قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة 5 من اصل 6
صفحة 5 من اصل 6 • 1, 2, 3, 4, 5, 6
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 234
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
خرائب نبور على مجرى مائي معقود أنشئ منذ خمسة آلاف من السنين، وعثر في مقابر أور الملكية على عقود يرجع تاريخها إلى عام 3500 ق. م. وكانت المداخل المعقودة مألوفة في أور منذ عام 2000 (60) ق. م. وكانت عقودها عقوداً حقه أي أن أحجارها كانت صِنجِية الرص- كل حجر منها على هيئة إسفين يتجه طرفه الرفيع إلى أسفل محكم الوضع في مكانه.
أما الأغنياء من أهل المدن فكانوا يشيدون قصوراً يقيمونها على ربُى تعلو عن أرض السهل بنحو أربعين قدماً في بعض الأحيان، وكانوا يجعلونها منيعة لا يمكن الوصول إليها إلا من طريق واحد، وبذلك يستطيع كل عظيم سومري أن يتخذ قصره حصناً له. وإذ كانت الحجارة نادرة الوجود في تلك البلاد فقد كان أغلب هذه القصور يُبنى من الآجر، وكانت الجدران الحمراء تغطى بحليات من الآجر نفسه ذات أشكال مختلفة- منها لوالب، ومقرنصات ومثلثات، ومنها معينات أو مشجرات. وكانت الجدران الداخلية تغطى بالجص وتنقش نقشاً بسيطاً. وكانت الحجرات والمرافق تقام حول فناء يقي البيت وهج شمس البحر الأبيض وحرّها. ولهذا السبب عينه مضافاً إليه رغبة القوم في الأمن من الأعداء كانت الحجرات تطل على هذا الفناء الداخلي بدل أن تطل على العالم الخارجي. أما النوافذ فكانت من الكماليات أو لعلهم كانوا في غير حاجة إليها. وكانت المياه تؤخذ من الآبار، وكان ثمة نظام واسع للمجاري وتصريف الفضلات من الأحياء المأهولة في المدن. وكان أثاث البيوت قليلاً بسيطاً. ولكنه لم يكن يخلو من طابع الفن والذوق، وكانت بعض الأسِرَّة تطعم بالمعادن أو بالعاج، وكانت لبعض الكراسي السائدة أحياناً أرجل تنتهي بما يشبه مخالب السباع(26) على النحو الذي نشاهده في كراسي المصريين الأقدمين.
أما الهياكل فكانت تستورد لها الحجارة من الأقطار النائية وكانت تزين بأعمدة وأفاريز من النحاس مطعمة بمواد شبيهة بالحجارة الكريمة. وكان هيكل
صفحة رقم : 235
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
ناتاو في أور طرازاً تحتذيه سائر هياكل أرض الجزيرة فكانت جدرانه مغطاة من الخارج بالقرميد الأزرق الشاحب، أما من الداخل فكانت تكسوه ألواح من الأخشاب النادرة، كخشب الأرز والسرو تطعم بالرخام والمرمر والعقيق الظفري واليماني والذهب. وكان أعظم هيكل في المدينة يقام عادةً فوق ربوة يعلوه برج من ثلاث طبقات أو أربع أو سبع في بعض الأحيان، يحيط به سلم لولبي ذو بسطة عن كل مقلب. وكانت هذه الأبراج أعلى صروح في المدائن السومرية، ومساكن أعظم آلهتها، كان في وسع الحكومة أن تجد فيها آخر حصن روحي وطبيعي يعصمها من الثوار أو الغزاة .
وكانت الهياكل تزينها أحيانا تماثيل للآلهة وللحيوان وللأبطال من بني الإنسان. وكانت هذه التماثيل ساذجة وغير جميلة في صناعتها، تمثل القوة والعظمة ولكن ينقصها الصقل والأناقة والدقة الفنية. ومعظم ما بقي منها يمثل الملك جوديا. وهي منحوتة من الحجر الديوريت الصلب نحتاً واضح المعارف ولكنه مع ذلك فج ساذج. وقد عثر في خرائب تنتمي إلى العهد السومري الأول على تمثال صغير من النحاس على شكل ثور عدى عليه الدهر ولكنه لا يزال يفيض حيوية وهمة ثورية. وفي مدينة أور عثر المنقبون على رأس بقرة مصنوع من الفضة في قبر الملكة شب- آد وهو آية فنية تشهد بما وصل إليه الفن من رقي عظيم، وإن كان الدهر قد عدا عليها حتى لم يعد في وسعنا أن نقدرها التقدير الذي هي خليقة به. وأن هذا الحكم ليؤيده ما بقي من النقوش المحفورة تأييداً
صفحة رقم : 236
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
لا يكاد يترك مجالاً للشد فيه كذلك تظهر خشونة الفن السومري في "لوحة الصقور" التي أقامها إينا- نوم ملك لكش، واسطوانة إبنشـــــــار المصنوعة من الرخام السماقي(63) والصور الهزلية "وهي بلا شك هزلية" التي تمثل أور- نينا(6)، وبخاصة في "لوحة النصر" التي أقامها نارام- سِنْ، ولكنها مع ذلك تنم عن حيوية قوية في الرسم والنحت لا تكاد تترك مجالاً للشك في وجود فن ناشئ سائر في طريق الازدهار.
أما صناعة الخزف فليس في وسعنا أن نحكم عليها هذا الحكم السهل الذي أصدرناه على صناعة النحت ولعل عوادى الزمن من أسباب الخطأ في هذا الحكم، فقد لا يكون ما بقي لنا من آثار هذه الصناعة إلى أقلها شأنا. ولعل هؤلاء الناس كانت لديهم قطع منه لا تقل في إتقانها عن الأواني المنحوتة من المرمر التي عثر عليها في أريدو(65)، ولكن معظم الخزف السومري- وإن كانت عجلة الفخراني قد استخدمت فيه- لا يعدو أن يكون آنية ساذجة من الفخار لا تسمو
صفحة رقم : 237
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
إلى مستوى مزهريات عيلام. وأما صناعة الذهب فقد بلغت مستوى رفيعا كما يدل على ذلك ما وجد في أقدم مقابر أور التي يرجع تاريخ معظمها إلى عام 4000(66) ق.م من أوانٍ من الذهب تنم عن ذوق راقٍ ومصقولة أجمل صقل. وفي متحف اللوفر مزهرية من الفضة ضخمة كجسم جوديا ولكنها مزينة بطائفة كبيرة من صور الحيوانات المنحوتة نحتاً جميلاً(67). وأجمل ما وجد من هذه القطع الفنية غمد من الذهب وخنجر مطعم باللازورد قد عثر عليها المنقبون في أور(68). وإذا كان لنا أن نحكم على هذه الآية الفنية من صورها الشمسية حق لنا أن نقول إن الفن يكاد يسمو فيها إلى ذروة الكمال. وقد كشف في هذه الخرائب عن عدد كبير من الأختام الأسطوانية معظمها مصنوع من المعادن الثمينة أو الأحجار الكريمة، وعليها نقوش منحوتة فيما لا يزيد على بوصة مربعة أو بوصتين. ويلوح أن السومريين كانوا يستخدمون هذه الأختام فيما نستخدم فيه نحن الإمضاءات، وكلها تشهد بما بلغته الحياة والأخلاق في تلك الأيام من رقي وتهذيب ينقض ما لدينا من فكرة ساذجة عن تقدم الإنسان المتواصل من ثقافات الأيام الخوالي المنحوسة إلى ثقافات هذه الأيام التي بلغت الحد الأقصى من الكمال!
ويمكن أن نلخص الحضارة السومرية تلخيصاً موجزا في هذا التناقض بين خزفها الفج الساذج وحليها التي أوفت على الغاية في الجمال والإتقان. لقد كانت هذه الحضارة مزيجاً مركباً من بدايات خشنة وإتقان بارع في بعض الأحيان. وفي تلك البلاد- على قدر ما وصل إليه علمنا في الوقت الحاضر- نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات، وأول نظم الري، وأول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع، وأول العقود التجارية، وأول نظام للائتمان، وأول كتب القوانين، وأول استخدام للكتابة في نطاق واسع، وأول قصص الخلق والطوفان، وأول المدارس والمكتبات، وأول الأدب والشعر، وأول
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
خرائب نبور على مجرى مائي معقود أنشئ منذ خمسة آلاف من السنين، وعثر في مقابر أور الملكية على عقود يرجع تاريخها إلى عام 3500 ق. م. وكانت المداخل المعقودة مألوفة في أور منذ عام 2000 (60) ق. م. وكانت عقودها عقوداً حقه أي أن أحجارها كانت صِنجِية الرص- كل حجر منها على هيئة إسفين يتجه طرفه الرفيع إلى أسفل محكم الوضع في مكانه.
أما الأغنياء من أهل المدن فكانوا يشيدون قصوراً يقيمونها على ربُى تعلو عن أرض السهل بنحو أربعين قدماً في بعض الأحيان، وكانوا يجعلونها منيعة لا يمكن الوصول إليها إلا من طريق واحد، وبذلك يستطيع كل عظيم سومري أن يتخذ قصره حصناً له. وإذ كانت الحجارة نادرة الوجود في تلك البلاد فقد كان أغلب هذه القصور يُبنى من الآجر، وكانت الجدران الحمراء تغطى بحليات من الآجر نفسه ذات أشكال مختلفة- منها لوالب، ومقرنصات ومثلثات، ومنها معينات أو مشجرات. وكانت الجدران الداخلية تغطى بالجص وتنقش نقشاً بسيطاً. وكانت الحجرات والمرافق تقام حول فناء يقي البيت وهج شمس البحر الأبيض وحرّها. ولهذا السبب عينه مضافاً إليه رغبة القوم في الأمن من الأعداء كانت الحجرات تطل على هذا الفناء الداخلي بدل أن تطل على العالم الخارجي. أما النوافذ فكانت من الكماليات أو لعلهم كانوا في غير حاجة إليها. وكانت المياه تؤخذ من الآبار، وكان ثمة نظام واسع للمجاري وتصريف الفضلات من الأحياء المأهولة في المدن. وكان أثاث البيوت قليلاً بسيطاً. ولكنه لم يكن يخلو من طابع الفن والذوق، وكانت بعض الأسِرَّة تطعم بالمعادن أو بالعاج، وكانت لبعض الكراسي السائدة أحياناً أرجل تنتهي بما يشبه مخالب السباع(26) على النحو الذي نشاهده في كراسي المصريين الأقدمين.
أما الهياكل فكانت تستورد لها الحجارة من الأقطار النائية وكانت تزين بأعمدة وأفاريز من النحاس مطعمة بمواد شبيهة بالحجارة الكريمة. وكان هيكل
صفحة رقم : 235
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
ناتاو في أور طرازاً تحتذيه سائر هياكل أرض الجزيرة فكانت جدرانه مغطاة من الخارج بالقرميد الأزرق الشاحب، أما من الداخل فكانت تكسوه ألواح من الأخشاب النادرة، كخشب الأرز والسرو تطعم بالرخام والمرمر والعقيق الظفري واليماني والذهب. وكان أعظم هيكل في المدينة يقام عادةً فوق ربوة يعلوه برج من ثلاث طبقات أو أربع أو سبع في بعض الأحيان، يحيط به سلم لولبي ذو بسطة عن كل مقلب. وكانت هذه الأبراج أعلى صروح في المدائن السومرية، ومساكن أعظم آلهتها، كان في وسع الحكومة أن تجد فيها آخر حصن روحي وطبيعي يعصمها من الثوار أو الغزاة .
وكانت الهياكل تزينها أحيانا تماثيل للآلهة وللحيوان وللأبطال من بني الإنسان. وكانت هذه التماثيل ساذجة وغير جميلة في صناعتها، تمثل القوة والعظمة ولكن ينقصها الصقل والأناقة والدقة الفنية. ومعظم ما بقي منها يمثل الملك جوديا. وهي منحوتة من الحجر الديوريت الصلب نحتاً واضح المعارف ولكنه مع ذلك فج ساذج. وقد عثر في خرائب تنتمي إلى العهد السومري الأول على تمثال صغير من النحاس على شكل ثور عدى عليه الدهر ولكنه لا يزال يفيض حيوية وهمة ثورية. وفي مدينة أور عثر المنقبون على رأس بقرة مصنوع من الفضة في قبر الملكة شب- آد وهو آية فنية تشهد بما وصل إليه الفن من رقي عظيم، وإن كان الدهر قد عدا عليها حتى لم يعد في وسعنا أن نقدرها التقدير الذي هي خليقة به. وأن هذا الحكم ليؤيده ما بقي من النقوش المحفورة تأييداً
صفحة رقم : 236
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
لا يكاد يترك مجالاً للشد فيه كذلك تظهر خشونة الفن السومري في "لوحة الصقور" التي أقامها إينا- نوم ملك لكش، واسطوانة إبنشـــــــار المصنوعة من الرخام السماقي(63) والصور الهزلية "وهي بلا شك هزلية" التي تمثل أور- نينا(6)، وبخاصة في "لوحة النصر" التي أقامها نارام- سِنْ، ولكنها مع ذلك تنم عن حيوية قوية في الرسم والنحت لا تكاد تترك مجالاً للشك في وجود فن ناشئ سائر في طريق الازدهار.
أما صناعة الخزف فليس في وسعنا أن نحكم عليها هذا الحكم السهل الذي أصدرناه على صناعة النحت ولعل عوادى الزمن من أسباب الخطأ في هذا الحكم، فقد لا يكون ما بقي لنا من آثار هذه الصناعة إلى أقلها شأنا. ولعل هؤلاء الناس كانت لديهم قطع منه لا تقل في إتقانها عن الأواني المنحوتة من المرمر التي عثر عليها في أريدو(65)، ولكن معظم الخزف السومري- وإن كانت عجلة الفخراني قد استخدمت فيه- لا يعدو أن يكون آنية ساذجة من الفخار لا تسمو
صفحة رقم : 237
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
إلى مستوى مزهريات عيلام. وأما صناعة الذهب فقد بلغت مستوى رفيعا كما يدل على ذلك ما وجد في أقدم مقابر أور التي يرجع تاريخ معظمها إلى عام 4000(66) ق.م من أوانٍ من الذهب تنم عن ذوق راقٍ ومصقولة أجمل صقل. وفي متحف اللوفر مزهرية من الفضة ضخمة كجسم جوديا ولكنها مزينة بطائفة كبيرة من صور الحيوانات المنحوتة نحتاً جميلاً(67). وأجمل ما وجد من هذه القطع الفنية غمد من الذهب وخنجر مطعم باللازورد قد عثر عليها المنقبون في أور(68). وإذا كان لنا أن نحكم على هذه الآية الفنية من صورها الشمسية حق لنا أن نقول إن الفن يكاد يسمو فيها إلى ذروة الكمال. وقد كشف في هذه الخرائب عن عدد كبير من الأختام الأسطوانية معظمها مصنوع من المعادن الثمينة أو الأحجار الكريمة، وعليها نقوش منحوتة فيما لا يزيد على بوصة مربعة أو بوصتين. ويلوح أن السومريين كانوا يستخدمون هذه الأختام فيما نستخدم فيه نحن الإمضاءات، وكلها تشهد بما بلغته الحياة والأخلاق في تلك الأيام من رقي وتهذيب ينقض ما لدينا من فكرة ساذجة عن تقدم الإنسان المتواصل من ثقافات الأيام الخوالي المنحوسة إلى ثقافات هذه الأيام التي بلغت الحد الأقصى من الكمال!
ويمكن أن نلخص الحضارة السومرية تلخيصاً موجزا في هذا التناقض بين خزفها الفج الساذج وحليها التي أوفت على الغاية في الجمال والإتقان. لقد كانت هذه الحضارة مزيجاً مركباً من بدايات خشنة وإتقان بارع في بعض الأحيان. وفي تلك البلاد- على قدر ما وصل إليه علمنا في الوقت الحاضر- نجد أول ما أسسه الإنسان من دول وإمبراطوريات، وأول نظم الري، وأول استخدام للذهب والفضة في تقويم السلع، وأول العقود التجارية، وأول نظام للائتمان، وأول كتب القوانين، وأول استخدام للكتابة في نطاق واسع، وأول قصص الخلق والطوفان، وأول المدارس والمكتبات، وأول الأدب والشعر، وأول
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 238
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
أصباغ التجميل والحلي، وأول النحت والنقش البارز، وأول القصور والهياكل، وأول استعمال للمعادن في الترصيع والتزيين. وهنا نجد في البناء أول العقود والأقواس وأول القباب؛ وهنا كذلك تظهر لأول مرة في التاريخ المعروف بعض مساوئ الحضارة في نطاق واسع: يظهر الرق والاستبداد وتسلط الكهنة وحروب الاستعمار. لقد كانت الحياة في تلك البلاد متنوعة، مهذبة، موفورة النعم، معقدة. وهنا بدأت الفوارق الطبيعية بين الناس تنتج حياة جديدة من الدعة والنعيم للأقوياء، وحياة من الكدح والعمل المتواصل لسائر الناس. وفي تلك البلاد كانت بداية ما نشأ في تاريخ العالم من اختلافات يخطئها الحصر.
صفحة رقم : 239
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
الفصل الثالث
الانتقال إلى مصر
أثر السومريين في أرض الجزيرة - بلاد العرب
القديمة - أثر بلاد الجزيرة في مصر
على إننا إذا ما تحدثنا عن بلاد السومريين نكون جد قريبين من بداية التاريخ قرباً يصعب علينا معه أن نحكم حكماً دقيقاً أي الحضارات التي نمت في بلاد الشرق الأدنى والتي يتصل بعضها ببعض أوثق اتصال- نقول أي هذه الحضارات كانت أسبق من أختها أو أيها أعقبت الأخرى. إن اقدم مدونات كتابية وصلت إلينا هي المدونات السومرية وإن كان هذا في حد ذاته لا يقوم دليلاً على أن الحضارة السومرية أولى الحضارات ؛ فقد لا يكون هذا الكشف إلا وليد الظروف المحضة، وقد يكون نتيجة عبث الموت والفناء بمخلفات الأقدمين. ولقد عثر على تماثيل صغيرة وآثار أخرى شبيهة بآثار السومريين في بلدتي أشور وسامراء وهما من البلاد التي شملتها فيما بعد دولة أشور. ولسنا نعرف هل هذه الثقافة القديمة مستمدة من بلاد سومر أو أنها قد انتقلت إليها من مكان آخر عن طريق نهر دجلة. كذلك تشبه شرائع حمورابي شرائع أور- انجور ودنجى ولكنا لا نستطيع أن نثبت أن الأولى تطورت عن الثانية، وليست تطورا لشريعة أخرى أقدم منهما عهداً وأن كلتا الشريعتين استمدت أصولها منها. وكل ما في وسعنا أن نقوله هو أننا نرجح، ولا نؤكد، أن حضارة البابليين والآشوريين مستمدتان من سومر وأكد، أو أن سومر وأكد قد لحقتا الحضارتين البابلية والآشورية بلقاحهما(69). ذلك أن آلهة بابل ونينوى وأساطيرهما الدينية ليست في كثير من الأحوال إلا آلهة وأساطير سومرية طرأ عليها التحوير والتطور، وأن
صفحة رقم : 240
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
العلاقة التي بين اللغتين البابلية والآشورية وبين اللغة السومرية لتشبه العلاقة القائمة بين اللغتين الفرنسية والإيطالية من جهة واللغة اللاتينية من جهة أخرى.
ولقد لفت شوينفرت أنظار العلماء إلى تلك الحقيقة الطريفة العظيمة الخطر، وهي أن الشعير والذرة الرفيعة والقمح، واستئناس الماشية والمعز والضأن، وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد ما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لا توجد في حالتها البرية الطبيعية في مصر بل في بلاد آسية الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة. ويستدل من هذا على أن الحضارة- وهي هنا زراعة الحبوب واستخدام الحيوانات المستأنسة- قد ظهرت في العهود القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم انتشرت منها في صورة "مثلث ثقافي" إلى ما بين النهرين "سومر، وبابل وأشور" وإلى مصر(70). ولكن ما وصل إلى علمنا عن تاريخ بلاد العرب القديمة حتى الآن ليبلغ من القلة حدا لا نستطيع معه إلا أن نقول أن هذا مجرد فرض جائز الوقوع.
وأكثر من هذا احتمالاً أن عناصر معينة من الثقافة المصرية مستمدة من بلاد السومريين والبابليين. فنحن نعلم أن مصر وبلاد النهرين كانتا تتبادلان التجارة- وخاصة بطريق برزخ السويس- ولعلهما كانتا تتبادلان أيضا بالطريق المائي طريق مصاب الأنهر المصرية القديمة في البحر الأحمر(71). وإن نظرة إلى الخريطة لتوضح لنا السبب في أن مصر كانت طوال تاريخها المعروف تنتمي إلى آسية الغربية أكثر مما تنتمي إلى إفريقية. لقد كان من السهل أن تنتقل التجارة والثقافة إلى مصر من بلاد آسية بطريق البحر الأبيض المتوسط. ولكنها لا تلبث أن تعترضها الصحراء التي تفصل- هي وجنادل النيل- بلاد مصر عن سائر بلاد إفريقية. ومن ثم كان من الطبيعي أن نجد في الثقافة المصرية عناصر كثيرة من ثقافة ما بين النهرين.
وكلما رجعنا إلى الوراء في دراسة اللغة المصرية القديمة زاد ما نجده فيها من
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
أصباغ التجميل والحلي، وأول النحت والنقش البارز، وأول القصور والهياكل، وأول استعمال للمعادن في الترصيع والتزيين. وهنا نجد في البناء أول العقود والأقواس وأول القباب؛ وهنا كذلك تظهر لأول مرة في التاريخ المعروف بعض مساوئ الحضارة في نطاق واسع: يظهر الرق والاستبداد وتسلط الكهنة وحروب الاستعمار. لقد كانت الحياة في تلك البلاد متنوعة، مهذبة، موفورة النعم، معقدة. وهنا بدأت الفوارق الطبيعية بين الناس تنتج حياة جديدة من الدعة والنعيم للأقوياء، وحياة من الكدح والعمل المتواصل لسائر الناس. وفي تلك البلاد كانت بداية ما نشأ في تاريخ العالم من اختلافات يخطئها الحصر.
صفحة رقم : 239
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
الفصل الثالث
الانتقال إلى مصر
أثر السومريين في أرض الجزيرة - بلاد العرب
القديمة - أثر بلاد الجزيرة في مصر
على إننا إذا ما تحدثنا عن بلاد السومريين نكون جد قريبين من بداية التاريخ قرباً يصعب علينا معه أن نحكم حكماً دقيقاً أي الحضارات التي نمت في بلاد الشرق الأدنى والتي يتصل بعضها ببعض أوثق اتصال- نقول أي هذه الحضارات كانت أسبق من أختها أو أيها أعقبت الأخرى. إن اقدم مدونات كتابية وصلت إلينا هي المدونات السومرية وإن كان هذا في حد ذاته لا يقوم دليلاً على أن الحضارة السومرية أولى الحضارات ؛ فقد لا يكون هذا الكشف إلا وليد الظروف المحضة، وقد يكون نتيجة عبث الموت والفناء بمخلفات الأقدمين. ولقد عثر على تماثيل صغيرة وآثار أخرى شبيهة بآثار السومريين في بلدتي أشور وسامراء وهما من البلاد التي شملتها فيما بعد دولة أشور. ولسنا نعرف هل هذه الثقافة القديمة مستمدة من بلاد سومر أو أنها قد انتقلت إليها من مكان آخر عن طريق نهر دجلة. كذلك تشبه شرائع حمورابي شرائع أور- انجور ودنجى ولكنا لا نستطيع أن نثبت أن الأولى تطورت عن الثانية، وليست تطورا لشريعة أخرى أقدم منهما عهداً وأن كلتا الشريعتين استمدت أصولها منها. وكل ما في وسعنا أن نقوله هو أننا نرجح، ولا نؤكد، أن حضارة البابليين والآشوريين مستمدتان من سومر وأكد، أو أن سومر وأكد قد لحقتا الحضارتين البابلية والآشورية بلقاحهما(69). ذلك أن آلهة بابل ونينوى وأساطيرهما الدينية ليست في كثير من الأحوال إلا آلهة وأساطير سومرية طرأ عليها التحوير والتطور، وأن
صفحة رقم : 240
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
العلاقة التي بين اللغتين البابلية والآشورية وبين اللغة السومرية لتشبه العلاقة القائمة بين اللغتين الفرنسية والإيطالية من جهة واللغة اللاتينية من جهة أخرى.
ولقد لفت شوينفرت أنظار العلماء إلى تلك الحقيقة الطريفة العظيمة الخطر، وهي أن الشعير والذرة الرفيعة والقمح، واستئناس الماشية والمعز والضأن، وإن ظهرت كلها في مصر وبلاد ما بين النهرين من أقدم العهود المدونة، لا توجد في حالتها البرية الطبيعية في مصر بل في بلاد آسية الغربية وبخاصة في بلاد اليمن وبلاد العرب القديمة. ويستدل من هذا على أن الحضارة- وهي هنا زراعة الحبوب واستخدام الحيوانات المستأنسة- قد ظهرت في العهود القديمة غير المدونة في بلاد العرب، ثم انتشرت منها في صورة "مثلث ثقافي" إلى ما بين النهرين "سومر، وبابل وأشور" وإلى مصر(70). ولكن ما وصل إلى علمنا عن تاريخ بلاد العرب القديمة حتى الآن ليبلغ من القلة حدا لا نستطيع معه إلا أن نقول أن هذا مجرد فرض جائز الوقوع.
وأكثر من هذا احتمالاً أن عناصر معينة من الثقافة المصرية مستمدة من بلاد السومريين والبابليين. فنحن نعلم أن مصر وبلاد النهرين كانتا تتبادلان التجارة- وخاصة بطريق برزخ السويس- ولعلهما كانتا تتبادلان أيضا بالطريق المائي طريق مصاب الأنهر المصرية القديمة في البحر الأحمر(71). وإن نظرة إلى الخريطة لتوضح لنا السبب في أن مصر كانت طوال تاريخها المعروف تنتمي إلى آسية الغربية أكثر مما تنتمي إلى إفريقية. لقد كان من السهل أن تنتقل التجارة والثقافة إلى مصر من بلاد آسية بطريق البحر الأبيض المتوسط. ولكنها لا تلبث أن تعترضها الصحراء التي تفصل- هي وجنادل النيل- بلاد مصر عن سائر بلاد إفريقية. ومن ثم كان من الطبيعي أن نجد في الثقافة المصرية عناصر كثيرة من ثقافة ما بين النهرين.
وكلما رجعنا إلى الوراء في دراسة اللغة المصرية القديمة زاد ما نجده فيها من
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 241
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
صلات بينها وبين لغات الشرق الأدنى السامية(72). ويبدو أن الكتابة التصويرية التي كان المصريون يستخدمونها قبل عصر الأسر الحاكمة قد انتقلت إلى مصر من بلاد السومريين(73). والخاتم الأسطواني- وأصله بلا شك من بلاد الجزيرة- يظهر في أقدم العهود المعروفة من تاريخ مصر، ثم يختفي، وقد كان أسلوبا قديما دخيلا استبدل به أسلوب وطني أصيل(74). وليست عجلة الفخراني معروفة في مصر قبل عهد الأسرة الرابعة- أي بعد أن ظهرت في سومر بزمن طويل، ولعلها جاءت إلى مصر من أرض النهرين مع العربات والعجلات(75).ورؤوس الصولج المصرية لا تفترق في شيء عن البابلية(76). ومن بين الآثار المصرية التي ترجع إلى عصر ما قبل الأسر والتي عثر عليها في جبل الأراك سكين من الظران الجميل الصنع عليه نقوش بارزة هي بعينها نقوش أرض الجزيرة من حيث موضوعها وطرازها(77). ولعل صناعة النحاس قد نشأت في غرب آسية ثم انتقلت بعدئذ إلى مصر(78). وتشبه الهندسة المعمارية الأولى هندسة أرض الجزيرة في استخدام النقوش الغائرة لتزيين الجدران المتخذة من الآجر(79). وفخار عهد ما قبل الأسر المصرية وتماثيله الصغيرة وموضوعات زينتها تشبه مثيلاتها في أرض الجزيرة في كثير من الأحوال أو شديدة الصلة بلا ريب(80). ومن بين الآثار المصرية الباقية من ذلك العهد تماثيل صغيرة لآلهة لا يخطئ الإنسان في أنها من أصل آسيوي. ولقد كان الفنانون في أور ينحتون التماثيل وينقشون النقوش التي يدل طرازها وما جرى عليه العرف في صنعها على قدم هذين الفنين في بلاد سومر، وذلك في الوقت الذي يلوح فيه أن الحضارة المصرية لم تعد عهد بدايتها .
صفحة رقم : 242
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
ولا غضاضة على مصر في أن تعترف بالسبق لبلاد سومر. ذلك أنه مهما تكن الأصول التي استمدتها مصر من أرض دجلة والفرات فإن هذه الأصول سرعان ما نمت وأينعت وأثمرت حضارة مصرية خالصة فذة هي بلا ريب من أغنى الثقافات المعروفة في التاريخ وأعلاها شأناً وأعظمها قوة؛ وهي مع ذلك من أكثرها رشاقة وجمالاً، حضارة إذا قيست إليها الحضارة السومرية لم تكن هذه إلا بداية فجة، بل إن حضارتي اليونان والرومان لا تفضلانها في شيء.
صفحة رقم : 243
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
الباب الثامن
مصر
الفصل الأول
هبة النيل
1- في الوجه البحري
الإسكندرية - النيل - الأهرام - أبو الهول
هذا مرفأ أمين أوفى على الغاية في الأمان. ففي خارج حاجز المياه ترى الأمواج الصاخبة يعلو بعضها فوق بعض، أما في داخله فالبحر مرآة من اللجين. هناك، على جزيرة فاروس الصغيرة، في عهد من عهود مصر الموغلة في القدم، شاد سستراتس من الرخام الأبيض منارته العظيمة ورفعها خمسمائة قدم لتكون هادية لجميع الملاحين الضاربين في مياه البحر الأبيض المتوسط، ولتكون إحدى عجائب العالم السبع.
ولقد عفت آثار هذه المنارة بفعل الأيام والمياه الغاضبة، ولكن منارة جديدة قد حلت الآن محلها تهدي السفن التجارية بين الصخور إلى أرصفة ميناء الإسكندرية، حيث أنشأ الإسكندر ذلك الغلام السياسي العجيب مدينته العظيمة التي اختلطت فيها الأجناس، والتي ورثت فيما بعد ثقافة مصر وفلسطين واليونان. وفي مرفأ الإسكندرية استقبل قيصر وهو غاضب مكتئب رأس بمبى مفصولاً عن جسده.
وإذا أطل المسافر من نافذة القطار وهو يخترق المدينة لمحت عيناه في بعض
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
صلات بينها وبين لغات الشرق الأدنى السامية(72). ويبدو أن الكتابة التصويرية التي كان المصريون يستخدمونها قبل عصر الأسر الحاكمة قد انتقلت إلى مصر من بلاد السومريين(73). والخاتم الأسطواني- وأصله بلا شك من بلاد الجزيرة- يظهر في أقدم العهود المعروفة من تاريخ مصر، ثم يختفي، وقد كان أسلوبا قديما دخيلا استبدل به أسلوب وطني أصيل(74). وليست عجلة الفخراني معروفة في مصر قبل عهد الأسرة الرابعة- أي بعد أن ظهرت في سومر بزمن طويل، ولعلها جاءت إلى مصر من أرض النهرين مع العربات والعجلات(75).ورؤوس الصولج المصرية لا تفترق في شيء عن البابلية(76). ومن بين الآثار المصرية التي ترجع إلى عصر ما قبل الأسر والتي عثر عليها في جبل الأراك سكين من الظران الجميل الصنع عليه نقوش بارزة هي بعينها نقوش أرض الجزيرة من حيث موضوعها وطرازها(77). ولعل صناعة النحاس قد نشأت في غرب آسية ثم انتقلت بعدئذ إلى مصر(78). وتشبه الهندسة المعمارية الأولى هندسة أرض الجزيرة في استخدام النقوش الغائرة لتزيين الجدران المتخذة من الآجر(79). وفخار عهد ما قبل الأسر المصرية وتماثيله الصغيرة وموضوعات زينتها تشبه مثيلاتها في أرض الجزيرة في كثير من الأحوال أو شديدة الصلة بلا ريب(80). ومن بين الآثار المصرية الباقية من ذلك العهد تماثيل صغيرة لآلهة لا يخطئ الإنسان في أنها من أصل آسيوي. ولقد كان الفنانون في أور ينحتون التماثيل وينقشون النقوش التي يدل طرازها وما جرى عليه العرف في صنعها على قدم هذين الفنين في بلاد سومر، وذلك في الوقت الذي يلوح فيه أن الحضارة المصرية لم تعد عهد بدايتها .
صفحة رقم : 242
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> الانتقال إلى مصر
ولا غضاضة على مصر في أن تعترف بالسبق لبلاد سومر. ذلك أنه مهما تكن الأصول التي استمدتها مصر من أرض دجلة والفرات فإن هذه الأصول سرعان ما نمت وأينعت وأثمرت حضارة مصرية خالصة فذة هي بلا ريب من أغنى الثقافات المعروفة في التاريخ وأعلاها شأناً وأعظمها قوة؛ وهي مع ذلك من أكثرها رشاقة وجمالاً، حضارة إذا قيست إليها الحضارة السومرية لم تكن هذه إلا بداية فجة، بل إن حضارتي اليونان والرومان لا تفضلانها في شيء.
صفحة رقم : 243
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
الباب الثامن
مصر
الفصل الأول
هبة النيل
1- في الوجه البحري
الإسكندرية - النيل - الأهرام - أبو الهول
هذا مرفأ أمين أوفى على الغاية في الأمان. ففي خارج حاجز المياه ترى الأمواج الصاخبة يعلو بعضها فوق بعض، أما في داخله فالبحر مرآة من اللجين. هناك، على جزيرة فاروس الصغيرة، في عهد من عهود مصر الموغلة في القدم، شاد سستراتس من الرخام الأبيض منارته العظيمة ورفعها خمسمائة قدم لتكون هادية لجميع الملاحين الضاربين في مياه البحر الأبيض المتوسط، ولتكون إحدى عجائب العالم السبع.
ولقد عفت آثار هذه المنارة بفعل الأيام والمياه الغاضبة، ولكن منارة جديدة قد حلت الآن محلها تهدي السفن التجارية بين الصخور إلى أرصفة ميناء الإسكندرية، حيث أنشأ الإسكندر ذلك الغلام السياسي العجيب مدينته العظيمة التي اختلطت فيها الأجناس، والتي ورثت فيما بعد ثقافة مصر وفلسطين واليونان. وفي مرفأ الإسكندرية استقبل قيصر وهو غاضب مكتئب رأس بمبى مفصولاً عن جسده.
وإذا أطل المسافر من نافذة القطار وهو يخترق المدينة لمحت عيناه في بعض
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 244
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
أجزائها أزقة وطرقات غير مرصوفة، وأمواجاً من الحرارة ترقص في الهواء، وعمالاً عرايا إلى أوساطهم يكدحون في مختلف الأعمال، ونساء ذوات مآزر سود يحملن الأثقال، وشيوخاً عليهم جلابيب بيض فاخرة وعمائم تكسوهم المهابة والوقار. وتقع العين من بعيد على ميادين فسيحة وقصور فخمة لا تقل جمالاً عما شاده فيها البطالمة حين كانت الإسكندرية ملتقى العالم كله. ثم لا يلبث الإنسان أن يرى نفسه فجاءة في الريف ويرى المدينة من ورائه تتراجع إلى أفق دال النهر الخصيبة، وهي ذلك المثلث الخضر الذي يبدو في المصورات كجريد النخلة السامقة محمولاً على جذع نهر النيل الرفيع.
وما من شك في أن هذه الدال كانت في يوم من الأيام خليجاً في البحر؛ طمره النهر الواسع طمراً بطيئاً لا تدركه العين بما ألقاه فيه من الغرين الذي حمله معه آلاف الأميال . وفي هذا الركن الطيني الصغير الذي يحيط به مصبّا النهر العظيم يخرج ستة ملايين من الفلاحين قطنا يصدرون منه إلى خارج بلادهم ما قيمته مائة ألف ريال في كل عام. وفي ذلك الصقع من أصقاع العالم يجري أعظم نهر من أنهار الأرض وأوسعها ذكراً، تسطع الشمس على مياهه البرّاقة الهادئة وتكتنفه من جانبيه أشجار النخل الرفيعة السامقة والحشائش والحقول الناضرة. وليس في وسع المسافر أن يرى الصحراء الغربية من مجرى النهر العظيم أو الوديان الجافة التي كانت من قبل روافد له. ولا تستطيع في هذه المرحلة أن تدرك ضيق أرض مصر الشديد، واعتمادها التام على أرض النيل، وما يحيط بها على الجانبين من رمال سافية تناصبها العداء.
ويمر القطار الآن وسط السهل الرسوبي المغطى بعضه بالماء، والذي تخترقه قنوات الري في كل مكان، وينتشر فيه الفلاحون يجدّون ويكدحون وليس عليهم
صفحة رقم : 245
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
إلا القليل من الثياب. والنهر يفيض في كل عام ويبدأ فيضانه وقت الانقلاب الصيفي ويدوم نحو مائة يوم. وماء الفيضان هو الذي أخصب الصحراء، وأوجد مصر " هبة النيل " كما سماها هيرودوت. ومن اليسير على الإنسان أن يدرك لِمَ وجدتْ الحضارة في هذا الوادي موطناً من أقدم مواطنها. ذلك أننا لا نجد في أي بلاد أخرى في العالم نهراً مثل نهر النيل سخياً بمائه، يعلو بقدر، ويسهل التحكم فيه، وليس في وسع بلاد أخرى أن تضارع مصر في هذا إلا أرض الجزيرة. ولقد ظل زرَّاع مصر آلاف السنين يرقبون فيض النيل بقلوب واجفة، ولا يزال المنادون إلى يومنا هذا في أيام الفيضان يعلنون أنباءه في كل صباح في شوارع القاهرة. وهكذا ينحدر الماضي إلى المستقبل انحدار هذا النهر الهادئ الدائم الجريان ماراً في طريقه بالحاضر مراً خفيفاً. إن تقسيم الأيام إلى ماض وحاضر ومستقبل عمل من صنع المؤرخين، أما الزمن فلا يعرف هذا التقسيم.
لكن لكل هبة ثمنها، ومهما يكن تقدير الفلاح لهذا الفيض العظيم فقد أدرك أنه إن لم يسيطر عليه فإنه لا يروي الحقول فحسب بل إنه يرويها ويخربها. ومن أجل هذا احتفر من عهود ما قبل التاريخ تلك القنوات التي تخترق أرض مصر طولاً وعرضاً وتتقاطع فيها تقاطع خيوط الشباك، واحتبس فيها المياه الزائدة حتى إذا ما انخفضت مياه النهر رفعها إلى الأرض في دلاء معلقة في قوائم طويلة وأنشد وهو يرفعها الأغاني التي استمع إليها النيل من خمسة آلاف من السنين. ذلك أن هؤلاء الفلاحين الذين نراهم الآن منقبضين لا يضحكون حتى في أثناء غنائهم لا يختلفون في شيء عن أجدادهم الذين عاشوا على ضفاف النهر طوال القرون الخمسة الماضية(3). وهذا الجهاز الذي يُرفع به الماء، والذي لا نزال نشاهده الآن، قديم قدم الأهرام نفسها، ولا يزال مليون من هؤلاء الفلاحين يتكلمون
صفحة رقم : 246
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
اللغة المنقوشة على الآثار القديمة رغم انتشار اللغة العربية في كافة أنحاء البلاد .
وفي أرض الوجه البحري، وعلى بعد خمسين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من الإسكندرية، موقع مدينة نقراطيس القديمة التي كانت في يوم من الأيام مدينة صناعية عظيمة يسكنها اليونان المجدُّون. وعلى بعد ثلاثين ميلاً إلى شرق هذه المدينة موقع ساو "سايس أوْ صا الحجر" التي بعثت فيها الحضارة القومية المصرية آخر مرة في القرون التي سبقت الفتح الفارسي والفتح اليوناني. وعلى بعد مائة وتسعة وعشرين ميلاً في جنوب الإسكندرية الشرقي تقع مدينة القاهرة. والقاهرة مدينة جميلة ولكنها ليست مصرية خالصة، فقد شادها الفاتحون المسلمون في عام 968 بعد الميلاد. ثم أقام الفرنسيون المرحون في قلب الصحراء باريس أخرى دخيلة غير حقيقية، على السائح أن يجتازها في سيارة أو عربة تجرها الجياد، إذا أراد أن يجتازها على مهل، ليشاهد مصر القديمة عند الأهرام.
ولشد ما تبدو هذه الأهرام صغيرة الحجم حين ينظر الإنسان إليها من الطريق الطويل المؤدي إليها؛ فهل قطعنا نحن هذه الرحلة الطويلة لنرى هذه الآثار الصغيرة؟ ولكنها لا تلبث أن يزداد حجمها كأن يداً قد رفعتها في الهواء. ونصل إلى منحنى في الطريق، ونقبل فجأة على حافة الصحراء، تواجهنا الأهرام عارية منعزلة في الرمال، ضخمة شاهقة تسمو قممها في سماء مصر الصافية. ونبصر عند سفوحها خليطا من أجناس مختلفة- منهم رجال أشداء يركبون الحمير ذاهبين بها إلى أعمالهم، ومنهم سيدات في عربات النقل، ومنهم شبان مرحون على ظهور الخيل، وفتيات يجلسن في غير اطمئنان على ظهور الجمال تلتمع ثيابهن الحريرية
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
أجزائها أزقة وطرقات غير مرصوفة، وأمواجاً من الحرارة ترقص في الهواء، وعمالاً عرايا إلى أوساطهم يكدحون في مختلف الأعمال، ونساء ذوات مآزر سود يحملن الأثقال، وشيوخاً عليهم جلابيب بيض فاخرة وعمائم تكسوهم المهابة والوقار. وتقع العين من بعيد على ميادين فسيحة وقصور فخمة لا تقل جمالاً عما شاده فيها البطالمة حين كانت الإسكندرية ملتقى العالم كله. ثم لا يلبث الإنسان أن يرى نفسه فجاءة في الريف ويرى المدينة من ورائه تتراجع إلى أفق دال النهر الخصيبة، وهي ذلك المثلث الخضر الذي يبدو في المصورات كجريد النخلة السامقة محمولاً على جذع نهر النيل الرفيع.
وما من شك في أن هذه الدال كانت في يوم من الأيام خليجاً في البحر؛ طمره النهر الواسع طمراً بطيئاً لا تدركه العين بما ألقاه فيه من الغرين الذي حمله معه آلاف الأميال . وفي هذا الركن الطيني الصغير الذي يحيط به مصبّا النهر العظيم يخرج ستة ملايين من الفلاحين قطنا يصدرون منه إلى خارج بلادهم ما قيمته مائة ألف ريال في كل عام. وفي ذلك الصقع من أصقاع العالم يجري أعظم نهر من أنهار الأرض وأوسعها ذكراً، تسطع الشمس على مياهه البرّاقة الهادئة وتكتنفه من جانبيه أشجار النخل الرفيعة السامقة والحشائش والحقول الناضرة. وليس في وسع المسافر أن يرى الصحراء الغربية من مجرى النهر العظيم أو الوديان الجافة التي كانت من قبل روافد له. ولا تستطيع في هذه المرحلة أن تدرك ضيق أرض مصر الشديد، واعتمادها التام على أرض النيل، وما يحيط بها على الجانبين من رمال سافية تناصبها العداء.
ويمر القطار الآن وسط السهل الرسوبي المغطى بعضه بالماء، والذي تخترقه قنوات الري في كل مكان، وينتشر فيه الفلاحون يجدّون ويكدحون وليس عليهم
صفحة رقم : 245
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
إلا القليل من الثياب. والنهر يفيض في كل عام ويبدأ فيضانه وقت الانقلاب الصيفي ويدوم نحو مائة يوم. وماء الفيضان هو الذي أخصب الصحراء، وأوجد مصر " هبة النيل " كما سماها هيرودوت. ومن اليسير على الإنسان أن يدرك لِمَ وجدتْ الحضارة في هذا الوادي موطناً من أقدم مواطنها. ذلك أننا لا نجد في أي بلاد أخرى في العالم نهراً مثل نهر النيل سخياً بمائه، يعلو بقدر، ويسهل التحكم فيه، وليس في وسع بلاد أخرى أن تضارع مصر في هذا إلا أرض الجزيرة. ولقد ظل زرَّاع مصر آلاف السنين يرقبون فيض النيل بقلوب واجفة، ولا يزال المنادون إلى يومنا هذا في أيام الفيضان يعلنون أنباءه في كل صباح في شوارع القاهرة. وهكذا ينحدر الماضي إلى المستقبل انحدار هذا النهر الهادئ الدائم الجريان ماراً في طريقه بالحاضر مراً خفيفاً. إن تقسيم الأيام إلى ماض وحاضر ومستقبل عمل من صنع المؤرخين، أما الزمن فلا يعرف هذا التقسيم.
لكن لكل هبة ثمنها، ومهما يكن تقدير الفلاح لهذا الفيض العظيم فقد أدرك أنه إن لم يسيطر عليه فإنه لا يروي الحقول فحسب بل إنه يرويها ويخربها. ومن أجل هذا احتفر من عهود ما قبل التاريخ تلك القنوات التي تخترق أرض مصر طولاً وعرضاً وتتقاطع فيها تقاطع خيوط الشباك، واحتبس فيها المياه الزائدة حتى إذا ما انخفضت مياه النهر رفعها إلى الأرض في دلاء معلقة في قوائم طويلة وأنشد وهو يرفعها الأغاني التي استمع إليها النيل من خمسة آلاف من السنين. ذلك أن هؤلاء الفلاحين الذين نراهم الآن منقبضين لا يضحكون حتى في أثناء غنائهم لا يختلفون في شيء عن أجدادهم الذين عاشوا على ضفاف النهر طوال القرون الخمسة الماضية(3). وهذا الجهاز الذي يُرفع به الماء، والذي لا نزال نشاهده الآن، قديم قدم الأهرام نفسها، ولا يزال مليون من هؤلاء الفلاحين يتكلمون
صفحة رقم : 246
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
اللغة المنقوشة على الآثار القديمة رغم انتشار اللغة العربية في كافة أنحاء البلاد .
وفي أرض الوجه البحري، وعلى بعد خمسين ميلاً إلى الجنوب الشرقي من الإسكندرية، موقع مدينة نقراطيس القديمة التي كانت في يوم من الأيام مدينة صناعية عظيمة يسكنها اليونان المجدُّون. وعلى بعد ثلاثين ميلاً إلى شرق هذه المدينة موقع ساو "سايس أوْ صا الحجر" التي بعثت فيها الحضارة القومية المصرية آخر مرة في القرون التي سبقت الفتح الفارسي والفتح اليوناني. وعلى بعد مائة وتسعة وعشرين ميلاً في جنوب الإسكندرية الشرقي تقع مدينة القاهرة. والقاهرة مدينة جميلة ولكنها ليست مصرية خالصة، فقد شادها الفاتحون المسلمون في عام 968 بعد الميلاد. ثم أقام الفرنسيون المرحون في قلب الصحراء باريس أخرى دخيلة غير حقيقية، على السائح أن يجتازها في سيارة أو عربة تجرها الجياد، إذا أراد أن يجتازها على مهل، ليشاهد مصر القديمة عند الأهرام.
ولشد ما تبدو هذه الأهرام صغيرة الحجم حين ينظر الإنسان إليها من الطريق الطويل المؤدي إليها؛ فهل قطعنا نحن هذه الرحلة الطويلة لنرى هذه الآثار الصغيرة؟ ولكنها لا تلبث أن يزداد حجمها كأن يداً قد رفعتها في الهواء. ونصل إلى منحنى في الطريق، ونقبل فجأة على حافة الصحراء، تواجهنا الأهرام عارية منعزلة في الرمال، ضخمة شاهقة تسمو قممها في سماء مصر الصافية. ونبصر عند سفوحها خليطا من أجناس مختلفة- منهم رجال أشداء يركبون الحمير ذاهبين بها إلى أعمالهم، ومنهم سيدات في عربات النقل، ومنهم شبان مرحون على ظهور الخيل، وفتيات يجلسن في غير اطمئنان على ظهور الجمال تلتمع ثيابهن الحريرية
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 247
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
فوق سيقانهن في ضوء الشمس. ونرى في كل مكان الأدلاء العرب على استعداد لمعونة القادمين وتأدية ما يلزمهم من خدمات. ونقف حيث وقف قيصر ونابليون، ونذكر أن خمسين قرناً تطل علينا، نقف حيث جاء أبو التاريخ قبل أن يجيء قيصر بأربعمائة عام، واستمع إلى القصص التي دهش منها بركليز. ثم يسقط من الصورة عامل الزمن فيبدو لنا قيصر وهيرودوت ونحن أيضا كأننا كلنا يعاصر قديمنا حديثنا، ونقف ذاهلين أمام هذه المقابر التي كانت أقدم إلى قيصر وهيرودوت من اليونان بالنسبة إلينا.
وإلى جوار الأهرام يربض تمثال أبي الهول، نصفه أسد ونصفه فيلسوف، يقبض بمخالبه القوية على الرمال، ويحدق بعينيه وهو ساكن لا يتحرك في الزائرين العابرين وفي السهل الأزلي. إنه لتمثال ينتهي فيه جسم الأسد برأس إنسان له فكّان بارزان، وعينان قاسيتان، كأن المدينة التي صورته "2990 ق.م" لم تنس ما كان عليه الإنسان من وحشية في سابق عهده. وكانت الرمال تغطيه في الزمن القديم، ولذلك لا يذكر هيرودوت كلمة واحدة عنه وهو الذي أبصر بعينيه أشياء كثيرة لا وجود لها في تلك البلاد.
ألا ما أعظم ما كان يتمتع به أولئك المصريون الأقدمون من ثراء. وما أقوى سلطانهم وأعظم حذقهم في طفولة التاريخ نفسها. لقد استطاعوا بثرائهم وقوتهم وحذقهم أن ينقلوا هذه الحجارة الضخمة ستمائة ميل أو أكثر وأن يرفعوها، وهي تزن عدة أطنان إلى علو خمسمائة قدم وأن يطعموا المائة ألف من العمال الذين ظلوا يكدحون عشرين عاماً كاملة في تشييد هذه الأهرام إذا لم يكونوا قد أدوا لهم أجورهم على عملهم هذا! وقد احتفظ لنا هيرودوت بنقش وجده على هرم منها يسجل مقدار ما استهلكه العمال الذين شادوه من فجل وثوم وبصل، كأن
صفحة رقم : 248
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
هذه الأشياء أيضا لابد أن تخلد . على أننا نغادر هذا المكان في غير بهجة، ذلك أنا نرى في هذا الحرص الشديد على الضخامة شيئاً من النزعة الهمجية البدائية أو النزعة الهمجية الحديثة. إن ذاكرة من يشاهدها وخياله وقد تضخما بفعل التاريخ وتأثيره، هما اللذان يخلعان العظمة على هذه الآثار. أما هي في ذاتها فلا تعدو أن تكون دليلاً على غرور الباطن؛ فهذه مقابر أراد بها الموتى حياة خالدة. ولعل الصور قد رفعت كثيراً من شأنها؛ ذلك أن الصور الشمسية تستطيع أن تسجل كل شيء عدا الأقذار، وأن تعظم من شأن أعمال الإنسان بما تحيطها به من مناظر الأرض والسماء. إن منظر غروب الشمس في الجيزة لأعظم في نظرنا من رؤية الأهرام.
صفحة رقم : 249
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
2- مشرعة النهر
منف - روائع الملكة حتشبسوت - تمثالا ممنون -
الأقصر والكرنك - عظمة الحضارة المصرية
يركب المسافر من القاهرة باخرة صغيرة تصعد في النهر- أي تسير فيه جنوباً- سيراً بطيئاً يستمر ستة أيام تصل بعدها إلى الكرنك والأقصر وتمر على بعد ثلاثين ميلاً إلى جنوب القاهرة بموقع منف أقدم العواصم المصرية. في هذه المدينة كان يحكم الملوك العظام ملوك الأسرتين الثالثة والرابعة، وقد بلغ عامرها في أيامهم مليونين من الأنفس. والآن لا ترى العين فيها إلا صفاً من الأهرام الصغيرة وأيكة من النخل؛ أما ما عدا هذا فهو صحراء لا آخر لها، ورمال جرداء تغوص فيها الأقدام وتؤذي بوهجها الأعين وتسد مسام الجلد، وتغطي كل شيء، وتمتد من مراكش مخترقة طور سيناء وبلاد العرب والتركستان والتبت إلى
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
فوق سيقانهن في ضوء الشمس. ونرى في كل مكان الأدلاء العرب على استعداد لمعونة القادمين وتأدية ما يلزمهم من خدمات. ونقف حيث وقف قيصر ونابليون، ونذكر أن خمسين قرناً تطل علينا، نقف حيث جاء أبو التاريخ قبل أن يجيء قيصر بأربعمائة عام، واستمع إلى القصص التي دهش منها بركليز. ثم يسقط من الصورة عامل الزمن فيبدو لنا قيصر وهيرودوت ونحن أيضا كأننا كلنا يعاصر قديمنا حديثنا، ونقف ذاهلين أمام هذه المقابر التي كانت أقدم إلى قيصر وهيرودوت من اليونان بالنسبة إلينا.
وإلى جوار الأهرام يربض تمثال أبي الهول، نصفه أسد ونصفه فيلسوف، يقبض بمخالبه القوية على الرمال، ويحدق بعينيه وهو ساكن لا يتحرك في الزائرين العابرين وفي السهل الأزلي. إنه لتمثال ينتهي فيه جسم الأسد برأس إنسان له فكّان بارزان، وعينان قاسيتان، كأن المدينة التي صورته "2990 ق.م" لم تنس ما كان عليه الإنسان من وحشية في سابق عهده. وكانت الرمال تغطيه في الزمن القديم، ولذلك لا يذكر هيرودوت كلمة واحدة عنه وهو الذي أبصر بعينيه أشياء كثيرة لا وجود لها في تلك البلاد.
ألا ما أعظم ما كان يتمتع به أولئك المصريون الأقدمون من ثراء. وما أقوى سلطانهم وأعظم حذقهم في طفولة التاريخ نفسها. لقد استطاعوا بثرائهم وقوتهم وحذقهم أن ينقلوا هذه الحجارة الضخمة ستمائة ميل أو أكثر وأن يرفعوها، وهي تزن عدة أطنان إلى علو خمسمائة قدم وأن يطعموا المائة ألف من العمال الذين ظلوا يكدحون عشرين عاماً كاملة في تشييد هذه الأهرام إذا لم يكونوا قد أدوا لهم أجورهم على عملهم هذا! وقد احتفظ لنا هيرودوت بنقش وجده على هرم منها يسجل مقدار ما استهلكه العمال الذين شادوه من فجل وثوم وبصل، كأن
صفحة رقم : 248
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> في الوجه البحري
هذه الأشياء أيضا لابد أن تخلد . على أننا نغادر هذا المكان في غير بهجة، ذلك أنا نرى في هذا الحرص الشديد على الضخامة شيئاً من النزعة الهمجية البدائية أو النزعة الهمجية الحديثة. إن ذاكرة من يشاهدها وخياله وقد تضخما بفعل التاريخ وتأثيره، هما اللذان يخلعان العظمة على هذه الآثار. أما هي في ذاتها فلا تعدو أن تكون دليلاً على غرور الباطن؛ فهذه مقابر أراد بها الموتى حياة خالدة. ولعل الصور قد رفعت كثيراً من شأنها؛ ذلك أن الصور الشمسية تستطيع أن تسجل كل شيء عدا الأقذار، وأن تعظم من شأن أعمال الإنسان بما تحيطها به من مناظر الأرض والسماء. إن منظر غروب الشمس في الجيزة لأعظم في نظرنا من رؤية الأهرام.
صفحة رقم : 249
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
2- مشرعة النهر
منف - روائع الملكة حتشبسوت - تمثالا ممنون -
الأقصر والكرنك - عظمة الحضارة المصرية
يركب المسافر من القاهرة باخرة صغيرة تصعد في النهر- أي تسير فيه جنوباً- سيراً بطيئاً يستمر ستة أيام تصل بعدها إلى الكرنك والأقصر وتمر على بعد ثلاثين ميلاً إلى جنوب القاهرة بموقع منف أقدم العواصم المصرية. في هذه المدينة كان يحكم الملوك العظام ملوك الأسرتين الثالثة والرابعة، وقد بلغ عامرها في أيامهم مليونين من الأنفس. والآن لا ترى العين فيها إلا صفاً من الأهرام الصغيرة وأيكة من النخل؛ أما ما عدا هذا فهو صحراء لا آخر لها، ورمال جرداء تغوص فيها الأقدام وتؤذي بوهجها الأعين وتسد مسام الجلد، وتغطي كل شيء، وتمتد من مراكش مخترقة طور سيناء وبلاد العرب والتركستان والتبت إلى
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 250
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
بلاد المغول وفي هذه المنطقة الرملية التي تخترق قارتين من أكبر قارات العالم قامت مراكز الحضارة في الزمن القديم، ثم عفت آثارها حين ارتد الجليد إلى الوراء فاشتدت الحرارة وقلت الأمطار. ويمتد بحَذاء النيل من البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد النوبة شريط ضيق من الأرض الخصبة يبلغ عرضه اثني عشر ميلاً على كلتا الضفتين انتزع من الصحراء. وهذا هو الخيط الذي كانت تتعلق به حياة مصر. ومع هذا فما أقصر ما تبدو حياة اليونان أو روما بالقياس إلى السجل الحافل في حياة مصر الذي يمتد من مينا إلى كليوباترا!
وبعد أسبوع من بداية الرحلة تصل الباخرة النيلية إلى الأقصر؛ وفي هذا المكان الذي تقوم فيه قرى صغيرة من حولها الرمال السافية شيدت أكبر العواصم المصرية وأغنى مدينة في العالم القديم، كانت معروفة عند اليونان باسم طيبة وعند أهلها باسم ويزى، ونى. وعلى الضفة الشرقية لنهر النيل يقوم الآن الفندق المعروف بقصر الشتاء "ونتر بالاس" يتوهج سياجه بزهر الجهنمية فإذا أطل المسافر على الضفة الغربية رأى الشمس تغرب من وراء مقابر الملوك في بحر من الرمال، ورأى السماء مزدانة بصفحات براقة ما بين أرجوانية وذهبية، وتسطع في الغرب من بعيد أعمدة هيكل الملكة حتشبسوت الفخم، إذا نظر إليه القادم من بلاد الغرب ظنه بهو أعمدة شاده اليونان أو الرومان الأقدمون.
فإذا أصبح الصباح ركب السائح قارباً بطيئاً يعبر به النهر فوق ماء هادئ ساكن، فلا يخطر بباله أن هذا النهر بعينه ظل يجري على هذا المنوال قروناً يخطئها الحصر. فإذا عبر النهر إلى الضفة الغربية سار في الصحراء ميلاً بعد ميل في طرق جبلية متربة، ماراً بقبور تاريخية قديمة حتى يصل إلى تلك الآية الفنية الرائعة، وأعني بها هيكل الملكة حتشبسوت العظيمة، الذي ترتفع عمدُهُ البيضُ
صفحة رقم : 251
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
الساكنة في وهج السماء الصافية. وهنا اعتزم الفنان أن يحيل الطبيعة وتلالها إلى جمال أعظم من جمالها، فشاد في مواجهة أجراف الحجر الأعبل هذه العمَد التي لا تقل فخامة عن العمد التي أقامها أكتينوس لبركليز. وليس في وسع من يشاهدها أن يخالجه شك في أن اليونان قد أخذوا فنون عمارتهم عن هذا الشعب المبدع المبتكر، ولعلهم أخذوها منه عن طريق جزيرة كريت. وعلى جدران هذا المعبد نقوش غائرة تنبض بالحياة والحركة والفكر وتقص قصة أولى نساء التاريخ العظيمات وملكة ليست أقل ملكاته شأناً.
ويشاهد المرء في طريقه وهو راجع تمثالين كبيرين يمثلان أعظم ملوك مصر تنعماً، وهو الملك أمنحوتب الثالث، ويسميهما الرحالة اليونان خطأ " تمثالي ممنون ". ويبلغ ارتفاع الواحد منهما سبعين قدماً، ويزن سبعمائة طن وهو منحوت من كتلة حجرية واحدة. وعلى قاعدة أحدهما نقش خطته يد السياح اليونان الذين زاروا هذه الآثار منذ ألفي عام. وهنا أيضا تتضاءل الدهور تضائلاً غريباً ويبدو هؤلاء اليونان في حضرة هذين التمثالين العظيمين معاصرين لنا نحن. وعلى بعد ميل منهما جهة الشمال آثار حجرية من عهد رمسيس الثاني، وهو شخصية من أروع الشخصيات في التاريخ، ويبدو الإسكندر الأكبر إلى جانبه إنساناً لا قيمة له ولا خطر. لقد عاش هذا الملك تسعة وتسعين عاماً جلس منهما على عرش مصر سبعة وستين، وأنجب من الأبناء مائة وخمسين. وتراه هنا تمثالاً كان ارتفاعه في يوم من الأيام ستا وخمسين قدماً، أما الآن فيمتد على الأرض بين الرمال ستاً وخمسين يسخر منه الغادون والرائحون. وقد حرص علماء نابليون على قياس كل جارحة فيه فقدروا طول أذنه بنصف قدم وعرض قدمه بخمس أقدام وقدروا وزنه بألف طن. وكان حقاً على نابليون أن يحييه بما حيّا به الفيلسوف جوته فيما بعد إذ قال : "هاهو ذا الرجل!".
ومن حولنا في هذا المكان على شاطئ النيل الغربي مدينة الموتى حيث
صفحة رقم : 252
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
كشف علماء الآثار المصرية المنقبون في كل ناحية من نواحيها قبراً لملك من الملوك. ولقد كان قبر توت عنخ آمون في أثناء زيارتي مغلقاً، مغلقاً حتى في وجه من كان يظنون أن الذهب تفتح له جميع الأبواب.
أما قبر سيتي الأول فمفتوح، وهنا في الأرض الظليلة المائلة إلى البرودة يستطيع السائح أن يبصر سقفاً وطرقات منقوشة ويعجب بما كان للصناع في ذلك العهد من مهارة، وما كان في البلاد من ثروة استطاعت بهما أن تنشئ أمثال هذه التوابيت الضخمة، وأن تحيطها بهذا الفن الرائع. ولقد شاهد المنقبون في أحد هذه المقابر آثار أقدام العبيد الذين حملوا جثة الملك المحنطة ليودعوها مقرها الأخير منذ ثلاثة آلاف عام(6).
وهذا ما يشاهده السائح على الضفة الغربية. أما الضفة الشرقية فهي مزدانة بأحسن الآثار وأجملها: ففي الأقصر القائمة على هذه الضفة بدأ أمنحوتب العظيم يقيم صرحه الضخم مستعيناً بالمغانم التي أفاءتها على مصر فتوح تحتمس الثالث. ولكن المنية عاجلته قبل أن يتمه، فوقف العمل مائة عام كاملة حتى جاء رمسيس الثاني وأتمه بما يليق بالملوك من أبهة. ولا يكاد المرء ينظر إلى هذا البناء حتى تغمره روح فن العمارة المصرية التي لا تقتصر مزاياها على السعة والقوة بل تجمع إليهما الجمال الرائع ودلائل الرجولة السامية. لقد كان في هذا الصرح بهو عظيم فسيح الأرجاء تغطيه الآن الرمال، ولكن أرضه في الأيام الخالية كانت كلها من الرخام، وتقوم على ثلاثة من جوانبه عمَد فخمة لا تضارعها إلا عمد الكرنك وحدها. وفي كل جهة حجارة عليها نقوش غائرة وتماثيل تنم عن العظمة حتى بعد أن عدت عليها عوادي الزمان فليتمثل القارئ ثمانية أعواد طويلة من أعواد البردي- مهد الكتابة ولكنه هنا طراز من طرز الفن؛ ومن تحت أزهارها التي لا تزال في أكمامها خمسة أربطة قوية تشد هذه الأعواد فتجمع بين
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
بلاد المغول وفي هذه المنطقة الرملية التي تخترق قارتين من أكبر قارات العالم قامت مراكز الحضارة في الزمن القديم، ثم عفت آثارها حين ارتد الجليد إلى الوراء فاشتدت الحرارة وقلت الأمطار. ويمتد بحَذاء النيل من البحر الأبيض المتوسط إلى بلاد النوبة شريط ضيق من الأرض الخصبة يبلغ عرضه اثني عشر ميلاً على كلتا الضفتين انتزع من الصحراء. وهذا هو الخيط الذي كانت تتعلق به حياة مصر. ومع هذا فما أقصر ما تبدو حياة اليونان أو روما بالقياس إلى السجل الحافل في حياة مصر الذي يمتد من مينا إلى كليوباترا!
وبعد أسبوع من بداية الرحلة تصل الباخرة النيلية إلى الأقصر؛ وفي هذا المكان الذي تقوم فيه قرى صغيرة من حولها الرمال السافية شيدت أكبر العواصم المصرية وأغنى مدينة في العالم القديم، كانت معروفة عند اليونان باسم طيبة وعند أهلها باسم ويزى، ونى. وعلى الضفة الشرقية لنهر النيل يقوم الآن الفندق المعروف بقصر الشتاء "ونتر بالاس" يتوهج سياجه بزهر الجهنمية فإذا أطل المسافر على الضفة الغربية رأى الشمس تغرب من وراء مقابر الملوك في بحر من الرمال، ورأى السماء مزدانة بصفحات براقة ما بين أرجوانية وذهبية، وتسطع في الغرب من بعيد أعمدة هيكل الملكة حتشبسوت الفخم، إذا نظر إليه القادم من بلاد الغرب ظنه بهو أعمدة شاده اليونان أو الرومان الأقدمون.
فإذا أصبح الصباح ركب السائح قارباً بطيئاً يعبر به النهر فوق ماء هادئ ساكن، فلا يخطر بباله أن هذا النهر بعينه ظل يجري على هذا المنوال قروناً يخطئها الحصر. فإذا عبر النهر إلى الضفة الغربية سار في الصحراء ميلاً بعد ميل في طرق جبلية متربة، ماراً بقبور تاريخية قديمة حتى يصل إلى تلك الآية الفنية الرائعة، وأعني بها هيكل الملكة حتشبسوت العظيمة، الذي ترتفع عمدُهُ البيضُ
صفحة رقم : 251
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
الساكنة في وهج السماء الصافية. وهنا اعتزم الفنان أن يحيل الطبيعة وتلالها إلى جمال أعظم من جمالها، فشاد في مواجهة أجراف الحجر الأعبل هذه العمَد التي لا تقل فخامة عن العمد التي أقامها أكتينوس لبركليز. وليس في وسع من يشاهدها أن يخالجه شك في أن اليونان قد أخذوا فنون عمارتهم عن هذا الشعب المبدع المبتكر، ولعلهم أخذوها منه عن طريق جزيرة كريت. وعلى جدران هذا المعبد نقوش غائرة تنبض بالحياة والحركة والفكر وتقص قصة أولى نساء التاريخ العظيمات وملكة ليست أقل ملكاته شأناً.
ويشاهد المرء في طريقه وهو راجع تمثالين كبيرين يمثلان أعظم ملوك مصر تنعماً، وهو الملك أمنحوتب الثالث، ويسميهما الرحالة اليونان خطأ " تمثالي ممنون ". ويبلغ ارتفاع الواحد منهما سبعين قدماً، ويزن سبعمائة طن وهو منحوت من كتلة حجرية واحدة. وعلى قاعدة أحدهما نقش خطته يد السياح اليونان الذين زاروا هذه الآثار منذ ألفي عام. وهنا أيضا تتضاءل الدهور تضائلاً غريباً ويبدو هؤلاء اليونان في حضرة هذين التمثالين العظيمين معاصرين لنا نحن. وعلى بعد ميل منهما جهة الشمال آثار حجرية من عهد رمسيس الثاني، وهو شخصية من أروع الشخصيات في التاريخ، ويبدو الإسكندر الأكبر إلى جانبه إنساناً لا قيمة له ولا خطر. لقد عاش هذا الملك تسعة وتسعين عاماً جلس منهما على عرش مصر سبعة وستين، وأنجب من الأبناء مائة وخمسين. وتراه هنا تمثالاً كان ارتفاعه في يوم من الأيام ستا وخمسين قدماً، أما الآن فيمتد على الأرض بين الرمال ستاً وخمسين يسخر منه الغادون والرائحون. وقد حرص علماء نابليون على قياس كل جارحة فيه فقدروا طول أذنه بنصف قدم وعرض قدمه بخمس أقدام وقدروا وزنه بألف طن. وكان حقاً على نابليون أن يحييه بما حيّا به الفيلسوف جوته فيما بعد إذ قال : "هاهو ذا الرجل!".
ومن حولنا في هذا المكان على شاطئ النيل الغربي مدينة الموتى حيث
صفحة رقم : 252
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
كشف علماء الآثار المصرية المنقبون في كل ناحية من نواحيها قبراً لملك من الملوك. ولقد كان قبر توت عنخ آمون في أثناء زيارتي مغلقاً، مغلقاً حتى في وجه من كان يظنون أن الذهب تفتح له جميع الأبواب.
أما قبر سيتي الأول فمفتوح، وهنا في الأرض الظليلة المائلة إلى البرودة يستطيع السائح أن يبصر سقفاً وطرقات منقوشة ويعجب بما كان للصناع في ذلك العهد من مهارة، وما كان في البلاد من ثروة استطاعت بهما أن تنشئ أمثال هذه التوابيت الضخمة، وأن تحيطها بهذا الفن الرائع. ولقد شاهد المنقبون في أحد هذه المقابر آثار أقدام العبيد الذين حملوا جثة الملك المحنطة ليودعوها مقرها الأخير منذ ثلاثة آلاف عام(6).
وهذا ما يشاهده السائح على الضفة الغربية. أما الضفة الشرقية فهي مزدانة بأحسن الآثار وأجملها: ففي الأقصر القائمة على هذه الضفة بدأ أمنحوتب العظيم يقيم صرحه الضخم مستعيناً بالمغانم التي أفاءتها على مصر فتوح تحتمس الثالث. ولكن المنية عاجلته قبل أن يتمه، فوقف العمل مائة عام كاملة حتى جاء رمسيس الثاني وأتمه بما يليق بالملوك من أبهة. ولا يكاد المرء ينظر إلى هذا البناء حتى تغمره روح فن العمارة المصرية التي لا تقتصر مزاياها على السعة والقوة بل تجمع إليهما الجمال الرائع ودلائل الرجولة السامية. لقد كان في هذا الصرح بهو عظيم فسيح الأرجاء تغطيه الآن الرمال، ولكن أرضه في الأيام الخالية كانت كلها من الرخام، وتقوم على ثلاثة من جوانبه عمَد فخمة لا تضارعها إلا عمد الكرنك وحدها. وفي كل جهة حجارة عليها نقوش غائرة وتماثيل تنم عن العظمة حتى بعد أن عدت عليها عوادي الزمان فليتمثل القارئ ثمانية أعواد طويلة من أعواد البردي- مهد الكتابة ولكنه هنا طراز من طرز الفن؛ ومن تحت أزهارها التي لا تزال في أكمامها خمسة أربطة قوية تشد هذه الأعواد فتجمع بين
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 253
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
الجمال والقوة، وليتصور بعدئذ أن هذه الحزمة كلها من صخر أصم. تلك هي العمد المقامة في الأقصر على هيئة نبات البردي. وليتصور القارئ بهواً مشيداً كله من هذه العمد مرفوعة عليها دعامات ضخمة وأكنان ظليلة. ليتصورها القارئ بالصورة التي تركتها عليها عوادي ثلاثين قرناً؛ ثم ليحكم بعدئذ على أقدار الرجال الذين استطاعوا في ذلك العهد السحيق الذي كنا نسميه طفولة المدنية أن يفكروا في هذه الآثار العظيمة ثم يخرجوا أفكارهم إلى حيز الوجود.
ثم يجتاز السائح بين الأطلال القديمة والأقدار الحديثة طريقاً غير معبد يؤدي إلى هياكل الكرنك آخر ما احتفظت به مصر من آثارها لتعرضها على زائريها. وقد اشترك في تشييدها نحو خمسين من الفراعنة منذ أواخر الدولة القديمة إلى أيام البطالمة. وأخذت هذه الهياكل تنمو ويزداد عددها جيلا بعد جيل حتى غطت هذه الصروح، وهي أعظم ما قربه فن العمارة قرباناً للآلهة، ما لا يقل عن ستين فدانا من الأرض. وثمة طريق تحفه من الجانبين تماثيل لأبي الهول يؤدي من هذه
صفحة رقم : 254
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
الهياكل إلى المكان الذي وقف فيه شامبليون واضع علم الآثار المصرية القديمة في عام 1828 م وكتب:
"وجئت آخر الأمر إلى قصر أو بعبارة أصح إلى مدينة الآثار- إلى الكرنك. وفيها تبدت لي عظمة الفراعنة بأكملها، وشاهدت كل ما تصوره الناس وما أخرجوه في أكبر صورة... وما من شعب قديم أو حديث غير قدماء المصريين قد صور لنفسه فن العمارة بهذا السمو وهذه العظمة وهذه الفخامة.
لقد كانوا يفكرون كما يفكر الجبابرة الذين تبلغ قامة الواحد منهم مائة من الأقدام(7).
وليس في وسع الإنسان أن يفهم هذا البناء على حقيقته إلا إذا كانت لديه خرائط ورسوم، وكان ملماً بكل ما بلغه فن العمارة من رقي. فليتصور القارئ رقعة فسيحة مسورة مربعة الشكل طول كل ضلع من أضلاعها ثلث ميل، كثيرة الإبهاء، كانت تحتوي في وقت من الأوقات على 000ر86 تمثال(. أهم ما فيها مجموعة من المباني يتألف منها هيكل آمون وطوله ألف قدم في ثلاثمائة؛ وبين كل بهو وبهو أبواب عظيمة؛ وأعمدة النصر التي أقامها نابليون مصر تحتمس الثالث وقد تهشمت تيجانها ولكنها لا تزال تشهد بدقة النحت والتصوير؛ ثم بهو الاحتفالات ذو العمد المخددة التي شادها هذا الملك الباسل نفسه والتي تستبق كل ما في العمد الدورية المقامة في بلاد اليونان من قوة وعظمة، ثم هيكل بتاح الصغير ذو العمد التي لا تقل رشاقة عن أشجار النخيل الحية القائمة بجوارها، ثم المتنزه العظيم الذي أنشأه تحتمس أيضاً والذي يضم طائفة من العمد العارية الضخمة. وأعظم من هذا كله البهو الأكبر ذو السقف العظيم المقام على أعمدة ضخمة تبلغ عدتها مائة وأربعين، متقاربة بعضها من بعض لتقي من فيها حر الشمس اللافح وتمثل في أعلاها رؤوس النخل منحوتة في الحجارة، وتحمل سقفاً من كتل
صفحة رقم : 255
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
ضخمة من الحجارة منحوتة من الحجر الأعبل الصلب وممتدة من تاج عمود إلى تاج عمود. وبالقرب من هذه الردهة مسلتان رفيعتان كلتاهما من حجر واحد متماثلتان أتم التماثل ومتساويتان في الجمال والرشاقة، تقومان كأنهما عمودان من النور بين حيطان التماثيل والهياكل، وتذيعان بما عليهما من النقوش
رسالة الملكة الفخور حتشبسوت إلى العالم. وقد جاء في هذا النقش أن " هاتين المسلتين قد صنعتا من الحجر الأعبل الصلب الذي جيء به من محاجر الجنوب، وأن رأسيهما من الذهب الإبريز الذي اختير من أحسن ما حوته منه البلاد الأجنبية. ويمكن مشاهدتهما على النهر من بعيد ونورهما الساطع يشع في الأرضين. وإذا ما لاح قرص الشمس بينهما بدا كأنه يبزغ حقاً في أفق السماء... وأنتم يا من ترون هذين الأثرين بعد زمن طويل ويا من تتحدثون من بعدي عما فعلت، ستقولون: إنا لا ندري، لا ندري كيف أقاموا جبلاً كله من الذهب... لقد أنفقت في تهذيبهما ذهباً كنت أكيله كيلاً كأنه أكياس الحب... ذلك أني أعرف أن الكرنك أفق الأرض السماوي" (9).
صفحة رقم : 256
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
أعظم بها من ملكة وأعظم بهم من ملوك! أكبر الظن أن هذه الحضارة- أولى الحضارات العظيمة- كانت أجملها كلها، وأكبر الظن أيضا أننا لم نعدُ طور البداية في الكشف عن عظمتها. وفي جوار بحيرة الكرنك المقدسة رجال يحفرون الأرض ويحملون التراب في أسفاط صغيرة مزدوجة معلقة في عصا على الكتفين.
وإلى جانبهم عالم من علماء الآثار المصرية مكب على نقوش هيروغليفية على حجرين أخرجا من الأرض تواً، وهو واحد من آلاف الرجال أمثال كارتر، وبرستد، ومسبيرو، وبيتري، وكابار وويجال، الذين عاشوا في تلك البلاد عيشة البساطة والقناعة في حرارة الشمس اللافحة والرمال السافية يحاولون أن يحلوا لنا طلسم أبي الهول، وأن يختطفوا من بين أحضان الثرى الضنين
صفحة رقم : 257
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
فنون مصر وآدابها وتاريخها وحكمتها؛ والأرض والسماء تعاكسهم في كل يوم، والخرافات تلعنهم وتعوقهم، والرطوبة وقوى التحات تغير في كل يوم على الآثار التي يخرجونها من باطن الأرض، وهذا النيل الذي يفيض على البلاد بالخصب والنماء يتسلل في أيام فيضانه إلى خرائب الكرنك، فيفك الأعمدة ويصدعها ، ويترك عليها بعد أن ينحسر عنها طبقة من الأملاح تأكل الحجارة كما يأكل الجذام الأجسام.
والآن فلنستعرض مرة أخرى عظمة مصر ومجدها في تاريخها وحضارتها قبل أن تتصدع آثارها وتنهار بين الرمال.
صفحة رقم : 258
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> كشف مصر
الفصل الثاني
البناءون العظام
1- كشف مصر
شامبليون وحجر رشيد
إن الكشف عن تاريخ مصر لهو أروع فصل في كتاب علم الآثار. لقد كان كل ما تعرفه العصور الوسطى عن مصر أنها مستعمرة رومانية وموطن من مواطن المسيحية؛ وكان الناس في زمن النهضة يظنون أن الحضارة بدأت في بلاد اليونان، وحتى عصر الاستنارة لم يكن يعرف من مصر أبعد من الأهرام. وكان علم الآثار المصرية نتيجة ثانوية من نتائج حروب نابليون الاستعمارية. ذلك أن القائد القورسيقي العظيم، لما قاد الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798م، اصطحب معه طائفة من الرسامين والمهندسين ليرتادوا الأرض ويرسموها، وشملت هذه الحملة أيضا بعض العلماء الذين كانوا يهتمون بمصر اهتماما يظنه الناس سخيفاً في تلك الأيام، ويسعون لفهم التاريخ فهما أوفى وأفضل مما كان يفهمه المؤرخون وقتئذ. وكانت هذه العصبة من الرجال هي التي كشفت للعالم الحديث هياكل الأقصر والكرنك، كما كان كتاب "وصف مصر" المحكم المفصل (1809- 1813م) الذي أعدوه للمجمع العلمي الفرنسي أول خطوة هامة خطاها العلماء في دراسة هذه الحضارة المنسية(10).
على أن هؤلاء العلماء ظلوا سنين طوال عاجزين عن قراءة النقوش الباقية على الآثار المصرية. وليس ما بذله شامبليون أحد هؤلاء العلماء من جد وصبر أن
صفحة رقم : 259
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> كشف مصر
حل رموز الكتابة الهيروغليفية إلا شاهداً من شواهد كثيرة على الروح العلمية التي امتاز به علماء تلك الحملة. وعثر شامبليون آخر الأمر على مسلّة مغطاة بهذه "الرموز المقدسة" مكتوبة باللغة المصرية ولكن في أسفلها نقوشاً باللغة اليونانية عرف منها أن هذه الكتابة ذات صلة ببطليموس وكليوبطرة. وخطر له أن إحدى العبارات الهيروغليفية الكثيرة التكرار والتي يحيط بها الإطار الملكي
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
الجمال والقوة، وليتصور بعدئذ أن هذه الحزمة كلها من صخر أصم. تلك هي العمد المقامة في الأقصر على هيئة نبات البردي. وليتصور القارئ بهواً مشيداً كله من هذه العمد مرفوعة عليها دعامات ضخمة وأكنان ظليلة. ليتصورها القارئ بالصورة التي تركتها عليها عوادي ثلاثين قرناً؛ ثم ليحكم بعدئذ على أقدار الرجال الذين استطاعوا في ذلك العهد السحيق الذي كنا نسميه طفولة المدنية أن يفكروا في هذه الآثار العظيمة ثم يخرجوا أفكارهم إلى حيز الوجود.
ثم يجتاز السائح بين الأطلال القديمة والأقدار الحديثة طريقاً غير معبد يؤدي إلى هياكل الكرنك آخر ما احتفظت به مصر من آثارها لتعرضها على زائريها. وقد اشترك في تشييدها نحو خمسين من الفراعنة منذ أواخر الدولة القديمة إلى أيام البطالمة. وأخذت هذه الهياكل تنمو ويزداد عددها جيلا بعد جيل حتى غطت هذه الصروح، وهي أعظم ما قربه فن العمارة قرباناً للآلهة، ما لا يقل عن ستين فدانا من الأرض. وثمة طريق تحفه من الجانبين تماثيل لأبي الهول يؤدي من هذه
صفحة رقم : 254
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
الهياكل إلى المكان الذي وقف فيه شامبليون واضع علم الآثار المصرية القديمة في عام 1828 م وكتب:
"وجئت آخر الأمر إلى قصر أو بعبارة أصح إلى مدينة الآثار- إلى الكرنك. وفيها تبدت لي عظمة الفراعنة بأكملها، وشاهدت كل ما تصوره الناس وما أخرجوه في أكبر صورة... وما من شعب قديم أو حديث غير قدماء المصريين قد صور لنفسه فن العمارة بهذا السمو وهذه العظمة وهذه الفخامة.
لقد كانوا يفكرون كما يفكر الجبابرة الذين تبلغ قامة الواحد منهم مائة من الأقدام(7).
وليس في وسع الإنسان أن يفهم هذا البناء على حقيقته إلا إذا كانت لديه خرائط ورسوم، وكان ملماً بكل ما بلغه فن العمارة من رقي. فليتصور القارئ رقعة فسيحة مسورة مربعة الشكل طول كل ضلع من أضلاعها ثلث ميل، كثيرة الإبهاء، كانت تحتوي في وقت من الأوقات على 000ر86 تمثال(. أهم ما فيها مجموعة من المباني يتألف منها هيكل آمون وطوله ألف قدم في ثلاثمائة؛ وبين كل بهو وبهو أبواب عظيمة؛ وأعمدة النصر التي أقامها نابليون مصر تحتمس الثالث وقد تهشمت تيجانها ولكنها لا تزال تشهد بدقة النحت والتصوير؛ ثم بهو الاحتفالات ذو العمد المخددة التي شادها هذا الملك الباسل نفسه والتي تستبق كل ما في العمد الدورية المقامة في بلاد اليونان من قوة وعظمة، ثم هيكل بتاح الصغير ذو العمد التي لا تقل رشاقة عن أشجار النخيل الحية القائمة بجوارها، ثم المتنزه العظيم الذي أنشأه تحتمس أيضاً والذي يضم طائفة من العمد العارية الضخمة. وأعظم من هذا كله البهو الأكبر ذو السقف العظيم المقام على أعمدة ضخمة تبلغ عدتها مائة وأربعين، متقاربة بعضها من بعض لتقي من فيها حر الشمس اللافح وتمثل في أعلاها رؤوس النخل منحوتة في الحجارة، وتحمل سقفاً من كتل
صفحة رقم : 255
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
ضخمة من الحجارة منحوتة من الحجر الأعبل الصلب وممتدة من تاج عمود إلى تاج عمود. وبالقرب من هذه الردهة مسلتان رفيعتان كلتاهما من حجر واحد متماثلتان أتم التماثل ومتساويتان في الجمال والرشاقة، تقومان كأنهما عمودان من النور بين حيطان التماثيل والهياكل، وتذيعان بما عليهما من النقوش
رسالة الملكة الفخور حتشبسوت إلى العالم. وقد جاء في هذا النقش أن " هاتين المسلتين قد صنعتا من الحجر الأعبل الصلب الذي جيء به من محاجر الجنوب، وأن رأسيهما من الذهب الإبريز الذي اختير من أحسن ما حوته منه البلاد الأجنبية. ويمكن مشاهدتهما على النهر من بعيد ونورهما الساطع يشع في الأرضين. وإذا ما لاح قرص الشمس بينهما بدا كأنه يبزغ حقاً في أفق السماء... وأنتم يا من ترون هذين الأثرين بعد زمن طويل ويا من تتحدثون من بعدي عما فعلت، ستقولون: إنا لا ندري، لا ندري كيف أقاموا جبلاً كله من الذهب... لقد أنفقت في تهذيبهما ذهباً كنت أكيله كيلاً كأنه أكياس الحب... ذلك أني أعرف أن الكرنك أفق الأرض السماوي" (9).
صفحة رقم : 256
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
أعظم بها من ملكة وأعظم بهم من ملوك! أكبر الظن أن هذه الحضارة- أولى الحضارات العظيمة- كانت أجملها كلها، وأكبر الظن أيضا أننا لم نعدُ طور البداية في الكشف عن عظمتها. وفي جوار بحيرة الكرنك المقدسة رجال يحفرون الأرض ويحملون التراب في أسفاط صغيرة مزدوجة معلقة في عصا على الكتفين.
وإلى جانبهم عالم من علماء الآثار المصرية مكب على نقوش هيروغليفية على حجرين أخرجا من الأرض تواً، وهو واحد من آلاف الرجال أمثال كارتر، وبرستد، ومسبيرو، وبيتري، وكابار وويجال، الذين عاشوا في تلك البلاد عيشة البساطة والقناعة في حرارة الشمس اللافحة والرمال السافية يحاولون أن يحلوا لنا طلسم أبي الهول، وأن يختطفوا من بين أحضان الثرى الضنين
صفحة رقم : 257
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> هبة النيل -> مشرعة النهر
فنون مصر وآدابها وتاريخها وحكمتها؛ والأرض والسماء تعاكسهم في كل يوم، والخرافات تلعنهم وتعوقهم، والرطوبة وقوى التحات تغير في كل يوم على الآثار التي يخرجونها من باطن الأرض، وهذا النيل الذي يفيض على البلاد بالخصب والنماء يتسلل في أيام فيضانه إلى خرائب الكرنك، فيفك الأعمدة ويصدعها ، ويترك عليها بعد أن ينحسر عنها طبقة من الأملاح تأكل الحجارة كما يأكل الجذام الأجسام.
والآن فلنستعرض مرة أخرى عظمة مصر ومجدها في تاريخها وحضارتها قبل أن تتصدع آثارها وتنهار بين الرمال.
صفحة رقم : 258
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> كشف مصر
الفصل الثاني
البناءون العظام
1- كشف مصر
شامبليون وحجر رشيد
إن الكشف عن تاريخ مصر لهو أروع فصل في كتاب علم الآثار. لقد كان كل ما تعرفه العصور الوسطى عن مصر أنها مستعمرة رومانية وموطن من مواطن المسيحية؛ وكان الناس في زمن النهضة يظنون أن الحضارة بدأت في بلاد اليونان، وحتى عصر الاستنارة لم يكن يعرف من مصر أبعد من الأهرام. وكان علم الآثار المصرية نتيجة ثانوية من نتائج حروب نابليون الاستعمارية. ذلك أن القائد القورسيقي العظيم، لما قاد الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798م، اصطحب معه طائفة من الرسامين والمهندسين ليرتادوا الأرض ويرسموها، وشملت هذه الحملة أيضا بعض العلماء الذين كانوا يهتمون بمصر اهتماما يظنه الناس سخيفاً في تلك الأيام، ويسعون لفهم التاريخ فهما أوفى وأفضل مما كان يفهمه المؤرخون وقتئذ. وكانت هذه العصبة من الرجال هي التي كشفت للعالم الحديث هياكل الأقصر والكرنك، كما كان كتاب "وصف مصر" المحكم المفصل (1809- 1813م) الذي أعدوه للمجمع العلمي الفرنسي أول خطوة هامة خطاها العلماء في دراسة هذه الحضارة المنسية(10).
على أن هؤلاء العلماء ظلوا سنين طوال عاجزين عن قراءة النقوش الباقية على الآثار المصرية. وليس ما بذله شامبليون أحد هؤلاء العلماء من جد وصبر أن
صفحة رقم : 259
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> كشف مصر
حل رموز الكتابة الهيروغليفية إلا شاهداً من شواهد كثيرة على الروح العلمية التي امتاز به علماء تلك الحملة. وعثر شامبليون آخر الأمر على مسلّة مغطاة بهذه "الرموز المقدسة" مكتوبة باللغة المصرية ولكن في أسفلها نقوشاً باللغة اليونانية عرف منها أن هذه الكتابة ذات صلة ببطليموس وكليوبطرة. وخطر له أن إحدى العبارات الهيروغليفية الكثيرة التكرار والتي يحيط بها الإطار الملكي
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 260
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> كشف مصر
(الخرطوشي) هي اسم الملك والملكة، فَهَدَته هذه الفكرة (في عام 1822م) إلى تمييز أحد عشر حرفاً من الحروف المصرية؛ ولكن ذلك كان مجرد حدس ولم يكن يقيناً. وكان هذا الكشف أول دليل على أن مصر كانت لها حروف هجائية. ثم طبق هذه الحروف على رموز وجدها على حجر كبير أسود عثر عليه جنود نابليون قرب مصب رشيد. وكان على "حجر رشيد" هذا نقوش كتبت بثلاث لغات أولاها الهيروغليفية وثانيتها "الديموطية"- الكتابة المصرية الدارجة- والثالثة هي اليونانية. واستطاع شامبليون، بفضل علمه باللغة اليونانية وبالأحد عشر حرفاً التي عرفها من المسلة الأولى وبعد جهد متواصل دام أكثر من عشرين عاما، أن يحل رموز هذا النقش كلها وأن يعرف الحروف الهجائية المصرية بأجمعها. وأن يمهد السبيل للكشف عن عالَم عظيم مفقود. وكان هذا الكشف من أعظم الكشوف في تاريخ التاريخ .
صفحة رقم : 261
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> مصر في عصر ما قبل التاريخ
2- مصر في عصر ما قبل التاريخ
العصر الحجري القديم - العصر الحجري الحديث -
عصر البداري - عصر ما قبل الأسر - جنس المصريين
إن المتطرفين في عصر من العصور هم أنفسهم الرجعيون في العصر الذي يليه، ومصداقاً لهذه القاعدة نقول أنه لم يكن ينتظر من الرجال الذين أنشئوا عِلم الآثار المصرية أن يكونوا أول من يؤمن بأن ما في مصر من مخلفات العصر الحجري القديم ينتمي حقاً إلى ذلك العصر. ذلك أن العالِم بعد الأربعين لا يظل طلعه تياحا. ولما أن كشفت أولى أدوات الظران في وادي النيل قال سير
صفحة رقم : 262
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> مصر في عصر ما قبل التاريخ
فلندز بيتري، وهو الذي لا يتردد عادة في قبول أكبر الأرقام في تاريخ مصر، إنها من صنع ما بعد الأسر، وعزا ماسبيرو، الذي لم يفسد علمُه الغزير أسلوبه الممتع المنمق، الفخار المصري الباقي من العصر الحجري الحديث إلى الدولة الوسطى. ولكن ده مورجان كشف في عام 1895م عن سلسلة متدرجة تكاد تكون متصلة الحلقات من حضارات تنتمي إلى العصر الحجري القديم- تطابق في أكثر نواحيها الحضارات المماثلة لها والتي جـاءت في أوربا بعدها بزمن طويل. وكان ما كشفه من مخلفات هذه الحضارات المصرية رؤوس معـاول يدوية، ومطارد، ورؤوس سهام، ومطارق عثر عليها على طول مجرى النيل(13). وتتدرج مخلفات العصر الحجري القديم تدرجا غير ملحوظ إلى مخلفات العصر الحجري الحديث على أعماق تدل على أنها تنتمي إلى العهد المحصور ما بين 000ر10، و 000ر4 سنة قبل الميلاد(14). وترقى صناعة الأدوات الحجرية شيئاً فشيئاً، وتزداد تهذيباً، وتصل إلى درجة من الحدة والصقل ودقة الصنع لا تضارعها فيها آية ثقافة أخرى وصل إلينا علمها من ثقافات العصر الحجري الحديث(15). وقبيل أواخر هذا العهد تظهر صناعة المعادن في صور مزهريات ومثاقب ودبابيس من النحاس وحلي من الفضة والذهب(16).
ثم يتدرج ذلك العصر إلى العصور التاريخية وتظهر الزراعة في أثناء هذا التدرج. وكان أول ما كشف من آثار عصر الانتقال في عام 1901م حين عثر في بلدة البداري الصغيرة "وهي في منتصف المسافة بين القاهرة والكرنك" على جثث بين أدوات تنتمي إلى عهد يرجع إلى ما قبل المسيح بنحو أربعين قرناً. ووجدت في أمعاء هذه الجثث، التي أبقى عليها جفاف الرمال وحرارتها ستة آلاف عام، قشور من حب الشعير(17) غير المهضوم. ولما كان الشعير لا ينبت بريا في مصر فقد استدل من وجودها على أن البداريين كانوا يعرفون زراعة الحبوب. وقد بدأ سكان وادي النيل من ذلك العهد السحيق أعمال الري
صفحة رقم : 263
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> مصر في عصر ما قبل التاريخ
وقطعوا الأدغال، وجففوا المستنقعات، وتغلبوا على تماسيح النهر وأفراسه، ووضعوا أسس الحضارة على مهل.
وتوحي إلينا هذه البقايا وبقايا أخرى غيرها بشيء من العلم عن حياة المصريين قبل الأسر الأولى التي عاشت في الأزمنة التاريخية. لقد كانت ثقافة ذلك العهد ثقافة وسطاً بين الصيد والزراعة، بدأت منذ قليل باستبدال الأدوات المعدنية بالحجرية. وكان الناس في أيامها يصنعون القوارب، ويطحنون الحب، وينسجون الكتان والبسط، ويتحلون بالحلي، ويتعطرون بالعطور، لهم حلاَّقون وحيوانات مستأنسة، وكانوا يحبون التصوير وبخاصة تصوير ما يصيدون من الحيوان(18)، وكانوا يرسمون على خزفهم الساذج صور النساء الحزانى وصوراً أخرى تمثل الحيوانات والآدميين، وأشكالاً هندسية، وينحتون آلات غاية في الدقة والأناقة يشهد بها سكين جبل الأراك. وكانت لهم كتابة مصورة وأختام أسطوانية شبيهة بأختام السومريين(19).
وما من أحد يعرف من أين جاء هؤلاء المصريون الأولون. ويميل بعض العلماء الباحثين إلى الرأي القائل بأنهم مولودون من النوبيين والأحباش واللوبيين من جهة، ومن المهاجرين من الساميين والأرمن من جهة أخرى(20)، فالأرض حتى في ذلك العهد السحيق لم تكن تسكنها سلالات نقية. ويرجح أن الغزاة أو المهاجرين الذين وفدوا من غرب آسية قد جاءوا معهم بثقافة أرقى من ثقافة أهل البلاد(21)، وأن تزاوجهم مع هؤلاء الأهلين الأقوياء قد أنجب سلالة هجينة كانت مطلع حضارة جديدة كما هو الشأن في جميع الحضارات. وأخذت هذه السلالات تمتزج امتزاجا بطيئاً حتى تألف من امتزاجها فيما بين عام 4000، و 3000 ق.م شعب واحد هو الشعب الذي أوجد مصر التاريخية.
صفحة رقم : 264
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
3- الدولة القديمة
الأقسام الإدارية - الشخصية التاريخية الأولى - كيوبس -
"خفرن" الغرض من بناء الأهرام - فن المقابر - التحنيط
وقبل أن يحل عام 4000 ق. م كان هؤلاء الأقوام الذين يقيمون على ضفاف النيل قد أنشئوا لهم حكومة من نوع ما. فقد انقسم الأهلون المقيمون على شاطئ النهر أقساما ينتسب سكان كل قسم منها إلى أصل واحد. وكان لهم شعار واحد، ويخضعون لرئيس واحد، ويعبدون إلهاً واحد بمراسم وطقوس واحدة. وظلت هذه الوحدات الإقليمية قائمة طوال تاريخ مصر القديم، وظل لحكامها نوع من السلطان يختلف قوة وضعفاً واستقلالاً باختلاف قوة الملك الأعظم وضعفه. وإذ كان كل نظام مطرد النمو تجنح أجزاءه لأن يعتمد بعضها على بعض فإن هذه الأقسام أخذت تنظم نفسها مدفوعة إلى هذا التنظيم بحاجات التجارة النامية وتكاليف الحرب المتزايدة حتى تكونت منها مملكتان واحدة في الجنوب وأخرى في الشمال. ولعل هذا التقسيم كان صورة أخرى من النزاع القائم بين الإفريقيين أهل الجنوب والمهاجرين الآسيويين أهل الشمال.
وقد سوى هذا النزاع الذي زاد من أثر الاختلافات الجغرافية والعنصرية تسوية مؤقتة حين ضم مينا "مينيس"- وهو شخصية لا يزال يكتنفها بعض الغموض- القطرين تحت سلطانه الموحد، وأعلن في البلاد قانوناً عاماً أوحى إليه به الإله توت(22)، أقام أولى الأسر المالكة التاريخية، وشاد عاصمة جديدة لملكه في منف "منفيس" و "علم الناس" كما يقول مؤرخ يوناني قديم استخدام النضد والأسرة... وأدخل في البلاد وسائل النعيم والحياة المترفة (23).
ولم تكن أعظم شخصية حقيقية عرفها التاريخ شخصية ملك، بل كانت شخصية فنان وعالم، وتلك هي شخصية إمحوتب الطبيب والمهندس، وكبير
صفحة رقم : 265
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
مستشاري الملك زوسر ( حوالي 3150 ق. م) وكان له على الطب المصري من الفضل ما جعل الأجيال التالية تعبده وتتخذه إلهاً للعلم ومنشئ علومها وفنونها. ويلوح في الوقت نفسه أنه هو الذي أوجد طائفة المهندسين التي أمدت الأسرة التالية بأعظم البناءين في التاريخ.
وتقول الرواية المصرية أن أول بيت من الحجر قد أقيم بإشرافه، وأنه هو الذي وضع تصميم أقدم بناء مصري قائم إلى هذه الأيام وهو هرم سقارة المدرج، وذلك الهرم بناء مدرج من الحجر ظل عدة قرون الطراز المتبع في تشييد المقابر. ويلوح كذلك أنه هو الذي وضع تصميم هيكل زوسر الجنازي وأعمدته الجميلة الشبيهة بزهرة الأزورد "اللوطس" وجدرانه المكسوة المقامة من حجر الجير(24) وفي هذه الآثار القديمة القائمة في سقارة، والتي تكاد تكون بداية الفن المصري في العهود التاريخية، نجد الأعمدة الأسطوانية المنقوشة التي لا تقل جمالاً عما شاده اليونان منها فيما بعد(25)، كما نجد فيها نقوشاً بارزة تفيض واقعية وحيوية(26)، وخزفاً أخضر، وفخاراً ملونا مطليا بطبقة زجاجية- يضارع ما أنتجته إيطاليا في العصور الوسطى(27). ونجد هناك أيضا تمثالاً قويا من الحجر لزوسر نفسه عدا عليه الدهر فطمس بعض معالمه التفصيلية، ولكنه يكشف عن وجه ذي نظرات حادة ثاقبة وعقل مفكر(28).
ولسنا نعلم حقيقة الأحوال التي جعلت الأسرة الرابعة أهم الأسر الحاكمة في تاريخ مصر قبل الأسرة الثامنة عشرة، فقد تكون الثروة المعدنية العظيمة التي استخرجت من أرض مصر في عهد آخر ملك من ملوك الأسرة الثالثة، وقد تكون ما أحرزه التجار المصريون من تفوق في تجارة البحر الأبيض المتوسط، وقد تكون قسوة خوفو أول ملوك هذا البيت الجديد. وقد ترك لنا هيرودوت ما قاله له
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> كشف مصر
(الخرطوشي) هي اسم الملك والملكة، فَهَدَته هذه الفكرة (في عام 1822م) إلى تمييز أحد عشر حرفاً من الحروف المصرية؛ ولكن ذلك كان مجرد حدس ولم يكن يقيناً. وكان هذا الكشف أول دليل على أن مصر كانت لها حروف هجائية. ثم طبق هذه الحروف على رموز وجدها على حجر كبير أسود عثر عليه جنود نابليون قرب مصب رشيد. وكان على "حجر رشيد" هذا نقوش كتبت بثلاث لغات أولاها الهيروغليفية وثانيتها "الديموطية"- الكتابة المصرية الدارجة- والثالثة هي اليونانية. واستطاع شامبليون، بفضل علمه باللغة اليونانية وبالأحد عشر حرفاً التي عرفها من المسلة الأولى وبعد جهد متواصل دام أكثر من عشرين عاما، أن يحل رموز هذا النقش كلها وأن يعرف الحروف الهجائية المصرية بأجمعها. وأن يمهد السبيل للكشف عن عالَم عظيم مفقود. وكان هذا الكشف من أعظم الكشوف في تاريخ التاريخ .
صفحة رقم : 261
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> مصر في عصر ما قبل التاريخ
2- مصر في عصر ما قبل التاريخ
العصر الحجري القديم - العصر الحجري الحديث -
عصر البداري - عصر ما قبل الأسر - جنس المصريين
إن المتطرفين في عصر من العصور هم أنفسهم الرجعيون في العصر الذي يليه، ومصداقاً لهذه القاعدة نقول أنه لم يكن ينتظر من الرجال الذين أنشئوا عِلم الآثار المصرية أن يكونوا أول من يؤمن بأن ما في مصر من مخلفات العصر الحجري القديم ينتمي حقاً إلى ذلك العصر. ذلك أن العالِم بعد الأربعين لا يظل طلعه تياحا. ولما أن كشفت أولى أدوات الظران في وادي النيل قال سير
صفحة رقم : 262
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> مصر في عصر ما قبل التاريخ
فلندز بيتري، وهو الذي لا يتردد عادة في قبول أكبر الأرقام في تاريخ مصر، إنها من صنع ما بعد الأسر، وعزا ماسبيرو، الذي لم يفسد علمُه الغزير أسلوبه الممتع المنمق، الفخار المصري الباقي من العصر الحجري الحديث إلى الدولة الوسطى. ولكن ده مورجان كشف في عام 1895م عن سلسلة متدرجة تكاد تكون متصلة الحلقات من حضارات تنتمي إلى العصر الحجري القديم- تطابق في أكثر نواحيها الحضارات المماثلة لها والتي جـاءت في أوربا بعدها بزمن طويل. وكان ما كشفه من مخلفات هذه الحضارات المصرية رؤوس معـاول يدوية، ومطارد، ورؤوس سهام، ومطارق عثر عليها على طول مجرى النيل(13). وتتدرج مخلفات العصر الحجري القديم تدرجا غير ملحوظ إلى مخلفات العصر الحجري الحديث على أعماق تدل على أنها تنتمي إلى العهد المحصور ما بين 000ر10، و 000ر4 سنة قبل الميلاد(14). وترقى صناعة الأدوات الحجرية شيئاً فشيئاً، وتزداد تهذيباً، وتصل إلى درجة من الحدة والصقل ودقة الصنع لا تضارعها فيها آية ثقافة أخرى وصل إلينا علمها من ثقافات العصر الحجري الحديث(15). وقبيل أواخر هذا العهد تظهر صناعة المعادن في صور مزهريات ومثاقب ودبابيس من النحاس وحلي من الفضة والذهب(16).
ثم يتدرج ذلك العصر إلى العصور التاريخية وتظهر الزراعة في أثناء هذا التدرج. وكان أول ما كشف من آثار عصر الانتقال في عام 1901م حين عثر في بلدة البداري الصغيرة "وهي في منتصف المسافة بين القاهرة والكرنك" على جثث بين أدوات تنتمي إلى عهد يرجع إلى ما قبل المسيح بنحو أربعين قرناً. ووجدت في أمعاء هذه الجثث، التي أبقى عليها جفاف الرمال وحرارتها ستة آلاف عام، قشور من حب الشعير(17) غير المهضوم. ولما كان الشعير لا ينبت بريا في مصر فقد استدل من وجودها على أن البداريين كانوا يعرفون زراعة الحبوب. وقد بدأ سكان وادي النيل من ذلك العهد السحيق أعمال الري
صفحة رقم : 263
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> مصر في عصر ما قبل التاريخ
وقطعوا الأدغال، وجففوا المستنقعات، وتغلبوا على تماسيح النهر وأفراسه، ووضعوا أسس الحضارة على مهل.
وتوحي إلينا هذه البقايا وبقايا أخرى غيرها بشيء من العلم عن حياة المصريين قبل الأسر الأولى التي عاشت في الأزمنة التاريخية. لقد كانت ثقافة ذلك العهد ثقافة وسطاً بين الصيد والزراعة، بدأت منذ قليل باستبدال الأدوات المعدنية بالحجرية. وكان الناس في أيامها يصنعون القوارب، ويطحنون الحب، وينسجون الكتان والبسط، ويتحلون بالحلي، ويتعطرون بالعطور، لهم حلاَّقون وحيوانات مستأنسة، وكانوا يحبون التصوير وبخاصة تصوير ما يصيدون من الحيوان(18)، وكانوا يرسمون على خزفهم الساذج صور النساء الحزانى وصوراً أخرى تمثل الحيوانات والآدميين، وأشكالاً هندسية، وينحتون آلات غاية في الدقة والأناقة يشهد بها سكين جبل الأراك. وكانت لهم كتابة مصورة وأختام أسطوانية شبيهة بأختام السومريين(19).
وما من أحد يعرف من أين جاء هؤلاء المصريون الأولون. ويميل بعض العلماء الباحثين إلى الرأي القائل بأنهم مولودون من النوبيين والأحباش واللوبيين من جهة، ومن المهاجرين من الساميين والأرمن من جهة أخرى(20)، فالأرض حتى في ذلك العهد السحيق لم تكن تسكنها سلالات نقية. ويرجح أن الغزاة أو المهاجرين الذين وفدوا من غرب آسية قد جاءوا معهم بثقافة أرقى من ثقافة أهل البلاد(21)، وأن تزاوجهم مع هؤلاء الأهلين الأقوياء قد أنجب سلالة هجينة كانت مطلع حضارة جديدة كما هو الشأن في جميع الحضارات. وأخذت هذه السلالات تمتزج امتزاجا بطيئاً حتى تألف من امتزاجها فيما بين عام 4000، و 3000 ق.م شعب واحد هو الشعب الذي أوجد مصر التاريخية.
صفحة رقم : 264
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
3- الدولة القديمة
الأقسام الإدارية - الشخصية التاريخية الأولى - كيوبس -
"خفرن" الغرض من بناء الأهرام - فن المقابر - التحنيط
وقبل أن يحل عام 4000 ق. م كان هؤلاء الأقوام الذين يقيمون على ضفاف النيل قد أنشئوا لهم حكومة من نوع ما. فقد انقسم الأهلون المقيمون على شاطئ النهر أقساما ينتسب سكان كل قسم منها إلى أصل واحد. وكان لهم شعار واحد، ويخضعون لرئيس واحد، ويعبدون إلهاً واحد بمراسم وطقوس واحدة. وظلت هذه الوحدات الإقليمية قائمة طوال تاريخ مصر القديم، وظل لحكامها نوع من السلطان يختلف قوة وضعفاً واستقلالاً باختلاف قوة الملك الأعظم وضعفه. وإذ كان كل نظام مطرد النمو تجنح أجزاءه لأن يعتمد بعضها على بعض فإن هذه الأقسام أخذت تنظم نفسها مدفوعة إلى هذا التنظيم بحاجات التجارة النامية وتكاليف الحرب المتزايدة حتى تكونت منها مملكتان واحدة في الجنوب وأخرى في الشمال. ولعل هذا التقسيم كان صورة أخرى من النزاع القائم بين الإفريقيين أهل الجنوب والمهاجرين الآسيويين أهل الشمال.
وقد سوى هذا النزاع الذي زاد من أثر الاختلافات الجغرافية والعنصرية تسوية مؤقتة حين ضم مينا "مينيس"- وهو شخصية لا يزال يكتنفها بعض الغموض- القطرين تحت سلطانه الموحد، وأعلن في البلاد قانوناً عاماً أوحى إليه به الإله توت(22)، أقام أولى الأسر المالكة التاريخية، وشاد عاصمة جديدة لملكه في منف "منفيس" و "علم الناس" كما يقول مؤرخ يوناني قديم استخدام النضد والأسرة... وأدخل في البلاد وسائل النعيم والحياة المترفة (23).
ولم تكن أعظم شخصية حقيقية عرفها التاريخ شخصية ملك، بل كانت شخصية فنان وعالم، وتلك هي شخصية إمحوتب الطبيب والمهندس، وكبير
صفحة رقم : 265
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
مستشاري الملك زوسر ( حوالي 3150 ق. م) وكان له على الطب المصري من الفضل ما جعل الأجيال التالية تعبده وتتخذه إلهاً للعلم ومنشئ علومها وفنونها. ويلوح في الوقت نفسه أنه هو الذي أوجد طائفة المهندسين التي أمدت الأسرة التالية بأعظم البناءين في التاريخ.
وتقول الرواية المصرية أن أول بيت من الحجر قد أقيم بإشرافه، وأنه هو الذي وضع تصميم أقدم بناء مصري قائم إلى هذه الأيام وهو هرم سقارة المدرج، وذلك الهرم بناء مدرج من الحجر ظل عدة قرون الطراز المتبع في تشييد المقابر. ويلوح كذلك أنه هو الذي وضع تصميم هيكل زوسر الجنازي وأعمدته الجميلة الشبيهة بزهرة الأزورد "اللوطس" وجدرانه المكسوة المقامة من حجر الجير(24) وفي هذه الآثار القديمة القائمة في سقارة، والتي تكاد تكون بداية الفن المصري في العهود التاريخية، نجد الأعمدة الأسطوانية المنقوشة التي لا تقل جمالاً عما شاده اليونان منها فيما بعد(25)، كما نجد فيها نقوشاً بارزة تفيض واقعية وحيوية(26)، وخزفاً أخضر، وفخاراً ملونا مطليا بطبقة زجاجية- يضارع ما أنتجته إيطاليا في العصور الوسطى(27). ونجد هناك أيضا تمثالاً قويا من الحجر لزوسر نفسه عدا عليه الدهر فطمس بعض معالمه التفصيلية، ولكنه يكشف عن وجه ذي نظرات حادة ثاقبة وعقل مفكر(28).
ولسنا نعلم حقيقة الأحوال التي جعلت الأسرة الرابعة أهم الأسر الحاكمة في تاريخ مصر قبل الأسرة الثامنة عشرة، فقد تكون الثروة المعدنية العظيمة التي استخرجت من أرض مصر في عهد آخر ملك من ملوك الأسرة الثالثة، وقد تكون ما أحرزه التجار المصريون من تفوق في تجارة البحر الأبيض المتوسط، وقد تكون قسوة خوفو أول ملوك هذا البيت الجديد. وقد ترك لنا هيرودوت ما قاله له
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 266
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
الكهنة المصريون عن منشئ أول هرم من أهرام الجيزة فقال:
"وهم يقولون لي الآن أن العدالة ظلت توزع بالقسطاس، وأن الرخاء عم جميع أنحاء مصر إلى أيام حكم رحميسنتس؛ ثم حكم من بعده كيوبس فارتكب كل أنواع الخبائث؛ ذلك أنه أغلق جميع الهياكل ... وسخر المصريين لخدمته وحده ... فعين طائفة منهم لقطع الأحجار من المحاجر في جبال العرب ونقلها إلى النيل، وأمر طائفة أخرى باستقبال الحجارة بعد أن تنقل في النهر على سفن ... وكان يعمل منهم مائة ألف في كل نوبة، وكل نوبة تعمل ثلاثة أشهر، وكل هؤلاء يكدحون عشر سنين في إنشاء الطريق الذي كانت تنقل عليه الحجارة، وهو عمل أرى أنه لا يقل مشقة عن تشييد الهرم نفسه (29).
أما خفرع خليفته على العرش ومنافسه في البناء فلدينا عنه معلومات مستقاة من الآثار نفسها. وذلك أن تمثاله المصنوع من حجر الديوريت والمحفوظ في متحف القاهرة يصوره لنا بالصورة التي يمثل بها خيالنا من أنشأ هذا الهرم الثاني وحكم مصر ستاً وخمسين سنة إن لم يكن بالصورة التي كان عليها فعلاً. فعلى رأسه الباشق رمز السلطة الملكية، ولو لم يكن هذا الباشق على رأسه لأدركنا من هيبته ومن كل جزء صغير من جسمه أنه ملك بحق فالتمثال يصوره إنساناً مزدهياً، صريحاً، جريئاً، ثاقب النظرات، أشم الأنف، قوياً في تحفظ وهدوء. ويتضح من صورته هذه أن الطبيعة قد عرفت من زمن طويل كيف تصوغ الرجال، وأن الفن قد عرف كيف يصورهم .
ولم بنى هؤلاء الرجال الأهرام؟ لقد كان هدفهم الدين لا فن العمارة، فقد كانت الأهرام مقابر نشأت وتدرجت من القبور البدائية. ذلك أن الملك كان
صفحة رقم : 267
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
يعتقد كما يعتقد السوقة من شعبه أن في كل جسم حي تستقر قرينة- كا- لا تموت حتما إذا لفظ الجسم أنفاسه، وأن هذه القرينة يضمن بقائها بقاء كاملا إذا ما احتفظ بالجسم آمناً من الجوع والتمزيق والبلي. وكانت وسيلته للبقاء ومقاومة الموت هي الهرم لعلوه وضخامته وشكله وموقعه. وإذا نحن ضربنا صفحاً عن أركانه فقد كان شكله هو الشكل الطبيعي الذي تصير إليه طائفة متجانسة من المواد الصلبة إذا ما تركت تسقط على الأرض من غير أن يعوقها عائق ما. وإذ كان يقصد بها كذلك البقاء والخلود فقد وضعت الحجارة في صبر لا يكاد يطيقه إنسان كأنما هي قد علت من نفسها على جانب الطريق، ولم تقتطع وتنقل من محاجر تبعد عن مكانها الحالي مئات الأميال. ويتكون هرم خوفو من مليونين ونصف مليون من الكتل الحجرية التي يبلغ وزن بعضها مائة وخمسين طناً ومتوسط وزنها طنين ونصف طن، وتبلغ مساحة قاعدته أكثر من نصف مليون قدم مربعة، ويعلو في الهواء إلى ارتفاع 411 قدماً. وحجارته مندمجة بعضها مع بعض ولم يترك بينها إلا موضع لبضع كتل ليكون طريقا سرياً تنقل فيه جثة الملك. ويرشد الدليل السائح الذي يسير مرتجفاً على أربع إلى الكهف الذي احتوى جثة الملك على ارتفاع مائة خطوة من القاعدة في قلب الهرم. وهناك في مكان رطب مظلم ساكن في أعماق ذلك الصرح لا يهتدي إليه إنسان استقرت فيما مضى من الأيام عظام الملك خوفو وزوجته، ولا يزال تابوت الملك المنحوت من الرخام مستقراً في مكانه، ولكنه محطم وفارغ لأن تلك الحجارة على ضخامتها لم تنج الجثة من اللصوص كما لم تنجها من جميع لعنات الآلهة.
ولما كانت القرينة في رأي المصريين الأقدمين صورة مصغرة للجسم نفسه فقد كان لابد من أن يقدم لها الطعام والكساء وما يلزمها من الخدمات بعد موت الجسد. ومن أجل هذا كانت تعد في بعض المقابر الملكية دورات مياه لتنتفع بها الروح بعد فراق الجسد، وتحتوي بعض النصوص الجنازية فقرات تعبر عن قلق
صفحة رقم : 268
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
كاتبيها وخوفهم من أن تضطر القرينة إذا أعوزها الطعام إلى أن تطعم من فضلاتها(31). ومن الطبيعي أن يخطر بالبال أن عادات الدفن عند المصريين الأقدمين إذا ما تتبعناها إلى بدايتها قد تؤدي بنا إلى تلك العادة البدائية عادة دفن أسلحة المحارب وعدده مع جثته، أو إلى نظام شبيه بما كان يتبعه الهنود وهو دفن زوجات الرجل وعبيده معه لكي يقوموا على خدمته وقضاء حاجاته بعد موته. وإذ كان في اتباع هذه العادات كثير من المشقة على الأزواج والعبيد فقد عمد المصريون الأقدمون إلى استخدام الرسامين والمثالين لرسم الصور وحفر النقوش وصنع التماثيل الصغيرة التي تمثل الزوجات والعبيد. وقد جرت عاداتهم على أن ينقشوا عليها عبارات سحرية تبدل الصور والرسوم فتجعلها قادرة على أداء كل ما يحتاجه الميت من خدمات كأنها أجسام وأشياء حقيقية. ولعل أبناء الميت قد ركنوا إلى التكاسل والاقتصاد في النفقات فجنحوا إلى إهمال الواجبات التي كان الدين يفرضها عليهم في أول الأمر ومنها تقديم الطعام للميت حتى في الحالات التي وقف فيها من ثروته ما يفي بهذه النفقات. ومن أجل هذا كانت الصور المتخذة بديلاً من الحقائق احتياطا قائما على الحكمة وحسن التدبير، فقد كان في وسعها أن تمد قرينة الميت بالحقول الخصبة، والثيران الثمينة، والعدد الجم من الخدم والصناع النشطين بنفقة قليلة مغرية. ولما كشف المصريون عن هذا المبدأ أخذ الفنانون ينتجون الشيء الكثير من روائع الفن. ففي أحد القبور صورة لحقل يحرث؛ وفي قبر آخر ترى المحصول يحصد أو يدرس، وفي غيرهما ترى الخبز يسوى، وفي رابع ترى الثور يلقح البقرة، وفي غيره ترى العجل يولد، وفي آخر ترى الماشية التي كبرت تذبح، أو اللحم يقدم ساخناً في الصحاف(32). ويمثل نقش جميل على حجر جيري عثر عليه في قبر الأمير راع حوتب الميت يستمتع بمختلف الأطعمة على مائدة مبسوطة أمامه(33). لعمرك أن الفن لم يفعل للإنسان في عصر من العصور ما فعله لهؤلاء المصريين القدامى.
صفحة رقم : 269
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
على أنهم لم يكتفوا بهذا بل رأوا أن يضمنوا للقرينة طول الأجل بدفن الجثة في تابوت من أقسى الحجارة، وبتحنيطها تحنيطاً كلفهم بلا شك أعظم الجهد والمشقة. وقد برعوا في هذا الفن براعة أبقت على قطع من الشعر واللحم عالقة بالعظام الملكية. وما أجمل وأوضح ما وصف به هيرودوت فن التحنيط حين قال : "أول ما يفعله المحنطون أن يخرجوا المخ من المنخرين بخطاف من الحديد، فإذا ما انتزعوا جزءاً منه بهذه الطريقة أخرجوا ما بقي منه بإدخال بعض العقاقير فيه، ثم فتحوا فتحة في جنب الميت بحجر حاد وأخرجوا منها جميع أحشائه، فإذا ما غسلوا البطن ونظفوه بنبيذ النخل رشوا عليه العطور المسحوقة، ثم ملئوا البطن بالمر النقي وبعطر العشبة وبغيره من العطور، وأعادوه بالخياطة إلى ما كان عليه من قبل؛ فإذا ما فعلوا هذا كله غمروه في منقوع النطرون وتركوه فيه سبعين يوماً، وتركه أكثر من هذا الوقت مخالف للقانون. فإذا انقضت هذه الأيام السبعون غسلوا الجثة ولفوها كلها في أحزمة من القماش المشمع، وغطوا هذا القماش بطبقة من الصمغ الذي يستعمله المصريون عادة بدل الغراء. وبعد أن يتم هذا كله يسترد أهل الميت الجثة ويصنعون لها صندوقاً من الخشب على صورة إنسان، فإذا ما أتموا صنعه وضعوا الجثة فيه، وأحكموا إغلاقه وأودعوه لحداً وهو واقف مستند إلى جداره. وبهذه الطريقة يعالجون الأجسام التي يريدون الاحتفاظ بها علاجاً يكلفهم أبهظ النفقات" (34) .
وتقول إحدى الأمثال المصرية المأثورة : "إن العالم كله يرهب الزمان، ولكن الزمان نفسه يرهب الأهرام(35) ". غير أن هرم خوفو رغم هذا قد نقص من ارتفاعه عشرون قدم، وزال عنه كل غطائه الرخامي. ولعل الزمان لا يرهبه كل الرهبة بل يفعل به ما يفعل بغيره؛ وكل ما في الأمر أنه يبليه على مهل. وإلى
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
الكهنة المصريون عن منشئ أول هرم من أهرام الجيزة فقال:
"وهم يقولون لي الآن أن العدالة ظلت توزع بالقسطاس، وأن الرخاء عم جميع أنحاء مصر إلى أيام حكم رحميسنتس؛ ثم حكم من بعده كيوبس فارتكب كل أنواع الخبائث؛ ذلك أنه أغلق جميع الهياكل ... وسخر المصريين لخدمته وحده ... فعين طائفة منهم لقطع الأحجار من المحاجر في جبال العرب ونقلها إلى النيل، وأمر طائفة أخرى باستقبال الحجارة بعد أن تنقل في النهر على سفن ... وكان يعمل منهم مائة ألف في كل نوبة، وكل نوبة تعمل ثلاثة أشهر، وكل هؤلاء يكدحون عشر سنين في إنشاء الطريق الذي كانت تنقل عليه الحجارة، وهو عمل أرى أنه لا يقل مشقة عن تشييد الهرم نفسه (29).
أما خفرع خليفته على العرش ومنافسه في البناء فلدينا عنه معلومات مستقاة من الآثار نفسها. وذلك أن تمثاله المصنوع من حجر الديوريت والمحفوظ في متحف القاهرة يصوره لنا بالصورة التي يمثل بها خيالنا من أنشأ هذا الهرم الثاني وحكم مصر ستاً وخمسين سنة إن لم يكن بالصورة التي كان عليها فعلاً. فعلى رأسه الباشق رمز السلطة الملكية، ولو لم يكن هذا الباشق على رأسه لأدركنا من هيبته ومن كل جزء صغير من جسمه أنه ملك بحق فالتمثال يصوره إنساناً مزدهياً، صريحاً، جريئاً، ثاقب النظرات، أشم الأنف، قوياً في تحفظ وهدوء. ويتضح من صورته هذه أن الطبيعة قد عرفت من زمن طويل كيف تصوغ الرجال، وأن الفن قد عرف كيف يصورهم .
ولم بنى هؤلاء الرجال الأهرام؟ لقد كان هدفهم الدين لا فن العمارة، فقد كانت الأهرام مقابر نشأت وتدرجت من القبور البدائية. ذلك أن الملك كان
صفحة رقم : 267
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
يعتقد كما يعتقد السوقة من شعبه أن في كل جسم حي تستقر قرينة- كا- لا تموت حتما إذا لفظ الجسم أنفاسه، وأن هذه القرينة يضمن بقائها بقاء كاملا إذا ما احتفظ بالجسم آمناً من الجوع والتمزيق والبلي. وكانت وسيلته للبقاء ومقاومة الموت هي الهرم لعلوه وضخامته وشكله وموقعه. وإذا نحن ضربنا صفحاً عن أركانه فقد كان شكله هو الشكل الطبيعي الذي تصير إليه طائفة متجانسة من المواد الصلبة إذا ما تركت تسقط على الأرض من غير أن يعوقها عائق ما. وإذ كان يقصد بها كذلك البقاء والخلود فقد وضعت الحجارة في صبر لا يكاد يطيقه إنسان كأنما هي قد علت من نفسها على جانب الطريق، ولم تقتطع وتنقل من محاجر تبعد عن مكانها الحالي مئات الأميال. ويتكون هرم خوفو من مليونين ونصف مليون من الكتل الحجرية التي يبلغ وزن بعضها مائة وخمسين طناً ومتوسط وزنها طنين ونصف طن، وتبلغ مساحة قاعدته أكثر من نصف مليون قدم مربعة، ويعلو في الهواء إلى ارتفاع 411 قدماً. وحجارته مندمجة بعضها مع بعض ولم يترك بينها إلا موضع لبضع كتل ليكون طريقا سرياً تنقل فيه جثة الملك. ويرشد الدليل السائح الذي يسير مرتجفاً على أربع إلى الكهف الذي احتوى جثة الملك على ارتفاع مائة خطوة من القاعدة في قلب الهرم. وهناك في مكان رطب مظلم ساكن في أعماق ذلك الصرح لا يهتدي إليه إنسان استقرت فيما مضى من الأيام عظام الملك خوفو وزوجته، ولا يزال تابوت الملك المنحوت من الرخام مستقراً في مكانه، ولكنه محطم وفارغ لأن تلك الحجارة على ضخامتها لم تنج الجثة من اللصوص كما لم تنجها من جميع لعنات الآلهة.
ولما كانت القرينة في رأي المصريين الأقدمين صورة مصغرة للجسم نفسه فقد كان لابد من أن يقدم لها الطعام والكساء وما يلزمها من الخدمات بعد موت الجسد. ومن أجل هذا كانت تعد في بعض المقابر الملكية دورات مياه لتنتفع بها الروح بعد فراق الجسد، وتحتوي بعض النصوص الجنازية فقرات تعبر عن قلق
صفحة رقم : 268
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
كاتبيها وخوفهم من أن تضطر القرينة إذا أعوزها الطعام إلى أن تطعم من فضلاتها(31). ومن الطبيعي أن يخطر بالبال أن عادات الدفن عند المصريين الأقدمين إذا ما تتبعناها إلى بدايتها قد تؤدي بنا إلى تلك العادة البدائية عادة دفن أسلحة المحارب وعدده مع جثته، أو إلى نظام شبيه بما كان يتبعه الهنود وهو دفن زوجات الرجل وعبيده معه لكي يقوموا على خدمته وقضاء حاجاته بعد موته. وإذ كان في اتباع هذه العادات كثير من المشقة على الأزواج والعبيد فقد عمد المصريون الأقدمون إلى استخدام الرسامين والمثالين لرسم الصور وحفر النقوش وصنع التماثيل الصغيرة التي تمثل الزوجات والعبيد. وقد جرت عاداتهم على أن ينقشوا عليها عبارات سحرية تبدل الصور والرسوم فتجعلها قادرة على أداء كل ما يحتاجه الميت من خدمات كأنها أجسام وأشياء حقيقية. ولعل أبناء الميت قد ركنوا إلى التكاسل والاقتصاد في النفقات فجنحوا إلى إهمال الواجبات التي كان الدين يفرضها عليهم في أول الأمر ومنها تقديم الطعام للميت حتى في الحالات التي وقف فيها من ثروته ما يفي بهذه النفقات. ومن أجل هذا كانت الصور المتخذة بديلاً من الحقائق احتياطا قائما على الحكمة وحسن التدبير، فقد كان في وسعها أن تمد قرينة الميت بالحقول الخصبة، والثيران الثمينة، والعدد الجم من الخدم والصناع النشطين بنفقة قليلة مغرية. ولما كشف المصريون عن هذا المبدأ أخذ الفنانون ينتجون الشيء الكثير من روائع الفن. ففي أحد القبور صورة لحقل يحرث؛ وفي قبر آخر ترى المحصول يحصد أو يدرس، وفي غيرهما ترى الخبز يسوى، وفي رابع ترى الثور يلقح البقرة، وفي غيره ترى العجل يولد، وفي آخر ترى الماشية التي كبرت تذبح، أو اللحم يقدم ساخناً في الصحاف(32). ويمثل نقش جميل على حجر جيري عثر عليه في قبر الأمير راع حوتب الميت يستمتع بمختلف الأطعمة على مائدة مبسوطة أمامه(33). لعمرك أن الفن لم يفعل للإنسان في عصر من العصور ما فعله لهؤلاء المصريين القدامى.
صفحة رقم : 269
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
على أنهم لم يكتفوا بهذا بل رأوا أن يضمنوا للقرينة طول الأجل بدفن الجثة في تابوت من أقسى الحجارة، وبتحنيطها تحنيطاً كلفهم بلا شك أعظم الجهد والمشقة. وقد برعوا في هذا الفن براعة أبقت على قطع من الشعر واللحم عالقة بالعظام الملكية. وما أجمل وأوضح ما وصف به هيرودوت فن التحنيط حين قال : "أول ما يفعله المحنطون أن يخرجوا المخ من المنخرين بخطاف من الحديد، فإذا ما انتزعوا جزءاً منه بهذه الطريقة أخرجوا ما بقي منه بإدخال بعض العقاقير فيه، ثم فتحوا فتحة في جنب الميت بحجر حاد وأخرجوا منها جميع أحشائه، فإذا ما غسلوا البطن ونظفوه بنبيذ النخل رشوا عليه العطور المسحوقة، ثم ملئوا البطن بالمر النقي وبعطر العشبة وبغيره من العطور، وأعادوه بالخياطة إلى ما كان عليه من قبل؛ فإذا ما فعلوا هذا كله غمروه في منقوع النطرون وتركوه فيه سبعين يوماً، وتركه أكثر من هذا الوقت مخالف للقانون. فإذا انقضت هذه الأيام السبعون غسلوا الجثة ولفوها كلها في أحزمة من القماش المشمع، وغطوا هذا القماش بطبقة من الصمغ الذي يستعمله المصريون عادة بدل الغراء. وبعد أن يتم هذا كله يسترد أهل الميت الجثة ويصنعون لها صندوقاً من الخشب على صورة إنسان، فإذا ما أتموا صنعه وضعوا الجثة فيه، وأحكموا إغلاقه وأودعوه لحداً وهو واقف مستند إلى جداره. وبهذه الطريقة يعالجون الأجسام التي يريدون الاحتفاظ بها علاجاً يكلفهم أبهظ النفقات" (34) .
وتقول إحدى الأمثال المصرية المأثورة : "إن العالم كله يرهب الزمان، ولكن الزمان نفسه يرهب الأهرام(35) ". غير أن هرم خوفو رغم هذا قد نقص من ارتفاعه عشرون قدم، وزال عنه كل غطائه الرخامي. ولعل الزمان لا يرهبه كل الرهبة بل يفعل به ما يفعل بغيره؛ وكل ما في الأمر أنه يبليه على مهل. وإلى
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 270
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
جانب هذا الهرم الأكبر يقوم هرم خفرع، وهو أصغر من الأول قليلاً، ولكن قمته لا يزال يكسوها غشاء من الحجر الأعبل "الجرانيت" الذي كان من قبل يغطيه كله. وعلى مسافة من هذا الهرم الثاني يقوم هرم آخر متواضع هو هرم منقورع خليفة خفرع على عرش مصر . وهذا الهرم لا يغطيه الحجر الأعبل بل تغطيه طبقة وضيعة من الآجر كأنها تعلن للعالم أن الدولة القديمة كانت تؤذن بالزوال حين كان الملك يشيد هذا الهرم. وتصور ما وصل إلينا من تماثيل منقورع هذا الملك في صورة رجل أكثر رقة وتهذيباً وأقل قوة من خفرع . إن الحضارة كالحياة تُفنى ما بلغت به حد الكمال، ولعل النعيم والترف حتى في هذا العهد السحيق، ولعل ما طرأ على العادات والأخلاق من تطور ورقي، لعل هذا كله قد جعل الناس يحبون السلم ويبغضون الحرب. وقام فجأة إنسان جديد، اغتصب عرش منقورع وقضى على أسرة بُناة الأهرام.
صفحة رقم : 271
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
4- الدولة الوسطى
عهد الإقطاع - الأسرة الثانية عشرة - سيطرة الهكسوس
لم يكن الملوك في بلد من البلاد بالكثرة التي كانوا بها في مصر القديمة. والتاريخ يضمهم جميعا في أسر، تشمل كل أسرة ملوكاً من بيت واحد أو ذرية واحدة؛ ولكن عدد هذه الأسر نفسها يثقل الذاكرة التي لا تطيق كثرتها .
صفحة رقم : 272
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
وحكم مصر بيبى الثاني أحد هؤلاء الفراعنة أربعاً وتسعين سنة "2738- 2644 ق.م" وحكمه هذا أطول حكم في التاريخ كله. فلما مات عمت الفوضى البلاد وأدت إلى الانحلال وخسر خلفه عرشه. وحكم أمراء الإقطاع المقاطعات حكماً مستقلاً. وهذا التعاقب بين السلطة المركزية وغير المركزية من الظواهر التاريخية التي تتوالى بانتظام، كأن الناس يملون الحرية المفرطة تارة والنظام المسرف تارة أخرى. وطغى على البلاد "عصر مظلم" سادته الفوضى أربعة قرون، ثم قام بعدها رجل قوي الإرادة شبيه بشارلمان في عصور أوربا المظلمة، فقبض بيد من حديد على زمام الأمور، وأعاد النظام إلى البلاد، ونقل العاصمة من منف إلى طيبة، وتسمى باسم أمينمحيت الأول، وأسس الأسرة الثانية عشرة. وفي عهد هذه الأسرة ازدهرت الفنون جميعها- مع جواز استثناء فن العمارة- وبلغت من الإتقان درجة لم تبلغها فيما نعرفه من تاريخ مصر قبل هذه الأسرة أو بعدها. ويتحدث إلينا أمينمحيت في أحد النقوش القديمة بقوله:
كنت رجلاً زرع البذور وأحب إله الحصاد؛
وحياتي في النيل وكل وديانه؛
ولم يكن في أيامي جائع ولا ظمآن؛
وعاش الناس في سلام بفضل ما عملت وتحدثوا عني.
وكان جزاؤه أن ائتمر عليه من أعلا شأنهم ووضعهم في المراكز السامية من الوزراء والمستشارين. وقضى أمينمحيت على هذه المؤامرة، وبطش بالمتآمرين ولكنه خلف لابنه- كما فعل بولونيوس من بعده- ملفاً من الأوراق يحوي نصيحة مرة، هي في واقع أمرها قاعدة عجيبة للحكم المطلق ولكنها ثمن باهظ يبتاع به الملك عرشه:
صفحة رقم : 273
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
استمع إلى ما سأقوله لك،
حتى تكون ملك الأرض...،
وتزيد فيها الخير
أقسى على جميع من هم دونك
فإن الناس لا يعنون إلا بمن يرهبهم؛
ولا تقترب منهم بمفردك،
ولا تملأ قلبك بالمودة لأخ،
ولا تعرف صديقاً...،
وإذا نمت فاحرس بنفسك قلبك
لأن الإنسان لا صديق له في أيام الشر.
ولقد أقام هذا الملك الصارم الذي يبدو لنا من خلال أربعة آلاف من السنين حاكماً رحيماً، نظاماً من الحكم والإدارة دام خمسمائة عام، أثرت فيه البلاد مرة أخرى، وعاد فيه الفن إلى سابق عهوده الزاهرة. واحتفر سنوسريت الأول قناة تصل النيل بالبحر الأحمر، وصد الغزاة النوبيين وشاد الهياكل العظيمة في عين شمس والعرابة والكرنك. ولقد نجت من عبث الدهر عشرة تماثيل ضخمة تمثله جالساً، وهي الآن في متحف القاهرة. وبدأ سنوسريت آخر هو سنوسريت الثالث يخضع فلسطين لحكم مصر، ورد النوبيين الذين كانوا لا ينقطعون عن الإغارة على حدودها الجنوبية، ووضع لوحة عند تلك الحدود كتب عليها أنه لم يضعها "رغبة في أن تعبدوها، بل طمعاً في أن تحاربوا من أجلها"(37).وكان أمينمحيت الثالث إدارياً حازما عني بحفر الترع والتنظيم وسائل الري، وقضى "ولعله قد أسرف في هذا القضاء" على أمراء الإقطاع، وأحل محله موظفين معينين من قبل الملك. وبعد ثلاثة عشر عاماً من موته عاد الاضطراب إلى مصر على أثر النزاع الذي قام بين المتنافسين المطالبين بالعرش، وانقضى عهد الدولة الوسطى في حال من الفوضى
صفحة رقم : 274
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
والتفكك دامت مائتي عام. ثم غزا الهكسوس، وهم بدو من آسية، مصر المتقطعة الأوصال، فأحرقوا مدنها وهدموا هياكلها وبددوا ما تجمع من ثروتها، وقضوا على كثير من معالم فنونها، وأخضعوا وادي النيل مدى قرنين لحكم "ملوك الرعاة" . لقد كانت المدنيات القديمة جزائر صغرى في بحار من الهمجية، أو محلات رخية يحيط بها الجياع والحساد من الصيادين والرعاة ذوي النزعة الحربية. وكانت حصونها عرضة للتصدع والانهيار من حين إلى حين. بهذه الطريقة أغار الكاشيون على دولة بابل، وهاجم الغاليون بلاد اليونان والرومان، واجتاح الهون إيطاليا، وهاجم المغول بيجنج.
لكن الفاتحين لم يلبثوا هم أيضا أن سمنوا وأترفوا وفقدوا سلطانهم؛ وجمع المصريون شملهم وشنوا حرباً عوانا يبغون بها تحرير بلادهم، فطردوا الهكسوس، وأسسوا الأسرة الثامنة عشرة التي بلغت البلاد في أيامها درجة من القوة والمجد لم تبلغها من قبل.
صفحة رقم : 275
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
5- الإمبراطورية
الملكة العظيمة - تحتمس الثالث - ذروة المجد
لعل هذا الفتح قد جدد شباب مصر بما أدخله فيها من دم جديد؛ ولكنه كان إيذاناً بابتداء كفاح طويل مرير بين مصر وغرب آسية دام ألف عام. ذلك أن تحتمس الأول لم يعزز قوى الدولة الجديدة فحسب ولكنه غزا سوريا أيضاً بحجة أن مصر يجب أن تسيطر على غرب آسية لكي تمنع الاعتداء على أراضيها فيما بعد، وأخضع كل البلاد الواقعة بين ساحل البحر وقرقميش في الداخل، ووضع فيها حاميات من عنده، وفرض عليها الجزية، ثم عاد إلى طيبة مثقلاً بالغنائم ومكللاً بالمجد الذي يكلل على الدوام هامة من يقتل بني الإنسان. وفي آخر العام الثلاثين
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة القديمة
جانب هذا الهرم الأكبر يقوم هرم خفرع، وهو أصغر من الأول قليلاً، ولكن قمته لا يزال يكسوها غشاء من الحجر الأعبل "الجرانيت" الذي كان من قبل يغطيه كله. وعلى مسافة من هذا الهرم الثاني يقوم هرم آخر متواضع هو هرم منقورع خليفة خفرع على عرش مصر . وهذا الهرم لا يغطيه الحجر الأعبل بل تغطيه طبقة وضيعة من الآجر كأنها تعلن للعالم أن الدولة القديمة كانت تؤذن بالزوال حين كان الملك يشيد هذا الهرم. وتصور ما وصل إلينا من تماثيل منقورع هذا الملك في صورة رجل أكثر رقة وتهذيباً وأقل قوة من خفرع . إن الحضارة كالحياة تُفنى ما بلغت به حد الكمال، ولعل النعيم والترف حتى في هذا العهد السحيق، ولعل ما طرأ على العادات والأخلاق من تطور ورقي، لعل هذا كله قد جعل الناس يحبون السلم ويبغضون الحرب. وقام فجأة إنسان جديد، اغتصب عرش منقورع وقضى على أسرة بُناة الأهرام.
صفحة رقم : 271
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
4- الدولة الوسطى
عهد الإقطاع - الأسرة الثانية عشرة - سيطرة الهكسوس
لم يكن الملوك في بلد من البلاد بالكثرة التي كانوا بها في مصر القديمة. والتاريخ يضمهم جميعا في أسر، تشمل كل أسرة ملوكاً من بيت واحد أو ذرية واحدة؛ ولكن عدد هذه الأسر نفسها يثقل الذاكرة التي لا تطيق كثرتها .
صفحة رقم : 272
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
وحكم مصر بيبى الثاني أحد هؤلاء الفراعنة أربعاً وتسعين سنة "2738- 2644 ق.م" وحكمه هذا أطول حكم في التاريخ كله. فلما مات عمت الفوضى البلاد وأدت إلى الانحلال وخسر خلفه عرشه. وحكم أمراء الإقطاع المقاطعات حكماً مستقلاً. وهذا التعاقب بين السلطة المركزية وغير المركزية من الظواهر التاريخية التي تتوالى بانتظام، كأن الناس يملون الحرية المفرطة تارة والنظام المسرف تارة أخرى. وطغى على البلاد "عصر مظلم" سادته الفوضى أربعة قرون، ثم قام بعدها رجل قوي الإرادة شبيه بشارلمان في عصور أوربا المظلمة، فقبض بيد من حديد على زمام الأمور، وأعاد النظام إلى البلاد، ونقل العاصمة من منف إلى طيبة، وتسمى باسم أمينمحيت الأول، وأسس الأسرة الثانية عشرة. وفي عهد هذه الأسرة ازدهرت الفنون جميعها- مع جواز استثناء فن العمارة- وبلغت من الإتقان درجة لم تبلغها فيما نعرفه من تاريخ مصر قبل هذه الأسرة أو بعدها. ويتحدث إلينا أمينمحيت في أحد النقوش القديمة بقوله:
كنت رجلاً زرع البذور وأحب إله الحصاد؛
وحياتي في النيل وكل وديانه؛
ولم يكن في أيامي جائع ولا ظمآن؛
وعاش الناس في سلام بفضل ما عملت وتحدثوا عني.
وكان جزاؤه أن ائتمر عليه من أعلا شأنهم ووضعهم في المراكز السامية من الوزراء والمستشارين. وقضى أمينمحيت على هذه المؤامرة، وبطش بالمتآمرين ولكنه خلف لابنه- كما فعل بولونيوس من بعده- ملفاً من الأوراق يحوي نصيحة مرة، هي في واقع أمرها قاعدة عجيبة للحكم المطلق ولكنها ثمن باهظ يبتاع به الملك عرشه:
صفحة رقم : 273
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
استمع إلى ما سأقوله لك،
حتى تكون ملك الأرض...،
وتزيد فيها الخير
أقسى على جميع من هم دونك
فإن الناس لا يعنون إلا بمن يرهبهم؛
ولا تقترب منهم بمفردك،
ولا تملأ قلبك بالمودة لأخ،
ولا تعرف صديقاً...،
وإذا نمت فاحرس بنفسك قلبك
لأن الإنسان لا صديق له في أيام الشر.
ولقد أقام هذا الملك الصارم الذي يبدو لنا من خلال أربعة آلاف من السنين حاكماً رحيماً، نظاماً من الحكم والإدارة دام خمسمائة عام، أثرت فيه البلاد مرة أخرى، وعاد فيه الفن إلى سابق عهوده الزاهرة. واحتفر سنوسريت الأول قناة تصل النيل بالبحر الأحمر، وصد الغزاة النوبيين وشاد الهياكل العظيمة في عين شمس والعرابة والكرنك. ولقد نجت من عبث الدهر عشرة تماثيل ضخمة تمثله جالساً، وهي الآن في متحف القاهرة. وبدأ سنوسريت آخر هو سنوسريت الثالث يخضع فلسطين لحكم مصر، ورد النوبيين الذين كانوا لا ينقطعون عن الإغارة على حدودها الجنوبية، ووضع لوحة عند تلك الحدود كتب عليها أنه لم يضعها "رغبة في أن تعبدوها، بل طمعاً في أن تحاربوا من أجلها"(37).وكان أمينمحيت الثالث إدارياً حازما عني بحفر الترع والتنظيم وسائل الري، وقضى "ولعله قد أسرف في هذا القضاء" على أمراء الإقطاع، وأحل محله موظفين معينين من قبل الملك. وبعد ثلاثة عشر عاماً من موته عاد الاضطراب إلى مصر على أثر النزاع الذي قام بين المتنافسين المطالبين بالعرش، وانقضى عهد الدولة الوسطى في حال من الفوضى
صفحة رقم : 274
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الدولة الوسطى
والتفكك دامت مائتي عام. ثم غزا الهكسوس، وهم بدو من آسية، مصر المتقطعة الأوصال، فأحرقوا مدنها وهدموا هياكلها وبددوا ما تجمع من ثروتها، وقضوا على كثير من معالم فنونها، وأخضعوا وادي النيل مدى قرنين لحكم "ملوك الرعاة" . لقد كانت المدنيات القديمة جزائر صغرى في بحار من الهمجية، أو محلات رخية يحيط بها الجياع والحساد من الصيادين والرعاة ذوي النزعة الحربية. وكانت حصونها عرضة للتصدع والانهيار من حين إلى حين. بهذه الطريقة أغار الكاشيون على دولة بابل، وهاجم الغاليون بلاد اليونان والرومان، واجتاح الهون إيطاليا، وهاجم المغول بيجنج.
لكن الفاتحين لم يلبثوا هم أيضا أن سمنوا وأترفوا وفقدوا سلطانهم؛ وجمع المصريون شملهم وشنوا حرباً عوانا يبغون بها تحرير بلادهم، فطردوا الهكسوس، وأسسوا الأسرة الثامنة عشرة التي بلغت البلاد في أيامها درجة من القوة والمجد لم تبلغها من قبل.
صفحة رقم : 275
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
5- الإمبراطورية
الملكة العظيمة - تحتمس الثالث - ذروة المجد
لعل هذا الفتح قد جدد شباب مصر بما أدخله فيها من دم جديد؛ ولكنه كان إيذاناً بابتداء كفاح طويل مرير بين مصر وغرب آسية دام ألف عام. ذلك أن تحتمس الأول لم يعزز قوى الدولة الجديدة فحسب ولكنه غزا سوريا أيضاً بحجة أن مصر يجب أن تسيطر على غرب آسية لكي تمنع الاعتداء على أراضيها فيما بعد، وأخضع كل البلاد الواقعة بين ساحل البحر وقرقميش في الداخل، ووضع فيها حاميات من عنده، وفرض عليها الجزية، ثم عاد إلى طيبة مثقلاً بالغنائم ومكللاً بالمجد الذي يكلل على الدوام هامة من يقتل بني الإنسان. وفي آخر العام الثلاثين
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 276
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
من حكمه رفع ابنته حتشبسوت إلى العرش لتكون شريكة له في الملك. وحكم من بعده زوجها وأخوها لأبيها باسم تحتمس الثاني، وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه تحتمس الثالث ابن تحتمس الأول من إحدى سراريه(38). ولكن حتشبسوت نحَّتْ هذا الشاب الذي علا نجمه فيما بعد واستأثرت دونه بالملك، وأثبتت أنها لا تختلف عن الملوك في شيء إلا في أنها أنثى.
على أنها لم تعترف حتى بهذا الفرق. ذلك أن التقاليد المقدسة كانت تطلب من كل مصري أن يكون ابن الإله العظيم آمون، ومن أجل هذا أعدت حتشبسوت العدة لأن تكون ذكراً وأن تكون مقدسة، فاخترعت لها سيرة نصت على أن آمون نزل على أحْمَسى أم حتشبسوت في فيض من العطر والنور، فأحسنت هذه استقبالاً؛ ولما خرج من عندها أعلن أن أحمسى ستلد ابنة تشع على الأرض كل ما يتصف به الإله من قوة وبسالة(39). وأرادت الملكة العظيمة بعد إذ أن تُرضي أهواء شعبها ولعلها أرادت أيضا أن تشبع رغبة كامنة في صدرها، فعملت على أن ترسم على الآثار في صورة محارب ملتح من غير ثديين؛ ومع أن النقوش الباقية من عهدها تتحدث عنها بضمير المؤنث، فإنها تسميها "ابن الشمس" و "سيد القطرين". وكانت حين تظهر أمام شعبها تلبس ملابس الرجال، وتلتحي لحية مستعارة(40).
ولعلها كان من حقها أن تقرر بنفسها أن تكون رجلاً أم إمرأة، وذلك لأنها أضحت من خير الحكام الذين جلسوا على عرش مصر- وهم كثيرون- ومن أعظمهم نجاحاً . فقد وطدت دعائم الأمن والنظام في داخل البلاد من غير أن تسرف في الاستبداد، وحافظت على السلم في خارج مصر من غير خسارة وأرسلت بعثة عظيمة إلى بونت "ويرجح أن بونت هذه هي شاطئ إفريقية الشرقي"، وافتتحت سوقا جديدة لتجارة مصر، وجاءت بكثير من الطيبات لشعبها. وعملت على تجميل الكرنك بأن أقامت فيها مسلتين كبيرتين جميلتين، وشيدت في الدير
صفحة رقم : 277
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
البحري الهيكل الفخم الذي اختطه أبوها، وأصلحت بعض ما خربه ملوك الهكسوس من الهياكل القديمة، وقالت في أحد نقوشها تفخر بأعمالها: "لقد أصلحت ما كان من قبل مخرباً؛ وأكملت ما لم يكن قد تم تشييده حين كان الآسيويون في وسط الأرض الشمالية يهدمون فيها ما كان قائماً قبلهم" (41) . ثم أنشأت لنفسها آخر الأمر قبراً سرياً مزخرفاً بجوار الجبال التي تطغى عليها الرمال على الضفة الغربية للنيل في المكان الذي سمي فيما بعد "وادي مقابر الملوك". وحذا خلفاؤها في ذلك حذوها، حتى كان عدد القبور المنحوتة في التلال قرابة الستين قبراً ملكياً، وحتى أخذت مدينة الموتى تنافس في عدد سكانها طيبة مدينة الأحياء، وكانت "الحافة الغربية" في المدن المصرية القديمة موطن الموتى من الطبقة العليا؛ وكانوا إذا قالوا أن فلاناً "ذهب غرباً" قصدوا بقولهم هذا أنه مات.
صفحة رقم : 278
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
ودام حكم هذه الملكة اثنتين وعشرين سنة كان فيها حكما سلمياً حكيماً، ثم خلفها تحتمس الثالث وكان حكمه مليئاً بالحروب، فقد انتهزت بلاد سوريا فرصة موت حتشبسوت فثارت على مصر، وظن أهلها أن تحتمس الثالث، وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، لن يستطيع الاحتفاظ بالدولة التي أقامها أبوه. ولكن تحتمس لم يقعد عن العمل فسار على رأس جيشه في السنة الأولى من حكمه عن طريق القنطرة وغزة بسرعة عشرين ميلاً في كل يوم، والتحم بالقوات الثائرة عند هار مجدو "أي جبل مجدو"، وهي بلدة صغيرة ذات موقع حربي منيع بين سلسلتي جبال لبنان على الطريق الممتد بين مصر ونهر الفرات. وهي بعينها مجداً التي وقعت فيها عدة وقائع حربية من ذلك اليوم إلى أيام ألِنْبِي. وفي نفس الممر الذي هزم فيه الإنكليز الأتراك في عام 1918م أثناء الحرب العالمية الأولى هزم تحتمس الثالث السوريين وحلفائهم قبل ذلك بثلاثة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعين عاماً. ثم سار تحتمس مظفراً مخترقاً غرب آسية يخضع أهلها ويفرض عليهم الضرائب ويجمع منهم الخراج، وعاد بعد إذ إلى طيبة منتصراً بعد ستة أشهر من بداية زحفه .
وكانت هذه الحملة أول حملات بلغت عدتها خمس عشرة أخضع فيها تحتمس الباسل بلاد البحر الأبيض المتوسط الشرقي لحكم مصر. ولم يكن عمله عمل الفاتح فحسب، بل إنه عمل أيضا على تنظيم فتوحه، فأقام في جميع البلاد المفتوحة حاميات قوية، وأنشأ فيها حكماً منظماً قديراً. وكان تحتمس أول رجل في التاريخ أدرك ما للقوة البحرية من شأن عظيم، فأنشأ أسطولاً أخضع لسلطانه بلاد الشرق الأدنى. وكان ما ظفر به من غنائم عماد الفن المصري في عهد الإمبراطورية، كما كان الخراج الذي أخذ ينصب في مصر من بلاد الشام منشأ حياة الدعة والنعيم التي تمتع بها شعبه، فوجدت في مصر طبقة جديدة من الفنانين غمرتها بروائع الفن. وفي وسعنا أن نتصور إلى حد ما ثروة الحكومة الإمبراطورية الجديدة إذا عرفنا
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
من حكمه رفع ابنته حتشبسوت إلى العرش لتكون شريكة له في الملك. وحكم من بعده زوجها وأخوها لأبيها باسم تحتمس الثاني، وأوصى وهو على فراش الموت أن يخلفه تحتمس الثالث ابن تحتمس الأول من إحدى سراريه(38). ولكن حتشبسوت نحَّتْ هذا الشاب الذي علا نجمه فيما بعد واستأثرت دونه بالملك، وأثبتت أنها لا تختلف عن الملوك في شيء إلا في أنها أنثى.
على أنها لم تعترف حتى بهذا الفرق. ذلك أن التقاليد المقدسة كانت تطلب من كل مصري أن يكون ابن الإله العظيم آمون، ومن أجل هذا أعدت حتشبسوت العدة لأن تكون ذكراً وأن تكون مقدسة، فاخترعت لها سيرة نصت على أن آمون نزل على أحْمَسى أم حتشبسوت في فيض من العطر والنور، فأحسنت هذه استقبالاً؛ ولما خرج من عندها أعلن أن أحمسى ستلد ابنة تشع على الأرض كل ما يتصف به الإله من قوة وبسالة(39). وأرادت الملكة العظيمة بعد إذ أن تُرضي أهواء شعبها ولعلها أرادت أيضا أن تشبع رغبة كامنة في صدرها، فعملت على أن ترسم على الآثار في صورة محارب ملتح من غير ثديين؛ ومع أن النقوش الباقية من عهدها تتحدث عنها بضمير المؤنث، فإنها تسميها "ابن الشمس" و "سيد القطرين". وكانت حين تظهر أمام شعبها تلبس ملابس الرجال، وتلتحي لحية مستعارة(40).
ولعلها كان من حقها أن تقرر بنفسها أن تكون رجلاً أم إمرأة، وذلك لأنها أضحت من خير الحكام الذين جلسوا على عرش مصر- وهم كثيرون- ومن أعظمهم نجاحاً . فقد وطدت دعائم الأمن والنظام في داخل البلاد من غير أن تسرف في الاستبداد، وحافظت على السلم في خارج مصر من غير خسارة وأرسلت بعثة عظيمة إلى بونت "ويرجح أن بونت هذه هي شاطئ إفريقية الشرقي"، وافتتحت سوقا جديدة لتجارة مصر، وجاءت بكثير من الطيبات لشعبها. وعملت على تجميل الكرنك بأن أقامت فيها مسلتين كبيرتين جميلتين، وشيدت في الدير
صفحة رقم : 277
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
البحري الهيكل الفخم الذي اختطه أبوها، وأصلحت بعض ما خربه ملوك الهكسوس من الهياكل القديمة، وقالت في أحد نقوشها تفخر بأعمالها: "لقد أصلحت ما كان من قبل مخرباً؛ وأكملت ما لم يكن قد تم تشييده حين كان الآسيويون في وسط الأرض الشمالية يهدمون فيها ما كان قائماً قبلهم" (41) . ثم أنشأت لنفسها آخر الأمر قبراً سرياً مزخرفاً بجوار الجبال التي تطغى عليها الرمال على الضفة الغربية للنيل في المكان الذي سمي فيما بعد "وادي مقابر الملوك". وحذا خلفاؤها في ذلك حذوها، حتى كان عدد القبور المنحوتة في التلال قرابة الستين قبراً ملكياً، وحتى أخذت مدينة الموتى تنافس في عدد سكانها طيبة مدينة الأحياء، وكانت "الحافة الغربية" في المدن المصرية القديمة موطن الموتى من الطبقة العليا؛ وكانوا إذا قالوا أن فلاناً "ذهب غرباً" قصدوا بقولهم هذا أنه مات.
صفحة رقم : 278
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
ودام حكم هذه الملكة اثنتين وعشرين سنة كان فيها حكما سلمياً حكيماً، ثم خلفها تحتمس الثالث وكان حكمه مليئاً بالحروب، فقد انتهزت بلاد سوريا فرصة موت حتشبسوت فثارت على مصر، وظن أهلها أن تحتمس الثالث، وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، لن يستطيع الاحتفاظ بالدولة التي أقامها أبوه. ولكن تحتمس لم يقعد عن العمل فسار على رأس جيشه في السنة الأولى من حكمه عن طريق القنطرة وغزة بسرعة عشرين ميلاً في كل يوم، والتحم بالقوات الثائرة عند هار مجدو "أي جبل مجدو"، وهي بلدة صغيرة ذات موقع حربي منيع بين سلسلتي جبال لبنان على الطريق الممتد بين مصر ونهر الفرات. وهي بعينها مجداً التي وقعت فيها عدة وقائع حربية من ذلك اليوم إلى أيام ألِنْبِي. وفي نفس الممر الذي هزم فيه الإنكليز الأتراك في عام 1918م أثناء الحرب العالمية الأولى هزم تحتمس الثالث السوريين وحلفائهم قبل ذلك بثلاثة آلاف وثلاثمائة وسبعة وتسعين عاماً. ثم سار تحتمس مظفراً مخترقاً غرب آسية يخضع أهلها ويفرض عليهم الضرائب ويجمع منهم الخراج، وعاد بعد إذ إلى طيبة منتصراً بعد ستة أشهر من بداية زحفه .
وكانت هذه الحملة أول حملات بلغت عدتها خمس عشرة أخضع فيها تحتمس الباسل بلاد البحر الأبيض المتوسط الشرقي لحكم مصر. ولم يكن عمله عمل الفاتح فحسب، بل إنه عمل أيضا على تنظيم فتوحه، فأقام في جميع البلاد المفتوحة حاميات قوية، وأنشأ فيها حكماً منظماً قديراً. وكان تحتمس أول رجل في التاريخ أدرك ما للقوة البحرية من شأن عظيم، فأنشأ أسطولاً أخضع لسلطانه بلاد الشرق الأدنى. وكان ما ظفر به من غنائم عماد الفن المصري في عهد الإمبراطورية، كما كان الخراج الذي أخذ ينصب في مصر من بلاد الشام منشأ حياة الدعة والنعيم التي تمتع بها شعبه، فوجدت في مصر طبقة جديدة من الفنانين غمرتها بروائع الفن. وفي وسعنا أن نتصور إلى حد ما ثروة الحكومة الإمبراطورية الجديدة إذا عرفنا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 279
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
أن خزانة الدولة استطاعت في يوم من الأيام أن تخرج منها ما زنته تسعة آلاف رطل من سبائك الذهب والفضة(43). وراجت التجارة في طيبة رواجاً لم تعهده من قبل، وناءت الهياكل بالقربان، وارتفع صرح بهو الاحتفالات الملكية في الكرنك، وأنشأ فيها المتنزه العظيم بما يتفق مع عظمة الإله والملك. ثم عاد الملك من ميدان القتال ووجه عنايته للفن وإدارة شئون البلاد. ومن أجمل آثار ذلك العهد المزهريات البديعة النقش. وقال عنه وزيره ما كان أمناء سر نابليون المتعبون المنفيون يقولون عنه "أن جلالته كان يعرف كل ما يحدث؛ فما من شيء كان يجهله؛ فقد كان إله المعرفة في كل شيء؛ ولم تكن هناك مسألة لا يفصل فيها بنفسه(43) ". وتوفى الملك بعد أن حكم اثنتين وثلاثين سنة "ويقول بعضهم أنها خمسا وأربعين"، وبعد أن أتم لمصر زعامتها في عالم البحر الأبيض المتوسط.
وجاء من بعده فاتح آخر هو أمنحوتب الثاني فأخضع مرة أخرى بعض عشاق الحرية في سوريا، وعاد إلى طيبة وفي ركابه سبعة ملوك أسرى أحياء مطأطئي الرءوس في مقدمة السفينة الإمبراطورية. وقدم الملك ستة منهم قربانا لآمون ضحى بهم بيده(44). ثم خلفه تحتمس آخر خامل الذكر، جلس بعده على العرش في عام 1412 أمنحوتب الثالث فحكم البلاد حكما طويلا ارتفعت مصر في خلاله إلى ذروة المجد بفضل ما تجمع فيها من الثروة خلال سيادتها التي دامت قرناً كاملاً. وفي المتحف البريطاني تمثال نصفي لهذا الملك يمثله في صورة رجل يجمع بين الرقة والقوة، في وسعه أن يقبض بيد من حديد على زمام الأمور في إمبراطوريته التي ورثها، وأن يعيش مع هذا في جو من الدعة والنعيم لعل بترونيس أول آل مديشى كانوا يحسدونه عليه. ولولا ما كشف من مخالفات توت عنخ آمون لما صدقنا ما تقصده الروايات وما تدونه السجلات من ثراء أمنحوتب ومظاهر ترفه. وقد بلغت طيبة في عهده من العظمة والفخامة ما بلغته أية مدينة أخرى في عهود التاريخ كلها، فكانت شوارعها غاصة بالتجار، وأسواقها مملوءة بالبضائع الواردة من جميع أنحاء العالم المعروف وقتئذ، ومبانيها " تفوق في فخامتها جميع
صفحة رقم : 280
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
مباني العواصم القديمة والحديثة"(45) ، وقصورها الرائعة تستقبل الخراج من طائفة لا حصر لها من الولايات الخاضعة لسلطانها، وهياكلها الضخمة "محلاة كلها بالذهب" (46) ومزينة بروائع الفنون على اختلاف أنواعها، وبيوتها ذات الحدائق وقصورها الفخمة ومتنزهاتها المظللة وبحيراتها الصناعية التي كانت مسرحاً لكل ما هو جديد من الأزياء والأنماط، كما كانت رومة في عهد الإمبراطورية(47). هذه هي عاصمة مصر في أيام مجدها وفي أيام مليكها الذي بدأ من بعده اضمحلالها وسقوطها.
صفحة رقم : 281
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الزراعة
الفصل الثالث
حضارة مصر
1- الزراعة
كان من وراء هؤلاء الملوك والملكات بيادق مجهولون، ومن وراء تلك الهياكل والقصور والأهرام عمال المدن وزراع الحقول . ويصفهم هيرودوت كما وجدهم حوالي عام 450 ق.م وصفاً تسوده روح التفاؤل فيقول:
"إنهم يجنون ثمار الأرض بجهد أقل مما يبذله غيرهم من الشعوب، ... لأنهم لا يضطرون إلى تحطيم أخاديد الأرض بالمحراث أو إلى عزقها أو القيام بعمل كالذي يضطر غيرهم من الناس إلى القيام به لكي يجنوا من ورائه محصولاً من الحَبّ؛ ذلك بأن النهر إذا فاض من نفسه وأروى حقولهم، ثم انحسر مأواه عنها بعد إروائها، زرع كل رجل أرضه وأطلق عليها خنازيره؛ فإذا ما دفنت هذه الخنازير الحَبّ في الأرض بأرجلها انتظر حتى يحين موعد الحصاد، ثم ... جمع المحصول" (49).
وكما كانت الخنازير تدوس الحب بأرجلها، كذلك أُنّست القرود ودربت على قطف الثمار من الأشجار(50)؛ وكان النيل الذي يروي الأرض يحمل لها في أثناء فيضانه مقادير كبيرة من السمك يتركها في المناقع الضحلة؛ وكانت الشبكة التي يصطاد بها السمك هي بعينها التي يحيط بها رأسه أثناء الليل ليتقي بها شر لدغ البعوض(51). على أنه لم يكن هو الذي يفيد من سخاء النهر، ذلك بأن كل فدان من الأرض كان ملكاً لفرعون لا يستطيع غيره من الناس أن يفعلوا به إلا بإذن
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
أن خزانة الدولة استطاعت في يوم من الأيام أن تخرج منها ما زنته تسعة آلاف رطل من سبائك الذهب والفضة(43). وراجت التجارة في طيبة رواجاً لم تعهده من قبل، وناءت الهياكل بالقربان، وارتفع صرح بهو الاحتفالات الملكية في الكرنك، وأنشأ فيها المتنزه العظيم بما يتفق مع عظمة الإله والملك. ثم عاد الملك من ميدان القتال ووجه عنايته للفن وإدارة شئون البلاد. ومن أجمل آثار ذلك العهد المزهريات البديعة النقش. وقال عنه وزيره ما كان أمناء سر نابليون المتعبون المنفيون يقولون عنه "أن جلالته كان يعرف كل ما يحدث؛ فما من شيء كان يجهله؛ فقد كان إله المعرفة في كل شيء؛ ولم تكن هناك مسألة لا يفصل فيها بنفسه(43) ". وتوفى الملك بعد أن حكم اثنتين وثلاثين سنة "ويقول بعضهم أنها خمسا وأربعين"، وبعد أن أتم لمصر زعامتها في عالم البحر الأبيض المتوسط.
وجاء من بعده فاتح آخر هو أمنحوتب الثاني فأخضع مرة أخرى بعض عشاق الحرية في سوريا، وعاد إلى طيبة وفي ركابه سبعة ملوك أسرى أحياء مطأطئي الرءوس في مقدمة السفينة الإمبراطورية. وقدم الملك ستة منهم قربانا لآمون ضحى بهم بيده(44). ثم خلفه تحتمس آخر خامل الذكر، جلس بعده على العرش في عام 1412 أمنحوتب الثالث فحكم البلاد حكما طويلا ارتفعت مصر في خلاله إلى ذروة المجد بفضل ما تجمع فيها من الثروة خلال سيادتها التي دامت قرناً كاملاً. وفي المتحف البريطاني تمثال نصفي لهذا الملك يمثله في صورة رجل يجمع بين الرقة والقوة، في وسعه أن يقبض بيد من حديد على زمام الأمور في إمبراطوريته التي ورثها، وأن يعيش مع هذا في جو من الدعة والنعيم لعل بترونيس أول آل مديشى كانوا يحسدونه عليه. ولولا ما كشف من مخالفات توت عنخ آمون لما صدقنا ما تقصده الروايات وما تدونه السجلات من ثراء أمنحوتب ومظاهر ترفه. وقد بلغت طيبة في عهده من العظمة والفخامة ما بلغته أية مدينة أخرى في عهود التاريخ كلها، فكانت شوارعها غاصة بالتجار، وأسواقها مملوءة بالبضائع الواردة من جميع أنحاء العالم المعروف وقتئذ، ومبانيها " تفوق في فخامتها جميع
صفحة رقم : 280
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> البناؤون العظام -> الإمبراطورية
مباني العواصم القديمة والحديثة"(45) ، وقصورها الرائعة تستقبل الخراج من طائفة لا حصر لها من الولايات الخاضعة لسلطانها، وهياكلها الضخمة "محلاة كلها بالذهب" (46) ومزينة بروائع الفنون على اختلاف أنواعها، وبيوتها ذات الحدائق وقصورها الفخمة ومتنزهاتها المظللة وبحيراتها الصناعية التي كانت مسرحاً لكل ما هو جديد من الأزياء والأنماط، كما كانت رومة في عهد الإمبراطورية(47). هذه هي عاصمة مصر في أيام مجدها وفي أيام مليكها الذي بدأ من بعده اضمحلالها وسقوطها.
صفحة رقم : 281
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الزراعة
الفصل الثالث
حضارة مصر
1- الزراعة
كان من وراء هؤلاء الملوك والملكات بيادق مجهولون، ومن وراء تلك الهياكل والقصور والأهرام عمال المدن وزراع الحقول . ويصفهم هيرودوت كما وجدهم حوالي عام 450 ق.م وصفاً تسوده روح التفاؤل فيقول:
"إنهم يجنون ثمار الأرض بجهد أقل مما يبذله غيرهم من الشعوب، ... لأنهم لا يضطرون إلى تحطيم أخاديد الأرض بالمحراث أو إلى عزقها أو القيام بعمل كالذي يضطر غيرهم من الناس إلى القيام به لكي يجنوا من ورائه محصولاً من الحَبّ؛ ذلك بأن النهر إذا فاض من نفسه وأروى حقولهم، ثم انحسر مأواه عنها بعد إروائها، زرع كل رجل أرضه وأطلق عليها خنازيره؛ فإذا ما دفنت هذه الخنازير الحَبّ في الأرض بأرجلها انتظر حتى يحين موعد الحصاد، ثم ... جمع المحصول" (49).
وكما كانت الخنازير تدوس الحب بأرجلها، كذلك أُنّست القرود ودربت على قطف الثمار من الأشجار(50)؛ وكان النيل الذي يروي الأرض يحمل لها في أثناء فيضانه مقادير كبيرة من السمك يتركها في المناقع الضحلة؛ وكانت الشبكة التي يصطاد بها السمك هي بعينها التي يحيط بها رأسه أثناء الليل ليتقي بها شر لدغ البعوض(51). على أنه لم يكن هو الذي يفيد من سخاء النهر، ذلك بأن كل فدان من الأرض كان ملكاً لفرعون لا يستطيع غيره من الناس أن يفعلوا به إلا بإذن
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 282
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الزراعة
منه، وكان على كل زارع أن يؤدي له ضريبة سنوية عينية تتراوح ما بين عُشر(52) المحصول وخُمسه(53). وكان أمراء الإقطاع وغيرهم من الأثرياء يملكون مساحات واسعة من الأرض. وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه أملاكهم من الاتساع إذا علمنا أن واحداً منهم كان يملك ألفاً وخمسمائة بقرة(54). وكانت الحبوب والسمك واللحوم أهم الأطعمة. وقد عثر على بقية من نقش يحدد ما يسمح للتلميذ أن يأكله ويشربه، وقد ذكر فيه ثلاثة وثلاثون نوعاً من لحم الحيوان وطير، وثمانية وأربعون صنفاً من الشواء، وأربعة وعشرون نوعاً من الشراب(55). وكان الأغنياء يبلعون طعامهم بالنبيذ والفقراء بشراب الشعير المخمر(56).
وكانت معيشة الفلاحين معيشة ضنكاً. فأما من كان منهم مزارعاً "حراً " فلم يكن يخضع إلا للوسيط والجابي، وكان هذان الرجلان يعاملانه على أساس المبادئ الاقتصادية التي ثبتت تقاليدها على مدى الأيام، فكانوا يأخذون من محصول الأرض "كل ما تتحمله وسائل النقل". وإلى القارئ رأْي أحد الكتبة الظرفاء في حياة معاصريه من الرجال الذين كانوا يطعمون مصر القديمة:
"هلا استعدْت في خيالك صورة الزارع حين ُيجبى منه عُشر حَبّه ؟ لقد أتلفَتْ الديدان نصف القمح، وأكَلَتْ أفراس البحر ما بقى له منه، وهاجمتها في الحقول جماعات كبيرة من الجرذان، ونزلَت بها الصراصير؛ والماشية النهمة، والطيور الصغيرة تختلس منها الشيء الكثير؛ وإذا غفل الفلاح لحظة عما بقي له في الأرض، عدا عليه اللصوص. يضاف إلى هذا أن السيور التي تربط الحديد والمعزقة فقد بليت، وأن الثورين قد ماتا من جرّ المحراث. وفي هذه اللحظة يخرج الجابي من القارب عند المرسى ليطلب العشور، ثم يأتي حُرّاس أبواب مخازن "الملك" بعصيّهم، والزنوج بجريد النخل، يصيحون: تعالوا الآن، تعالوا! فإذا لم يأتهم أحد طرحوا الزارع أرضاً، وربطوه، وجرّوه إلى القناة وألقوه فيها
صفحة رقم : 283
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الزراعة
مبتدئين برأسه، وزوجته مربوطة معه، ثم يسلك أطفاله في السلاسل، ويفرّ جيرانه من حوله لينقذوا حبوبهم"(57).
تلك بطبيعة الحال قطعة أدبية فيها كثير من المبالغة، ولكن كاتبها كان في وسعه أن يضيف إليها أن الفلاح كان معرضاً في كل وقت إلى أن يسخر في العمل لخدمة الملك، يطهر قنوات الري، وينشئ الطرق، ويحرث الأراضي الملكية، ويجرّ الحجارة الضخمة لإقامة المسلات وتشييد الأهرام والهياكل والقصور. وأكبر ظننا أن كثرة العاملين في الحقول كانت قانعة راضية بفقرها صابرة عليه. وكان كثيرون منهم عبيدا من أسرى الحرب أو المدنيين؛ وكانت الغارات تنظم أحياناً للقبض على العبيد، وكان يؤتى بالنساء والأطفال من خارج البلاد ليبعن في البلاد لمن يدفع فيهن أغلى الأثمان. وفي متحف ليدن نقش بارز قديم يصور موكباً طويلا من الأسرى الآسيويين يسيرون مكتئبين إلى أرض الأسر، ويراهم الإنسان أحياء على هذا الحجر الناطق وأياديهم موثوقة خلف ظهورهم أو رؤوسهم، أو موضوعة في أصفاد قوية من الخشب، وعلى وجوههم إمارات الحقد المنبعثة من اليأس.
صفحة رقم : 284
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
2- الصناعة
المعدنون - الصناع - العمال - المهندسون -
النقل - البريد - التجارة وشئون المال - الكتبة
وازداد الفائض من الثروة شيئاً فشيئاً نتيجة عمل الزراع، وادخر الطعام لمن يعملونه في التجارة والصناعة. وكانت مصر تستورد المعادن من بلاد العرب والنوبة لقلتها فيها. وكان بُعد مراكز التعدين مما لا يغري الأهالي باستغلالها لحسابهم الخاص، ولذلك ظلت صناعة التعدين قروناً كثيرة محتكرة للحكومة(58). وكانت مناجم النحاس تغل مقادير قليلة منه(59)، أما الحديد فكان يستورد من بلاد الحيثيين، وكانت مناجم الذهب منتشرة على طول الضفة الشرقية للنيل وفي
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الزراعة
منه، وكان على كل زارع أن يؤدي له ضريبة سنوية عينية تتراوح ما بين عُشر(52) المحصول وخُمسه(53). وكان أمراء الإقطاع وغيرهم من الأثرياء يملكون مساحات واسعة من الأرض. وفي وسعنا أن نتصور ما كانت عليه أملاكهم من الاتساع إذا علمنا أن واحداً منهم كان يملك ألفاً وخمسمائة بقرة(54). وكانت الحبوب والسمك واللحوم أهم الأطعمة. وقد عثر على بقية من نقش يحدد ما يسمح للتلميذ أن يأكله ويشربه، وقد ذكر فيه ثلاثة وثلاثون نوعاً من لحم الحيوان وطير، وثمانية وأربعون صنفاً من الشواء، وأربعة وعشرون نوعاً من الشراب(55). وكان الأغنياء يبلعون طعامهم بالنبيذ والفقراء بشراب الشعير المخمر(56).
وكانت معيشة الفلاحين معيشة ضنكاً. فأما من كان منهم مزارعاً "حراً " فلم يكن يخضع إلا للوسيط والجابي، وكان هذان الرجلان يعاملانه على أساس المبادئ الاقتصادية التي ثبتت تقاليدها على مدى الأيام، فكانوا يأخذون من محصول الأرض "كل ما تتحمله وسائل النقل". وإلى القارئ رأْي أحد الكتبة الظرفاء في حياة معاصريه من الرجال الذين كانوا يطعمون مصر القديمة:
"هلا استعدْت في خيالك صورة الزارع حين ُيجبى منه عُشر حَبّه ؟ لقد أتلفَتْ الديدان نصف القمح، وأكَلَتْ أفراس البحر ما بقى له منه، وهاجمتها في الحقول جماعات كبيرة من الجرذان، ونزلَت بها الصراصير؛ والماشية النهمة، والطيور الصغيرة تختلس منها الشيء الكثير؛ وإذا غفل الفلاح لحظة عما بقي له في الأرض، عدا عليه اللصوص. يضاف إلى هذا أن السيور التي تربط الحديد والمعزقة فقد بليت، وأن الثورين قد ماتا من جرّ المحراث. وفي هذه اللحظة يخرج الجابي من القارب عند المرسى ليطلب العشور، ثم يأتي حُرّاس أبواب مخازن "الملك" بعصيّهم، والزنوج بجريد النخل، يصيحون: تعالوا الآن، تعالوا! فإذا لم يأتهم أحد طرحوا الزارع أرضاً، وربطوه، وجرّوه إلى القناة وألقوه فيها
صفحة رقم : 283
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الزراعة
مبتدئين برأسه، وزوجته مربوطة معه، ثم يسلك أطفاله في السلاسل، ويفرّ جيرانه من حوله لينقذوا حبوبهم"(57).
تلك بطبيعة الحال قطعة أدبية فيها كثير من المبالغة، ولكن كاتبها كان في وسعه أن يضيف إليها أن الفلاح كان معرضاً في كل وقت إلى أن يسخر في العمل لخدمة الملك، يطهر قنوات الري، وينشئ الطرق، ويحرث الأراضي الملكية، ويجرّ الحجارة الضخمة لإقامة المسلات وتشييد الأهرام والهياكل والقصور. وأكبر ظننا أن كثرة العاملين في الحقول كانت قانعة راضية بفقرها صابرة عليه. وكان كثيرون منهم عبيدا من أسرى الحرب أو المدنيين؛ وكانت الغارات تنظم أحياناً للقبض على العبيد، وكان يؤتى بالنساء والأطفال من خارج البلاد ليبعن في البلاد لمن يدفع فيهن أغلى الأثمان. وفي متحف ليدن نقش بارز قديم يصور موكباً طويلا من الأسرى الآسيويين يسيرون مكتئبين إلى أرض الأسر، ويراهم الإنسان أحياء على هذا الحجر الناطق وأياديهم موثوقة خلف ظهورهم أو رؤوسهم، أو موضوعة في أصفاد قوية من الخشب، وعلى وجوههم إمارات الحقد المنبعثة من اليأس.
صفحة رقم : 284
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
2- الصناعة
المعدنون - الصناع - العمال - المهندسون -
النقل - البريد - التجارة وشئون المال - الكتبة
وازداد الفائض من الثروة شيئاً فشيئاً نتيجة عمل الزراع، وادخر الطعام لمن يعملونه في التجارة والصناعة. وكانت مصر تستورد المعادن من بلاد العرب والنوبة لقلتها فيها. وكان بُعد مراكز التعدين مما لا يغري الأهالي باستغلالها لحسابهم الخاص، ولذلك ظلت صناعة التعدين قروناً كثيرة محتكرة للحكومة(58). وكانت مناجم النحاس تغل مقادير قليلة منه(59)، أما الحديد فكان يستورد من بلاد الحيثيين، وكانت مناجم الذهب منتشرة على طول الضفة الشرقية للنيل وفي
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 285
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
بلاد النوبة، كما كان يؤتى به من خزائن جميع الولايات الخاضعة لسلطان مصر. ويصف ديودور الصقلي (56 ق.م) المعدنين المصريين وهم يتبعون بالمصباح والمعول عروق الذهب في الأرض، والأطفال وهم يحملون المعدن الخام، والمهارس الحجرية وهي تطحنه، والشيوخ والعجائز وهم يغسلونه. ولسنا نعرف بالضبط ما في هذه الفقرة الشهيرة من تزييف مبعثه النعرة القومية العارمة:
"إن ملوك مصر يجمعون السجناء الذين أدانهم القضاء، وأسرى الحرب وغيرهم ممن وجهت إليهم التهم الباطلة وزجوا في السجون في سورة من الغضب، وهؤلاء كلهم يرسلون إلى مناجم الذهب تارة وحدهم وتارة مع جميع أسرهم، ليقتص منهم عن جرائم ارتكبها المجرمون منهم، أو ليستخدموا في الحصول على دخل كبير نتيجة كدهم... وإذا كان هؤلاء العمال عاجزين عن العناية بأجسامهم، ليس لهم ثياب تستر عريهم، فإن كل من يرى هؤلاء البائسين المنكودي الحظ تأخذه الرحمة بهم لفرط شقائهم. ذلك أنه لا يرى أحداً يرحم المرضى والمشوهين والعجزة والضعاف من النساء، أو يخفف العمل عنهم. ولكن هؤلاء كلهم يُلزمون بالدأب على العمل حتى تخور قواهم، فيموتوا في ذل الأسر. ولهذا فإن هؤلاء البائسين المساكين يرون مستقبلهم أتعس من ماضيهم لقسوة العقاب الذي يوقع عليهم، وهم من أجل ذلك يفضلون الموت على الحياة"(60).
وعرفت مصر في عهد الأسرات الأولى كيف تصنع البرنز بمزج النحاس بالقصدير، وصنعت منه أو الأمر أسلحة برنزية كالسيوف، والخوذات والدروع؛ ثم صنعت منه بعدئذ أدوات برنزية كالعجلات، والهراسات، والرافعات، والبكرات، وآلات رفع الأثقال، والأوتاد، والمخارط، واللوالب، والمثاقب التي تثقب أقسى أحجار الديوريت، والمناشر التي تقطع ألواح الحجارة الضخمة لصنع التوابيت. وكان العمال المصريون يصنعون الآجر والأسمنت والمصيص، ويطلون الفخار بطبقة زجاجية، ويصنعون الزجاج وينقشونه هو والفخار بمختلف
صفحة رقم : 286
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
الألوان. وقد برعوا في حفر الخشب يصنعون منه كل ما يصلح لصنعه من قوارب وعربات وكراسي، وأسرة، وتوابيت جميلة تكاد تغري الأحياء بالموت. واتخذوا من جلود الأنعام ملابس وكنانات، ودروعاً، ومقاعد. وقد صورت على جدران المقابر كل الفنون المتصلة بدبغ الجلود، ولا يزال الأساكفة إلى الآن يستخدمون السكاكين المقوسة المصقولة على تلك الجدران في أيدي دابغي الجلود(61). وصنع المصريون من نبات البردي الحبال والحصر والأخفاف والورق. وابتدعوا فن الطلاء بالميناء والورنيش واستخدموا الكيمياء في الصناعة. ومن الصناع من كان يعمل في نسج القماش من أدق الخيوط المعروفة في تاريخ النسج كله. وقد عثر المنقبون على نماذج من الكتان منسوجة من أربعة آلاف عام، وعلى الرغم من عوادي الأيام فإن " خيوطها قد بلغت من الدقة حداً لا يستطيع الإنسان معه أن يميزها من خيوط الحرير إلا بمجهر. وإن أحسن ما أخرجته المناسج الآلية في هذه الأيام ليعد خشنا إذا قيس إلى هذا النسيج الذي كان يصنعه المصريون الأقدمون بأنوالهم اليدوية(62). وفي هذا يقول بسكل: "إذا فاضلنا بين قدرة المصريين الفنية وقدرتنا نحن، تبين لنا أننا كنا قبل اختراع الآلة البخارية لا نكاد نفوقهم في شيء"(63).
وكانت الكثرة الغالبة من الصناع من الأحرار، وقلتهم من الرقيق. وكان العاملون في كل صناعة من الصناعات يؤلفون طبقة خاصة كما هو الحال في الهند اليوم. وكان يطلب إلى الأبناء أن يتخذوا صناعات آبائهم . وقد جاءتهم الحروب بآلاف من الأسرى فكانوا عونا على إنشاء الضياع الواسعة وعلى رقي فن الهندسة. وقد أهدى رمسيس الثالث في أثناء حكمه 000ر113 أسير إلى الهياكل". وكان النظام المألوف للصناع الأحرار أن تؤلف منهم فرق تتبع
صفحة رقم : 287
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
رئيساً منهم أو مشرفاً عليهم يؤجر على عملها جملة ويؤدي هو لأفرادها أجورهم. وفي المتحف البريطاني لوحة طباشيرية سجل فيها أحد رؤساء العمال أسماء ثلاثة وأربعين عاملا ودّون أمام أسمائهم أيام غيابهم وأسباب هذا الغياب من "مرض" أو "تضحية للإله" أو مجرد "الكسل". وكان الإضراب كثير الحدوث؛ وقد حدث مرة أن تأخر صرف الأجور للعمال زمناً طويلاً فحاصروا رئيسهم وأنذروه بقولهم له : "لقد ساقنا إلى هذا المكان الجوع والعطش، وليست لنا ثياب، وليس عندنا زيت ولا طعام؛ فاكتب إلى سيدنا الملك في هذا الأمر، واكتب إلى الحاكم (حاكم المقاطعة) الذي يشرف على شؤوننا حتى يعطيانا ما نقتات به"(67) . وتروي إحدى القصص اليونانية المتواترة خبر فتنة صماء اندلع لهيبها في مصر واستولى فيها العبيد على إحدى المديريات، وظلت في أيديهم زمنا طويلاً كانت نتيجته أن الزمن، الذي يجيز كل شيء، أقر امتلاكهم إياها. لكن النقوش المصرية لا تذكر شيئاً قط عن هذه الفتنة(68). ومن أغرب الأشياء أن حضارة كانت تستغل العمال هذا الاستغلال القاسي لم تعرف أو لم تسجل إلا عددا ضئيلاً من الثورات.
وكان فن الهندسة عند المصريين أرقى من كل ما عرفه منه اليونان أو الرومان، أو عرفته أوربا قبل الانقلاب الصناعي؛ ولم يتفوق عليهم فيه إلا عصرنا الحاضر، وحتى في هذا القول الأخير قد نكون مخطئين. مثال ذلك أن سنوسريت الثالث شاد سوراً حول بحيرة موريس طوله سبعة وعشرين ميلاً ليجمع فيها ماء منخفض الفيوم، وأصلح بعمله هذا 000ر25 فدان كانت من قبل مناقع، فأصبحت صالحة للزراعة، هذا إلى أنه اتخذ من هذه البحيرة خزاناً واسعاً لماء الري(69). واحتفرت قنوات عظيمة منها ما يصل إلى النيل بالبحر الأحمر، واستخدمت الصناديق الغاطسة للحفر تحت الماء(70)، ونقلت المسلات التي تزن ألف طن من
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
بلاد النوبة، كما كان يؤتى به من خزائن جميع الولايات الخاضعة لسلطان مصر. ويصف ديودور الصقلي (56 ق.م) المعدنين المصريين وهم يتبعون بالمصباح والمعول عروق الذهب في الأرض، والأطفال وهم يحملون المعدن الخام، والمهارس الحجرية وهي تطحنه، والشيوخ والعجائز وهم يغسلونه. ولسنا نعرف بالضبط ما في هذه الفقرة الشهيرة من تزييف مبعثه النعرة القومية العارمة:
"إن ملوك مصر يجمعون السجناء الذين أدانهم القضاء، وأسرى الحرب وغيرهم ممن وجهت إليهم التهم الباطلة وزجوا في السجون في سورة من الغضب، وهؤلاء كلهم يرسلون إلى مناجم الذهب تارة وحدهم وتارة مع جميع أسرهم، ليقتص منهم عن جرائم ارتكبها المجرمون منهم، أو ليستخدموا في الحصول على دخل كبير نتيجة كدهم... وإذا كان هؤلاء العمال عاجزين عن العناية بأجسامهم، ليس لهم ثياب تستر عريهم، فإن كل من يرى هؤلاء البائسين المنكودي الحظ تأخذه الرحمة بهم لفرط شقائهم. ذلك أنه لا يرى أحداً يرحم المرضى والمشوهين والعجزة والضعاف من النساء، أو يخفف العمل عنهم. ولكن هؤلاء كلهم يُلزمون بالدأب على العمل حتى تخور قواهم، فيموتوا في ذل الأسر. ولهذا فإن هؤلاء البائسين المساكين يرون مستقبلهم أتعس من ماضيهم لقسوة العقاب الذي يوقع عليهم، وهم من أجل ذلك يفضلون الموت على الحياة"(60).
وعرفت مصر في عهد الأسرات الأولى كيف تصنع البرنز بمزج النحاس بالقصدير، وصنعت منه أو الأمر أسلحة برنزية كالسيوف، والخوذات والدروع؛ ثم صنعت منه بعدئذ أدوات برنزية كالعجلات، والهراسات، والرافعات، والبكرات، وآلات رفع الأثقال، والأوتاد، والمخارط، واللوالب، والمثاقب التي تثقب أقسى أحجار الديوريت، والمناشر التي تقطع ألواح الحجارة الضخمة لصنع التوابيت. وكان العمال المصريون يصنعون الآجر والأسمنت والمصيص، ويطلون الفخار بطبقة زجاجية، ويصنعون الزجاج وينقشونه هو والفخار بمختلف
صفحة رقم : 286
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
الألوان. وقد برعوا في حفر الخشب يصنعون منه كل ما يصلح لصنعه من قوارب وعربات وكراسي، وأسرة، وتوابيت جميلة تكاد تغري الأحياء بالموت. واتخذوا من جلود الأنعام ملابس وكنانات، ودروعاً، ومقاعد. وقد صورت على جدران المقابر كل الفنون المتصلة بدبغ الجلود، ولا يزال الأساكفة إلى الآن يستخدمون السكاكين المقوسة المصقولة على تلك الجدران في أيدي دابغي الجلود(61). وصنع المصريون من نبات البردي الحبال والحصر والأخفاف والورق. وابتدعوا فن الطلاء بالميناء والورنيش واستخدموا الكيمياء في الصناعة. ومن الصناع من كان يعمل في نسج القماش من أدق الخيوط المعروفة في تاريخ النسج كله. وقد عثر المنقبون على نماذج من الكتان منسوجة من أربعة آلاف عام، وعلى الرغم من عوادي الأيام فإن " خيوطها قد بلغت من الدقة حداً لا يستطيع الإنسان معه أن يميزها من خيوط الحرير إلا بمجهر. وإن أحسن ما أخرجته المناسج الآلية في هذه الأيام ليعد خشنا إذا قيس إلى هذا النسيج الذي كان يصنعه المصريون الأقدمون بأنوالهم اليدوية(62). وفي هذا يقول بسكل: "إذا فاضلنا بين قدرة المصريين الفنية وقدرتنا نحن، تبين لنا أننا كنا قبل اختراع الآلة البخارية لا نكاد نفوقهم في شيء"(63).
وكانت الكثرة الغالبة من الصناع من الأحرار، وقلتهم من الرقيق. وكان العاملون في كل صناعة من الصناعات يؤلفون طبقة خاصة كما هو الحال في الهند اليوم. وكان يطلب إلى الأبناء أن يتخذوا صناعات آبائهم . وقد جاءتهم الحروب بآلاف من الأسرى فكانوا عونا على إنشاء الضياع الواسعة وعلى رقي فن الهندسة. وقد أهدى رمسيس الثالث في أثناء حكمه 000ر113 أسير إلى الهياكل". وكان النظام المألوف للصناع الأحرار أن تؤلف منهم فرق تتبع
صفحة رقم : 287
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
رئيساً منهم أو مشرفاً عليهم يؤجر على عملها جملة ويؤدي هو لأفرادها أجورهم. وفي المتحف البريطاني لوحة طباشيرية سجل فيها أحد رؤساء العمال أسماء ثلاثة وأربعين عاملا ودّون أمام أسمائهم أيام غيابهم وأسباب هذا الغياب من "مرض" أو "تضحية للإله" أو مجرد "الكسل". وكان الإضراب كثير الحدوث؛ وقد حدث مرة أن تأخر صرف الأجور للعمال زمناً طويلاً فحاصروا رئيسهم وأنذروه بقولهم له : "لقد ساقنا إلى هذا المكان الجوع والعطش، وليست لنا ثياب، وليس عندنا زيت ولا طعام؛ فاكتب إلى سيدنا الملك في هذا الأمر، واكتب إلى الحاكم (حاكم المقاطعة) الذي يشرف على شؤوننا حتى يعطيانا ما نقتات به"(67) . وتروي إحدى القصص اليونانية المتواترة خبر فتنة صماء اندلع لهيبها في مصر واستولى فيها العبيد على إحدى المديريات، وظلت في أيديهم زمنا طويلاً كانت نتيجته أن الزمن، الذي يجيز كل شيء، أقر امتلاكهم إياها. لكن النقوش المصرية لا تذكر شيئاً قط عن هذه الفتنة(68). ومن أغرب الأشياء أن حضارة كانت تستغل العمال هذا الاستغلال القاسي لم تعرف أو لم تسجل إلا عددا ضئيلاً من الثورات.
وكان فن الهندسة عند المصريين أرقى من كل ما عرفه منه اليونان أو الرومان، أو عرفته أوربا قبل الانقلاب الصناعي؛ ولم يتفوق عليهم فيه إلا عصرنا الحاضر، وحتى في هذا القول الأخير قد نكون مخطئين. مثال ذلك أن سنوسريت الثالث شاد سوراً حول بحيرة موريس طوله سبعة وعشرين ميلاً ليجمع فيها ماء منخفض الفيوم، وأصلح بعمله هذا 000ر25 فدان كانت من قبل مناقع، فأصبحت صالحة للزراعة، هذا إلى أنه اتخذ من هذه البحيرة خزاناً واسعاً لماء الري(69). واحتفرت قنوات عظيمة منها ما يصل إلى النيل بالبحر الأحمر، واستخدمت الصناديق الغاطسة للحفر تحت الماء(70)، ونقلت المسلات التي تزن ألف طن من
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 288
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
أماكن قاصية. وإذا جاز لنا أن نصدق ما ينقله لنا هيرودوت، أو نحكم على أعمال السابقين بما نشاهده من صورها في النقوش البارزة التي خلفتها الأسرة الثامنة عشرة، قلنا أن هذه الحجارة الضخمة كان يجرها آلاف من العبيد على عروق من الخشب مطلية بالشحم، ثم ترفع إلى أماكنها في البناء على طرق طويلة تبدأ من أماكن بعيدة(71). ولقد كانت الآلات نادرة لأن الجهد العضلي كان رخيصاً، وليس أدل على هذا الرخص من نقش بارز صور فيه ثمانمائة من المجدفين يدفعون سبعة وعشرين قارباً تجر وراءها صندلاً للنقل يحمل مسلتين(72). هذا هو العصر الذهبي الذي يريد من ينادون بتحطيم الآلات أن يعودوا إليه. وكانت سفن يبلغ طول الواحدة منها مائة قدم وعرضها خمسين قدماً تمخر عباب النيل والبحر الأحمر، ثم انتقلت آخر الأمر إلى البحر الأبيض المتوسط. أما في البر فقد كانت البضائع ينقلها الحمالون، ثم استخدمت في نقلها الحمير ثم الخيل، وأكبر الظن أن الهكسوس هم الذين جاءوا بالخيل إلى مصر. ولم يظهر الجمل في مصر إلا في عهد البطالمة(73). وكان الفقراء من أهل البلاد يتنقلون مشياً على الأقدام أو يستخدمون قواربهم البسيطة، أما الأغنياء فكانوا يركبون رجازات يحملها العبيد ثم صاروا فيما بعد يركبون عربات غير أنيقة الصنع يقع ثقلها كله أمام محور العجل(74).
وكان لدى المصريين بريد منتظم؛ فقد جاء في بردية قديمة : "اكتب إلىّ مع حامل الرسائل" (75). إلا أن وسائل الاتصال لم تكن مع ذلك ميسرة، فقد كانت الطرق قليلة غير معبدة ما عدا الطريق الحربي الممتد من نهر الفرات ماراً بغزة (76). وكان التواء النيل- وهو أهم وسائل الانتقال وقتئذ- مما ضاعف البعد بين المدن المختلفة. وكانت التجارة الداخلية بدائية نسبياً، يتم معظمها بطريق المقايضة في أسواق القرى، ونمت التجارة الخارجية نمواً بطيئاً،
صفحة رقم : 289
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
وعاقها ما كان يفرض عليها من قيود شديدة أشبه ما تكون بأحدث الحواجز الجمركية المفروضة على التجارة الخارجية في هذه الأيام. ذلك أن ممالك الشرق الأدنى كانت قوية الإيمان بمبدأ " الحماية التجارية " لأن الضرائب الجمركية كانت مورداً للخزائن الملكية. على أن مصر مع هذا قد أثرت بما كانت تستورده من المواد الغفل وتصدره من المصنوعات. وكانت أسواق مصر غاصة بالتجار السوريين والكريتيين والقبرصيين، كما كانت السفن الفينيقية تجري في النيل من مصبه في الشمال إلى أرصفة طيبة الكثيرة الحركة في الجنوب(77).
ولم تكن النقود قد بدأت تستعمل في البيع والشراء، ولذلك كان كل شيء، حتى مرتبات أكبر الموظفين، يؤدى، سلعاً، حَّبا أو خبزاً، أو خميرة، أو بيرة أو نحوها. وكانت الضرائب تجبى عيناً، ولم تكن خزائن الملك غاصة بالنقد بل كانت مخازن تكدس فيها آلاف السلع من منتجات الحقول وبضائع الحوانيت. ولما أخذت المعادن الثمينة تتدفق على مصر بعد فتوح تحتمس الثالث شرع التجار يؤدون ثمن ما يبتاعونه من البضائع حلقات أو سبائك من الذهب، تقدر قيمتها بالوزن في كل عملية تجارية؛ ولم تضرب نقود ذات قيمة محددة تضمنها الدولة لتسهيل هذه العمليات. على أن نظام الائتمان قد نشأ بينهم وارتقى، وكثيرا ما كانت التحاويل والصكوك المكتوبة تحل محل المقايضة أو الدفع فورا؛ ووجد الكتبة في كل مكان يعجلون الأعمال بوثائق المبادلة القانونية، وأعمال المحاسبة والأعمال المالية.
وما من أحد زار متحف اللوفر إلا شاهد تمثال الكاتب المصري الجالس مطوي الساقين، وجسمه كله يكاد يكون عارياً، ومن خلف أذنه قلم احتياطي غير القلم الذي يمسكه بيده، وهو يدون ما يقوم به ويسجل ما يؤدى من العمل، وما يسلم من البضائع، وأثمانها وأكلافها، ومكسبها وخسارتها. يحصي الماشية الذاهبة إلى المذبح، والحبوب وهي تكال للبيع، ويكتب العقود والوصايا، ويقدر ما يجب على سيده أن يؤديه من ضريبة الدخل. والحق أنه لا جديد تحت الشمس.
صفحة رقم : 290
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
وهو حريص معني بعمله مجد فيه نشيط نشاطا آلياً؛ وأوتي قسطاً من الذكاء ولكنه ذكاء يقف عند الحد الذي يمنعه أن يكون خطراً؛ حياته رتيبة مملة، ولكنه يواسي نفسه بكتابة المقالات عما يكتنف حياة العامل اليدوي من صعاب،
صفحة رقم : 291
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
وما يحيط بأولئك الذين طعامهم الورق ودمائهم المداد من عزة وكرامة لا تقلان عن عزة الأمراء وكرامتهم.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
أماكن قاصية. وإذا جاز لنا أن نصدق ما ينقله لنا هيرودوت، أو نحكم على أعمال السابقين بما نشاهده من صورها في النقوش البارزة التي خلفتها الأسرة الثامنة عشرة، قلنا أن هذه الحجارة الضخمة كان يجرها آلاف من العبيد على عروق من الخشب مطلية بالشحم، ثم ترفع إلى أماكنها في البناء على طرق طويلة تبدأ من أماكن بعيدة(71). ولقد كانت الآلات نادرة لأن الجهد العضلي كان رخيصاً، وليس أدل على هذا الرخص من نقش بارز صور فيه ثمانمائة من المجدفين يدفعون سبعة وعشرين قارباً تجر وراءها صندلاً للنقل يحمل مسلتين(72). هذا هو العصر الذهبي الذي يريد من ينادون بتحطيم الآلات أن يعودوا إليه. وكانت سفن يبلغ طول الواحدة منها مائة قدم وعرضها خمسين قدماً تمخر عباب النيل والبحر الأحمر، ثم انتقلت آخر الأمر إلى البحر الأبيض المتوسط. أما في البر فقد كانت البضائع ينقلها الحمالون، ثم استخدمت في نقلها الحمير ثم الخيل، وأكبر الظن أن الهكسوس هم الذين جاءوا بالخيل إلى مصر. ولم يظهر الجمل في مصر إلا في عهد البطالمة(73). وكان الفقراء من أهل البلاد يتنقلون مشياً على الأقدام أو يستخدمون قواربهم البسيطة، أما الأغنياء فكانوا يركبون رجازات يحملها العبيد ثم صاروا فيما بعد يركبون عربات غير أنيقة الصنع يقع ثقلها كله أمام محور العجل(74).
وكان لدى المصريين بريد منتظم؛ فقد جاء في بردية قديمة : "اكتب إلىّ مع حامل الرسائل" (75). إلا أن وسائل الاتصال لم تكن مع ذلك ميسرة، فقد كانت الطرق قليلة غير معبدة ما عدا الطريق الحربي الممتد من نهر الفرات ماراً بغزة (76). وكان التواء النيل- وهو أهم وسائل الانتقال وقتئذ- مما ضاعف البعد بين المدن المختلفة. وكانت التجارة الداخلية بدائية نسبياً، يتم معظمها بطريق المقايضة في أسواق القرى، ونمت التجارة الخارجية نمواً بطيئاً،
صفحة رقم : 289
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
وعاقها ما كان يفرض عليها من قيود شديدة أشبه ما تكون بأحدث الحواجز الجمركية المفروضة على التجارة الخارجية في هذه الأيام. ذلك أن ممالك الشرق الأدنى كانت قوية الإيمان بمبدأ " الحماية التجارية " لأن الضرائب الجمركية كانت مورداً للخزائن الملكية. على أن مصر مع هذا قد أثرت بما كانت تستورده من المواد الغفل وتصدره من المصنوعات. وكانت أسواق مصر غاصة بالتجار السوريين والكريتيين والقبرصيين، كما كانت السفن الفينيقية تجري في النيل من مصبه في الشمال إلى أرصفة طيبة الكثيرة الحركة في الجنوب(77).
ولم تكن النقود قد بدأت تستعمل في البيع والشراء، ولذلك كان كل شيء، حتى مرتبات أكبر الموظفين، يؤدى، سلعاً، حَّبا أو خبزاً، أو خميرة، أو بيرة أو نحوها. وكانت الضرائب تجبى عيناً، ولم تكن خزائن الملك غاصة بالنقد بل كانت مخازن تكدس فيها آلاف السلع من منتجات الحقول وبضائع الحوانيت. ولما أخذت المعادن الثمينة تتدفق على مصر بعد فتوح تحتمس الثالث شرع التجار يؤدون ثمن ما يبتاعونه من البضائع حلقات أو سبائك من الذهب، تقدر قيمتها بالوزن في كل عملية تجارية؛ ولم تضرب نقود ذات قيمة محددة تضمنها الدولة لتسهيل هذه العمليات. على أن نظام الائتمان قد نشأ بينهم وارتقى، وكثيرا ما كانت التحاويل والصكوك المكتوبة تحل محل المقايضة أو الدفع فورا؛ ووجد الكتبة في كل مكان يعجلون الأعمال بوثائق المبادلة القانونية، وأعمال المحاسبة والأعمال المالية.
وما من أحد زار متحف اللوفر إلا شاهد تمثال الكاتب المصري الجالس مطوي الساقين، وجسمه كله يكاد يكون عارياً، ومن خلف أذنه قلم احتياطي غير القلم الذي يمسكه بيده، وهو يدون ما يقوم به ويسجل ما يؤدى من العمل، وما يسلم من البضائع، وأثمانها وأكلافها، ومكسبها وخسارتها. يحصي الماشية الذاهبة إلى المذبح، والحبوب وهي تكال للبيع، ويكتب العقود والوصايا، ويقدر ما يجب على سيده أن يؤديه من ضريبة الدخل. والحق أنه لا جديد تحت الشمس.
صفحة رقم : 290
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
وهو حريص معني بعمله مجد فيه نشيط نشاطا آلياً؛ وأوتي قسطاً من الذكاء ولكنه ذكاء يقف عند الحد الذي يمنعه أن يكون خطراً؛ حياته رتيبة مملة، ولكنه يواسي نفسه بكتابة المقالات عما يكتنف حياة العامل اليدوي من صعاب،
صفحة رقم : 291
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الصناعة
وما يحيط بأولئك الذين طعامهم الورق ودمائهم المداد من عزة وكرامة لا تقلان عن عزة الأمراء وكرامتهم.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 292
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
3- نظام الحكم
الموظفون - الشرائع - الوزير - الملك
وكان الملك وأعيان الأقاليم يستعينون بهؤلاء الكتبة للمحافظة على نظام وسلطان القانون في الدولة. وتصور بعض الألواح القديمة الكتبة يقومون بعملية الإحصاء، ويحسبون ما دخل الخزانة من ضريبة الدخل. ويستعينون بالمقاييس النيلية التي تسجل ارتفاع ماء النهر على معرفة ما سيكون عليه موسم الحصاد، فيقدرون منه إيراد الحكومة في العام المقبل، ويخصصون لكل مصلحة من المصالح ما سيكون لها من نصيب في هذا الإيراد؛ وكان عليهم فوق ذلك أن يشرفوا على شئون الصناعة والتجارة. ولقد أفلحوا من بداية التاريخ تقريباً في وضع نظام اقتصادي تشرف الدولة عليه(78).
وكانت القوانين المدنية والجنائية غاية في الرقي، كما كانت القوانين الملكية والميراث من أيام الأسرة الخامسة قوانين مفصلة دقيقة(79). وكان الناس جميعاً متساوين مساواة تامة أمام القانون كما هم متساوون أمامه في هذه الأيام- أي متى كان الطرفان المتنازعان متساوين في الموارد وفي النقود. وأقدم وثيقة قانونية في العالم كله عريضة دعوى محفوظة الآن في المتحف البريطاني تعرض على المحكمة قضية من قضايا الميراث المعقدة. وكان القضاة يطلبون أن يُترافع في القضايا، وأن يرد على حجج المترافعين، وأن يناقش أصحابها ويحاجون، على ألا يكون ذلك كله خطبا تلقى بل مذكرات مكتوبة تقدم للقضاة- وهو نظام لا يقل في شأنه عن نظام التقاضي المعقد في هذه الأيام. وكان الحانث في يمينه يعاقب بالإعدام(80).وكان للمصريين محاكم منظمة مختلفة الدرجات تبدأ من
صفحة رقم : 293
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
مجالس الحكم المحلية في المقاطعات وتنتهي بالمحاكم العليا في منف أو طيبة أو عين شمس(81). وكانوا يلجئون إلى التعذيب في بعض الأحيان لحمل المجرم على الاعتراف بالحق(82). وكان الضرب بالعصا من أنواع العقاب الشائعة، وكانوا يلجئون في بعض الأحيان إلى عقاب المذنب بجدع أنفه أو قطع يده أو لسانه(83)، أو نفيه إلى أقاليم المناجم، أو إعدامه بالشنق أو بالمخزق، أو بقطع رأسه أو بإحراقه مصلوباً. وكان أشد ضروب العقاب هو تحنيط المعاقب حياً، أو إحاطته بطبقة من النطرون القارض تأكل جسمه أكلاً بطيئاً(84). وكان المجرمون من علية القوم يجنبون عار الإعدام علنا بأن يسمح لهم بقتل أنفسهم بأيديهم كما تفعل طبقة الساموراي في اليابان(85). ولم يُعثر على شواهد يستدل منها على وجود نظام للشرطة، وحتى الجيش العامل- وقد كان على الدوام صغير الحجم لأن في عزلة مصر وموقعها بين الصحراء والبحر ما يرد عنها المغيرين- قلما كان يستخدم لحفظ النظام في داخل البلاد.
ذلك أن الحياة والملكية، والاطمئنان إلى سلطان القانون والحكومة تكاد تعتمد كل الاعتماد على هيبة الملك، وكانت المدارس والهياكل دعامة هذه الهيبة وليس في العالم كله أمة غير مصر- إذا استثنينا الأمة الصينية- جرؤت على أن تعتمد كل هذا الاعتماد على العوامل النفسية لحفظ الأمن في البلاد.
لقد كانت الحكومة المصرية من أحسن الحكومات نظاماً، وكانت أطول حياة من أية حكومة أخرى في التاريخ. وكان الوزير على رأس الإدارة كلها، يشغل منصب رئيس الوزراء، وقاضي القضاة، ورئيس بيت المال، وكان الملجأ الأخير للمتقاضين لا يعلو عليه في هذا إلا الملك نفسه. وترى الوزير في نقش على أحد القبور يخرج من بيته في الصباح الباكر "ليستمع إلى مظالم الفقراء ويصغي " كما هو وارد في النقش " إلى ما يقول الناس في مطالبهم، لا يميز فيها بين الحقير والعظيم" (86). وقد وصلت إلينا بردية مدهشة من عهد الإمبراطورية
صفحة رقم : 294
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
تحتوى كما تقول هي نفسها على صورة الخطاب الذي كان يلقيه الملك حين يعين الوزير في منصبه (ولربما كان هذا الخطاب قطعة أدبية من وضع كاتبها نفسه):
"اجعل عينك على مكتب الوزير؛وراقب كل ما يحدث فيه. واعلم أنه هو الدعامة التي تستند إليها جميع البلاد... ليست الوزارة حلوة، بل هي مرة. واعلم أنها ليست إظهار الاحترام الشخصي للأمراء والمستشارين؛ وليست وسيلة لاتخاذ الناس أيا كانوا عبيدا. انظر، إذا جاءك مستنصف من مصر العليا أو السفلى، فاحرص على أن يجري القانون مجراه في كل شيء، وأن يتبع في كل شيء العرف السائد في بلده، وأن (يعطي كل إنسان) حقه... واعلم أن المحاباة بغيضة إلى الإله... فانظر إلى من تعرفه نظرتك إلى من لا تعرفه، وإلى المقربين إلى الملك نظرتك إلى البعيدين عن (بيته). انظر، إن الأمير الذي يفعل هذا سيبقى هنا في هذا المكان. وليكن ما يخافه الناس من الأمير أنه يعدل في حكمه. ارع القواعد المفروضة عليك"(87).
وكان الملك نفسه هو المحكمة العليا، يستطاع رفع كل قضية إليه في أحوال معينة، إذا لم يعبأ المدعى بما يطلبه رفعها إليه من النفقات. وتمثل بعض النقوش القديمة " البيت الأعظم " الذي يجلس فيه للحكم والذي تتجمع فيه دواوين الحكومة. وقد اشتقت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريون يطلقون عليه لفظ "بيرو" والذي ترجمه اليهود إلى فرعوه، اشتق من اسمه هذا لقب الملك نفسه. وفي هذا البيت كان الملك يضطلع بواجبة الشاق الرتيب من الأعمال التنفيذية، التي كانت في بعض الأحيان لا تقل في كثرتها وفيما تتطلبه من جهود عن أعمال شندرا جويتا أو لويس الرابع عشر أو نابليون(88). وكان الملك إذا سافر قابله أمراء الإقطاع عند حدود إقطاعاتهم، وساورا في ركابه، وأولموا له
صفحة رقم : 295
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
الولائم، وقدموا له من الهدايا ما يتناسب مع ما ينتظرونه منه. وقد جاء في أحد النقوش أن نبيلا من النبلاء أهدى أمنحوتب الثاني " عربات من الفضة والذهب وتماثيل من العاج والأبنوس، وجواهر، وأسلحة وتحفا فنية " و 680 درعاً، و 140 خنجراً من البرنز ومزهريات كثيرة من المعادن الثمينة(89). وجازاه الملك على هذا بأن أخذ ابنه معه ليعيش في قصره- وهي طريقة ماكرة لاتخاذه رهينة يضمن بها ولاء هذا الشريف. وكان يتألف من أكبر رجال البلاط سناً مجلس شيوخ يسمى سارو أي مجلس العظماء مهمته أن يكون مجلساً استشارياً للملك(90). على أن هذه الاستشارة لم تكن في الواقع ضرورية لأن الملك ومن ورائه الكهنة كان يدعى أنه من سلالة الآلهة وأن الآلهة نفسها قد وهبته السلطة والحكمة. وكان اتصاله بالآلهة على هذا النحو مصدر نفوذه وهيبته. ومن أجل هذا كانت تخلع عليه إذا خوطب صفات من الإجلال يدهش لها الإنسان أحيانا. من ذلك ما جاء في قصة سنوحى إذ يحييه مواطن صالح بقوله : "أيها الملك الطويل العمر أرجو أن تهب الواحدة الذهبية (أي الإلهة حتحور) الحياة لأنفك" (91).
وكان يقف على خدمة الملك- كما يليق بشخص هذه عظمته- عدد كبير من مختلف الأعوان منهم القوّاد، وغاسِلو الملابس، وقُصّارها، وحراس خزائنها، وغيرهم من ذوي المراتب الرفيعة. وكان عشرون من الموظفين يشتركون في تزيينه، منهم حلّاقون لا يسمح لهم إلا بقص شعره وحلْق لحيته، وآخرون لإلباسه قلنسوته وتاج رأسه، ومدرمون يقصون أظافره ويدرمونها، ومعطرون يعطرون جسمه ويكحلون جفون عينيه، ويحمرون خديه وشفتيه بالصبغة الحمراء(92). وجاء في نقش على أحد القبور أن صاحب القبر كان "المشرف على صندوق دهان الشعر والوجه، المسيطر على الدهان، حامل ُخفي الملك، والذي يعني بخفيه العناية التي يرضاها القانون"(93). وكان الانحلال والضعف عاقبة هذا التنعم المفرط، وكان الملك يلجأ في بعض الأحيان إلى الترويح عن نفسه وإزالة ما يعتريه من ملل
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
3- نظام الحكم
الموظفون - الشرائع - الوزير - الملك
وكان الملك وأعيان الأقاليم يستعينون بهؤلاء الكتبة للمحافظة على نظام وسلطان القانون في الدولة. وتصور بعض الألواح القديمة الكتبة يقومون بعملية الإحصاء، ويحسبون ما دخل الخزانة من ضريبة الدخل. ويستعينون بالمقاييس النيلية التي تسجل ارتفاع ماء النهر على معرفة ما سيكون عليه موسم الحصاد، فيقدرون منه إيراد الحكومة في العام المقبل، ويخصصون لكل مصلحة من المصالح ما سيكون لها من نصيب في هذا الإيراد؛ وكان عليهم فوق ذلك أن يشرفوا على شئون الصناعة والتجارة. ولقد أفلحوا من بداية التاريخ تقريباً في وضع نظام اقتصادي تشرف الدولة عليه(78).
وكانت القوانين المدنية والجنائية غاية في الرقي، كما كانت القوانين الملكية والميراث من أيام الأسرة الخامسة قوانين مفصلة دقيقة(79). وكان الناس جميعاً متساوين مساواة تامة أمام القانون كما هم متساوون أمامه في هذه الأيام- أي متى كان الطرفان المتنازعان متساوين في الموارد وفي النقود. وأقدم وثيقة قانونية في العالم كله عريضة دعوى محفوظة الآن في المتحف البريطاني تعرض على المحكمة قضية من قضايا الميراث المعقدة. وكان القضاة يطلبون أن يُترافع في القضايا، وأن يرد على حجج المترافعين، وأن يناقش أصحابها ويحاجون، على ألا يكون ذلك كله خطبا تلقى بل مذكرات مكتوبة تقدم للقضاة- وهو نظام لا يقل في شأنه عن نظام التقاضي المعقد في هذه الأيام. وكان الحانث في يمينه يعاقب بالإعدام(80).وكان للمصريين محاكم منظمة مختلفة الدرجات تبدأ من
صفحة رقم : 293
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
مجالس الحكم المحلية في المقاطعات وتنتهي بالمحاكم العليا في منف أو طيبة أو عين شمس(81). وكانوا يلجئون إلى التعذيب في بعض الأحيان لحمل المجرم على الاعتراف بالحق(82). وكان الضرب بالعصا من أنواع العقاب الشائعة، وكانوا يلجئون في بعض الأحيان إلى عقاب المذنب بجدع أنفه أو قطع يده أو لسانه(83)، أو نفيه إلى أقاليم المناجم، أو إعدامه بالشنق أو بالمخزق، أو بقطع رأسه أو بإحراقه مصلوباً. وكان أشد ضروب العقاب هو تحنيط المعاقب حياً، أو إحاطته بطبقة من النطرون القارض تأكل جسمه أكلاً بطيئاً(84). وكان المجرمون من علية القوم يجنبون عار الإعدام علنا بأن يسمح لهم بقتل أنفسهم بأيديهم كما تفعل طبقة الساموراي في اليابان(85). ولم يُعثر على شواهد يستدل منها على وجود نظام للشرطة، وحتى الجيش العامل- وقد كان على الدوام صغير الحجم لأن في عزلة مصر وموقعها بين الصحراء والبحر ما يرد عنها المغيرين- قلما كان يستخدم لحفظ النظام في داخل البلاد.
ذلك أن الحياة والملكية، والاطمئنان إلى سلطان القانون والحكومة تكاد تعتمد كل الاعتماد على هيبة الملك، وكانت المدارس والهياكل دعامة هذه الهيبة وليس في العالم كله أمة غير مصر- إذا استثنينا الأمة الصينية- جرؤت على أن تعتمد كل هذا الاعتماد على العوامل النفسية لحفظ الأمن في البلاد.
لقد كانت الحكومة المصرية من أحسن الحكومات نظاماً، وكانت أطول حياة من أية حكومة أخرى في التاريخ. وكان الوزير على رأس الإدارة كلها، يشغل منصب رئيس الوزراء، وقاضي القضاة، ورئيس بيت المال، وكان الملجأ الأخير للمتقاضين لا يعلو عليه في هذا إلا الملك نفسه. وترى الوزير في نقش على أحد القبور يخرج من بيته في الصباح الباكر "ليستمع إلى مظالم الفقراء ويصغي " كما هو وارد في النقش " إلى ما يقول الناس في مطالبهم، لا يميز فيها بين الحقير والعظيم" (86). وقد وصلت إلينا بردية مدهشة من عهد الإمبراطورية
صفحة رقم : 294
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
تحتوى كما تقول هي نفسها على صورة الخطاب الذي كان يلقيه الملك حين يعين الوزير في منصبه (ولربما كان هذا الخطاب قطعة أدبية من وضع كاتبها نفسه):
"اجعل عينك على مكتب الوزير؛وراقب كل ما يحدث فيه. واعلم أنه هو الدعامة التي تستند إليها جميع البلاد... ليست الوزارة حلوة، بل هي مرة. واعلم أنها ليست إظهار الاحترام الشخصي للأمراء والمستشارين؛ وليست وسيلة لاتخاذ الناس أيا كانوا عبيدا. انظر، إذا جاءك مستنصف من مصر العليا أو السفلى، فاحرص على أن يجري القانون مجراه في كل شيء، وأن يتبع في كل شيء العرف السائد في بلده، وأن (يعطي كل إنسان) حقه... واعلم أن المحاباة بغيضة إلى الإله... فانظر إلى من تعرفه نظرتك إلى من لا تعرفه، وإلى المقربين إلى الملك نظرتك إلى البعيدين عن (بيته). انظر، إن الأمير الذي يفعل هذا سيبقى هنا في هذا المكان. وليكن ما يخافه الناس من الأمير أنه يعدل في حكمه. ارع القواعد المفروضة عليك"(87).
وكان الملك نفسه هو المحكمة العليا، يستطاع رفع كل قضية إليه في أحوال معينة، إذا لم يعبأ المدعى بما يطلبه رفعها إليه من النفقات. وتمثل بعض النقوش القديمة " البيت الأعظم " الذي يجلس فيه للحكم والذي تتجمع فيه دواوين الحكومة. وقد اشتقت من اسم هذا البيت الأعظم الذي كان المصريون يطلقون عليه لفظ "بيرو" والذي ترجمه اليهود إلى فرعوه، اشتق من اسمه هذا لقب الملك نفسه. وفي هذا البيت كان الملك يضطلع بواجبة الشاق الرتيب من الأعمال التنفيذية، التي كانت في بعض الأحيان لا تقل في كثرتها وفيما تتطلبه من جهود عن أعمال شندرا جويتا أو لويس الرابع عشر أو نابليون(88). وكان الملك إذا سافر قابله أمراء الإقطاع عند حدود إقطاعاتهم، وساورا في ركابه، وأولموا له
صفحة رقم : 295
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
الولائم، وقدموا له من الهدايا ما يتناسب مع ما ينتظرونه منه. وقد جاء في أحد النقوش أن نبيلا من النبلاء أهدى أمنحوتب الثاني " عربات من الفضة والذهب وتماثيل من العاج والأبنوس، وجواهر، وأسلحة وتحفا فنية " و 680 درعاً، و 140 خنجراً من البرنز ومزهريات كثيرة من المعادن الثمينة(89). وجازاه الملك على هذا بأن أخذ ابنه معه ليعيش في قصره- وهي طريقة ماكرة لاتخاذه رهينة يضمن بها ولاء هذا الشريف. وكان يتألف من أكبر رجال البلاط سناً مجلس شيوخ يسمى سارو أي مجلس العظماء مهمته أن يكون مجلساً استشارياً للملك(90). على أن هذه الاستشارة لم تكن في الواقع ضرورية لأن الملك ومن ورائه الكهنة كان يدعى أنه من سلالة الآلهة وأن الآلهة نفسها قد وهبته السلطة والحكمة. وكان اتصاله بالآلهة على هذا النحو مصدر نفوذه وهيبته. ومن أجل هذا كانت تخلع عليه إذا خوطب صفات من الإجلال يدهش لها الإنسان أحيانا. من ذلك ما جاء في قصة سنوحى إذ يحييه مواطن صالح بقوله : "أيها الملك الطويل العمر أرجو أن تهب الواحدة الذهبية (أي الإلهة حتحور) الحياة لأنفك" (91).
وكان يقف على خدمة الملك- كما يليق بشخص هذه عظمته- عدد كبير من مختلف الأعوان منهم القوّاد، وغاسِلو الملابس، وقُصّارها، وحراس خزائنها، وغيرهم من ذوي المراتب الرفيعة. وكان عشرون من الموظفين يشتركون في تزيينه، منهم حلّاقون لا يسمح لهم إلا بقص شعره وحلْق لحيته، وآخرون لإلباسه قلنسوته وتاج رأسه، ومدرمون يقصون أظافره ويدرمونها، ومعطرون يعطرون جسمه ويكحلون جفون عينيه، ويحمرون خديه وشفتيه بالصبغة الحمراء(92). وجاء في نقش على أحد القبور أن صاحب القبر كان "المشرف على صندوق دهان الشعر والوجه، المسيطر على الدهان، حامل ُخفي الملك، والذي يعني بخفيه العناية التي يرضاها القانون"(93). وكان الانحلال والضعف عاقبة هذا التنعم المفرط، وكان الملك يلجأ في بعض الأحيان إلى الترويح عن نفسه وإزالة ما يعتريه من ملل
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 296
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
وسآمة بحشد طائفة من الفتيات في قاربه الملكي وليس عليهن من الثياب إلا نوع من الشباك ذات الثقوب الواسعة. وكان الترف الذي انغمس فيه أمنحوتب الثالث هو الذي مهد السبيل لثورة إخناتون.
صفحة رقم : 297
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
4- القانون الأخلاقي
مضاجعة الملك لأقاربه - الحريم - الزواج - مركز المرأة - سلطان
الأم في مصر - القوانين الأخلاقية الخاصة بعلاقة الرجال والنساء
لقد كانت حكومة مصر شبيهة بحكومة نابليون حتى في مضاجعة الملك لأقاربه، وكثيراً ما كان الملك يتزوج أخته، بل كان يحدث أحيانا أن يتزوج ابنته، ليحتفظ بالدم الملكي نقيا خالصا من الشوائب. وليس من اليسير أن نحكم هل أضعفت هذه العادة قوة نسل الملوك أو لم تضعفه ؟ لكننا لا نشك في أن مصر لم تكن تعتقد هذا بعد أن ظلت تسير عليه عدة آلاف من السنين، وانتقلت عادة الزواج بالأخوات من الملوك إلى عامة الشعب حتى وجد في القرن الثاني بعد الميلاد أن ثلثي سكان أرسينوئي يسيرون على هذه السُنّة(94). وكان معنى لفظي أخ وأخت في الشعر المصري القديم كمعنى حبيب وحبيبة في أيامنا هذه(95). وكان للملك فضلا عن أخواته عدد كبير من النساء من أسيرات الحروب وبعضهن من بنات الأعيان أو ممن أهداهن إليه الأقيال الأجانب. من ذلك أن أحد أمراء بلاد "نهرينا" أهدى إلى أمنحوتب الثالث ابنته الكبرى وثلاثمائة من صفوة الفتيات(96). وقد حذا بعض النبلاء حذو الملوك في هذا الإسراف وإن لم يبلغوا فيه مبلغهم، فقد كان عليهم أن يوفقوا في هذه الناحية بين مبادئهم الخلقية ومواردهم المالية.
أما عامة الشعب فكان شأنهم شأن ذوي الدخل المتوسط في سائر الأمم، يقنعون بزوجة واحدة. ويلوح أن الحياة العائلية كانت منظمة، ذات مستوى
صفحة رقم : 298
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
رفيع من الوجهة الأخلاقية ومن حيث سلطان الأبوين، ولا تقلّ في هذا عنها في أرقى الحضارات في هذه الأيام. وكان الطلاق نادراً إلا في عهد الاضمحلال. وكان في مقدور الزوج أن يخرج زوجته من داره دون أن يعوضها بشيء إذا زَنَت؛ أما إذا طلقها لغير هذا السبب فكان عليه أن يخصص لها جزءاً كبيرا من أملاك الأسرة.
كذلك كان الأزواج يبذلون قصارى جهدهم في الإخلاص لزوجاتهم- على قدر ما يستطيع الإنسان أن يحكم في هذه الأمور الخفية. ولم يكن مستواهم في هذا أقل منه في المدنيات اللاحقة، وكان مركز المرأة عندهم أرقى من مركزها عند كثير من الأمم في هذه الأيام. وفي ذلك يقول ماكس ملر : "ليس ثمة شعب قديم أو حديث قد رفع منزلة المرأة مثل ما رفعها سكان وادي النيل" (97) . فالنقوش تصور النساء يأكلن ويشربن بين الناس، ويقضين ما يحتجنه من المهام في الشوارع من غير رقيب عليهن ولا سلاح بأيديهن، ويمارسن الأعمال الصناعية والتجارية بكامل حريتهن. ولشد ما دهش الرحالة اليوناني- وقد اعتادوا أن يضيقوا على نسائهم السليطات- من هذه الحرية، وأخذوا يسخرون من الأزواج المصريين الذين تتحكم فيهم زوجاتهم. ويقول ديودور الصقلي- ولعله يهدف بقوله هذا إلى السخرية من المصريين- إن طاعة الزوج لزوجته في وادي النيل كانت من الشروط التي تنص عليها عقود الزواج(98)، وهو شرط لا ضرورة للنص عليه في أمريكا ! وكان النساء يمتلكن ويورثن، كما تشهد بذلك وثيقة من أقدم الوثائق في التاريخ، وهي وصية من عهد الأسرة الثالثة توصي فيها السيدة نب- سنت بأرضها لأبنائها(99). وقد ارتقت حتشبسوت وكليوبطرة عرش مصر، وحكمتا وخربتا كما يحكم الملوك ويخربون.
على أننا نجد أحيانا نغمة ساخرة في الآداب المصرية. من ذلك ما كتبه رجل من رجال الأخلاق الأقدمين يحذر قراءه منهن:
صفحة رقم : 299
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
"احذر المرأة التي تأتيك من الخارج، والتي لا يعرفها أهل مدينتها. فلا ترفع بصرك إليها إذا أتت، ولا تعرفها، فهي كالدُّردور في الماء العميق، لا تستطيع أن تسبر غورها. وأن المرأة التي غاب زوجها لتكتب إليك في كل يوم، وإذا لم يكن معها شاهد عليها قامت ونشرت حولك شباكها. وما أشنعها من جريمة إذا أصغي إليها الإنسان"(100)!.
أما النغمة المصرية الخالصة فهي التي نسمعها في نصيحة بتاح حوريب لابنه والتي يقول فيها:
"إذا كنت ناجحا، وأَثثت بيتك، وكنت تحب زوجة قلبك، فاملأ بطنها واكس ظهرها... وادخل السرور على قلبها طوال الوقت الذي تكون فيه لك، ذلك أنها حرث نافع لمن يملكه... وإذا عارضتها كان في ذلك خرابك"(101).
وتحذر بردية بولاق الطفل تحذيرا يشهد بالحكمة البالغة فتقول:
"ينبغي لك ألا تنسى أمك فقد حملتك طويلا في حنايا صدرها وكنت فيها حملا ثقيلاً؛ وبعد أن أتممتَ شهورك ولدتك. ثم حملتك على كتفها ثلاث سنين طوالا وأرضعتك ثديها في فمك، وغذتك، ولم تشمئز من قذارتك. ولما دخلت المدرسة وتعلمت الكتابة كانت تقف في كل يوم إلى جانب معلمك ومعها الخبز والجعة جاءت بهما من البيت"(102).
ويرجح أن هذه المكانة السامية التي كانت للمرأة إنما نشأت من أن المجتمع المصري كان أميل إلى تغليب سلطان الزوجة على سلطان الزوج بعض الشيء. وشاهد ذلك أن المرأة لم تكن لها السيادة الكاملة في بيتها وكفى، بل إن الأملاك الزراعية كلها كانت تنتقل إلى الإناث؛ وفي ذلك يقول بيترى : "لقد كان الزوج حتى في العهود المتأخرة ينزل لزوجته في عقد زواجه عن جميع أملاكه ومكاسبه المستقبلة"(103) ولم يكن سبب زواج الأخ بأخته أن وجودها معه قد ملأ بحبها قلبه، بل كان سببه أن الرجال كانوا يبغون أن يستمتعوا بميراث الأسرة الذي كان ينحدر
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> نظام الحكم
وسآمة بحشد طائفة من الفتيات في قاربه الملكي وليس عليهن من الثياب إلا نوع من الشباك ذات الثقوب الواسعة. وكان الترف الذي انغمس فيه أمنحوتب الثالث هو الذي مهد السبيل لثورة إخناتون.
صفحة رقم : 297
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
4- القانون الأخلاقي
مضاجعة الملك لأقاربه - الحريم - الزواج - مركز المرأة - سلطان
الأم في مصر - القوانين الأخلاقية الخاصة بعلاقة الرجال والنساء
لقد كانت حكومة مصر شبيهة بحكومة نابليون حتى في مضاجعة الملك لأقاربه، وكثيراً ما كان الملك يتزوج أخته، بل كان يحدث أحيانا أن يتزوج ابنته، ليحتفظ بالدم الملكي نقيا خالصا من الشوائب. وليس من اليسير أن نحكم هل أضعفت هذه العادة قوة نسل الملوك أو لم تضعفه ؟ لكننا لا نشك في أن مصر لم تكن تعتقد هذا بعد أن ظلت تسير عليه عدة آلاف من السنين، وانتقلت عادة الزواج بالأخوات من الملوك إلى عامة الشعب حتى وجد في القرن الثاني بعد الميلاد أن ثلثي سكان أرسينوئي يسيرون على هذه السُنّة(94). وكان معنى لفظي أخ وأخت في الشعر المصري القديم كمعنى حبيب وحبيبة في أيامنا هذه(95). وكان للملك فضلا عن أخواته عدد كبير من النساء من أسيرات الحروب وبعضهن من بنات الأعيان أو ممن أهداهن إليه الأقيال الأجانب. من ذلك أن أحد أمراء بلاد "نهرينا" أهدى إلى أمنحوتب الثالث ابنته الكبرى وثلاثمائة من صفوة الفتيات(96). وقد حذا بعض النبلاء حذو الملوك في هذا الإسراف وإن لم يبلغوا فيه مبلغهم، فقد كان عليهم أن يوفقوا في هذه الناحية بين مبادئهم الخلقية ومواردهم المالية.
أما عامة الشعب فكان شأنهم شأن ذوي الدخل المتوسط في سائر الأمم، يقنعون بزوجة واحدة. ويلوح أن الحياة العائلية كانت منظمة، ذات مستوى
صفحة رقم : 298
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
رفيع من الوجهة الأخلاقية ومن حيث سلطان الأبوين، ولا تقلّ في هذا عنها في أرقى الحضارات في هذه الأيام. وكان الطلاق نادراً إلا في عهد الاضمحلال. وكان في مقدور الزوج أن يخرج زوجته من داره دون أن يعوضها بشيء إذا زَنَت؛ أما إذا طلقها لغير هذا السبب فكان عليه أن يخصص لها جزءاً كبيرا من أملاك الأسرة.
كذلك كان الأزواج يبذلون قصارى جهدهم في الإخلاص لزوجاتهم- على قدر ما يستطيع الإنسان أن يحكم في هذه الأمور الخفية. ولم يكن مستواهم في هذا أقل منه في المدنيات اللاحقة، وكان مركز المرأة عندهم أرقى من مركزها عند كثير من الأمم في هذه الأيام. وفي ذلك يقول ماكس ملر : "ليس ثمة شعب قديم أو حديث قد رفع منزلة المرأة مثل ما رفعها سكان وادي النيل" (97) . فالنقوش تصور النساء يأكلن ويشربن بين الناس، ويقضين ما يحتجنه من المهام في الشوارع من غير رقيب عليهن ولا سلاح بأيديهن، ويمارسن الأعمال الصناعية والتجارية بكامل حريتهن. ولشد ما دهش الرحالة اليوناني- وقد اعتادوا أن يضيقوا على نسائهم السليطات- من هذه الحرية، وأخذوا يسخرون من الأزواج المصريين الذين تتحكم فيهم زوجاتهم. ويقول ديودور الصقلي- ولعله يهدف بقوله هذا إلى السخرية من المصريين- إن طاعة الزوج لزوجته في وادي النيل كانت من الشروط التي تنص عليها عقود الزواج(98)، وهو شرط لا ضرورة للنص عليه في أمريكا ! وكان النساء يمتلكن ويورثن، كما تشهد بذلك وثيقة من أقدم الوثائق في التاريخ، وهي وصية من عهد الأسرة الثالثة توصي فيها السيدة نب- سنت بأرضها لأبنائها(99). وقد ارتقت حتشبسوت وكليوبطرة عرش مصر، وحكمتا وخربتا كما يحكم الملوك ويخربون.
على أننا نجد أحيانا نغمة ساخرة في الآداب المصرية. من ذلك ما كتبه رجل من رجال الأخلاق الأقدمين يحذر قراءه منهن:
صفحة رقم : 299
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
"احذر المرأة التي تأتيك من الخارج، والتي لا يعرفها أهل مدينتها. فلا ترفع بصرك إليها إذا أتت، ولا تعرفها، فهي كالدُّردور في الماء العميق، لا تستطيع أن تسبر غورها. وأن المرأة التي غاب زوجها لتكتب إليك في كل يوم، وإذا لم يكن معها شاهد عليها قامت ونشرت حولك شباكها. وما أشنعها من جريمة إذا أصغي إليها الإنسان"(100)!.
أما النغمة المصرية الخالصة فهي التي نسمعها في نصيحة بتاح حوريب لابنه والتي يقول فيها:
"إذا كنت ناجحا، وأَثثت بيتك، وكنت تحب زوجة قلبك، فاملأ بطنها واكس ظهرها... وادخل السرور على قلبها طوال الوقت الذي تكون فيه لك، ذلك أنها حرث نافع لمن يملكه... وإذا عارضتها كان في ذلك خرابك"(101).
وتحذر بردية بولاق الطفل تحذيرا يشهد بالحكمة البالغة فتقول:
"ينبغي لك ألا تنسى أمك فقد حملتك طويلا في حنايا صدرها وكنت فيها حملا ثقيلاً؛ وبعد أن أتممتَ شهورك ولدتك. ثم حملتك على كتفها ثلاث سنين طوالا وأرضعتك ثديها في فمك، وغذتك، ولم تشمئز من قذارتك. ولما دخلت المدرسة وتعلمت الكتابة كانت تقف في كل يوم إلى جانب معلمك ومعها الخبز والجعة جاءت بهما من البيت"(102).
ويرجح أن هذه المكانة السامية التي كانت للمرأة إنما نشأت من أن المجتمع المصري كان أميل إلى تغليب سلطان الزوجة على سلطان الزوج بعض الشيء. وشاهد ذلك أن المرأة لم تكن لها السيادة الكاملة في بيتها وكفى، بل إن الأملاك الزراعية كلها كانت تنتقل إلى الإناث؛ وفي ذلك يقول بيترى : "لقد كان الزوج حتى في العهود المتأخرة ينزل لزوجته في عقد زواجه عن جميع أملاكه ومكاسبه المستقبلة"(103) ولم يكن سبب زواج الأخ بأخته أن وجودها معه قد ملأ بحبها قلبه، بل كان سببه أن الرجال كانوا يبغون أن يستمتعوا بميراث الأسرة الذي كان ينحدر
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 300
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
من الأم إلى البيت، ولا يريدون أن ينعم الغرباء بهذه الثروة(104). على أن سلطان المرأة قد نقص قليلا على مر الزمن، ولعل سبب هذا النقص هو أثر التقاليد الأبوية التي أدخلها الهكسوس، وأثر انتقال البلاد من عزلتها الزراعية ومن حال السلم إلى طور الاستعمار والحرب. وزاد نفوذ اليونان في أيام البطالمة زيادة أصبحت معها حرية الطلاق، وهي التي كانت تطالب بها المرأة في الأزمنة السابقة، حقا خالصا للزوج لا ينازعه فيه منازع. بيد أنه حتى في ذلك الوقت لم يقبل هذا التطور إلا الطبقات العليا من أهل البلاد، أما عامة الشعب فقد ظلت مستمسكة بالتقاليد القديمة(105). ولعل سيطرة المرأة على شئونها الخاصة هي التي جعلت قتل الأطفال أمرا نادر الحدوث. ويرى ديودور الصقلي أن من خواص المصريين أن كل طفل يولد لهم يلقى حظه الكامل من التربية والرعاية، ويقول أن القانون كان يقضي على الأب الذي يرتكب جريمة قتل طفله بأن يحتضن الطفل القتيل ثلاثة أيام وثلاث ليال كاملة(106). وكانت الأسرة الكبيرة، والأطفال تغص بهم الأكواخ والقصور على السواء، وكان الأثرياء منهم يلقون صعابا جمة في إحصاء نسلهم(107).
وحتى في مسائل الخطبة كانت المرأة هي البادئة. وشاهد ذلك أن ما وصل إلينا من قصائد الغزل ورسائل الحب أغلبه موجه من المرأة إلى الرجل، فهي التي تطلب تحديد مواعيد اللقاء، وهي التي تتقدم بالخطبة إلى الرجل مباشرة، وهي التي تعرض عليه الزواج صراحة(108). وقد جاء في إحدى هذه الرسائل : " أي صديقي الجميل؛ إني أرغب في أن أكون، بوصفي زوجتك، صاحبة كل أملاكك" (109) . ومن ثم نرى أن الحياء- وهو أمر يختلف عن الوفاء- لم يكن من صفات المصريين البارزة، فقد كانوا يتحدثون عن الشئون الجنسية بصراحة لم نعهدها في التقاليد الأخلاقية المتأخرة عن عهدهم، وكانوا يزينون هياكلهم بصور ونقوش غائرة تظهر فيها أجزاء الجسم كلها واضحة أتم الوضوح، وكانوا يقدمون لموتاهم من الأدب الفاحش ما يسليهم في قبورهم(110). لقد كان
صفحة رقم : 301
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
الدم الذي يجري في عروق سكان وادي النيل دما حارا، ومن أجل ذلك كانت البنات يصلحن للزواج في سن العاشرة، وكان اتصال الفتيان والفتيات قبل الزواج حراً ميسراً؛ ويقال أن أحد السراري في أيام البطالمة استطاعت أن تدخر من الأموال ما بنت به هرما. وحتى اللواط لم يكن معدوما في مصر(111). وكانت الفتيات الراقصات الشبيهات بأمثالهن في اليابان يُقبَلن في أرقى مجتمعات الرجال ليقدمن للمجتمعين ضروب التسلية والمتعة الجسمية. وكن يرتدين ملابس شفافة أو يكتفين أحيانا بالتزين بالخلاخل والأساور والأقراط(112). ولدينا شواهد على الفسوق الديني في نطاق ضيق. وكان من العادات المتبعة التي ظلت باقية إلى عهد الفتح الروماني أن تختار أجمل بنات الأسر الشريفة في طيبة وتنذر لآمون. فإذا أضحت لكبر سنها عاجزة عن إرضاء الإله أخرجت من خدمته بمظاهر التشريف والتعظيم، وتزوجت ولقيت الترحيب والإجلال في أرقى الأوساط (113). لقد كانت لهذه الحضارة آراؤها ونزواتها التي تختلف عن آرائنا نحن ونزواتنا.
صفحة رقم : 302
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
5- العادات
الأخلاقية الشخصية - الألعاب - المظهر
الخارجي - الأصباغ والأدهان - الملابس - الحلي
إذا شئنا أن نستعيد في مخيلتنا صورة من الأخلاق الشخصية للمصريين الأقدمين، وجدنا أن ليس من السهل أن نفرق بين هذه الأخلاق كما نقرأ عنها في آدابهم وبين ما كان يحدث في الحياة الواقعية. فما أكثر ما نقرا عنه من العواطف النبيلة في كتاباتهم. من ذلك ما كتبه أحد الشعراء ينصح مواطنيه:
أطعم الخبز لمن لا حقل له.
واترك ورائك ذكراً طيبا يبقى أبد الدهر.
وكثيراً ما يسدي بعض الكبار إلى أبنائهم نصائح حميدة، ففي المتحف
صفحة رقم : 303
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
البريطاني بردية تعرف باسم : "حكمة أمنحوتب" (حوالي 950 ق.م) وهي تُعِد أحد الطلاب لتولي منصب عام بطائفة من النواهي لا يبعد قط أن كان لها أثر في واضع "أمثال سليمان" أو واضعيها:
لا تطمع في ذراع من الأرض،
ولا تعتد على حدود أرملة...،
واحرث الحقل حتى تجد حاجاتك،
وخذ خبزك من بيدرك،
وإن قدحا من الحب يعطيكه الله
لخير من خمسة آلاف تنالها بالعدوان...،
وإن الفقر بيد الله
لخير من الغنى في المخازن؛
وإن الرغيف والقلب مبتهج
لخير من الغنى مع الشقاء..."(.
على أن ما تحويه هذه الآداب من دلائل التقوى والصلاح لم يحل دون المطامع البشرية. ولم يكن المصريون الأقدمون إلا خلقاً، لهم ما لسائر الخلق من مطامح. لقد وصف أفلاطون الآثينيين بأنهم محبون للمعرفة، والمصريين بأنهم محبون للثروة. ولعل في هذا الوصف كثيراً من المغالاة دفعته إليها النعرة الوطنية، ولكنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا أن المصريين هم أمريكيو العالم القديم. فهو قوم مولعون بضخامة الحجم، يحبون المباني الفخمة الكبيرة، وهم مجدون نشيطون جماعون للثروة، عمليون حتى في خرافاتهم الكثيرة عن الدار الآخرة. وهم أشد الأمم الماضية استمساكا بالقيم، لم تتبدل حالهم رغم ما طرأ عليهم من أحداث؛ وظل فنانوهم يقلدون ما جرى به العرف القديم تقليدا كأنه أمر من أوامر الدين، إذا نظرنا إلى آثارهم بدا أنهم قوم واقعيون لا يعنون بالسخافات التي لا صلة لها
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
من الأم إلى البيت، ولا يريدون أن ينعم الغرباء بهذه الثروة(104). على أن سلطان المرأة قد نقص قليلا على مر الزمن، ولعل سبب هذا النقص هو أثر التقاليد الأبوية التي أدخلها الهكسوس، وأثر انتقال البلاد من عزلتها الزراعية ومن حال السلم إلى طور الاستعمار والحرب. وزاد نفوذ اليونان في أيام البطالمة زيادة أصبحت معها حرية الطلاق، وهي التي كانت تطالب بها المرأة في الأزمنة السابقة، حقا خالصا للزوج لا ينازعه فيه منازع. بيد أنه حتى في ذلك الوقت لم يقبل هذا التطور إلا الطبقات العليا من أهل البلاد، أما عامة الشعب فقد ظلت مستمسكة بالتقاليد القديمة(105). ولعل سيطرة المرأة على شئونها الخاصة هي التي جعلت قتل الأطفال أمرا نادر الحدوث. ويرى ديودور الصقلي أن من خواص المصريين أن كل طفل يولد لهم يلقى حظه الكامل من التربية والرعاية، ويقول أن القانون كان يقضي على الأب الذي يرتكب جريمة قتل طفله بأن يحتضن الطفل القتيل ثلاثة أيام وثلاث ليال كاملة(106). وكانت الأسرة الكبيرة، والأطفال تغص بهم الأكواخ والقصور على السواء، وكان الأثرياء منهم يلقون صعابا جمة في إحصاء نسلهم(107).
وحتى في مسائل الخطبة كانت المرأة هي البادئة. وشاهد ذلك أن ما وصل إلينا من قصائد الغزل ورسائل الحب أغلبه موجه من المرأة إلى الرجل، فهي التي تطلب تحديد مواعيد اللقاء، وهي التي تتقدم بالخطبة إلى الرجل مباشرة، وهي التي تعرض عليه الزواج صراحة(108). وقد جاء في إحدى هذه الرسائل : " أي صديقي الجميل؛ إني أرغب في أن أكون، بوصفي زوجتك، صاحبة كل أملاكك" (109) . ومن ثم نرى أن الحياء- وهو أمر يختلف عن الوفاء- لم يكن من صفات المصريين البارزة، فقد كانوا يتحدثون عن الشئون الجنسية بصراحة لم نعهدها في التقاليد الأخلاقية المتأخرة عن عهدهم، وكانوا يزينون هياكلهم بصور ونقوش غائرة تظهر فيها أجزاء الجسم كلها واضحة أتم الوضوح، وكانوا يقدمون لموتاهم من الأدب الفاحش ما يسليهم في قبورهم(110). لقد كان
صفحة رقم : 301
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القانون الأخلاقي
الدم الذي يجري في عروق سكان وادي النيل دما حارا، ومن أجل ذلك كانت البنات يصلحن للزواج في سن العاشرة، وكان اتصال الفتيان والفتيات قبل الزواج حراً ميسراً؛ ويقال أن أحد السراري في أيام البطالمة استطاعت أن تدخر من الأموال ما بنت به هرما. وحتى اللواط لم يكن معدوما في مصر(111). وكانت الفتيات الراقصات الشبيهات بأمثالهن في اليابان يُقبَلن في أرقى مجتمعات الرجال ليقدمن للمجتمعين ضروب التسلية والمتعة الجسمية. وكن يرتدين ملابس شفافة أو يكتفين أحيانا بالتزين بالخلاخل والأساور والأقراط(112). ولدينا شواهد على الفسوق الديني في نطاق ضيق. وكان من العادات المتبعة التي ظلت باقية إلى عهد الفتح الروماني أن تختار أجمل بنات الأسر الشريفة في طيبة وتنذر لآمون. فإذا أضحت لكبر سنها عاجزة عن إرضاء الإله أخرجت من خدمته بمظاهر التشريف والتعظيم، وتزوجت ولقيت الترحيب والإجلال في أرقى الأوساط (113). لقد كانت لهذه الحضارة آراؤها ونزواتها التي تختلف عن آرائنا نحن ونزواتنا.
صفحة رقم : 302
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
5- العادات
الأخلاقية الشخصية - الألعاب - المظهر
الخارجي - الأصباغ والأدهان - الملابس - الحلي
إذا شئنا أن نستعيد في مخيلتنا صورة من الأخلاق الشخصية للمصريين الأقدمين، وجدنا أن ليس من السهل أن نفرق بين هذه الأخلاق كما نقرأ عنها في آدابهم وبين ما كان يحدث في الحياة الواقعية. فما أكثر ما نقرا عنه من العواطف النبيلة في كتاباتهم. من ذلك ما كتبه أحد الشعراء ينصح مواطنيه:
أطعم الخبز لمن لا حقل له.
واترك ورائك ذكراً طيبا يبقى أبد الدهر.
وكثيراً ما يسدي بعض الكبار إلى أبنائهم نصائح حميدة، ففي المتحف
صفحة رقم : 303
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
البريطاني بردية تعرف باسم : "حكمة أمنحوتب" (حوالي 950 ق.م) وهي تُعِد أحد الطلاب لتولي منصب عام بطائفة من النواهي لا يبعد قط أن كان لها أثر في واضع "أمثال سليمان" أو واضعيها:
لا تطمع في ذراع من الأرض،
ولا تعتد على حدود أرملة...،
واحرث الحقل حتى تجد حاجاتك،
وخذ خبزك من بيدرك،
وإن قدحا من الحب يعطيكه الله
لخير من خمسة آلاف تنالها بالعدوان...،
وإن الفقر بيد الله
لخير من الغنى في المخازن؛
وإن الرغيف والقلب مبتهج
لخير من الغنى مع الشقاء..."(.
على أن ما تحويه هذه الآداب من دلائل التقوى والصلاح لم يحل دون المطامع البشرية. ولم يكن المصريون الأقدمون إلا خلقاً، لهم ما لسائر الخلق من مطامح. لقد وصف أفلاطون الآثينيين بأنهم محبون للمعرفة، والمصريين بأنهم محبون للثروة. ولعل في هذا الوصف كثيراً من المغالاة دفعته إليها النعرة الوطنية، ولكنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا أن المصريين هم أمريكيو العالم القديم. فهو قوم مولعون بضخامة الحجم، يحبون المباني الفخمة الكبيرة، وهم مجدون نشيطون جماعون للثروة، عمليون حتى في خرافاتهم الكثيرة عن الدار الآخرة. وهم أشد الأمم الماضية استمساكا بالقيم، لم تتبدل حالهم رغم ما طرأ عليهم من أحداث؛ وظل فنانوهم يقلدون ما جرى به العرف القديم تقليدا كأنه أمر من أوامر الدين، إذا نظرنا إلى آثارهم بدا أنهم قوم واقعيون لا يعنون بالسخافات التي لا صلة لها
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 304
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
بالأمور الدينية. ولا يقدرون الحياة تقديرا أساسه العاطفة، يقتلون وضميرهم مستريح لأنهم لم يفعلوا ما يخالف الطبيعة البشرية. ولقد كان الجندي المصري يقطع يمين العدو والمقتول أو عورته ويأتي بها إلى الكاتب المختص ليسجل له عمله هذا في صحيفة حسناته(116). وفقد الناس في عهد الأسر المتأخرة عاداتهم وصفاتهم الحربية لطول ما أخلدوا إلى الأمن في الداخل وإلى السلام فيما عدا الحروب البعيدة عن ديارهم؛ وكانت نتيجة هذا أن فئة قليلة من جنود الرومان استطاعت أن تسيطر على مصر كلها(117).
ولما كان أكثر ما نعرفه عن المصريين مستمدا من الآثار التي كشفت في مقابرهم أو النقوش التي على جدران هياكلهم، فقد خدعتنا هذه المصادفة المحضة فبالغنا فيما كانوا يتصفون به من جد ووقار. والحق أن بعض ما خلفوه من تماثيل ونقوش، ومن قصص هزلية عن آلهتهم(118)، ليشهد بأنهم كانوا على جانب غير قليل من المرح والفكاهة، وقد كان لهم كثير من الألعاب والمباريات العامة والخاصة "كالداما" والنرد(119)، وكانوا يقدمون اللعب والدمى لأطفالهم كالبلى والكرة والنطاطة والخذروف، وكانوا يعقدون مباريات في المصارعة والملاكمة وصراع الثيران(120)، وكان خدمهم يمسحون لهم في أعيادهم ونزهتهم أجسامهم بالزيوت. وكانوا يضعون على رؤوسهم أكاليل الزهر ويسقون الخمور تقدم لهم الهدايا، ونستطيع استنادا إلى ما لدينا من رسومهم الملونة وتماثيلهم أن نصورهم خلقا أقوياء الأجسام، مفتولي العضلات، عريضي المناكب، مستدقي الخصور، ممتلئي الشفاه، منبسطي الأقدام لاعتيادهم الحفاء. وهذه الرسوم والتماثيل تمثل الطبقات العليا النحيفة القوام، طويلة في هيبة، ذات وجوه بيضاء وجباه منحدرة منتظمة، وأنوف طويلة مصفحة، وعيون نجل، وكانت بشرتهم بيضاء وقت مولدهم (تشهد بأنهم من أصل آسيوي لا إفريقي)، ولكنها سرعان ما تلفحها شمس مصر فتسمر(121). وقد جرى
صفحة رقم : 305
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
العرف بين الفنانين المصريين على أن يرسموا الرجال حمرا والنساء صفروات؛ ولربما كان هذان اللونان مجرد طرازين من الزينة للرجال والنساء. هذا شأن الطبقات العليا، أما الرجال من عامة الشعب فكان يمثل بالصورة التي نراها في تمثال شيخ البلد، قصير القامة، ممتلئ الجسم، كاسي القصب، وذلك لطول كده وطعامه غير المتزن. وكانت ملامحه خشنة، وكان أفطس الأنف أخشمه، ذكيا ولكنه خشن الطباع. ولربما كان الشعب وحكمه من سلالتين مختلفتين، شأنهم في هذا شأن كثير من الشعوب: فلعل الحكام كانوا من أصل آسيوي وعامة الشعب من أصل إفريقي. وكان شعرهم أسود، أحجن في بعض الأحيان، وقلما كان قَطَطاً. وكان النساء يقصصن شعورهن كأحسن ما يقصصنه في هذه الأيام؛ وكان الرجال يحلقون لحاهم ويخفون شواربهم ويزينون أنفسهم بشعور مستعارة فخمة. وكثيرا ما كانوا يقصون شعر رأسهم ليسهل عليهم لبس هذه الشعور المستعارة. وحتى زوجة الملك نفسها كانت تقص شعرها كله ليسهل عليها لبس التاج والشعر الملكي المستعار (كما ترى هذا في صورة تي أم إخناتون). وكان من المراسم التي لا يستطيع الملك الخروج عليها أن يلبس أكبر ضفيرة مستعارة(122).
وكانوا يستعينون بفنون التجميل على إصلاح عيوب أجسامهم كل منهم حسب موارده. فكانوا يحمرون أوجههم وشفاههم، ويلونون أظافرهم، ويدهنون أعضاء أجسامهم بالزيت، وحتى تماثيل المصريات كانت تكحل عيونها. وكان ذوو اليسار منهم يضعون في قبور موتاهم سبعة أنواع من الأدهان ونوعين من الصبغة الحمراء. وقد وجدت بين آثارهم كميات كبيرة من أدوات الزينة، والمرايا، والمواسي، وأدوات تجعيد الشعر، ودبابيسه، والأمشاط، وصناديق الأدهان، والصحاف والملاعق- مصنوعة من الخشب، أو العاج، أو المرمر، أو البرنز، ذات أشكال جميلة تتفق والأغراض التي تستخدم فيها. ولا تزال بعض أصباغ العيون باقية في أنابيبها إلى يومنا هذا، وليس الكحل الذي تستعمله النساء في هذه الأيام لتزيين حواجبهن ووجوههن إلا صورة أخرى من الزيت الذي كان المصريون
صفحة رقم : 306
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
يستخدمونه في غابر الأيام. وقد وصلت إلينا هذه العادة عن طريق العرب، واشتق من اسمه العربي "الكحل" لفظ "الكحول" الذي نستخدمه الآن. وكانت العطور على اختلاف أنواعها تستخدم لتعطير الجسم والثياب، كما كانت المنازل تبخر بالبخور والمر(123).
وسارت ملابسهم في جميع مراحل التطور من عرى البدائيين إلى أفخم ملابس عصر الإمبراطورية. ففي أول الأمر كان الأطفال ذكورا وإناثا يظلون حتى الثالثة عشرة من عمرهم عراة الأجسام إلا من الأقراط والقلائد. غير أن البنات كن يظهرن شيئاً من الخفر الخليق بهن فيتمنطقن بمنطقة من الخرز في أوساطهن(124). وكان الخدم والزراع يقتصرون على قطعة من القماش تستر عوراتهم. فلما كان عهد الدولة القديمة كان الأحرار من الرجال والنساء يسيرون وأجسامهم عارية من فوق السرة، مغطى ما تحتها إلى الركبة بإزار قصير ضيق من الكتان الأبيض(125). ولما كان الحياء وليد العادة لا الطبيعة فإن هذه الثياب البسيطة كانت ترضي ضمير هؤلاء القوم، كما كان الإنجليز في العصر الفكتوري يرتضون النُّقبة (الجونيلا) والخصار أو ثياب السهرة التي يلبسها الرجال من الأمريكيين في هذه الأيام. وما أصدق القول المأثور : "ليست فضائلنا إلا معاني تخلعها الأيام على الأفعال والعادات". وحتى القساوسة أنفسهم في عصر الأسر المصرية الأولى كانوا يكتفون بستر عوراتهم كما نشاهد ذلك في تمثال رنوفر(126). فلما زادت الثروة كثرت الملابس، فأضافت الدولة الوسطى إزارا ثانيا فوق الإزار الأول وأكبر منه، وأضافت الدولة الحديثة غطاء للصدر ودثارا للكتفين كان يلبس من حين إلى حين. وكان سائقو المركبات وسائسو الخيل يرتدون حللاً فخمة كاملة ويعدون في الشوارع بحللهم هذه ليفسحوا الطريق لمركبات أسيادهم. ونبذت النساء المئزر الضيق في عصور الرخاء المتأخرة واستبدلن به ثوباً فضفاضاً
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
بالأمور الدينية. ولا يقدرون الحياة تقديرا أساسه العاطفة، يقتلون وضميرهم مستريح لأنهم لم يفعلوا ما يخالف الطبيعة البشرية. ولقد كان الجندي المصري يقطع يمين العدو والمقتول أو عورته ويأتي بها إلى الكاتب المختص ليسجل له عمله هذا في صحيفة حسناته(116). وفقد الناس في عهد الأسر المتأخرة عاداتهم وصفاتهم الحربية لطول ما أخلدوا إلى الأمن في الداخل وإلى السلام فيما عدا الحروب البعيدة عن ديارهم؛ وكانت نتيجة هذا أن فئة قليلة من جنود الرومان استطاعت أن تسيطر على مصر كلها(117).
ولما كان أكثر ما نعرفه عن المصريين مستمدا من الآثار التي كشفت في مقابرهم أو النقوش التي على جدران هياكلهم، فقد خدعتنا هذه المصادفة المحضة فبالغنا فيما كانوا يتصفون به من جد ووقار. والحق أن بعض ما خلفوه من تماثيل ونقوش، ومن قصص هزلية عن آلهتهم(118)، ليشهد بأنهم كانوا على جانب غير قليل من المرح والفكاهة، وقد كان لهم كثير من الألعاب والمباريات العامة والخاصة "كالداما" والنرد(119)، وكانوا يقدمون اللعب والدمى لأطفالهم كالبلى والكرة والنطاطة والخذروف، وكانوا يعقدون مباريات في المصارعة والملاكمة وصراع الثيران(120)، وكان خدمهم يمسحون لهم في أعيادهم ونزهتهم أجسامهم بالزيوت. وكانوا يضعون على رؤوسهم أكاليل الزهر ويسقون الخمور تقدم لهم الهدايا، ونستطيع استنادا إلى ما لدينا من رسومهم الملونة وتماثيلهم أن نصورهم خلقا أقوياء الأجسام، مفتولي العضلات، عريضي المناكب، مستدقي الخصور، ممتلئي الشفاه، منبسطي الأقدام لاعتيادهم الحفاء. وهذه الرسوم والتماثيل تمثل الطبقات العليا النحيفة القوام، طويلة في هيبة، ذات وجوه بيضاء وجباه منحدرة منتظمة، وأنوف طويلة مصفحة، وعيون نجل، وكانت بشرتهم بيضاء وقت مولدهم (تشهد بأنهم من أصل آسيوي لا إفريقي)، ولكنها سرعان ما تلفحها شمس مصر فتسمر(121). وقد جرى
صفحة رقم : 305
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
العرف بين الفنانين المصريين على أن يرسموا الرجال حمرا والنساء صفروات؛ ولربما كان هذان اللونان مجرد طرازين من الزينة للرجال والنساء. هذا شأن الطبقات العليا، أما الرجال من عامة الشعب فكان يمثل بالصورة التي نراها في تمثال شيخ البلد، قصير القامة، ممتلئ الجسم، كاسي القصب، وذلك لطول كده وطعامه غير المتزن. وكانت ملامحه خشنة، وكان أفطس الأنف أخشمه، ذكيا ولكنه خشن الطباع. ولربما كان الشعب وحكمه من سلالتين مختلفتين، شأنهم في هذا شأن كثير من الشعوب: فلعل الحكام كانوا من أصل آسيوي وعامة الشعب من أصل إفريقي. وكان شعرهم أسود، أحجن في بعض الأحيان، وقلما كان قَطَطاً. وكان النساء يقصصن شعورهن كأحسن ما يقصصنه في هذه الأيام؛ وكان الرجال يحلقون لحاهم ويخفون شواربهم ويزينون أنفسهم بشعور مستعارة فخمة. وكثيرا ما كانوا يقصون شعر رأسهم ليسهل عليهم لبس هذه الشعور المستعارة. وحتى زوجة الملك نفسها كانت تقص شعرها كله ليسهل عليها لبس التاج والشعر الملكي المستعار (كما ترى هذا في صورة تي أم إخناتون). وكان من المراسم التي لا يستطيع الملك الخروج عليها أن يلبس أكبر ضفيرة مستعارة(122).
وكانوا يستعينون بفنون التجميل على إصلاح عيوب أجسامهم كل منهم حسب موارده. فكانوا يحمرون أوجههم وشفاههم، ويلونون أظافرهم، ويدهنون أعضاء أجسامهم بالزيت، وحتى تماثيل المصريات كانت تكحل عيونها. وكان ذوو اليسار منهم يضعون في قبور موتاهم سبعة أنواع من الأدهان ونوعين من الصبغة الحمراء. وقد وجدت بين آثارهم كميات كبيرة من أدوات الزينة، والمرايا، والمواسي، وأدوات تجعيد الشعر، ودبابيسه، والأمشاط، وصناديق الأدهان، والصحاف والملاعق- مصنوعة من الخشب، أو العاج، أو المرمر، أو البرنز، ذات أشكال جميلة تتفق والأغراض التي تستخدم فيها. ولا تزال بعض أصباغ العيون باقية في أنابيبها إلى يومنا هذا، وليس الكحل الذي تستعمله النساء في هذه الأيام لتزيين حواجبهن ووجوههن إلا صورة أخرى من الزيت الذي كان المصريون
صفحة رقم : 306
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
يستخدمونه في غابر الأيام. وقد وصلت إلينا هذه العادة عن طريق العرب، واشتق من اسمه العربي "الكحل" لفظ "الكحول" الذي نستخدمه الآن. وكانت العطور على اختلاف أنواعها تستخدم لتعطير الجسم والثياب، كما كانت المنازل تبخر بالبخور والمر(123).
وسارت ملابسهم في جميع مراحل التطور من عرى البدائيين إلى أفخم ملابس عصر الإمبراطورية. ففي أول الأمر كان الأطفال ذكورا وإناثا يظلون حتى الثالثة عشرة من عمرهم عراة الأجسام إلا من الأقراط والقلائد. غير أن البنات كن يظهرن شيئاً من الخفر الخليق بهن فيتمنطقن بمنطقة من الخرز في أوساطهن(124). وكان الخدم والزراع يقتصرون على قطعة من القماش تستر عوراتهم. فلما كان عهد الدولة القديمة كان الأحرار من الرجال والنساء يسيرون وأجسامهم عارية من فوق السرة، مغطى ما تحتها إلى الركبة بإزار قصير ضيق من الكتان الأبيض(125). ولما كان الحياء وليد العادة لا الطبيعة فإن هذه الثياب البسيطة كانت ترضي ضمير هؤلاء القوم، كما كان الإنجليز في العصر الفكتوري يرتضون النُّقبة (الجونيلا) والخصار أو ثياب السهرة التي يلبسها الرجال من الأمريكيين في هذه الأيام. وما أصدق القول المأثور : "ليست فضائلنا إلا معاني تخلعها الأيام على الأفعال والعادات". وحتى القساوسة أنفسهم في عصر الأسر المصرية الأولى كانوا يكتفون بستر عوراتهم كما نشاهد ذلك في تمثال رنوفر(126). فلما زادت الثروة كثرت الملابس، فأضافت الدولة الوسطى إزارا ثانيا فوق الإزار الأول وأكبر منه، وأضافت الدولة الحديثة غطاء للصدر ودثارا للكتفين كان يلبس من حين إلى حين. وكان سائقو المركبات وسائسو الخيل يرتدون حللاً فخمة كاملة ويعدون في الشوارع بحللهم هذه ليفسحوا الطريق لمركبات أسيادهم. ونبذت النساء المئزر الضيق في عصور الرخاء المتأخرة واستبدلن به ثوباً فضفاضاً
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 307
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
ينزل من الكتفين ويربط بمشبك تحت الثدي الأيمن. وظهرت الأثواب المطرزة ذات الأهداب المختلفة التي لا يحصى عديدها، وتسربت الأنماط والطرز الحديثة إلى البيوت تسرب الأفاعي لتفسد على أصحابها جنة العري البدائية(127).
وكان الرجال والنساء سواء في الشغف بالحلي والزينة، فكانوا يحلون بالجواهر أعناقهم، وصدورهم، وأذرعهم، ومعاصمهم، وأرساغهم. ولما عم الرخاء البلاد وزاد ثراء أهلها بما جاءها من خراج أملاكها في آسية، ومن مكاسب تجارة بلاد البحر الأبيض المتوسط، وأصبح التحلي بالجواهر مطلباً يهواه جميع المصريين، ولم يعد ميزة للطبقات الموسرة؛ فكان لكل كاتب وتاجر خاتمه المصنوع من الفضة أو الذهب، ولكل رجل خاتم في إصبعه، ولكل امرأة قلادة تزينها. وكانت هذه القلائد من أنماط لا حصر لها كما يدل على ذلك ما نراه منها اليوم في المتاحف؛ فمنها ما لا يزيد طوله على بوصتين أو ثلاث بوصات، ومنها ما يبلغ طوله خمسة أقدام؛ ومنها ما هو سميك ثقيل، ومنها ما يضارع "أجمل مخرمات مدينة البندقية خفة وليناً"(128). وأضحت الأقراط في عهد الأسرة الثامنة عشرة حلية لا غنى عنها. فكان لا بد لكل شخص أن تخرق أذنه لتحلى بقرط، ولم تختص بالأقراط النساء والبنات بل كان يتحلى بها أيضا الأولاد والرجال(129). وكان الرجال والنساء على السواء يزينون أجسامهم بالأساور والخواتم والأنواط والقلائد من الخرز والحجارة الثمينة. وملاك القول أن نساء مصر القديمة لن يتعلمن منا شيئا عن أدهان الشعر والوجه والجواهر لو أنهن بعثن بيننا في هذه الأيام.
صفحة رقم : 308
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
6- القراءة والكتابة والتعليم
التعليم - مدارس الحكومة - الورق والحبر -
مراحل تطور الكتابة - أشكال الكتابة المصرية
كان الكهنة يلقنون أبناء الأسر الغنية مبادئ العلوم في مدارس ملحقة بالهياكل كما هو الحال في أبرشيات طوائف الكاثوليك الرومان في هذه الأيام(130).
صفحة رقم : 309
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
ويطلق أحد الكهنة- وقد كان يشغل المنصب الذي يصح أن نسميه في هذه الأيام وزير المعارف- على نفسه اسم "رئيس الإسطبل الملكي للتعليم" (131). وقد عثر في خرائب إحدى المدارس التي يبدو أنها كانت جزءاً من بناء الرمسيوم على عدد كبير من المحار لا تزال دروس المعلم القديم ظاهرة عليها. وكان عمل المدرس في تلك الأيام هو تخريج الكتبة للقيام بأعمال الدولة، وكان المدرسون يستحثون تلاميذهم على الإقبال على التعليم بتدبيج المقالات البليغة يشرحون فيها مزاياه. من ذلك ما جاء في إحدى البرديات : " أفرغ قلبك للعلم وأحبه كما تحب أمك، فلا شيء في العالم يعدل العلم في قيمته " . وتقول بردية أخرى : "ليس ثمة وظيفة إلا لها من يسيطر عليها، لكن العالم وحده هو الذي يحكم نفسه". وكتب أحد المولعين بمطالعة الكتب يقول : "إن من سوء الحظ أن يكون الإنسان جندياً، وإن حرث الأرض لعمل ممل، أما السعادة فلا تكون إلا في توجيه القلب إلى الكتب في النهار والقراءة في الليل"(132).
وقد وصلت إلينا كراسات من عهد الدولة الحديثة وفيها إصلاح المدرسين لأخطاء التلاميذ يزين هوامشها؛ وهذه الأخطاء تبلغ من الكثرة حداً يجد فيه تلميذ اليوم كثيراً من السلوى(133). وكان الإملاء ونقل النصوص أهم طرق التعليم، وكانت هذه الدروس تكتب على الشقف أو على رقائق من حجر الجير(134). وكان أكثر ما يعلم هو الموضوعات التجارية، وذلك لأن المصريين كانوا أول الأقوام النفعيين، وأعظمهم استمساكاً بالنظرية النفعية؛ وكانت الفضيلة أهم الموضوعات التي يكتب فيها المعلمون، وكانت مشكلة النظام أهم المشاكل التعليمية في تلك الأيام، كما هي أهم مشاكله في الوقت الحاضر. وقد جاء في إحدى الكراسات : " لا تضع وقتك في التمني، وإلا ساءت عاقبتك. اقرأ بفمك الكتاب الذي بيدك؛ وخذ النصيحة ممن هو أعلم منك ". ولعل هذه العبارة الأخيرة من أقدم ما عرف من الحكم في أية لغة من اللغات. وكان
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العادات
ينزل من الكتفين ويربط بمشبك تحت الثدي الأيمن. وظهرت الأثواب المطرزة ذات الأهداب المختلفة التي لا يحصى عديدها، وتسربت الأنماط والطرز الحديثة إلى البيوت تسرب الأفاعي لتفسد على أصحابها جنة العري البدائية(127).
وكان الرجال والنساء سواء في الشغف بالحلي والزينة، فكانوا يحلون بالجواهر أعناقهم، وصدورهم، وأذرعهم، ومعاصمهم، وأرساغهم. ولما عم الرخاء البلاد وزاد ثراء أهلها بما جاءها من خراج أملاكها في آسية، ومن مكاسب تجارة بلاد البحر الأبيض المتوسط، وأصبح التحلي بالجواهر مطلباً يهواه جميع المصريين، ولم يعد ميزة للطبقات الموسرة؛ فكان لكل كاتب وتاجر خاتمه المصنوع من الفضة أو الذهب، ولكل رجل خاتم في إصبعه، ولكل امرأة قلادة تزينها. وكانت هذه القلائد من أنماط لا حصر لها كما يدل على ذلك ما نراه منها اليوم في المتاحف؛ فمنها ما لا يزيد طوله على بوصتين أو ثلاث بوصات، ومنها ما يبلغ طوله خمسة أقدام؛ ومنها ما هو سميك ثقيل، ومنها ما يضارع "أجمل مخرمات مدينة البندقية خفة وليناً"(128). وأضحت الأقراط في عهد الأسرة الثامنة عشرة حلية لا غنى عنها. فكان لا بد لكل شخص أن تخرق أذنه لتحلى بقرط، ولم تختص بالأقراط النساء والبنات بل كان يتحلى بها أيضا الأولاد والرجال(129). وكان الرجال والنساء على السواء يزينون أجسامهم بالأساور والخواتم والأنواط والقلائد من الخرز والحجارة الثمينة. وملاك القول أن نساء مصر القديمة لن يتعلمن منا شيئا عن أدهان الشعر والوجه والجواهر لو أنهن بعثن بيننا في هذه الأيام.
صفحة رقم : 308
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
6- القراءة والكتابة والتعليم
التعليم - مدارس الحكومة - الورق والحبر -
مراحل تطور الكتابة - أشكال الكتابة المصرية
كان الكهنة يلقنون أبناء الأسر الغنية مبادئ العلوم في مدارس ملحقة بالهياكل كما هو الحال في أبرشيات طوائف الكاثوليك الرومان في هذه الأيام(130).
صفحة رقم : 309
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
ويطلق أحد الكهنة- وقد كان يشغل المنصب الذي يصح أن نسميه في هذه الأيام وزير المعارف- على نفسه اسم "رئيس الإسطبل الملكي للتعليم" (131). وقد عثر في خرائب إحدى المدارس التي يبدو أنها كانت جزءاً من بناء الرمسيوم على عدد كبير من المحار لا تزال دروس المعلم القديم ظاهرة عليها. وكان عمل المدرس في تلك الأيام هو تخريج الكتبة للقيام بأعمال الدولة، وكان المدرسون يستحثون تلاميذهم على الإقبال على التعليم بتدبيج المقالات البليغة يشرحون فيها مزاياه. من ذلك ما جاء في إحدى البرديات : " أفرغ قلبك للعلم وأحبه كما تحب أمك، فلا شيء في العالم يعدل العلم في قيمته " . وتقول بردية أخرى : "ليس ثمة وظيفة إلا لها من يسيطر عليها، لكن العالم وحده هو الذي يحكم نفسه". وكتب أحد المولعين بمطالعة الكتب يقول : "إن من سوء الحظ أن يكون الإنسان جندياً، وإن حرث الأرض لعمل ممل، أما السعادة فلا تكون إلا في توجيه القلب إلى الكتب في النهار والقراءة في الليل"(132).
وقد وصلت إلينا كراسات من عهد الدولة الحديثة وفيها إصلاح المدرسين لأخطاء التلاميذ يزين هوامشها؛ وهذه الأخطاء تبلغ من الكثرة حداً يجد فيه تلميذ اليوم كثيراً من السلوى(133). وكان الإملاء ونقل النصوص أهم طرق التعليم، وكانت هذه الدروس تكتب على الشقف أو على رقائق من حجر الجير(134). وكان أكثر ما يعلم هو الموضوعات التجارية، وذلك لأن المصريين كانوا أول الأقوام النفعيين، وأعظمهم استمساكاً بالنظرية النفعية؛ وكانت الفضيلة أهم الموضوعات التي يكتب فيها المعلمون، وكانت مشكلة النظام أهم المشاكل التعليمية في تلك الأيام، كما هي أهم مشاكله في الوقت الحاضر. وقد جاء في إحدى الكراسات : " لا تضع وقتك في التمني، وإلا ساءت عاقبتك. اقرأ بفمك الكتاب الذي بيدك؛ وخذ النصيحة ممن هو أعلم منك ". ولعل هذه العبارة الأخيرة من أقدم ما عرف من الحكم في أية لغة من اللغات. وكان
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 313
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
المتوسط، ثم انتشرت عن طريق اليونان وروما حتى صارت أثمن ما ورثته الحضارة من بلاد الشرق(140). والكتابة الهيروغليفية قديمة قدم الأسر المصرية الأولى، أما الحروف الهجائية فكان أول ظهورها في النقوش التي خلفها المصريون في مناجم سيناء التي يرجعها بعض المؤرخين إلى عام 2500 ق.م وبعضهم إلى عام 1500 ق.م .
ولم يتخذ المصريون لهم كتابة قائمة كلها على الحروف الهجائية وحدها لحكمة في ذلك أو لغير حكمة، بل ظلوا إلى آخر عهود حضارتهم يخلطون بين حروفهم وبين الصور الدالة على الرموز وعلى الأفكار وعلى مقاطع الكلمات. ومن أجل هذا صعب على العلماء أن يقرءوا الكتابة المصرية، ولكن من السهل علينا أن نتصور أن هذا الخلط بين الكتابة بالطريقة المعتادة وبطريقة الاختزال قد سهل عملية الكتابة للمصريين الذين كانوا يجدون فسحة من الوقت لتعلمها. وإذ كانت أصوات الكلمات الإنجليزية لا تعد مرشداً أميناً لهجائها، فإن الشاب الذي يريد أن يتعلم أساليب الهجاء الإنجليزية يجد فيها من الصعوبة ما كان يجده الكاتب المصري في حفظ الخمسمائة رمز هيروغليفي، ومعانيها المقطعية، واستعمالاتها حروفا هجائية. ومن أجل هذا نشأ شكل سريع سهل من أشكال الكتابة استخدم في الكتابات العادية، واحتفظ بالطراز الأول منها ليستخدم فيه "النقوش المقدسة" على الآثار. وإذا كان الكهنة وكتبة الهياكل هم أول من مسخ الكتابة الهيروغليفية على هذا النحو فقد أطلق اليونان عليها اسم الكتابة الهيراطية (المقدسة)، ولكنها سرعان ما عم استخدامها في الوثائق العامة والتجارية والخصوصية. ثم نشأ على يد الشعب نفسه نمط آخر من الكتابة أكثر من النمط الثاني اختصارا
صفحة رقم : 314
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
وأقل منه عناية؛ ولذلك سمي بالكتابة الديموطية (الشعبية) لكن المصريين كانوا يصرون على ألا ينقشوا على آثارهم إلا الرموز الهيروغليفية الفاخرة الجميلة- ولعلها أجمل نمط من الكتابة عرف حتى الآن.
صفحة رقم : 315
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
7- الآداب
النصوص ودور الكتب - السندباد المصري - قصة سنوحي -
الروايات الخيالية - قطعة غرامية - أشعار الحب - التاريخ - ثورة في الأدب
إن معظم ما بقي من آداب مصر القديمة مدون بالكتابة الهيراطية، وهذا القدر الباقي قليل لا يغني؛ ولهذا فإننا لا نستطيع الحكم على الأدب المصري القديم إلا من هذه البقايا القديمة وهو حكم أعمى للمصادفة فيه النصيب الأوفر. ولعل الزمان قد عدا على أعظم شاعر في مصر، ولم يبق إلا شعراء البلاد. وقد كان للمصريين دور كتب وخزنة عليها؛ فقد كتب على قبر موظف كبير في الأسرة الرابعة " كاتب دار الكتب ولسنا نعرف أكانت هذه الدار البدائية مستودعاً للأدب، المصري القديم هو "نصوص الأهرام" وهي موضوعات دينية ورعة منقوشة على جدران خمسة من أهرام الأسرتين الخامسة والسادسة. وقد وصلت إلينا مكتبات يرجع تاريخها إلى عام 2000 ق.م وتحوى برديات مطوية ومحفوظة في جرار معنوية ومصفوفة على رفوف (145). وعثر في إحدى هذه الجرار على أقدم صورة من صور قصة السندباد البحري، أو لعلنا نكون أقرب إلى الحقيقة إذ أسميناها أقدم صورة من صور قصة رُبنسن كروزو.
صفحة رقم : 316
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
وهذه القصة "قصة الملاح الذي حطمت سفينته" قطعة من ترجمة ذاتية لحياة ملاح تفيض حياة وشعوراً. ويقول هذا الملاح القديم في أحد سطورها قولا يذكرنا بقول دانتي : "ما أعظم سرور من يقص ما وقع له حين ينجو من كارثة حلت به!". يقول هذا الملاح في مطلع هذه القصة:
"سأقص عليك شيئا حدث لي حين يمت شطر مناجم الملك ونزلت البحر في سفينة طولها مائة وثمانون قدما وعرضها ستون، وفيها مائة وعشرون من صفوة الملاحين المصريين، خبيرين بمعالم الأرض والسماء، وقلوبهم أشد بأسا.... من قلوب الآساد، يتنبأون بأعاصير البحر وعواصف البر قبل أن تثور.
وهبت علينا عاصفة ونحن لا نزال في البحر.... ودفعتنا الرياح حتى كنا نطير أمامها.... وثارت موجة علوها ثمان أذرع....
ثم تحطمت السفينة، ولم ينج أحد ممن كان فيها، وألقت بي موجة من أمواج البحر في جزيرة، قضيت فيها ثلاثة أيام بمفردي لا رفيق لي إلا قلبي؛ أنام تحت شجرة وأعانق الظلال؛ ثم مددت قدمي أبحث عما أستطيع أن أضعه في فمي، فوجدت أشجار التين والكروم وجميع صنوف الكُرّات الجميل.... وكان فيها سمك ودجاج ولم يكن ينقصها شيء قط.... وبعد أن صنعت لنفسي جهازاً أوقد به النار أشعلتها وقربت للآلهة قرباناً مشويا"(146).
وتروي قصة أخرى مغامرات سنوحي، وهو موظف عام فرّ من مصر على أثر وفاة أمنمحيت الأول، وأخذ يتنقل من بلد إلى بلد في الشرق الأدنى، وحظي فيها بضروب من النعيم والشرف، ولكنه رغم هذا لم يطق صبراً على ما حلّ به من آلام الوحدة والحنين إلى وطنه. وبرح به الألم آخر الأمر حتى ترك ثروته وعاد إلى مصر وقاسى في طريقه إليها كثيرا من الشدائد والأهوال. وقد جاء فيها:
"ألا أيها الإله، أيا كنت، يا من قدّرت عليّ هذا الفرار، أعِدْني إلى البيت (أي الملك). ولعلك تسمح لي أن أرى الموضع الذي يقيم فيه قلبي.
صفحة رقم : 317
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
وأي شيء أعظم من أن تدفن جثتي في الأرض التي ولدت فيها؟ أعنّي على أمري! وليصبني الخير، وليرحمني اللّه!".
ثم نراه بعدئذ وقد عاد إلى وطنه، متعبا، يعلوه العثير من طول السفر في الصحراء، يخشى أن ينتهره الملك لطول غيابه عن بلد يراه أهله- كما يرى الناس بلادهم في سائر الأزمان- البلد المتحضر الوحيد في العالم. ولكن الملك يعفو عنه ويحسن استقباله ويحبوه بكل أنواع العطور والأدهان:
"وأقمت في بيت أحد أبناء الملك، حيث توجد أفخر ضروب الأثاث، وكان فيه حمام....وزالت عن جسمي آثار السنين الطوال؛ وقص شعري، ومشط، وطرح في الصحراء حمل (من الأقذار؟) وأعطيت الملابس (القذرة) لروّاد الرمال. وجيء لي بأرق الملابس الكتانية وعطّر جسمي بأحسن الزيوت"(147).
أما القصص القصيرة فكثيرة متنوعة فيما وصل إلينا من بقايا الأدب المصري القديم. ومن هذه قصص عجيبة بديعة عن الأطياف والمعجزات والتلفيقات العجيبة التي تخلب الألباب والتي لا تقل في سبكها وقربها من الحقائق عن قصص الشرطة السرية التي يصدقها رجال الحكم في هذه الأيام. ومنها روايات غرامية مكتوبة بعبارات طنانة رنانة عن الأمراء والأميرات، والملوك والملكات، ومن بينها أقدم مثال معروف لقصة سندرلا، وقدمها الصغيرة الجميلة ، وحذائها الجوال، وانتهاء القصة بزواجها من ابن الملك(148).وفيها قصص خرافية على لسان الطير والحيوان تفصح عن نقائص الآدميين وشهواتهم وعواطفهم، وتهدف في حكمة وتعقل إلى معان خلقية سامية(149)، كأنما هي منقولة عن خرافات إيزوب ولافنتين.
ومن القصص المصرية التي تمزج الحوادث الطبيعية المعقولة بخوارق الطبيعة، والتي تعد نموذجاً لغيرها من القصص المصرية، قصة أنوبو و بيتيو، وهما أخوان صغير وكبير ظلا يعيشان عيشة راضية سعيدة في مزرعة لهما حتى هامت زوجة
صفحة رقم : 318
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
أنوبو بحب بيتيو، فردها عن نفسه، فانتقمت منه بأن وشت به إلى أخيه واتهمته بأنه أراد بها سوءا. وجاءت الآلهة والتماسيح لتعين بيتيو على أنوبو ولكن بيتيو ينفر من بني الإنسان ويضيق بهم ذرعا ويبتر نفسه ليبرهن بذلك على براءته، ويعتزل العالم إلى الغابات كما فعل تيمن الآثيني فيما بعد. ويعلق قلبه في أعلى زهرة في شجرة لا يستطيع الوصول إليها أحد. وتشفق عليه الآلهة في وحدته فتخلق له زوجة رائعة الجمال يشغف النيل بحبها لفرط جمالها، ويختلس غديره من شعرها. وتحمل مياه النهر هذه الغديرة فيعثر عليها الملك، فيسكره عطرها، ويأمر اتباعه بالبحث عن صاحبتها. ويعثر هؤلاء عليها ويأتونه بها، ويتزوجها. وتدب في قلبه الغيرة من بيتيو فيرسل رجاله ليقطعوا الشجرة التي علق عليها بيتيو(150). ألا ما أقل الفرق بين أذواقنا وأذواق من سبقونا من الخلق!.
وكانت معظم الآداب المصرية الأولى آداباً دينية، وأقدم القصائد المصرية ترانيم نصوص الأهرام. وصيغتها هي أيضا أقدم الصيغ المعروفة لنا، وهي عبارة عن تكرار المعنى الواحد بعبارات مختلفة، وقد أخذ الشعراء العبرانيون عن المصريين والبابليين هذه الطريقة وخلدوها في المزامير(151).وفي عصر الانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الوسطى تصطبغ الآداب تدريجاً بالصبغة الدنيوية "الدنسة". وفي قطعة من بردية قديمة لمحة خاطفة تشير إلى طائفة من الأدب الغرامي بقيت لنا لأن كاتبا من كتبة الدولة قد منعه الكسل أن يتم محو ما على هذه البردية من كتابة فبقى عليها خمسة وعشرون سطراً تستطاع قراءتها، وتروي قصة لقاء بين راع وإحدى الإلهات. وتقول هذه القصة أن "الإلهة التقت بالراعي وهو سائر في طريقه إلى البركة، وكانت قد خلعت ملابسها وأرخت شعرها". ويروي الشاعر ما حدث بعدئذ رواية الحذر الحريص فيقول :
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
المتوسط، ثم انتشرت عن طريق اليونان وروما حتى صارت أثمن ما ورثته الحضارة من بلاد الشرق(140). والكتابة الهيروغليفية قديمة قدم الأسر المصرية الأولى، أما الحروف الهجائية فكان أول ظهورها في النقوش التي خلفها المصريون في مناجم سيناء التي يرجعها بعض المؤرخين إلى عام 2500 ق.م وبعضهم إلى عام 1500 ق.م .
ولم يتخذ المصريون لهم كتابة قائمة كلها على الحروف الهجائية وحدها لحكمة في ذلك أو لغير حكمة، بل ظلوا إلى آخر عهود حضارتهم يخلطون بين حروفهم وبين الصور الدالة على الرموز وعلى الأفكار وعلى مقاطع الكلمات. ومن أجل هذا صعب على العلماء أن يقرءوا الكتابة المصرية، ولكن من السهل علينا أن نتصور أن هذا الخلط بين الكتابة بالطريقة المعتادة وبطريقة الاختزال قد سهل عملية الكتابة للمصريين الذين كانوا يجدون فسحة من الوقت لتعلمها. وإذ كانت أصوات الكلمات الإنجليزية لا تعد مرشداً أميناً لهجائها، فإن الشاب الذي يريد أن يتعلم أساليب الهجاء الإنجليزية يجد فيها من الصعوبة ما كان يجده الكاتب المصري في حفظ الخمسمائة رمز هيروغليفي، ومعانيها المقطعية، واستعمالاتها حروفا هجائية. ومن أجل هذا نشأ شكل سريع سهل من أشكال الكتابة استخدم في الكتابات العادية، واحتفظ بالطراز الأول منها ليستخدم فيه "النقوش المقدسة" على الآثار. وإذا كان الكهنة وكتبة الهياكل هم أول من مسخ الكتابة الهيروغليفية على هذا النحو فقد أطلق اليونان عليها اسم الكتابة الهيراطية (المقدسة)، ولكنها سرعان ما عم استخدامها في الوثائق العامة والتجارية والخصوصية. ثم نشأ على يد الشعب نفسه نمط آخر من الكتابة أكثر من النمط الثاني اختصارا
صفحة رقم : 314
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> القراءة والكتابة والتعليم
وأقل منه عناية؛ ولذلك سمي بالكتابة الديموطية (الشعبية) لكن المصريين كانوا يصرون على ألا ينقشوا على آثارهم إلا الرموز الهيروغليفية الفاخرة الجميلة- ولعلها أجمل نمط من الكتابة عرف حتى الآن.
صفحة رقم : 315
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
7- الآداب
النصوص ودور الكتب - السندباد المصري - قصة سنوحي -
الروايات الخيالية - قطعة غرامية - أشعار الحب - التاريخ - ثورة في الأدب
إن معظم ما بقي من آداب مصر القديمة مدون بالكتابة الهيراطية، وهذا القدر الباقي قليل لا يغني؛ ولهذا فإننا لا نستطيع الحكم على الأدب المصري القديم إلا من هذه البقايا القديمة وهو حكم أعمى للمصادفة فيه النصيب الأوفر. ولعل الزمان قد عدا على أعظم شاعر في مصر، ولم يبق إلا شعراء البلاد. وقد كان للمصريين دور كتب وخزنة عليها؛ فقد كتب على قبر موظف كبير في الأسرة الرابعة " كاتب دار الكتب ولسنا نعرف أكانت هذه الدار البدائية مستودعاً للأدب، المصري القديم هو "نصوص الأهرام" وهي موضوعات دينية ورعة منقوشة على جدران خمسة من أهرام الأسرتين الخامسة والسادسة. وقد وصلت إلينا مكتبات يرجع تاريخها إلى عام 2000 ق.م وتحوى برديات مطوية ومحفوظة في جرار معنوية ومصفوفة على رفوف (145). وعثر في إحدى هذه الجرار على أقدم صورة من صور قصة السندباد البحري، أو لعلنا نكون أقرب إلى الحقيقة إذ أسميناها أقدم صورة من صور قصة رُبنسن كروزو.
صفحة رقم : 316
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
وهذه القصة "قصة الملاح الذي حطمت سفينته" قطعة من ترجمة ذاتية لحياة ملاح تفيض حياة وشعوراً. ويقول هذا الملاح القديم في أحد سطورها قولا يذكرنا بقول دانتي : "ما أعظم سرور من يقص ما وقع له حين ينجو من كارثة حلت به!". يقول هذا الملاح في مطلع هذه القصة:
"سأقص عليك شيئا حدث لي حين يمت شطر مناجم الملك ونزلت البحر في سفينة طولها مائة وثمانون قدما وعرضها ستون، وفيها مائة وعشرون من صفوة الملاحين المصريين، خبيرين بمعالم الأرض والسماء، وقلوبهم أشد بأسا.... من قلوب الآساد، يتنبأون بأعاصير البحر وعواصف البر قبل أن تثور.
وهبت علينا عاصفة ونحن لا نزال في البحر.... ودفعتنا الرياح حتى كنا نطير أمامها.... وثارت موجة علوها ثمان أذرع....
ثم تحطمت السفينة، ولم ينج أحد ممن كان فيها، وألقت بي موجة من أمواج البحر في جزيرة، قضيت فيها ثلاثة أيام بمفردي لا رفيق لي إلا قلبي؛ أنام تحت شجرة وأعانق الظلال؛ ثم مددت قدمي أبحث عما أستطيع أن أضعه في فمي، فوجدت أشجار التين والكروم وجميع صنوف الكُرّات الجميل.... وكان فيها سمك ودجاج ولم يكن ينقصها شيء قط.... وبعد أن صنعت لنفسي جهازاً أوقد به النار أشعلتها وقربت للآلهة قرباناً مشويا"(146).
وتروي قصة أخرى مغامرات سنوحي، وهو موظف عام فرّ من مصر على أثر وفاة أمنمحيت الأول، وأخذ يتنقل من بلد إلى بلد في الشرق الأدنى، وحظي فيها بضروب من النعيم والشرف، ولكنه رغم هذا لم يطق صبراً على ما حلّ به من آلام الوحدة والحنين إلى وطنه. وبرح به الألم آخر الأمر حتى ترك ثروته وعاد إلى مصر وقاسى في طريقه إليها كثيرا من الشدائد والأهوال. وقد جاء فيها:
"ألا أيها الإله، أيا كنت، يا من قدّرت عليّ هذا الفرار، أعِدْني إلى البيت (أي الملك). ولعلك تسمح لي أن أرى الموضع الذي يقيم فيه قلبي.
صفحة رقم : 317
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
وأي شيء أعظم من أن تدفن جثتي في الأرض التي ولدت فيها؟ أعنّي على أمري! وليصبني الخير، وليرحمني اللّه!".
ثم نراه بعدئذ وقد عاد إلى وطنه، متعبا، يعلوه العثير من طول السفر في الصحراء، يخشى أن ينتهره الملك لطول غيابه عن بلد يراه أهله- كما يرى الناس بلادهم في سائر الأزمان- البلد المتحضر الوحيد في العالم. ولكن الملك يعفو عنه ويحسن استقباله ويحبوه بكل أنواع العطور والأدهان:
"وأقمت في بيت أحد أبناء الملك، حيث توجد أفخر ضروب الأثاث، وكان فيه حمام....وزالت عن جسمي آثار السنين الطوال؛ وقص شعري، ومشط، وطرح في الصحراء حمل (من الأقذار؟) وأعطيت الملابس (القذرة) لروّاد الرمال. وجيء لي بأرق الملابس الكتانية وعطّر جسمي بأحسن الزيوت"(147).
أما القصص القصيرة فكثيرة متنوعة فيما وصل إلينا من بقايا الأدب المصري القديم. ومن هذه قصص عجيبة بديعة عن الأطياف والمعجزات والتلفيقات العجيبة التي تخلب الألباب والتي لا تقل في سبكها وقربها من الحقائق عن قصص الشرطة السرية التي يصدقها رجال الحكم في هذه الأيام. ومنها روايات غرامية مكتوبة بعبارات طنانة رنانة عن الأمراء والأميرات، والملوك والملكات، ومن بينها أقدم مثال معروف لقصة سندرلا، وقدمها الصغيرة الجميلة ، وحذائها الجوال، وانتهاء القصة بزواجها من ابن الملك(148).وفيها قصص خرافية على لسان الطير والحيوان تفصح عن نقائص الآدميين وشهواتهم وعواطفهم، وتهدف في حكمة وتعقل إلى معان خلقية سامية(149)، كأنما هي منقولة عن خرافات إيزوب ولافنتين.
ومن القصص المصرية التي تمزج الحوادث الطبيعية المعقولة بخوارق الطبيعة، والتي تعد نموذجاً لغيرها من القصص المصرية، قصة أنوبو و بيتيو، وهما أخوان صغير وكبير ظلا يعيشان عيشة راضية سعيدة في مزرعة لهما حتى هامت زوجة
صفحة رقم : 318
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
أنوبو بحب بيتيو، فردها عن نفسه، فانتقمت منه بأن وشت به إلى أخيه واتهمته بأنه أراد بها سوءا. وجاءت الآلهة والتماسيح لتعين بيتيو على أنوبو ولكن بيتيو ينفر من بني الإنسان ويضيق بهم ذرعا ويبتر نفسه ليبرهن بذلك على براءته، ويعتزل العالم إلى الغابات كما فعل تيمن الآثيني فيما بعد. ويعلق قلبه في أعلى زهرة في شجرة لا يستطيع الوصول إليها أحد. وتشفق عليه الآلهة في وحدته فتخلق له زوجة رائعة الجمال يشغف النيل بحبها لفرط جمالها، ويختلس غديره من شعرها. وتحمل مياه النهر هذه الغديرة فيعثر عليها الملك، فيسكره عطرها، ويأمر اتباعه بالبحث عن صاحبتها. ويعثر هؤلاء عليها ويأتونه بها، ويتزوجها. وتدب في قلبه الغيرة من بيتيو فيرسل رجاله ليقطعوا الشجرة التي علق عليها بيتيو(150). ألا ما أقل الفرق بين أذواقنا وأذواق من سبقونا من الخلق!.
وكانت معظم الآداب المصرية الأولى آداباً دينية، وأقدم القصائد المصرية ترانيم نصوص الأهرام. وصيغتها هي أيضا أقدم الصيغ المعروفة لنا، وهي عبارة عن تكرار المعنى الواحد بعبارات مختلفة، وقد أخذ الشعراء العبرانيون عن المصريين والبابليين هذه الطريقة وخلدوها في المزامير(151).وفي عصر الانتقال من الدولة القديمة إلى الدولة الوسطى تصطبغ الآداب تدريجاً بالصبغة الدنيوية "الدنسة". وفي قطعة من بردية قديمة لمحة خاطفة تشير إلى طائفة من الأدب الغرامي بقيت لنا لأن كاتبا من كتبة الدولة قد منعه الكسل أن يتم محو ما على هذه البردية من كتابة فبقى عليها خمسة وعشرون سطراً تستطاع قراءتها، وتروي قصة لقاء بين راع وإحدى الإلهات. وتقول هذه القصة أن "الإلهة التقت بالراعي وهو سائر في طريقه إلى البركة، وكانت قد خلعت ملابسها وأرخت شعرها". ويروي الشاعر ما حدث بعدئذ رواية الحذر الحريص فيقول :
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 319
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
"إليك ما حدث حين نزلت إلى المستنقع... رأيت فيه امرأة لم تكن صورتها كصورة الخلائق الفانين. وانتصب شعري قائماَ على أطرافه حين أبصرت غدائرها، وذلك لفرط جمالها وبهائها. ولم أفعل قط ما قالته لي ؛ فقد تملكت الرهبة منها جسدي " (152) .
ولدينا من أغاني الحب الجميلة عدد كبير، ولكن معظمها يتحدث عن غرام الأخوة والأخوات ، ولهذا تسخر منه أذن السامع في هذه الأيام وتصطك لسماعه. ومن هذه الأغاني مجموعة سميت "الأغاني الجميلة السارة التي غنتها أختك حبيبة قلبك، التي تسير في الحقول".
ولدينا محارة من عهد الأسرة التاسعة عشرة أو العشرين تضرب نغمة حديثة على أوتار الحب القديمة جاء فيها:
إن غرام حبيبتي يقفز على شاطئ الغدير.
وفي الظلال تمساح رابض؛
وليتني أنزل إلى الماء وأواجه الأمواج.
ويشتد بأسي فوق الغدير
ويكون الماء هو والأرض تحت قدمي سواء،
لأن حبها يملأ قلبي قوة.
فهي لي كتاب من الرقي والتعاويذ.
وإذ رأيت حبيبتي مقبلة ابتهج لمرآها قلبي
وفتحت ذراعي ومددتهما لأضمها إلى صدري
وينشرح قلبي أبد الدهر... لأن حبيبتي قد أقبلت
صفحة رقم : 320
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
فإذا ما ضممتها كنت كمن في أرض البخور،
وكمن يحمل العطور،
وإذ قبّلتها انفرجت شفتاها
وسكرتُ من غير خمر،
ياليتني كنت جاريتها الزنجية التي تقف بين يديها
حتى أرى لون أعضائها كلها.
ولقد قسمنا نحن هذه السطور من عندنا على غير قاعدة، وليس في وسعنا أن نستدل من الصورة الأصلية لهذه الوثيقة على أن ما عليها شعر أو نثر. لقد كان المصريون يعرفون أن النغمة الموسيقية والعاطفة القلبية هما جوهر الشعر وقوامه، فإذا ما وجدت النغمة والعاطفة فلن تهمهم الصورة الخارجية قط. على أن العبارات في بعض الأحيان كان لها وزن يقاس بالنبرات. وكان الشاعر في بعض الأحيان يبدأ كل جملة أو مقطوعة بنفس الكلمة التي بدأ بها غيرها من الجمل أو المقطوعات السابقة، وكان يعمد أحيانا إلى الجناس اللفظي فيأتي بالألفاظ المتشابهة في أصواتها ذات المعاني المختلفة أو المتناقضة. وتدل النصوص على أن تجنيس الأحرف في أوائل الكلمات المتتابعة قديم قدم الأهرام نفسها(15).وكان حسب المصريين هذه الصيغ البسيطة، فقد كان في مقدور شاعرهم أن يعبر بها عن كل لون من ألوان الحب العذري الذي يظن نيتشه أنه من اختراع شعراء الفروسية الغزلين في أوربا في العصور الوسطى. وتدل بردية هرسى على أن المرأة كانت تستطيع أن تعبر عن هذه العواطف كما يعبر عنها الرجال:
أنا أختك الأولى،
وأنت لي كالروضة
التي زرعت فيها الأزهار
والأعشاب العطرة جميعاً.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
"إليك ما حدث حين نزلت إلى المستنقع... رأيت فيه امرأة لم تكن صورتها كصورة الخلائق الفانين. وانتصب شعري قائماَ على أطرافه حين أبصرت غدائرها، وذلك لفرط جمالها وبهائها. ولم أفعل قط ما قالته لي ؛ فقد تملكت الرهبة منها جسدي " (152) .
ولدينا من أغاني الحب الجميلة عدد كبير، ولكن معظمها يتحدث عن غرام الأخوة والأخوات ، ولهذا تسخر منه أذن السامع في هذه الأيام وتصطك لسماعه. ومن هذه الأغاني مجموعة سميت "الأغاني الجميلة السارة التي غنتها أختك حبيبة قلبك، التي تسير في الحقول".
ولدينا محارة من عهد الأسرة التاسعة عشرة أو العشرين تضرب نغمة حديثة على أوتار الحب القديمة جاء فيها:
إن غرام حبيبتي يقفز على شاطئ الغدير.
وفي الظلال تمساح رابض؛
وليتني أنزل إلى الماء وأواجه الأمواج.
ويشتد بأسي فوق الغدير
ويكون الماء هو والأرض تحت قدمي سواء،
لأن حبها يملأ قلبي قوة.
فهي لي كتاب من الرقي والتعاويذ.
وإذ رأيت حبيبتي مقبلة ابتهج لمرآها قلبي
وفتحت ذراعي ومددتهما لأضمها إلى صدري
وينشرح قلبي أبد الدهر... لأن حبيبتي قد أقبلت
صفحة رقم : 320
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
فإذا ما ضممتها كنت كمن في أرض البخور،
وكمن يحمل العطور،
وإذ قبّلتها انفرجت شفتاها
وسكرتُ من غير خمر،
ياليتني كنت جاريتها الزنجية التي تقف بين يديها
حتى أرى لون أعضائها كلها.
ولقد قسمنا نحن هذه السطور من عندنا على غير قاعدة، وليس في وسعنا أن نستدل من الصورة الأصلية لهذه الوثيقة على أن ما عليها شعر أو نثر. لقد كان المصريون يعرفون أن النغمة الموسيقية والعاطفة القلبية هما جوهر الشعر وقوامه، فإذا ما وجدت النغمة والعاطفة فلن تهمهم الصورة الخارجية قط. على أن العبارات في بعض الأحيان كان لها وزن يقاس بالنبرات. وكان الشاعر في بعض الأحيان يبدأ كل جملة أو مقطوعة بنفس الكلمة التي بدأ بها غيرها من الجمل أو المقطوعات السابقة، وكان يعمد أحيانا إلى الجناس اللفظي فيأتي بالألفاظ المتشابهة في أصواتها ذات المعاني المختلفة أو المتناقضة. وتدل النصوص على أن تجنيس الأحرف في أوائل الكلمات المتتابعة قديم قدم الأهرام نفسها(15).وكان حسب المصريين هذه الصيغ البسيطة، فقد كان في مقدور شاعرهم أن يعبر بها عن كل لون من ألوان الحب العذري الذي يظن نيتشه أنه من اختراع شعراء الفروسية الغزلين في أوربا في العصور الوسطى. وتدل بردية هرسى على أن المرأة كانت تستطيع أن تعبر عن هذه العواطف كما يعبر عنها الرجال:
أنا أختك الأولى،
وأنت لي كالروضة
التي زرعت فيها الأزهار
والأعشاب العطرة جميعاً.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 321
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
وأجرَيتُ فيها غديراً
لكي تضع فيه يدك
إذا ما هبت ريح الشمال باردة.
وهي المكان الجميل الذي نتنزه فيه
حين تكون يدي في يدك.
يفكر عقلانا ويبتهج قلبانا
لأننا نسير معاً؛
إن سماع صوتك ليسكرني،
وحياتي كلها في سماعك،
وإن رؤيتك
لأحب إليّ من الطعام والشراب.
وإذا نظرنا إلى هذه القطع الباقية في مجموعها اعترتنا الدهشة من تباين موضوعاتها. فهي تشمل رسائل رسمية، ووثائق قانونية، وقصص تاريخية، وطلاسم سحرية، وترنيمات مجهدة، وكتباً دينية مليئة بعبارات التقى والورع، وأغاني الحب والحرب، وأقاصيد غرامية صغيرة، ونصائح تحض على حسن الخلق، ومقالات فلسفية. وجملة القول أن فيها مثلا من كل شيء عدى الملاحم والتمثيليات، وحتى هذه يستطيع الإنسان أن يقول مع بعض التجاوز أن فيها أمثلة منها. وأن قصة النصر الذي أحرزه رمسيس الثاني بجرأته المدهشة والتي نقشت شعرا على حجارة أبواب الأقصر العظيمة لهي ملحمة على الأقل في طولها وفيما تبعثه في نفس قارئها من ملل. ويتباهى رمسيس الرابع في نقش آخر بأنه في إحدى الألعاب قد حمى أوزير من ست وأعاد الحياة إلى أوزير(156). وليس لدينا من المعلومات ما نستطيع به أن نبسط القول في معنى هذه الإشارة.
وكتابة التاريخ في مصر قديمة قدم التاريخ نفسه، بل إن ملوك عصر ما قبل
صفحة رقم : 322
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
الأسر كانوا يحتفظون بسجلات تاريخية تفاخرا وإعجابا بأنفسهم(157). وكان المؤرخون الرسميون يصحبون الملوك في حملاتهم، ولكنهم لا يبصرون هزائمهم، بل يسجلون، أو يخترعون من عندهم، تفاصيل نصرهم، لأن كتابة التاريخ كانت قد أضحت حتى في ذلك العصر البعيد فنا للزينة والتجمل. وأخذ العلماء المصريون من عام 2500 ق.م يكتبون قوائم بأسماء ملوكهم، ويؤرخون السنين بحكمهم، ويذكرون الحوادث الهامة في كل حكم وفي كل عام. فلما تولى تحتمس الثالث الملك كانت هذه الوثائق قد أصبحت تواريخ بحق، تفيض بالعواطف الوطنية(158). وكان فلاسفة الدولة الوسطى يرون أن الإنسان والتاريخ نفسه قد تقادم بهما العهد وأضنتهما الشيخوخة وأخذوا يندبون ما انقضى من شباب جسمهم الفتي. وشكا عالم في عهد سنوسريت الثاني أي حوالي 2150 ق.م من أن كل ما يمكن أن يقال قد قيل من عهد بعيد، ومن أن الأدب لم يبق له ما يقوله إلا التكرار. وقال في أسى وحسرة : "ألا ليتني أجد ألفاظاً لم يعرفها الناس، وعبارات وأقوالاً بلغة جديدة لم ينقض عهدها، وليس فيما تلوكه الألسن أقوال لم تصبح تافهة مملة، ولم يقلها آباؤنا من قبل"(159).
ولقد أخفى تقادم العهد ما في الأدب المصري من تباين كما يخفى ما بين أفراد الشعوب غير المألوفة للإنسان من فروق بيد أن الآداب المصرية في خلال تطورها الطويل قد مرت بحركات ونزعات لا تقل في تباينها عن الحركات والنزعات التي اضطرب بها تاريخ الآداب الأوربية. وتغيرت لغة الكلام في مصر تغيراً تدريجياً على مر الزمان، كما تغيرت لغة الكلام في أوربا من بعد، حتى أصبحت هذه اللغة في آخر الأمر كأنها لغة أخرى غير التي دونت بها كتب الدولة القديمة. وظل المؤلفون وقتا ما يكتبون باللغة الأولى، وظل العلماء يدرسونها في المدارس والطلاب لا يجدون مندوحة عن دراسة "الآداب القديمة" مستعينين بكتب النحو والمعاجم وبالتراجم التي "بين السطور" في بعض الأحيان. فلما كان القرن الرابع عشر قبل الميلاد ثار
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
وأجرَيتُ فيها غديراً
لكي تضع فيه يدك
إذا ما هبت ريح الشمال باردة.
وهي المكان الجميل الذي نتنزه فيه
حين تكون يدي في يدك.
يفكر عقلانا ويبتهج قلبانا
لأننا نسير معاً؛
إن سماع صوتك ليسكرني،
وحياتي كلها في سماعك،
وإن رؤيتك
لأحب إليّ من الطعام والشراب.
وإذا نظرنا إلى هذه القطع الباقية في مجموعها اعترتنا الدهشة من تباين موضوعاتها. فهي تشمل رسائل رسمية، ووثائق قانونية، وقصص تاريخية، وطلاسم سحرية، وترنيمات مجهدة، وكتباً دينية مليئة بعبارات التقى والورع، وأغاني الحب والحرب، وأقاصيد غرامية صغيرة، ونصائح تحض على حسن الخلق، ومقالات فلسفية. وجملة القول أن فيها مثلا من كل شيء عدى الملاحم والتمثيليات، وحتى هذه يستطيع الإنسان أن يقول مع بعض التجاوز أن فيها أمثلة منها. وأن قصة النصر الذي أحرزه رمسيس الثاني بجرأته المدهشة والتي نقشت شعرا على حجارة أبواب الأقصر العظيمة لهي ملحمة على الأقل في طولها وفيما تبعثه في نفس قارئها من ملل. ويتباهى رمسيس الرابع في نقش آخر بأنه في إحدى الألعاب قد حمى أوزير من ست وأعاد الحياة إلى أوزير(156). وليس لدينا من المعلومات ما نستطيع به أن نبسط القول في معنى هذه الإشارة.
وكتابة التاريخ في مصر قديمة قدم التاريخ نفسه، بل إن ملوك عصر ما قبل
صفحة رقم : 322
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
الأسر كانوا يحتفظون بسجلات تاريخية تفاخرا وإعجابا بأنفسهم(157). وكان المؤرخون الرسميون يصحبون الملوك في حملاتهم، ولكنهم لا يبصرون هزائمهم، بل يسجلون، أو يخترعون من عندهم، تفاصيل نصرهم، لأن كتابة التاريخ كانت قد أضحت حتى في ذلك العصر البعيد فنا للزينة والتجمل. وأخذ العلماء المصريون من عام 2500 ق.م يكتبون قوائم بأسماء ملوكهم، ويؤرخون السنين بحكمهم، ويذكرون الحوادث الهامة في كل حكم وفي كل عام. فلما تولى تحتمس الثالث الملك كانت هذه الوثائق قد أصبحت تواريخ بحق، تفيض بالعواطف الوطنية(158). وكان فلاسفة الدولة الوسطى يرون أن الإنسان والتاريخ نفسه قد تقادم بهما العهد وأضنتهما الشيخوخة وأخذوا يندبون ما انقضى من شباب جسمهم الفتي. وشكا عالم في عهد سنوسريت الثاني أي حوالي 2150 ق.م من أن كل ما يمكن أن يقال قد قيل من عهد بعيد، ومن أن الأدب لم يبق له ما يقوله إلا التكرار. وقال في أسى وحسرة : "ألا ليتني أجد ألفاظاً لم يعرفها الناس، وعبارات وأقوالاً بلغة جديدة لم ينقض عهدها، وليس فيما تلوكه الألسن أقوال لم تصبح تافهة مملة، ولم يقلها آباؤنا من قبل"(159).
ولقد أخفى تقادم العهد ما في الأدب المصري من تباين كما يخفى ما بين أفراد الشعوب غير المألوفة للإنسان من فروق بيد أن الآداب المصرية في خلال تطورها الطويل قد مرت بحركات ونزعات لا تقل في تباينها عن الحركات والنزعات التي اضطرب بها تاريخ الآداب الأوربية. وتغيرت لغة الكلام في مصر تغيراً تدريجياً على مر الزمان، كما تغيرت لغة الكلام في أوربا من بعد، حتى أصبحت هذه اللغة في آخر الأمر كأنها لغة أخرى غير التي دونت بها كتب الدولة القديمة. وظل المؤلفون وقتا ما يكتبون باللغة الأولى، وظل العلماء يدرسونها في المدارس والطلاب لا يجدون مندوحة عن دراسة "الآداب القديمة" مستعينين بكتب النحو والمعاجم وبالتراجم التي "بين السطور" في بعض الأحيان. فلما كان القرن الرابع عشر قبل الميلاد ثار
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 323
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
المؤلفون المصريون على هذا الخضوع المزري للتقاليد، وفعلوا مثل ما فعل دانتي وتشوسر من بعد، فأقدموا على الكتابة بلغة الشعب، ولقد كتبت ترنيمة إخناتون للشمس، وهي الترنيمة الذائعة الصيت، باللغة الدارجة.
وكان الأدب الجديد أدبا واقعيا، فتيا، مبهجا. وكان يسر منشئيه أن يسخروا من الأدب القديم ويصفوا الحياة الجديد. ثم فعل الزمن فعله بهذه اللغة الجديدة فأضحت هي أيضا لغة أدبية لها أصولها وقواعدها رقيقة دقيقة، جامدة مقيدة في ألفاظها وتعبيراتها بما جرى عليه العرف. واختلفت مرة أخرى لغة الكتابة عن لغة الكلام وانتشر التحذلق، حتى كانت المدارس المصرية في عصر ملوك ساو تقضي نصف وقتها في دراسة "الآداب القديمة" آداب عهد إخناتون وترجمتها(160). وحدث مثل هذا التطور في اللغات القومية في عهد اليونان والرومان والعرب، ولا يزال يجري في مجراه في هذه الأيام؛ ذلك أن كل شيء يسير ولا يبقى جامدا لا يتغير إلا العلماء.
صفحة رقم : 324
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
8- العلوم
منشأ العلوم المصرية - الرياضيات - علم الفلك والتقويم -
التشريح ووظائف الأعضاء - الطب والجراحة والقوانين الصحية
كان معظم علماء مصر من الكهنة، ذلك لأنهم بعيدون عن صخب الحياة وضجيجها، يتمتعون بما في الهياكل من راحة وطمأنينة؛ فكانوا هم الذين وضعوا أسس العلوم المصرية رغم ما كان في عقائدهم من خرافات. وهم يقولون في أساطيرهم أن العلوم قد اخترعها من 000ر18 سنة قبل الميلاد تحوت إله الحكمة المصري في خلال حكمه على ظهر الأرض البالغ ثلاثة آلاف من الأعوام، وإن أقدم الكتب في كل علم من العلوم كانت من بين العشرين ألف مجلد التي وضعها هذا الإله
صفحة رقم : 325
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
العالم%=@وهذا ما يؤكده لنا يمبليكس (حوالي 300 ب.م) أما منيثون المؤرخ المصري الذي عاش حوالي 300 ق.م فيرى أن هذا التقدير لا ينصف الإله؛ ويقدر عدد ما وضع تحوت من الكتب بستة وثلاثين ألف كتاب. وكان اليونان يعظمون تحوت ويسمونه هرمس ترسمحستس- هرممن (عطارد) المثلث العظمة.@ . وليس لدينا من العلم ما نستطيع به أن نفصل القول في نظرية نشأة العلوم في مصر.
وحسبنا أن نقول أنا نجد العلوم الرياضية متقدمة أعظم تقدم منذ بداية تاريخ مصر المدون؛ وشاهد ذلك أن تصميم الأهرام وتشييدها يتطلبان الدقة في القياس لا يستطاع الوصول إليها بغير معرفة واسعة بالعلوم الرياضية. ولقد أدى اعتماد الحياة في مصر على ارتفاع النيل وانخفاضه إلى العناية بتسجيل هذا الارتفاع والانخفاض وإلى حسابهما حسابا دقيقا. وكان المساحون والكتبة لا ينقطعون من قياس الأراضي التي محا الفيضان معالم حدودها؛ وما من شك في أن هذا القياس كان منشأ فن الهندسة، وشاهد ذلك أن اسمها الأجنبي geometry مشتق من كلمتين معناهما قياس الأرض(163). والأقدمون كلهم تقريبا مجمعون على أن هذا العلم من وضع المصريين(164) وإن كان يوسفوس يظن أن إبراهيم قد جاء بالحساب من كلديا (أي من أرض الجزيرة) إلى مصر(165)، وليس من المستحيل أن يكون الحساب وغيره من العلوم والفنون قد جاءت إلى مصر من "أور الكلدان" أو من غيرها من مراكز آسية الغربية.
وكانت الأرقام سمجة متعبة- فقد كان رقم 1 يمثل له بشرطة. ورقم 2 بشرطتين، و 3 بثلاث شرط... و 9 بتسع شرط، وتمثل العشرة بعلامة خاصة والعشرون باثنتين من هذه العلامات والثلاثون بثلاث منها... والتسعون بتسع والمائة بعلامة أخرى جديدة والمائتان بعلامتين والثلاثمائة بثلاث علامات... والتسعمائة بتسع والألف بعلامة جديدة. أما المليون فكانت تمثله صورة رجل يضرب كفا بكف فوق رأسه كأنه يعبر عن دهشته من وجود مثل هذا العدد
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> الآداب
المؤلفون المصريون على هذا الخضوع المزري للتقاليد، وفعلوا مثل ما فعل دانتي وتشوسر من بعد، فأقدموا على الكتابة بلغة الشعب، ولقد كتبت ترنيمة إخناتون للشمس، وهي الترنيمة الذائعة الصيت، باللغة الدارجة.
وكان الأدب الجديد أدبا واقعيا، فتيا، مبهجا. وكان يسر منشئيه أن يسخروا من الأدب القديم ويصفوا الحياة الجديد. ثم فعل الزمن فعله بهذه اللغة الجديدة فأضحت هي أيضا لغة أدبية لها أصولها وقواعدها رقيقة دقيقة، جامدة مقيدة في ألفاظها وتعبيراتها بما جرى عليه العرف. واختلفت مرة أخرى لغة الكتابة عن لغة الكلام وانتشر التحذلق، حتى كانت المدارس المصرية في عصر ملوك ساو تقضي نصف وقتها في دراسة "الآداب القديمة" آداب عهد إخناتون وترجمتها(160). وحدث مثل هذا التطور في اللغات القومية في عهد اليونان والرومان والعرب، ولا يزال يجري في مجراه في هذه الأيام؛ ذلك أن كل شيء يسير ولا يبقى جامدا لا يتغير إلا العلماء.
صفحة رقم : 324
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
8- العلوم
منشأ العلوم المصرية - الرياضيات - علم الفلك والتقويم -
التشريح ووظائف الأعضاء - الطب والجراحة والقوانين الصحية
كان معظم علماء مصر من الكهنة، ذلك لأنهم بعيدون عن صخب الحياة وضجيجها، يتمتعون بما في الهياكل من راحة وطمأنينة؛ فكانوا هم الذين وضعوا أسس العلوم المصرية رغم ما كان في عقائدهم من خرافات. وهم يقولون في أساطيرهم أن العلوم قد اخترعها من 000ر18 سنة قبل الميلاد تحوت إله الحكمة المصري في خلال حكمه على ظهر الأرض البالغ ثلاثة آلاف من الأعوام، وإن أقدم الكتب في كل علم من العلوم كانت من بين العشرين ألف مجلد التي وضعها هذا الإله
صفحة رقم : 325
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
العالم%=@وهذا ما يؤكده لنا يمبليكس (حوالي 300 ب.م) أما منيثون المؤرخ المصري الذي عاش حوالي 300 ق.م فيرى أن هذا التقدير لا ينصف الإله؛ ويقدر عدد ما وضع تحوت من الكتب بستة وثلاثين ألف كتاب. وكان اليونان يعظمون تحوت ويسمونه هرمس ترسمحستس- هرممن (عطارد) المثلث العظمة.@ . وليس لدينا من العلم ما نستطيع به أن نفصل القول في نظرية نشأة العلوم في مصر.
وحسبنا أن نقول أنا نجد العلوم الرياضية متقدمة أعظم تقدم منذ بداية تاريخ مصر المدون؛ وشاهد ذلك أن تصميم الأهرام وتشييدها يتطلبان الدقة في القياس لا يستطاع الوصول إليها بغير معرفة واسعة بالعلوم الرياضية. ولقد أدى اعتماد الحياة في مصر على ارتفاع النيل وانخفاضه إلى العناية بتسجيل هذا الارتفاع والانخفاض وإلى حسابهما حسابا دقيقا. وكان المساحون والكتبة لا ينقطعون من قياس الأراضي التي محا الفيضان معالم حدودها؛ وما من شك في أن هذا القياس كان منشأ فن الهندسة، وشاهد ذلك أن اسمها الأجنبي geometry مشتق من كلمتين معناهما قياس الأرض(163). والأقدمون كلهم تقريبا مجمعون على أن هذا العلم من وضع المصريين(164) وإن كان يوسفوس يظن أن إبراهيم قد جاء بالحساب من كلديا (أي من أرض الجزيرة) إلى مصر(165)، وليس من المستحيل أن يكون الحساب وغيره من العلوم والفنون قد جاءت إلى مصر من "أور الكلدان" أو من غيرها من مراكز آسية الغربية.
وكانت الأرقام سمجة متعبة- فقد كان رقم 1 يمثل له بشرطة. ورقم 2 بشرطتين، و 3 بثلاث شرط... و 9 بتسع شرط، وتمثل العشرة بعلامة خاصة والعشرون باثنتين من هذه العلامات والثلاثون بثلاث منها... والتسعون بتسع والمائة بعلامة أخرى جديدة والمائتان بعلامتين والثلاثمائة بثلاث علامات... والتسعمائة بتسع والألف بعلامة جديدة. أما المليون فكانت تمثله صورة رجل يضرب كفا بكف فوق رأسه كأنه يعبر عن دهشته من وجود مثل هذا العدد
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 326
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
الكبير(166)، وكاد المصريون أن يصلوا إلى الطريقة العشرية في الأعداد؛ وإن لم يعرفوا الصفر ولم يصلوا قط إلى فكرة التعبير عن جميع الأعداد بعشرة أرقام، بل كانوا يعبرون عن رقم 999 مثلاً بسبع وعشرين علامة(167). وكانوا يعرفون الكسور الاعتيادية، ولكن بسط هذه الكسور كان رقم 1 على الدوام؛ فكانوا إذا أرادوا كتابة 3slash4 كتبوها 1slash2 + 1slash4 . وجداول الضرب والقسمة قديمة قدم الأهرام، وأقدم رسالة في الرياضة عرفت في التاريخ هي بردية أحمس التي يرجع تاريخها إلى ما بين عام ألفين وألف وسبعمائة قبل الميلاد؛ ولكن هذه البردية نفسها تشير إلى كتابات رياضية أقدم منها بخمسمائة عام. وهي تحسب سعة مخزن للغلال أو مساحة حقل وتضرب لهذا الحساب أمثلة ثم تنتقل من هذا إلى معادلات جبرية من الدرجة الأولى(168). ولم تقتصر الهندسة المصرية على قياس مساحات المربعات والدوائر والمكعبات، بل كانت تقيس أيضا أحجام الاسطوانات والكرات؛ وقد وصلت إلى تقدير النسبة التقريبية بـ 3.16(169) . وما أعظم فخرنا إذا استطعنا في أربعة آلاف عام أن نتقدم في حساب هذه النسبة التقريبية من 3.16 إلى 3.1416 .
ولسنا نعرف شيئاً عما وصل إليه المصريون في علمي الطبيعة والكيمياء، ولا نكاد نعرف شيئاً عما وصلوا إليه في علم الفلك. ويلوح أن راصدي النجوم في الهياكل كانوا يظنون الأرض صندوقاً مستطيلاً تقوم في أركانه الجبال لتمسك السماء(170). ولم يشيروا بشيء إلى الخسوف والكسوف، وكانوا في هذا العلم بوجه عام أقل رقياً من معاصريهم في أرض النهرين، ولكنهم مع هذا كانوا يعرفون منه ما يكفي للتنبؤ باليوم الذي يرتفع فيه النيل، وأن يتجهوا بهياكلهم نحو الشرق في النقطة التي تشرق منها الشمس في صباح يوم الانقلاب الصيفي(171). ولربما كانوا
صفحة رقم : 327
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
يعرفون أكثر مما عنوا بإذاعته بين شعب كانت خدماته عظيمة القيمة لحكامه. وكان الكهنة يرون أن دراساتهم الفلكية من العلوم السرية الخفية التي لا يحبون أن يكشفوا أسرارها للسوقة من الناس(172). وظلوا قروناً طويلة متتالية يتتبعون مواقع الكواكب وحركاتها حتى شملت سجلاتهم في هذه الناحية آلاف السنين. وكانوا يميزون الكواكب السيّارة من النجوم الثوابت، وذكروا في فهارسهم نجوماً من القدر الخامس (وهي لا تكاد ترى بالعين العادية) وسجلوا ما ظنوه أثر نجوم السماء في مصائر البشر. ومن هذه الملاحظات أنشأوا التقويم الذي أصبح فيما بعد من أعظم ما أورثه المصريون بني الإنسان.
وبدأوا تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول في كل واحد منها أربعة شهور، أولها فصل ارتفاع النيل وفيضه وانحساره، وثانيها فصل الزرع، وثالثها فصل الحصاد. وكانت عدة كل شهر من شهورهم ثلاثين يوما لأن هذا العدد هو أقرب الأعداد السهلة إلى طول الشهر القمري الذي يبلغ تسعاً وعشرين يوماً ونصف يوم. وكان لفظ الشهر في لغتهم كما هو في اللغة الإنجليزية مشتقاً من رمزهم للقمر .
وكانوا يضيفون بعد آخر الشهر الثاني عشر خمسة أيام حتى تتفق السنة في الحساب مع فيضان النهر ومع مواقع الشمس(174). واختاروا لبدء السنة اليوم الذي يصل فيه النيل عادة إلى أقصى ارتفاعه والذي كانت فيه الشعرى العظيمة (وكانوا يسمونها سوثيس) تشرق مع الشمس في وقت واحد. ولما كان التقويم المصري يجعل السنة 365 يوما بدل 365 وربع، فإن الفرق بين شروق الشعرى وشروق الشمس وهو الذي كان في أول الأمر صغيراً لا يكاد يدرك قد ازداد حتى
صفحة رقم : 328
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
بلغ يوما كاملا في كل أربع سنين. وبذلك كان التقويم المصري يختلف عن التقويم السماوي الحقيقي بست ساعات في كل عام. ولم يصحح المصريون قط هذا الخطأ، حتى جاء فلكيو الإسكندرية اليونان فأصلحوه بأمر يوليوس قيصر (في عام 46 ق. م) وذلك بإضافة يوم بعد كل أربع سنين. وهذا هو ما يسمونه التقويم اليوليوسي. ثم صحح التقويم تصحيحاً أدق في عصر البابا جريجوري الثالث عشر (1582) وذلك بحذف هذا اليوم الزائد (وهو اليوم التاسع والعشرين من فبراير) من السنين المتممة للمئات التي لا تقبل القسمة على 400؛ وهذا هو "التقويم الجريجوري" الذي نستخدمه اليوم. وجملة القول أن تقويمنا في جوهره من وضع الشرق الأدنى القديم .
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
الكبير(166)، وكاد المصريون أن يصلوا إلى الطريقة العشرية في الأعداد؛ وإن لم يعرفوا الصفر ولم يصلوا قط إلى فكرة التعبير عن جميع الأعداد بعشرة أرقام، بل كانوا يعبرون عن رقم 999 مثلاً بسبع وعشرين علامة(167). وكانوا يعرفون الكسور الاعتيادية، ولكن بسط هذه الكسور كان رقم 1 على الدوام؛ فكانوا إذا أرادوا كتابة 3slash4 كتبوها 1slash2 + 1slash4 . وجداول الضرب والقسمة قديمة قدم الأهرام، وأقدم رسالة في الرياضة عرفت في التاريخ هي بردية أحمس التي يرجع تاريخها إلى ما بين عام ألفين وألف وسبعمائة قبل الميلاد؛ ولكن هذه البردية نفسها تشير إلى كتابات رياضية أقدم منها بخمسمائة عام. وهي تحسب سعة مخزن للغلال أو مساحة حقل وتضرب لهذا الحساب أمثلة ثم تنتقل من هذا إلى معادلات جبرية من الدرجة الأولى(168). ولم تقتصر الهندسة المصرية على قياس مساحات المربعات والدوائر والمكعبات، بل كانت تقيس أيضا أحجام الاسطوانات والكرات؛ وقد وصلت إلى تقدير النسبة التقريبية بـ 3.16(169) . وما أعظم فخرنا إذا استطعنا في أربعة آلاف عام أن نتقدم في حساب هذه النسبة التقريبية من 3.16 إلى 3.1416 .
ولسنا نعرف شيئاً عما وصل إليه المصريون في علمي الطبيعة والكيمياء، ولا نكاد نعرف شيئاً عما وصلوا إليه في علم الفلك. ويلوح أن راصدي النجوم في الهياكل كانوا يظنون الأرض صندوقاً مستطيلاً تقوم في أركانه الجبال لتمسك السماء(170). ولم يشيروا بشيء إلى الخسوف والكسوف، وكانوا في هذا العلم بوجه عام أقل رقياً من معاصريهم في أرض النهرين، ولكنهم مع هذا كانوا يعرفون منه ما يكفي للتنبؤ باليوم الذي يرتفع فيه النيل، وأن يتجهوا بهياكلهم نحو الشرق في النقطة التي تشرق منها الشمس في صباح يوم الانقلاب الصيفي(171). ولربما كانوا
صفحة رقم : 327
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
يعرفون أكثر مما عنوا بإذاعته بين شعب كانت خدماته عظيمة القيمة لحكامه. وكان الكهنة يرون أن دراساتهم الفلكية من العلوم السرية الخفية التي لا يحبون أن يكشفوا أسرارها للسوقة من الناس(172). وظلوا قروناً طويلة متتالية يتتبعون مواقع الكواكب وحركاتها حتى شملت سجلاتهم في هذه الناحية آلاف السنين. وكانوا يميزون الكواكب السيّارة من النجوم الثوابت، وذكروا في فهارسهم نجوماً من القدر الخامس (وهي لا تكاد ترى بالعين العادية) وسجلوا ما ظنوه أثر نجوم السماء في مصائر البشر. ومن هذه الملاحظات أنشأوا التقويم الذي أصبح فيما بعد من أعظم ما أورثه المصريون بني الإنسان.
وبدأوا تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول في كل واحد منها أربعة شهور، أولها فصل ارتفاع النيل وفيضه وانحساره، وثانيها فصل الزرع، وثالثها فصل الحصاد. وكانت عدة كل شهر من شهورهم ثلاثين يوما لأن هذا العدد هو أقرب الأعداد السهلة إلى طول الشهر القمري الذي يبلغ تسعاً وعشرين يوماً ونصف يوم. وكان لفظ الشهر في لغتهم كما هو في اللغة الإنجليزية مشتقاً من رمزهم للقمر .
وكانوا يضيفون بعد آخر الشهر الثاني عشر خمسة أيام حتى تتفق السنة في الحساب مع فيضان النهر ومع مواقع الشمس(174). واختاروا لبدء السنة اليوم الذي يصل فيه النيل عادة إلى أقصى ارتفاعه والذي كانت فيه الشعرى العظيمة (وكانوا يسمونها سوثيس) تشرق مع الشمس في وقت واحد. ولما كان التقويم المصري يجعل السنة 365 يوما بدل 365 وربع، فإن الفرق بين شروق الشعرى وشروق الشمس وهو الذي كان في أول الأمر صغيراً لا يكاد يدرك قد ازداد حتى
صفحة رقم : 328
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> مصر -> حضارة مصر -> العلوم
بلغ يوما كاملا في كل أربع سنين. وبذلك كان التقويم المصري يختلف عن التقويم السماوي الحقيقي بست ساعات في كل عام. ولم يصحح المصريون قط هذا الخطأ، حتى جاء فلكيو الإسكندرية اليونان فأصلحوه بأمر يوليوس قيصر (في عام 46 ق. م) وذلك بإضافة يوم بعد كل أربع سنين. وهذا هو ما يسمونه التقويم اليوليوسي. ثم صحح التقويم تصحيحاً أدق في عصر البابا جريجوري الثالث عشر (1582) وذلك بحذف هذا اليوم الزائد (وهو اليوم التاسع والعشرين من فبراير) من السنين المتممة للمئات التي لا تقبل القسمة على 400؛ وهذا هو "التقويم الجريجوري" الذي نستخدمه اليوم. وجملة القول أن تقويمنا في جوهره من وضع الشرق الأدنى القديم .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
صفحة 5 من اصل 6 • 1, 2, 3, 4, 5, 6
مواضيع مماثلة
» قصة الحضارة - ول ديورانت
» الجزء الثانى من - قصة الحضارة ول ديورانت
» حركة الترجمة و دورها في إثراء الحياة العلمية في الحضارة الإسلامية
» الجزء الثانى من - قصة الحضارة ول ديورانت
» حركة الترجمة و دورها في إثراء الحياة العلمية في الحضارة الإسلامية
صفحة 5 من اصل 6
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى