك العينُ واذهَبْ إلى ما يريك العقل.
الاعتماد على العقل دون الحواس وللأُمور حكمان: حكم ظاهرٌ للحواس، وحكم باطنٌ للعقول، والعقل هو الحجَّة، وقد علمْنا أنَّ خَزَنَة النارِ من الملائكة، ليسوا بدون خزَنَةِ الجنَّة؛ وأنَّ ملك الموت ليس بدُونِ ملَكِ السَّحاب، وإن أتانا بالغَيث وجلب الحيَاء؛ وجبريلُ الذي يَنْزِل بالعذاب، ليسَ بدونِ ميكائيل الذي ينزِل بالرحمة؛ وإنَّما الاختلاف في المطيع والعاصي، وفي طبقاتِ ذلك ومواضعه، والاختلاف بين أصحابنا أنَّهم إذا استووا في المعاصي استَووا في العقاب، وإذا استَووا في الطاعة استووا في الثواب، وإذا استووا في عدم الطاعة والمعصية استووا في التفضل، هذا هو أصل المقالة، والقُطْب الذي تدورُ عليه الرحى.
وأين تقَعُ لَذَّة البهيمة بالعَلُوفة، ولذَّة السبع بلَطْع الدَّمِ وأكل اللحم - مِن سرورِ الظَّفَر بالأعداء؛ ومِنِ انفتاحِ بابِ العلم بعد إدْمان القَرْع? وأين ذلك من سرورِ السُّودَد ومن عزِّ الرياسة? وأين ذلك من حال النُّبوّةِ والخِلافة، ومِن عزِّهِما وساطعِ نورهما، وأينَ تقعُ لذَّةُ درْك الحواسِّ الذي هو ملاقاةُ المطعَم والمشرب، وملاقاةُ الصوتِ المُطرِبِ واللّونِ المونق، والملمسة الليِّنة - مِن السرور بنَفاذ الأمرِ والنَّهي، وبجواز التوقيع، وبما يُوجب الخاتَمُ من الطاعة ويُلزِم من الحجَّة?، ولو استَوت الأمور بطَلَ التمييزُ، وإذا لم تكن كلفةٌ لم تكن مَثوبة، ولو كان ذلك لبطلتْ ثمرةُ التوكُّلِ على اللّه تعالى، واليقينِ بأنَّه الوَزَرُ والحافظ، والكالئ والدافع، وأَنَّ الذي يحاسِبُك أَجْوَدُ الأَجْوَدِين، وأرحَمُ الراحمين، وأنه الذي يقبلُ اليسيرَ ويَهَبُ الكثير، ولا يهلِك عليه إلاّ هالك، ولو كان الأمرُ على ما يشتهيه الغَرِير والجاهلُ بعواقبِ الأمور، لبطلَ النَّظَرُ وما يشحذ عليه، وما يدعو إليه، ولتعطَّلت الأرواحُ من معانيها، والعقولُ من ثِمارها، ولعَدِمت الأشياءُ حظوظَها وحقوقَها. فسبْحَان من جعل منافعَها نعمةً، ومضارَّها ترجع إلى أعظم المنافع، وقسّمها بين مُلِذٍّ ومُؤلم، وبين مؤنِسٍ ومُوحش، وبين صَغيرٍ حقير وجليل كبير، وبين عدوٍّ يرصُدُك وبين عقيلٍ يحرسك، وبين مُسَالمٍ يَمْنَعُكَ، وبين مُعينٍ يعضُدك، وجعَل في الجميع تمامَ المصلحة، وباجتماعها تتمُّ النعمة، وفي بطلانِ واحدٍ منها بُطلانَ الجميع، قياساً قائماً وبرهاناً واضحاً، فإنّ الجميع إنَّما هو واحدٌ ضُمّ إلى واحدٍ وواحدٌ ضُمَّ إليهما، ولأنّ الكلَّ أبعاضٌ، ولأنّ كلَّ جُثَّةٍ فمن أجزاء، فإذا جوَّزتَ رفْعَ واحدٍ والآخرُ مثلُه في الوزن وله مثلُ علَّتِه وحظِّه ونصيبِه، فقد جوَّزْتَ رفعَ الجميع؛ لأنّه ليس الأولُ بأحقَّ من الثاني في الوقت الذي رجوتَ فيه إبطالَ الأوَّل، والثاني كذلك والثالث والرابع، حتَّى تأتيَ على الكلِّ وتستفرغ الجميع، كذلك الأمورُ المضمَّنة والأسباب المقيَّدة؛ ألا ترى أنَّ الجبلَ ليس بأدلَّ على اللّه تعالى مِنْ الحصاة، وليس الطاوسُ المستحسنُ بأدَلَّ على اللّه تعالى مِنْ الخِنزير المستقبح، والنارُ والثلج وإنْ اختلفا في جِهَة البرودة والسُّخونة، فإنَّهما لم يختلفا في جهة البرهان والدَّلالة.
وأظنُّك ممَّن يرى أنَّ الطاوسَ أكرمُ على اللّه تعالى من الغراب، وأن التُّدْرُجَ أعزُّ على اللّه تعالى من الحِدَأةِ، وأنّ الغزالَ أحبُّ إلى اللّه تعالى من الذئب، فإنَّما هذه أمور فرّقها اللّه تعالى في عيون الناس، وميَّزها في طبائع العباد، فجعَلَ بعضها بهم أقربَ شبهاً، وجعل بعضَها إنسيّاً، وجعل بعضَها وحشيّاً، وبعضها غاذِياً، وبعضها قاتلاً، وكذلك الدُّرَّة وَ الخَرَزة والتمرة والجَمرة.
فلا تَذْهَبْ إلى ما تريك العينُ واذهَبْ إلى ما يريك العقل.
الاعتماد على العقل دون الحواس وللأُمور حكمان: حكم ظاهرٌ للحواس، وحكم باطنٌ للعقول، والعقل هو الحجَّة، وقد علمْنا أنَّ خَزَنَة النارِ من الملائكة، ليسوا بدون خزَنَةِ الجنَّة؛ وأنَّ ملك الموت ليس بدُونِ ملَكِ السَّحاب، وإن أتانا بالغَيث وجلب الحيَاء؛ وجبريلُ الذي يَنْزِل بالعذاب، ليسَ بدونِ ميكائيل الذي ينزِل بالرحمة؛ وإنَّما الاختلاف في المطيع والعاصي، وفي طبقاتِ ذلك ومواضعه، والاختلاف بين أصحابنا أنَّهم إذا استووا في المعاصي استَووا في العقاب، وإذا استَووا في الطاعة استووا في الثواب، وإذا استووا في عدم الطاعة والمعصية استووا في التفضل، هذا هو أصل المقالة، والقُطْب الذي تدورُ عليه الرحى.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
التين والزيتون
وقد قال اللّه عزّ وجلَّ: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" فزعم زَيدُ بنُ أسلم أنَّ التِّين دمشق، والزيتون فِلَسطين، وللغاليةِ في هذا تأويلٌ أرغبُ بالعِتْرة عنه وذكرِه، وقد أخرَجَ اللّه تبارك وتعالى الكلامَ مُخرَجَ القسم، وما تُعرَف دِمَشق إلاّ بدِمشق، ولا فِلَسطين إلاّ بفلسطين، فإن كنتَ إنَّما تقف من ذكرِ التين على مقدار طعمِ يابسِه ورَطْبه، وعلى الاكتنانِ بورَقِه وأغصانه، والوَقود بِعيدانه، وأنّه نافعٌ لصاحب السُّلِّ، وهو غذاءٌ قويٌّ ويصلُح في مواضعَ من الدواء، وفي الأضْمدةِ، وأنَّه ليس شيءٌ حلو إلاّ وهو ضارٌّ بالأسنانِ غيره، وأنَّه عند أهلِ الكتاب الشَّجرةُ التي أكَلَ منها آدمُ عليه السلام، وبورقها ستَرَ السّوءَة عند نزولِ العقوبة، وأنّ صاحبَ البواسيرِ يأكله ليُزْلِقَ عنه الثفل، ويسهلَ عليه مخرج الزِّبل؛ وتقف من الزيتون على زيتِه والاصطباح به، وعلى التأدُّم بهما والوَقود بشجرهما، وما أشبه ذلك من أمرهما - فقَدْ أسأتَ ظَنّاً بالقرآن، وجهِلتَ فضلَ التأويل، وليس لهذا المقدارِ عظّمهما اللّه عزّ وجلَّ، وأقسَمَ بهما ونوّه بذكرهما.
وقد قال اللّه عزّ وجلَّ: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" فزعم زَيدُ بنُ أسلم أنَّ التِّين دمشق، والزيتون فِلَسطين، وللغاليةِ في هذا تأويلٌ أرغبُ بالعِتْرة عنه وذكرِه، وقد أخرَجَ اللّه تبارك وتعالى الكلامَ مُخرَجَ القسم، وما تُعرَف دِمَشق إلاّ بدِمشق، ولا فِلَسطين إلاّ بفلسطين، فإن كنتَ إنَّما تقف من ذكرِ التين على مقدار طعمِ يابسِه ورَطْبه، وعلى الاكتنانِ بورَقِه وأغصانه، والوَقود بِعيدانه، وأنّه نافعٌ لصاحب السُّلِّ، وهو غذاءٌ قويٌّ ويصلُح في مواضعَ من الدواء، وفي الأضْمدةِ، وأنَّه ليس شيءٌ حلو إلاّ وهو ضارٌّ بالأسنانِ غيره، وأنَّه عند أهلِ الكتاب الشَّجرةُ التي أكَلَ منها آدمُ عليه السلام، وبورقها ستَرَ السّوءَة عند نزولِ العقوبة، وأنّ صاحبَ البواسيرِ يأكله ليُزْلِقَ عنه الثفل، ويسهلَ عليه مخرج الزِّبل؛ وتقف من الزيتون على زيتِه والاصطباح به، وعلى التأدُّم بهما والوَقود بشجرهما، وما أشبه ذلك من أمرهما - فقَدْ أسأتَ ظَنّاً بالقرآن، وجهِلتَ فضلَ التأويل، وليس لهذا المقدارِ عظّمهما اللّه عزّ وجلَّ، وأقسَمَ بهما ونوّه بذكرهما.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
التأمل في جناح البعوضة
ولو وقفْتَ على جَناحِ بَعوضةٍ وُقوفَ معتبِر، وتأمَّلتَه تأمُّلَ متفكِّر بعد أن تكونَ ثاقبَ النَّظرِ سليمَ الآلة، غوَّاصاً على المعاني، لا يعتريك من الخواطر إلاّ على حسب صحَّةِ عقلك، ولا من الشواغل إلاّ ما زادَ في نشاطِك، لملأت ممَّا تُوجِدك العِبرةُ من غرائب الطوامير الطِّوال، والجلود الواسعةِ الكِبار، ولرَأَيتَ أنَّ له من كثرة التصرُّف في الأعاجيب، ومن تقلُّبه في طبقات الحكمة، ولرأَيتَ له من الغزْر والرَّيع، ومن الحَلب والدَّرِّ ولتَبجَّسَ عليك من كوامِنِ المعاني ودفائِنها، ومن خَفِيَّاتِ الحكم وينابيعِ العلم، ما لا يشتدُّ معه تعجّبُك ممَّن وقَفَ على ما في الدِّيك من الخصالِ العجِيبة، وفي الكلبِ من الأمور الغريبة، ومن أصنافِ المنافع، وفنون المرافق؛ وما فيهما من المِحَن الشِّداد، ومع ما أودِعا من المعرفة، التي مَتى تجلَّت لك تصاغَرَ عندك كَبِيرُ ما تستعظم، وقلَّ في عينك كثير ما تستكثر، كأنَّك تظنُّ أنَّ شيئاً وإنْ حسُن عندك في ثمنِه ومنظره، أنَّ الحكمةَ التي هي في خلْقه إنَّما هي على مقدارِ ثمنه ومنظَره.
ولو وقفْتَ على جَناحِ بَعوضةٍ وُقوفَ معتبِر، وتأمَّلتَه تأمُّلَ متفكِّر بعد أن تكونَ ثاقبَ النَّظرِ سليمَ الآلة، غوَّاصاً على المعاني، لا يعتريك من الخواطر إلاّ على حسب صحَّةِ عقلك، ولا من الشواغل إلاّ ما زادَ في نشاطِك، لملأت ممَّا تُوجِدك العِبرةُ من غرائب الطوامير الطِّوال، والجلود الواسعةِ الكِبار، ولرَأَيتَ أنَّ له من كثرة التصرُّف في الأعاجيب، ومن تقلُّبه في طبقات الحكمة، ولرأَيتَ له من الغزْر والرَّيع، ومن الحَلب والدَّرِّ ولتَبجَّسَ عليك من كوامِنِ المعاني ودفائِنها، ومن خَفِيَّاتِ الحكم وينابيعِ العلم، ما لا يشتدُّ معه تعجّبُك ممَّن وقَفَ على ما في الدِّيك من الخصالِ العجِيبة، وفي الكلبِ من الأمور الغريبة، ومن أصنافِ المنافع، وفنون المرافق؛ وما فيهما من المِحَن الشِّداد، ومع ما أودِعا من المعرفة، التي مَتى تجلَّت لك تصاغَرَ عندك كَبِيرُ ما تستعظم، وقلَّ في عينك كثير ما تستكثر، كأنَّك تظنُّ أنَّ شيئاً وإنْ حسُن عندك في ثمنِه ومنظره، أنَّ الحكمةَ التي هي في خلْقه إنَّما هي على مقدارِ ثمنه ومنظَره.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
كلمات اللّه
وقد قال اللّه تعالى: "وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ" والكلماتُ في هذا الموضع، ليس يُريد بها القولَ والكلامَ المؤلَّفَ من الحروف، وإنَّما يريد النِّعَم والأعاجيب، والصفات وما أشبه ذلك، فإنَّ كلاًّ من هذه الفنون لو وقَف عليه رجلٌ رقيقُ اللسان صافي الذهن، صحيحُ الفِكْر تامُّ الأَدَاة، لما بَرِح أن تحسره المعاني وتَغْمرَه الحِكَم.
وقد قال المتكلمون والرؤساء والجِلَّةُ العُظماءُ في التمثيل بين الملائكةِ والمؤمنين، وفي فرقِ ما بين الجنِّ والإنس، وطباعُ الجنِّ أبعدُ من طباع الإنس، ومن طباعِ الديك، ومن طباع الكلب، وإنَّما ذهبوا إلى الطاعة والمعصية، ويخيَّل إليَّ أنك لو كنت سمعتَهما يمثِّلان ما بين التُّدْرُج والطاوُس، لَمَا اشتدَّ تعجُّبُك، ونحن نرى أنَّ تمثيلَ ما بينَ خصالِ الذَّرَّة والحمامة، والفيل والبعير، والثَّعلبِ والذيب أعجَب، ولسنا نعني أنَّ للذَّرَّة ما للطاوس من حسنِ ذلك الريش وتلاوينه وتعاريجه، ولا أنَّ لها غَناءَ الفرَس في الحرب والدَّفْعِ عن الحريم؛ لكنَّا إذا أردنا مواضعَ التدبير العجيبِ من الخلْق الخسيس، والحسِّ اللطيفِ من الشيء السخيف، والنَّظرِ في العواقب من الخلق الخارج من حدود الإنس والجنِّ والملائكة، لم نذهب إلى ضِخَم البدَن وعِظَم الحجم، ولا إلى المنظر الحسَن ولا إلى كثرة الثمن، وفي القرد أعاجيبٌ وفي الدُّبِّ أعاجيب، وليس فيهما كبير مَرْفِقٍ إلاّ بقدْرِ ما تتكسَّب به أصحاب القردة، وإنما قصدنا إلى شيئين يَشِيعُ القولُ فيهما، ويكثرُ الاعتبار ممَّا يستخرِج العلماءُ من خفِيّ أمرهما، ولو جمعْنا بين الدِّيك وبين بعضِ ما ذكرت، وبين الكلب وبين بعض ما وصفت، لانقطع القولُ قبل أن يبلغَ حدَّ الموازنِة والمقابلة.
وقد ذكرتَ أنَّ بعضَ ما دعاك إلى الإنكار عليهما والتعجُّبِ من أمرهما، سقوطُ قدرِ الكلب ونذالتُه، وبَلَهُ الدِّيكٍ وغباوتُه، وأنَّ الكلبَ لا بهيمةٌ تامَّة ولا سبعٌ تامٌّ، وما كان ليخرِجَه من شيءٍ من حدود الكلاب إلى حدود الناس، مقدارُ ما هو عليه من الأُنس بهم، فقد يكون في الشيءِ بعضُ الشبه مِنْ شيء ولا يكون ذلك مُخرِجاً لهما من أحكامِهما وحدودِهما.
تشبيه الإنسان بالقمر والشمس ونحوهما وقد يشبِّه الشعراءُ والعلماءُ والبلغاءُ الإنسانَ بالقمر والشمس، والغيثِ والبحر، وبالأسد والسيف، وبالحيَّة وبالنَّجم، ولا يخرجونه بهذه المعاني إلى حدِّ الإنسان، وإذا ذمُّوا قالوا: هو الكلب والخنزير، وهو القِرد والحمار، وهو الثور، وهو التَّيس، وهو الذيب، وهو العقرب، وهو الجُعَل، وهو القرنْبَى؛ ثم لا يُدخِلون هذه الأشياءَ في حدود الناس ولا أسمائِهم، ولا يُخرجون بذلك الإنسانَ إلى هذه الحدودِ وهذه الأسماء، وسمَّوا الجاريةَ غزالاً، وسمَّوها أيضاً خِشْفاً، ومُهْرةً، وفاخِتةً، وحمامةً، وزهرةً، وقضيباً، وخيزراناً، على ذلك المعنى، وصنَعوا مثلَ ذلك بالبروج والكواكب، فذكَروا الأسدَ والثور، والحَمَل والجدي، والعقربَ والحُوت، وسمَّوها بالقوس والسُّنبلة والميزان، وغيرها، وقال في ذلك ابن عَسَلة الشيبانيّ:
عَمَّ السِّمَاكِ وخَالةَ النَّجْـمِ فصَحَوتَ والنَّمَريُّ يحسَبُها
ويُروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: نِعْمَتِ العَمة لَكُم النَّخلة خُلقت مِنْ فضلة طينةِ آدم وهذا الكلام صحيحُ المعنى، لا يَعيبه إلاّ مَن لا يعرِف مجاز الكلام، وليس هذا ممَّا يطَّرِد لنا أن نقيسَه، وإنَّما نُقدِم على ما أقدَموا، ونُحجم عمّا أحجموا، وننتهي إلى حيثُ انتهوْا.
ونراهم يسمُّون الرجلَ جملاً ولا يسمُّونه بعيراً، ولا يسمُّون المرأةَ ناقة؛ ويسمُّون الرجلَ ثوراً ولا يسمُّون المرأةَ بقرةً، ويُسَمُّونَ الرجل حماراً ولا يسمون المرأة أتاناً؛ ويسمُّون المرأة نعجةً ولا يسمُّونها شاة، وهم لا يضعون نعجةً اسماً مقطوعاً، ولا يجعلون ذلك علامةً مثلَ زيد وعمرو، ويسمُّون المرأة عنْزاً.
وقد قال اللّه تعالى: "وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ" والكلماتُ في هذا الموضع، ليس يُريد بها القولَ والكلامَ المؤلَّفَ من الحروف، وإنَّما يريد النِّعَم والأعاجيب، والصفات وما أشبه ذلك، فإنَّ كلاًّ من هذه الفنون لو وقَف عليه رجلٌ رقيقُ اللسان صافي الذهن، صحيحُ الفِكْر تامُّ الأَدَاة، لما بَرِح أن تحسره المعاني وتَغْمرَه الحِكَم.
وقد قال المتكلمون والرؤساء والجِلَّةُ العُظماءُ في التمثيل بين الملائكةِ والمؤمنين، وفي فرقِ ما بين الجنِّ والإنس، وطباعُ الجنِّ أبعدُ من طباع الإنس، ومن طباعِ الديك، ومن طباع الكلب، وإنَّما ذهبوا إلى الطاعة والمعصية، ويخيَّل إليَّ أنك لو كنت سمعتَهما يمثِّلان ما بين التُّدْرُج والطاوُس، لَمَا اشتدَّ تعجُّبُك، ونحن نرى أنَّ تمثيلَ ما بينَ خصالِ الذَّرَّة والحمامة، والفيل والبعير، والثَّعلبِ والذيب أعجَب، ولسنا نعني أنَّ للذَّرَّة ما للطاوس من حسنِ ذلك الريش وتلاوينه وتعاريجه، ولا أنَّ لها غَناءَ الفرَس في الحرب والدَّفْعِ عن الحريم؛ لكنَّا إذا أردنا مواضعَ التدبير العجيبِ من الخلْق الخسيس، والحسِّ اللطيفِ من الشيء السخيف، والنَّظرِ في العواقب من الخلق الخارج من حدود الإنس والجنِّ والملائكة، لم نذهب إلى ضِخَم البدَن وعِظَم الحجم، ولا إلى المنظر الحسَن ولا إلى كثرة الثمن، وفي القرد أعاجيبٌ وفي الدُّبِّ أعاجيب، وليس فيهما كبير مَرْفِقٍ إلاّ بقدْرِ ما تتكسَّب به أصحاب القردة، وإنما قصدنا إلى شيئين يَشِيعُ القولُ فيهما، ويكثرُ الاعتبار ممَّا يستخرِج العلماءُ من خفِيّ أمرهما، ولو جمعْنا بين الدِّيك وبين بعضِ ما ذكرت، وبين الكلب وبين بعض ما وصفت، لانقطع القولُ قبل أن يبلغَ حدَّ الموازنِة والمقابلة.
وقد ذكرتَ أنَّ بعضَ ما دعاك إلى الإنكار عليهما والتعجُّبِ من أمرهما، سقوطُ قدرِ الكلب ونذالتُه، وبَلَهُ الدِّيكٍ وغباوتُه، وأنَّ الكلبَ لا بهيمةٌ تامَّة ولا سبعٌ تامٌّ، وما كان ليخرِجَه من شيءٍ من حدود الكلاب إلى حدود الناس، مقدارُ ما هو عليه من الأُنس بهم، فقد يكون في الشيءِ بعضُ الشبه مِنْ شيء ولا يكون ذلك مُخرِجاً لهما من أحكامِهما وحدودِهما.
تشبيه الإنسان بالقمر والشمس ونحوهما وقد يشبِّه الشعراءُ والعلماءُ والبلغاءُ الإنسانَ بالقمر والشمس، والغيثِ والبحر، وبالأسد والسيف، وبالحيَّة وبالنَّجم، ولا يخرجونه بهذه المعاني إلى حدِّ الإنسان، وإذا ذمُّوا قالوا: هو الكلب والخنزير، وهو القِرد والحمار، وهو الثور، وهو التَّيس، وهو الذيب، وهو العقرب، وهو الجُعَل، وهو القرنْبَى؛ ثم لا يُدخِلون هذه الأشياءَ في حدود الناس ولا أسمائِهم، ولا يُخرجون بذلك الإنسانَ إلى هذه الحدودِ وهذه الأسماء، وسمَّوا الجاريةَ غزالاً، وسمَّوها أيضاً خِشْفاً، ومُهْرةً، وفاخِتةً، وحمامةً، وزهرةً، وقضيباً، وخيزراناً، على ذلك المعنى، وصنَعوا مثلَ ذلك بالبروج والكواكب، فذكَروا الأسدَ والثور، والحَمَل والجدي، والعقربَ والحُوت، وسمَّوها بالقوس والسُّنبلة والميزان، وغيرها، وقال في ذلك ابن عَسَلة الشيبانيّ:
عَمَّ السِّمَاكِ وخَالةَ النَّجْـمِ فصَحَوتَ والنَّمَريُّ يحسَبُها
ويُروى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: نِعْمَتِ العَمة لَكُم النَّخلة خُلقت مِنْ فضلة طينةِ آدم وهذا الكلام صحيحُ المعنى، لا يَعيبه إلاّ مَن لا يعرِف مجاز الكلام، وليس هذا ممَّا يطَّرِد لنا أن نقيسَه، وإنَّما نُقدِم على ما أقدَموا، ونُحجم عمّا أحجموا، وننتهي إلى حيثُ انتهوْا.
ونراهم يسمُّون الرجلَ جملاً ولا يسمُّونه بعيراً، ولا يسمُّون المرأةَ ناقة؛ ويسمُّون الرجلَ ثوراً ولا يسمُّون المرأةَ بقرةً، ويُسَمُّونَ الرجل حماراً ولا يسمون المرأة أتاناً؛ ويسمُّون المرأة نعجةً ولا يسمُّونها شاة، وهم لا يضعون نعجةً اسماً مقطوعاً، ولا يجعلون ذلك علامةً مثلَ زيد وعمرو، ويسمُّون المرأة عنْزاً.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
تسمية الإنسان بالعالم الأصغر
أوَ ما علمتَ أنّ الإنسان الذي خُلقت السمواتُ والأرضُ وَمَا بَينَهما مِن أجْله كما قال عزَّ وجلَّ: "سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ" إنَّما سَمُّوه العالَم الصغير سليلَ العالَم الكبير، لِمَا وجَدوا فيه من جَمع أشكالِ ما في العالم الكبير، ووجدْنا له الحواسَّ الخمسَ ووجدُوا فيه المحسوساتِ الخمس، ووجدُوه يأكل اللَّحمَ والحبَّ، ويجمعُ بينَ ما تقتاته البهيمةُ والسبع، ووجَدوا فيه صَولةَ الجمل ووُثوبَ الأسد، وغدْرَ الذئب، ورَوَغان الثعلب، وجُبْن الصِّفْرِد، وجَمْعَ الذَّرَّةِ، وصنْعةَ السُّرْفة وجُودَ الدِّيكِ، وإلفَ الكلب، واهتداءَ الحمام، وربَّما وجدوا فيه ممَّا في البهائم والسباع خُلُقَيْن أو ثلاثة، ولا يبلغُ أن يكون جملاً بأن يكون فيه اهتداؤه وغَيرته، وصَولته وحِقدُه، وصبرُه على حَمْل الثِّقْل، ولا يلزَم شبهُ الذئبِ بقدْر ما يَتَهَيَّأُ فيه من مِثل غدْرِه ومكْرِه، واسترواحِه وتوحُّشه، وشدَّة نُكْره، كما أن الرجلَ يصيبُ الرأيَ الغامضَ المرَّةَ والمرَّتين والثَّلاثَ، ولا يبلغُ ذلك المقدارُ أن يقال له داهيةٌ وذو نَكراء أو صاحبُ بَزْلاء، وكما يخطئ الرجل فيفحُش خَطَاؤه في المرَّة والمرَّتين والثلاث، فلا يبلغ الأمرُ به أن يقال له غبيٌّ وأبلهُ ومنقوص. وسمَّوه العالمَ الصغيرَ لأنَّهم وجدُوه يصوِّر كلَّ شيءٍ بيده، ويحكي كلَّ صوتٍ بِفَمه، وقالوا: ولأنَّ أعضاءَه مقسومةٌ على البروج الاثني عشر والنجومِ السبعة، وفيه الصفراء وهي من نِتاج النار، وفيه السوداء وهي من نِتاج الأرض، وفيه الدَّمُ وهو من نِتاج الهواء، وفيه البلغَمُ وهو من نِتاج الماء، وعلى طبائعه الأربع وضعت الأوتاد الأربعة، فجعَلوه العالَمَ الصغير، إذ كانَ فيه جميعُ أجزائِه وأخلاطِهِ وطبائعه، ألا تَرَى أنَّ فيه طبائعَ الغضبِ والرضَا، وآلة اليقين والشكِّ، والاعتقاد والوقف وفيه طبائعُ الفِطنةِ والغَباوة، والسلامة والمكر، والنصيحةِ والغِشِّ، والوَفاء والغدر، والرياء والإخلاص، والحبّ والبُغْض، والجِدِّ والهزْل، والبخْل والجُود، والاقتصادِ والسّرَف، والتواضع والكبر، والأُنسِ والوحشة، والفكرة والإمهال، والتمييز والخبْط، والجبْن والشجاعة، والحزم والإضاعة، والتبذير والتقتير، والتبذل والتعزز، والادِّخار والتوكُّل، والقَناعة والحِرْصِ، والرغبة والزُّهْد، والسُّخْط والرِّضا، والصبر والجزَع، والذِّكر والنسيان، والخوفِ والرجاء، والطَّمَعِ واليأس، والتنزُّه والطبَع، والشكِّ واليقين، والحياء والقِحَة، والكِتْمانِ والإشاعة، والإقرار والإنكار، والعلم والجهل، والظلم والإنصاف، والطلب والهَرب، والحِقْد وسرْعة الرضا، والحِدَّةِ وبُعْدِ الغَضب، والسُّرور والهمّ، واللَّذَّةِ والأَلَم، والتأميلِ والتمنِّي، والإصرارِ والنَّدَم، والجِمَاحِ والبَدَوات، والعيِّ والبلاغَة، والنُّطْق والخَرَس، والتصميمِ والتوقف، والتغافُلِ والتفاطُن، والعفوِ والمكافأة، والاستطاعةِ والطبيعة، وما لا يحصى عدده، ولا يُعرَف حَدُّه.
فالكلبُ سبع وإن كانَ بالناس أنيساً، ولا تخرِجُه الخصلة والخَصلتان ممَّا قاربَ بعضَ طبائِع الناس، إِلى أن يخرجَه من الكَلْبيَّة، قال: وكذلك الجميع، وقد عرَفت شبَه باطنِ الكلب بباطن الإنسان، وشبَه ظاهِر القرد بظاهر الإنسان: ترى ذلك في طَرْفِه وتغميضِ عينه، وفي ضِحْكه وفي حكايته، وفي كفِّه وأصابِعه، وفي رفعِها ووضعِها، وكيف يتناولُ بها، وكيف يجهز اللُّقمة إلى فيه وكيف يكسِر الجَوْزَ ويستخرج لبَّه وكيف يَلْقَنُ كل مَا أُخِذَ به وأُعِيدَ عليه، وأنَّهُ من بين جميعِ الحيوان إذا سقط في الماء غرِق مثلَ الإنسان، ومع اجتماعِ أسبابِ المعرفة فيه يغرق، إلاّ أن يكتسب معرفةَ السباحة، وإن كان طبعُه أوفى وأكمل فهو من هاهنا أنقص وأكلُّ، وكلُّ شيءٍ فهو يسبَح من جميع الحيوانات، ممَّا يوصف بالمعرفة والفِطنة، وممَّا يوصَفُ بالغَباوة والبَلادة؛ وليس يصير القردُ بذلك المقدار من المقارَبَة إلى أن يخرُج من بعض حدود القرود إلى حدود الإنسان.
عود إلى الحوار في شأن الكلب والديك وزعمتَ أنَّ ممَّا يمنعُ من التمثيل بين الديك والكلب أنّه حارسٌ محترسٌ منه، وكلُّ حارسٍ من الناس فهو حارسٌ غيرُ مأمونٍ تَبدُّلُه.
ولقد سأل زيادٌ ليلةً من الليالي: مَنْ على شُرطتكم? قالوا: بَلْج بنُ نُشْبَة الجُشَميّ، فقال:
ومحتَرسٍ مِن مثلِه وهو حارس وساعٍ مع السلطانِ يَسعى عليهمُ
ويقال: إن الشاعر قال هذا الشعرَ في الفلافس النَّهشَليّ، حين ولِيَ شُرطةَ الحارِث بن عبد اللّه فقال:
وذُمِّي زماناً سادَ فيه الفُلافـسُ أقلِّي عليَّ اللومَ يا ابنةَ مـالـكٍ
ومُحتَرسٍ من مثلِه وهو حارسُ وساعٍ مع السلطان يَسعَى عليهمُ
وليس يُحكمَ لِصغار المضارِّ على كبارها بل الحكمُ للغامر على المغمور والقاهِر على المقهور، ولو قد حكَينا ما ذكر هذا الشَّيخُ من خِصال الكلب وذكَرَ صاحبُه من خصالِ الديك، أيقنتَ أنَّ العجَلةَ من عمل الشيطان، وأنَّ العُجْبَ بئس الصاحب.
وقلتَ: وما يبلغُ من قدْر الكلب ومِن مقدارِ الديك، أن يتفرَّغ لهما شيخان من جِلَّة المعتزِلة، وهم أشراف أهلِ الحكمة؛ فأيُّ شيءٍ بلغ، غفر اللّه تعالى لك، من قدْرِ جزءٍ لا يتجزَّأ من رمْل عالج، والجزءِ الأقلِّ من أوَّل قطْع الذَّرَّة للمكان السحيق، والصحيفة التي لا عمقَ لها، ولأيِّ شيء يُعنَوْن بذلك، وما يبلغ من ثمنِه وقدْرِ حجْمه، حتَّى يتفرَّغَ للجدالِ فيه الشُّيوخ الجِلَّة، والكهولُ العِلْية، وحتَّى يختاروا النَّظرَ فيه على التسبيح والتهليل، وقراءةِ القرآن وطولِ الانتصابِ في الصلاة؛ وحتَّى يزعم أهلُه أنَّه فوقَ الحجِّ والجهاد، وفوقَ كلِ برٍّ واجتهاد، فإنْ زعمتَ أنّ ذلك كلّه سواءٌ، طالت الخُصومةُ معَك، وشغلْتنا بهما عمّا هو أولى بِنا فيك، على أنَّك إذا عَممْتَ ذلك كلَّه بالذمِّ، وجَلَّلته بالعيب، صارت المصيبةُ فيك أجلَّ، والعزاءُ عنها أعسر، وإن زعمتَ أنَّ ذلك إنَّما جاز لأنَّهم لم يذهبُوا إلى أثمان الأعيان في الأسواق، وإلى عظم الحجم، وإلى ما يروقُ العينَ ويلائِمُ النفس، وأنَّهم إنَّما ذهبوا إلى عاقبة الأمر فيه، وإلى نتيجتِه، وما يتولَّد عنه من علم النِّهايات، ومن باب الكلِّ والبعْض، وكان ويكون، ومن باب ما يحيط به العلم أو ما يفضل عنه، ومن فَرقِ ما بين مذاهب الدُّهريَّة ومذاهب الموحِّدين، فإن كان هذا العذْرُ مقبولاً، وهذا الحكم صحيحاً، فكذلك نقول في الكلب، لأنَّ الكلبَ ليس له خطرٌ ثمين ولا قَدْر في الصدرِ جليل؛ لأنَّه إن كان كلبَ صيد فديتُه أربعون دِرهماً، وإن كان كلب ضَرْعٍ فديتُه شاة، وإن كان كلبَ دارٍ فديتُه زِنبيلٌ من ترابٍ، حُقَّ على القاتل أَن يؤدِّيَه، وحُقَّ على صاحبِ الدار أن يقبلَه، فهذا مقدارُ ظاهِر حاله ومُفتَّشِه، وكوامِنُ خِصاله، ودفائِنُ الحكمةِ فيه، والبرهاناتُ على عجيب تدبير الربِّ تعالى ذكرُه فيه،على خلاف ذلك؛ فلذلك استجازُوا النَّظَر في شأنه، والتمثيلَ بينَه وبين نظيره، وتعلم أيضاً مع ذلك أنَ الكلبَ إذا كانَ فيه، مع خُموله وسقوطِه، مِن عجيبِ التدبير والنعمةِ السابغةِ والحكمةِ البالغة، مثلُ هذا الإنسان الذي له خلق اللّه السمواتِ والأرض وما بينهما، أحقُّ بأنْ يُفكر فيه، ويُحْمَدَ اللّهُ تعالى على ما أودَعَه من الحكمةِ العجيبةِ، والنِّعمة السابغة.
وقلت: ولو كان بدلُ النظرِ فيهما النظرَ في التوحيد، وفي نفي التشبيه، وفي الوعد والوعيد، وفي التعديل والتجوير، وفي تصحيح الأخبار، والتفضيلِ بين علم الطبائع والاختيار، لكان أصوبَ.
دفاع عن المتكلمين والعجبُ أنَّك عَمَدْتَ إلى رجالٍ لا صناعةَ لهم ولا تجارةَ إلاَّ الدعاء إلى ما ذكرت، والاحتجاجُ لما وصفت، وإلاَّ وضْعُ الكتبِ فيه والولايةُ والعداوةُ فيه، ولا لهمْ لَذّةٌ ولا هَمٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلا عليهِ وإليه؛ فحين أَرادُوا أن يُقَسِّطُوا بينَ الجميعِ بالحِصص، ويَعْدِلوا بينَ الكلِّ بإعطاء كلِّ شيء نصيبه، حتَّى يقعَ التعديلُ شاملاً، والتقسيطُ جامعاً، ويظهرَ بذلك الخفيُّ من الحِكَم، والمستورُ من التدبير، اعترضْتَ بالتعنُّتِ والتعجُّب، وسطّرت الكلامَ، وأطلتَ الخطب، من غير أنْ يكون صوَّبَ رأيَكَ أديبٌ، وشايَعَك حكيم.
نسك طوائف من الناس وسأضرِب لك مثلاً قد استوجبتَ أغلظَ منه، وتعرَّضتَ لأشدَّ منه ولكنَّا نستأنِي بك وننتَظِرُ أوْبَتَك، وَجَدْنَا لجميعِ أهلِ النَّقص، ولأهلِ كلِّ صِنفٍ منهم نُسْكاً يعتمِدون عليه في الجَمَال، ويحتسِبون به في الطاعة وطلَب المثُوبة، ويفزَعون إليه، على قدْرِ فسادِ الطِّباع، وضعفِ الأصل، واضطراب الفرْع، مع خبْث المنشأ، وقلَّةِ التثبُّتِ والتوقُّفِ، ومع كثرة التقلُّب والإقدام مَعَ أوّلِ خاطر: فنُسك المَريبِ المرتابِ من المتكلِّمين أنْ يتحلَّى برمْي الناسِ بالرِّيبة، ويتزيَّنَ بإضافةِ ما يجدُ في نفسه إلى خَصمه، خوفاً من أن يكونَ قد فطِن له، فهو يستُرُ ذلك الداءَ برمْيِ الناس به.
ونُسكُ الخارجيِّ الذي يتحلَّى به ويتزيَّا بجماله، إظهارُ استعظامِ المعاصي، ثم لا يَلتفِت إلى مجاوزَة المقدارِ وإلى ظُلْمِ العباد، ولا يقِف على أنَّ اللّه تعالى لا يحبُّ أن يَظْلِمَ أظلمَ الظَّالمين، وأنَّ في الحقِّ ما وسِعَ الجميع. ونسْك الخُراسانيِّ أن يُحجَّ ويَنَام على قفاه، ويعقد الرِّياسة، ويتهيَّأ للشَّهادة، ويبسُطَ لسانَه بالحِسْبة، وقد قالوا: إذا نَسَك الشَّريفُ تواضَعَ، وإذا نسَكَ الوضيعُ تكبَّر، وتفسيرُه قريبٌ واضح، ونُسْك البَنَوي والجنديِّ طرحُ الديوانِ، والزِّرايةُ على السُّلطان، ونسك دَهاقِين السَّوادِ تركُ شُرْب المطبوخ، ونُسْك الخَصِيِّ لُزُوم طَرَسُوس وإظهارُ مجاهَدَةِ الروم، ونُسك الرافضيِّ تركُ النبيذ، ونسك البستانيِّ تركُ سَرِقة الثَّمر، ونُسْك المغنِّي الصَّلاةُ في الجماعة وكثرةُ التسبيح، والصلاةُ على النبيِّ
أوَ ما علمتَ أنّ الإنسان الذي خُلقت السمواتُ والأرضُ وَمَا بَينَهما مِن أجْله كما قال عزَّ وجلَّ: "سَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمَوَاتِ وَمَا في الأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ" إنَّما سَمُّوه العالَم الصغير سليلَ العالَم الكبير، لِمَا وجَدوا فيه من جَمع أشكالِ ما في العالم الكبير، ووجدْنا له الحواسَّ الخمسَ ووجدُوا فيه المحسوساتِ الخمس، ووجدُوه يأكل اللَّحمَ والحبَّ، ويجمعُ بينَ ما تقتاته البهيمةُ والسبع، ووجَدوا فيه صَولةَ الجمل ووُثوبَ الأسد، وغدْرَ الذئب، ورَوَغان الثعلب، وجُبْن الصِّفْرِد، وجَمْعَ الذَّرَّةِ، وصنْعةَ السُّرْفة وجُودَ الدِّيكِ، وإلفَ الكلب، واهتداءَ الحمام، وربَّما وجدوا فيه ممَّا في البهائم والسباع خُلُقَيْن أو ثلاثة، ولا يبلغُ أن يكون جملاً بأن يكون فيه اهتداؤه وغَيرته، وصَولته وحِقدُه، وصبرُه على حَمْل الثِّقْل، ولا يلزَم شبهُ الذئبِ بقدْر ما يَتَهَيَّأُ فيه من مِثل غدْرِه ومكْرِه، واسترواحِه وتوحُّشه، وشدَّة نُكْره، كما أن الرجلَ يصيبُ الرأيَ الغامضَ المرَّةَ والمرَّتين والثَّلاثَ، ولا يبلغُ ذلك المقدارُ أن يقال له داهيةٌ وذو نَكراء أو صاحبُ بَزْلاء، وكما يخطئ الرجل فيفحُش خَطَاؤه في المرَّة والمرَّتين والثلاث، فلا يبلغ الأمرُ به أن يقال له غبيٌّ وأبلهُ ومنقوص. وسمَّوه العالمَ الصغيرَ لأنَّهم وجدُوه يصوِّر كلَّ شيءٍ بيده، ويحكي كلَّ صوتٍ بِفَمه، وقالوا: ولأنَّ أعضاءَه مقسومةٌ على البروج الاثني عشر والنجومِ السبعة، وفيه الصفراء وهي من نِتاج النار، وفيه السوداء وهي من نِتاج الأرض، وفيه الدَّمُ وهو من نِتاج الهواء، وفيه البلغَمُ وهو من نِتاج الماء، وعلى طبائعه الأربع وضعت الأوتاد الأربعة، فجعَلوه العالَمَ الصغير، إذ كانَ فيه جميعُ أجزائِه وأخلاطِهِ وطبائعه، ألا تَرَى أنَّ فيه طبائعَ الغضبِ والرضَا، وآلة اليقين والشكِّ، والاعتقاد والوقف وفيه طبائعُ الفِطنةِ والغَباوة، والسلامة والمكر، والنصيحةِ والغِشِّ، والوَفاء والغدر، والرياء والإخلاص، والحبّ والبُغْض، والجِدِّ والهزْل، والبخْل والجُود، والاقتصادِ والسّرَف، والتواضع والكبر، والأُنسِ والوحشة، والفكرة والإمهال، والتمييز والخبْط، والجبْن والشجاعة، والحزم والإضاعة، والتبذير والتقتير، والتبذل والتعزز، والادِّخار والتوكُّل، والقَناعة والحِرْصِ، والرغبة والزُّهْد، والسُّخْط والرِّضا، والصبر والجزَع، والذِّكر والنسيان، والخوفِ والرجاء، والطَّمَعِ واليأس، والتنزُّه والطبَع، والشكِّ واليقين، والحياء والقِحَة، والكِتْمانِ والإشاعة، والإقرار والإنكار، والعلم والجهل، والظلم والإنصاف، والطلب والهَرب، والحِقْد وسرْعة الرضا، والحِدَّةِ وبُعْدِ الغَضب، والسُّرور والهمّ، واللَّذَّةِ والأَلَم، والتأميلِ والتمنِّي، والإصرارِ والنَّدَم، والجِمَاحِ والبَدَوات، والعيِّ والبلاغَة، والنُّطْق والخَرَس، والتصميمِ والتوقف، والتغافُلِ والتفاطُن، والعفوِ والمكافأة، والاستطاعةِ والطبيعة، وما لا يحصى عدده، ولا يُعرَف حَدُّه.
فالكلبُ سبع وإن كانَ بالناس أنيساً، ولا تخرِجُه الخصلة والخَصلتان ممَّا قاربَ بعضَ طبائِع الناس، إِلى أن يخرجَه من الكَلْبيَّة، قال: وكذلك الجميع، وقد عرَفت شبَه باطنِ الكلب بباطن الإنسان، وشبَه ظاهِر القرد بظاهر الإنسان: ترى ذلك في طَرْفِه وتغميضِ عينه، وفي ضِحْكه وفي حكايته، وفي كفِّه وأصابِعه، وفي رفعِها ووضعِها، وكيف يتناولُ بها، وكيف يجهز اللُّقمة إلى فيه وكيف يكسِر الجَوْزَ ويستخرج لبَّه وكيف يَلْقَنُ كل مَا أُخِذَ به وأُعِيدَ عليه، وأنَّهُ من بين جميعِ الحيوان إذا سقط في الماء غرِق مثلَ الإنسان، ومع اجتماعِ أسبابِ المعرفة فيه يغرق، إلاّ أن يكتسب معرفةَ السباحة، وإن كان طبعُه أوفى وأكمل فهو من هاهنا أنقص وأكلُّ، وكلُّ شيءٍ فهو يسبَح من جميع الحيوانات، ممَّا يوصف بالمعرفة والفِطنة، وممَّا يوصَفُ بالغَباوة والبَلادة؛ وليس يصير القردُ بذلك المقدار من المقارَبَة إلى أن يخرُج من بعض حدود القرود إلى حدود الإنسان.
عود إلى الحوار في شأن الكلب والديك وزعمتَ أنَّ ممَّا يمنعُ من التمثيل بين الديك والكلب أنّه حارسٌ محترسٌ منه، وكلُّ حارسٍ من الناس فهو حارسٌ غيرُ مأمونٍ تَبدُّلُه.
ولقد سأل زيادٌ ليلةً من الليالي: مَنْ على شُرطتكم? قالوا: بَلْج بنُ نُشْبَة الجُشَميّ، فقال:
ومحتَرسٍ مِن مثلِه وهو حارس وساعٍ مع السلطانِ يَسعى عليهمُ
ويقال: إن الشاعر قال هذا الشعرَ في الفلافس النَّهشَليّ، حين ولِيَ شُرطةَ الحارِث بن عبد اللّه فقال:
وذُمِّي زماناً سادَ فيه الفُلافـسُ أقلِّي عليَّ اللومَ يا ابنةَ مـالـكٍ
ومُحتَرسٍ من مثلِه وهو حارسُ وساعٍ مع السلطان يَسعَى عليهمُ
وليس يُحكمَ لِصغار المضارِّ على كبارها بل الحكمُ للغامر على المغمور والقاهِر على المقهور، ولو قد حكَينا ما ذكر هذا الشَّيخُ من خِصال الكلب وذكَرَ صاحبُه من خصالِ الديك، أيقنتَ أنَّ العجَلةَ من عمل الشيطان، وأنَّ العُجْبَ بئس الصاحب.
وقلتَ: وما يبلغُ من قدْر الكلب ومِن مقدارِ الديك، أن يتفرَّغ لهما شيخان من جِلَّة المعتزِلة، وهم أشراف أهلِ الحكمة؛ فأيُّ شيءٍ بلغ، غفر اللّه تعالى لك، من قدْرِ جزءٍ لا يتجزَّأ من رمْل عالج، والجزءِ الأقلِّ من أوَّل قطْع الذَّرَّة للمكان السحيق، والصحيفة التي لا عمقَ لها، ولأيِّ شيء يُعنَوْن بذلك، وما يبلغ من ثمنِه وقدْرِ حجْمه، حتَّى يتفرَّغَ للجدالِ فيه الشُّيوخ الجِلَّة، والكهولُ العِلْية، وحتَّى يختاروا النَّظرَ فيه على التسبيح والتهليل، وقراءةِ القرآن وطولِ الانتصابِ في الصلاة؛ وحتَّى يزعم أهلُه أنَّه فوقَ الحجِّ والجهاد، وفوقَ كلِ برٍّ واجتهاد، فإنْ زعمتَ أنّ ذلك كلّه سواءٌ، طالت الخُصومةُ معَك، وشغلْتنا بهما عمّا هو أولى بِنا فيك، على أنَّك إذا عَممْتَ ذلك كلَّه بالذمِّ، وجَلَّلته بالعيب، صارت المصيبةُ فيك أجلَّ، والعزاءُ عنها أعسر، وإن زعمتَ أنَّ ذلك إنَّما جاز لأنَّهم لم يذهبُوا إلى أثمان الأعيان في الأسواق، وإلى عظم الحجم، وإلى ما يروقُ العينَ ويلائِمُ النفس، وأنَّهم إنَّما ذهبوا إلى عاقبة الأمر فيه، وإلى نتيجتِه، وما يتولَّد عنه من علم النِّهايات، ومن باب الكلِّ والبعْض، وكان ويكون، ومن باب ما يحيط به العلم أو ما يفضل عنه، ومن فَرقِ ما بين مذاهب الدُّهريَّة ومذاهب الموحِّدين، فإن كان هذا العذْرُ مقبولاً، وهذا الحكم صحيحاً، فكذلك نقول في الكلب، لأنَّ الكلبَ ليس له خطرٌ ثمين ولا قَدْر في الصدرِ جليل؛ لأنَّه إن كان كلبَ صيد فديتُه أربعون دِرهماً، وإن كان كلب ضَرْعٍ فديتُه شاة، وإن كان كلبَ دارٍ فديتُه زِنبيلٌ من ترابٍ، حُقَّ على القاتل أَن يؤدِّيَه، وحُقَّ على صاحبِ الدار أن يقبلَه، فهذا مقدارُ ظاهِر حاله ومُفتَّشِه، وكوامِنُ خِصاله، ودفائِنُ الحكمةِ فيه، والبرهاناتُ على عجيب تدبير الربِّ تعالى ذكرُه فيه،على خلاف ذلك؛ فلذلك استجازُوا النَّظَر في شأنه، والتمثيلَ بينَه وبين نظيره، وتعلم أيضاً مع ذلك أنَ الكلبَ إذا كانَ فيه، مع خُموله وسقوطِه، مِن عجيبِ التدبير والنعمةِ السابغةِ والحكمةِ البالغة، مثلُ هذا الإنسان الذي له خلق اللّه السمواتِ والأرض وما بينهما، أحقُّ بأنْ يُفكر فيه، ويُحْمَدَ اللّهُ تعالى على ما أودَعَه من الحكمةِ العجيبةِ، والنِّعمة السابغة.
وقلت: ولو كان بدلُ النظرِ فيهما النظرَ في التوحيد، وفي نفي التشبيه، وفي الوعد والوعيد، وفي التعديل والتجوير، وفي تصحيح الأخبار، والتفضيلِ بين علم الطبائع والاختيار، لكان أصوبَ.
دفاع عن المتكلمين والعجبُ أنَّك عَمَدْتَ إلى رجالٍ لا صناعةَ لهم ولا تجارةَ إلاَّ الدعاء إلى ما ذكرت، والاحتجاجُ لما وصفت، وإلاَّ وضْعُ الكتبِ فيه والولايةُ والعداوةُ فيه، ولا لهمْ لَذّةٌ ولا هَمٌّ ولا مذهبٌ ولا مجازٌ إلا عليهِ وإليه؛ فحين أَرادُوا أن يُقَسِّطُوا بينَ الجميعِ بالحِصص، ويَعْدِلوا بينَ الكلِّ بإعطاء كلِّ شيء نصيبه، حتَّى يقعَ التعديلُ شاملاً، والتقسيطُ جامعاً، ويظهرَ بذلك الخفيُّ من الحِكَم، والمستورُ من التدبير، اعترضْتَ بالتعنُّتِ والتعجُّب، وسطّرت الكلامَ، وأطلتَ الخطب، من غير أنْ يكون صوَّبَ رأيَكَ أديبٌ، وشايَعَك حكيم.
نسك طوائف من الناس وسأضرِب لك مثلاً قد استوجبتَ أغلظَ منه، وتعرَّضتَ لأشدَّ منه ولكنَّا نستأنِي بك وننتَظِرُ أوْبَتَك، وَجَدْنَا لجميعِ أهلِ النَّقص، ولأهلِ كلِّ صِنفٍ منهم نُسْكاً يعتمِدون عليه في الجَمَال، ويحتسِبون به في الطاعة وطلَب المثُوبة، ويفزَعون إليه، على قدْرِ فسادِ الطِّباع، وضعفِ الأصل، واضطراب الفرْع، مع خبْث المنشأ، وقلَّةِ التثبُّتِ والتوقُّفِ، ومع كثرة التقلُّب والإقدام مَعَ أوّلِ خاطر: فنُسك المَريبِ المرتابِ من المتكلِّمين أنْ يتحلَّى برمْي الناسِ بالرِّيبة، ويتزيَّنَ بإضافةِ ما يجدُ في نفسه إلى خَصمه، خوفاً من أن يكونَ قد فطِن له، فهو يستُرُ ذلك الداءَ برمْيِ الناس به.
ونُسكُ الخارجيِّ الذي يتحلَّى به ويتزيَّا بجماله، إظهارُ استعظامِ المعاصي، ثم لا يَلتفِت إلى مجاوزَة المقدارِ وإلى ظُلْمِ العباد، ولا يقِف على أنَّ اللّه تعالى لا يحبُّ أن يَظْلِمَ أظلمَ الظَّالمين، وأنَّ في الحقِّ ما وسِعَ الجميع. ونسْك الخُراسانيِّ أن يُحجَّ ويَنَام على قفاه، ويعقد الرِّياسة، ويتهيَّأ للشَّهادة، ويبسُطَ لسانَه بالحِسْبة، وقد قالوا: إذا نَسَك الشَّريفُ تواضَعَ، وإذا نسَكَ الوضيعُ تكبَّر، وتفسيرُه قريبٌ واضح، ونُسْك البَنَوي والجنديِّ طرحُ الديوانِ، والزِّرايةُ على السُّلطان، ونسك دَهاقِين السَّوادِ تركُ شُرْب المطبوخ، ونُسْك الخَصِيِّ لُزُوم طَرَسُوس وإظهارُ مجاهَدَةِ الروم، ونُسك الرافضيِّ تركُ النبيذ، ونسك البستانيِّ تركُ سَرِقة الثَّمر، ونُسْك المغنِّي الصَّلاةُ في الجماعة وكثرةُ التسبيح، والصلاةُ على النبيِّ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
صلى الله عليه وسلم.
ونسك اليهودِيِّ التشدُّدُ في السَّبْت وإقامته.
والصوفيُّ المظهِرُ النُّسكَ من المسلمين، إذا كان فسلاً يبغض العمل تطرف وأظهر تحريمَ المكاسب، وعاد سائلاً، وجعل مسألتَه وسيلة إلى تعظيم الناسِ له.
وإذا كان النَّصرانيُّ فسلاً نذْلاً مبغِضاً للعمَل، وترهَّب ولَبِس الصُّوف؛ لأنَّه واثقٌ أنَّه متى لبِس وتزيَّا بذلك الزِّيِّ وتحلَّى بذلك اللِّباس، وأظهر تلك السِّيما، أنَّه قد وجَبَ على أهل اليُسرِ والثَّروة منهم أن يعُولُوه ويَكْفُوه، ثمَّ لا يرضى بأنْ رَبحَ الكِفايةَ باطلاً حتى استطال بالمرتبة.
فإذا رمى المتكلِّمُ المريبُ أهلَ البراءة، ظنَّ أنَّه قد حوَّل ريبتَه إلى خَصمه، وحوَّل براءةَ خصمِه إليه، وإذا صار كلُّ واحدٍ من هذه الأصناف إلى ما ذكرنا، فقد بلغ الأمنيَّة، ووقَفَ على النِّهاية، فاحذَر أن تكونَ منهم واعلَمْ أنَّكَ قد أشبهتهم في هذا الوجه، وضارعتَهم في هذا المذهب.
مما قدَّمْنَا ذكرَه، وبينَه وبينَ ما ذكرنا بعضُ الفرْق.
يقال: أجرأ من الليث، وأجبَنُ من الصِّفْرِد، وأسخَى مِنْ لافِظة، وأصبرُ على الهُونِ من كَلب، وأحذر من عَقْعَق، وأَزهى مِن غراب، وأصنَع من سُرفَة وأظلم من حيَّة، وأغدَر من الذئب، وأخبَث من ذئِبِ الحَمَز وأشدُّ عداوةً من عقرب، وأروغُ من ثعلب، وأحمقُ من حُبارى، وأهدى من قطاة، وأكذَبُ مِن فاختة، وألأمُ من كلبٍ على جيفة، وأجمَعُ من ذَرّة، وأضلُّ من حِمار أهلي، وأعقُّ من ضَبٍّ، وأبرُّ من هِرَّة، وأنْفَر من الظليم، وأضَلّ من وَرَل وأضلُّ من ضبٍّ، وأظلم من الحيَّة.
فيعبِّرون عن هذه الأشياء بعبارةٍ كالعبارة عن الناس، في مواضع الإحسان والإساءة، حتَّى كأنَّهم من الملومِين والمشكورين، ثم يعبِّرون في هذا البابِ الآخَر بدونِ هذا التعبير، ويجعلونَ خبَرهم مقصوراً على ما في الخِلقة من الغريزة والقُوى فيقولون: أبصرُ من عُقاب، وأسمعُ من فرَس، وأطولُ ذماءً من ضبٍّ، وأصحُّ من الظليم.
والثاني يشْبِه العبارةَ عن الحمد والذمِّ، والأوَّل يُشبِه العبارةَ عن اللائمةِ والشكر، وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّ كلّ مشكورٍ محمود، وليس كلُّ محمودٍ مشكوراً؛ وكلُّ ملومٍ مذموم وليس كلُّ مذمومٍ ملوماً، وقد يحمدون البَلدَةَ ويذمُّون الأخرى، وكذلك الطعام والشراب، وليس ذلك على جهة اللّوم ولا على جهة الشكر؛ لأنَّ الأجْر لا يقع إلاَّ على جهة التخيُّر والتكلُّف، وإلاَّ على ما لا يُنال إلاّ بالاستطاعة والأوَّلُ إنَّما يُنالُ بالخِلقة وبمقدارٍ من المعرفة، ولا يبلغ أنْ يسمَّى عقْلاً، كما أنّه ليس كلُّ قُوَّةٍ تسمَّى استطاعة، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
ونسك اليهودِيِّ التشدُّدُ في السَّبْت وإقامته.
والصوفيُّ المظهِرُ النُّسكَ من المسلمين، إذا كان فسلاً يبغض العمل تطرف وأظهر تحريمَ المكاسب، وعاد سائلاً، وجعل مسألتَه وسيلة إلى تعظيم الناسِ له.
وإذا كان النَّصرانيُّ فسلاً نذْلاً مبغِضاً للعمَل، وترهَّب ولَبِس الصُّوف؛ لأنَّه واثقٌ أنَّه متى لبِس وتزيَّا بذلك الزِّيِّ وتحلَّى بذلك اللِّباس، وأظهر تلك السِّيما، أنَّه قد وجَبَ على أهل اليُسرِ والثَّروة منهم أن يعُولُوه ويَكْفُوه، ثمَّ لا يرضى بأنْ رَبحَ الكِفايةَ باطلاً حتى استطال بالمرتبة.
فإذا رمى المتكلِّمُ المريبُ أهلَ البراءة، ظنَّ أنَّه قد حوَّل ريبتَه إلى خَصمه، وحوَّل براءةَ خصمِه إليه، وإذا صار كلُّ واحدٍ من هذه الأصناف إلى ما ذكرنا، فقد بلغ الأمنيَّة، ووقَفَ على النِّهاية، فاحذَر أن تكونَ منهم واعلَمْ أنَّكَ قد أشبهتهم في هذا الوجه، وضارعتَهم في هذا المذهب.
مما قدَّمْنَا ذكرَه، وبينَه وبينَ ما ذكرنا بعضُ الفرْق.
يقال: أجرأ من الليث، وأجبَنُ من الصِّفْرِد، وأسخَى مِنْ لافِظة، وأصبرُ على الهُونِ من كَلب، وأحذر من عَقْعَق، وأَزهى مِن غراب، وأصنَع من سُرفَة وأظلم من حيَّة، وأغدَر من الذئب، وأخبَث من ذئِبِ الحَمَز وأشدُّ عداوةً من عقرب، وأروغُ من ثعلب، وأحمقُ من حُبارى، وأهدى من قطاة، وأكذَبُ مِن فاختة، وألأمُ من كلبٍ على جيفة، وأجمَعُ من ذَرّة، وأضلُّ من حِمار أهلي، وأعقُّ من ضَبٍّ، وأبرُّ من هِرَّة، وأنْفَر من الظليم، وأضَلّ من وَرَل وأضلُّ من ضبٍّ، وأظلم من الحيَّة.
فيعبِّرون عن هذه الأشياء بعبارةٍ كالعبارة عن الناس، في مواضع الإحسان والإساءة، حتَّى كأنَّهم من الملومِين والمشكورين، ثم يعبِّرون في هذا البابِ الآخَر بدونِ هذا التعبير، ويجعلونَ خبَرهم مقصوراً على ما في الخِلقة من الغريزة والقُوى فيقولون: أبصرُ من عُقاب، وأسمعُ من فرَس، وأطولُ ذماءً من ضبٍّ، وأصحُّ من الظليم.
والثاني يشْبِه العبارةَ عن الحمد والذمِّ، والأوَّل يُشبِه العبارةَ عن اللائمةِ والشكر، وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّ كلّ مشكورٍ محمود، وليس كلُّ محمودٍ مشكوراً؛ وكلُّ ملومٍ مذموم وليس كلُّ مذمومٍ ملوماً، وقد يحمدون البَلدَةَ ويذمُّون الأخرى، وكذلك الطعام والشراب، وليس ذلك على جهة اللّوم ولا على جهة الشكر؛ لأنَّ الأجْر لا يقع إلاَّ على جهة التخيُّر والتكلُّف، وإلاَّ على ما لا يُنال إلاّ بالاستطاعة والأوَّلُ إنَّما يُنالُ بالخِلقة وبمقدارٍ من المعرفة، ولا يبلغ أنْ يسمَّى عقْلاً، كما أنّه ليس كلُّ قُوَّةٍ تسمَّى استطاعة، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
ما ذكر صاحبُ الديك من ذمِّ الكلابِ
وتعدد أصناف معانيها
وتعداد أصناف معايبها ومثالبها، مِن لؤمها وجبنها وضعْفها وشرَهها، وغدْرِها وبَذَائِها، وجهْلها وتسرُّعِها، ونتْنها وقذَرها، وما جاء في الآثار من النَّهْي عنِ اتخاذها وإمساكها، ومن الأَمْر بقتْلِها وطردها، ومن كثرةِ جناياتها وقلَّة رَدِّها ومِن ضرب المثَل بلؤمها ونذالتها، وقبحِها وقبْحِ معاظلتِها وَمِن سماجة نُباحِها وكثرة أذاها، وتقذُّر المسلمين من دنوِّها، وأنّها تأكل لحومَ الناسِ، وأنَّها كالخلْق المركّبِ والحيوان الملفّق: كالبغْل في الدوابِّ وكالراعِبيِّ في الحمام، وأنّها لا سبعٌ ولا بهيمة، ولا إنسيَّةٌ ولا جِنِّيَّة، وأنَّها من الحِنِّ دون الجِنّ، وأنّها مطايا الجِنِّ ونوعٌ من المِسْخ، وأنَّها تنبُش القبورَ وتأكُلُ الموتى، وأنَّها يعتريها الكَلَبُ مِن أكل لحوم الناس. فإذا حكيْنَا ذلكَ حكَينا قولَ من عدَّد محاسنَها، وصنّف مناقبها، وأخذْنا مِنْ ذكر أسمائِها وأنسابها وأعراقها، وتفدية الرجال إيَّاها واستهتارهم بها، وذكر كسْبِها وحراستها، ووفائها وإلْفها وجميعِ منافعها، والمرافق التي فيها، وما أُودِعت من المعرِفة الصحيحةِ والفِطَن العجيبة والحسِّ اللطيف والأدب المحمود، وذلك سِوى صِدق الاسترواح وجَودَةِ الشمِّ، وذِكْر حفظها ونَفَاذها واهتدائِها، وإثباتِها لصُوَر أربابها وجيرانها، وصبرِها، ومعرفتِها بحُقوق الكرام، وإهانتها اللئام، وذكر صبْرها على الجفا، واحتمالها للجوع، وذكر ذِمامها وشدَّةِ مَنْعِها مَعَاقِدَ الذِّمَارِ منها، وذكر يَقَظَتها وقِلَّة غفلتها وبُعْدِ أصواتها، وكثرة نسْلها وسرعة قَبولها وإلقاحها وتصرُّفِ أرحامِها في ذلك، مع اختلاف طبائِع ذكورها والذكور من غير جنسها، وكثرةِ أعمامِها وأخوالها، وتردُّدها في أصناف السِّباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وذكر لَقَنها وحكايتها، وجودة ثقافتِها ومَهْنِها وخِدمتها، وجِدِّها ولِعْبها وجميعِ أمورها؛ بالأشعارِ المشهورة والأحاديث المأثورة، وبالكتُبِ المنَزَّلة والأمثالِ السائرة، وعن تجرِبةِ النَّاس لها وفِراستِهم فيها، وما عايَنوا منها؛ وكيف قال أصحابُ الفأل فيها، وبإخبار المتطيِّرين عنها، وعن أسنانها ومنتهى أعمارها وعدد جرائها، ومدَّةِ حملها، وعن أسمائها وألقابِها، وسِماتِها وشِياتها، وعن دوائها وأدوائها وسياستها، وعن اللاتي لا تلقَنُ منها وعن أعراقِها والخارجيِّ منها وعن أصول مواليدها ومخارج بلدانها.
وذكر صاحبُ الديك ما يحفظ من أَكلِ الكلابِ للحُوم النَّاس فقال: قال الجَارود بن أبي سَبْرَة في ذلك:
وقوَّتِه أخزى ابنَ عَمْرَةَ مـالـكـا ألم تر أنَّ اللّـهَ ربِّـي بَـحـوْلِـه
فقد صارَ في أرض الرُّصافةِ هالكا فَمنْ كانَ عنه بالـمـغـيَّبِ سـائلاً
إذا اجتَبْن مُسْوَدّاً مِنَ الليل حالـكـا تظلُّ الكلابُ العـادياتُ يَنُـشْـنَـه
وقال نُفَيع بن صفَّار المحاربي من ولد مُحارِب بن خُصَفة في حرب قيسٍ وتغلب:
حتى تَعادَلَ مَيلُ تَغلِب فاستَوَى أفنَتْ بَني جُشَم بن بكرٍ حَرْبُنـا
فلتَبْكِ تَغْلِبُ للأُنوفِ وللخُصى أكَلَ الكلابُ أَنوفَهم وخُصَاهُـمُ
وقال أبو يعقوب الخُرْيمي، وهو إسحاق بن حسَّان بن قوهي في قتلَى حربٍ ببغداد:
المعتْرَكِ مَعفورة مَنَاخِرُهـا وهَل رأيتَ الفتيانَ في بـاحة
يشقَى به في الوَغَى مَساعِرُها كلّ فتًى مانـعٍ حـقِـيقَـتَـه
مخضوبةً من دمٍ أظافِـرُهـا باتَتْ عليه الكلابُ تنـهَـشُـه
وقال أبو الشمقمق وهو مَرْوان بن محمد، مولى مرْوان بنِ محمَّد، ويكنى أبا محمَّد:
وجَدُوه بـالأُبُـلَّـه يُوسفُ الشاعرُ فَرْخ
كامناً في جَوف جُلَّه حَلَقِيٌّ قَدْ تُـلـقِّـي
بِ عليْهِ بمِسَـلَّـه خيَّطوها خشْيَةَ الكل
وذُكر لي عن أبي بَكر الهُذَليِّ، قال: كنَّا عندَ الحسن إذ أقبل وكيع بن أبي سُود فجلس، فقال يا أبا سعيد: ما تقولُ في دم البراغيث يُصيب الثوب: أيصلَّى فيه? فقال: يا عجباً ممَّن يلَغ في دماءِ المسلمين كأنَّه كلبٌ، ثم يسألُ عن دم البراغيث فقام وكيعٌ يتخلَّج في مِشيتِه كتخلُّج المجنون، فقال الحسن: إنَّ للّه في كلِّ عضوٍ منه نعمةً فيستعين بها على المعصية، اللَّهمَّ لا تجعلْنا ممَّن يتقوَّى بنعمتِك على معصيتك.
ما أضيف من الحيوان إلى خبث الرائحة وقال صاحب الديك: أشياءُ مِنَ الحيوانِ تُضافُ إِلى نتْنِ الجُلُود وخُبث الرائِحة، كريح أبْدان الحيَّات، وكنتْن التُّيوس وصُنانِ عرَقها، وكنتن جِلدِ الكلاب إذا أصابه مطر، وضروبٌ من النَّتن في سوى ذلك، نحنُ ذاكروها إن شاء اللّه تعالى.
وقال رَوح بن زنباع الجُذَاميّ في امرأته، وضرب بالكلب المثل:
وريحُها ريحُ كلْبٍ مَسَّهُ مَطَرُ رِيح الكرائمِ معروفٌ لَهُ أَرَجٌ
قال: وكانت امرأةُ رَوح بن زِنباع أمَّ جعفر بنتَ النُّعمان بن بشير، وكان عبدُ الملك زوَّجه إيّاها، وقال: إنَّها جاريةٌ حسناء، فاصبرْ على بَذَاءِ لسانِها.
وقال الآخر:
وريح كلبٍ في غَدَاةٍ طَلّهْ وريحُ مَجْروبٍ وريح جُلَّه
وأنشد أبو زيد في ذلك:
ريحُ الكلاب إذا ما بلّها المطر كأنَّ ريحَهُمُ من خُبْثِ طُعْمَتِهِمْ
ومما ذُكر به الكلبُ في أكله العَذِرة، قولُ الراجز:
أَحرَصُ من كلبٍ على عِقْيِ صَبِي
وقال مثل ذلك حَنْظَلة بن عَرَادة في ذكره لابنِه السَّرَنْدَى:
خَلَّى أباه بقفـر الـبِـيد وادَّلـجـا ما للسَّرَنْدَى أطالَ الـلّـهُ أيْمَـتَـهُ
وإن رأى غفلةً من جـارِهِ ولـجـا مِجْعٌ خَبيثٌ يُعاطي الكَلْبَ طُعْمَـتَـه
والكلبُ يلحَسُ من تحتِ استِه الرَّدَجا رَبَّيْته وهو مثلُ الفَـرْخ أَصْـرُبُـهُ
يقال للذي يخرُج من بطن الصبيِّ حين يخرُج من بطن أمه عِقي بكسر العين، ويقال عقَى الصبي يعِقي عَقْياً، فإذا شُدَّ بطنُه للسِّمن قيل قد صُرِبَ ليسمَن، والعِقي وهو العَقْية الغيبة، وإيَّاه عنَى ابنُ عمر حين قيل له: هلاَّ بايعت أخاك ابن الزُّبير? فقال: إنَّ أخي وضَعَ يده في عَقْيَةٍ ودعا إلى البَيعة، إنِّي لا أنزَع يَدِي مِن جماعةٍ وأضعُها في فُرقة.
وفي الحديث المرفوع: الراجعُ في هِبَتِه كالرَّاجِع في قَيئه، وهذا المثلُ في الكلب.
ويقالُ: أبخَلُ من كلبٍ على جِيفة، وقال بعضُهم في الكلب: الجِيفة أحبُّ إليه من اللّحم الغريض، ويأكل العَذِرة ويرجِع في قيئه، ويشغَر ببَوله فيصير في جوفِ فيه وأنفه، ويحذفه تِلقاءَ خَيشومه.
وقال صاحب الكلب: إنْ كنتُم إنَّما تستسقطون الكلب وتستسفلونه بهذا وأشباهه، فالجيفةُ أنتنُ من العذرة، والعَذرة شرٌ من القيء، والجيفة أحبُّ إلى أشراف السباع ورؤسائها من اللحم العبيط الغريض الغضِّ.
وتعدد أصناف معانيها
وتعداد أصناف معايبها ومثالبها، مِن لؤمها وجبنها وضعْفها وشرَهها، وغدْرِها وبَذَائِها، وجهْلها وتسرُّعِها، ونتْنها وقذَرها، وما جاء في الآثار من النَّهْي عنِ اتخاذها وإمساكها، ومن الأَمْر بقتْلِها وطردها، ومن كثرةِ جناياتها وقلَّة رَدِّها ومِن ضرب المثَل بلؤمها ونذالتها، وقبحِها وقبْحِ معاظلتِها وَمِن سماجة نُباحِها وكثرة أذاها، وتقذُّر المسلمين من دنوِّها، وأنّها تأكل لحومَ الناسِ، وأنَّها كالخلْق المركّبِ والحيوان الملفّق: كالبغْل في الدوابِّ وكالراعِبيِّ في الحمام، وأنّها لا سبعٌ ولا بهيمة، ولا إنسيَّةٌ ولا جِنِّيَّة، وأنَّها من الحِنِّ دون الجِنّ، وأنّها مطايا الجِنِّ ونوعٌ من المِسْخ، وأنَّها تنبُش القبورَ وتأكُلُ الموتى، وأنَّها يعتريها الكَلَبُ مِن أكل لحوم الناس. فإذا حكيْنَا ذلكَ حكَينا قولَ من عدَّد محاسنَها، وصنّف مناقبها، وأخذْنا مِنْ ذكر أسمائِها وأنسابها وأعراقها، وتفدية الرجال إيَّاها واستهتارهم بها، وذكر كسْبِها وحراستها، ووفائها وإلْفها وجميعِ منافعها، والمرافق التي فيها، وما أُودِعت من المعرِفة الصحيحةِ والفِطَن العجيبة والحسِّ اللطيف والأدب المحمود، وذلك سِوى صِدق الاسترواح وجَودَةِ الشمِّ، وذِكْر حفظها ونَفَاذها واهتدائِها، وإثباتِها لصُوَر أربابها وجيرانها، وصبرِها، ومعرفتِها بحُقوق الكرام، وإهانتها اللئام، وذكر صبْرها على الجفا، واحتمالها للجوع، وذكر ذِمامها وشدَّةِ مَنْعِها مَعَاقِدَ الذِّمَارِ منها، وذكر يَقَظَتها وقِلَّة غفلتها وبُعْدِ أصواتها، وكثرة نسْلها وسرعة قَبولها وإلقاحها وتصرُّفِ أرحامِها في ذلك، مع اختلاف طبائِع ذكورها والذكور من غير جنسها، وكثرةِ أعمامِها وأخوالها، وتردُّدها في أصناف السِّباع، وسلامتها من أعراق البهائم، وذكر لَقَنها وحكايتها، وجودة ثقافتِها ومَهْنِها وخِدمتها، وجِدِّها ولِعْبها وجميعِ أمورها؛ بالأشعارِ المشهورة والأحاديث المأثورة، وبالكتُبِ المنَزَّلة والأمثالِ السائرة، وعن تجرِبةِ النَّاس لها وفِراستِهم فيها، وما عايَنوا منها؛ وكيف قال أصحابُ الفأل فيها، وبإخبار المتطيِّرين عنها، وعن أسنانها ومنتهى أعمارها وعدد جرائها، ومدَّةِ حملها، وعن أسمائها وألقابِها، وسِماتِها وشِياتها، وعن دوائها وأدوائها وسياستها، وعن اللاتي لا تلقَنُ منها وعن أعراقِها والخارجيِّ منها وعن أصول مواليدها ومخارج بلدانها.
وذكر صاحبُ الديك ما يحفظ من أَكلِ الكلابِ للحُوم النَّاس فقال: قال الجَارود بن أبي سَبْرَة في ذلك:
وقوَّتِه أخزى ابنَ عَمْرَةَ مـالـكـا ألم تر أنَّ اللّـهَ ربِّـي بَـحـوْلِـه
فقد صارَ في أرض الرُّصافةِ هالكا فَمنْ كانَ عنه بالـمـغـيَّبِ سـائلاً
إذا اجتَبْن مُسْوَدّاً مِنَ الليل حالـكـا تظلُّ الكلابُ العـادياتُ يَنُـشْـنَـه
وقال نُفَيع بن صفَّار المحاربي من ولد مُحارِب بن خُصَفة في حرب قيسٍ وتغلب:
حتى تَعادَلَ مَيلُ تَغلِب فاستَوَى أفنَتْ بَني جُشَم بن بكرٍ حَرْبُنـا
فلتَبْكِ تَغْلِبُ للأُنوفِ وللخُصى أكَلَ الكلابُ أَنوفَهم وخُصَاهُـمُ
وقال أبو يعقوب الخُرْيمي، وهو إسحاق بن حسَّان بن قوهي في قتلَى حربٍ ببغداد:
المعتْرَكِ مَعفورة مَنَاخِرُهـا وهَل رأيتَ الفتيانَ في بـاحة
يشقَى به في الوَغَى مَساعِرُها كلّ فتًى مانـعٍ حـقِـيقَـتَـه
مخضوبةً من دمٍ أظافِـرُهـا باتَتْ عليه الكلابُ تنـهَـشُـه
وقال أبو الشمقمق وهو مَرْوان بن محمد، مولى مرْوان بنِ محمَّد، ويكنى أبا محمَّد:
وجَدُوه بـالأُبُـلَّـه يُوسفُ الشاعرُ فَرْخ
كامناً في جَوف جُلَّه حَلَقِيٌّ قَدْ تُـلـقِّـي
بِ عليْهِ بمِسَـلَّـه خيَّطوها خشْيَةَ الكل
وذُكر لي عن أبي بَكر الهُذَليِّ، قال: كنَّا عندَ الحسن إذ أقبل وكيع بن أبي سُود فجلس، فقال يا أبا سعيد: ما تقولُ في دم البراغيث يُصيب الثوب: أيصلَّى فيه? فقال: يا عجباً ممَّن يلَغ في دماءِ المسلمين كأنَّه كلبٌ، ثم يسألُ عن دم البراغيث فقام وكيعٌ يتخلَّج في مِشيتِه كتخلُّج المجنون، فقال الحسن: إنَّ للّه في كلِّ عضوٍ منه نعمةً فيستعين بها على المعصية، اللَّهمَّ لا تجعلْنا ممَّن يتقوَّى بنعمتِك على معصيتك.
ما أضيف من الحيوان إلى خبث الرائحة وقال صاحب الديك: أشياءُ مِنَ الحيوانِ تُضافُ إِلى نتْنِ الجُلُود وخُبث الرائِحة، كريح أبْدان الحيَّات، وكنتْن التُّيوس وصُنانِ عرَقها، وكنتن جِلدِ الكلاب إذا أصابه مطر، وضروبٌ من النَّتن في سوى ذلك، نحنُ ذاكروها إن شاء اللّه تعالى.
وقال رَوح بن زنباع الجُذَاميّ في امرأته، وضرب بالكلب المثل:
وريحُها ريحُ كلْبٍ مَسَّهُ مَطَرُ رِيح الكرائمِ معروفٌ لَهُ أَرَجٌ
قال: وكانت امرأةُ رَوح بن زِنباع أمَّ جعفر بنتَ النُّعمان بن بشير، وكان عبدُ الملك زوَّجه إيّاها، وقال: إنَّها جاريةٌ حسناء، فاصبرْ على بَذَاءِ لسانِها.
وقال الآخر:
وريح كلبٍ في غَدَاةٍ طَلّهْ وريحُ مَجْروبٍ وريح جُلَّه
وأنشد أبو زيد في ذلك:
ريحُ الكلاب إذا ما بلّها المطر كأنَّ ريحَهُمُ من خُبْثِ طُعْمَتِهِمْ
ومما ذُكر به الكلبُ في أكله العَذِرة، قولُ الراجز:
أَحرَصُ من كلبٍ على عِقْيِ صَبِي
وقال مثل ذلك حَنْظَلة بن عَرَادة في ذكره لابنِه السَّرَنْدَى:
خَلَّى أباه بقفـر الـبِـيد وادَّلـجـا ما للسَّرَنْدَى أطالَ الـلّـهُ أيْمَـتَـهُ
وإن رأى غفلةً من جـارِهِ ولـجـا مِجْعٌ خَبيثٌ يُعاطي الكَلْبَ طُعْمَـتَـه
والكلبُ يلحَسُ من تحتِ استِه الرَّدَجا رَبَّيْته وهو مثلُ الفَـرْخ أَصْـرُبُـهُ
يقال للذي يخرُج من بطن الصبيِّ حين يخرُج من بطن أمه عِقي بكسر العين، ويقال عقَى الصبي يعِقي عَقْياً، فإذا شُدَّ بطنُه للسِّمن قيل قد صُرِبَ ليسمَن، والعِقي وهو العَقْية الغيبة، وإيَّاه عنَى ابنُ عمر حين قيل له: هلاَّ بايعت أخاك ابن الزُّبير? فقال: إنَّ أخي وضَعَ يده في عَقْيَةٍ ودعا إلى البَيعة، إنِّي لا أنزَع يَدِي مِن جماعةٍ وأضعُها في فُرقة.
وفي الحديث المرفوع: الراجعُ في هِبَتِه كالرَّاجِع في قَيئه، وهذا المثلُ في الكلب.
ويقالُ: أبخَلُ من كلبٍ على جِيفة، وقال بعضُهم في الكلب: الجِيفة أحبُّ إليه من اللّحم الغريض، ويأكل العَذِرة ويرجِع في قيئه، ويشغَر ببَوله فيصير في جوفِ فيه وأنفه، ويحذفه تِلقاءَ خَيشومه.
وقال صاحب الكلب: إنْ كنتُم إنَّما تستسقطون الكلب وتستسفلونه بهذا وأشباهه، فالجيفةُ أنتنُ من العذرة، والعَذرة شرٌ من القيء، والجيفة أحبُّ إلى أشراف السباع ورؤسائها من اللحم العبيط الغريض الغضِّ.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
مأكل السبع والأسَد سَيِّد السباع، وهو يأكل الجِيفةَ، ولا يعرِض لشرائع الوحش وافتراس البهائم، ولا للسابلة من الناس، ما وَجَدَ في فريسته فَضْلة، ويبدأ بعدَشُرْب الدَّم فيبقُر بطنَه ويأكل ما فيه من الغثيثة والثفل والحَشْوة والزِّبل، وهو يرجع في قيئه، وعنه ورِث السِّنَّور ذلك.
ما قيل في السبع من الأمثال وهو المضروبُ به المثلُ في النَّجدة والبسالة، وفي شِدَّة الإقدام والصَّولة، فيقال: ما هو إلاّ الأسد على براثنه وهو أشدُّ من الأسد وهو أجرَأ من الليث العادي وفلان أسدُ البلاد وهو الأسد الأسود، وقيل لحمزة بن عبد المطَّلب أسدُ اللّه، فكفَاك من نُبْل الأسد أنَّه اشتُقَّ لحمزة بن عبد المطَّلب من اسمه، ويقال للملك أَصْيَد إذا أرادوا أن يصِفوه بالكِبْر وبقلَّةِ الالتفات، وبأنَّ أنفَه فيه أسلوب ولأنَّ الأسد يَلتفت معاً لأنَّ عنقه من عظم واحد، وقال حاتم:
ورفعتَ رأسَك مثلَ رأسِ الأصْيَدِ هَلاَّ إذا مَطَرَ السماءُ عـلـيكُـمُ
وقال الآخر:
وتَغلِبَ والصِّيدَ النواظرِ من بَكر يَذُودونَ كلباً بالـرِّمـاحِ وطَـيِّئاً
وقال الآخر :
نَمَاه أبٌ ما جدٌ أصـيَدُ وكم لي بها من أبٍ أصْيَدٍ
وبعدُ فإِنّ الذي يأكل الجِيفةَ لم يبعُد من طبعِ كثيرٍ من الناس؛ لأنَّ من الناس من يشتهي اللحمَ الغابَّ، ومنهم من يشتهي النَّمكْسُود، وَلَيْسَ بَيْنَ النَّمَكْسُودِ، وبين المصلوب اليابس كبيرُ فرق، وإنَّما يذبحون الدِّيَكَةَ والْبَطَّ والدَّجاج والدُّرّاج من أوََّلِ الليل، ليسترخيَ لحمُها، وذلك أول التَّجييف.
فالأسد أجمعُ لهذه الخصال من الكلب، فهلاَّ ذكرتمْ بذلك الأسد وهو أنبَهُ ذِكراً وأبعدُ صيتاً.
وأمَّا ما ذكرتم من نَتْن الجِلد ومن استنشاق البول، فإنَّ للتيسِ في ذلك ما ليس للكلب، وقد شاركه في الحذْفِ ببوله تِلقاءَ أنفه، وباينَه بشدَّةِ الصُّنان؛ فإنَّ الأمثالَ لَه أكثرُ ذِكراً، وفي العنز أيضاً عيوب.
وفي توجيه التيس ببوله إلى حاقِّ خَيشومه قال الشاعر لبعض من يهجُوه:
فعادَ لك المُسْمِي فأسْمَاك بالقحر دُعِيتَ يَزِيدَ كي تَزِيدَ فلـم تَـزِدْ
عَلَيْهِ فيمذي في لَبَانٍ وفي نحر وما القَحْرُ إلاَّ التيسُ يَعْتِك بولُه
وقال آخر في مثل ذلك:
عَتُودٌ في مفارِقِه يَبولُ أَعثمانُ بنُ حَيَّانَ بن لؤم
نَعامَتُه ويفهم ما يقول ولو أَنِّي أشافِهُه لشالت
وبعد: فما يُعلمَ من صنيع العنز في لبنها وفي الارتضاع من خلفها إلاَّ أقبح.
وقال ابن أحْمَرَ الباهليُّ في ذلك:
كالعنز تعطِفُ روْقَيها وتَرْتَضِعُ إنّا وجَدْنا بَني سَهْمٍ وجاملـهـم
وقلتم: هَجَا ابْنُ غادية السلمي بعضَ الكِرام، حينَ عُزِل عن يَنْبُع، فقال لمن ظنَّ أنَّه إنَّما عُزِل لمكانه:
دَبِرُ الحراقفِ والفَقَارِ مُوقَّعُ رَكِبوك مُرتَحَلاً فظهرُك منهمُ
نحوَ الذين بهم يَعِزُّ ويمـنـعُ كالكلبِ يَتْبَعُ خانِقِيهِ وينتحـي
وقال ابن هَرْمة الفِهريّ:
ولا ضَرَّت بفُرْقتها نِـزارَا فما عادَت لذِي يمنٍ رؤوسـاً
وتَرْأَمُ مَنْ يُحِدُّ لها الشِّفـارَا كعَنْز السَّوْءِ تَنْطَحَ مَنْ خَلاهَا
وما نعلم الرُّجوعَ في الجِرَّة، وإعادةَ الفرثِ إلى الفم ليُستقصَى مضغُه إلاَّ أسمجَ وأقذَرَ من الرُّجوعِ في القَيْءِ، وقد اختار اللّه عَزّ وجلَّ تلك الطبيعةَ للأنعام، وجعل الناسَ ليسوا لشيءٍ من اللُّحمان أشدَّ أكلاً ولا أشدَّ عَجباً بِهِ منكم، ولا أصلحَ لأبدانهم ولا أغْذَى لهم من لُحُوم هذه الأنعام أفتائِهَا ومَسَانِّهَا.
وقال صاحبُ الديك: ما يشبه عَوْدُ الماشيةِ في الجِرَّة، ورجوعُها في الفرث تطحَنُه وتُسيغه، الرجُوعَ في القيء، وقد زعمتم أنَّ جِرَّةَ البعيرِ أنتنُ مِن قَيءِ الكلاب لطول غُبُوبها في الجوف، وانقلابها إلى طباع الزِّبل، وأنَّها أنتن من الثلط، وإنَّما مثل الجِرَّة مثل الرِّيق الذي ذكره ابنُ أحمر فقال:
وقَدْ يدوِّمُ رِيقَ الطَّامِعِ الأَمَلُ هذا الثناءُ وأجْدِرْ أن أُصاحبه
فإنَّما مَثَلُ القَيءِ مَثَلُ العَذِرَة؛ لأنَّ الرِّيق الذي زعمتم، ما دامَ في فم صاحبه، ألذُّ من السلوى، وأمتعُ من النسيم، وأحسنُ موقعاً من الماء البارد من العطاش المسهوم، والريقُ كذلك ما لم يزايِل موضعَه، ومتى زايل فَمَ صاحبِه إلى بعض جِلْده اشتدّ نتْنه وعادَ في سبيل القيء.
فالرِّيق والجِرَّةُ في سبيلٍ واحد، كما أنَّ القيء والعَذِرة في سبيل واحد، ولو أن الكلبَ قَلَسَ حتَّى يمتلئ منه فمه، ثم رجع فيه من غير مباينةٍ له، لكان في ذلك أحقَّ بالنظافة من الأنعام في جِرَّتها، وحشيِّها وأهليِّها، وإنَّ الأرانِبَ لَتَحِيضُ حيضاً نَتِناً، فما عاف لحمَهَا أصحابُ التَّقَذُّرِ لمشاركَتِها الأنعامَ في الجِرَّة.
ما قيل في السبع من الأمثال وهو المضروبُ به المثلُ في النَّجدة والبسالة، وفي شِدَّة الإقدام والصَّولة، فيقال: ما هو إلاّ الأسد على براثنه وهو أشدُّ من الأسد وهو أجرَأ من الليث العادي وفلان أسدُ البلاد وهو الأسد الأسود، وقيل لحمزة بن عبد المطَّلب أسدُ اللّه، فكفَاك من نُبْل الأسد أنَّه اشتُقَّ لحمزة بن عبد المطَّلب من اسمه، ويقال للملك أَصْيَد إذا أرادوا أن يصِفوه بالكِبْر وبقلَّةِ الالتفات، وبأنَّ أنفَه فيه أسلوب ولأنَّ الأسد يَلتفت معاً لأنَّ عنقه من عظم واحد، وقال حاتم:
ورفعتَ رأسَك مثلَ رأسِ الأصْيَدِ هَلاَّ إذا مَطَرَ السماءُ عـلـيكُـمُ
وقال الآخر:
وتَغلِبَ والصِّيدَ النواظرِ من بَكر يَذُودونَ كلباً بالـرِّمـاحِ وطَـيِّئاً
وقال الآخر :
نَمَاه أبٌ ما جدٌ أصـيَدُ وكم لي بها من أبٍ أصْيَدٍ
وبعدُ فإِنّ الذي يأكل الجِيفةَ لم يبعُد من طبعِ كثيرٍ من الناس؛ لأنَّ من الناس من يشتهي اللحمَ الغابَّ، ومنهم من يشتهي النَّمكْسُود، وَلَيْسَ بَيْنَ النَّمَكْسُودِ، وبين المصلوب اليابس كبيرُ فرق، وإنَّما يذبحون الدِّيَكَةَ والْبَطَّ والدَّجاج والدُّرّاج من أوََّلِ الليل، ليسترخيَ لحمُها، وذلك أول التَّجييف.
فالأسد أجمعُ لهذه الخصال من الكلب، فهلاَّ ذكرتمْ بذلك الأسد وهو أنبَهُ ذِكراً وأبعدُ صيتاً.
وأمَّا ما ذكرتم من نَتْن الجِلد ومن استنشاق البول، فإنَّ للتيسِ في ذلك ما ليس للكلب، وقد شاركه في الحذْفِ ببوله تِلقاءَ أنفه، وباينَه بشدَّةِ الصُّنان؛ فإنَّ الأمثالَ لَه أكثرُ ذِكراً، وفي العنز أيضاً عيوب.
وفي توجيه التيس ببوله إلى حاقِّ خَيشومه قال الشاعر لبعض من يهجُوه:
فعادَ لك المُسْمِي فأسْمَاك بالقحر دُعِيتَ يَزِيدَ كي تَزِيدَ فلـم تَـزِدْ
عَلَيْهِ فيمذي في لَبَانٍ وفي نحر وما القَحْرُ إلاَّ التيسُ يَعْتِك بولُه
وقال آخر في مثل ذلك:
عَتُودٌ في مفارِقِه يَبولُ أَعثمانُ بنُ حَيَّانَ بن لؤم
نَعامَتُه ويفهم ما يقول ولو أَنِّي أشافِهُه لشالت
وبعد: فما يُعلمَ من صنيع العنز في لبنها وفي الارتضاع من خلفها إلاَّ أقبح.
وقال ابن أحْمَرَ الباهليُّ في ذلك:
كالعنز تعطِفُ روْقَيها وتَرْتَضِعُ إنّا وجَدْنا بَني سَهْمٍ وجاملـهـم
وقلتم: هَجَا ابْنُ غادية السلمي بعضَ الكِرام، حينَ عُزِل عن يَنْبُع، فقال لمن ظنَّ أنَّه إنَّما عُزِل لمكانه:
دَبِرُ الحراقفِ والفَقَارِ مُوقَّعُ رَكِبوك مُرتَحَلاً فظهرُك منهمُ
نحوَ الذين بهم يَعِزُّ ويمـنـعُ كالكلبِ يَتْبَعُ خانِقِيهِ وينتحـي
وقال ابن هَرْمة الفِهريّ:
ولا ضَرَّت بفُرْقتها نِـزارَا فما عادَت لذِي يمنٍ رؤوسـاً
وتَرْأَمُ مَنْ يُحِدُّ لها الشِّفـارَا كعَنْز السَّوْءِ تَنْطَحَ مَنْ خَلاهَا
وما نعلم الرُّجوعَ في الجِرَّة، وإعادةَ الفرثِ إلى الفم ليُستقصَى مضغُه إلاَّ أسمجَ وأقذَرَ من الرُّجوعِ في القَيْءِ، وقد اختار اللّه عَزّ وجلَّ تلك الطبيعةَ للأنعام، وجعل الناسَ ليسوا لشيءٍ من اللُّحمان أشدَّ أكلاً ولا أشدَّ عَجباً بِهِ منكم، ولا أصلحَ لأبدانهم ولا أغْذَى لهم من لُحُوم هذه الأنعام أفتائِهَا ومَسَانِّهَا.
وقال صاحبُ الديك: ما يشبه عَوْدُ الماشيةِ في الجِرَّة، ورجوعُها في الفرث تطحَنُه وتُسيغه، الرجُوعَ في القيء، وقد زعمتم أنَّ جِرَّةَ البعيرِ أنتنُ مِن قَيءِ الكلاب لطول غُبُوبها في الجوف، وانقلابها إلى طباع الزِّبل، وأنَّها أنتن من الثلط، وإنَّما مثل الجِرَّة مثل الرِّيق الذي ذكره ابنُ أحمر فقال:
وقَدْ يدوِّمُ رِيقَ الطَّامِعِ الأَمَلُ هذا الثناءُ وأجْدِرْ أن أُصاحبه
فإنَّما مَثَلُ القَيءِ مَثَلُ العَذِرَة؛ لأنَّ الرِّيق الذي زعمتم، ما دامَ في فم صاحبه، ألذُّ من السلوى، وأمتعُ من النسيم، وأحسنُ موقعاً من الماء البارد من العطاش المسهوم، والريقُ كذلك ما لم يزايِل موضعَه، ومتى زايل فَمَ صاحبِه إلى بعض جِلْده اشتدّ نتْنه وعادَ في سبيل القيء.
فالرِّيق والجِرَّةُ في سبيلٍ واحد، كما أنَّ القيء والعَذِرة في سبيل واحد، ولو أن الكلبَ قَلَسَ حتَّى يمتلئ منه فمه، ثم رجع فيه من غير مباينةٍ له، لكان في ذلك أحقَّ بالنظافة من الأنعام في جِرَّتها، وحشيِّها وأهليِّها، وإنَّ الأرانِبَ لَتَحِيضُ حيضاً نَتِناً، فما عاف لحمَهَا أصحابُ التَّقَذُّرِ لمشاركَتِها الأنعامَ في الجِرَّة.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
فقال صاحب الكلب: أمَّا ما عبتموه من أكْلِ العَذِرة، فإنَّ ذلك عامٌّ في الماشيةِ المتخيَّرِ لحمُها على اللُّحْمان، لأنَّ الإبل والشياه كلّها جَلاّلة وهُنَّ على يابسِ ما يخرُج من الناسِ أحرَصُ؛ وعلى أنّها إذَا تعوَّدت أكل ما قد جفَّ ظاهرُه وداخلُه رطبٌ، رَجَع أمرُها إلى ما عليه الكلب، ثم الدَّجاج لا تَرْضَى بالعَذِرة، وبما يَبْقَى من الحبوبِ التي لم يأتِ عليها الاستمراء والهضْم، حتَّى تلتمِس الديدانَ التي فيها، فتجمع نوعين من العذرة لأنها إذا أكلت ديدان العَذِرَةِ فقد أتَتْ على النَّوْعين جميعاً، ولذلك قال عبد الرحمن بن الحَكَم في هجائِه الأنصار بخبيث الطعام، فضرب المثلَ بالدَّجاج من بين جميع الحيوان، وترَكَ ذِكر الكلاب وهي له مُعْرِضة فقال:
لخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الدَّجَاجِ وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُـرَاهـا
ولو قال:
لِخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الْكِلابِ وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُـرَاهـا
لكان الشِّعْر صحيحاً مُرضياً.
وعلى أنَّ الكلابَ متى شبِعت، لم تعرض للعَذِرة، والأنعامُ الجلاَّلةُ وكذلك الحافِر، قد جعلت ذلك كالحَمْضِ إذا كانت لها خَلَّةٌ؛ فهي مَرَّة تتغذَّى به ومرة تتحمَّض، وقد جاء في لحُوم الجَلاَّلة ما جاء.
رغبة الملوك والأشراف في الدجاج
وملوكُنا وأهلُ العيشِ مِنَّا، لا يرغبون في شيءٍ من اللُّحمان رغبَتَهم في الدَّجاج، وهم يقدِّمونها على البطِّ والنواهض، والقَبَجِ والدُّرَّاج، نعم وعلى الجِداء والأَعْنُقِ الحُمْرِ من بَنَاتِ الصَّفَايا، وهم يعرفُون طبعها وسوء قُوتِها، وهم مع ذلك يأكلون الرَّواعِيَ كما يأكُلون المسمَّنات.
الشبوط أجود السمك وأطيبُ ما في الأنهار من السمك، وأحسنُها قُدوداً وخَرْطاً، وأسبطُها سُبُوطاً، وأرفعُها ثمناً وأكثرُها تصرُّفاً في المالح والطريّ، وفي القَرِيسِ والنَّشوطِ الشَّبُّوطُ، وليس في الماء سمكة رفيعةُ الذكر ولا ذاتَ خمول، إلاَّ وهي أحرص على أكْل العَذِرة منها، وإنّها في ذلك لأَشدُّ طلباً لها من الخِنزير في البرِّ، والجِرِّيِّ في البحر.
لحم الخنزير وقد عَلم الناسُ كيفَ استطابةُ أكلِ لحُومِ الخنازير، وأكلُ الخنازيرِ لها، وكيف كانت الأَكاسرة والقياصرةُ يقدِّمونها ويفضِّلونها، ولولا التعبُّدُ لجَرَى عندنا مَجْرَاه عندَ غيرِنا.
وقد علم النَّاسُ كيف استطابةُ أكل الجِرِّيِّ لأذنابها.
ما قيل في الجري وفي الجِرّيِّ قال أبو كَلْدة: هو أُدْم العُميان، وجيِّدٌ في الكَوْشَان ودواءٌ للكليتين، وصالحٌ لوجَع الظهر وعَجْبِ الذَّنب، وخِلافٌ على اليهود، وغيظٌ على الروافض؛ وفي أكله إحياءٌ لبعض السُّنن، وإماتةُ بعضِ البِدَع، ولم يُفْلَجْ عليهِ مُكثِرٌ منه قطُّ، وهو محنةٌ بين المبتدِع والسُّنِّي، هلك فيه فِئَتَانِ مذْ كانت الدنيا: محلِّلٌ ومحرِّم.
وقال أبو إسحاق: هو قبيح المنظر، عاري الجِلدِ، ناقص الدّماغِ، يلتهم العَذِرة ويأكل الجرذان صحاحاً والفأرَ، وزَهِمٌ لا يُستَطاعُ أكلُه إلاّ محسِيّاً ولا يتصرَّفُ تصرُّفَ السمك، وقد وقع عليه اسم المِسْخ، لا يَطِيب مملوحاً ولا ممقوراً، ولا يؤكل كباباً، ولا يُختارُ مطبوخاً، ويُرمَى كلُّه إلاَّ ذنَبه.
والأصناف التي تَعرض للعَذِرة كثيرة، وقد ذكرنا الجلاَّلاَتِ من الأنعامِ والجِرِّيِّ والشَّبُّوطِ من السمك، ويعرِض لها من الطير الدَّجاجُ والرَّخَمُ والهَداهِد.
الأنوق وما سمي بهذا الاسم وقد بلغ من شَهوة الرَّخَمَة لذلك، أنْ سمَّوها الأنوق، حتى سمَّوا كلَّ شيءٍ من الحيوان يعرِض للعذِرة بأنوق، وهو قول الشاعر:
لجارتَيه ثـم ولَّـى فـنـثـلْ حتَّى إذَا أضحى تَدَرَّى واكتحـل
رِزقَ الأَنُوقَينِ القَرَنْبَى والجُعَل
لخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الدَّجَاجِ وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُـرَاهـا
ولو قال:
لِخُبْثِ الأَطْعِمَاتِ مِنَ الْكِلابِ وللأَنْصَارُ آكَلُ في قُـرَاهـا
لكان الشِّعْر صحيحاً مُرضياً.
وعلى أنَّ الكلابَ متى شبِعت، لم تعرض للعَذِرة، والأنعامُ الجلاَّلةُ وكذلك الحافِر، قد جعلت ذلك كالحَمْضِ إذا كانت لها خَلَّةٌ؛ فهي مَرَّة تتغذَّى به ومرة تتحمَّض، وقد جاء في لحُوم الجَلاَّلة ما جاء.
رغبة الملوك والأشراف في الدجاج
وملوكُنا وأهلُ العيشِ مِنَّا، لا يرغبون في شيءٍ من اللُّحمان رغبَتَهم في الدَّجاج، وهم يقدِّمونها على البطِّ والنواهض، والقَبَجِ والدُّرَّاج، نعم وعلى الجِداء والأَعْنُقِ الحُمْرِ من بَنَاتِ الصَّفَايا، وهم يعرفُون طبعها وسوء قُوتِها، وهم مع ذلك يأكلون الرَّواعِيَ كما يأكُلون المسمَّنات.
الشبوط أجود السمك وأطيبُ ما في الأنهار من السمك، وأحسنُها قُدوداً وخَرْطاً، وأسبطُها سُبُوطاً، وأرفعُها ثمناً وأكثرُها تصرُّفاً في المالح والطريّ، وفي القَرِيسِ والنَّشوطِ الشَّبُّوطُ، وليس في الماء سمكة رفيعةُ الذكر ولا ذاتَ خمول، إلاَّ وهي أحرص على أكْل العَذِرة منها، وإنّها في ذلك لأَشدُّ طلباً لها من الخِنزير في البرِّ، والجِرِّيِّ في البحر.
لحم الخنزير وقد عَلم الناسُ كيفَ استطابةُ أكلِ لحُومِ الخنازير، وأكلُ الخنازيرِ لها، وكيف كانت الأَكاسرة والقياصرةُ يقدِّمونها ويفضِّلونها، ولولا التعبُّدُ لجَرَى عندنا مَجْرَاه عندَ غيرِنا.
وقد علم النَّاسُ كيف استطابةُ أكل الجِرِّيِّ لأذنابها.
ما قيل في الجري وفي الجِرّيِّ قال أبو كَلْدة: هو أُدْم العُميان، وجيِّدٌ في الكَوْشَان ودواءٌ للكليتين، وصالحٌ لوجَع الظهر وعَجْبِ الذَّنب، وخِلافٌ على اليهود، وغيظٌ على الروافض؛ وفي أكله إحياءٌ لبعض السُّنن، وإماتةُ بعضِ البِدَع، ولم يُفْلَجْ عليهِ مُكثِرٌ منه قطُّ، وهو محنةٌ بين المبتدِع والسُّنِّي، هلك فيه فِئَتَانِ مذْ كانت الدنيا: محلِّلٌ ومحرِّم.
وقال أبو إسحاق: هو قبيح المنظر، عاري الجِلدِ، ناقص الدّماغِ، يلتهم العَذِرة ويأكل الجرذان صحاحاً والفأرَ، وزَهِمٌ لا يُستَطاعُ أكلُه إلاّ محسِيّاً ولا يتصرَّفُ تصرُّفَ السمك، وقد وقع عليه اسم المِسْخ، لا يَطِيب مملوحاً ولا ممقوراً، ولا يؤكل كباباً، ولا يُختارُ مطبوخاً، ويُرمَى كلُّه إلاَّ ذنَبه.
والأصناف التي تَعرض للعَذِرة كثيرة، وقد ذكرنا الجلاَّلاَتِ من الأنعامِ والجِرِّيِّ والشَّبُّوطِ من السمك، ويعرِض لها من الطير الدَّجاجُ والرَّخَمُ والهَداهِد.
الأنوق وما سمي بهذا الاسم وقد بلغ من شَهوة الرَّخَمَة لذلك، أنْ سمَّوها الأنوق، حتى سمَّوا كلَّ شيءٍ من الحيوان يعرِض للعذِرة بأنوق، وهو قول الشاعر:
لجارتَيه ثـم ولَّـى فـنـثـلْ حتَّى إذَا أضحى تَدَرَّى واكتحـل
رِزقَ الأَنُوقَينِ القَرَنْبَى والجُعَل
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
ما قيل من الشعر في الجُعَل
ولشدَّة طلب الجعل لذلك قال الشاعر:
كَأَنَّه شُرَطيٌّ بَاتَ في حَـرَسِ يَبِيت في مجلس الأقوام يَربَؤُهم
وكذلك قال الآخر:
بَاتَ يعشِّي وَحْدَه ألفَيْ جُعَل إذا أتَوه بـطـعـامٍ وأكَـلْ
هذا البيتُ يدلُّ على عِظَم مقدار النَّجْو، فهجاه بذلك، وعلى أنَّ الجُعَل يقتات البَراز.
وفي مثل ذلك يقول ابن عَبْدَل - إن كان قاله - وإنما قلت هذا لأنَّ الشعر يَرتفِع عنه، والشعر قوله:
ثى إذا ما غدا أبـو كـلـثـومِ نِعْم جارُ الخنزيرةِ المرضعُ الغر
من ثَـريدٍ مـلـبَّـقٍ مـأدُوم ثاوياً قد أصابَ عـنـد صـديقٍ
سِ فألقَى كالمِعْلَفِ المَـهْـدُوم ثم أنحى بجَعره حاجبَ الـشـم
عامداتٍ لتـلِّـهِ الـمـركـومِ بضَريطٍ ترى الخنـازير مـنـه
وقال الراجز في مثل ذلك:
ثُمَّتَ أَلبَانَ البَخاتِي جَعْجَعَـا قد دقَّهُ ثَارِدُهُ وصَـوْمَـعَـا
ثُمَّتَ خوّى بارِكاً واسْتَرْجَعا جَعْجَعَة العَوْدِ ابْتَغَى أنْ يَنْجَعا
عَن جاثِمٍ يُحْسَبُ كلباً أبقعا
وفي طلب الجُعَل للزِّبْلِ قال الراجز وهو أبو الغُصْن الأسَدي:
من كل ذات بُخْنقٍ غَمَلَّجـه ماذا تلاَقي طَلَحَاتُ الحرجـه
مِنَ الضُّرَاطِ والفُسَاءِ السمجه ظَلّ لها بَيْنَ الحـلال أَرَجَـه
تعطيه عنها جعَلاً مُدحرجَـه فجئتُها قاعِـدَةً مـنـشـجـه
وقال يحيى الأغرّ: تقول العرب سَدكَ به جُعَله، وقال الشاعر:
إنَّ الشقيَّ الذي يُغْرَى به الجُعَلُ إذا أتيتُ سُليمَى شَبَّ لي جُعَـل
يضرب هذا المثلُ للرَّجل إذا لَصِقَ به من يكره، وإذا كان لا يزال يراه وهو يهرُب منه، قال يحيى: وكان أصلُه ملازمةَ الجُعَل لمن بات في الصحراء، فكلَّما قام لحاجةٍ تبِعه؛ لأنَّه عنده أنَّه يريد الغائط.
القرنبى وفي القَرَنْبَى يقول ابنُ مقبل:
قبُوعَ القَرَنْبَى أخْلَفَتْه مجاعره ولا أطرُق الجَاراتِ بِاللَّيل قابعاً
والقبوع: الاجتماع والتقبض، والقرَنْبى: دويْبَّةٌ فوق الخُنْفَسَاء ودونَ الجعل، وهو والجعل يتْبعان الرَّجلَ إلى الغائط.
الهدهد وخبث ريحه ومن الطَّير الذي يُضارِع الرَّخمة في ذلك الهدهدُ، منتنُ البَدَن وإن لم تجدْه ملطخاً بشيءٍ من العَذِرة؛ لأنَّهُ يبني بيته ويصنع أُفحوصَه من الزِّبل، وليس اقتياتُه منه إلاَّ على قدْر رغبتِه وحاجته في ألاّ يتَّخذ بيتاً ولا أُفحوصاً إلاّ منه، فخامَرَه ذلك النَّتنُ فَعَلِق ببدنه وجرى في أعراق أبويه؛ إذ كان هذا الصنيع عامّاً في جنسه.
وتعتري هذه الشَّهْوةُ الذِّبان، حتَّى إنَّها لو رأتْ عسلاً وقذَراً، لكانت إلى القذَر أسرعَ، وقال الشاعر:
قفا مالِكٍ يُقْصِي الهُمومَ عَلَى بَثْقِ قَفاً خَلْفَ وَجْهٍ قَدْ أُطِـيلَ كـأنَّـه
وأبخَلُ من كَلْبٍ عَقُور على عَرْقِ وأعظمُ زهواً من ذُبابٍ على خِراً
ويزعمون أَنَّ الزُّنبورَ لهِجٌ بصيد الذِّبان، ولا يكاد يصيده إلاَّ وهو ساقطٌ على عذرة لفَرْط شَهْوتِه لها ولاستفراغها، فيعرِف الزُّنبور ذلك، فيجعل غَفلتَه فُرصة ونُهْزة، قالوا: وإنَّما قلنا ذلك لأنّا لم نجِدْه يرومُ صيدَه وهو ساقِطٌ على ثمرةٍ، فما دونها في الحلاوة.
شعر في الهجاء وقال أبو الشَّمقمق في ذلك:
مقُ رأس الأَنتـانِ والـقَـذِره الطّريقَ الطَّرِيقَ جـاءكُـم الأح
لِ وخالُ الجاموسِ والبـقَـره وابْنُ عمِّ الحمارِ في صورةِ الفي
كمشي خِنـزيرةٍ إلـى عَـذِره يمشي رُويداً يريد حَلْـقـتـكـم
وقال حَمَّادُ عَجْرَد في بشَّارِ بْن بُرْدٍ العُقَيليّ:
مِنْ كلِّ مَنْ مِنْ خَلْقِهِ صَوَّرا ما صَوَّرَ اللّه شِبْـهـاً لَـه
بالكلب أعراقاً ولا مَكْسِـرا أَشَبَهَ بِالخِنزيرِ وجـهـاً ولا
أنجَسَ أو أطْفَسَ أو أقـذرا ولا رأينَـا أحـداً مـثـلـه
جِلْـدتُـه الـعَـنْـبــرا لو طُلِيتْ جِلدتُه عنبراً لنتَّنت
تَحَوَّلَ المِسْكُ علـيه خِـرَا أو طُلِيت مِسكـاً ذَكِـيّاً إذَنْ
وقال أبو نُواس في هِجَاء جَعْفرِ بْنِ يحيى بن خالد البرمَكيّ:
أَليس جَزَائي أن اعْطَى الخِرَا إذا ما مدحتُ فتًى مـن خِـرَا
وقال أعرابيٌّ يهجو رجلاً يقال له جُلمود بن أوس، كان مُنتنَ العرق:
ورَعَـدت حـافـتـــه وَبـــرَقـــا إنِّـي إذا مـا عـارضـي تـألَّــقـــا
كانَ لـحـمـقـاءَ فـصـارَ أَحـمَـقَــا أهلـكـتُ جُـلـمـودَ بـنَ أَوس غَـرَقـا
أخـبـث شـيءٍ عَـرَقـاً وخِـرَقَـــا
وقال حَمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار:
كلبِ فـي الـخـلْـق أَنْـتَ لا الإنْـسَـانِ يا ابنَ بُرْدٍ اخْسَأ إليك فمثلُ ال
بِ وأولَـى مِـنْـه بـكـــلِّ هَـــوَانِ بَلْ لَـعَـمْـري لأَنْـتَ شَـرٌّ مـن الـكـل
حِكَ يا ابْـنَ الـطَّـيان ذي الـتُّـبَّـــانِ ولَـرِيحُ الـخِـنْـزِيرِ أطـيَبُ مِــنْ رِي
وقال بعض الشعراء في عبد اللّه بن عُمير:
ثَنـاءَ كَـرِيحِ الـجَـوْرَبِ الـمـتـخـرقِ غَزَا ابنُ عُميرٍ غَزْوةً تركَتْ له
وقال حمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار:
ومَن يفِرُّ الناسُ من رِجْـسِـه قُلْ لشَقِيِّ الجَدِّ فـي رَمْـسِـه
تَحْفِل برغم القرد أو تَعـسـه لِلقِرِدِ بَـشَّـارِ بْـنِ بُـردٍ ولا
فَمَا الَّذِي أدناك مـن مَـسِّـهِ للقِرْدِ باللَّـيْثِ اغـتـرارٌ بـه
بنَابِـهِ يا قِـردُ أَوْ ضِـرْسِـهِ يا ابنَ استِها فاصبِرْ على ضَغْمةٍ
ويومُه أخبثُ من أمـسِـهِ نهارُه أخبثُ مـن لـيلِـه
حتى يُدلَّى القِردُ في رَمْسِه وليس بالمُقْلِعِ عـن غَـيِّه
من جِنِّهِ طُرّاً ومن إنْسِـهِ ما خَلقَ اللّه شبـيهـاً لـه
من رُبْعه بالعُشْر أو خمْسِهِ واللّهِ ما الخِنزيرُ في نَتْنِـه
ومسُّه أليَنُ مِـن مـسِّـهِ بل ريحُه أطيبُ من ريحـهِ
ونفسُه أنبَلُ من نـفـسـهِ ووجهُه أحسنُ من وَجهِـه
وجِنسُه أكرمُ من جِنـسـهِ وعودُه أكرمُ مـن عُـودِه
وأنا حفظك اللّه تعالى أستظرِف وضعَه الخنزيرَ بهذا المكان وفي هذا الموضع، حين يقول: وعودُه أكْرَمُ من عُودِه.
ولشدَّة طلب الجعل لذلك قال الشاعر:
كَأَنَّه شُرَطيٌّ بَاتَ في حَـرَسِ يَبِيت في مجلس الأقوام يَربَؤُهم
وكذلك قال الآخر:
بَاتَ يعشِّي وَحْدَه ألفَيْ جُعَل إذا أتَوه بـطـعـامٍ وأكَـلْ
هذا البيتُ يدلُّ على عِظَم مقدار النَّجْو، فهجاه بذلك، وعلى أنَّ الجُعَل يقتات البَراز.
وفي مثل ذلك يقول ابن عَبْدَل - إن كان قاله - وإنما قلت هذا لأنَّ الشعر يَرتفِع عنه، والشعر قوله:
ثى إذا ما غدا أبـو كـلـثـومِ نِعْم جارُ الخنزيرةِ المرضعُ الغر
من ثَـريدٍ مـلـبَّـقٍ مـأدُوم ثاوياً قد أصابَ عـنـد صـديقٍ
سِ فألقَى كالمِعْلَفِ المَـهْـدُوم ثم أنحى بجَعره حاجبَ الـشـم
عامداتٍ لتـلِّـهِ الـمـركـومِ بضَريطٍ ترى الخنـازير مـنـه
وقال الراجز في مثل ذلك:
ثُمَّتَ أَلبَانَ البَخاتِي جَعْجَعَـا قد دقَّهُ ثَارِدُهُ وصَـوْمَـعَـا
ثُمَّتَ خوّى بارِكاً واسْتَرْجَعا جَعْجَعَة العَوْدِ ابْتَغَى أنْ يَنْجَعا
عَن جاثِمٍ يُحْسَبُ كلباً أبقعا
وفي طلب الجُعَل للزِّبْلِ قال الراجز وهو أبو الغُصْن الأسَدي:
من كل ذات بُخْنقٍ غَمَلَّجـه ماذا تلاَقي طَلَحَاتُ الحرجـه
مِنَ الضُّرَاطِ والفُسَاءِ السمجه ظَلّ لها بَيْنَ الحـلال أَرَجَـه
تعطيه عنها جعَلاً مُدحرجَـه فجئتُها قاعِـدَةً مـنـشـجـه
وقال يحيى الأغرّ: تقول العرب سَدكَ به جُعَله، وقال الشاعر:
إنَّ الشقيَّ الذي يُغْرَى به الجُعَلُ إذا أتيتُ سُليمَى شَبَّ لي جُعَـل
يضرب هذا المثلُ للرَّجل إذا لَصِقَ به من يكره، وإذا كان لا يزال يراه وهو يهرُب منه، قال يحيى: وكان أصلُه ملازمةَ الجُعَل لمن بات في الصحراء، فكلَّما قام لحاجةٍ تبِعه؛ لأنَّه عنده أنَّه يريد الغائط.
القرنبى وفي القَرَنْبَى يقول ابنُ مقبل:
قبُوعَ القَرَنْبَى أخْلَفَتْه مجاعره ولا أطرُق الجَاراتِ بِاللَّيل قابعاً
والقبوع: الاجتماع والتقبض، والقرَنْبى: دويْبَّةٌ فوق الخُنْفَسَاء ودونَ الجعل، وهو والجعل يتْبعان الرَّجلَ إلى الغائط.
الهدهد وخبث ريحه ومن الطَّير الذي يُضارِع الرَّخمة في ذلك الهدهدُ، منتنُ البَدَن وإن لم تجدْه ملطخاً بشيءٍ من العَذِرة؛ لأنَّهُ يبني بيته ويصنع أُفحوصَه من الزِّبل، وليس اقتياتُه منه إلاَّ على قدْر رغبتِه وحاجته في ألاّ يتَّخذ بيتاً ولا أُفحوصاً إلاّ منه، فخامَرَه ذلك النَّتنُ فَعَلِق ببدنه وجرى في أعراق أبويه؛ إذ كان هذا الصنيع عامّاً في جنسه.
وتعتري هذه الشَّهْوةُ الذِّبان، حتَّى إنَّها لو رأتْ عسلاً وقذَراً، لكانت إلى القذَر أسرعَ، وقال الشاعر:
قفا مالِكٍ يُقْصِي الهُمومَ عَلَى بَثْقِ قَفاً خَلْفَ وَجْهٍ قَدْ أُطِـيلَ كـأنَّـه
وأبخَلُ من كَلْبٍ عَقُور على عَرْقِ وأعظمُ زهواً من ذُبابٍ على خِراً
ويزعمون أَنَّ الزُّنبورَ لهِجٌ بصيد الذِّبان، ولا يكاد يصيده إلاَّ وهو ساقطٌ على عذرة لفَرْط شَهْوتِه لها ولاستفراغها، فيعرِف الزُّنبور ذلك، فيجعل غَفلتَه فُرصة ونُهْزة، قالوا: وإنَّما قلنا ذلك لأنّا لم نجِدْه يرومُ صيدَه وهو ساقِطٌ على ثمرةٍ، فما دونها في الحلاوة.
شعر في الهجاء وقال أبو الشَّمقمق في ذلك:
مقُ رأس الأَنتـانِ والـقَـذِره الطّريقَ الطَّرِيقَ جـاءكُـم الأح
لِ وخالُ الجاموسِ والبـقَـره وابْنُ عمِّ الحمارِ في صورةِ الفي
كمشي خِنـزيرةٍ إلـى عَـذِره يمشي رُويداً يريد حَلْـقـتـكـم
وقال حَمَّادُ عَجْرَد في بشَّارِ بْن بُرْدٍ العُقَيليّ:
مِنْ كلِّ مَنْ مِنْ خَلْقِهِ صَوَّرا ما صَوَّرَ اللّه شِبْـهـاً لَـه
بالكلب أعراقاً ولا مَكْسِـرا أَشَبَهَ بِالخِنزيرِ وجـهـاً ولا
أنجَسَ أو أطْفَسَ أو أقـذرا ولا رأينَـا أحـداً مـثـلـه
جِلْـدتُـه الـعَـنْـبــرا لو طُلِيتْ جِلدتُه عنبراً لنتَّنت
تَحَوَّلَ المِسْكُ علـيه خِـرَا أو طُلِيت مِسكـاً ذَكِـيّاً إذَنْ
وقال أبو نُواس في هِجَاء جَعْفرِ بْنِ يحيى بن خالد البرمَكيّ:
أَليس جَزَائي أن اعْطَى الخِرَا إذا ما مدحتُ فتًى مـن خِـرَا
وقال أعرابيٌّ يهجو رجلاً يقال له جُلمود بن أوس، كان مُنتنَ العرق:
ورَعَـدت حـافـتـــه وَبـــرَقـــا إنِّـي إذا مـا عـارضـي تـألَّــقـــا
كانَ لـحـمـقـاءَ فـصـارَ أَحـمَـقَــا أهلـكـتُ جُـلـمـودَ بـنَ أَوس غَـرَقـا
أخـبـث شـيءٍ عَـرَقـاً وخِـرَقَـــا
وقال حَمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار:
كلبِ فـي الـخـلْـق أَنْـتَ لا الإنْـسَـانِ يا ابنَ بُرْدٍ اخْسَأ إليك فمثلُ ال
بِ وأولَـى مِـنْـه بـكـــلِّ هَـــوَانِ بَلْ لَـعَـمْـري لأَنْـتَ شَـرٌّ مـن الـكـل
حِكَ يا ابْـنَ الـطَّـيان ذي الـتُّـبَّـــانِ ولَـرِيحُ الـخِـنْـزِيرِ أطـيَبُ مِــنْ رِي
وقال بعض الشعراء في عبد اللّه بن عُمير:
ثَنـاءَ كَـرِيحِ الـجَـوْرَبِ الـمـتـخـرقِ غَزَا ابنُ عُميرٍ غَزْوةً تركَتْ له
وقال حمَّادُ عَجْرَدٍ في بشَّار:
ومَن يفِرُّ الناسُ من رِجْـسِـه قُلْ لشَقِيِّ الجَدِّ فـي رَمْـسِـه
تَحْفِل برغم القرد أو تَعـسـه لِلقِرِدِ بَـشَّـارِ بْـنِ بُـردٍ ولا
فَمَا الَّذِي أدناك مـن مَـسِّـهِ للقِرْدِ باللَّـيْثِ اغـتـرارٌ بـه
بنَابِـهِ يا قِـردُ أَوْ ضِـرْسِـهِ يا ابنَ استِها فاصبِرْ على ضَغْمةٍ
ويومُه أخبثُ من أمـسِـهِ نهارُه أخبثُ مـن لـيلِـه
حتى يُدلَّى القِردُ في رَمْسِه وليس بالمُقْلِعِ عـن غَـيِّه
من جِنِّهِ طُرّاً ومن إنْسِـهِ ما خَلقَ اللّه شبـيهـاً لـه
من رُبْعه بالعُشْر أو خمْسِهِ واللّهِ ما الخِنزيرُ في نَتْنِـه
ومسُّه أليَنُ مِـن مـسِّـهِ بل ريحُه أطيبُ من ريحـهِ
ونفسُه أنبَلُ من نـفـسـهِ ووجهُه أحسنُ من وَجهِـه
وجِنسُه أكرمُ من جِنـسـهِ وعودُه أكرمُ مـن عُـودِه
وأنا حفظك اللّه تعالى أستظرِف وضعَه الخنزيرَ بهذا المكان وفي هذا الموضع، حين يقول: وعودُه أكْرَمُ من عُودِه.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
وأَيُّ عودٍ للخنزير? قَبَحه اللّه تعالى، وقبح من يشتهي أكله، وقال حمَّادُ عجرد في بشَّارِ بن بُرد:
بلا مَـشُـورةِ إنـسـانٍ ولا أَثَــرِ إنَّ ابـنَ بُـردٍ رأى رُؤيَا فـأوَّلَـهَـا
عليه، إذ كانَ مكفوفاً عن الـنَّـظـرِ رأى العَمَى نِـعـمةً لـلّـه سـابـغة
قد كان بُردٌ أَبِي في الضِّيقِ والعُسُـرِ وقال: لو لَمْ أكُنْ أعمَى لكنـتُ كـمـا
إمَّا أجـيراً وإمَّـا غـيرَ مُـؤتَـجَـرِ أكدُّ نفسيَ بالـتـطـيين مـجـتـهِـداً
قَصَّابَ شاءٍ شَقِيَّ الـجَـدِّ أو بَـقَـرِ أو كنتُ إنْ أنا لم أقنَعْ بـفـعـلِ أبـي
في الحرِّ والبردِ والإدلاج وَ الْبُـكَـرِ كإخوتي دائبـاً أشـقَـى شـقـاءَهُـمُ
والرِّزقُ يأتِي بأسبـابٍ مـن الـقَـدَرِ فقد كفاني العَمَى من كلِّ مَـكْـسَـبَةٍ
إلاَّ بمَسْألتي إذ كنت فـي صِـغَـرِي فصرتُ ذا نَشَبٍ من غير ما طـلـب
ممَّا أجمِّع من تمـر ومـن كِـسَـرِ أضـمُّ شـيئاً إلـى شـيءٍ فـأذخـره
أو كان يبذُل لي شيئاً سِوى الحَـجَـر مَن كان يعرفُني لو لـم أكـن زَمِـنـاً
فإنَّها عُرَّةٌ تُربِـي عـلـى الـعُـرَر فقُل له لا هَـداه الـلّـهُ مِـن رجُـلٍ
يا ابنَ الخبيثة قد أدقَقْتَ في النـظـر لقد فطِنتَ إلـى شـيءٍ تـعـيش بـه
لأَير ثوبانَ ذي الهامات والـعُـجَـرِ يا ابنَ التي نَشَزَت عن شيخ صِبْيَتـهـا
ما في حِرامِّك من نَتْـن ومـن دَفَـرِ أما يكفُّكَ عن شَتْمي ومنـقَـصَـتـي
فسل أسيداً وسل عنـهـا أبـا زُفَـرِ نفَتْكَ عنهـا عُـقَـيلٌ وهـي صـادقة
من اللَّوَى، لستَ مولى الغُرِّ من مُضَر يا عبدَ أمِّ الظباء المسـتـطـبِّ بـهـا
نَذَالةِ النفس كالـخـنـزيرِ والـيَعَـر بل أنتَ كالـكـلـب ذُلاًّ أو أذلُّ وفـي
بل صورةُ القرد أبهى منك في الصُّوَرِ وأنتَ كالقردِ في تشـويه مـنـظـرِه
ووصف ابن كريمة حشٌا له، كان هو وأصحابه يتأذون بريحه فقال:
أرواح وادي خبال غير فَتَّار ولي كَنِيفٌ بِحَمْدِ اللّه يطرقني
من البَرِيَّةِ إلاَّ خَازِن الـنَّـارِ له بدائعُ نَتْن ليس يَعـرِفـهـا
كَأَنَّهُ لَهِجٌ عَمْداً بـإضْـرَارِي إذا أتانى دَخِيلٌ زَادَنِي بِـدَعـاً
وباعَ مَسْكَنَه مِن قُرْبه جاري قد اجتوانِي له الخُلاَّنُ كلُّهُـم
أو الصُّدَاعِ فمرْه يدخُلَنْ داري فمن أرادَ من البِرْسَامِ أقتَـلَـهُ
فليس يوجِدُنيه غيرُ إضماري استكثَفَ النَّتنُ في أنفي لكثرتِه
بلا مَـشُـورةِ إنـسـانٍ ولا أَثَــرِ إنَّ ابـنَ بُـردٍ رأى رُؤيَا فـأوَّلَـهَـا
عليه، إذ كانَ مكفوفاً عن الـنَّـظـرِ رأى العَمَى نِـعـمةً لـلّـه سـابـغة
قد كان بُردٌ أَبِي في الضِّيقِ والعُسُـرِ وقال: لو لَمْ أكُنْ أعمَى لكنـتُ كـمـا
إمَّا أجـيراً وإمَّـا غـيرَ مُـؤتَـجَـرِ أكدُّ نفسيَ بالـتـطـيين مـجـتـهِـداً
قَصَّابَ شاءٍ شَقِيَّ الـجَـدِّ أو بَـقَـرِ أو كنتُ إنْ أنا لم أقنَعْ بـفـعـلِ أبـي
في الحرِّ والبردِ والإدلاج وَ الْبُـكَـرِ كإخوتي دائبـاً أشـقَـى شـقـاءَهُـمُ
والرِّزقُ يأتِي بأسبـابٍ مـن الـقَـدَرِ فقد كفاني العَمَى من كلِّ مَـكْـسَـبَةٍ
إلاَّ بمَسْألتي إذ كنت فـي صِـغَـرِي فصرتُ ذا نَشَبٍ من غير ما طـلـب
ممَّا أجمِّع من تمـر ومـن كِـسَـرِ أضـمُّ شـيئاً إلـى شـيءٍ فـأذخـره
أو كان يبذُل لي شيئاً سِوى الحَـجَـر مَن كان يعرفُني لو لـم أكـن زَمِـنـاً
فإنَّها عُرَّةٌ تُربِـي عـلـى الـعُـرَر فقُل له لا هَـداه الـلّـهُ مِـن رجُـلٍ
يا ابنَ الخبيثة قد أدقَقْتَ في النـظـر لقد فطِنتَ إلـى شـيءٍ تـعـيش بـه
لأَير ثوبانَ ذي الهامات والـعُـجَـرِ يا ابنَ التي نَشَزَت عن شيخ صِبْيَتـهـا
ما في حِرامِّك من نَتْـن ومـن دَفَـرِ أما يكفُّكَ عن شَتْمي ومنـقَـصَـتـي
فسل أسيداً وسل عنـهـا أبـا زُفَـرِ نفَتْكَ عنهـا عُـقَـيلٌ وهـي صـادقة
من اللَّوَى، لستَ مولى الغُرِّ من مُضَر يا عبدَ أمِّ الظباء المسـتـطـبِّ بـهـا
نَذَالةِ النفس كالـخـنـزيرِ والـيَعَـر بل أنتَ كالـكـلـب ذُلاًّ أو أذلُّ وفـي
بل صورةُ القرد أبهى منك في الصُّوَرِ وأنتَ كالقردِ في تشـويه مـنـظـرِه
ووصف ابن كريمة حشٌا له، كان هو وأصحابه يتأذون بريحه فقال:
أرواح وادي خبال غير فَتَّار ولي كَنِيفٌ بِحَمْدِ اللّه يطرقني
من البَرِيَّةِ إلاَّ خَازِن الـنَّـارِ له بدائعُ نَتْن ليس يَعـرِفـهـا
كَأَنَّهُ لَهِجٌ عَمْداً بـإضْـرَارِي إذا أتانى دَخِيلٌ زَادَنِي بِـدَعـاً
وباعَ مَسْكَنَه مِن قُرْبه جاري قد اجتوانِي له الخُلاَّنُ كلُّهُـم
أو الصُّدَاعِ فمرْه يدخُلَنْ داري فمن أرادَ من البِرْسَامِ أقتَـلَـهُ
فليس يوجِدُنيه غيرُ إضماري استكثَفَ النَّتنُ في أنفي لكثرتِه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
ثروة المحلول من الشعر
وقيل للمحلول: ويلكَ، ما حفظتَ بيتَ شعرٍ قط? فقال: بيتاً واحداً اشتهيته فحفظتُه، فقيل له: فهاته، قال: أمَا إنِّي لا أحفَظُ إلاَّ بيتاً واحداً، قيل: فكيف رزق منك هذا البيت? فَأَنْشِدْهُ، فَأَنشَدَهم:
كأنَّما نَكْهَتُهَا مِدَّةٌ تَسِيلُ من مَخْطَةِ مَجْذُوم
وزعم أصحابنا أنّ رجُلاً من بني سعد - وكان أنتنَ الناس إبطاً - بلَغه أن ناساً من عبد القيس يتحدَّوْنَه برجلٍ منهم، فمضى إليهم شدّاً، فوافاهم وقد أَزْبَدَ إبطاه، وهو يقول:
بِذِي حُطاطٍ يُعطِسُ المخنُونا أقبلتُ مِنْ جَلْهَةِ ناعـتـينـا
حتَّى تَرَى لوجهِه غُضُونـا يَزْوِي له من نتْنِهِ الجَبـينـا
نُبِّئْتَ عبدَ القيس يَأبِطونـا
قال: ومتَح أعرابيٌّ على بئرٍ وهو يقول:
كأنَّنِي جاني عُبَيْثُرَانِ يا رِيَّها إذا بَدا صُنَانِي
وقال آخر:
نَفْحَةُ خُرْءٍ مِنْ كَوَاميخ القرى كَأنَّ إبطيَّ وقد طالَ الـمـدى
ويقال إنّهُ ليس في الأرض رائِحةٌ أنتنُ، ولا أشَدُّ على النفس، من بَخَر فمٍ أو نَتْنِ حِرٍ، ولا في الأرض رائِحةُ أعصمُ لرُوحٍ من رائِحة التفاح.
وقال صاحب الكلب: فما نرى النَّاسَ يَعافُون تسميدَ بُقولِهم قبل نُجومِها وتفتُّقِ بزورها ولا بعد انتشارِ ورقها وظهورِ موضع اللُّبِّ منها حتَّى ربَّمَا ذَرُّوا عليها السَّمادَ ذَرّاً، ثُمَّ يُرْسَل عليها الماءُ حتى يَشْرَبَ اللُّبُّ قُوى العذرة، بل مَن لهمْ بالعَذِرة? وعلى أنَّهُم ما يصيبونها إلاّ مغشوشةً مُفْسَدَة، وكذلك صنيعُهم في الريحان، فأمَّا النَّخْلُ فلو استطاعوا أن يَطْلوا بها الأجذاعَ طلياً لفعلوا، وإنَّهم لَيُوقدون بها الحَمَّاماتِ وأَتاتينَ المِلاَل، وتنانير الخبز، ومن أكرم سمادهم الأبعارُ كلُّهَا والأخثاءُ إذا جفَّت، وما بينَ الثَّلط جَافاً والخثاء يابساً، وبين العَذِرة جافَّةً ويابسةً فرق، وعلى أنَّهم يعالِجون بالعَذِرة وبخرْءِ الكلب، من الذُّبحة والخانُوق في أقصى مواضِع التقزُّز وهو أقصى الحلق، ومواضع اللهاة، ويضعونَها على مواضع الشَّوكة، ويعالجون بها عُيون الدَّوابّ.
أقولٌ لمسبِّحٍ الكناس وقال مسبّح الكناس: إنَّمَا اشتُقَّ الخير من الخُرْءِ، والخرء في النوم خير، وسَلْحَةٌ مُدرِكَةٌ ألذُّ مِن كَوْمٍ العَروس ليلةَ العُرس، ولقد دخلتُ على بَعْضِ الملوك لبعض الأسباب، وإذا به قُعاصٌ وزكام وثِقَلُ رأس، وإذا ذلك قد طاولَه، وقد كان بلغني أنَّه كان هجَر الجلوس على المقعدة وإتيانَ الخلاء، فأمرتُه بالعَود إلى عادته، فما مَرَّت به أيامٌ حتى ذهب ذلك عنه.
وزعم أنَّ الدنيا مُنتِنة الحِيطان والتُّرْبةِ، والأنهار والأودية، إلاّ أنَّ النَّاسَ قد غمرهم ذلك النتْن المحيط بهم، وقد مَحَقَ حِسَّهم له طولُ مُكثِه في خياشيمهم، قال: فمن ارتابَ بخبري، فليقفْ في الرَّدِّ إلى أن يمتحنَ ذلك في أوَّل ما يخرجُ إلى الدنيا، عَنْ بيتٍ مطيَّب؛ وليتشَمَّمْ تشمُّمَ المتشبِّث، عَلَى أنّ البقاعَ تتفاوت في النتن، فهذا قولُ مسبّح الكنَّاس.
عصبية سلمويه وابن ماسويه
وزعم لي سَلْمَوَيه وابن ماسَوَيه مُتطبِّبا الخلفاء، أنَّه ليس على الأرض جِيفةٌ أنتنُ نَتْناً ولا أَثْقَبُ ثُقوباً مِن جيفةِ بعير، فظننتُ أنَّ الذي وهَّمهما ذلك عَصَبِيَّتُهُمَا عليه، وبغضُهما لأربابه، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله، هو المذكورُ في الكتب براكب البعير، ويقال إن الحجَّاج قال لهم: أيُّ الجيَفِ أنتن? فقيل: جِيَف الكلاب، فامتحِنَتْ فقيل له: أنتن منها جيف السنانير، وأنتن جيفها الذكورُ منها، فصلب ابن الزُّبير بين جِيفَتَيْ سنَّورين ذكرين.
أطيب الأشياء رائحة وأنتنها
وأنا أقول في النتن والطِّيب شيئاً، لعلَّك إن تفقّدتَه أن توافقَني عليه وترضى قولي، أمَّا النتن فإنِّي لم أشمَّ شيئاً أنتنَ من ريحِ حُشٍّ مقيَّر، يبول فيه الخِصيان ولا يُصَبُّ عليه الماء؛ فإِنّ لأبوالهم المترادفة المتراكبة ولريح القار وريح هواءِ الحشِّ وما ينفصل إليه من ريح البالوعة - جِهةً من النَّتْن ومذهباً في المكروه، ليس بينه وبين الأبدان عمل، وإنَّما يقصِد إلى عين الرُّوح وصميمِ القلب، ولا سيَّما إذا كان الخلاءُ غيرَ مكشوف، وكان مغموماً غيرَ مفتوح، فأمَّا الطِّيب فإني لم أشْمَمْ رائِحة قطُّ أحيا للنفس ولا أعصَمَ للرُّوح، ولا أفتَقَ ولا أغنج، ولا أطيب خِمرة من ريحِ عَروس، إذا أُحكِمت تلك الأخلاط، وكان عَرْف بَدَنها ورأسِهَا وشعرها سليماً، وإن كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنّك ستجد ريحاً تعلَمُ أنّهُ ليس فوقَهَا إلاّ ريحُ الجنة.
وقيل للمحلول: ويلكَ، ما حفظتَ بيتَ شعرٍ قط? فقال: بيتاً واحداً اشتهيته فحفظتُه، فقيل له: فهاته، قال: أمَا إنِّي لا أحفَظُ إلاَّ بيتاً واحداً، قيل: فكيف رزق منك هذا البيت? فَأَنْشِدْهُ، فَأَنشَدَهم:
كأنَّما نَكْهَتُهَا مِدَّةٌ تَسِيلُ من مَخْطَةِ مَجْذُوم
وزعم أصحابنا أنّ رجُلاً من بني سعد - وكان أنتنَ الناس إبطاً - بلَغه أن ناساً من عبد القيس يتحدَّوْنَه برجلٍ منهم، فمضى إليهم شدّاً، فوافاهم وقد أَزْبَدَ إبطاه، وهو يقول:
بِذِي حُطاطٍ يُعطِسُ المخنُونا أقبلتُ مِنْ جَلْهَةِ ناعـتـينـا
حتَّى تَرَى لوجهِه غُضُونـا يَزْوِي له من نتْنِهِ الجَبـينـا
نُبِّئْتَ عبدَ القيس يَأبِطونـا
قال: ومتَح أعرابيٌّ على بئرٍ وهو يقول:
كأنَّنِي جاني عُبَيْثُرَانِ يا رِيَّها إذا بَدا صُنَانِي
وقال آخر:
نَفْحَةُ خُرْءٍ مِنْ كَوَاميخ القرى كَأنَّ إبطيَّ وقد طالَ الـمـدى
ويقال إنّهُ ليس في الأرض رائِحةٌ أنتنُ، ولا أشَدُّ على النفس، من بَخَر فمٍ أو نَتْنِ حِرٍ، ولا في الأرض رائِحةُ أعصمُ لرُوحٍ من رائِحة التفاح.
وقال صاحب الكلب: فما نرى النَّاسَ يَعافُون تسميدَ بُقولِهم قبل نُجومِها وتفتُّقِ بزورها ولا بعد انتشارِ ورقها وظهورِ موضع اللُّبِّ منها حتَّى ربَّمَا ذَرُّوا عليها السَّمادَ ذَرّاً، ثُمَّ يُرْسَل عليها الماءُ حتى يَشْرَبَ اللُّبُّ قُوى العذرة، بل مَن لهمْ بالعَذِرة? وعلى أنَّهُم ما يصيبونها إلاّ مغشوشةً مُفْسَدَة، وكذلك صنيعُهم في الريحان، فأمَّا النَّخْلُ فلو استطاعوا أن يَطْلوا بها الأجذاعَ طلياً لفعلوا، وإنَّهم لَيُوقدون بها الحَمَّاماتِ وأَتاتينَ المِلاَل، وتنانير الخبز، ومن أكرم سمادهم الأبعارُ كلُّهَا والأخثاءُ إذا جفَّت، وما بينَ الثَّلط جَافاً والخثاء يابساً، وبين العَذِرة جافَّةً ويابسةً فرق، وعلى أنَّهم يعالِجون بالعَذِرة وبخرْءِ الكلب، من الذُّبحة والخانُوق في أقصى مواضِع التقزُّز وهو أقصى الحلق، ومواضع اللهاة، ويضعونَها على مواضع الشَّوكة، ويعالجون بها عُيون الدَّوابّ.
أقولٌ لمسبِّحٍ الكناس وقال مسبّح الكناس: إنَّمَا اشتُقَّ الخير من الخُرْءِ، والخرء في النوم خير، وسَلْحَةٌ مُدرِكَةٌ ألذُّ مِن كَوْمٍ العَروس ليلةَ العُرس، ولقد دخلتُ على بَعْضِ الملوك لبعض الأسباب، وإذا به قُعاصٌ وزكام وثِقَلُ رأس، وإذا ذلك قد طاولَه، وقد كان بلغني أنَّه كان هجَر الجلوس على المقعدة وإتيانَ الخلاء، فأمرتُه بالعَود إلى عادته، فما مَرَّت به أيامٌ حتى ذهب ذلك عنه.
وزعم أنَّ الدنيا مُنتِنة الحِيطان والتُّرْبةِ، والأنهار والأودية، إلاّ أنَّ النَّاسَ قد غمرهم ذلك النتْن المحيط بهم، وقد مَحَقَ حِسَّهم له طولُ مُكثِه في خياشيمهم، قال: فمن ارتابَ بخبري، فليقفْ في الرَّدِّ إلى أن يمتحنَ ذلك في أوَّل ما يخرجُ إلى الدنيا، عَنْ بيتٍ مطيَّب؛ وليتشَمَّمْ تشمُّمَ المتشبِّث، عَلَى أنّ البقاعَ تتفاوت في النتن، فهذا قولُ مسبّح الكنَّاس.
عصبية سلمويه وابن ماسويه
وزعم لي سَلْمَوَيه وابن ماسَوَيه مُتطبِّبا الخلفاء، أنَّه ليس على الأرض جِيفةٌ أنتنُ نَتْناً ولا أَثْقَبُ ثُقوباً مِن جيفةِ بعير، فظننتُ أنَّ الذي وهَّمهما ذلك عَصَبِيَّتُهُمَا عليه، وبغضُهما لأربابه، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعلى آله، هو المذكورُ في الكتب براكب البعير، ويقال إن الحجَّاج قال لهم: أيُّ الجيَفِ أنتن? فقيل: جِيَف الكلاب، فامتحِنَتْ فقيل له: أنتن منها جيف السنانير، وأنتن جيفها الذكورُ منها، فصلب ابن الزُّبير بين جِيفَتَيْ سنَّورين ذكرين.
أطيب الأشياء رائحة وأنتنها
وأنا أقول في النتن والطِّيب شيئاً، لعلَّك إن تفقّدتَه أن توافقَني عليه وترضى قولي، أمَّا النتن فإنِّي لم أشمَّ شيئاً أنتنَ من ريحِ حُشٍّ مقيَّر، يبول فيه الخِصيان ولا يُصَبُّ عليه الماء؛ فإِنّ لأبوالهم المترادفة المتراكبة ولريح القار وريح هواءِ الحشِّ وما ينفصل إليه من ريح البالوعة - جِهةً من النَّتْن ومذهباً في المكروه، ليس بينه وبين الأبدان عمل، وإنَّما يقصِد إلى عين الرُّوح وصميمِ القلب، ولا سيَّما إذا كان الخلاءُ غيرَ مكشوف، وكان مغموماً غيرَ مفتوح، فأمَّا الطِّيب فإني لم أشْمَمْ رائِحة قطُّ أحيا للنفس ولا أعصَمَ للرُّوح، ولا أفتَقَ ولا أغنج، ولا أطيب خِمرة من ريحِ عَروس، إذا أُحكِمت تلك الأخلاط، وكان عَرْف بَدَنها ورأسِهَا وشعرها سليماً، وإن كانت بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنّك ستجد ريحاً تعلَمُ أنّهُ ليس فوقَهَا إلاّ ريحُ الجنة.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
ما قيل في الظربان
ومما قالوا في النَّتْن، وفي ريح جُحْرِ الظَّرِبان خاصَّة، قول الحكم بن عَبْدَل:
ولحَصْدُ أنفِكَ بالمنَاجِل أَهْـوَنُ ألقيتَ نفسَكَ في عَرُوضِ مَشَقَّةٍ
جَمٌّ وفُلفُلنا هُـنـاك الـدِّنْـدِنُ أنت امرؤٌ في أرضِ أمِّكَ فُلفلٌ
بالبِرِّ واللَّطَفَ الذي لا يُخْـزَنُ فبحقِّ أمّك وهي منك حقـيقةٌ
حتَّى يُداوِيَ ما بأنْفِكَ أَهْـرَنُ لا تُدْنِ فاكَ من الأَميرِ ونحِّـه
فلَجُحْر أَنفك يا محمَّدُ أنـتَـنُ إن كان للظّرِبانِ جُحْرٌ مُنـتِـنٌ
وقال الربيع بن أبي الحقَيق - وذكر الظّرِبان - حينَ رمى قوماً بأنّهم يَفسُون في مجالسهم، لأنّ الظَّرِبان أنتنُ خلْقِ اللّه تعالى فَسْوةً، وقد عَرَف الظّرِبانُ ذلك فجعَلَه من أشَدِّ سِلاَحِهِ، كما عرَفَتِ الحُبارَي مَا في سُلاَحِها من الآلة، إذا قرب الصقر منها، والظّربانُ يدخل على الضبِّ جُحرَه وفيه حُسوله أو بيضُه، فيأتِي أضيقَ موضعِ في الجُحر فيسدُّه بيديه، ويحوِّل استَه فلا يفسو ثلاثَ فَسَوَاتٍ حتى يُدَارَ بالضبِّ فيخِرَّ سكرانَ مفشِيّاً عليه، فيأكله، ثم يقيم في جُحره حتَّى يأتِيَ على آخِر حُسوله.
وتقول العرب: إنّه ربَّمَا دخَل في خِلال الهَجْمة فيفسو، فلا تتِمُّ له ثلاثُ فَسَواتٍ حتى تتفرَّق الإبل عن المبْرَك، تتركه وفيه قِرْدان فلا يردُّها الراعي، إلاّ بالجَهْدِ الشديد.
فقال الربيع، وهجاهم أيضاً بريح التُّيوس:
إذَا مَا تَنَادَوْا لأمـرٍ شـديدِ قَلِيلٌ غَنَاؤُهُمُ فِي الـهِـياجِ
تهرُّ هريرَ العَقور الرَّصُودِ وأنتمْ كِلاَبٌ لَـدَى دُورِكـم
وما إنْ لنا فيكمُ مـن نَـدِيدِ وأنتم ظَرَابيُّ إذ تجلـسـونَ
بريح التُّيوسِ وقُبْح الخدودِ وأنتم تيوسٌ وقد تُعْـرَفـونَ
قال: ويقال: أفسى من الظّرِبان ويسمّى مفرِّقَ النَّعَمِ، يريدون من نتْن ريحِ فُسَائه، ويقال في المثل - إذا وقعَ بين الرجُلين شرٌّ فتباينَا وتقاطَعَا -: فسَا بَيْنَهُمَا ظَرِبَان، ويقال: أنتَن مِنْ ظربان لأنَّ الضبّ إنَّما يخدع في جُحْره ويُوغِل في سِرْبه لشدَّة طلب الظّرِبان له، وقال الفرزدق في ذلك:
ظَرَابِيُّ من حِمَّانَ عنِّي تثيرهـا ولو كنتُ في نارِ الجحيم لأصبَحَتْ
وكان أبو عُبيدة يُسمِّي الحِمَّانيَّ صاحِبَ الأصَمِّ: الظَّرِبان، يريد هذا المعنى، كما يسمى كل حِمَّانِيٍّ ظَرِبَاناً.
وقال ابن عَبدََلٍ:
حتَّى يداوِيَ ما بأنْفِك أهْرَنُ لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونحِّه
فلَجُحر أنفِك يا محمد أنتن إن كانَ للظَّرِبان جُحرٌ مُنتِنٌ
في شعره الذي يقول:
من كلِّ مَن يُكْفِي القصيدَ ويَلْحَنُ ليتَ الأميرَ أطاعَنِي فشـفـيتُـه
باتَتْ مناخِرُهُ بدُهْـنٍ تُـعْـرَنُ متكَوِّرٌ يَحْثُو الكـلام كـأنَّـمـا
زَمناً فأضربُ مَن ْ أشَاءُ وأسجُنُ وبنَي لهم سِجناً فكنتُ أمـيرَهـم
إن كنتَ من حبِّ التقرُّب تجبُنُ قل لابنِ آكِلة العِفَاصِ محـمَّـدٍ
ولَحَصْدُ أنفِك بالمناجِـلِ أهْـوَنُ ألقيْتَ نفسَك في عَروضِ مَشَقَّةٍ
جَمٌّ وفلفلنا هـنـاك الـدِّنْـدِن أنتَ امرؤٌ في أرضِ أمِّك فلفـلٌ
بالبرِّ واللَّطَفِ الـذي لا يُخْـزَنُ فبحقِّ أمِّكَ وهي منك حـقـيقَةٌ
حتَّى يُداوِيَ ما بأنفِـك أهْـرَنُ لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونـحِّـهِ
فلَجُحْر أنفِك يا محمَّـدُ أنـتَـنُ إنْ كانَ للظَّرِبانِ جُحْرٌ منـتـنٌ
وبَنُو أبِيهِ للفَصـاحة مَـعْـدِنُ فسَـلِ الأمـيرَ غـيرُ مـوفَّـقٍ
بسَليقةِ العُرْب التي لا تـحـزُن وسَلِ ابنَ ذَكْوانٍ تَجِدْهُ عـالِـمـاً
فتجيدُ ما عمِلت يَداك وتحسِـنُ إذْ أنتَ تجعَلُ كلَّ يومٍ عـفـصةً
أنْ قد خُتِنْتَ وأنَّها لا تُـخْـتَـنُ أشبهتَ أمَّكَ غـيرَ بـابٍ واحـدٍ
وفُتِنت فيها، وابـنُ آدَمَ يُفـتَـنُ فلَئِن أصبتَ دراهماً فدفنـتَـهـا
إذْ ذاك تَقْصِف في القِيان وتزْفِنُ فبما أراك وأنتَ غيرُ مُـدَرْهِـمٍ
بَيْضَاءُ مُغْرِبَةٌ عليها السَّـوْسَـنُ إذ رأسُ مَالِكَ لُعْـبَةً بـصـريَّة
وقال ابن عبدل أيضاً:
كرِيح الجَعْر فوق َ عَطِينِ جِلْدِ نَجَوت محمـداً ودخـانُ فـيه
كريمٍ يطلبُ المعروفَ عِنـدي ركبتُ إليه في رَجُلٍ أتـانـي
وذلكَ بعدَ تقريظي وحَـمْـدي فقلتُ له ولم أعجَـل عـلـيه،
أكَلِّمُ صَخْرَةً في رأْس صمْـدِ فأعْرَضَ مُكْمَحاً عنِّي كـأنِّـي
فما يزْداد منِّي غـيرَ بُـعْـدِ أقرِّبُ كـل آصِـرَةٍ لـيدنـو
أبا بَخَرٍ لـتـتَّـخِـمَـنَّ رَدِّي فأقسِمُ غيرَ مستـثـنٍ يمـينـاً
لخفتَ ملامَتي ورجوتَ حَمدي فلو كنتَ المهذّبَ مـن تـمـيم
كريح الكلبِ ماتَ قريبَ عَهْدِ نَجَوتُ محمداً فوجـدتُ ريحـاً
سيبلغ إنْ سلِمْنا أهـلَ نَـجْـدِ وقد ألْذَعتَنِي ثعـبـانَ نَـتْـنٍ
قَرَنْتُ دونوَّه منـي بـبُـعْـدِ وأدنَى خَطْمَـه فـودِدتُ أنِّـي
بخِلْعَتها ولم تَرجِـع بـزَنْـدِ كما افَتَدَتِ المعاذةُ مـن جَـواهُ
وكانتْ عنـدَه كـأسـيرِ قِـدِّ وفارقَها جواه فاسـتـراحَـتْ
قتلتُ بذاك نفسي غيرَ عَـمْـدِ وقد أدنيتُ فـاه إلـيَّ حـتَّـى
ولو طُليت مَشافِرُه بـقَـنْـد وما يدنُـو إلـى فـيه ذُبـابٌ
زعافاً إنْ همَمْنَ لـه بِـوردِ يَذُقن حلاوةً ويَخفْـن مـوتـاً
بمثل غَثِيثَةِ الدَّبِـر الـمُـغِـدِّ فلما فاحَ فُوه علـيّ فَـوْحـاً
فما هذا بـريحِ قُـتَـارِ رَنْـدِ فقلت له: تنحَّ بفـيك عـنِّـي
يفوحُ خِرَاكَ منه غير سَـرْدِ وما هذا بريح طِـلاً ولـكـنْ
لبابِ الحقِّ من كذِب وجَحْـدِ فحدِّثْنِي فإنَّ الـصِّـدقَ أدنـى
فأعلم أمْ أتـاكَ بـه مُـغَـدِّي أباتَ يجولُ في عَفَجٍ طحـور
شتيمٍ أعـصـلِ الأنـياب وَرْدِ نكِهتَ عليَّ نـكـهةَ أخـدَريٍّ
فإِنِّي كالذي أهـديتَ أهـدي فإن أهديتَ لي من فيكَ حتْفـي
تكونُ فنونُها من كـل فِـنـدِ لكم شُرُداً يَسرِن مـغـنِّـياتٍ
رَوَاها النَّاسُ من شِيبٍ ومُـرْدِ أما تخزَى خَزِيت لهـا إذا مـا
جَوًى إنِّي إذن لَسـعـيد جـدِّ لأَرجُو إن نجوت ولم يُصبْنـي
فقال أصابني من جَوفِ مَهْدِي وقلتُ له: متى استطْرفْتَ هذا
فتعذر فيه آمـالا بـجَـهْـدِ فقلت لـه: أمـا دَاويتَ هـذا
فتسديَه لنا فيمـا سـتُـسْـدي فقال: أمَا علمـت لـه رِقَـاءً
له فيمـا أسـرُّ لـه وأُبـدي فقلـت لـه: ولا آلـوه عـيا
ومثليْ ذاك من نونٍ كَنَعْـدِ عليكَ بقيئةٍ وبجَعْـرِ كَـلْـبٍ
وعُودَي حَرْمَلٍ ودِماغِ فَهْـدِ وحِلـتـيتٍ وكُـرَّاثٍ وثُـومٍ
ووزنِ شَعيرةِ من بَزْر فَقْـدِ وحَنْجَرَةِ ابنِ آوى وابنِ عِرسٍ
ومثقالين من صـوّان رَقْـدِ وكَفِّ ذُرُحْرُحٍ ولسانِ صَقر
ببولٍ آجِن وبجَـعْـرِ قِـرد يُدَقُّ ويُعجَن المنخول مـنـه
وترقبه فـلا يَبـدُو لـبَـرْدِ وتدفِنُه زماناً فـي شـعـيرٍ
ولا يعجن بأظـفـار ونَـدِّ فدخِّن فاكَ ما عتَّقت مـنـه
أراك اللّهُ غَيَّكَ أمرَ رشـدِ فإنْ حضَرَ الشتاءُ وأنتَ حيٌّ،
متَى رُمْتَ التكلُّـم أيّ زَرْدِ فدَحْرِجْها بنادِقَ وازدرِدْهـا
ببلعومٍ وشِدْقٍ مُـسْـمَـعِـدِّ فتقذف بالمِصَلِّ على مِصَـلٍّ
كأنّ دوِيَّهُ إرزام رَعـــد وويْلَك ما لِبَطْنِك مذْ قعَـدْنـا
دواءً إن صبرتَ له سيُجدِي فإنَّ لحِكَّةِ الناسور عـنـدي
إن انت سَنَنْتَهُ سنَّ المقَـدِّي يُميت الدُّودَ عنكَ وتشتـهـيه
وشيءٍ من جنَى لَصَفٍ ورَنْدِ به، وطليتَه بأصولِ دِفْـلَـى
أهانَ اللهُ من ناجَاهُ بَـعْـدِي أَظُنِّي ميِّتاً مِنْ نَـتْـن فـيهِ
ومما قالوا في النَّتْن، وفي ريح جُحْرِ الظَّرِبان خاصَّة، قول الحكم بن عَبْدَل:
ولحَصْدُ أنفِكَ بالمنَاجِل أَهْـوَنُ ألقيتَ نفسَكَ في عَرُوضِ مَشَقَّةٍ
جَمٌّ وفُلفُلنا هُـنـاك الـدِّنْـدِنُ أنت امرؤٌ في أرضِ أمِّكَ فُلفلٌ
بالبِرِّ واللَّطَفَ الذي لا يُخْـزَنُ فبحقِّ أمّك وهي منك حقـيقةٌ
حتَّى يُداوِيَ ما بأنْفِكَ أَهْـرَنُ لا تُدْنِ فاكَ من الأَميرِ ونحِّـه
فلَجُحْر أَنفك يا محمَّدُ أنـتَـنُ إن كان للظّرِبانِ جُحْرٌ مُنـتِـنٌ
وقال الربيع بن أبي الحقَيق - وذكر الظّرِبان - حينَ رمى قوماً بأنّهم يَفسُون في مجالسهم، لأنّ الظَّرِبان أنتنُ خلْقِ اللّه تعالى فَسْوةً، وقد عَرَف الظّرِبانُ ذلك فجعَلَه من أشَدِّ سِلاَحِهِ، كما عرَفَتِ الحُبارَي مَا في سُلاَحِها من الآلة، إذا قرب الصقر منها، والظّربانُ يدخل على الضبِّ جُحرَه وفيه حُسوله أو بيضُه، فيأتِي أضيقَ موضعِ في الجُحر فيسدُّه بيديه، ويحوِّل استَه فلا يفسو ثلاثَ فَسَوَاتٍ حتى يُدَارَ بالضبِّ فيخِرَّ سكرانَ مفشِيّاً عليه، فيأكله، ثم يقيم في جُحره حتَّى يأتِيَ على آخِر حُسوله.
وتقول العرب: إنّه ربَّمَا دخَل في خِلال الهَجْمة فيفسو، فلا تتِمُّ له ثلاثُ فَسَواتٍ حتى تتفرَّق الإبل عن المبْرَك، تتركه وفيه قِرْدان فلا يردُّها الراعي، إلاّ بالجَهْدِ الشديد.
فقال الربيع، وهجاهم أيضاً بريح التُّيوس:
إذَا مَا تَنَادَوْا لأمـرٍ شـديدِ قَلِيلٌ غَنَاؤُهُمُ فِي الـهِـياجِ
تهرُّ هريرَ العَقور الرَّصُودِ وأنتمْ كِلاَبٌ لَـدَى دُورِكـم
وما إنْ لنا فيكمُ مـن نَـدِيدِ وأنتم ظَرَابيُّ إذ تجلـسـونَ
بريح التُّيوسِ وقُبْح الخدودِ وأنتم تيوسٌ وقد تُعْـرَفـونَ
قال: ويقال: أفسى من الظّرِبان ويسمّى مفرِّقَ النَّعَمِ، يريدون من نتْن ريحِ فُسَائه، ويقال في المثل - إذا وقعَ بين الرجُلين شرٌّ فتباينَا وتقاطَعَا -: فسَا بَيْنَهُمَا ظَرِبَان، ويقال: أنتَن مِنْ ظربان لأنَّ الضبّ إنَّما يخدع في جُحْره ويُوغِل في سِرْبه لشدَّة طلب الظّرِبان له، وقال الفرزدق في ذلك:
ظَرَابِيُّ من حِمَّانَ عنِّي تثيرهـا ولو كنتُ في نارِ الجحيم لأصبَحَتْ
وكان أبو عُبيدة يُسمِّي الحِمَّانيَّ صاحِبَ الأصَمِّ: الظَّرِبان، يريد هذا المعنى، كما يسمى كل حِمَّانِيٍّ ظَرِبَاناً.
وقال ابن عَبدََلٍ:
حتَّى يداوِيَ ما بأنْفِك أهْرَنُ لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونحِّه
فلَجُحر أنفِك يا محمد أنتن إن كانَ للظَّرِبان جُحرٌ مُنتِنٌ
في شعره الذي يقول:
من كلِّ مَن يُكْفِي القصيدَ ويَلْحَنُ ليتَ الأميرَ أطاعَنِي فشـفـيتُـه
باتَتْ مناخِرُهُ بدُهْـنٍ تُـعْـرَنُ متكَوِّرٌ يَحْثُو الكـلام كـأنَّـمـا
زَمناً فأضربُ مَن ْ أشَاءُ وأسجُنُ وبنَي لهم سِجناً فكنتُ أمـيرَهـم
إن كنتَ من حبِّ التقرُّب تجبُنُ قل لابنِ آكِلة العِفَاصِ محـمَّـدٍ
ولَحَصْدُ أنفِك بالمناجِـلِ أهْـوَنُ ألقيْتَ نفسَك في عَروضِ مَشَقَّةٍ
جَمٌّ وفلفلنا هـنـاك الـدِّنْـدِن أنتَ امرؤٌ في أرضِ أمِّك فلفـلٌ
بالبرِّ واللَّطَفِ الـذي لا يُخْـزَنُ فبحقِّ أمِّكَ وهي منك حـقـيقَةٌ
حتَّى يُداوِيَ ما بأنفِـك أهْـرَنُ لا تُدْنِ فاكَ من الأميرِ ونـحِّـهِ
فلَجُحْر أنفِك يا محمَّـدُ أنـتَـنُ إنْ كانَ للظَّرِبانِ جُحْرٌ منـتـنٌ
وبَنُو أبِيهِ للفَصـاحة مَـعْـدِنُ فسَـلِ الأمـيرَ غـيرُ مـوفَّـقٍ
بسَليقةِ العُرْب التي لا تـحـزُن وسَلِ ابنَ ذَكْوانٍ تَجِدْهُ عـالِـمـاً
فتجيدُ ما عمِلت يَداك وتحسِـنُ إذْ أنتَ تجعَلُ كلَّ يومٍ عـفـصةً
أنْ قد خُتِنْتَ وأنَّها لا تُـخْـتَـنُ أشبهتَ أمَّكَ غـيرَ بـابٍ واحـدٍ
وفُتِنت فيها، وابـنُ آدَمَ يُفـتَـنُ فلَئِن أصبتَ دراهماً فدفنـتَـهـا
إذْ ذاك تَقْصِف في القِيان وتزْفِنُ فبما أراك وأنتَ غيرُ مُـدَرْهِـمٍ
بَيْضَاءُ مُغْرِبَةٌ عليها السَّـوْسَـنُ إذ رأسُ مَالِكَ لُعْـبَةً بـصـريَّة
وقال ابن عبدل أيضاً:
كرِيح الجَعْر فوق َ عَطِينِ جِلْدِ نَجَوت محمـداً ودخـانُ فـيه
كريمٍ يطلبُ المعروفَ عِنـدي ركبتُ إليه في رَجُلٍ أتـانـي
وذلكَ بعدَ تقريظي وحَـمْـدي فقلتُ له ولم أعجَـل عـلـيه،
أكَلِّمُ صَخْرَةً في رأْس صمْـدِ فأعْرَضَ مُكْمَحاً عنِّي كـأنِّـي
فما يزْداد منِّي غـيرَ بُـعْـدِ أقرِّبُ كـل آصِـرَةٍ لـيدنـو
أبا بَخَرٍ لـتـتَّـخِـمَـنَّ رَدِّي فأقسِمُ غيرَ مستـثـنٍ يمـينـاً
لخفتَ ملامَتي ورجوتَ حَمدي فلو كنتَ المهذّبَ مـن تـمـيم
كريح الكلبِ ماتَ قريبَ عَهْدِ نَجَوتُ محمداً فوجـدتُ ريحـاً
سيبلغ إنْ سلِمْنا أهـلَ نَـجْـدِ وقد ألْذَعتَنِي ثعـبـانَ نَـتْـنٍ
قَرَنْتُ دونوَّه منـي بـبُـعْـدِ وأدنَى خَطْمَـه فـودِدتُ أنِّـي
بخِلْعَتها ولم تَرجِـع بـزَنْـدِ كما افَتَدَتِ المعاذةُ مـن جَـواهُ
وكانتْ عنـدَه كـأسـيرِ قِـدِّ وفارقَها جواه فاسـتـراحَـتْ
قتلتُ بذاك نفسي غيرَ عَـمْـدِ وقد أدنيتُ فـاه إلـيَّ حـتَّـى
ولو طُليت مَشافِرُه بـقَـنْـد وما يدنُـو إلـى فـيه ذُبـابٌ
زعافاً إنْ همَمْنَ لـه بِـوردِ يَذُقن حلاوةً ويَخفْـن مـوتـاً
بمثل غَثِيثَةِ الدَّبِـر الـمُـغِـدِّ فلما فاحَ فُوه علـيّ فَـوْحـاً
فما هذا بـريحِ قُـتَـارِ رَنْـدِ فقلت له: تنحَّ بفـيك عـنِّـي
يفوحُ خِرَاكَ منه غير سَـرْدِ وما هذا بريح طِـلاً ولـكـنْ
لبابِ الحقِّ من كذِب وجَحْـدِ فحدِّثْنِي فإنَّ الـصِّـدقَ أدنـى
فأعلم أمْ أتـاكَ بـه مُـغَـدِّي أباتَ يجولُ في عَفَجٍ طحـور
شتيمٍ أعـصـلِ الأنـياب وَرْدِ نكِهتَ عليَّ نـكـهةَ أخـدَريٍّ
فإِنِّي كالذي أهـديتَ أهـدي فإن أهديتَ لي من فيكَ حتْفـي
تكونُ فنونُها من كـل فِـنـدِ لكم شُرُداً يَسرِن مـغـنِّـياتٍ
رَوَاها النَّاسُ من شِيبٍ ومُـرْدِ أما تخزَى خَزِيت لهـا إذا مـا
جَوًى إنِّي إذن لَسـعـيد جـدِّ لأَرجُو إن نجوت ولم يُصبْنـي
فقال أصابني من جَوفِ مَهْدِي وقلتُ له: متى استطْرفْتَ هذا
فتعذر فيه آمـالا بـجَـهْـدِ فقلت لـه: أمـا دَاويتَ هـذا
فتسديَه لنا فيمـا سـتُـسْـدي فقال: أمَا علمـت لـه رِقَـاءً
له فيمـا أسـرُّ لـه وأُبـدي فقلـت لـه: ولا آلـوه عـيا
ومثليْ ذاك من نونٍ كَنَعْـدِ عليكَ بقيئةٍ وبجَعْـرِ كَـلْـبٍ
وعُودَي حَرْمَلٍ ودِماغِ فَهْـدِ وحِلـتـيتٍ وكُـرَّاثٍ وثُـومٍ
ووزنِ شَعيرةِ من بَزْر فَقْـدِ وحَنْجَرَةِ ابنِ آوى وابنِ عِرسٍ
ومثقالين من صـوّان رَقْـدِ وكَفِّ ذُرُحْرُحٍ ولسانِ صَقر
ببولٍ آجِن وبجَـعْـرِ قِـرد يُدَقُّ ويُعجَن المنخول مـنـه
وترقبه فـلا يَبـدُو لـبَـرْدِ وتدفِنُه زماناً فـي شـعـيرٍ
ولا يعجن بأظـفـار ونَـدِّ فدخِّن فاكَ ما عتَّقت مـنـه
أراك اللّهُ غَيَّكَ أمرَ رشـدِ فإنْ حضَرَ الشتاءُ وأنتَ حيٌّ،
متَى رُمْتَ التكلُّـم أيّ زَرْدِ فدَحْرِجْها بنادِقَ وازدرِدْهـا
ببلعومٍ وشِدْقٍ مُـسْـمَـعِـدِّ فتقذف بالمِصَلِّ على مِصَـلٍّ
كأنّ دوِيَّهُ إرزام رَعـــد وويْلَك ما لِبَطْنِك مذْ قعَـدْنـا
دواءً إن صبرتَ له سيُجدِي فإنَّ لحِكَّةِ الناسور عـنـدي
إن انت سَنَنْتَهُ سنَّ المقَـدِّي يُميت الدُّودَ عنكَ وتشتـهـيه
وشيءٍ من جنَى لَصَفٍ ورَنْدِ به، وطليتَه بأصولِ دِفْـلَـى
أهانَ اللهُ من ناجَاهُ بَـعْـدِي أَظُنِّي ميِّتاً مِنْ نَـتْـن فـيهِ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
أشعار العرب في هجاء الكلب
وقال صاحب الديك: سنذكُر أشعار العرب في هجاء الكلب مجرّداً على وجهه، ثمَّ نذكُر ما ذمُّوا من خلالهِ وأصنافِ أعماله، وأموراً من صفاته، ونبدأ بذكرِ هجائه في الجملة، قال بشَّار بن بُرْد:
وللكَلْبُ خَيْرٌ من سُويدٍ وتَولبِ عددتَ سويداً إذ فخرتَ وتَوْلَباً
وقال بشَّارٌ أو غَيره:
وأنتَ شريكُ الكلب في كلِّ مَطْعَـمِ أتَذْكُرُ إذ تَرْعَى على الحيِّ شـاءَهُـمْ
وقد عاثَ فيه بـالـيدَين وبـالـفـمِ وتلحَسُ ما في القَعْبِ من فَضْلِ سُؤْرِهِ
وقال ابن الذئبة:
ويترك المالَ لِعَامِ جِـدْبِـه من يجمع المال ولا يَتُبْ به
يهُنْ عَلَى النَّاسِ هَوانَ كلبِهِ
وقال آخر:
كُلومـي كـأنْ كـلـبـاً يُهـارِش أكْـلُـبـا إنَّ شَـرِيبـي لاَ يغـبُّ بــوجـــهـــه
ولا أتـوقَّـاه وإن كـان مُـجْـــرِبـــا ولا أَقْـسِـمُ الأعـطـان بـينـي وبـينَــه
هجا الأحوص ابناً له فشبَّهه بجرْوِ كَلْبٍ فقال:
ثل جُـرَيِّ الـكـلـب لـم يُفَـــقّـــحْ قبِحْ به من ولدٍ وأَشْقِحْ
بالبـابِ عـنـد حـاجةِ الـمـسـتـفـتِـحْ إن يَرَ سُـوءًا مَـا يَقُـمْ فــينـــبِـــحْ
وقال أبو حُزَابة:
أنتَ لغَيْرِ طَلْحَةَ الْفِـدَاءُ يا ابنَ عليٍّ بَرِح الخَفـاءُ
أنَّك أنت النَّاقصُ اللَّفَـاءُ قد علمَ الأشرافُ والأكفاءُ
يغُمُّه المِئزَرُ والـرِّدَاءُ حَبلَّقَ جَدَّعـه الـرِّعـاء
كَأَنَّهـم زِينِـيَّةٌ جِـراءُ بنو عليٍّ كلُّـهـمْ سـواءُ
وقال عبد بني الحسحاس، وذكر قبح وجهه فقال:
بوجهٍ بَرَاهُ اللّهُ غيرِ جميلِ أتيتُ نِساءَ الحارثيِّينَ غُدْوةً
ولا دونَه إن كان غيرَ قليل فشبَّهنَني كلباً ولسْتُ بفَوقِه
وقال أبو ذباب السعدي في هوان الكلب:
لياليَ فرَّ من أرْضِ الضَّبابِ لكِسْرَى كانَ أعقَلَ من تمـيمٍ
وأَشجارٍ وأنـهـارٍ عِـذَابِ وأسكنَ أهلَه بـبـلاد رِيفٍ
وصرنا نحنُ أمثالَ الكِـلاَبِ فصار بنُو بَنيه لها مُلـوكـاً
فقد أزْرَى بنا في كلّ بـابِ فلا رَحمَ الإلهُ صدَى تـمـيم
وأراد اللعين هجاء جرير - وجرير من بني كليب - فاشتق هجاءه من نسبه فقال:
وبين القَينِ قَينِ بني عِقـال سأقْضِي بين كلبِ بني كُليبٍ
وإنَّ القينَ يَعمَل في سَفالِ فإنَّ الكلبَ مَطعَمُه خبـيثٌ
كِلاَ العَبدين قد علمتْ مَعَدٌّلئيمُ الأصلِ من عمٍّ وخالِ
ولـكـنْ خِـفـتُـمـا صَـرَدَ الـنـــبـــال فما بُقيَا عليَّ تركتُماني
وقال رجلٌ من همْدان، يقال له الضَّحَّاك بن سعد، يهجو مَرْوان بن محمد بن مروان بن الحكم، واشتقَّ له اسماً من الكلب فجعلَه كلباً فقال:
عادَ الظلوم ظليماً همُّهُ الهـربُ لجَّ الفِرَارُ بمرْوانٍ فقـلـتُ لـه
منك الهُوَينَى فـلا دينٌ ولا أدبُ أين الفِرارُ وتركُ الملْك إن قبلت
يُطلَب نَدَاهُ فكلبٌ دونَه كَـلِـبُ فَرَاشَةُ الحلم فِرعون العذابِ، وإن
وقال آخر وجعل الكلبَ مثلاً في اللُّؤم:
على رجلٍ بالعَرْجِ أَلأَمَ مِنْ كلْـبِ سَرَتْ ما سَرَت من ليلِها ثمّ عرّسَتْ
وكذلك قول الأسود بن المنذر، فإنّه قال:
تحُفُّون قُبَّتَه بالقِـبـابِ فإنّ امرأً أنتُـمُ حـولَـه
ويقتُلكم مثلَ قتْل الكلابِ يُهينُ سرَاتَكُم جـاهـداً
وقال سحيمة بن نعيم:
لها عندَ أطْنَاب البُيوتِ هَرِيرُ ألستَ كليبيّاً لكَلْـبٍ وكـلـبةٍ
وقال النَّجْرانيُّ في ذلك:
تهّرُّ في وجهي هَرِير الكَلـبةِ مِن منْزِلي قد أخرجَتْنِي زوجتي
قلت لها لمّا أراقتْ جَـرتـي زُوِّجتُها فقيرةً من حِـرْفَـتـي
وأَبشرِي منك بقُرب الضَّـرَّة أُمَّ هِلالٍ أبْشِرِي بالـحـسـرةِ
وقال صاحب الديك: سنذكُر أشعار العرب في هجاء الكلب مجرّداً على وجهه، ثمَّ نذكُر ما ذمُّوا من خلالهِ وأصنافِ أعماله، وأموراً من صفاته، ونبدأ بذكرِ هجائه في الجملة، قال بشَّار بن بُرْد:
وللكَلْبُ خَيْرٌ من سُويدٍ وتَولبِ عددتَ سويداً إذ فخرتَ وتَوْلَباً
وقال بشَّارٌ أو غَيره:
وأنتَ شريكُ الكلب في كلِّ مَطْعَـمِ أتَذْكُرُ إذ تَرْعَى على الحيِّ شـاءَهُـمْ
وقد عاثَ فيه بـالـيدَين وبـالـفـمِ وتلحَسُ ما في القَعْبِ من فَضْلِ سُؤْرِهِ
وقال ابن الذئبة:
ويترك المالَ لِعَامِ جِـدْبِـه من يجمع المال ولا يَتُبْ به
يهُنْ عَلَى النَّاسِ هَوانَ كلبِهِ
وقال آخر:
كُلومـي كـأنْ كـلـبـاً يُهـارِش أكْـلُـبـا إنَّ شَـرِيبـي لاَ يغـبُّ بــوجـــهـــه
ولا أتـوقَّـاه وإن كـان مُـجْـــرِبـــا ولا أَقْـسِـمُ الأعـطـان بـينـي وبـينَــه
هجا الأحوص ابناً له فشبَّهه بجرْوِ كَلْبٍ فقال:
ثل جُـرَيِّ الـكـلـب لـم يُفَـــقّـــحْ قبِحْ به من ولدٍ وأَشْقِحْ
بالبـابِ عـنـد حـاجةِ الـمـسـتـفـتِـحْ إن يَرَ سُـوءًا مَـا يَقُـمْ فــينـــبِـــحْ
وقال أبو حُزَابة:
أنتَ لغَيْرِ طَلْحَةَ الْفِـدَاءُ يا ابنَ عليٍّ بَرِح الخَفـاءُ
أنَّك أنت النَّاقصُ اللَّفَـاءُ قد علمَ الأشرافُ والأكفاءُ
يغُمُّه المِئزَرُ والـرِّدَاءُ حَبلَّقَ جَدَّعـه الـرِّعـاء
كَأَنَّهـم زِينِـيَّةٌ جِـراءُ بنو عليٍّ كلُّـهـمْ سـواءُ
وقال عبد بني الحسحاس، وذكر قبح وجهه فقال:
بوجهٍ بَرَاهُ اللّهُ غيرِ جميلِ أتيتُ نِساءَ الحارثيِّينَ غُدْوةً
ولا دونَه إن كان غيرَ قليل فشبَّهنَني كلباً ولسْتُ بفَوقِه
وقال أبو ذباب السعدي في هوان الكلب:
لياليَ فرَّ من أرْضِ الضَّبابِ لكِسْرَى كانَ أعقَلَ من تمـيمٍ
وأَشجارٍ وأنـهـارٍ عِـذَابِ وأسكنَ أهلَه بـبـلاد رِيفٍ
وصرنا نحنُ أمثالَ الكِـلاَبِ فصار بنُو بَنيه لها مُلـوكـاً
فقد أزْرَى بنا في كلّ بـابِ فلا رَحمَ الإلهُ صدَى تـمـيم
وأراد اللعين هجاء جرير - وجرير من بني كليب - فاشتق هجاءه من نسبه فقال:
وبين القَينِ قَينِ بني عِقـال سأقْضِي بين كلبِ بني كُليبٍ
وإنَّ القينَ يَعمَل في سَفالِ فإنَّ الكلبَ مَطعَمُه خبـيثٌ
كِلاَ العَبدين قد علمتْ مَعَدٌّلئيمُ الأصلِ من عمٍّ وخالِ
ولـكـنْ خِـفـتُـمـا صَـرَدَ الـنـــبـــال فما بُقيَا عليَّ تركتُماني
وقال رجلٌ من همْدان، يقال له الضَّحَّاك بن سعد، يهجو مَرْوان بن محمد بن مروان بن الحكم، واشتقَّ له اسماً من الكلب فجعلَه كلباً فقال:
عادَ الظلوم ظليماً همُّهُ الهـربُ لجَّ الفِرَارُ بمرْوانٍ فقـلـتُ لـه
منك الهُوَينَى فـلا دينٌ ولا أدبُ أين الفِرارُ وتركُ الملْك إن قبلت
يُطلَب نَدَاهُ فكلبٌ دونَه كَـلِـبُ فَرَاشَةُ الحلم فِرعون العذابِ، وإن
وقال آخر وجعل الكلبَ مثلاً في اللُّؤم:
على رجلٍ بالعَرْجِ أَلأَمَ مِنْ كلْـبِ سَرَتْ ما سَرَت من ليلِها ثمّ عرّسَتْ
وكذلك قول الأسود بن المنذر، فإنّه قال:
تحُفُّون قُبَّتَه بالقِـبـابِ فإنّ امرأً أنتُـمُ حـولَـه
ويقتُلكم مثلَ قتْل الكلابِ يُهينُ سرَاتَكُم جـاهـداً
وقال سحيمة بن نعيم:
لها عندَ أطْنَاب البُيوتِ هَرِيرُ ألستَ كليبيّاً لكَلْـبٍ وكـلـبةٍ
وقال النَّجْرانيُّ في ذلك:
تهّرُّ في وجهي هَرِير الكَلـبةِ مِن منْزِلي قد أخرجَتْنِي زوجتي
قلت لها لمّا أراقتْ جَـرتـي زُوِّجتُها فقيرةً من حِـرْفَـتـي
وأَبشرِي منك بقُرب الضَّـرَّة أُمَّ هِلالٍ أبْشِرِي بالـحـسـرةِ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
الفلحس والأرشم
ويقال للكلب فلحَس وهو من صفات الحِرْص والإلحاح، ويقال: فلان أسأَلُ مِنْ فَلْحَس، وفَلْحَسٌ: رجلٌ من بني شيبان كان حريصاً رغيباً، ومُلحِفاً مُلِحّاً، وكلُّ طُفَيليٍّ فهو عندهم فَلْحَسٌ.
والأرشَم: الكلب والذئب، وقد اشتقَّ منه للإنسان إذا كان يتشمَّم الطعام ويتْبع مواضعه، قال جريرٌ في بعضهم:
فجاءَتْ بيَتْنٍ للضِّيافةِ أرشَما لَقًى حَملتْهُ أمُّه وهي ضَيفة
وقال جريرٌ في استِرواح الطعام:
ثُطُّ اللِّحَى مُتشابِهُو الألـوانِ وبنو الهُجَيم سَخيفةٌ أحلامُهـم
بعُمَانَ أضحى جمْعُهم بعُمانِ لو يَسمَعون بأكلةٍ أو شَـرْبةٍ
صُعرَ الخدودِ لريحِ كلِّ دُخانِ متأبِّطين بنيهمُ وبـنـاتِـهـمْ
وقال سَهمُ بن حنْظَلَة الغَنَويُّ في ذلك:
ب لا يُحسِنُ الكلبُ إلاَّ هريرَا وأمّا كلابٌ فمـثـلُ الـكِـلا
ل أشبَهْنَ آباءهُنَّ الحَـمـيرا وأمَّا نُميرٌ فمـثـلُ الـبِـغـا
تبيع كِباءً وعِطْـراً كـثـيرا وأمّـا هِـلالٌ فـعَـطَّـارَةُ
بين جرير والراعي
ومرَّ جريرٌ يوماً بالمِرْبَد، فوقف عليه الراعي وابنه جنْدَل، فقال له ابنه جندل: إنَّه قد طال وقوفُك على هذا الكلب الكُلَيبيّ، فإلى متى ? وضرب بغلَته، فمضى الراعي وابنه جندل، فقال جرير: واللّه لأُثْقِلنَّ رواحلك فلما أمسى أخذَ في هجائه، فلم يأته ما يريد، فلما كان معَ الصبح انفتَح له القولُ فقال:
فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابـا فغضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُميرٍ
على خَبَثِ الحديدِ إذاً لذَابـا ولو جُعِلت فِقاحُ بني نُمـيرٍ
ثم وقف في موقفه، فلمَّا مرَّ به جندلٌ قبض على عِنان فرسِه، فأنشده قوله، حتى إذا بلغ إلى هذا البيت:
إذا ما الأَيرُ في استِ أبيك غابا أَجندلُ ما تقول بـنـو نـمـيرٍ
قال: فأدبَرَ وهو يقول: يقولون واللّه شرّاً.
وقال الشاعر - وضرب بالكلب المثلَ في قُبْح الوجه -:
فذكرتُ حين تبرقعت ضَبَّارا سَفَرتْ فقلتُ لها هَجٍ فَتبرقَعَتْ
وضَبَّار: اسم كلب له.
أمثال في الكلاب وقال كعب الأحبارِ لرجل وأراد سفراً: إنّ لكلِّ رُفقةٍ كلباً، فلا تكنْ كلبَ أصحابِك. وتقول العرب: أحبُّ أهلي إليّ كلبهم الظاعن، ومن الأمثال وقَع الكلبُ على الذِّئب ليأخذَ منه مثل ما أخَذ، ومن أمثالهم: الكلابَ على البَقَر، ومن أمثالهم في الشؤم قولهم: على أهْلِها دلَّتْ بَرَاقِشُ، وبراقش: كلبةُ قومٍ نبحَت على جيشٍ مرُّوا ليلاً وهمْ لا يشعُرون بالحيِّ، فاستباحوهم واستدلُّوا على مواضعهم بنباحها.
قال الشاعر:
نُباتة عضَّهُ كلبٌ فماتا ألم تَرَ أنَّ سيِّد آلِ ثورٍ
ويقال للكلب فلحَس وهو من صفات الحِرْص والإلحاح، ويقال: فلان أسأَلُ مِنْ فَلْحَس، وفَلْحَسٌ: رجلٌ من بني شيبان كان حريصاً رغيباً، ومُلحِفاً مُلِحّاً، وكلُّ طُفَيليٍّ فهو عندهم فَلْحَسٌ.
والأرشَم: الكلب والذئب، وقد اشتقَّ منه للإنسان إذا كان يتشمَّم الطعام ويتْبع مواضعه، قال جريرٌ في بعضهم:
فجاءَتْ بيَتْنٍ للضِّيافةِ أرشَما لَقًى حَملتْهُ أمُّه وهي ضَيفة
وقال جريرٌ في استِرواح الطعام:
ثُطُّ اللِّحَى مُتشابِهُو الألـوانِ وبنو الهُجَيم سَخيفةٌ أحلامُهـم
بعُمَانَ أضحى جمْعُهم بعُمانِ لو يَسمَعون بأكلةٍ أو شَـرْبةٍ
صُعرَ الخدودِ لريحِ كلِّ دُخانِ متأبِّطين بنيهمُ وبـنـاتِـهـمْ
وقال سَهمُ بن حنْظَلَة الغَنَويُّ في ذلك:
ب لا يُحسِنُ الكلبُ إلاَّ هريرَا وأمّا كلابٌ فمـثـلُ الـكِـلا
ل أشبَهْنَ آباءهُنَّ الحَـمـيرا وأمَّا نُميرٌ فمـثـلُ الـبِـغـا
تبيع كِباءً وعِطْـراً كـثـيرا وأمّـا هِـلالٌ فـعَـطَّـارَةُ
بين جرير والراعي
ومرَّ جريرٌ يوماً بالمِرْبَد، فوقف عليه الراعي وابنه جنْدَل، فقال له ابنه جندل: إنَّه قد طال وقوفُك على هذا الكلب الكُلَيبيّ، فإلى متى ? وضرب بغلَته، فمضى الراعي وابنه جندل، فقال جرير: واللّه لأُثْقِلنَّ رواحلك فلما أمسى أخذَ في هجائه، فلم يأته ما يريد، فلما كان معَ الصبح انفتَح له القولُ فقال:
فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابـا فغضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُميرٍ
على خَبَثِ الحديدِ إذاً لذَابـا ولو جُعِلت فِقاحُ بني نُمـيرٍ
ثم وقف في موقفه، فلمَّا مرَّ به جندلٌ قبض على عِنان فرسِه، فأنشده قوله، حتى إذا بلغ إلى هذا البيت:
إذا ما الأَيرُ في استِ أبيك غابا أَجندلُ ما تقول بـنـو نـمـيرٍ
قال: فأدبَرَ وهو يقول: يقولون واللّه شرّاً.
وقال الشاعر - وضرب بالكلب المثلَ في قُبْح الوجه -:
فذكرتُ حين تبرقعت ضَبَّارا سَفَرتْ فقلتُ لها هَجٍ فَتبرقَعَتْ
وضَبَّار: اسم كلب له.
أمثال في الكلاب وقال كعب الأحبارِ لرجل وأراد سفراً: إنّ لكلِّ رُفقةٍ كلباً، فلا تكنْ كلبَ أصحابِك. وتقول العرب: أحبُّ أهلي إليّ كلبهم الظاعن، ومن الأمثال وقَع الكلبُ على الذِّئب ليأخذَ منه مثل ما أخَذ، ومن أمثالهم: الكلابَ على البَقَر، ومن أمثالهم في الشؤم قولهم: على أهْلِها دلَّتْ بَرَاقِشُ، وبراقش: كلبةُ قومٍ نبحَت على جيشٍ مرُّوا ليلاً وهمْ لا يشعُرون بالحيِّ، فاستباحوهم واستدلُّوا على مواضعهم بنباحها.
قال الشاعر:
نُباتة عضَّهُ كلبٌ فماتا ألم تَرَ أنَّ سيِّد آلِ ثورٍ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
قتيل الكبش وقتيل العنز
وقال صاحب الكلب: قد يموت الناسُ بكلِّ شيء، وقد قال عبد الملك بن مروان: ألا تتعجبون من الضحَّاك بن قيس يطلب الخلافة ونطح أباه كبش فوُجِد ليس به حَبَضٌ ولا نَبَض، وقال عَرفجة بن شريك يهجو أسلَم بن زُرْعة - ووطئتْ أباه عنْزٌ بالمِربد فمات - فقال:
مكانَ قتيل العنز أنْ أتكلَّـمـا ولم أستطع إذْ بانَ منِّيَ معشَري
بزُرعةَ تيساً في الزَّرِيبةِأزنمـا فيما ابنَ قتيلِ العنْز هل أنت ثائرٌ
وقال أبو الهول يهجو جعفر بن يحيى:
في طلَبِ العُرْف إلى الكلْبِ أصبحتُ محتاجاً إلى الضَّرْبِ
فصار لا ينحاش للـسَّـبِّ قد وقَّح السَّبُّ لـه وجـهَـه
قال لهُ مالي ولـلـصـبِّ إذا شَكَا صبٌّ إليه الـهـوَى
يشِبُّْ مَعَهُ خَشَبُ الصُّلْـبِ أعْنِي فتًى يُطعَن فـي دينـهِ
قال: وقلتُ لأبي عبيدة: أليس بُقْعُ الكلاب أمثلَها? قال: لا، قلت: ولم قال:
كخَوْفِ الذِّئبِ من بُقْعِ الكِلابِ? وخِفْتُ هجاءهم لما تَـوَاصَـوْا
قال: ليس هكذا قال، إنما قال:
خَوْفِ الذِّئب من سُودِ الكِلابِ
ألا ترى أنّه حين أراد الهجاء قال:
تَخُوضُ غُمورَه بُقْعُ الكِلابِ كأنَّك بالمبارَكِ بعدَ شـهـرٍ
ويدل على ذلك قول الجَدَليِّ:
أسافلـه مـيث وأعـلاه أجـزع لعمري لجو مـن جـواء سـويقة
ويصبحَ منَّا وهو مرأًى ومسمـعُ أحبُّ إلينـا أن نـجـاوِرَ أهـلَـه
على رأسه داعي المنيَّةِ يلـمَـعُ مِن الجَوْسَقِ الملعونِ بالرَّيِّ لا يني
صَبَرتُ ولكنْ لا أرى الصَّبرَ ينفعُ يقولون لي صبراً فقلتُ: لَطَالَمَـا
وكان لي الصَّمَّان والحزْنُ أجمعُ فليتَ عطائي كانَ قُسِّمَ بَـيْنَـهُـمْ
بي البازلُ الكَوماء بالرمل تَضْبَع وكان لهم أجْري هنيئاً وأصبحَـتْ
يموتُ به كلبٌ إذا مـاتَ أبـقَـعُ أأجَعلُ نفسي عِدْلَ علجٍ كـأنَّـمـا
قال: فقد بيَّن كما ترى أنَّ الأبقَعَ شرُّها، قال: وقلت: فلم قال الشاعر:
أمسى شَرِيدُهمُ في الأرض فُلاَّلاَ أرسلْتَ أُسداً على بُقْعِ الكلاب فقد
قال: فكيف يقول ذلك وهو يمدحهم? وإذَا صغّر شأنَ من هَزَموا فقد صغَّر شأنَ الممدوح، بل إنَّما قال: أرسلتَ أسداً على سود الكلاب.
قال: وإنَّما جاء الحديثُ في قتل سُود الكلاب، لأنَّ عُقُرَها أكثرُ ما تكون سوداً، وذلك من غلَبة أنفسها.
وليس في الأرض حيوانٌ من بقرةٍ وثورٍ وحِمارٍ وفرسٍ وكلبٍ وإنسان، إلاّ والسُّودُ أشدُّها أَسْراً وعَصَباً، وأظهرُها قُوَّةً وصبْراً.
وقال أبو سعد المخزومي في هجائه دِعبلاً:
دُوَلٌ وأحْرِ بها بأَنْ تـتـنَـقَّـلا يا ثَابِتَ بن أبي سـعـيدٍ إنَّـهـا
في است أمِّ كلبٍ لا يساوي دِعبِلا هلاّ جعلتَ لها كحُرْمَةِ دِعْـبِـلٍ
وقال ابن نوفل:
إلينا وكم من سوءةٍ لا تَهابُهـا وجئتَ على قَصْواءَ تنقلُ سَوءةً
وقد خَزِيت بعدَ الرِّجال كلابُها وتزعمُ أَنْ لم تخز سَلْمُ بنُ جنْدَلٍ
وقال الحسن بن هانئ يهجو جعفرَ بنَ يحيى:
قفا مالك يقضي الهموم على بثق قفاً خلف وجه قد أطـيل كـأنَّـه
وأَبخَلُ من كَلْبٍ عَقُورٍ على عَرْق وأعظم زهواً من ذباب على خِراً
وقال أبو الشَّمقمق:
غَلَبُوا الناسَ بالنَّدى والعطيَّهْ أهلُ جودٍ ونـائلٍ وفَـعـالٍ
وتلقَّى بِمرْحَبٍ وتـحـيَّهْ جئتُه زائراً فأدنَى مكانـي
مِ شبيهِ الكُلَيبة القَلَـطـيَّهْ لا كمِثْلِ الأصَمِّ حارثةِ اللؤ
مثلَ إعراض قحبةٍ سُوسِيَّهْ جئتُه زائراً فأعرضَ عنِّـي
غابَ في دُبْر بَغلةٍ مِصريَّهْ وتولَّى كـأنَّـه أير بـغـلٍ
وقال أيضاً:
ووجهِ الكلب والتَّيْسِ الضروطِ ألا قُولا لسرّان الـمـخـازِي
ودُبرٌ مثلُ رَاقود الـنَّـشـوط له بطنٌ يَضـلُّ الـفـيلُ فـيه
كدَوْرِ سفينةٍ في بَـثْـق رُوط وأَيْرٌ عـارمٌ لا خـيرَ فــيه
مُوَصَّلَةِ الجوانبِ بالـخُـيوطِ ولحيَةُ حائكٍ من باب قـلـب
مُرقَّعة جـوانُـبـه بِـقـوطِ له وجهٌ عليه الـفـقـرُ بـادٍ
تَرَى سَرَّانَ يَسْفَلُ فِي هَبُـوط إذَا نَهَضَ الْكِرَامُ إلَى المَعَالِـي
وقال أيضاً في ذلك: من البسيط
والطيرِ والوحش في يهماءَ دوَّيَّهْ يا رازقَ الكلبِ والخنزيرِ في سعةٍ
حتى تُقِرَّ بتلك الحـالِ عـينـيَّه لو شئتَ صيَّرتَه في حالِ فاقـتـه
وقال جرير بن عطية، يهجو الصَّلَتان العبديّ:
متى كان حكمُ اللّهِ في كَرَبِ النخلِ أقول لها والدَّمع يغسِل كُحـلَـهـا
فأجابه الصَّلَتَانُ فقال:
وودَّ أبوك الكلبُ لو كان ذا نَخْلِ تُعيِّرنا أن كانت النَّخْلُ مـالَـنـا
يعيِّره جريرُ بأَنَّه كان هو وأبوه من أصحاب النَّخْل.
وقال وضّاحُ اليمن:
حتى يكون له وجهٌ ومستمِـعُ وأكتم السِّرَّ غضباناً وفي سكري
حتى يكون لذاك النَّجْدِ مُطَّلَـعُ وأتْرُكُ القولَُ عن علمٍ ومَقْـدِرَةٍ
يبيتُ يأوي إليه الكلب والرُّبَـع لا قُوّتي قُوّة الراعي ركـائبَـه
حتَّى يَثُوبَ وباقي نعْلِه قطَـع ولا العَسيفِ الذي تشتدُّ عُقْبَتُـه
وقال محمد بن عباد الكاتب مولي بحيلة، وأبوه من سبى دابق وكاتب زهير، وصديق ثمامة، يهجو أبا سعد دعى بني مخزوم، وبعد أن لقي منه ما لقي:
تأهَلْتَه نفـياً وضَـرْبَـا فعلَتْ نزارُ بك الذي اس
جُوَهم مـكـايَدةً وإرْبـا فهجوتَ قحـطـانـا لأه
بهجائهم منهم فَـتَـرْبَـا وأردتَ كيما تشـتَـفـي
تَ، حَماكَ لؤمُك أن تُسَبَّا ووثقت أَنَّك مَـا سـبـب
س جوابه إلاَّ اخْسَ كَلْبا كالكلب إن ينبـح فـلـي
نَك لا تطفْ شرقاً وغربا خفِّض عليك وقَرْ مـكـا
آباءُ ليس تُنال غَصْـبـا واكشِفْ قِناعَ أبيك فـال
وقال آخر يصف كلباً:
بأرض العِدا من خَشية الحَدَثَانِ ولَذٍّ كطَعْم الصَّرْخَدِيِّ تركـتُـه
دعوتُ وقد طال السُّرى فدعاني ومُبْدٍ ليَ الشَّحناءَ بيني وبـينـه
فوصفه كما ترى أنَّه يبدي له البغضاء.
وقال آخر:
عَلَى رجُلٍ بالعَرْج ألأمَ من كلْـبِ سَرَتْ ما سَرَتْ من ليلها ثم عرَّست
وقال راشِد بن شهاب اليشكُريُّ:
بكَلْبٍ على لحم الجزورِ ولا بَرَمْ فلستُ إذا هبَّتْ شَمـالٌ عَـرِيَّةٌ
وقال صاحب الكلب: قد يموت الناسُ بكلِّ شيء، وقد قال عبد الملك بن مروان: ألا تتعجبون من الضحَّاك بن قيس يطلب الخلافة ونطح أباه كبش فوُجِد ليس به حَبَضٌ ولا نَبَض، وقال عَرفجة بن شريك يهجو أسلَم بن زُرْعة - ووطئتْ أباه عنْزٌ بالمِربد فمات - فقال:
مكانَ قتيل العنز أنْ أتكلَّـمـا ولم أستطع إذْ بانَ منِّيَ معشَري
بزُرعةَ تيساً في الزَّرِيبةِأزنمـا فيما ابنَ قتيلِ العنْز هل أنت ثائرٌ
وقال أبو الهول يهجو جعفر بن يحيى:
في طلَبِ العُرْف إلى الكلْبِ أصبحتُ محتاجاً إلى الضَّرْبِ
فصار لا ينحاش للـسَّـبِّ قد وقَّح السَّبُّ لـه وجـهَـه
قال لهُ مالي ولـلـصـبِّ إذا شَكَا صبٌّ إليه الـهـوَى
يشِبُّْ مَعَهُ خَشَبُ الصُّلْـبِ أعْنِي فتًى يُطعَن فـي دينـهِ
قال: وقلتُ لأبي عبيدة: أليس بُقْعُ الكلاب أمثلَها? قال: لا، قلت: ولم قال:
كخَوْفِ الذِّئبِ من بُقْعِ الكِلابِ? وخِفْتُ هجاءهم لما تَـوَاصَـوْا
قال: ليس هكذا قال، إنما قال:
خَوْفِ الذِّئب من سُودِ الكِلابِ
ألا ترى أنّه حين أراد الهجاء قال:
تَخُوضُ غُمورَه بُقْعُ الكِلابِ كأنَّك بالمبارَكِ بعدَ شـهـرٍ
ويدل على ذلك قول الجَدَليِّ:
أسافلـه مـيث وأعـلاه أجـزع لعمري لجو مـن جـواء سـويقة
ويصبحَ منَّا وهو مرأًى ومسمـعُ أحبُّ إلينـا أن نـجـاوِرَ أهـلَـه
على رأسه داعي المنيَّةِ يلـمَـعُ مِن الجَوْسَقِ الملعونِ بالرَّيِّ لا يني
صَبَرتُ ولكنْ لا أرى الصَّبرَ ينفعُ يقولون لي صبراً فقلتُ: لَطَالَمَـا
وكان لي الصَّمَّان والحزْنُ أجمعُ فليتَ عطائي كانَ قُسِّمَ بَـيْنَـهُـمْ
بي البازلُ الكَوماء بالرمل تَضْبَع وكان لهم أجْري هنيئاً وأصبحَـتْ
يموتُ به كلبٌ إذا مـاتَ أبـقَـعُ أأجَعلُ نفسي عِدْلَ علجٍ كـأنَّـمـا
قال: فقد بيَّن كما ترى أنَّ الأبقَعَ شرُّها، قال: وقلت: فلم قال الشاعر:
أمسى شَرِيدُهمُ في الأرض فُلاَّلاَ أرسلْتَ أُسداً على بُقْعِ الكلاب فقد
قال: فكيف يقول ذلك وهو يمدحهم? وإذَا صغّر شأنَ من هَزَموا فقد صغَّر شأنَ الممدوح، بل إنَّما قال: أرسلتَ أسداً على سود الكلاب.
قال: وإنَّما جاء الحديثُ في قتل سُود الكلاب، لأنَّ عُقُرَها أكثرُ ما تكون سوداً، وذلك من غلَبة أنفسها.
وليس في الأرض حيوانٌ من بقرةٍ وثورٍ وحِمارٍ وفرسٍ وكلبٍ وإنسان، إلاّ والسُّودُ أشدُّها أَسْراً وعَصَباً، وأظهرُها قُوَّةً وصبْراً.
وقال أبو سعد المخزومي في هجائه دِعبلاً:
دُوَلٌ وأحْرِ بها بأَنْ تـتـنَـقَّـلا يا ثَابِتَ بن أبي سـعـيدٍ إنَّـهـا
في است أمِّ كلبٍ لا يساوي دِعبِلا هلاّ جعلتَ لها كحُرْمَةِ دِعْـبِـلٍ
وقال ابن نوفل:
إلينا وكم من سوءةٍ لا تَهابُهـا وجئتَ على قَصْواءَ تنقلُ سَوءةً
وقد خَزِيت بعدَ الرِّجال كلابُها وتزعمُ أَنْ لم تخز سَلْمُ بنُ جنْدَلٍ
وقال الحسن بن هانئ يهجو جعفرَ بنَ يحيى:
قفا مالك يقضي الهموم على بثق قفاً خلف وجه قد أطـيل كـأنَّـه
وأَبخَلُ من كَلْبٍ عَقُورٍ على عَرْق وأعظم زهواً من ذباب على خِراً
وقال أبو الشَّمقمق:
غَلَبُوا الناسَ بالنَّدى والعطيَّهْ أهلُ جودٍ ونـائلٍ وفَـعـالٍ
وتلقَّى بِمرْحَبٍ وتـحـيَّهْ جئتُه زائراً فأدنَى مكانـي
مِ شبيهِ الكُلَيبة القَلَـطـيَّهْ لا كمِثْلِ الأصَمِّ حارثةِ اللؤ
مثلَ إعراض قحبةٍ سُوسِيَّهْ جئتُه زائراً فأعرضَ عنِّـي
غابَ في دُبْر بَغلةٍ مِصريَّهْ وتولَّى كـأنَّـه أير بـغـلٍ
وقال أيضاً:
ووجهِ الكلب والتَّيْسِ الضروطِ ألا قُولا لسرّان الـمـخـازِي
ودُبرٌ مثلُ رَاقود الـنَّـشـوط له بطنٌ يَضـلُّ الـفـيلُ فـيه
كدَوْرِ سفينةٍ في بَـثْـق رُوط وأَيْرٌ عـارمٌ لا خـيرَ فــيه
مُوَصَّلَةِ الجوانبِ بالـخُـيوطِ ولحيَةُ حائكٍ من باب قـلـب
مُرقَّعة جـوانُـبـه بِـقـوطِ له وجهٌ عليه الـفـقـرُ بـادٍ
تَرَى سَرَّانَ يَسْفَلُ فِي هَبُـوط إذَا نَهَضَ الْكِرَامُ إلَى المَعَالِـي
وقال أيضاً في ذلك: من البسيط
والطيرِ والوحش في يهماءَ دوَّيَّهْ يا رازقَ الكلبِ والخنزيرِ في سعةٍ
حتى تُقِرَّ بتلك الحـالِ عـينـيَّه لو شئتَ صيَّرتَه في حالِ فاقـتـه
وقال جرير بن عطية، يهجو الصَّلَتان العبديّ:
متى كان حكمُ اللّهِ في كَرَبِ النخلِ أقول لها والدَّمع يغسِل كُحـلَـهـا
فأجابه الصَّلَتَانُ فقال:
وودَّ أبوك الكلبُ لو كان ذا نَخْلِ تُعيِّرنا أن كانت النَّخْلُ مـالَـنـا
يعيِّره جريرُ بأَنَّه كان هو وأبوه من أصحاب النَّخْل.
وقال وضّاحُ اليمن:
حتى يكون له وجهٌ ومستمِـعُ وأكتم السِّرَّ غضباناً وفي سكري
حتى يكون لذاك النَّجْدِ مُطَّلَـعُ وأتْرُكُ القولَُ عن علمٍ ومَقْـدِرَةٍ
يبيتُ يأوي إليه الكلب والرُّبَـع لا قُوّتي قُوّة الراعي ركـائبَـه
حتَّى يَثُوبَ وباقي نعْلِه قطَـع ولا العَسيفِ الذي تشتدُّ عُقْبَتُـه
وقال محمد بن عباد الكاتب مولي بحيلة، وأبوه من سبى دابق وكاتب زهير، وصديق ثمامة، يهجو أبا سعد دعى بني مخزوم، وبعد أن لقي منه ما لقي:
تأهَلْتَه نفـياً وضَـرْبَـا فعلَتْ نزارُ بك الذي اس
جُوَهم مـكـايَدةً وإرْبـا فهجوتَ قحـطـانـا لأه
بهجائهم منهم فَـتَـرْبَـا وأردتَ كيما تشـتَـفـي
تَ، حَماكَ لؤمُك أن تُسَبَّا ووثقت أَنَّك مَـا سـبـب
س جوابه إلاَّ اخْسَ كَلْبا كالكلب إن ينبـح فـلـي
نَك لا تطفْ شرقاً وغربا خفِّض عليك وقَرْ مـكـا
آباءُ ليس تُنال غَصْـبـا واكشِفْ قِناعَ أبيك فـال
وقال آخر يصف كلباً:
بأرض العِدا من خَشية الحَدَثَانِ ولَذٍّ كطَعْم الصَّرْخَدِيِّ تركـتُـه
دعوتُ وقد طال السُّرى فدعاني ومُبْدٍ ليَ الشَّحناءَ بيني وبـينـه
فوصفه كما ترى أنَّه يبدي له البغضاء.
وقال آخر:
عَلَى رجُلٍ بالعَرْج ألأمَ من كلْـبِ سَرَتْ ما سَرَتْ من ليلها ثم عرَّست
وقال راشِد بن شهاب اليشكُريُّ:
بكَلْبٍ على لحم الجزورِ ولا بَرَمْ فلستُ إذا هبَّتْ شَمـالٌ عَـرِيَّةٌ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تابع كتاب الحيوان للجاحظ
وقال كُثَيِّر بن عبد الرحمن، وهو يصف نعلاً من نِعال الكرام:
وإن وُضِعت في مجلس القَوم شُمَّتِ إذا طُرِحَتْ لم يَطَّبِ الكلبَ ريحُهـا
وقال اللّعين في بعض أضيافه، يخبر أنّه قراه لحمَ كلب، وقد قال ابنُ الأعرابي: إنَّما وصف تيساً:
وأعفاجِه اللائي لـهـنَّ زوائدُ فقلتُ لعَبْدَيَّ اقْتُلا داءَ بطـنِـه
كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ فجاءَا بخِرشَاوَي شَعير عليهمـا
وقال خُلَيد عَيْنَين وهو يهجو جرير بن عطية ويردّ عليه:
وودَّ أبوك الكلب لو كان ذا نخل وعيّرتَنا بالنخل أن كان مالـنـا
وقال دِعبل بن عليّ:
لما نال كفّاً من التُّـرْبـهْ ولو يُرزَق الناسُ عن حيلةٍ
ف لما نال من مائهم شَرْبَهْ ولو يشربُ الماءَ أهلُ العفا
يعمُّ به الكلبَ والكـلـبـهْ ولكنَّه رزقُ مَـنْ رِزْقُـه
من هُجِيَ بأكل لحوم الكلاب ولحومِ الناس
قال سالم بن دَارة الغطفانيُّ:
لو خافَكَ اللّهُ عليه حرَّمه يافَقْعَسِيُّ لِمْ أكلته لِـمَـهْ
فما أكلتَ لحمَه ولا دَمه وقال الفرزدق في ذلك:
وكان سميناً كلبُه فهو آكلُه إذا أسديٌّ جاعَ يوماً ببلـدةٍ
وقال مساور بن هند:
فبشِّرها بلؤمٍ في الغـلامِ إذا أسدِيَّةٌ ولدتْ غُـلاَمـاً
بأخبثِ ما يجدن من الطَّعام يخرِّسها نساءُ بنـي دُبَـير
براثنُها.على وَضَم الثُّمَـامِ ترى أظفارَ أعقَدَ مُلقـيَاتٍ
فهذا الشعر وما أشبَهه يدلُّ على أنَّ اللعين إنَّما قراهم كلباً ولم يَقْرِهم تيساً، وأنَّ الصوابَ خلافُ ما قال ابْنُ الأعرابيِّ.
وقال مُساوِر بن هند أيضاً:
فهذا إذنْ دَهْرُ الكلابِ وعامُها بني أسدٍ أن تُمحل العامَ فَقْعس
وقال شرَيح بن أوس يهجو أبا المهوّش الأسدي:
وزادُك أير الكَلْب شيَّطه الجمْر وعيَّرْتنا تمرَ الـعـراق وبُـرَّه
أكل لحوم الناس
وما قيل في ذلك من شعر
وقال معروفٌ الدُّبيريّ في أكلِهم لحومَ الناس:
فلا تَطعَمْ له أبداً طعـامـا إذا ما ضِفْتَ يوماً فقعسـيّاً
وخيرُ الزَّادِ مَا مَنَع الحراما فإنَّ اللحم إنسـانٌ فـدَعْـهُ
وقد هُجِيت هذيلٌ وأسد وبَلَعنْبَر وباهلة بأكلِ لحوم الناس، قال حسَّان بن ثابت يذكر هذيلاً:
فأت الرجيع وسل عن دارِ لِحْيانِ إنْ سرَّك الغَدْرُ صِرفاً لا مِزَاجَ له
فالكلبُ والشَّاةُ والإنسـانُ سِـيَّانِ قومٌ تواصَوا بأكل الجار بينـهـم
وقال الشاعر في مثل ذلك في هذيل:
زباب فلا يأمنْكُم أحـدٌ بـعـدُ وأنتمْ أكلتُمْ شحمة بن مـخـدَّم
وقد نصل الأظفارُ وانسبَأ الجِلْدُ تداعَوا له من بين خَمسٍ وأربعٍ
مُعاوية الفلحاء يالكَ ماشُـكْـدِ ورَفَّعتم جُردَانَه لـرئيسـكـم
وقال الشاعر في ذلك في باهلة:
تمشَّشوا عظامَه وكاهلَه إنَّ غفاقاً أكلَتْه بـاهـلـه
وأصبحتْ أم غفاق ثاكِلَه
وهجا شاعر آخر بَلْعَنبر، وهو يريد ثَوْبَ بن شَحْمَة، وكان شريفاً وكان يقال له مجير الطير، فأمَّا مجير الجراد فهو مدلج بن سويد بن مرشد بن خيبري فعيَّر الشاعرُ ثوب بنَ شحمة بأكل الرجلِ العنبريِّ لحمَ المرأة إلى أن أتى ثوبٌ من الجبَل فقال:
من العُنُوق ومن النِّعاجْ عجِلتُمُ ما صادَكم عِـلاجْ
حتى أكلتمْ طَفْلَةً كالعاجْ
فلما عيَّره قال ثوب:
إذ لا تجنُّ خبيثَ الزاد أضلاعي يا بنتَ عمِّيَ ما أدراكِ ما حسبي
عِنْدَ الصِّياحِ بِنَصْلِ السَّيْفِ قَرَّاعِ إنِّي لذو مِرَّةٍ تُخْـشَـى بـوادِرُه
ومن ظريف الشعر قول أبي عدنان:
عُراقاً من الموتى مِرَاراً وتَكدِمُ فما كلبة سوداءُ تفري بنـابِـهـا
فهارشَها وهي على العَرْق تَعْذِمُ أُتيح لها كلبٌ فضنَّتْ بعَرْقِـهـا
فقفْ على هذا الشعر فإنّه من أعاجيب الدنيا.
وقال سُنَيح بن رباح شار الزِّنجي:
أن لم يُوازِنْ حَاجِباً وعِقال مَا بالُ كلبِ بني كُليبٍ سبَّنا
وإن وُضِعت في مجلس القَوم شُمَّتِ إذا طُرِحَتْ لم يَطَّبِ الكلبَ ريحُهـا
وقال اللّعين في بعض أضيافه، يخبر أنّه قراه لحمَ كلب، وقد قال ابنُ الأعرابي: إنَّما وصف تيساً:
وأعفاجِه اللائي لـهـنَّ زوائدُ فقلتُ لعَبْدَيَّ اقْتُلا داءَ بطـنِـه
كَرَادِيسُ من أوصالِ أعقَدَ سافِدِ فجاءَا بخِرشَاوَي شَعير عليهمـا
وقال خُلَيد عَيْنَين وهو يهجو جرير بن عطية ويردّ عليه:
وودَّ أبوك الكلب لو كان ذا نخل وعيّرتَنا بالنخل أن كان مالـنـا
وقال دِعبل بن عليّ:
لما نال كفّاً من التُّـرْبـهْ ولو يُرزَق الناسُ عن حيلةٍ
ف لما نال من مائهم شَرْبَهْ ولو يشربُ الماءَ أهلُ العفا
يعمُّ به الكلبَ والكـلـبـهْ ولكنَّه رزقُ مَـنْ رِزْقُـه
من هُجِيَ بأكل لحوم الكلاب ولحومِ الناس
قال سالم بن دَارة الغطفانيُّ:
لو خافَكَ اللّهُ عليه حرَّمه يافَقْعَسِيُّ لِمْ أكلته لِـمَـهْ
فما أكلتَ لحمَه ولا دَمه وقال الفرزدق في ذلك:
وكان سميناً كلبُه فهو آكلُه إذا أسديٌّ جاعَ يوماً ببلـدةٍ
وقال مساور بن هند:
فبشِّرها بلؤمٍ في الغـلامِ إذا أسدِيَّةٌ ولدتْ غُـلاَمـاً
بأخبثِ ما يجدن من الطَّعام يخرِّسها نساءُ بنـي دُبَـير
براثنُها.على وَضَم الثُّمَـامِ ترى أظفارَ أعقَدَ مُلقـيَاتٍ
فهذا الشعر وما أشبَهه يدلُّ على أنَّ اللعين إنَّما قراهم كلباً ولم يَقْرِهم تيساً، وأنَّ الصوابَ خلافُ ما قال ابْنُ الأعرابيِّ.
وقال مُساوِر بن هند أيضاً:
فهذا إذنْ دَهْرُ الكلابِ وعامُها بني أسدٍ أن تُمحل العامَ فَقْعس
وقال شرَيح بن أوس يهجو أبا المهوّش الأسدي:
وزادُك أير الكَلْب شيَّطه الجمْر وعيَّرْتنا تمرَ الـعـراق وبُـرَّه
أكل لحوم الناس
وما قيل في ذلك من شعر
وقال معروفٌ الدُّبيريّ في أكلِهم لحومَ الناس:
فلا تَطعَمْ له أبداً طعـامـا إذا ما ضِفْتَ يوماً فقعسـيّاً
وخيرُ الزَّادِ مَا مَنَع الحراما فإنَّ اللحم إنسـانٌ فـدَعْـهُ
وقد هُجِيت هذيلٌ وأسد وبَلَعنْبَر وباهلة بأكلِ لحوم الناس، قال حسَّان بن ثابت يذكر هذيلاً:
فأت الرجيع وسل عن دارِ لِحْيانِ إنْ سرَّك الغَدْرُ صِرفاً لا مِزَاجَ له
فالكلبُ والشَّاةُ والإنسـانُ سِـيَّانِ قومٌ تواصَوا بأكل الجار بينـهـم
وقال الشاعر في مثل ذلك في هذيل:
زباب فلا يأمنْكُم أحـدٌ بـعـدُ وأنتمْ أكلتُمْ شحمة بن مـخـدَّم
وقد نصل الأظفارُ وانسبَأ الجِلْدُ تداعَوا له من بين خَمسٍ وأربعٍ
مُعاوية الفلحاء يالكَ ماشُـكْـدِ ورَفَّعتم جُردَانَه لـرئيسـكـم
وقال الشاعر في ذلك في باهلة:
تمشَّشوا عظامَه وكاهلَه إنَّ غفاقاً أكلَتْه بـاهـلـه
وأصبحتْ أم غفاق ثاكِلَه
وهجا شاعر آخر بَلْعَنبر، وهو يريد ثَوْبَ بن شَحْمَة، وكان شريفاً وكان يقال له مجير الطير، فأمَّا مجير الجراد فهو مدلج بن سويد بن مرشد بن خيبري فعيَّر الشاعرُ ثوب بنَ شحمة بأكل الرجلِ العنبريِّ لحمَ المرأة إلى أن أتى ثوبٌ من الجبَل فقال:
من العُنُوق ومن النِّعاجْ عجِلتُمُ ما صادَكم عِـلاجْ
حتى أكلتمْ طَفْلَةً كالعاجْ
فلما عيَّره قال ثوب:
إذ لا تجنُّ خبيثَ الزاد أضلاعي يا بنتَ عمِّيَ ما أدراكِ ما حسبي
عِنْدَ الصِّياحِ بِنَصْلِ السَّيْفِ قَرَّاعِ إنِّي لذو مِرَّةٍ تُخْـشَـى بـوادِرُه
ومن ظريف الشعر قول أبي عدنان:
عُراقاً من الموتى مِرَاراً وتَكدِمُ فما كلبة سوداءُ تفري بنـابِـهـا
فهارشَها وهي على العَرْق تَعْذِمُ أُتيح لها كلبٌ فضنَّتْ بعَرْقِـهـا
فقفْ على هذا الشعر فإنّه من أعاجيب الدنيا.
وقال سُنَيح بن رباح شار الزِّنجي:
أن لم يُوازِنْ حَاجِباً وعِقال مَا بالُ كلبِ بني كُليبٍ سبَّنا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45421
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
» كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» تقسيم الحيوان إلى فصيح وأعجم للجاحظ
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
» كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» تقسيم الحيوان إلى فصيح وأعجم للجاحظ
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى