قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة 4 من اصل 6
صفحة 4 من اصل 6 • 1, 2, 3, 4, 5, 6
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 143
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الآداب
وكانت الكتابة في بدايتها - كما لا تزال عند أهل الصين واليابان - ضرباً من الرَّسم أي كانت ضرباً من الفن؛ فكما أن الإنسان كان يستخدم الإشارات حين كانت تتعذر عليه الكلمات، فكذلك استخدم الصور لينقل أفكاره عَبر المكان وخلال الزمان؛ فكل كلمة وكل حرف مما نستعمله اليوم كان فيما سبق صورة، كما هي الحال الآن في العلامات التجارية وفي التعبير عن أبراج السماء؛ والصور الصينية البدائية التي سبقت
الكتابة كانت تسمى "كوروان" ومعناه الحرفيّ "صور للإشارات"؛ وكانت القوائم الطوطمية كتابة تصويرية، أو كانت - كما يقترح "ماسون" Mason رسماً تدونه القبائل لتعبر به عن نفسها؛ فبعض القبائل كان يستعمل عصيًّا محزوزة لتذكّرهم بشيء أو ليبعثوا بها رسالة؛ وبعضها الآخر - مثل "هنود الجُنكِوِن" Algonquin لم يكتف بحزّ العصيّ، بل رسم عليها أشكالاً تجعلها صوراً مصغرة للقوائم الطوطمية؛ أو ربما العكس هو الصحيح، أي أن هذه القوائم الطبيعية كانت صورة مكبرة للعصيّ المحزوزة، وكان هنود بيرو يحتفظون بمدوّنات طويلة من الأعداد ومن الأفكار، بأن يعقدوا حبالاً مختلفة الألوان بالعُقَد والعُرَى؛ وربما ألقى شيء من الضوء على أصل هنود أمريكا الجنوبية إذا عرفنا أن هذه العادة نفسها سادت بين سكان الأرخبيل الشرقي وأهل بولينزيا.
ولما أهاب "لاَوتسي" Lao-Tse بقومه الصينيين أن يعودوا إلى الحياة الساذجة، اقترحَ عليهم أن يرتدُّوا إلى ما كانوا يصنعونه من حِبال معقودة(18) وتظهر صور من الكتابة أرقى مما ذكرنا بين الشعوب الفطرية آنا بعد آن، فلقد وجدنا رموزاً هيروغليفية في جزيرة "إيستر" في البحار الجنوبية؛ وكشفنا الغطاء في إحدى جزر "كارولينا" عن مخطوط يتكون من واحد وخمسين رمزاً مقطعياً تصور أعداداً وأفكاراً(19)، وأن الرواية لتروي كيف حاول رؤساء جزيرة إيستر وكهنتها أن يحتفظوا لأنفسهم بكل معرفة تتصل
صفحة رقم : 144
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الآداب
بالكتابة، : وكيف كان الناس يحتشدون مرة في كل عام ليسمعوا المدوّنات وهي تُقرأ عليهم؛ فبديهي أن الكتابة كانت في مراحلها الأولى شيئاً غامضاً مقدساً، ولفظة "هيروغليف" معناها نقش مقدس، ولسنا على يقين من أن هذه المخطوطات البولينيزية لم يكن مصدرها إحدى المدنيَّات التاريخية؛ لأن الكتابة - على وجه العموم - علامة تدل على الحضارة، وهي من أوثق المميزات التي تفرق بين أهل المدنيَّة وأبناء العصور البدائية.
الأدب في أول مراحله كلمات تقال أكثر منه حروفاً تكتب "على الرغم من أن الكلمة في الإنجليزية تنتمي في أصلها اللغوي إلى ما يدل على الكتابة"؛ وهو ينشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية، يتغنى بها الكهنة عادةً، وتنتقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة؛ والكلمة التي معناها الشعر عند الرومان، وهي "Carmina" تدل على الشعر وعلى السحر في آن واحد؛ والكلمة التي معناها نشيد عند اليونان، وهي "Ode" معناها في الأصل طلسم سحريّ، وكذلك قل في الكلمتين الإنجليزيتين "Tune" و "Lay" والكلمة الألمانية "Lied" وأنغام الشعر وأوزانه، التي ربما أَوحَى بها ما في الطبيعة وحياة الجسد من اتساق، قد تطورت تطوراً ظاهراً على أيدي السحرة الذين أرادوا أن يحتفظوا وينقلوا ثم يزيدوا من "التأثير السحريّ لأشعارهم" (20) ويعزو اليونان أول ما قيل من شعر في البحر العُشاري إلى كهنة دلفي، الذين ابتكروا هذا البحر ليستخدموه في نظم نبوءاتهم(21)، وبعدئذ أخذ الشاعر والخطيب والمؤرخ يتميز بعضهم من بعض شيئاً فشيئاً، ويتجهون اتجاهاً دنيوياً في فنونهم، بعد أن اتحدوا جميعاً في هذا الأصل الكهنوتي، فأصبح الخطيب مُشيدا رسمياً بأعمال الملك أو مدافعاً عن الآلهة، وبات المؤرخ مسجلاً لأعمال الملك، والشاعر مغنياً لأناشيد كانت في الأصل مقدسة، ومعبراً و حافظاً لأساطير البطولة، وموسيقيَّا صاغ أقاصيصه صياغة الألحان ليعلّم بها الشعب وملوكه جميعاً؛ وهكذا كان لأهل فيجي وتاهيتي وكالدونيا
صفحة رقم : 145
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الآداب
الجديدة خطباء ومؤرخون رسميون، عليهم أن يخطبوا الناس في المحافل العامة، وأن يثيروا حماسة المقاتلين في القبيلة بذكر أعمال أجدادهم والإشادة بمجد أمتهم التليد الذي لا تضارعها فيه أمة أخرى؛ وكان للصومال شعراء محترفون يطوفون من قرية إلى قرية ينشدون الأناشيد مثل الشعراء المنشدين والشعراء الطوافين الذين عرفتهم العصور الوسطى، ولم تكن أشعارهم التي يتغنون بها عن الحب إلا في حالات نادرة، وأما في أكثر الحالات فقد كانت تقال عن البطولة البدنية أو حومة القتال أو علاقة الآباء بأبنائهم، وهاك مثلاً من الشعر مأخوذاً عن أحد الآثار القديمة في جزيرة إيستَر، وهو رثاء والد لابنته أبعدتها تصاريف الحروب عنه:
إن ركوب ابنتي لمتون البحار
لم تُفسده عليها قط قبائل الأعداء
إن ركوب ابنتي لمتون البحار
لم يفسده عليها التآمر من أهل هونيتي
فما فتئت ظافرة في كل حروبها
هل أغرَوها بشرب الماء المسموم
من الزجاجة الحجرية السوداء؟ هذا مستحيل
هل يمكن لأحزاني أن يقلّ سعيرها
بينما يفصلني عن ابنتي خضمُّ البحار؟
أواه يا ابنتي، أواه يا ابنتي!
إنه لطريق مائي فسيح
ذلك الذي أمدّ بصري خلاله تجاه الأفق
يا ابنتي، أواه يا ابنتي!
صفحة رقم : 146
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
الفصل الثاني
العلم
البدايات - الرياضة - الفلك - الطب - الجراحة
يرى هربرت سبنسر ذلك الأخصائي العظيم في جمع الشواهد للوصول إلى النتائج، أن العلم- كالأدب- بدأ بالكهنة، واستمد أصوله من المشاهدات الفلكية التي كانت تحدد مواقيت المحافل الدينية، ثم صِينَ في كنف المعابد ونُقِلَ عَبر الأجيال باعتباره جزءاً من التراث الديني(23)؛ ولسنا نستطيع الجزم برأي في هذا، لأن البدايات لا تمكننا من معرفتها، سواء في العلم أو في غيره؛ وكل ما نستطيعه هو التخمين والظن؛ فيجوز أن يكون العلم- شأنه في ذلك شأن المدنيَّة بصفة عامة- قد بدأ مع الزراعة؛ فالهندسة في أولها كانت عبارة عن قياس الأرض المزروعة؛ وربما أنشأ علمَ الفلك حسابُ المحصول والفصول الذي يستدعي مشاهدة النجوم وإنشاء التقويم؛ ثم تقدم الفلك بالملاحة، وطَورَت التجارة علم الرياضة، كما وضعت فنونُ الصناعة أسس الطبيعة والكيمياء.
وربما كان العدُّ من أول ما شهد الإنسان من صور الكلام، ولا يزال العدُّ في كثير من القبائل يتم على صورة تبعث على الابتسام ببساطتها؛ فقد عَدَّ "التسمانيون" إلى العدد اثنين لم يجاوزوه: "بارمَرِى، كالاباوا، كاردِيا"- يعني: "واحد، اثنين، كثير" والهولنديون الجدد ليس لديهم كلمات للفظتي ثلاثة أو أربعة، بل هم يطلقون على ثلاثة كلمة "اثنين- واحد" وعلى أربعة كلمة "اثنين- اثنين"؛ وأهل
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الآداب
وكانت الكتابة في بدايتها - كما لا تزال عند أهل الصين واليابان - ضرباً من الرَّسم أي كانت ضرباً من الفن؛ فكما أن الإنسان كان يستخدم الإشارات حين كانت تتعذر عليه الكلمات، فكذلك استخدم الصور لينقل أفكاره عَبر المكان وخلال الزمان؛ فكل كلمة وكل حرف مما نستعمله اليوم كان فيما سبق صورة، كما هي الحال الآن في العلامات التجارية وفي التعبير عن أبراج السماء؛ والصور الصينية البدائية التي سبقت
الكتابة كانت تسمى "كوروان" ومعناه الحرفيّ "صور للإشارات"؛ وكانت القوائم الطوطمية كتابة تصويرية، أو كانت - كما يقترح "ماسون" Mason رسماً تدونه القبائل لتعبر به عن نفسها؛ فبعض القبائل كان يستعمل عصيًّا محزوزة لتذكّرهم بشيء أو ليبعثوا بها رسالة؛ وبعضها الآخر - مثل "هنود الجُنكِوِن" Algonquin لم يكتف بحزّ العصيّ، بل رسم عليها أشكالاً تجعلها صوراً مصغرة للقوائم الطوطمية؛ أو ربما العكس هو الصحيح، أي أن هذه القوائم الطبيعية كانت صورة مكبرة للعصيّ المحزوزة، وكان هنود بيرو يحتفظون بمدوّنات طويلة من الأعداد ومن الأفكار، بأن يعقدوا حبالاً مختلفة الألوان بالعُقَد والعُرَى؛ وربما ألقى شيء من الضوء على أصل هنود أمريكا الجنوبية إذا عرفنا أن هذه العادة نفسها سادت بين سكان الأرخبيل الشرقي وأهل بولينزيا.
ولما أهاب "لاَوتسي" Lao-Tse بقومه الصينيين أن يعودوا إلى الحياة الساذجة، اقترحَ عليهم أن يرتدُّوا إلى ما كانوا يصنعونه من حِبال معقودة(18) وتظهر صور من الكتابة أرقى مما ذكرنا بين الشعوب الفطرية آنا بعد آن، فلقد وجدنا رموزاً هيروغليفية في جزيرة "إيستر" في البحار الجنوبية؛ وكشفنا الغطاء في إحدى جزر "كارولينا" عن مخطوط يتكون من واحد وخمسين رمزاً مقطعياً تصور أعداداً وأفكاراً(19)، وأن الرواية لتروي كيف حاول رؤساء جزيرة إيستر وكهنتها أن يحتفظوا لأنفسهم بكل معرفة تتصل
صفحة رقم : 144
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الآداب
بالكتابة، : وكيف كان الناس يحتشدون مرة في كل عام ليسمعوا المدوّنات وهي تُقرأ عليهم؛ فبديهي أن الكتابة كانت في مراحلها الأولى شيئاً غامضاً مقدساً، ولفظة "هيروغليف" معناها نقش مقدس، ولسنا على يقين من أن هذه المخطوطات البولينيزية لم يكن مصدرها إحدى المدنيَّات التاريخية؛ لأن الكتابة - على وجه العموم - علامة تدل على الحضارة، وهي من أوثق المميزات التي تفرق بين أهل المدنيَّة وأبناء العصور البدائية.
الأدب في أول مراحله كلمات تقال أكثر منه حروفاً تكتب "على الرغم من أن الكلمة في الإنجليزية تنتمي في أصلها اللغوي إلى ما يدل على الكتابة"؛ وهو ينشأ في ترانيم دينية وطلاسم سحرية، يتغنى بها الكهنة عادةً، وتنتقل بالرواية من ذاكرة إلى ذاكرة؛ والكلمة التي معناها الشعر عند الرومان، وهي "Carmina" تدل على الشعر وعلى السحر في آن واحد؛ والكلمة التي معناها نشيد عند اليونان، وهي "Ode" معناها في الأصل طلسم سحريّ، وكذلك قل في الكلمتين الإنجليزيتين "Tune" و "Lay" والكلمة الألمانية "Lied" وأنغام الشعر وأوزانه، التي ربما أَوحَى بها ما في الطبيعة وحياة الجسد من اتساق، قد تطورت تطوراً ظاهراً على أيدي السحرة الذين أرادوا أن يحتفظوا وينقلوا ثم يزيدوا من "التأثير السحريّ لأشعارهم" (20) ويعزو اليونان أول ما قيل من شعر في البحر العُشاري إلى كهنة دلفي، الذين ابتكروا هذا البحر ليستخدموه في نظم نبوءاتهم(21)، وبعدئذ أخذ الشاعر والخطيب والمؤرخ يتميز بعضهم من بعض شيئاً فشيئاً، ويتجهون اتجاهاً دنيوياً في فنونهم، بعد أن اتحدوا جميعاً في هذا الأصل الكهنوتي، فأصبح الخطيب مُشيدا رسمياً بأعمال الملك أو مدافعاً عن الآلهة، وبات المؤرخ مسجلاً لأعمال الملك، والشاعر مغنياً لأناشيد كانت في الأصل مقدسة، ومعبراً و حافظاً لأساطير البطولة، وموسيقيَّا صاغ أقاصيصه صياغة الألحان ليعلّم بها الشعب وملوكه جميعاً؛ وهكذا كان لأهل فيجي وتاهيتي وكالدونيا
صفحة رقم : 145
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الآداب
الجديدة خطباء ومؤرخون رسميون، عليهم أن يخطبوا الناس في المحافل العامة، وأن يثيروا حماسة المقاتلين في القبيلة بذكر أعمال أجدادهم والإشادة بمجد أمتهم التليد الذي لا تضارعها فيه أمة أخرى؛ وكان للصومال شعراء محترفون يطوفون من قرية إلى قرية ينشدون الأناشيد مثل الشعراء المنشدين والشعراء الطوافين الذين عرفتهم العصور الوسطى، ولم تكن أشعارهم التي يتغنون بها عن الحب إلا في حالات نادرة، وأما في أكثر الحالات فقد كانت تقال عن البطولة البدنية أو حومة القتال أو علاقة الآباء بأبنائهم، وهاك مثلاً من الشعر مأخوذاً عن أحد الآثار القديمة في جزيرة إيستَر، وهو رثاء والد لابنته أبعدتها تصاريف الحروب عنه:
إن ركوب ابنتي لمتون البحار
لم تُفسده عليها قط قبائل الأعداء
إن ركوب ابنتي لمتون البحار
لم يفسده عليها التآمر من أهل هونيتي
فما فتئت ظافرة في كل حروبها
هل أغرَوها بشرب الماء المسموم
من الزجاجة الحجرية السوداء؟ هذا مستحيل
هل يمكن لأحزاني أن يقلّ سعيرها
بينما يفصلني عن ابنتي خضمُّ البحار؟
أواه يا ابنتي، أواه يا ابنتي!
إنه لطريق مائي فسيح
ذلك الذي أمدّ بصري خلاله تجاه الأفق
يا ابنتي، أواه يا ابنتي!
صفحة رقم : 146
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
الفصل الثاني
العلم
البدايات - الرياضة - الفلك - الطب - الجراحة
يرى هربرت سبنسر ذلك الأخصائي العظيم في جمع الشواهد للوصول إلى النتائج، أن العلم- كالأدب- بدأ بالكهنة، واستمد أصوله من المشاهدات الفلكية التي كانت تحدد مواقيت المحافل الدينية، ثم صِينَ في كنف المعابد ونُقِلَ عَبر الأجيال باعتباره جزءاً من التراث الديني(23)؛ ولسنا نستطيع الجزم برأي في هذا، لأن البدايات لا تمكننا من معرفتها، سواء في العلم أو في غيره؛ وكل ما نستطيعه هو التخمين والظن؛ فيجوز أن يكون العلم- شأنه في ذلك شأن المدنيَّة بصفة عامة- قد بدأ مع الزراعة؛ فالهندسة في أولها كانت عبارة عن قياس الأرض المزروعة؛ وربما أنشأ علمَ الفلك حسابُ المحصول والفصول الذي يستدعي مشاهدة النجوم وإنشاء التقويم؛ ثم تقدم الفلك بالملاحة، وطَورَت التجارة علم الرياضة، كما وضعت فنونُ الصناعة أسس الطبيعة والكيمياء.
وربما كان العدُّ من أول ما شهد الإنسان من صور الكلام، ولا يزال العدُّ في كثير من القبائل يتم على صورة تبعث على الابتسام ببساطتها؛ فقد عَدَّ "التسمانيون" إلى العدد اثنين لم يجاوزوه: "بارمَرِى، كالاباوا، كاردِيا"- يعني: "واحد، اثنين، كثير" والهولنديون الجدد ليس لديهم كلمات للفظتي ثلاثة أو أربعة، بل هم يطلقون على ثلاثة كلمة "اثنين- واحد" وعلى أربعة كلمة "اثنين- اثنين"؛ وأهل
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 147
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
"دامارا" لا يقبلوا أن يبادلوا غنمتين بأربع عصي، لكنهم يقبلون أن يبادلوا غنمة بعَصَوَين، ثم يكررون العملية مرة أخرى؛ ولقد كان العَدُّ وسيلته الأصابع، ومن هنا نشأ النظام العشري؛ ولما أدرك الإنسان فكرة العدد اثني عشر، والأغلب أن يكون أدركه بعد حين من الزمن، فرح به لأنه كان مريحاً للنفس بقبوله القسمة على خمسة من الأعداد الستة الأولى؛ وهنا وُلد النظام الاثنا عشري في الحساب، وهو نظام لا يزال قائماً، لا يريد لنفسه الزوال، في المقاييس الإنجليزية حتى اليوم؛ فاثنا عشر شهراً تكوّن عاما، واثنا عشر بنساً تكون شلناً، و "الدستة" اثنا عشر، و "الجروسة" اثنا عشر "دستة" والقدم اثنا عشر بوصة؛ أما العدد ثلاث عشر، فهو على عكس سالفه، يأبى الانقسام، ولذا أصبح بغيضاً عند الناس، ومبعثاً للتشاؤم إلى الأبد؛ ولما أضيفت أصابع القدمين إلى أصابع اليدين، تكونت فكرة العشرين؛ ولا يزال استعمال هذا العدد في العدّ ظاهراً في قول الفرنسيين "أربع عشرينات" ليدلوا على "ثمانين"؛ وكذلك استخدمت أجزاء أخرى من البدن معايير للقياس، فاليد كلها "للشبر" والإبهام للبوصة "اللفظتان في اللغة الفرنسية ينوب عنهما لفظة واحدة تؤدي المعنيين" والذراع حتى المرفق للذراع؛ والذراع كلها لمقياس آخر "يسمى ذراع الهندازة" والقدم للقدم؛ وفي عصر متقدم، أضيف الحصوات إلى الأصابع لتعين على عملية العدّ؛ ولا تزال الكلمة الإنجليزية للعدّ، "Calculate" تشير بأصلها اللغوي إلى أصلٍ معناه "حجر صغير" مما يدل على صغر المسافة التي تفصل القدماء السذج عن المحدثين، ولقد تمنى "ثورو" Thoreau أن يحيا هذه الحياة البدائية الساذجة، وأجاد التعبير عن حالة كثيراً ما تعاود الإنسان فقال: "إن الرجل الأمين لا يكاد يجد الحاجة إلى عدّ يجاوز به أصابع يديه، وقد يضيف إليها أصابع قدميه في حالات نادرة؛ ثم يكدس ما بقى له بعد ذلك في كتلة واحدة؛ فرأيي هو أن نُجري أمورنا على نسق الاثنين أو الثلاثة، لا على نسق المائة أو الألف، فبدل
صفحة رقم : 148
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
المليون، عُدَّ ستة فقط، وسجل حسابك على ظفر إبهامك" (25).
وربما كانت بداية الفلك في قياس الزمن بحركات الأجرام السماوية وكلمة "مقياس" نفسها "في اللغة الإنجليزية measure" وكلمة شهر "month"- بل ربما كانت كلمة إنسان man أيضاً وهو الذي يقوم بالقياس- كل هذه الكلمات تَرتَدُّ- بغير شك- إلى أصل لغويَّ معناه القمر "moon" (26) ذلك لأن الناس قاسوا الزمن بدورات القمر قبل قياسه بالأعوام بزمن طويل؛ فالشمس- مَثَلُها في ذلك مَثَلُ الأب لم تستكشف إلا في وقت متأخر نسبيا؛ وحتى اليوم ترانا نحسب موعد عيد الربيع "Easter" بأوجه القمر؛ وكان لأهل بولنيزيا تقويمَّ، العامُ فيه ثلاثة عشر شهراً ينظمها القمر؛ فلما رأوا أن سنتهم القمرية تختلف اختلافا بيّنا عن مواكب الفصول، أسقطوا شهراً قمرياً، وبذلك استعادوا التوازن بين سنتهم وبين الفصول(27)؛ لكن استخدام الأجرام السماوية على هذا النحو المتزن كان شذوذاً بالقياس إلى التخبط في استخدامها للتنجيم، فالتنجيم قد سبق علم الفلك، وربما دام وجوده على الرغم من ظهور علم الفلك؛ ذلك لأن النفوس الساذجة أكثر اهتماما بالكشف عما يخبئه لها الغيب منها بمعرفة الزمن؛ فنشأت ألوف الخرافات عن تأثير النجوم في خُلُق الإنسان ونصيبه المقدور، ولا يزال كثير من هذه الخرافات مزدهراً في يومنا هذا وربما لم تكن هذه الخرافات خرافات بالمعنى الصحيح، ويجوز أن تكون ضربا آخر من الخطأ في التعليل؛ وما العلم نفسه إلا الضرب الأول من ذلك الخطأ.
والإنسان البدائي لا يصوغ شيئاً من قوانين علم الطبيعة، ويكتفي بممارستها من الوجهة العملية؛ فلئن لم يكن في مقدوره أن يقيس مسار المقذوف في الفضاء،
صفحة رقم : 149
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
إلا أنه يستطيع أن يصوب سهامه نحو الهدف فلا يخطئ؛ ولئن لم يكن لديه رموز كيماوية، إلا أنه يستطيع أن يميز بلمحة سريعة أي النباتات سام وأيها طعام، بل يستطيع أن يستخدم الأعشاب استخداماً دقيقاً في شفاء أمراض البدن؛ والأرجح أن يكون أول من أمتهن حرفة الطب هن من النساء، لا لأنهن الممرضات الطبيعيات للرجال فحسب، ولا لأنهن جعلن من فن التوليد- أكثر مما جعلن من مهنة الارتزاق- أقدم المهن جميعاً فحسب؛ بل لأن اتصالهن بالأرض كان أوثق من اتصال الرجال بها، فأتاح ذلك لهن علما أوسع بالنبات، ومكنَهن من التقدم بفن الطب، ومَيَّزنَه عن التجارة بالسحر التي كان يقوم بها الكهنة؛ فمنذ أقدم العصور حتى عصر يقع في حدود ما تعيه ذاكرتنا، كانت المرأة هي التي تباشر شفاء المرضى؛ ولم يلجأ المريض عند البدائيين إلى طبيب يشفيه أو إلى ساحر إلا إذا أخفقت المرأة في أداء هذه المهمة(28).
وإنه لما يثير الدهشة في نفسك أن تعلم كم من الأمراض كان يشفيها هؤلاء البدائيون على الرغم من قصور علمهم بالأمراض(29)؛ فالمرض عند هؤلاء السُّذَّج- فيما بدا لهم- كان نتيجة لحلول قوة غريبة عنه أو روح غريبة في بدنه- وهو تصور لا يختلف من حيث الجوهر عن النظرية التي تسود الطب الآن من تعليل المرض بدخول الجراثيم في الجسم؛ وأوسع طرق العلاج شيوعا بين البدائيين هو اصطناع رُقيَةٍ سحرية من شأنها أن تسترضي الروح الشريرة التي حَلَّت في البدن العليل؛ لعلها تنزاح عنه؛ وإذا أردت أن تعرف مدى رسوخ هذه الطريقة في أفئدة الناس بحيث لا تزول عنها أبداً، فاقرأ قصة "خنزير جادارين" Gadarene Swine (29)، وحتى اليوم ترى الناس يعللون الصرع بحلول روح شرير في البدن؛ وبعض العقائد الدينية المعاصرة تنص على طرائق معينة لإخراج مثل هذا الروح الشرير من جسم العليل إذا أريد شفاؤه؛ والكثرة الغالبة من الناس تعترف بالصلاة والدعوات على أنها تعين على الشفاء مع أقراص الدواء؛ وربما
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
"دامارا" لا يقبلوا أن يبادلوا غنمتين بأربع عصي، لكنهم يقبلون أن يبادلوا غنمة بعَصَوَين، ثم يكررون العملية مرة أخرى؛ ولقد كان العَدُّ وسيلته الأصابع، ومن هنا نشأ النظام العشري؛ ولما أدرك الإنسان فكرة العدد اثني عشر، والأغلب أن يكون أدركه بعد حين من الزمن، فرح به لأنه كان مريحاً للنفس بقبوله القسمة على خمسة من الأعداد الستة الأولى؛ وهنا وُلد النظام الاثنا عشري في الحساب، وهو نظام لا يزال قائماً، لا يريد لنفسه الزوال، في المقاييس الإنجليزية حتى اليوم؛ فاثنا عشر شهراً تكوّن عاما، واثنا عشر بنساً تكون شلناً، و "الدستة" اثنا عشر، و "الجروسة" اثنا عشر "دستة" والقدم اثنا عشر بوصة؛ أما العدد ثلاث عشر، فهو على عكس سالفه، يأبى الانقسام، ولذا أصبح بغيضاً عند الناس، ومبعثاً للتشاؤم إلى الأبد؛ ولما أضيفت أصابع القدمين إلى أصابع اليدين، تكونت فكرة العشرين؛ ولا يزال استعمال هذا العدد في العدّ ظاهراً في قول الفرنسيين "أربع عشرينات" ليدلوا على "ثمانين"؛ وكذلك استخدمت أجزاء أخرى من البدن معايير للقياس، فاليد كلها "للشبر" والإبهام للبوصة "اللفظتان في اللغة الفرنسية ينوب عنهما لفظة واحدة تؤدي المعنيين" والذراع حتى المرفق للذراع؛ والذراع كلها لمقياس آخر "يسمى ذراع الهندازة" والقدم للقدم؛ وفي عصر متقدم، أضيف الحصوات إلى الأصابع لتعين على عملية العدّ؛ ولا تزال الكلمة الإنجليزية للعدّ، "Calculate" تشير بأصلها اللغوي إلى أصلٍ معناه "حجر صغير" مما يدل على صغر المسافة التي تفصل القدماء السذج عن المحدثين، ولقد تمنى "ثورو" Thoreau أن يحيا هذه الحياة البدائية الساذجة، وأجاد التعبير عن حالة كثيراً ما تعاود الإنسان فقال: "إن الرجل الأمين لا يكاد يجد الحاجة إلى عدّ يجاوز به أصابع يديه، وقد يضيف إليها أصابع قدميه في حالات نادرة؛ ثم يكدس ما بقى له بعد ذلك في كتلة واحدة؛ فرأيي هو أن نُجري أمورنا على نسق الاثنين أو الثلاثة، لا على نسق المائة أو الألف، فبدل
صفحة رقم : 148
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
المليون، عُدَّ ستة فقط، وسجل حسابك على ظفر إبهامك" (25).
وربما كانت بداية الفلك في قياس الزمن بحركات الأجرام السماوية وكلمة "مقياس" نفسها "في اللغة الإنجليزية measure" وكلمة شهر "month"- بل ربما كانت كلمة إنسان man أيضاً وهو الذي يقوم بالقياس- كل هذه الكلمات تَرتَدُّ- بغير شك- إلى أصل لغويَّ معناه القمر "moon" (26) ذلك لأن الناس قاسوا الزمن بدورات القمر قبل قياسه بالأعوام بزمن طويل؛ فالشمس- مَثَلُها في ذلك مَثَلُ الأب لم تستكشف إلا في وقت متأخر نسبيا؛ وحتى اليوم ترانا نحسب موعد عيد الربيع "Easter" بأوجه القمر؛ وكان لأهل بولنيزيا تقويمَّ، العامُ فيه ثلاثة عشر شهراً ينظمها القمر؛ فلما رأوا أن سنتهم القمرية تختلف اختلافا بيّنا عن مواكب الفصول، أسقطوا شهراً قمرياً، وبذلك استعادوا التوازن بين سنتهم وبين الفصول(27)؛ لكن استخدام الأجرام السماوية على هذا النحو المتزن كان شذوذاً بالقياس إلى التخبط في استخدامها للتنجيم، فالتنجيم قد سبق علم الفلك، وربما دام وجوده على الرغم من ظهور علم الفلك؛ ذلك لأن النفوس الساذجة أكثر اهتماما بالكشف عما يخبئه لها الغيب منها بمعرفة الزمن؛ فنشأت ألوف الخرافات عن تأثير النجوم في خُلُق الإنسان ونصيبه المقدور، ولا يزال كثير من هذه الخرافات مزدهراً في يومنا هذا وربما لم تكن هذه الخرافات خرافات بالمعنى الصحيح، ويجوز أن تكون ضربا آخر من الخطأ في التعليل؛ وما العلم نفسه إلا الضرب الأول من ذلك الخطأ.
والإنسان البدائي لا يصوغ شيئاً من قوانين علم الطبيعة، ويكتفي بممارستها من الوجهة العملية؛ فلئن لم يكن في مقدوره أن يقيس مسار المقذوف في الفضاء،
صفحة رقم : 149
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
إلا أنه يستطيع أن يصوب سهامه نحو الهدف فلا يخطئ؛ ولئن لم يكن لديه رموز كيماوية، إلا أنه يستطيع أن يميز بلمحة سريعة أي النباتات سام وأيها طعام، بل يستطيع أن يستخدم الأعشاب استخداماً دقيقاً في شفاء أمراض البدن؛ والأرجح أن يكون أول من أمتهن حرفة الطب هن من النساء، لا لأنهن الممرضات الطبيعيات للرجال فحسب، ولا لأنهن جعلن من فن التوليد- أكثر مما جعلن من مهنة الارتزاق- أقدم المهن جميعاً فحسب؛ بل لأن اتصالهن بالأرض كان أوثق من اتصال الرجال بها، فأتاح ذلك لهن علما أوسع بالنبات، ومكنَهن من التقدم بفن الطب، ومَيَّزنَه عن التجارة بالسحر التي كان يقوم بها الكهنة؛ فمنذ أقدم العصور حتى عصر يقع في حدود ما تعيه ذاكرتنا، كانت المرأة هي التي تباشر شفاء المرضى؛ ولم يلجأ المريض عند البدائيين إلى طبيب يشفيه أو إلى ساحر إلا إذا أخفقت المرأة في أداء هذه المهمة(28).
وإنه لما يثير الدهشة في نفسك أن تعلم كم من الأمراض كان يشفيها هؤلاء البدائيون على الرغم من قصور علمهم بالأمراض(29)؛ فالمرض عند هؤلاء السُّذَّج- فيما بدا لهم- كان نتيجة لحلول قوة غريبة عنه أو روح غريبة في بدنه- وهو تصور لا يختلف من حيث الجوهر عن النظرية التي تسود الطب الآن من تعليل المرض بدخول الجراثيم في الجسم؛ وأوسع طرق العلاج شيوعا بين البدائيين هو اصطناع رُقيَةٍ سحرية من شأنها أن تسترضي الروح الشريرة التي حَلَّت في البدن العليل؛ لعلها تنزاح عنه؛ وإذا أردت أن تعرف مدى رسوخ هذه الطريقة في أفئدة الناس بحيث لا تزول عنها أبداً، فاقرأ قصة "خنزير جادارين" Gadarene Swine (29)، وحتى اليوم ترى الناس يعللون الصرع بحلول روح شرير في البدن؛ وبعض العقائد الدينية المعاصرة تنص على طرائق معينة لإخراج مثل هذا الروح الشرير من جسم العليل إذا أريد شفاؤه؛ والكثرة الغالبة من الناس تعترف بالصلاة والدعوات على أنها تعين على الشفاء مع أقراص الدواء؛ وربما
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 150
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
كان البدائيون يقيمون طريقتهم في العلاج على نفس الأساس الذي يقيم عليه أحدث الطب طريقته، ألا وهو الشفاء بقوة الإيحاء؛ غير أن أفاعيل أولئك الأطباء الأولين كانت أشد استلفاتاً للنظر بأساليبها المسرحية، مما يصطنعه خلفاؤهم الذين ازدادوا عنهم حضارة؛ فقد كانوا يحاولون طرد الروح الحالّ في جسم المريض بتخويفه بما يلبسونه له من أقنعة مفزعة، وما يغطون به أجسادهم من جلود الحيوان، وبصياحهم وهذيانهم وتصفيقهم بالأيدي، و "الشخشخة" بالصفائح وامتصاص الشيطان من الجسم المريض بواسطة أنبوبة مجوفة؛ فكما كان يقول المثل السائر: "الطبيعة تشفى المريض، والعلاج يسرُّ المريض" وأما قبائل "بورورو" Bororos البرازيلية فقد تقدمت بالعلم خطوة حين كانت تطلب إلى الوالد شرب الدواء ليشفى بذلك طفله المريض، ولقد كان الطفل يشفى في اطّراد كاد أن يكون شاملا كاملاًا(30).
وإلى جانب الأعشاب الطبية نجد بين الأساليب الصيدلية الكثيرة التي كان يلجأ إليها الإنسان البدائي، صوفاً من المخدرات المنومة التي أريد بها أن تخفف الألم وتهوّن الجراحات؛ فسموم مثل Curare الذي كثيراً ما يضعونه على أطراف سهامهم؛ ومخدرات مثل نبات القنَّب والأفيون والكافور، هي أقدم تاريخاً من التاريخ؛ حتى ليرجع أحد المخدرات الشائعة بيننا اليوم إلى استخدام سكان بيرو لنبات الكوكا لهذه الغاية؛ ويحدثنا "كارتييه" Cartier كيف كان أهل "إراكوا" يشفون مرض الإسقربوط بلحاء أشجار التنّوب والشوكران وأوراقها(31) وكذلك عرف الجراحون البدائيون طائفة مختلفة من الجراحات والأدوات، فالولادة كانت تتم على نحو مُرضٍ، والكسور والجروح كانت تُضَمَّدُ وتُلَفُّ بمهارة(32)؛ وبواسطة مُدى من الحجر الزجاجي الأسود، أو من الصّوَّان المرهف، أو أسنان السمك، كانوا يستخرجون الدم من "الخُرَّاجات" ويجففونها، كما كانوا يشرطون الأنسجة؛ وقد مارس البدائيون "تَربَنَةً"
صفحة رقم : 151
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
الجمجمة منذ أيام هنود بيرو الأقدمين إلى أهل ملينزيا المحدثين؛ وكان الملنيزيون ينجحون في تسع حالات من كل عشر حالات بينما كانت الجراحة نفسها عام 1786 تنتهي بالموت في كل الحالات بغير استثناء في مستشفى "أوتيل دييه" Hotel- Dieu في باريس(33).
إننا نبتسم لجهل البدائيين، بينما نستسلم جادّين للأساليب الطبّية الكثيرة التكاليف في أيامنا؛ يقول "الدكتور أولفر وندل هولمز" Oliver Wendell Holms بعد حياة طويلة قضاها في شفاء المرضى:
"لن يتردد الناس في أداء شيء، بل ليس هناك شيء لم يؤدوه فعلا، في سبيل استعادة العافية وإنقاذ الحياة؛ فقد رضوا أن يغُرَقوا في الماء نصف إغراق، ويختنقوا بالغاز نصف اختناق؛ ورضوا أن يدفنوا في الأرض إلى أذقانهم، وأن يوصموا بالحديد المُحَمَّى مثل عبيد قادس؛ ورضوا أن يُقصَبُوا بالُمدَى كأنهم سمك القُدّ، وأن تثقب لحومهم بالإبرَ، وأن تُشعَلَ المشاعل على جلودهم، ورضوا أن يجرعوا كل صنوف المقززات، وأن يدفعوا لذلك كله أجراً كأنما سَلقُ الجسم وإحراقه ميزةّ ثمينة، وكأنما "الفقافيق" نعمة، ودُودُ العَلَق ضرب من الترف" (34).
صفحة رقم : 152
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
الفصل الثالث
الفن
معنى الجمال - معنى الفن - إحساس البدائي بالجمال - صبغ
الجسم - دهان الوجه للتجميل - الوشم - الوصم - الثياب -
الحلي - الخزف - التصوير - النحت - فن البناء - الرقص -
الموسيقى - تلخيص للخطوات البدائية التي مهدت للمدنية
بعد أن أنفق الفن من عمره خمسين ألف سنة، لا يزال الناس يتنازعون على تحديد مصادره من غريزة الإنسان، ومبادئه في عصور التاريخ، فما الجمال؟ - لماذا تُفتَنُ به؟ لماذا نحاول أن نبدعه؟ لما لم يكن هذا مجال المناقشة النفسية، فسنكتفي بالردّ مختصراً وفي غير قَطعٍ باليقين، بأن الجمال هو أية صفة تجعل شيئاً أو شكلا ممتعاً لمن يشهده؛ ولم يكن الشيء - من حيث الأصل والبداية - ليمتع الناظر إليه لأنه جميل، لكن الأقرب إلى الصواب هو أن الرائي يسمى الشيء جميلا لأنه يمتعه؛ وكل ما من شأنه أن يشبع رغبة عند الإنسان، يبدو لعينيه جميلا؛ وعلى ذلك فالطعام جميل لمن يتضور جوعاً، بينما "تاييس" ليست عنده حينئذ بذات جمال، وقد يكون الشيء الممتع هو المشاهِدُ نفسه، وقد لا يكون - كلا الفرضين على درجة واحدة من قوة الاحتمال؛ ففي أعماق قلوبنا لسنا نرى شيئاً أجمل من أشكالنا، ويبدأ الفن من تمجيد الإنسان لجسمه الرائع؛ أو قد يكون الشيء الممتع هو العشير من الجنس الآخر الذي يرغب فيه الرائي، وعندئذ يصطنع إحساسنا بالجمالِ شدَّةً وقوةَ إبداعٍ هما شدةُ الشهوة الجنسية وقوةُ إبداعها؛ ثم يوسّع من هالة الجمال حتى تشمل كل شيء يمس الحبيب من بعيد أو قريب - فتشمل كل صورة جاءت شبيهة بصورتها، وكل الألوان التي تزينها أو تسرهّا أو تتحدث عنها، وكل الحلي والثياب التي تلائمها؛ وكل الأشكال
صفحة رقم : 153
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
والحركات التي تذكر بما لها من تناسق ورشاقة؛ أو قد يكون الشكل الممتع هو صورة الذكر المطلوب؛ ومن الجاذبية التي تجذب ضعف الإنسان نحو عبادة القوة يأتي إحساسنا بروعة الفخامة - فتطمئن نفوسنا في حضرة القوة - وهو إحساس يخلق أرفع آيات الفن جميعاً؛ وأخيراً قد تصبح الطبيعة نفسها - بمعونة منا - فخمة وجميلة في آن معاً، لا لأنها تشبه وتوحي برقة المرأة كلها وقوة الرجل كلها فحسب، بل لأننا نخلع عليها مشاعرنا وما أصبناه من حظوظ، وحبنا لأنفسنا ولغيرنا - فنحن نستمتع فيها بمدارج صبانا، ونستمتع فيها بالعزلة الهادئة لأنها مهرب من عاصفة الحياة؛ ونحيا معها في تقلّب فصولها الذي يكاد أن يكون إنساني المراحل: فيفاعة نضيرة، ونضج متّقد، وإثمار يانع، ثم انحلال بارد؛ ونرى فيها على نحو غامض أما وهبتنا الحياة، وستتقبلنا عند الموت.
الفن هو إبداع الجمال، هو التعبير عن الفكر أو الشعور في صورة تبدو جميلة أو فخمة، فتثير فينا هزة هي هزة الفرح الفطريّ التي تثيرها المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة؛ وقد يكون الفكر إدراكا لمعنى من معاني الحياة كائناً ما كان، وقد يكون الشعور إثارة أو استرخاء لوتر مشدود من أوتار الحياة كائناً ما كان؛ وقد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تناسق دَورِىّ يسرنا لأنه يتجاوب في طبائعنا مع نوبات الأنفاس، ونبضات الدم؛ وتداول الشتاء والصيف على نحو يبعث على الإجلال، وتعاقب الجزر والمد والليل والنهار؛ أو قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تماثل هو بمثابة الوزن في الشعر قد تمجد، يمثّل القوة أمام أبصارنا، ويصوّر لنا التناسب المنتظم في النبات والحيوان، وفي النساء والرجال؛ أو قد تحدث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لألوانها التي تضيء الروح بضيائها أو تعمق بالحياة من السطح إلى الغزير؛ وأخيراً قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من صدق، إذ ترى فيها محاكاة واضحة ناصعة للطبيعة أو للواقع الخارجي، حين تلقف لمحة من جمال النبات أو الحيوان كان
صفحة رقم : 154
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
قمينا أن يزول، أو تلمح معنى عابراً لظرف قائم لكنه وشيك الزوال، ثم تعرضه ساكناً ثابتاً أمام حسّ يتلكأ في استمتاعه بما يرى، أو أمام عقل يحبُّ أن يتأمل على مهل؛ من هذه المصادر الكثيرة يأتي ما في الحياة من ألوان الكماليات السامية - الغناء والرقص، الموسيقى والمسرحية، الخزف والتصوير، النحت والعمارة، الأدب والفلسفة؛ فما الفلسفة إن لم تكن فنا؟ ما الفلسفة إن لم تكن محاولة أخرى تضاف إلى محاولات سائر الفنون في أن تُفيض على فوضى ما يقع لنا في دنيا التجربة "صورة لها معنى"؟.
فإذا كان الإحساس بالجمال ضعيفاً في الجماعة البدائية فقد يكون ذلك بسبب انعدام الفارق الزمني بين الشعور بالشهوة الجنسية وبين تحقيقها، لأن ذلك لا يتيح الفرصة للخيال أن يضفي على موضوع الشهوة ألواناً من عنده، تزيد من جماله زيادة كبيرة؛ إن الإنسان البدائي قلما يفكر في اختيار النساء على أساس ما نسميه نحن فيهن بالجمال، بل هو أدنى إلى التفكير فيهن على أساس نفعي، ويستحيل أن يدور في خلده أن يرفض عروساً مفتولة العضلات بسبب قبحها؛ فرئيس القبيلة من الهنود حين سئل أيّ زوجاته أروع جمالا، اعتذر عن عدم الجواب لأنه لم يفكر قط في هذا الموضوع، وقال في حكمة ناضجة تشبه حكمة فرانكلين: "قد تكون الوجوه أكثر جمالا أو أقل جمالا؛ لكن النساء في جوانبهن الأخرى لا يختلف بعضهن عن بعض في شيء"؛ وحتى إن كان للإنسان البدائي إحساس بالجمال، فهو أحياناً يُفلت منا فلا نراه، لشدة اختلافه عن إحساسنا نحن بالجمال؛ يقول "رتشارد": "كل مَن أعرف من أجناس الزنوج، يعدُّون المرأة جميلة إذا لم تكن نحيلة عند خصرها، وإذا ما كان جذعها من الإبطين إلى الردفين ذا عَرض واحد - حتى يقول عنها زنجي الساحل: إنها كالسُّلم" والآذان المطروقة كآذان الفيل، والبطن المتثنّى هما من مفاتن المرأة عند الرجال في إفريقية وفي أرجاء إفريقية كلها، أجمل النساء هي المرأة السمينة؛ فيقول "منجوبارك"
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
كان البدائيون يقيمون طريقتهم في العلاج على نفس الأساس الذي يقيم عليه أحدث الطب طريقته، ألا وهو الشفاء بقوة الإيحاء؛ غير أن أفاعيل أولئك الأطباء الأولين كانت أشد استلفاتاً للنظر بأساليبها المسرحية، مما يصطنعه خلفاؤهم الذين ازدادوا عنهم حضارة؛ فقد كانوا يحاولون طرد الروح الحالّ في جسم المريض بتخويفه بما يلبسونه له من أقنعة مفزعة، وما يغطون به أجسادهم من جلود الحيوان، وبصياحهم وهذيانهم وتصفيقهم بالأيدي، و "الشخشخة" بالصفائح وامتصاص الشيطان من الجسم المريض بواسطة أنبوبة مجوفة؛ فكما كان يقول المثل السائر: "الطبيعة تشفى المريض، والعلاج يسرُّ المريض" وأما قبائل "بورورو" Bororos البرازيلية فقد تقدمت بالعلم خطوة حين كانت تطلب إلى الوالد شرب الدواء ليشفى بذلك طفله المريض، ولقد كان الطفل يشفى في اطّراد كاد أن يكون شاملا كاملاًا(30).
وإلى جانب الأعشاب الطبية نجد بين الأساليب الصيدلية الكثيرة التي كان يلجأ إليها الإنسان البدائي، صوفاً من المخدرات المنومة التي أريد بها أن تخفف الألم وتهوّن الجراحات؛ فسموم مثل Curare الذي كثيراً ما يضعونه على أطراف سهامهم؛ ومخدرات مثل نبات القنَّب والأفيون والكافور، هي أقدم تاريخاً من التاريخ؛ حتى ليرجع أحد المخدرات الشائعة بيننا اليوم إلى استخدام سكان بيرو لنبات الكوكا لهذه الغاية؛ ويحدثنا "كارتييه" Cartier كيف كان أهل "إراكوا" يشفون مرض الإسقربوط بلحاء أشجار التنّوب والشوكران وأوراقها(31) وكذلك عرف الجراحون البدائيون طائفة مختلفة من الجراحات والأدوات، فالولادة كانت تتم على نحو مُرضٍ، والكسور والجروح كانت تُضَمَّدُ وتُلَفُّ بمهارة(32)؛ وبواسطة مُدى من الحجر الزجاجي الأسود، أو من الصّوَّان المرهف، أو أسنان السمك، كانوا يستخرجون الدم من "الخُرَّاجات" ويجففونها، كما كانوا يشرطون الأنسجة؛ وقد مارس البدائيون "تَربَنَةً"
صفحة رقم : 151
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> العلم
الجمجمة منذ أيام هنود بيرو الأقدمين إلى أهل ملينزيا المحدثين؛ وكان الملنيزيون ينجحون في تسع حالات من كل عشر حالات بينما كانت الجراحة نفسها عام 1786 تنتهي بالموت في كل الحالات بغير استثناء في مستشفى "أوتيل دييه" Hotel- Dieu في باريس(33).
إننا نبتسم لجهل البدائيين، بينما نستسلم جادّين للأساليب الطبّية الكثيرة التكاليف في أيامنا؛ يقول "الدكتور أولفر وندل هولمز" Oliver Wendell Holms بعد حياة طويلة قضاها في شفاء المرضى:
"لن يتردد الناس في أداء شيء، بل ليس هناك شيء لم يؤدوه فعلا، في سبيل استعادة العافية وإنقاذ الحياة؛ فقد رضوا أن يغُرَقوا في الماء نصف إغراق، ويختنقوا بالغاز نصف اختناق؛ ورضوا أن يدفنوا في الأرض إلى أذقانهم، وأن يوصموا بالحديد المُحَمَّى مثل عبيد قادس؛ ورضوا أن يُقصَبُوا بالُمدَى كأنهم سمك القُدّ، وأن تثقب لحومهم بالإبرَ، وأن تُشعَلَ المشاعل على جلودهم، ورضوا أن يجرعوا كل صنوف المقززات، وأن يدفعوا لذلك كله أجراً كأنما سَلقُ الجسم وإحراقه ميزةّ ثمينة، وكأنما "الفقافيق" نعمة، ودُودُ العَلَق ضرب من الترف" (34).
صفحة رقم : 152
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
الفصل الثالث
الفن
معنى الجمال - معنى الفن - إحساس البدائي بالجمال - صبغ
الجسم - دهان الوجه للتجميل - الوشم - الوصم - الثياب -
الحلي - الخزف - التصوير - النحت - فن البناء - الرقص -
الموسيقى - تلخيص للخطوات البدائية التي مهدت للمدنية
بعد أن أنفق الفن من عمره خمسين ألف سنة، لا يزال الناس يتنازعون على تحديد مصادره من غريزة الإنسان، ومبادئه في عصور التاريخ، فما الجمال؟ - لماذا تُفتَنُ به؟ لماذا نحاول أن نبدعه؟ لما لم يكن هذا مجال المناقشة النفسية، فسنكتفي بالردّ مختصراً وفي غير قَطعٍ باليقين، بأن الجمال هو أية صفة تجعل شيئاً أو شكلا ممتعاً لمن يشهده؛ ولم يكن الشيء - من حيث الأصل والبداية - ليمتع الناظر إليه لأنه جميل، لكن الأقرب إلى الصواب هو أن الرائي يسمى الشيء جميلا لأنه يمتعه؛ وكل ما من شأنه أن يشبع رغبة عند الإنسان، يبدو لعينيه جميلا؛ وعلى ذلك فالطعام جميل لمن يتضور جوعاً، بينما "تاييس" ليست عنده حينئذ بذات جمال، وقد يكون الشيء الممتع هو المشاهِدُ نفسه، وقد لا يكون - كلا الفرضين على درجة واحدة من قوة الاحتمال؛ ففي أعماق قلوبنا لسنا نرى شيئاً أجمل من أشكالنا، ويبدأ الفن من تمجيد الإنسان لجسمه الرائع؛ أو قد يكون الشيء الممتع هو العشير من الجنس الآخر الذي يرغب فيه الرائي، وعندئذ يصطنع إحساسنا بالجمالِ شدَّةً وقوةَ إبداعٍ هما شدةُ الشهوة الجنسية وقوةُ إبداعها؛ ثم يوسّع من هالة الجمال حتى تشمل كل شيء يمس الحبيب من بعيد أو قريب - فتشمل كل صورة جاءت شبيهة بصورتها، وكل الألوان التي تزينها أو تسرهّا أو تتحدث عنها، وكل الحلي والثياب التي تلائمها؛ وكل الأشكال
صفحة رقم : 153
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
والحركات التي تذكر بما لها من تناسق ورشاقة؛ أو قد يكون الشكل الممتع هو صورة الذكر المطلوب؛ ومن الجاذبية التي تجذب ضعف الإنسان نحو عبادة القوة يأتي إحساسنا بروعة الفخامة - فتطمئن نفوسنا في حضرة القوة - وهو إحساس يخلق أرفع آيات الفن جميعاً؛ وأخيراً قد تصبح الطبيعة نفسها - بمعونة منا - فخمة وجميلة في آن معاً، لا لأنها تشبه وتوحي برقة المرأة كلها وقوة الرجل كلها فحسب، بل لأننا نخلع عليها مشاعرنا وما أصبناه من حظوظ، وحبنا لأنفسنا ولغيرنا - فنحن نستمتع فيها بمدارج صبانا، ونستمتع فيها بالعزلة الهادئة لأنها مهرب من عاصفة الحياة؛ ونحيا معها في تقلّب فصولها الذي يكاد أن يكون إنساني المراحل: فيفاعة نضيرة، ونضج متّقد، وإثمار يانع، ثم انحلال بارد؛ ونرى فيها على نحو غامض أما وهبتنا الحياة، وستتقبلنا عند الموت.
الفن هو إبداع الجمال، هو التعبير عن الفكر أو الشعور في صورة تبدو جميلة أو فخمة، فتثير فينا هزة هي هزة الفرح الفطريّ التي تثيرها المرأة في الرجل، أو الرجل في المرأة؛ وقد يكون الفكر إدراكا لمعنى من معاني الحياة كائناً ما كان، وقد يكون الشعور إثارة أو استرخاء لوتر مشدود من أوتار الحياة كائناً ما كان؛ وقد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تناسق دَورِىّ يسرنا لأنه يتجاوب في طبائعنا مع نوبات الأنفاس، ونبضات الدم؛ وتداول الشتاء والصيف على نحو يبعث على الإجلال، وتعاقب الجزر والمد والليل والنهار؛ أو قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من تماثل هو بمثابة الوزن في الشعر قد تمجد، يمثّل القوة أمام أبصارنا، ويصوّر لنا التناسب المنتظم في النبات والحيوان، وفي النساء والرجال؛ أو قد تحدث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لألوانها التي تضيء الروح بضيائها أو تعمق بالحياة من السطح إلى الغزير؛ وأخيراً قد تبعث الصورة الفنية في أنفسنا الرضى لما فيها من صدق، إذ ترى فيها محاكاة واضحة ناصعة للطبيعة أو للواقع الخارجي، حين تلقف لمحة من جمال النبات أو الحيوان كان
صفحة رقم : 154
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
قمينا أن يزول، أو تلمح معنى عابراً لظرف قائم لكنه وشيك الزوال، ثم تعرضه ساكناً ثابتاً أمام حسّ يتلكأ في استمتاعه بما يرى، أو أمام عقل يحبُّ أن يتأمل على مهل؛ من هذه المصادر الكثيرة يأتي ما في الحياة من ألوان الكماليات السامية - الغناء والرقص، الموسيقى والمسرحية، الخزف والتصوير، النحت والعمارة، الأدب والفلسفة؛ فما الفلسفة إن لم تكن فنا؟ ما الفلسفة إن لم تكن محاولة أخرى تضاف إلى محاولات سائر الفنون في أن تُفيض على فوضى ما يقع لنا في دنيا التجربة "صورة لها معنى"؟.
فإذا كان الإحساس بالجمال ضعيفاً في الجماعة البدائية فقد يكون ذلك بسبب انعدام الفارق الزمني بين الشعور بالشهوة الجنسية وبين تحقيقها، لأن ذلك لا يتيح الفرصة للخيال أن يضفي على موضوع الشهوة ألواناً من عنده، تزيد من جماله زيادة كبيرة؛ إن الإنسان البدائي قلما يفكر في اختيار النساء على أساس ما نسميه نحن فيهن بالجمال، بل هو أدنى إلى التفكير فيهن على أساس نفعي، ويستحيل أن يدور في خلده أن يرفض عروساً مفتولة العضلات بسبب قبحها؛ فرئيس القبيلة من الهنود حين سئل أيّ زوجاته أروع جمالا، اعتذر عن عدم الجواب لأنه لم يفكر قط في هذا الموضوع، وقال في حكمة ناضجة تشبه حكمة فرانكلين: "قد تكون الوجوه أكثر جمالا أو أقل جمالا؛ لكن النساء في جوانبهن الأخرى لا يختلف بعضهن عن بعض في شيء"؛ وحتى إن كان للإنسان البدائي إحساس بالجمال، فهو أحياناً يُفلت منا فلا نراه، لشدة اختلافه عن إحساسنا نحن بالجمال؛ يقول "رتشارد": "كل مَن أعرف من أجناس الزنوج، يعدُّون المرأة جميلة إذا لم تكن نحيلة عند خصرها، وإذا ما كان جذعها من الإبطين إلى الردفين ذا عَرض واحد - حتى يقول عنها زنجي الساحل: إنها كالسُّلم" والآذان المطروقة كآذان الفيل، والبطن المتثنّى هما من مفاتن المرأة عند الرجال في إفريقية وفي أرجاء إفريقية كلها، أجمل النساء هي المرأة السمينة؛ فيقول "منجوبارك"
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 155
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
Mango Park عن نيجيريا: "يظهر أن لفظتي السَّمنة والجمال تكادان تكونان مترادفتين؛ فالمرأة التي تزعم لنفسها ولو قليلا من جمال، لا بد أن تكون ممن يتعذر عليهن المشي إلا إذا سار إلى جانبيها عَبدَان، يسير كل منهما تحت ذراع ليكون لها دعامة؛ والجمال الكامل تبلغه المرأة إن ساوت بوزنها حِمل الجمل" ويقول "بريفو" Briffault : "إن معظم الهمج يؤثرون ما نظنه نحن من أقبح ما تتصف به المرأة، وأعني به الأثداء الطويلة المتدلية" (35)؛ ويقول "دارون": "إنه من المعلوم لنا جميعاً أن العَجز عند كثيرات من نساء الهوتنتوت يبرز بروزاً عجيباً ولا يشك "سير أندرو سمث" أبداً في أن هذه الخصيصة للعجيبة موضع إعجاب من الرجال، فلقد رأى ذات يوم امرأة هي عندهم من ربات الجمال، كانت من الضخامة في أردافها بحيث إذا ما أجلسوها على أرض منبسطة استحال عليها الوقوف إلا إذا زحفت زحفاً حتى دَنَت من سفح مائل.... ويروي لنا "بيرتُن" Burton عن أهل الصومال أن الرجال إذا ما أرادوا اختيار الزوجات، صفّوا النساء صفاً واختاروا من بينهن أكثرهن بروزاً في العجز؛ وليس أقبح في عيني الزنجي من المرأة النحيلة" (36).
لكن الرجل الطبيعي في أرجح الظن - يقيس الجمال بمقياس نفسه هو أكثر مما يقيسه بمعيار شكل المرأة، "فالأقربون - في الفن - أولى بالمعروف"؛ وقد لا يُصَدّقُ النساء ما نزعمه لهن من أن الرجال البدائيين والمحدثين يأخذهم العُجبُ بأنفسهم سواء بسواء؛ فالذكر لا الأنثى في الشعوب الساذجة - كما هو الحال في الحيوان - هو الذي يتزين ويُنزل بجسده الجروح؛ سعياً وراء الجمال، فيقول "بُنوِك" Bonwick: "إن التَزين في استراليا يكاد يكون كله احتكاراً للرجل" وهكذا قُل في مالنيزيا وغينا الجديدة وكالدونيا الجديدة وبريطانيا الجديدة، وهانوفر الجديدة وهنود أمريكا الشمالية(37) وفي بعض القبائل يستنفذ تجميل الجسم وقتاً أكثر مما تستهلكه أية مهمة أخرى من
صفحة رقم : 156
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
مهام النهار(38) وواضح أن أول صورة للفن هي صبغ الجسم صبغة صناعية وهم يصبغون الجسم ليجذبوا النساء حيناً وليخيفوا الأعداء حيناً آخر؛ والرجل من أهل استراليا الوطنيين - كأحدث فاتنة من فاتنات أمريكا اليوم - كان دائماً يحمل معه مقداراً من الصبغة البيضاء والحمراء والصفراء، ليُصلح من جماله حيناً بعد حين، فإذا ما أوشكت أصباغه على النفاذ، قام برحلات بعيدة خطرة ليزود نفسه منها بمقدار جديد؛ وهو يكتفي في الأيام العادية ببقع من اللون على خديه وكتفيه وصدره، ولكن كان في مناسبات الأعياد، يُحِسُّ ما يحسّه العُريان من خجل إذا لم يصبغ جسده كله من أعلاه إلى أسفله(39).
في بعض القبائل يحتكر الرجال لأنفسهم حق صبغ الجسم، وفي قبائل أخرى يحَّرم على النساء المتزوجات أن يصبغن أعناقهن(40)؛ لكن ما لبث النساء أن ظفرن لأنفسهن بفن التجمل بالأصباغ، وهو أقدم الفنون جميعاً؛ فلما وقف "كابتن كوك" Captain Cook في زيلندة الجديدة حيناً، لاحظ أن بحارته حين عادوا إليه من جولاتهم على الشاطئ، كانوا حُمرَ الأنوف أو صُفرها بأصباغ صناعية، ذلك لأن أنوفهم قد لصقت بها الأصباغ التي كانت الجميلات من أهل ذلك الإقليم قد طلين بها أجسادهن(41)؛ ونساء "الفَلاّتة" Fellatah في إفريقية الوسطى ينفقن عدة ساعات كل يوم في تجميل أنفسهن: فهن يصبغن أصابع أيديهن وأرجلهن صبغة أرجوانية بأن يلففنها طوال الليل في أوراق الحناء، ويصبغن أسنانهن بالأزرق والأصفر والأرجواني على هذا التوالي؛ ويطلين شعرهِن طلاء أزرق، ويخططن جفونهن بالكحل(42) وكل سيدة من قبيلة "بُنجو" تحمل في حقيبة أدوات التجميل، ملقطاً تنزع به الرموش والحواجب، ومشابك شعر على هيئة الرماح، وخواتم وأجراساً، وأزراراً ومشابك(43).
لكن السُّذج الأولين - مثل الإغريق أيام بركليز - ضاقوا صدراً لسرعة زوال هذه الأصباغ، فابتكروا الوشم والوصم والثيابَ أدواتٍ للتزين أدوم بقاء،
صفحة رقم : 157
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
ففي كثير من القبائل أسلم الرجال والنساء معاً أنفسهم للإبرة الصابغة وتحملوا في غير تململ حتى وشم الشفاه؛ ففي جريلنده تَشِمُ الأمهات بناتهن في سن مبكرة ليمهدن لهن الزواج عاجلا(44)؛ لكن الوشم في أغلب الحالات لم يكن له ما أراده الناس من وضوح وتأثير؛ لذلك طفق عدد من القبائل في كل قارة يَصِمُ الجسمَ بوصمات عميقة ليكونوا أجمل منظراً في أعين زملائهم، أو أبشع هيئة في أعين أعدائهم؛ فكما قال عنهم "ثيوفيل جوتييه" Theophil Gautier : "إنهم لما عزت عليهم الثياب ووسائل الزينة، زينوا جلودهم" (45)، فكانوا يجرحون أجسامهم بحجر الصوّان أو بقواقع المحار، ثم كثيراً ما يضعون في الجرح كرةً من الطين لتوسع من الوصمة؛ فأهالي "مضيق تورس" كانوا يجعلون بصماتهم شبيهة بشكل الضب أو التمساح أو السلحفاة(46)، ويقول "جيورج" Georg: "لست تجد من أجزاء الجسم جزءاً لم يجملوه أو يزينوه أو يشوهوه أو يصبغوه أو يحرقوه أو يشموه أو يصلحوه أو يبسطوه أو يقبضوه، مدفوعين إلى ذلك بالعجب بأنفسهم والرغبة في التجميل(47) فقبيلة "بوتوكودو" Butocudos استمدت اسمها هذا من خابور يغرزونه في الشفة السفلى وفي الأذنين حينما يكون الناشئ في سنته الثامنة، ثم ما ينفكون يستبدلون به خابوراً أكبر حتى تبلغ الفتحة اتساعاً طول قطره أربع بوصات(48)؛ والنساء الهوتنتوت يعملن على إطالة الشفرتين الصغيرتين حتى تبلغا طولا عظيما، بحيث يتكون منها ما يسمّى بـ "فوطة الهوتنتوت" التي تلقى عند رجالهم إعجاباً عظيما(49)، وكانت أقراط الآذان وأقراط الأنوف ضرورات لا غنى عنها؛ حتى لقد ذهب سكان "جبِسلندة" Gippsland إلى أن من يموت بغير قرط في أنفه سيلاقي في الآخرة عذاباً أليماً(50)؛ وكأني بالسيدة العصرية تقول عن ذلك كله إنه وحشية فظيعة، تقول هذا إذ هي تثقب أذنيها للأقراط، وتصبغ شفتيها وخديها، وتلقط شعرات حاجبيها، وتقيم أهداب جفنيها
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
Mango Park عن نيجيريا: "يظهر أن لفظتي السَّمنة والجمال تكادان تكونان مترادفتين؛ فالمرأة التي تزعم لنفسها ولو قليلا من جمال، لا بد أن تكون ممن يتعذر عليهن المشي إلا إذا سار إلى جانبيها عَبدَان، يسير كل منهما تحت ذراع ليكون لها دعامة؛ والجمال الكامل تبلغه المرأة إن ساوت بوزنها حِمل الجمل" ويقول "بريفو" Briffault : "إن معظم الهمج يؤثرون ما نظنه نحن من أقبح ما تتصف به المرأة، وأعني به الأثداء الطويلة المتدلية" (35)؛ ويقول "دارون": "إنه من المعلوم لنا جميعاً أن العَجز عند كثيرات من نساء الهوتنتوت يبرز بروزاً عجيباً ولا يشك "سير أندرو سمث" أبداً في أن هذه الخصيصة للعجيبة موضع إعجاب من الرجال، فلقد رأى ذات يوم امرأة هي عندهم من ربات الجمال، كانت من الضخامة في أردافها بحيث إذا ما أجلسوها على أرض منبسطة استحال عليها الوقوف إلا إذا زحفت زحفاً حتى دَنَت من سفح مائل.... ويروي لنا "بيرتُن" Burton عن أهل الصومال أن الرجال إذا ما أرادوا اختيار الزوجات، صفّوا النساء صفاً واختاروا من بينهن أكثرهن بروزاً في العجز؛ وليس أقبح في عيني الزنجي من المرأة النحيلة" (36).
لكن الرجل الطبيعي في أرجح الظن - يقيس الجمال بمقياس نفسه هو أكثر مما يقيسه بمعيار شكل المرأة، "فالأقربون - في الفن - أولى بالمعروف"؛ وقد لا يُصَدّقُ النساء ما نزعمه لهن من أن الرجال البدائيين والمحدثين يأخذهم العُجبُ بأنفسهم سواء بسواء؛ فالذكر لا الأنثى في الشعوب الساذجة - كما هو الحال في الحيوان - هو الذي يتزين ويُنزل بجسده الجروح؛ سعياً وراء الجمال، فيقول "بُنوِك" Bonwick: "إن التَزين في استراليا يكاد يكون كله احتكاراً للرجل" وهكذا قُل في مالنيزيا وغينا الجديدة وكالدونيا الجديدة وبريطانيا الجديدة، وهانوفر الجديدة وهنود أمريكا الشمالية(37) وفي بعض القبائل يستنفذ تجميل الجسم وقتاً أكثر مما تستهلكه أية مهمة أخرى من
صفحة رقم : 156
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
مهام النهار(38) وواضح أن أول صورة للفن هي صبغ الجسم صبغة صناعية وهم يصبغون الجسم ليجذبوا النساء حيناً وليخيفوا الأعداء حيناً آخر؛ والرجل من أهل استراليا الوطنيين - كأحدث فاتنة من فاتنات أمريكا اليوم - كان دائماً يحمل معه مقداراً من الصبغة البيضاء والحمراء والصفراء، ليُصلح من جماله حيناً بعد حين، فإذا ما أوشكت أصباغه على النفاذ، قام برحلات بعيدة خطرة ليزود نفسه منها بمقدار جديد؛ وهو يكتفي في الأيام العادية ببقع من اللون على خديه وكتفيه وصدره، ولكن كان في مناسبات الأعياد، يُحِسُّ ما يحسّه العُريان من خجل إذا لم يصبغ جسده كله من أعلاه إلى أسفله(39).
في بعض القبائل يحتكر الرجال لأنفسهم حق صبغ الجسم، وفي قبائل أخرى يحَّرم على النساء المتزوجات أن يصبغن أعناقهن(40)؛ لكن ما لبث النساء أن ظفرن لأنفسهن بفن التجمل بالأصباغ، وهو أقدم الفنون جميعاً؛ فلما وقف "كابتن كوك" Captain Cook في زيلندة الجديدة حيناً، لاحظ أن بحارته حين عادوا إليه من جولاتهم على الشاطئ، كانوا حُمرَ الأنوف أو صُفرها بأصباغ صناعية، ذلك لأن أنوفهم قد لصقت بها الأصباغ التي كانت الجميلات من أهل ذلك الإقليم قد طلين بها أجسادهن(41)؛ ونساء "الفَلاّتة" Fellatah في إفريقية الوسطى ينفقن عدة ساعات كل يوم في تجميل أنفسهن: فهن يصبغن أصابع أيديهن وأرجلهن صبغة أرجوانية بأن يلففنها طوال الليل في أوراق الحناء، ويصبغن أسنانهن بالأزرق والأصفر والأرجواني على هذا التوالي؛ ويطلين شعرهِن طلاء أزرق، ويخططن جفونهن بالكحل(42) وكل سيدة من قبيلة "بُنجو" تحمل في حقيبة أدوات التجميل، ملقطاً تنزع به الرموش والحواجب، ومشابك شعر على هيئة الرماح، وخواتم وأجراساً، وأزراراً ومشابك(43).
لكن السُّذج الأولين - مثل الإغريق أيام بركليز - ضاقوا صدراً لسرعة زوال هذه الأصباغ، فابتكروا الوشم والوصم والثيابَ أدواتٍ للتزين أدوم بقاء،
صفحة رقم : 157
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
ففي كثير من القبائل أسلم الرجال والنساء معاً أنفسهم للإبرة الصابغة وتحملوا في غير تململ حتى وشم الشفاه؛ ففي جريلنده تَشِمُ الأمهات بناتهن في سن مبكرة ليمهدن لهن الزواج عاجلا(44)؛ لكن الوشم في أغلب الحالات لم يكن له ما أراده الناس من وضوح وتأثير؛ لذلك طفق عدد من القبائل في كل قارة يَصِمُ الجسمَ بوصمات عميقة ليكونوا أجمل منظراً في أعين زملائهم، أو أبشع هيئة في أعين أعدائهم؛ فكما قال عنهم "ثيوفيل جوتييه" Theophil Gautier : "إنهم لما عزت عليهم الثياب ووسائل الزينة، زينوا جلودهم" (45)، فكانوا يجرحون أجسامهم بحجر الصوّان أو بقواقع المحار، ثم كثيراً ما يضعون في الجرح كرةً من الطين لتوسع من الوصمة؛ فأهالي "مضيق تورس" كانوا يجعلون بصماتهم شبيهة بشكل الضب أو التمساح أو السلحفاة(46)، ويقول "جيورج" Georg: "لست تجد من أجزاء الجسم جزءاً لم يجملوه أو يزينوه أو يشوهوه أو يصبغوه أو يحرقوه أو يشموه أو يصلحوه أو يبسطوه أو يقبضوه، مدفوعين إلى ذلك بالعجب بأنفسهم والرغبة في التجميل(47) فقبيلة "بوتوكودو" Butocudos استمدت اسمها هذا من خابور يغرزونه في الشفة السفلى وفي الأذنين حينما يكون الناشئ في سنته الثامنة، ثم ما ينفكون يستبدلون به خابوراً أكبر حتى تبلغ الفتحة اتساعاً طول قطره أربع بوصات(48)؛ والنساء الهوتنتوت يعملن على إطالة الشفرتين الصغيرتين حتى تبلغا طولا عظيما، بحيث يتكون منها ما يسمّى بـ "فوطة الهوتنتوت" التي تلقى عند رجالهم إعجاباً عظيما(49)، وكانت أقراط الآذان وأقراط الأنوف ضرورات لا غنى عنها؛ حتى لقد ذهب سكان "جبِسلندة" Gippsland إلى أن من يموت بغير قرط في أنفه سيلاقي في الآخرة عذاباً أليماً(50)؛ وكأني بالسيدة العصرية تقول عن ذلك كله إنه وحشية فظيعة، تقول هذا إذ هي تثقب أذنيها للأقراط، وتصبغ شفتيها وخديها، وتلقط شعرات حاجبيها، وتقيم أهداب جفنيها
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 158
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
و "تُبَدرُ" وجهها وعنقها وذراعها وتضغط قدميها؛ إن بَحّارنا الموشوم ليتحدث عن "الهمج" الذين رآهم في رحلاته حديث الرجل الرفيع يعطف على هؤلاء الأذنين؛ والطالب من أهل أوربا، يفزعه ما يحدثه البدائيون في أجسامهم من تشويه، لكنه مع ذلك يزهى بما عليه هو من وصمات يعدها علائم الشرف.
والغالب أن تكون الثياب في بدايتها ضرباً من الزينة، فهي عامل يعوق الاتصال الجنسي أو يشجع عليه، أكثر منها وقاية نافعة من البرد أو ستراً للعورة(51)؛ فقد كانت العادة عند قبيلة "كمبري" Cimbri أن يزحفوا على الثلج بأجسامهم عارية(52)، ولما أشفق "دارِون" على الفويجيين من عُريهم، أعطى أحدهم قطعة من القماش الأحمر ليتقي بها البرد لكن الرجل مزقها أشرطة، ووزعها على زملائه، فاستعملوها للزينة؛ فهم كما قال عنهم "كوك" إنهم منذ الأزل "قد رضوا لأنفسهم العُرى لكنهم ما زالوا يطمعون في الجمال" (53)، وكذلك حدث أن مزق نساء أورينوكو ما أعطاهن إياه الآباء الجزويت من ثياب، ولبستها أشرطة حول أعناقهن، قائلات في غير تردد "إنهن يستحين أن يلبسن الملابس" (54) ويصف كاتب قديم أهل البرازيل الأصليين بأنهم عراة الأجسام عادة، ثم يضيف إلى ذلك قوله: "وبعضهم الآن يلبس الثياب، لكنهم لا يقدرونها كثيراً حتى إنهم ليرتدونها على سبيل البدع أكثر مما يرتدونها التزاماً للاحتشام، أو يلبسونها لأنهم مأمورون بذلك... وإنك لتشهد ذلك فيمن يخرجون أحياناً من ديارهم، لا يرتدون من الثياب ما يغطي أجسامهم أبعد من سُرَّة البطن، أو هم يضيفون إلى ذلك طاقية على رءوسهم، مخلفين سائر الثياب في دُورهم" (55)؛ فلما زادت الثياب على كونها أداة للزينة، أصبحت علامة تدل على أن المرأة متزوجة ومخلصة لزوجها، أو استخدمت لإبراز قوام المرأة وجمالها؛ وفي معظم الحالات، ترى النساء البدائيات يتطلبن من الثياب ما تتطلبه النساء في العصور التي تَلَت، وهو ألا تكون الغاية تغطية العُرى، بل أن تزيد من فتنة
صفحة رقم : 159
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
أجسامهن أو توحي بها؛ إن كل شيء في تغير إلا المرأة والرجل.
وكلا الجنسين منذ البداية آثرا الزينة على الثياب؛ فالتجارة البدائية قلما تعنى بالضرورات، إنما هي تحصر نفسها عادة في مواد الزينة واللعب(56)؛ والأحجار الكريمة هي من أقدم عناصر المدنيَّة؛ فلقد وُجدت أصداف القواقع والأسنان معقودة في عقود للزينة، وُجدت في مقابر لبثت على وجه الدهر عشرين ألف عام"(57) ثم من البدايات الساذجة، سرعان ما تتطور أمثال هذه الحلي حتى تبلغ من ضخامة الحجم حداً بعيداً، وتلعب في الحياة دورا عظيما؛ فنساء قبيلة "غالا" كن يلبس خواتم بلغ وزنها ستة أرطال للمرأة الواحدة، وبعض نساء "الدنكا" يحملن نصف قنطار من الزينة؛ وحدث لجميلة من جميلات إفريقية أن لبست خواتم نحاسية حميت في حرارة الشمس بحيث اضطرت أن تستخدم خادماً خاصاً يظللها أو يُروّح عليها؛ وكانت ملكة "الوابونيا" Wabunias على نهر الكونغو تلبس حول عنقها إطار نحاسيا يزن عشرين رطلا؛ فكان لزاماً عليها إن ترقد حينا بعد حين لتستريح؛ أما النساء الفقيرات اللائى لم يسعفهن الحظ إلا بمقدار خفيف من المعادن الكريمة، فقد كن يحاكين في دقة مشية أولئك اللائى يحملن من تلك الزينة البشعة حملا ثقيلاً(58).
إذن فأول مصادر الفن قريب الشبه بزهو الحيوان الذكر بألوانه وريشه أيام التزاوج؛ والدافع إليها هو الرغبة في تجميل الجسم وتزيينه؛ وكما أن حب الإنسان لنفسه وحبه لعشيره من الجنس الآخر؛ إذا فاض عن القدر المطلوب، صَبَّ فيضه من الحب على الطبيعة، فكذلك الدوافع إلى التجميل ينتقل من العالم الخاص إلى الدنيا الخارجية؛ فتحاول النفس أن تعبر عن نفسها في أشياء موضوعية؛ متخذة في ذلك وسيلتي اللون والشكل؛ ولذا فالفن يبدأ حقيقة حين يبدأ الناس في تجميل الأشياء؛ ولعل أول ما تعلق به فن التجميل هو الخزف، فعجلة الخزَّاف - مثل الكتابة ومثل الدولة - هي وليدة العصور التاريخية؛ لكن البدائيين
صفحة رقم : 160
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
- أو على الأصح النساء البدائيات - حتى قبل هذه العجلة التي يستعملها الخزَّاف، استطعن أن يرتفعن بهذه الصناعة القديمة إلى مرحلة الفن، وأخرجن من الطين والماء وأصابعهن الماهرة صوراً لها اتساق يبعث على الدهشة؛ وإن أردت شاهدا فانظر إلى الخزف الذي صنعته قبيلة "بارونجا" Baronga في إفريقية الجنوبية(59) أو الذي صنعته قبيلة "بُويبلُو" من الهنود(60) Pueblo Indians.
والخزَّاف حين يزخرف سطح الآنية التي صنعها بزخارف ملونة، إنما هو بذلك يخلق فن التصوير، فالتصوير في أيدي البدائيين لم يكن بعد قد أصبح فنا مستقلا، بل كان وجوده متوقفاً على فن الخزف وصناعة التماثيل؛ والفطريون إنما يصنعون ألوانهم من الطين، وأهل "أندامان" Andamanes يصنعون الألوان بخلط المغرة "تراب حديدي" بالزيوت أو الشحوم(61)؛ واستخدموا مثل هذه الألوان في زخرفة الأسلحة والآلات والآنية والمباني؛ وكثير من القبائل الصائدة في إفريقية وأوقيانوسيا، كانت تصوّر على جدران كهوفها أو على الصخور المجاورة لها، تصاوير ناصعة لصنوف الحيوان التي أرادت صيدها(62).
ويجوز كذلك أن يكون الخزف وصناعته أصل النحت كما كان أصل التصوير؛ فتبيّن للخَّزاف أنه لا يستطيع فقط أن يصنع الأواني النافعة، بل في مقدوره كذلك أن يصور الأشخاص في تماثيل يستفاد منها تمائم للسحر، ثم بعدئذ أراد أن يصنع هذه الأشياء لتكون جمَالا في ذاتها؛ لقد نَحَتَ الإسكيمو قرون الوعل وعاج فيلة البحر تماثيل صغيرة للحيوان والإنسان(63)؛ وكذلك أراد البدائي أن يميز كوخه بعلامة، أو يميّز عمود الطوطم أو قبراً من القبور بتمثال صغير يدل على معبوده أو على مَيّته؛ فكان أول ما نحت من ذلك وجه على عمود، ثم نحت رأسا، ثم نحت العمود كله؛ ومن هذا التميز لقبور الآباء بتماثيل تصور الموتى، أصبح النحت فنا(64)؛ وعلى هذا النحو أقام سكان جزيرة إيستر القدامى تماثيل هائلة على قبور موتاهم، كل تمثال من حجر واحد، ولقد وجدنا عشرات من هذه
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
و "تُبَدرُ" وجهها وعنقها وذراعها وتضغط قدميها؛ إن بَحّارنا الموشوم ليتحدث عن "الهمج" الذين رآهم في رحلاته حديث الرجل الرفيع يعطف على هؤلاء الأذنين؛ والطالب من أهل أوربا، يفزعه ما يحدثه البدائيون في أجسامهم من تشويه، لكنه مع ذلك يزهى بما عليه هو من وصمات يعدها علائم الشرف.
والغالب أن تكون الثياب في بدايتها ضرباً من الزينة، فهي عامل يعوق الاتصال الجنسي أو يشجع عليه، أكثر منها وقاية نافعة من البرد أو ستراً للعورة(51)؛ فقد كانت العادة عند قبيلة "كمبري" Cimbri أن يزحفوا على الثلج بأجسامهم عارية(52)، ولما أشفق "دارِون" على الفويجيين من عُريهم، أعطى أحدهم قطعة من القماش الأحمر ليتقي بها البرد لكن الرجل مزقها أشرطة، ووزعها على زملائه، فاستعملوها للزينة؛ فهم كما قال عنهم "كوك" إنهم منذ الأزل "قد رضوا لأنفسهم العُرى لكنهم ما زالوا يطمعون في الجمال" (53)، وكذلك حدث أن مزق نساء أورينوكو ما أعطاهن إياه الآباء الجزويت من ثياب، ولبستها أشرطة حول أعناقهن، قائلات في غير تردد "إنهن يستحين أن يلبسن الملابس" (54) ويصف كاتب قديم أهل البرازيل الأصليين بأنهم عراة الأجسام عادة، ثم يضيف إلى ذلك قوله: "وبعضهم الآن يلبس الثياب، لكنهم لا يقدرونها كثيراً حتى إنهم ليرتدونها على سبيل البدع أكثر مما يرتدونها التزاماً للاحتشام، أو يلبسونها لأنهم مأمورون بذلك... وإنك لتشهد ذلك فيمن يخرجون أحياناً من ديارهم، لا يرتدون من الثياب ما يغطي أجسامهم أبعد من سُرَّة البطن، أو هم يضيفون إلى ذلك طاقية على رءوسهم، مخلفين سائر الثياب في دُورهم" (55)؛ فلما زادت الثياب على كونها أداة للزينة، أصبحت علامة تدل على أن المرأة متزوجة ومخلصة لزوجها، أو استخدمت لإبراز قوام المرأة وجمالها؛ وفي معظم الحالات، ترى النساء البدائيات يتطلبن من الثياب ما تتطلبه النساء في العصور التي تَلَت، وهو ألا تكون الغاية تغطية العُرى، بل أن تزيد من فتنة
صفحة رقم : 159
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
أجسامهن أو توحي بها؛ إن كل شيء في تغير إلا المرأة والرجل.
وكلا الجنسين منذ البداية آثرا الزينة على الثياب؛ فالتجارة البدائية قلما تعنى بالضرورات، إنما هي تحصر نفسها عادة في مواد الزينة واللعب(56)؛ والأحجار الكريمة هي من أقدم عناصر المدنيَّة؛ فلقد وُجدت أصداف القواقع والأسنان معقودة في عقود للزينة، وُجدت في مقابر لبثت على وجه الدهر عشرين ألف عام"(57) ثم من البدايات الساذجة، سرعان ما تتطور أمثال هذه الحلي حتى تبلغ من ضخامة الحجم حداً بعيداً، وتلعب في الحياة دورا عظيما؛ فنساء قبيلة "غالا" كن يلبس خواتم بلغ وزنها ستة أرطال للمرأة الواحدة، وبعض نساء "الدنكا" يحملن نصف قنطار من الزينة؛ وحدث لجميلة من جميلات إفريقية أن لبست خواتم نحاسية حميت في حرارة الشمس بحيث اضطرت أن تستخدم خادماً خاصاً يظللها أو يُروّح عليها؛ وكانت ملكة "الوابونيا" Wabunias على نهر الكونغو تلبس حول عنقها إطار نحاسيا يزن عشرين رطلا؛ فكان لزاماً عليها إن ترقد حينا بعد حين لتستريح؛ أما النساء الفقيرات اللائى لم يسعفهن الحظ إلا بمقدار خفيف من المعادن الكريمة، فقد كن يحاكين في دقة مشية أولئك اللائى يحملن من تلك الزينة البشعة حملا ثقيلاً(58).
إذن فأول مصادر الفن قريب الشبه بزهو الحيوان الذكر بألوانه وريشه أيام التزاوج؛ والدافع إليها هو الرغبة في تجميل الجسم وتزيينه؛ وكما أن حب الإنسان لنفسه وحبه لعشيره من الجنس الآخر؛ إذا فاض عن القدر المطلوب، صَبَّ فيضه من الحب على الطبيعة، فكذلك الدوافع إلى التجميل ينتقل من العالم الخاص إلى الدنيا الخارجية؛ فتحاول النفس أن تعبر عن نفسها في أشياء موضوعية؛ متخذة في ذلك وسيلتي اللون والشكل؛ ولذا فالفن يبدأ حقيقة حين يبدأ الناس في تجميل الأشياء؛ ولعل أول ما تعلق به فن التجميل هو الخزف، فعجلة الخزَّاف - مثل الكتابة ومثل الدولة - هي وليدة العصور التاريخية؛ لكن البدائيين
صفحة رقم : 160
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
- أو على الأصح النساء البدائيات - حتى قبل هذه العجلة التي يستعملها الخزَّاف، استطعن أن يرتفعن بهذه الصناعة القديمة إلى مرحلة الفن، وأخرجن من الطين والماء وأصابعهن الماهرة صوراً لها اتساق يبعث على الدهشة؛ وإن أردت شاهدا فانظر إلى الخزف الذي صنعته قبيلة "بارونجا" Baronga في إفريقية الجنوبية(59) أو الذي صنعته قبيلة "بُويبلُو" من الهنود(60) Pueblo Indians.
والخزَّاف حين يزخرف سطح الآنية التي صنعها بزخارف ملونة، إنما هو بذلك يخلق فن التصوير، فالتصوير في أيدي البدائيين لم يكن بعد قد أصبح فنا مستقلا، بل كان وجوده متوقفاً على فن الخزف وصناعة التماثيل؛ والفطريون إنما يصنعون ألوانهم من الطين، وأهل "أندامان" Andamanes يصنعون الألوان بخلط المغرة "تراب حديدي" بالزيوت أو الشحوم(61)؛ واستخدموا مثل هذه الألوان في زخرفة الأسلحة والآلات والآنية والمباني؛ وكثير من القبائل الصائدة في إفريقية وأوقيانوسيا، كانت تصوّر على جدران كهوفها أو على الصخور المجاورة لها، تصاوير ناصعة لصنوف الحيوان التي أرادت صيدها(62).
ويجوز كذلك أن يكون الخزف وصناعته أصل النحت كما كان أصل التصوير؛ فتبيّن للخَّزاف أنه لا يستطيع فقط أن يصنع الأواني النافعة، بل في مقدوره كذلك أن يصور الأشخاص في تماثيل يستفاد منها تمائم للسحر، ثم بعدئذ أراد أن يصنع هذه الأشياء لتكون جمَالا في ذاتها؛ لقد نَحَتَ الإسكيمو قرون الوعل وعاج فيلة البحر تماثيل صغيرة للحيوان والإنسان(63)؛ وكذلك أراد البدائي أن يميز كوخه بعلامة، أو يميّز عمود الطوطم أو قبراً من القبور بتمثال صغير يدل على معبوده أو على مَيّته؛ فكان أول ما نحت من ذلك وجه على عمود، ثم نحت رأسا، ثم نحت العمود كله؛ ومن هذا التميز لقبور الآباء بتماثيل تصور الموتى، أصبح النحت فنا(64)؛ وعلى هذا النحو أقام سكان جزيرة إيستر القدامى تماثيل هائلة على قبور موتاهم، كل تمثال من حجر واحد، ولقد وجدنا عشرات من هذه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 161
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
التماثيل يبلغ كثير منها عشرين قدماً في ارتفاعه، وبعضها تراه الآن سطيح الأرض مهشما، كان ارتفاعه لا يقل عن ستين قدماً.
لكن كيف بدأ فن العمارة؟ إننا لا نكاد نستطيع إطلاق هذا الاسم الضخم على بناء الكوخ البدائي، لأن العمارة ليست مجرد بناء، لكنها بناء جميل؛ وإنما بدأت العمارة فناً حين فكّر رجل أو فكّرت امرأة لأول مرة أن تقيم بناء للمظهر وللنفع معاً: وربما اتجه الإنسان بهذه الرغبة في خلع الجمال والفخامة على البناء، إلى المقابر قبل أن يتجه بها إلى الدُّور؛ وبينما تطور العمود التذكاري الذي أقيم عند المقبرة إلى فن التماثيل، فقد تطور القبر نفسه إلى المعبد، ذلك لأن الموتى عند البدائيين كانوا أهم وأقوى من الأحياء، هذا فضلاً عن أن الموتى مستقرون في مكان واحد، بينما الأحياء يتجولون هنا وهناك بحيث لا تنفعهم الدُّور الدائمة.
ولقد وجد الإنسان لذة في الإيقاع منذ زمان بعيد، وربما كان ذلك قبل أن يفكر في نحت الأشياء أو بناء المقابر بزمن طويل؛ وأخذ يُطَوّرُ صياح الحيوان وتغريده؛ وقفزه ونَقرَه، حتى جعل منه غناء ورقصاً؛ وربما أنشد - مثل الحيوان - قبل أن يتعلم الكلام(65) ورقص حين أنشد الغناء؛ والواقع أنك لن تجد فنا يميز البدائيين ويعبر عن نفوسهم كما يميزهم الرقص ويعبّر، ولقد طَوَّرَه من سذاجة أولّية إلى تركيب وتعقيد أين منهما رقص المتحضرين؛ ونَوَّعَهُ صوراً شتى تُعَدُّ بالمئات؛ فالأعياد الكبرى عند القبائل، كانت تحتفل أولاً بالرقص في صورتيه: الجمعي والفردي؛ وكذلك كانت الحروب الكبرى تبدأ بخطوات وأناشيد عسكرية؛ والمحافل الكبرى في الدين كانت مزيجاً من غناء ومسرحية ورقص؛ إنما يبدو لنا ضرباً من اللعب، قد كان على الأرجح أموراً جدية للإنسان الأول؛ فهم حين كانوا يرقصون، لم يريدوا بذلك أن يعبروا عن أنفسهم وكفى بل قصدوا إلى الإيحاء إلى الطبيعة وإلى الآلهة، مثال ذلك استحثاث
صفحة رقم : 162
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
الطبيعة على وفرة النسل كانوا يؤدونه أساساً بالتنويم الذي ينتج عن الرقص؛ ويرى "سبنسر" أن الرقص يرجع في أصله إلى ترحيب ذي طقوس برئيس عاد من الحروب ظافراً؛ أما "فرويد" فرأيه أن الرقص أصله التعبير الطبيعي عن الشهوة الحسية، وفن الجماعة في إثارة الرغبة الجنسية؛ فلو كان لنا أن نقول - غير متجاوزين هذه الآراء من حيث ضيق النظر - بأن الرقص إنما نشأ من الطقوس المقدسة وألوان العربدة، ثم جمعنا النظريات الثلاث التي أسلفنا ذكرها في نظرية واحدة؛ كان لنا بذلك فكرة عن أصل الرقص هي أدق ما يمكننا الوصول إليه اليوم.
ولنا أن نقول بأنه عن الرقص نشأ العزف الموسيقي على الآلات كما نشأت المسرحية؛ فالعزف الموسيقي - فيما يبدو - قد نشأ عن رغبة الإنسان في توقيع الرقص توقيعاً له فواصل تحدده، وتصاحبه أصوات تقويّة؛ وعن رغبته كذلك في زيادة التهيج اللازم للشعور الوطني أو الجنسي بفعل صرخات أو نغمات موزونة؛ وكانت آلات العزف محدودة المدى والأداء، ولكنها من حيث الأنواع لا تكاد تقع تحت الحصر؛ فقد بذل الإنسان كل ما وهبته الطبيعة من نبوغ في صناعة الأبواق بأنواعها والطبول والشخاشيخ والمصفقات والنايات وغيرها من آلات الموسيقى، صنعها من قرون الحيوان وجلودها وأصدافها وعاجها، ومن النحاس والخيزران والخشب؛ ثم زخرف الإنسان هذه الآلات بالألوان والنقوش الدقيقة؛ ومن وتر القوس قديماً نشأت عشرات الآلات، ومن القيثارة البدائية إلى الكمان والبِيان الحديثين؛ ونشأ بين القبائل منشدون محترفون كما نشأ بينهم الراقصون المحترفون، وتطور السُّلَّم الموسيقي من غموض وخفوت حتى أصبح على ما هو عليه الآن(66).
ومن الموسيقى والغناء والرقص مجتمعة، خَلَقَ لنا "الهمجي" المسرحية والأوبرا، ذلك لأن الرقص البدائي كان في كثير من الأحيان يختص بالمحاكاة،
صفحة رقم : 163
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
فقد كان يحاكي حركات الحيوان والإنسان ولا يجاوز هذه المرحلة، ثم انتقل إلى أداء يحاكي به الأفعال والحوادث؛ فمثلا بعض القبائل الأسترالية كانت تقوم برقصة جنسية حول فجوة في الأرض يوشّون حوافيها بالشجيرات ليمثلوا بها فرج المرأة وبعد أن يحركوا أجسامهم حركات نشوانة غَزِلَة، يطعنون برماحهم طعنات رمزية في الفجوة؛ وقبائل استراليا الشمالية الغربية، كانت تمثل مسرحية الموت والبعث لا تختلف إلا في درجة البساطة عن مسرحية اللغز في القرون الوسطى والمسرحية العاطفية في العصر الحديث؛ فكنت ترى الراقصين يهبطون إلى الأرض في حركة بطيئة، ثم يغطون وجوههم بغصون يحملونها، تمثيلاً للموت؛ حتى إذا ما أشار لهم الرئيس، نهضوا نهوضاً مباغتاً وهم يرقصون ويغنون رقصا وغناء عنيفين يَدُلون بهما على فوزهم الذي أحرزوه، ويعلنون بعث الروح(67) وعلى هذا النحو أو ما يشبهه، كانوا يقومون بمئات الأوضاع في التمثيل الصامت، ليصفوا بها أهم الأحداث في تاريخ القبيلة، أو أهم الأفعال في حياة الفرد؛ فلما اختفى التوقيع من هذا التمثيل، تحول الرقص إلى مسرحية، وبهذا وُلدَت لنا صورة من أعظم صور الفنون.
بهذه الوسائل خلق لنا البدائيون السابقون لعصر الحضارة صور الحضارة وأسسها؛ فإذا ما نظرنا إلى الوراء نستعرض هذا الوصف الموجز للثقافة البدائية، وجدنا هناك كل عنصر من عناصر المدنية إلا عنصرين: هما الكتابة والدولة، فكل أوضاع الحياة الاقتصادية وُضعت لنا أصولهُا في هذه المرحلة: الصيد والسّماكة، الرعي والزراعة، النقل والبناء، الصناعة والتجارة وشئون المال؛ وكذلك كل الأنظمة السياسية البسيطة نبتت جذورها في هذه المرحلة: العشيرة والأسرة، القرية والجماعة والقبيلة؛ وكذلك ترى الحرية والنظام - هذان المحوران المتضادان اللذان تدور حولهما المدنيَّة كلها - قد تلاءما وتوافقا لأول مرة في هذه المرحلة، فبدأ حينئذ القانون وبدأت العدالة؛ وقامت أسس الأخلاق:
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
التماثيل يبلغ كثير منها عشرين قدماً في ارتفاعه، وبعضها تراه الآن سطيح الأرض مهشما، كان ارتفاعه لا يقل عن ستين قدماً.
لكن كيف بدأ فن العمارة؟ إننا لا نكاد نستطيع إطلاق هذا الاسم الضخم على بناء الكوخ البدائي، لأن العمارة ليست مجرد بناء، لكنها بناء جميل؛ وإنما بدأت العمارة فناً حين فكّر رجل أو فكّرت امرأة لأول مرة أن تقيم بناء للمظهر وللنفع معاً: وربما اتجه الإنسان بهذه الرغبة في خلع الجمال والفخامة على البناء، إلى المقابر قبل أن يتجه بها إلى الدُّور؛ وبينما تطور العمود التذكاري الذي أقيم عند المقبرة إلى فن التماثيل، فقد تطور القبر نفسه إلى المعبد، ذلك لأن الموتى عند البدائيين كانوا أهم وأقوى من الأحياء، هذا فضلاً عن أن الموتى مستقرون في مكان واحد، بينما الأحياء يتجولون هنا وهناك بحيث لا تنفعهم الدُّور الدائمة.
ولقد وجد الإنسان لذة في الإيقاع منذ زمان بعيد، وربما كان ذلك قبل أن يفكر في نحت الأشياء أو بناء المقابر بزمن طويل؛ وأخذ يُطَوّرُ صياح الحيوان وتغريده؛ وقفزه ونَقرَه، حتى جعل منه غناء ورقصاً؛ وربما أنشد - مثل الحيوان - قبل أن يتعلم الكلام(65) ورقص حين أنشد الغناء؛ والواقع أنك لن تجد فنا يميز البدائيين ويعبر عن نفوسهم كما يميزهم الرقص ويعبّر، ولقد طَوَّرَه من سذاجة أولّية إلى تركيب وتعقيد أين منهما رقص المتحضرين؛ ونَوَّعَهُ صوراً شتى تُعَدُّ بالمئات؛ فالأعياد الكبرى عند القبائل، كانت تحتفل أولاً بالرقص في صورتيه: الجمعي والفردي؛ وكذلك كانت الحروب الكبرى تبدأ بخطوات وأناشيد عسكرية؛ والمحافل الكبرى في الدين كانت مزيجاً من غناء ومسرحية ورقص؛ إنما يبدو لنا ضرباً من اللعب، قد كان على الأرجح أموراً جدية للإنسان الأول؛ فهم حين كانوا يرقصون، لم يريدوا بذلك أن يعبروا عن أنفسهم وكفى بل قصدوا إلى الإيحاء إلى الطبيعة وإلى الآلهة، مثال ذلك استحثاث
صفحة رقم : 162
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
الطبيعة على وفرة النسل كانوا يؤدونه أساساً بالتنويم الذي ينتج عن الرقص؛ ويرى "سبنسر" أن الرقص يرجع في أصله إلى ترحيب ذي طقوس برئيس عاد من الحروب ظافراً؛ أما "فرويد" فرأيه أن الرقص أصله التعبير الطبيعي عن الشهوة الحسية، وفن الجماعة في إثارة الرغبة الجنسية؛ فلو كان لنا أن نقول - غير متجاوزين هذه الآراء من حيث ضيق النظر - بأن الرقص إنما نشأ من الطقوس المقدسة وألوان العربدة، ثم جمعنا النظريات الثلاث التي أسلفنا ذكرها في نظرية واحدة؛ كان لنا بذلك فكرة عن أصل الرقص هي أدق ما يمكننا الوصول إليه اليوم.
ولنا أن نقول بأنه عن الرقص نشأ العزف الموسيقي على الآلات كما نشأت المسرحية؛ فالعزف الموسيقي - فيما يبدو - قد نشأ عن رغبة الإنسان في توقيع الرقص توقيعاً له فواصل تحدده، وتصاحبه أصوات تقويّة؛ وعن رغبته كذلك في زيادة التهيج اللازم للشعور الوطني أو الجنسي بفعل صرخات أو نغمات موزونة؛ وكانت آلات العزف محدودة المدى والأداء، ولكنها من حيث الأنواع لا تكاد تقع تحت الحصر؛ فقد بذل الإنسان كل ما وهبته الطبيعة من نبوغ في صناعة الأبواق بأنواعها والطبول والشخاشيخ والمصفقات والنايات وغيرها من آلات الموسيقى، صنعها من قرون الحيوان وجلودها وأصدافها وعاجها، ومن النحاس والخيزران والخشب؛ ثم زخرف الإنسان هذه الآلات بالألوان والنقوش الدقيقة؛ ومن وتر القوس قديماً نشأت عشرات الآلات، ومن القيثارة البدائية إلى الكمان والبِيان الحديثين؛ ونشأ بين القبائل منشدون محترفون كما نشأ بينهم الراقصون المحترفون، وتطور السُّلَّم الموسيقي من غموض وخفوت حتى أصبح على ما هو عليه الآن(66).
ومن الموسيقى والغناء والرقص مجتمعة، خَلَقَ لنا "الهمجي" المسرحية والأوبرا، ذلك لأن الرقص البدائي كان في كثير من الأحيان يختص بالمحاكاة،
صفحة رقم : 163
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
فقد كان يحاكي حركات الحيوان والإنسان ولا يجاوز هذه المرحلة، ثم انتقل إلى أداء يحاكي به الأفعال والحوادث؛ فمثلا بعض القبائل الأسترالية كانت تقوم برقصة جنسية حول فجوة في الأرض يوشّون حوافيها بالشجيرات ليمثلوا بها فرج المرأة وبعد أن يحركوا أجسامهم حركات نشوانة غَزِلَة، يطعنون برماحهم طعنات رمزية في الفجوة؛ وقبائل استراليا الشمالية الغربية، كانت تمثل مسرحية الموت والبعث لا تختلف إلا في درجة البساطة عن مسرحية اللغز في القرون الوسطى والمسرحية العاطفية في العصر الحديث؛ فكنت ترى الراقصين يهبطون إلى الأرض في حركة بطيئة، ثم يغطون وجوههم بغصون يحملونها، تمثيلاً للموت؛ حتى إذا ما أشار لهم الرئيس، نهضوا نهوضاً مباغتاً وهم يرقصون ويغنون رقصا وغناء عنيفين يَدُلون بهما على فوزهم الذي أحرزوه، ويعلنون بعث الروح(67) وعلى هذا النحو أو ما يشبهه، كانوا يقومون بمئات الأوضاع في التمثيل الصامت، ليصفوا بها أهم الأحداث في تاريخ القبيلة، أو أهم الأفعال في حياة الفرد؛ فلما اختفى التوقيع من هذا التمثيل، تحول الرقص إلى مسرحية، وبهذا وُلدَت لنا صورة من أعظم صور الفنون.
بهذه الوسائل خلق لنا البدائيون السابقون لعصر الحضارة صور الحضارة وأسسها؛ فإذا ما نظرنا إلى الوراء نستعرض هذا الوصف الموجز للثقافة البدائية، وجدنا هناك كل عنصر من عناصر المدنية إلا عنصرين: هما الكتابة والدولة، فكل أوضاع الحياة الاقتصادية وُضعت لنا أصولهُا في هذه المرحلة: الصيد والسّماكة، الرعي والزراعة، النقل والبناء، الصناعة والتجارة وشئون المال؛ وكذلك كل الأنظمة السياسية البسيطة نبتت جذورها في هذه المرحلة: العشيرة والأسرة، القرية والجماعة والقبيلة؛ وكذلك ترى الحرية والنظام - هذان المحوران المتضادان اللذان تدور حولهما المدنيَّة كلها - قد تلاءما وتوافقا لأول مرة في هذه المرحلة، فبدأ حينئذ القانون وبدأت العدالة؛ وقامت أسس الأخلاق:
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 164
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
تدريب الأطفال وتنظيم الجنسين: وتلقين الشرف والحشمة وقواعد السلوك والولاء؛ وكذلك وضعت أسس الدين؛ واستخدمت آماله ومخاوفه في تأييد الأخلاق وتدعيم المجتمع؛ وتطور الكلام إلى لغات معقدة، وظهرت الجراحة وظهر الطب، وبَدَت بوادر متواضعة للعلم والأدب والفن؛ وفوق هذا كله كانت هذه المرحلة صورة لعهد تم فيه إبداع عجيب، فنظام يُخلق من فوضى، وطريق بعد طريق يُشَقُّ من حياة الحيوان لينتهي إلى الإنسان الحكيم؛ فبغير هؤلاء "الهمج" وما أنفقوه من مائة ألف عام في تجريب وتحسُّس، لما كتُب للمدنيَّة النهوض؛ فنحن مَدِينون لهم بكل شيء تقريباً - كما يرث اليافع المحظوظ، أو إن شئت فقل كذلك إنه اليافع المتحلّل، كما يرث هذا اليافع سبيله إلى الثقافة والأمن والدّعة، من أسلاف أمّيّين وَرَّثوه ما ورَّثوه بكدحهم الطويل.
صفحة رقم : 165
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري القديم
الباب السادس
بدايات المدنية فيما قبل التاريخ
الفصل الأول
ثقافة العصر الحجري القديم
الغاية من دراسة ما قبل التاريخ - فتنة الدراسة الأثرية
إننا في حديثنا السابق، لن نلتزم الدقة في الحديث، فهذه الثقافات البدائية التي عرضناها كوسيلة لدراسة عناصر المدنيَّة، لم تكن بالضرورة الأصول التي تفرعت عنها مدنيَّتنا؛ فليس ما يمنع أن تكون بقايا متحللّةً لثقافات أعلى تدهورت حين تحركت زعامة البشر في إثر الثلوج التي كانت تنزاح عن صدر الأرض، فانتقلت من المدارين إلى المنطقة الشمالية المعتدلة، ولقد حاولنا أن نفهم كيف تنشأ المدنيَّة بصفة عامة وكيف يتم تشكيلها؛ ولا يزال أمامنا أن نتعقب أصول مدنيتنا الخاصة فيما قبل التاريخ ، ونحب الآن أن نبحث بحثاً موجزاً- لأن مجال هذا البحث لا يمس أغراضنا إلا من هوامشها- فنتعقب الخطوات التي خطاها الإنسان قبل التاريخ، ليمهد السبيل إلى المدنيَّة التي عرفها التاريخ؛ كيف أصبح إنسان الغابة أو إنسان الكهف هو المعماري المصري، أو الفلكي البابلي، أو النبي العبري، أو الحاكم الفارسيّ، أو الشاعر اليوناني،
صفحة رقم : 166
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري القديم
أو المهندس الروماني، أو القديس الهندي، أو الفنان الياباني، أو الحكيم الصيني؛ لا بد لنا أن نسلك سبيلنا من علم الأجناس البشرية- عن طريق علم الآثار- لننتهي إلى التاريخ.
إن الباحثين ليملأون بطاح الأرض كلها ينقبونها بحثاً: طائفة تريد الذهب، وطائفة تريد الفضة، وثالثة تنشد الحديد، ورابعة تسعى وراء الفحم، وكثيرون إلى جانب هؤلاء يطلبون المعرفة؛ فيالها من مهمة عجيبة هذه التي يضطلع بها مَن يستخرجون آلات العصر الحجري من جوف الأرض عند ضفاف السوم، ويدرسون بأعناق مشرئبة الصور الناصعة المرسومة على أسقف الكهوف من عهد ما قبل التاريخ، ويخرجون جماجم قديمة من مدافنها عند "تشوكوتين" Chou Kou Tien ويكشفون عن المدائن الدفينة في "موهنجودارو" Mohengo-daroأو "يقطان" Yucaton؛ وينقلون الأنقاض في سلال تحملها القوافل في مقابر المصريين التي استنزل أصحابها اللعنة على نابشيها، وينفضون التراب عن قصور "مينوس" و "بريام" ويزيلون الغطاء عن "برسوبوليس" ويحفرون الأرض في إفريقية حفراً ليجدوا بقية من قرطاجنة، وينقذون من ثنايا الغابات معابد "أنجور" العظيمة! لقد عثر في فرنسا "جاك بوشيه دي برت" في سنة 1839 على أول أثر من الصوّان مما خلَّفه العصر الحجري؛ ولبث العالم يسخر منه تسعة أعوام كاملة، لأنه كان في رأي العالم عندئذ مخدوعاً؛ وفي سنة 1872 أزال "شليمان"- بماله الخاص، ويوشك أن يكون قد أعتمد على يديه دون غيرهما في ذلك- أزال التراب عن أحداث مدائن طروادة وإنها لكثيرة؛ لكن العالم كله ابتسم له ابتسامة المرتاب؛ ولعل التاريخ لم يشهد من قرونه قرناً اهتم أهله بالتاريخ كالقرن الذي تلا رحلة شامبليون الشاب في صحبة نابليون الشاب إلى مصر (عام 1798) وعاد نابليون من رحلته خالي الوفاض؛
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> العناصر العقلية في المدنية -> الفن
تدريب الأطفال وتنظيم الجنسين: وتلقين الشرف والحشمة وقواعد السلوك والولاء؛ وكذلك وضعت أسس الدين؛ واستخدمت آماله ومخاوفه في تأييد الأخلاق وتدعيم المجتمع؛ وتطور الكلام إلى لغات معقدة، وظهرت الجراحة وظهر الطب، وبَدَت بوادر متواضعة للعلم والأدب والفن؛ وفوق هذا كله كانت هذه المرحلة صورة لعهد تم فيه إبداع عجيب، فنظام يُخلق من فوضى، وطريق بعد طريق يُشَقُّ من حياة الحيوان لينتهي إلى الإنسان الحكيم؛ فبغير هؤلاء "الهمج" وما أنفقوه من مائة ألف عام في تجريب وتحسُّس، لما كتُب للمدنيَّة النهوض؛ فنحن مَدِينون لهم بكل شيء تقريباً - كما يرث اليافع المحظوظ، أو إن شئت فقل كذلك إنه اليافع المتحلّل، كما يرث هذا اليافع سبيله إلى الثقافة والأمن والدّعة، من أسلاف أمّيّين وَرَّثوه ما ورَّثوه بكدحهم الطويل.
صفحة رقم : 165
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري القديم
الباب السادس
بدايات المدنية فيما قبل التاريخ
الفصل الأول
ثقافة العصر الحجري القديم
الغاية من دراسة ما قبل التاريخ - فتنة الدراسة الأثرية
إننا في حديثنا السابق، لن نلتزم الدقة في الحديث، فهذه الثقافات البدائية التي عرضناها كوسيلة لدراسة عناصر المدنيَّة، لم تكن بالضرورة الأصول التي تفرعت عنها مدنيَّتنا؛ فليس ما يمنع أن تكون بقايا متحللّةً لثقافات أعلى تدهورت حين تحركت زعامة البشر في إثر الثلوج التي كانت تنزاح عن صدر الأرض، فانتقلت من المدارين إلى المنطقة الشمالية المعتدلة، ولقد حاولنا أن نفهم كيف تنشأ المدنيَّة بصفة عامة وكيف يتم تشكيلها؛ ولا يزال أمامنا أن نتعقب أصول مدنيتنا الخاصة فيما قبل التاريخ ، ونحب الآن أن نبحث بحثاً موجزاً- لأن مجال هذا البحث لا يمس أغراضنا إلا من هوامشها- فنتعقب الخطوات التي خطاها الإنسان قبل التاريخ، ليمهد السبيل إلى المدنيَّة التي عرفها التاريخ؛ كيف أصبح إنسان الغابة أو إنسان الكهف هو المعماري المصري، أو الفلكي البابلي، أو النبي العبري، أو الحاكم الفارسيّ، أو الشاعر اليوناني،
صفحة رقم : 166
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري القديم
أو المهندس الروماني، أو القديس الهندي، أو الفنان الياباني، أو الحكيم الصيني؛ لا بد لنا أن نسلك سبيلنا من علم الأجناس البشرية- عن طريق علم الآثار- لننتهي إلى التاريخ.
إن الباحثين ليملأون بطاح الأرض كلها ينقبونها بحثاً: طائفة تريد الذهب، وطائفة تريد الفضة، وثالثة تنشد الحديد، ورابعة تسعى وراء الفحم، وكثيرون إلى جانب هؤلاء يطلبون المعرفة؛ فيالها من مهمة عجيبة هذه التي يضطلع بها مَن يستخرجون آلات العصر الحجري من جوف الأرض عند ضفاف السوم، ويدرسون بأعناق مشرئبة الصور الناصعة المرسومة على أسقف الكهوف من عهد ما قبل التاريخ، ويخرجون جماجم قديمة من مدافنها عند "تشوكوتين" Chou Kou Tien ويكشفون عن المدائن الدفينة في "موهنجودارو" Mohengo-daroأو "يقطان" Yucaton؛ وينقلون الأنقاض في سلال تحملها القوافل في مقابر المصريين التي استنزل أصحابها اللعنة على نابشيها، وينفضون التراب عن قصور "مينوس" و "بريام" ويزيلون الغطاء عن "برسوبوليس" ويحفرون الأرض في إفريقية حفراً ليجدوا بقية من قرطاجنة، وينقذون من ثنايا الغابات معابد "أنجور" العظيمة! لقد عثر في فرنسا "جاك بوشيه دي برت" في سنة 1839 على أول أثر من الصوّان مما خلَّفه العصر الحجري؛ ولبث العالم يسخر منه تسعة أعوام كاملة، لأنه كان في رأي العالم عندئذ مخدوعاً؛ وفي سنة 1872 أزال "شليمان"- بماله الخاص، ويوشك أن يكون قد أعتمد على يديه دون غيرهما في ذلك- أزال التراب عن أحداث مدائن طروادة وإنها لكثيرة؛ لكن العالم كله ابتسم له ابتسامة المرتاب؛ ولعل التاريخ لم يشهد من قرونه قرناً اهتم أهله بالتاريخ كالقرن الذي تلا رحلة شامبليون الشاب في صحبة نابليون الشاب إلى مصر (عام 1798) وعاد نابليون من رحلته خالي الوفاض؛
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 167
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري القديم
أما شامبليون فقد عاد وفي قبضته مصر بأسرها، ماضيها وحاضرها؛ ومنذ ذلك الحين، أخذ كل جيل يستكشف مدنيات جديدة وثقافات جديدة، ويرجع خطوة وراء خطوة بحدود معرفة الإنسان لتطوره؛ فلن تجد جوانب كثيرة من حياة هذا النوع البشري السافك للدماء، أجمل من هذا الشغف الشريف بالاستطلاع، هذه الرغبة القلقة المغامرة في سبيل العلم.
صفحة رقم : 168
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
الفصل الثاني
أهل العصر الحجري القديم
بطانة جيولوجية - الأنماط البشرية في ذلك العصر
كتب لنا الكُتَّابُ عدداً ضخماً من الكتب ليوسّع نطاق علمنا بالإنسان البدائي، ويخفوا معالم جهلنا به، ونحن نترك للعلوم الأخرى ذات الخيال المبدع مهمة وصف الناس في العصرين الحجريين القديم والحديث، ونكتفي هنا بما نحن مَعنِيُّون به، وهو تعقّب الإضافات التي أضافتها الثقافات الحجرية بعصريها القديم والحديث، إلى حياتنا المعاصرة.
إن الصورة التي ينبغي أن نكونّها لأنفسنا بطانةً للقصة التي نرويها، هي صورة أرض تختلف اختلافاً بيّنا عن الأرض التي تحملنا اليوم في حياتنا العابرة؛ هي صورة أرض ربما كانت ترتجف بأنهار الثلج التي كانت تجتاحها حيناً بعد حين، والتي جعلت من المنطقة المعتدلة اليوم منطقة متجمدة مدى آلاف السنين، وكوَّمَت جلاميد من الصخر مثل جبال الهمالايا والألب والبرانس، في طريق هذا المحراث الثلجي الذي كان يشق الأرض في سيره شقاً .
فلو أخذنا بنظريات العلم المعاصر على سرعة تغيّرها قلنا إن الكائن الذي أصبح فيما بعد إنساناً حين تعلمّ الكلام، كان أحد الأنواع القادرة على الملاءمة بين نفسها وبين البيئة، التي بقيت بعد هذه القرون المتجمدة بجليدها؛ وبينما كان
صفحة رقم : 169
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
الجليد يتراجع في المراحل التي تتوسط العصور الجليدية، "بل قبل ذلك بكثير فيما نعلم" استكشف هذا المخلوق العجيب النار، وطَوَّرَ فنَّ نحت الصخر والعظم ليصنع أسلحة وآلات، فمهد السبيل بذلك لقدوم المدنيَّة.
ولقد وجدت بقايا كثيرة ترجع إلى هذا الإنسان السابق للتاريخ- ولو أن هذه المعلومات أصابها كثير من التعديل فيما بعد- ففي سنة 1929 كشف صيني شاب عالم بالحفريات الحيوانية والنباتية، وهو "و.س.بي" W.C.pei في كهف عند "تشوكوتين"- وهو يبعد عن "بيبين" Peiping نحو سبعة وثلاثين ميلاً- عن جمجمة، وقد قال عنها علماءُ خبراءُ مثل "الأب بريل" Abbe Breuil و "ج.إليَت سمث" G. Eliot Smith أنها جمجمة بشرية ووجدت آثار من النار بالقرب من الجمجمة؛ كما وجدت أحجار استخدمت آلات بغير شك؛ لكنهم وجدوا كذلك عظام حيوان ممزوجة بتلك الآثار، أجمع الرأي على أنها ترجع إلى عصر البليستوسين الأول وهو عصر تاريخه مليون سنة مضت(3)؛ هذه الجمجمة التي وجدت عند "بيبين" هي بإجماع الآراء أقدم ما نعرف من القواقع البشرية، والآلات التي وجدت معها هي أقدم مصنوعات في التاريخ؛ وكذلك وَجَدَ "دُوسُن" Dawson و "وُودوُورد" Woodward عند "بلِتداون" في مقاطعة سَسِكس بإنجلترا، سنة 1911 قطَعاً من العظم يمكن أن تكون بشرية، وهي التي تعرف اليوم باسم "إنسان بلِتداون" أو باسم "يوانتروبس" Eoanthropus "معناها إنسان الفجر" والتاريخ الذي يحددونه يتراوح على مسافة طويلة من الزمن، من سنة مليون إلى 000ر125 ق.م؛ ومثل هذه التخمينات يدور أيضاً حول عظم الجمجمة وعظم الفخذ التي وجدت في جاوة سنة 1891 وعظمة الفك التي وجدت قرب هيدلبرج سنة 1907؛ وأقدم القواقع التي لا شك في أنها بشرية وجدت في "نياندرتال" بالقرب من دسلدورف بألمانيا سنة 1857، وتاريخها فيما يظهر هو سنة 000ر40
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري القديم
أما شامبليون فقد عاد وفي قبضته مصر بأسرها، ماضيها وحاضرها؛ ومنذ ذلك الحين، أخذ كل جيل يستكشف مدنيات جديدة وثقافات جديدة، ويرجع خطوة وراء خطوة بحدود معرفة الإنسان لتطوره؛ فلن تجد جوانب كثيرة من حياة هذا النوع البشري السافك للدماء، أجمل من هذا الشغف الشريف بالاستطلاع، هذه الرغبة القلقة المغامرة في سبيل العلم.
صفحة رقم : 168
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
الفصل الثاني
أهل العصر الحجري القديم
بطانة جيولوجية - الأنماط البشرية في ذلك العصر
كتب لنا الكُتَّابُ عدداً ضخماً من الكتب ليوسّع نطاق علمنا بالإنسان البدائي، ويخفوا معالم جهلنا به، ونحن نترك للعلوم الأخرى ذات الخيال المبدع مهمة وصف الناس في العصرين الحجريين القديم والحديث، ونكتفي هنا بما نحن مَعنِيُّون به، وهو تعقّب الإضافات التي أضافتها الثقافات الحجرية بعصريها القديم والحديث، إلى حياتنا المعاصرة.
إن الصورة التي ينبغي أن نكونّها لأنفسنا بطانةً للقصة التي نرويها، هي صورة أرض تختلف اختلافاً بيّنا عن الأرض التي تحملنا اليوم في حياتنا العابرة؛ هي صورة أرض ربما كانت ترتجف بأنهار الثلج التي كانت تجتاحها حيناً بعد حين، والتي جعلت من المنطقة المعتدلة اليوم منطقة متجمدة مدى آلاف السنين، وكوَّمَت جلاميد من الصخر مثل جبال الهمالايا والألب والبرانس، في طريق هذا المحراث الثلجي الذي كان يشق الأرض في سيره شقاً .
فلو أخذنا بنظريات العلم المعاصر على سرعة تغيّرها قلنا إن الكائن الذي أصبح فيما بعد إنساناً حين تعلمّ الكلام، كان أحد الأنواع القادرة على الملاءمة بين نفسها وبين البيئة، التي بقيت بعد هذه القرون المتجمدة بجليدها؛ وبينما كان
صفحة رقم : 169
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
الجليد يتراجع في المراحل التي تتوسط العصور الجليدية، "بل قبل ذلك بكثير فيما نعلم" استكشف هذا المخلوق العجيب النار، وطَوَّرَ فنَّ نحت الصخر والعظم ليصنع أسلحة وآلات، فمهد السبيل بذلك لقدوم المدنيَّة.
ولقد وجدت بقايا كثيرة ترجع إلى هذا الإنسان السابق للتاريخ- ولو أن هذه المعلومات أصابها كثير من التعديل فيما بعد- ففي سنة 1929 كشف صيني شاب عالم بالحفريات الحيوانية والنباتية، وهو "و.س.بي" W.C.pei في كهف عند "تشوكوتين"- وهو يبعد عن "بيبين" Peiping نحو سبعة وثلاثين ميلاً- عن جمجمة، وقد قال عنها علماءُ خبراءُ مثل "الأب بريل" Abbe Breuil و "ج.إليَت سمث" G. Eliot Smith أنها جمجمة بشرية ووجدت آثار من النار بالقرب من الجمجمة؛ كما وجدت أحجار استخدمت آلات بغير شك؛ لكنهم وجدوا كذلك عظام حيوان ممزوجة بتلك الآثار، أجمع الرأي على أنها ترجع إلى عصر البليستوسين الأول وهو عصر تاريخه مليون سنة مضت(3)؛ هذه الجمجمة التي وجدت عند "بيبين" هي بإجماع الآراء أقدم ما نعرف من القواقع البشرية، والآلات التي وجدت معها هي أقدم مصنوعات في التاريخ؛ وكذلك وَجَدَ "دُوسُن" Dawson و "وُودوُورد" Woodward عند "بلِتداون" في مقاطعة سَسِكس بإنجلترا، سنة 1911 قطَعاً من العظم يمكن أن تكون بشرية، وهي التي تعرف اليوم باسم "إنسان بلِتداون" أو باسم "يوانتروبس" Eoanthropus "معناها إنسان الفجر" والتاريخ الذي يحددونه يتراوح على مسافة طويلة من الزمن، من سنة مليون إلى 000ر125 ق.م؛ ومثل هذه التخمينات يدور أيضاً حول عظم الجمجمة وعظم الفخذ التي وجدت في جاوة سنة 1891 وعظمة الفك التي وجدت قرب هيدلبرج سنة 1907؛ وأقدم القواقع التي لا شك في أنها بشرية وجدت في "نياندرتال" بالقرب من دسلدورف بألمانيا سنة 1857، وتاريخها فيما يظهر هو سنة 000ر40
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 170
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
قبل الميلاد، وهي تشبه البقايا البشرية التي كُشف عنها في بلجيكا وفرنسا وأسبانيا بل وعلى شواطئ بحر جاليلي؛ حتى لقد صَوَّر العلماء عصراً بأسره من "إنسان النياندرتال" ساد أوربا منذ حوالي أربعين ألف عام قبل عصرنا هذا؛ وكان هؤلاء الناس قصاراً، لكن لهم جماجم سعة الواحدة منها 1600 سنتيمتر مكعب أي أنها أكبر من جمجمة الرجل في هذا العصر بمائتي سنتيمتر مكعب(4).
ويظهر أن قد حل جنس جديد اسمه "كرو- مانيون" Cro-Mangon حول سنة 000ر20 ق.م محل هؤلاء السكان الأقدمين لأوربا، كما تدلنا الآثار التي كُشف عنها (سنة 1868) في مغارة بهذا الاسم في منطقة "دوردوني" في فرنسا الجنوبية؛ ولقد استخرجت بقايا كثيرة من هذا النمط ترجع إلى العصر نفسه؛ من مواضع مختلفة في فرنسا وسويسرا وألمانيا وويلز. وكلها تدل على قوم ذوي قوة عظيمة وقوام فارع يتراوح طوله من خمس أقدام وعشر بوصات إلى ست أقدام وأربع بوصات ولهم جماجم سعة الواحدة منها تختلف من 159 إلى 1715 سم مكعب(5)، وتعرف فصيلة "كرو- مانيون" كما تعرف فصيلة "نياندرتال" باسم "سكان الكهوف" ذلك لأن آثارهم وجدناها في الكهوف، لكن ليس هناك دليل واحد على أن الكهوف كانت كل ما لديهم من المساكن؛ فقد يكون ذلك سخرية بنا من الزمن، أعني أن علماء الحفريات لم يجدوا من آثار هؤلاء الناس إلا آثار من سكنوا الكهوف ولاقوا فيها مناياهم؛ والنظرية العلمية اليوم تذهب إلى أن هذه الفصيلة العظيمة إنما جاءت من آسيا الوسطى مارة بإفريقية. حتى بلغت أوربا، وأنها شقت طريقها فوق جسور من اليابس يقال أنها كانت عندئذ تربط إفريقية بإيطاليا وأسبانيا(6). وأن طريقة توزيع هذه القواقع البشرية ليميل بنا إلى الظن بأنهم لبثوا عشرات من السنين بل ربما لبثوا قروناً طوالا يقاتلون فصيلة "نياندرتال" قتالا عنيفاً لانتزاع أوربا من أيديهم. وهكذا ترى أن النزاع بين ألمانيا وفرنسا ضارب بجذوره في القدم؛ ومهما يكن من
صفحة رقم : 171
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
أمر فقد زال إنسان "نياندرتال" عن ظهر الأرض حيث عمرها إنسان "كرو- مانيون" الذي أصبح السلف الأساسي الذي عنه جاءت أوربا الغريبة الحديثة، وهو الذي وضع أساس المدنية التي انتهت إلى أيدينا اليوم.
إن الآثار الثقافية لهذه الأنماط البشرية التي بقيت في أوربا من العصر الحجري القديم تقع في سبعة أقسام رئيسية تختلف باختلاف المواضع التي وجدنا فيها أقدم الآثار أو أهمها في فرنسا. وكلها جميعاً إنما تتميز باستخدام آلات غير مصقولة؛ والأقسام الثلاثة الأولى منها قد تم لها التكوين في الفترة المضطربة التي توسطت العصرين الجليديين الثالث والرابع.
1- الثقافة "أو الصناعة" السابقة للعهد الشيلي Pre-Chellean وهو عصر يقع تاريخه حول سنة 000ر125 ق.م ومعظم الأحجار الصوّانية التي وجدناها في هذه الطبقة الوطيئة من طبقات الأرض لا تدل دلالة قوية على أن أهل ذلك العصر قد صاغوها بصناعتهم والظاهر أنهم قد استخدموها كما صادفوها في الطبيعة (ذلك إن كانوا قد استخدموها إطلاقا) لكن وجود أحجار كثيرة بينها لها مقبض يلائم قبضة اليد، ولها حَدُّ وَطَرَفُ "إلى حَدّ ما" يجعلنا نزعم هذا الشرف للإنسان السابق للعهد الشيلي، شرف صناعة أول آلة استخدمها الأوربيون، وهي المدية الحجرية.
2- الثقافة الشيلية ويقع تاريخها حول سنة 000ر100 ق.م وقد تحسنت فيها الآلة بإرهاف جانبيها إرهافاً على شيء من الغلظة وبتدبيبها بحيث تتخذ شكل اللوزة، ثم بتهيئتها تهيئة تكون أصلح لقبضة اليد البشرية.
3- الثقافة الأشولية Acheulean ويقع تاريخها حول 000ر75 ق.م ولقد تخلفت عنها آثار كثيرة في أوربا وجرينلندة والولايات المتحدة والمكسيك وإفريقية والشرق الأدنى والهند والصين؛ وهذه المرحلة لم تُصلح من المدية الحجرية إصلاحاً يجعلها أكثر تناسقاً وأحَدَّ طرفا فحسب، بل أنتجت إلى جانب ذلك
صفحة رقم : 172
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
أنواعاً كثيرة من الآلات الخاصة كالمطارق والسندانات والكاشطات والصفائح ورءوس السهام وسنان الرماح والمدى، وفي هذه المرحلة تستطيع أن ترى صورة تدل على مرحلة نشيطة للصناعة البشرية.
4- الثقافة الموستيرية Mousterian، وتوجد آثارها في القارات كلها، مرتبطة ارتباطاً يسترعي النظر ببقايا إنسان النياندرتال، وذلك في تاريخ يقع على نحو التقريب ق.م بأربعين ألفا من السنين؛ والمدية الحجرية نادرة نسبيا بين هذه الآثار، كأنما أصبحت عندئذ شيئا عفا عليه الزمان وحلّ محله شيء جديد؛ أما هذه الآلات الجديدة فقوام الواحدة منها رقيقةّ واحدة من الصخر، أخف من المدية السابقة وزنا وأرهف حَداً وأحسن شكلا، صنعتها أيد طال بها العهد بقواعد الصناعة؛ فإذا صعدت طبقة من الأرض في طبقات العهد البليستوسيني في جنوب فرنسا وجدت بقايا الثقافة التالية.
5- الثقافة الأورجناسية Aurignacian وتقع حول عام 000ر25 ق.م، وهي أول المراحل الصناعية بعد أعصر الجليد، وأولى الثقافات المعروفة لإنسان "كرو- مانيون"؛ وهاهنا في هذه المرحلة أضيفت إلى آلات الحجر آلات من العظم- مشابك وسندانات وصاقلات الخ- وظهر الفن في نقوش غليظة منحوتة على الصخر، أو في رسوم ساذجة بارزة، أغلبها رسوم لنساء عاريات(7) ؛ ثم جاءت في مرحلة متقدمة من مراحل تطور إنسان "كرومانيون" ثقافة أخرى، هي؛
6- الثقافة "السُّولَترْيه" Solutrean التي ظهرت حول سنة 000ر20 ق.م في فرنسا وأسبانيا وتشيكوسلوفاكيا وبولندة؛ وهنا أضيفت إلى أسلحة العهد الأورجناسي السالف وأدواته، مُدّى وصفائح ومثاقب ومناشير ورماح وحراب وصُنِعَتْ كذلك إبَرّ دقيقة حادة من العظم، وقُدَّت آلات كثيرة من قرن الوعل؛ وترى قرون الوعل منقوشة أحيانا برسوم جسوم حيوانية أرقى بكثير من
صفحة رقم : 173
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
الفن في العصر الأورجناسي السابق، وأخيرا عندما بلغ إنسان كرومانيون ذروة تطوره، ظهرت:
7- الثقافة المجدلية Magdalenian التي ظهرت في أرجاء أوربا كلها حول سنة 000ر16 ق.م، وهي تتميز في الصناعة بمجموعة كبيرة منوعة من رقيق الآنية المصنوعة من العاج والعظم والقرن، وهي تبلغ حدها الأقصى في مشابك وإبر متواضعة لكنها تصل حد الكمال في الإتقان، وهذه المرحلة هي التي تميزت في الفن برسوم "أَلتَاميرا" Altamira وهي أدق وأرق ما صنعه إنسان كرومانيون.
وضع إنسان ما قبل التاريخ، في هذه الثقافات التي شهدها العصر الحجري القديم، أسس الصناعات التي كُتِبَ لها أن تبقى جزءا من التراث الأوربي حتى الثورة الصناعية، وكان مما سَهَّل نقلها إلى المدنيَّة الكلاسيكية والمدنية الحديثة انتشار صناعة العصر الحجري القديم؛ والجمجمة وتصاوير الكهوف التي وجدناها في روسيا سنة 1921، والأحجار الصَّوانية التي كشف عنها في مصر "دي مورجان" De
Morgan سنة 1896، وآثار العصر الحجري القديم التي وجدها "سِتُن كار" Seton-Karr في الصومال؛ ومستودعات العصر الحجري القديم في منخفض الفيوم وثقافة جليج ستِل في جنوب إفريقية، كلها تدل على أن "القارة المظلمة" قد اجتازت نفس المراحل تقريبا التي أوجزناها فيما سلف عن أوربا قبل التاريخ، وذلك من حيث صناعة الرقائق الحجرية(؛ بل ربما كانت الآثار التي وجدناها في تونس والجزائر، مما يشبه آثار العصر الأورجناسىّ، يؤيد النظرية القائلة بأن إفريقية هي الأصل في تلك الثقافة، أو هي الحد الذي وقف عنده إنسان "كرومانيون"، وبالتالي الإنسان الأوربي(9) ولقد احتُفِرَت آلات من العصر الحجري القديم في سوريا والهند والصين وسيبيريا وغيرها من أصقاع آسيا(10) كما
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
قبل الميلاد، وهي تشبه البقايا البشرية التي كُشف عنها في بلجيكا وفرنسا وأسبانيا بل وعلى شواطئ بحر جاليلي؛ حتى لقد صَوَّر العلماء عصراً بأسره من "إنسان النياندرتال" ساد أوربا منذ حوالي أربعين ألف عام قبل عصرنا هذا؛ وكان هؤلاء الناس قصاراً، لكن لهم جماجم سعة الواحدة منها 1600 سنتيمتر مكعب أي أنها أكبر من جمجمة الرجل في هذا العصر بمائتي سنتيمتر مكعب(4).
ويظهر أن قد حل جنس جديد اسمه "كرو- مانيون" Cro-Mangon حول سنة 000ر20 ق.م محل هؤلاء السكان الأقدمين لأوربا، كما تدلنا الآثار التي كُشف عنها (سنة 1868) في مغارة بهذا الاسم في منطقة "دوردوني" في فرنسا الجنوبية؛ ولقد استخرجت بقايا كثيرة من هذا النمط ترجع إلى العصر نفسه؛ من مواضع مختلفة في فرنسا وسويسرا وألمانيا وويلز. وكلها تدل على قوم ذوي قوة عظيمة وقوام فارع يتراوح طوله من خمس أقدام وعشر بوصات إلى ست أقدام وأربع بوصات ولهم جماجم سعة الواحدة منها تختلف من 159 إلى 1715 سم مكعب(5)، وتعرف فصيلة "كرو- مانيون" كما تعرف فصيلة "نياندرتال" باسم "سكان الكهوف" ذلك لأن آثارهم وجدناها في الكهوف، لكن ليس هناك دليل واحد على أن الكهوف كانت كل ما لديهم من المساكن؛ فقد يكون ذلك سخرية بنا من الزمن، أعني أن علماء الحفريات لم يجدوا من آثار هؤلاء الناس إلا آثار من سكنوا الكهوف ولاقوا فيها مناياهم؛ والنظرية العلمية اليوم تذهب إلى أن هذه الفصيلة العظيمة إنما جاءت من آسيا الوسطى مارة بإفريقية. حتى بلغت أوربا، وأنها شقت طريقها فوق جسور من اليابس يقال أنها كانت عندئذ تربط إفريقية بإيطاليا وأسبانيا(6). وأن طريقة توزيع هذه القواقع البشرية ليميل بنا إلى الظن بأنهم لبثوا عشرات من السنين بل ربما لبثوا قروناً طوالا يقاتلون فصيلة "نياندرتال" قتالا عنيفاً لانتزاع أوربا من أيديهم. وهكذا ترى أن النزاع بين ألمانيا وفرنسا ضارب بجذوره في القدم؛ ومهما يكن من
صفحة رقم : 171
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
أمر فقد زال إنسان "نياندرتال" عن ظهر الأرض حيث عمرها إنسان "كرو- مانيون" الذي أصبح السلف الأساسي الذي عنه جاءت أوربا الغريبة الحديثة، وهو الذي وضع أساس المدنية التي انتهت إلى أيدينا اليوم.
إن الآثار الثقافية لهذه الأنماط البشرية التي بقيت في أوربا من العصر الحجري القديم تقع في سبعة أقسام رئيسية تختلف باختلاف المواضع التي وجدنا فيها أقدم الآثار أو أهمها في فرنسا. وكلها جميعاً إنما تتميز باستخدام آلات غير مصقولة؛ والأقسام الثلاثة الأولى منها قد تم لها التكوين في الفترة المضطربة التي توسطت العصرين الجليديين الثالث والرابع.
1- الثقافة "أو الصناعة" السابقة للعهد الشيلي Pre-Chellean وهو عصر يقع تاريخه حول سنة 000ر125 ق.م ومعظم الأحجار الصوّانية التي وجدناها في هذه الطبقة الوطيئة من طبقات الأرض لا تدل دلالة قوية على أن أهل ذلك العصر قد صاغوها بصناعتهم والظاهر أنهم قد استخدموها كما صادفوها في الطبيعة (ذلك إن كانوا قد استخدموها إطلاقا) لكن وجود أحجار كثيرة بينها لها مقبض يلائم قبضة اليد، ولها حَدُّ وَطَرَفُ "إلى حَدّ ما" يجعلنا نزعم هذا الشرف للإنسان السابق للعهد الشيلي، شرف صناعة أول آلة استخدمها الأوربيون، وهي المدية الحجرية.
2- الثقافة الشيلية ويقع تاريخها حول سنة 000ر100 ق.م وقد تحسنت فيها الآلة بإرهاف جانبيها إرهافاً على شيء من الغلظة وبتدبيبها بحيث تتخذ شكل اللوزة، ثم بتهيئتها تهيئة تكون أصلح لقبضة اليد البشرية.
3- الثقافة الأشولية Acheulean ويقع تاريخها حول 000ر75 ق.م ولقد تخلفت عنها آثار كثيرة في أوربا وجرينلندة والولايات المتحدة والمكسيك وإفريقية والشرق الأدنى والهند والصين؛ وهذه المرحلة لم تُصلح من المدية الحجرية إصلاحاً يجعلها أكثر تناسقاً وأحَدَّ طرفا فحسب، بل أنتجت إلى جانب ذلك
صفحة رقم : 172
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
أنواعاً كثيرة من الآلات الخاصة كالمطارق والسندانات والكاشطات والصفائح ورءوس السهام وسنان الرماح والمدى، وفي هذه المرحلة تستطيع أن ترى صورة تدل على مرحلة نشيطة للصناعة البشرية.
4- الثقافة الموستيرية Mousterian، وتوجد آثارها في القارات كلها، مرتبطة ارتباطاً يسترعي النظر ببقايا إنسان النياندرتال، وذلك في تاريخ يقع على نحو التقريب ق.م بأربعين ألفا من السنين؛ والمدية الحجرية نادرة نسبيا بين هذه الآثار، كأنما أصبحت عندئذ شيئا عفا عليه الزمان وحلّ محله شيء جديد؛ أما هذه الآلات الجديدة فقوام الواحدة منها رقيقةّ واحدة من الصخر، أخف من المدية السابقة وزنا وأرهف حَداً وأحسن شكلا، صنعتها أيد طال بها العهد بقواعد الصناعة؛ فإذا صعدت طبقة من الأرض في طبقات العهد البليستوسيني في جنوب فرنسا وجدت بقايا الثقافة التالية.
5- الثقافة الأورجناسية Aurignacian وتقع حول عام 000ر25 ق.م، وهي أول المراحل الصناعية بعد أعصر الجليد، وأولى الثقافات المعروفة لإنسان "كرو- مانيون"؛ وهاهنا في هذه المرحلة أضيفت إلى آلات الحجر آلات من العظم- مشابك وسندانات وصاقلات الخ- وظهر الفن في نقوش غليظة منحوتة على الصخر، أو في رسوم ساذجة بارزة، أغلبها رسوم لنساء عاريات(7) ؛ ثم جاءت في مرحلة متقدمة من مراحل تطور إنسان "كرومانيون" ثقافة أخرى، هي؛
6- الثقافة "السُّولَترْيه" Solutrean التي ظهرت حول سنة 000ر20 ق.م في فرنسا وأسبانيا وتشيكوسلوفاكيا وبولندة؛ وهنا أضيفت إلى أسلحة العهد الأورجناسي السالف وأدواته، مُدّى وصفائح ومثاقب ومناشير ورماح وحراب وصُنِعَتْ كذلك إبَرّ دقيقة حادة من العظم، وقُدَّت آلات كثيرة من قرن الوعل؛ وترى قرون الوعل منقوشة أحيانا برسوم جسوم حيوانية أرقى بكثير من
صفحة رقم : 173
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
الفن في العصر الأورجناسي السابق، وأخيرا عندما بلغ إنسان كرومانيون ذروة تطوره، ظهرت:
7- الثقافة المجدلية Magdalenian التي ظهرت في أرجاء أوربا كلها حول سنة 000ر16 ق.م، وهي تتميز في الصناعة بمجموعة كبيرة منوعة من رقيق الآنية المصنوعة من العاج والعظم والقرن، وهي تبلغ حدها الأقصى في مشابك وإبر متواضعة لكنها تصل حد الكمال في الإتقان، وهذه المرحلة هي التي تميزت في الفن برسوم "أَلتَاميرا" Altamira وهي أدق وأرق ما صنعه إنسان كرومانيون.
وضع إنسان ما قبل التاريخ، في هذه الثقافات التي شهدها العصر الحجري القديم، أسس الصناعات التي كُتِبَ لها أن تبقى جزءا من التراث الأوربي حتى الثورة الصناعية، وكان مما سَهَّل نقلها إلى المدنيَّة الكلاسيكية والمدنية الحديثة انتشار صناعة العصر الحجري القديم؛ والجمجمة وتصاوير الكهوف التي وجدناها في روسيا سنة 1921، والأحجار الصَّوانية التي كشف عنها في مصر "دي مورجان" De
Morgan سنة 1896، وآثار العصر الحجري القديم التي وجدها "سِتُن كار" Seton-Karr في الصومال؛ ومستودعات العصر الحجري القديم في منخفض الفيوم وثقافة جليج ستِل في جنوب إفريقية، كلها تدل على أن "القارة المظلمة" قد اجتازت نفس المراحل تقريبا التي أوجزناها فيما سلف عن أوربا قبل التاريخ، وذلك من حيث صناعة الرقائق الحجرية(؛ بل ربما كانت الآثار التي وجدناها في تونس والجزائر، مما يشبه آثار العصر الأورجناسىّ، يؤيد النظرية القائلة بأن إفريقية هي الأصل في تلك الثقافة، أو هي الحد الذي وقف عنده إنسان "كرومانيون"، وبالتالي الإنسان الأوربي(9) ولقد احتُفِرَت آلات من العصر الحجري القديم في سوريا والهند والصين وسيبيريا وغيرها من أصقاع آسيا(10) كما
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 174
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
عثر عليها "أندرو" وسابقوه من الجزويت في منغوليا(11)؛ وكذلك احتُفِرَت هياكل لإنسان النياندرتال وأحجار صَوَّانية كثيرة من العهدين "الموستيري" و "الأورجناسىّ" في فلسطين، ولقد رأينا كيف كشف حديثا في "ببين" عن أقدم ما نعرفه من بقايا الإنسان وأدواته، ووجدت آلات من العظم في نبراسكا، وأراد بعض العلماء الذين يتأثرون بالروح الوطنية أن يردوها إلى عام 000ر500 ق.م، وكذلك وجدت رءوس سهام صنعت عام 000ر350 ق.م، وهكذا تراه جسرا عريضا ذلك الذي نقل عَبرَ إنسان ما قبل التاريخ أسس المدنيَة إلى زميله الإنسان الذي يظهر في عصور التاريخ.
صفحة رقم : 175
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
الفصل الثالث
الفنون في العصر الحجري القديم
الآلات - النار - التصوير - النحت
لو أننا في هذا الموضع أوجزنا ذكر الآلات التي صنعها إنسان العصر الحجري القديم، لصورَّنا لأنفسنا صورة عن حياته أوضح مما لو تركنا لخيالنا الحبل على الغارب؛ وطبيعي أن يكون أول الآلات حجرا في قبضة الإنسان، فكم من حيوان كان في مستطاعه أن يعلمّ الإنسان هذه الآلة؛ وإذن فقد أصبحت المدية الحجرية المُدبَبَةُ في أحد طرفِيها، والمستديرة في طرفها الآخر لتلائم قبضة اليد، أصبحت هذه المدية الحجرية للإنسان البدائي مطرقة وفأساً وإزميلاً وكاشطة وسكيناً ومنشاراً؛ إلى يومنا هذا ترى الكلمة "الإنجليزية" التي نستعملها لتدل على المطرقة: "hammer" معناها حجر من حيث أصلها اللغوي(2) ثم حدث على مَرّ الأيام أن تنوعت هذه الآلات في أشكالها حتى بَعُدَت عن أصلها المتجانس، فثقبت الثقوب لتركيب مقبض، وأُدخلت الأسنان لتكون الآلة منشارا، وغرزت فروع في المدية الحجرية لتصبح مغرازا أو سهما أو حربة؛ كما أصبح الحجر الكاشط الذي كان يتخذ شكل القوقعة، مجرافا أو معزاقا؛ وأما الحجر الخشن الملمس فقد جعلوه مِبرَداً، وجعلوا حجر المقلاع أداة للقتال بقيت قائمة حتى اجتاز بها الإنسان عصر المدنيَّة الكلاسيكية ذاتها؛ ولما ظفر إنسان العصر الحجري القديم بالعظم والخشب والعاج إلى جانب الحجر، صنع لنفسه مجموعة منوعة من الأسلحة والآلات: صنع الصاقلات والهاونات والفؤوس والصفائح والكاشطات والمثاقب والمصابيح والمدى والأزاميل والشواطير والحراب والسندانات، وحافرات المعادن والخناجر وأشصاص السمك وحراب الصيد والخوابير والمغازير والمشابك
صفحة رقم : 176
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
وكثيراً غير هذه بغير شك(14)؛ فكان يَعُثرُ في كل يوم على عِلمٍ جديد، وكان له من قدرته العقلية أحيانا ما يُطوَرُ به مكتشفات المصادفة إلى مخترعات مقصودة.
لكن آيته العظمى هي النار، وفي ذلك أشار "دارون" إلى أن حمم البراكين الحار قد يكون هو الذي علمّ الإنسان ما النار؛ ويقول لنا "أسخيلوس" إن "برومثيوس" صنع النار بإشعاله حَطَبةً في فوهة بركان مشتعل على جزيرة "لمنوس" (15)؛ وبين آثار إنسان النياندرتال قِطَعُّ من الفحم وقطع من العظم المحترق، وإذن فالنار التي صنعها الإنسان تذهب في القِدَم إلى أربعين ألف عام مضت(16) وقد أعد إنسان "كرو- مانيون" لنفسه آنية خاصة تمسك الشحم الذي كان يشعله ليستضيء بضوئه، وإذن فالمصباح كذلك له من العمر هذا الزمن الطويل؛ والراجح أن تكون النار هي التي مكنت الإنسان من اتقاء البرد الناشئ عن الجليد الزاحف؛ وهي التي أتاحت له النوم في الليل آمنا من الحيوان الذي ارتعد لهذه الأعجوبة ارتعاداً يَعدِل عبادة الإنسان البدائي إياها؛ وهي التي قهرت الظلام فكانت أول عامل من العوامل التي حَدَّت من الخوف، والتقليل من خوف الإنسان أحد الخيوط الذهبية في نسيج التاريخ الذي ليست كل خيوطه ذهبا، وهي التي أدت أخيرا إلى صهر المعادن والتحام بعضها في بعض، وهي الخطوة الوحيدة الحقيقية التي تقَدَمها الإنسان في فنون الصناعة من عهد إنسان "كرو- مانيون" إلى عصر الانقلاب الصناعي(17).
وإننا لنروي لك عجبا- وكأنما نرويه لنوضح قصيدة "جوتييه" على
صفحة رقم : 177
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
الفن الجبار الذي يحيا بعد فناء الأباطرة وزوال الدول- إننا نروي لك عجباً إذ نقول إن أوضح آثار خلفها لنا إنسان العصر الحجري القديم هي قِطَع من فنه؛ فقد حدث منذ ستين عاما أن وقع "السنيور مارسلينو دي سوتولا" Marceleno de Soutuola على كهف واسع في مزرعته في "أَلتَاميرا" في شمال أسبانيا، وكان هذا الكهف قد لبث آلاف الأعوام مقفل الباب كأنه صومعة راهب، أقفلته صخور سقطت عليه وأمدتها الطبيعة بملاط من لدنها حين ربطت بعضها ببعض بأعمدة من رواسب؛ ثم جاء الإنسان فضرب في هذا الموضع بضرباته لينشئ لنفسه جديدا، فإذا به يكشف بضرباته عن مدخل الكهف بطريق المصادفة؛ ومرت بعدئذ ثلاثة أعوام ثم جاء "سوتولا" ليستطلع الكهف فلحظ على جدرانه علامات غريبة؛ وذات يوم صحبته ابنته الصغيرة، ولما لم تكن بذات طول يُلزمها الانحناء كما كانت الحال مع أبيها، فقد صعَّدت بصرها نحو السقف تشهد ما فيه، فرأت تخطيطا غامضاً لبَيزُونٍ ضخم "البيزون هو ثور بريُّ"
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> أهل العصر الحجري القديم
عثر عليها "أندرو" وسابقوه من الجزويت في منغوليا(11)؛ وكذلك احتُفِرَت هياكل لإنسان النياندرتال وأحجار صَوَّانية كثيرة من العهدين "الموستيري" و "الأورجناسىّ" في فلسطين، ولقد رأينا كيف كشف حديثا في "ببين" عن أقدم ما نعرفه من بقايا الإنسان وأدواته، ووجدت آلات من العظم في نبراسكا، وأراد بعض العلماء الذين يتأثرون بالروح الوطنية أن يردوها إلى عام 000ر500 ق.م، وكذلك وجدت رءوس سهام صنعت عام 000ر350 ق.م، وهكذا تراه جسرا عريضا ذلك الذي نقل عَبرَ إنسان ما قبل التاريخ أسس المدنيَة إلى زميله الإنسان الذي يظهر في عصور التاريخ.
صفحة رقم : 175
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
الفصل الثالث
الفنون في العصر الحجري القديم
الآلات - النار - التصوير - النحت
لو أننا في هذا الموضع أوجزنا ذكر الآلات التي صنعها إنسان العصر الحجري القديم، لصورَّنا لأنفسنا صورة عن حياته أوضح مما لو تركنا لخيالنا الحبل على الغارب؛ وطبيعي أن يكون أول الآلات حجرا في قبضة الإنسان، فكم من حيوان كان في مستطاعه أن يعلمّ الإنسان هذه الآلة؛ وإذن فقد أصبحت المدية الحجرية المُدبَبَةُ في أحد طرفِيها، والمستديرة في طرفها الآخر لتلائم قبضة اليد، أصبحت هذه المدية الحجرية للإنسان البدائي مطرقة وفأساً وإزميلاً وكاشطة وسكيناً ومنشاراً؛ إلى يومنا هذا ترى الكلمة "الإنجليزية" التي نستعملها لتدل على المطرقة: "hammer" معناها حجر من حيث أصلها اللغوي(2) ثم حدث على مَرّ الأيام أن تنوعت هذه الآلات في أشكالها حتى بَعُدَت عن أصلها المتجانس، فثقبت الثقوب لتركيب مقبض، وأُدخلت الأسنان لتكون الآلة منشارا، وغرزت فروع في المدية الحجرية لتصبح مغرازا أو سهما أو حربة؛ كما أصبح الحجر الكاشط الذي كان يتخذ شكل القوقعة، مجرافا أو معزاقا؛ وأما الحجر الخشن الملمس فقد جعلوه مِبرَداً، وجعلوا حجر المقلاع أداة للقتال بقيت قائمة حتى اجتاز بها الإنسان عصر المدنيَّة الكلاسيكية ذاتها؛ ولما ظفر إنسان العصر الحجري القديم بالعظم والخشب والعاج إلى جانب الحجر، صنع لنفسه مجموعة منوعة من الأسلحة والآلات: صنع الصاقلات والهاونات والفؤوس والصفائح والكاشطات والمثاقب والمصابيح والمدى والأزاميل والشواطير والحراب والسندانات، وحافرات المعادن والخناجر وأشصاص السمك وحراب الصيد والخوابير والمغازير والمشابك
صفحة رقم : 176
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
وكثيراً غير هذه بغير شك(14)؛ فكان يَعُثرُ في كل يوم على عِلمٍ جديد، وكان له من قدرته العقلية أحيانا ما يُطوَرُ به مكتشفات المصادفة إلى مخترعات مقصودة.
لكن آيته العظمى هي النار، وفي ذلك أشار "دارون" إلى أن حمم البراكين الحار قد يكون هو الذي علمّ الإنسان ما النار؛ ويقول لنا "أسخيلوس" إن "برومثيوس" صنع النار بإشعاله حَطَبةً في فوهة بركان مشتعل على جزيرة "لمنوس" (15)؛ وبين آثار إنسان النياندرتال قِطَعُّ من الفحم وقطع من العظم المحترق، وإذن فالنار التي صنعها الإنسان تذهب في القِدَم إلى أربعين ألف عام مضت(16) وقد أعد إنسان "كرو- مانيون" لنفسه آنية خاصة تمسك الشحم الذي كان يشعله ليستضيء بضوئه، وإذن فالمصباح كذلك له من العمر هذا الزمن الطويل؛ والراجح أن تكون النار هي التي مكنت الإنسان من اتقاء البرد الناشئ عن الجليد الزاحف؛ وهي التي أتاحت له النوم في الليل آمنا من الحيوان الذي ارتعد لهذه الأعجوبة ارتعاداً يَعدِل عبادة الإنسان البدائي إياها؛ وهي التي قهرت الظلام فكانت أول عامل من العوامل التي حَدَّت من الخوف، والتقليل من خوف الإنسان أحد الخيوط الذهبية في نسيج التاريخ الذي ليست كل خيوطه ذهبا، وهي التي أدت أخيرا إلى صهر المعادن والتحام بعضها في بعض، وهي الخطوة الوحيدة الحقيقية التي تقَدَمها الإنسان في فنون الصناعة من عهد إنسان "كرو- مانيون" إلى عصر الانقلاب الصناعي(17).
وإننا لنروي لك عجبا- وكأنما نرويه لنوضح قصيدة "جوتييه" على
صفحة رقم : 177
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
الفن الجبار الذي يحيا بعد فناء الأباطرة وزوال الدول- إننا نروي لك عجباً إذ نقول إن أوضح آثار خلفها لنا إنسان العصر الحجري القديم هي قِطَع من فنه؛ فقد حدث منذ ستين عاما أن وقع "السنيور مارسلينو دي سوتولا" Marceleno de Soutuola على كهف واسع في مزرعته في "أَلتَاميرا" في شمال أسبانيا، وكان هذا الكهف قد لبث آلاف الأعوام مقفل الباب كأنه صومعة راهب، أقفلته صخور سقطت عليه وأمدتها الطبيعة بملاط من لدنها حين ربطت بعضها ببعض بأعمدة من رواسب؛ ثم جاء الإنسان فضرب في هذا الموضع بضرباته لينشئ لنفسه جديدا، فإذا به يكشف بضرباته عن مدخل الكهف بطريق المصادفة؛ ومرت بعدئذ ثلاثة أعوام ثم جاء "سوتولا" ليستطلع الكهف فلحظ على جدرانه علامات غريبة؛ وذات يوم صحبته ابنته الصغيرة، ولما لم تكن بذات طول يُلزمها الانحناء كما كانت الحال مع أبيها، فقد صعَّدت بصرها نحو السقف تشهد ما فيه، فرأت تخطيطا غامضاً لبَيزُونٍ ضخم "البيزون هو ثور بريُّ"
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 178
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
جميع الرسم ناصع الألوان؛ فلما فُحص السقف وفُحصت الجدران فحصاُ دقيقاً وجدت صور أخرى كثيرة، وفي عام 1880 نشر "سوتولا" تقريراً عن مشاهدته، فقابله علماء الآثار بريبة هي من خصائصهم دائماً؛ وتفضل عليه بعض هؤلاء العلماء بزيارة يفحص فيها تلك الرسوم، وينتهي بها إلى الإعلان بأن الرسوم زائفة خطتَّها يد خادعة؛ ودام هذا الشك- الذي ليس لأحد أن يعترض عليه مدى ثلاثين عاماً؛ ثم اكتُشِفت رسوم أخرى في كهوف يُجمع الرأي على أنها من عهد ما قبل التاريخ "مما فيها من آلات صَوَّانية غير مصقولة وعظم وعاج مصقولين" فأيدت ما كان وصل إليه "سوتولا" من رأي لكن "سوتولا" عندئذ لم يكن على قيد الحياة؛ وجاء الجيولوجيون إلى "ألتاميرا" وأقروا بإجماع أدرك الحقيقة بعد أوانها، أقروا بإجماع أن الرواسب التي كانت تغطي بعض الرسوم إنما ترجع إلى العصر الحجري الأول(18) وأن الرأي السائد الآن هو أن رسوم "ألتاميرا"- والجزء الأكبر من بواقي الفن التي بقيت لنا من عهد ما قبل التاريخ- ترجع إلى الثقافة المجدلية؛ أي إلى عهد يقع نحو سنة 000ر16 ق.م(19)؛ وكذلك وجدت رسوماً أحدث تاريخا من هذه بقليل، لكنها ما زالت من بقايا العصر الحجري القديم، في كهوف كثيرة في فرنسا .
وتمثل الرسوم في معظم الحالات صنوفا من الحيوان- أوعالا وماموث وجياداُ وخنازير ودببة وغيرها؛ وربما كانت هذه الصنوف عن إنسان ذلك العصر طعاما شهيا، ولذلك كانت موضع عنايته في صيده؛ وأحيانا نرى صورة حيوان مطعونا بالسهام، ومن رأى "فريزر" و "ريناخ" Reintach أن أمثال هذه الصور قُصد بها أن تكون رسوما سحرية تأتي بالحيوان في قبضة الفنان أو الصائد، وبالتالي تأتي به إلى معدته(20) ومن الجائز أنها رسوم لم يقصد بها إلا
صفحة رقم : 179
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
إلى الفن الخالص. دفع إليها الإبداع الفني وما يصاحبه من لذة فنية خالصة؛ ذلك لأن أغلظ الرسوم كان يكفي لتحقيق غايات السحر، على حين ترى هذه الصور في كثير من الحالات قد بلغت من الرقة والقوة والمهارة حداً يوحي إليك بما يحزنك، وهو أن الفن- في هذا الميدان على أقل تقدير- لم يتقدم كثيراً في شوط التاريخ الإنساني الطويل؛ فها هنا الحياة والحركة والفخامة قد عُبّر عنها تعبيراً قوياً أخاذا بخط واحد جريء أو خَطين؛ وهاهنا خَط واحد يصور حيواناً حياً مهاجماً"أم هل تكون سائر الخطوط قد محاها الزمن؟" تُرى هل تبقى صورة "العشاء الأخير" لـ "ليوناردو" Leonardo أو صورة الادعاء للرسام "إلجريكو" El Greco كما بقيت رسوم "كرو- مانيون" فتظهر خطوطها وألوانها بعد عشرين ألف عام؟.
إن التصوير فن مترف، لا يظهر إلا بعد قرون طوال تنقضي في تطور عقلي وفني؛ ولو أخذنا بالنظرية السائدة اليوم "ومن الخطر دائما أن تأخذ بالنظريات السائدة" فالتصوير قد تطور عن صناعة التماثيل، التي بدأت بتماثيل كاملة، ثم تطورت إلى تماثيل بارزة على لوحة منحوتة، وعن هذه جاءت خطوة التصوير بالخطوط والألوان؛ وإذن فالتصوير عبارة عن نحت نقص بعد من أبعاده؛ والخطوة الوسطى من فن ما قبل التاريخ تراها ممثلة خير تمثيل في نحت بارز يدهشك بقوة وضوحه؛ والنحت تمثال لرجل رامٍ بسهم "أو بحربة" وهو منقوش على الصخور الأورجناسيّة "بلوسل" في فرنسا؛ وكَشَفَ "لوي بجوان" Louis Begouen في كهف "بأربيج" في فرنسا- بين آثار مجدلية أخرى عن كثير من المقابض المزخرفة صنعت من قرون الأوعال؛ وأحد هذه المقابض يدل على فن ناضج ممتاز، كأنما كان الفن عندئذ قد اجتاز أجيالا من التدريب والتطور؛ وكذلك ترى في أرجاء البحر الأبيض المتوسط منذ عهد ما قبل التاريخ- في مصر وكريت وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا- صوراً لا عدد لها لنساء سمينات
صفحة رقم : 180
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
قصيرات تدل إما على عبادة هؤلاء الناس للأمومة، وإما على تصوير الإفريقيين عندئذ للجمال؛ واستخرجت من الأرض في تشكوسلوفاكيا تماثيل حجرية لحصان وحشي ووعل وماموث، وجدت بين آثار ترجع- على سبيل الشك- إلى سنة 000ر30 ق.م(22) .
إن تفسيرنا لسير التاريخ على أنه سير إلى الأمام، لينهار من أساسه إذ شككنا في أن هذه التماثيل وهذه النقوش البارزة وهذه الصور- على كثرة عددها- قد لا تكون إلا جزءاً صغيراً جداً من الفن الذي عبر به الإنسان البدائي عن نفسه، أو الذي زَيَّنَ به حياته؛ إن ما بقى لنا كله في كهوف، حيث عَزَّ على عوامل المناخ أن تتسلَّل إليها فتفسدها، ولكن ذلك لا يقتضي أن إنسان ما قبل التاريخ لم يكن فناناً إلا حين سكن الكهوف؛ فربما نحتوا في كل مكان كما يفعل اليابانيون، وربما أكثروا صناعة التماثيل مثل اليونان، وربما لم يقتصروا في تصويرهم على صخور الكهوف، بل صوروا كذلك رسومهم على أقمشة وخشب وعلى كل شيء آخر- غير مستثنين أجسامهم؛ ربما أبدعوا في الفن آيات تفوق بكثير هذه القطع التي بقيت لنا؛ ففي أحد الكهوف وجدنا أنبوبة مصنوعة من عظم الوعل وملآنة بمادة ملونة لجلد الإنسان(23)؛ وفي كهف آخر وجدنا لوحة مصور فنان مما يوضع عليه الألوان عند التصوير، وجدناها لا تزال تحمل على سطحها طلاء مَغْرَةٍِ "تراب حديدي" أحمر، على الرغم من مائتي قرن مضت عليه(24)؛ فالظاهر أن الفنون بلغت درجة عالية من التطور، واتسع نطاقها بين الناس منذ ثمانية عشرة ألف عام؛ فيجوز أن قد كان بين أهل العصر الحجري القديم فنانون محترفون، ويجوز أن قد كان بينهم كذلك همج متأخرين يتضورون جوعا ويسكنون الكهوف الحقيرة، حيث ينكرون الطبقات الغنية من التجار، ويتآمرون على قتل المجاميع العلمية، ويصنعون بأيديهم أشياء وصلت إلينا فأصبحت تُحفَا.
صفحة رقم : 181
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
الفصل الرابع
ثقافة العصر الحجري الحديث
فضلات المطبخ - سكان البحيرة - ظهور الزراعة - استئناس الحيوان -
الأساليب الفنية - النسيج في العصر الحجري الحديث - صناعة الخزف -
البناء - النقل - الدين - العلم - موجز لما تم فيما قبل التاريخ من تمهيد للمدنية
حدث في فترات مختلفة من القرن الأخير أن وُجِدت أكداس هائلة مما يرجح أنها من فضلات ما قبل التاريخ، وجدت في فرنسا وساردينيا والبرتغال والبرازيل واليابان ومنشوريا، ثم وُجدت فوق ذلك كله في الدانمركه حيث أطلق عليها هذا الاسم العجيب "فضلات المطبخ" التي أصبحت تعرف به أمثال هذه الأكداس من آثار القديم؛ وتتألف أكداس الفضلات هذه من قواقع، خصوصاً قواقع المحار وبلح البحر وحلزون البحر، ومن عظام كثير من الحيوانات البرية والبحرية، ومن آلات وأسلحة صنعت من العظم والقرن والحجر غير المصقول، ومن بقايا أرضية مثل الفحم والرماد والخزف المكسور؛ وهذه الآثار التي لا تأخذ العين بجمالها- دلائل واضحةُّ على ثقافة تكونت في تاريخ يقع حول سنة ثمانية آلاف ق.م؛ وهو تاريخ أَحدث من العصر الحجري القديم بالمعنى الدقيق، لكنه كذلك لا يبلغ من الحداثة أن يكون من العصر الحجري الحديث، لأنه لم يكن قد وصل بعد إلى عصر استخدام الحجر المصقول؛ ولا نكاد نعلم شيئا عَمَّن خَلفَّوُا لنا هذه الآثار، سوى أن ذوقهم كان أصيلا إلى حدٍ ما؛ ويمكن اعتبار "فضلات المطبخ"- بالإضافة إلى ثقافة "مادزيل" Mas dazil في فرنسا، وهي أقدم من الفضلات قليلا ممثلة لعصر حجري وسيط، هو بمثابة مرحلة انتقال بين العصرين الحجريين القديم والحديث.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
جميع الرسم ناصع الألوان؛ فلما فُحص السقف وفُحصت الجدران فحصاُ دقيقاً وجدت صور أخرى كثيرة، وفي عام 1880 نشر "سوتولا" تقريراً عن مشاهدته، فقابله علماء الآثار بريبة هي من خصائصهم دائماً؛ وتفضل عليه بعض هؤلاء العلماء بزيارة يفحص فيها تلك الرسوم، وينتهي بها إلى الإعلان بأن الرسوم زائفة خطتَّها يد خادعة؛ ودام هذا الشك- الذي ليس لأحد أن يعترض عليه مدى ثلاثين عاماً؛ ثم اكتُشِفت رسوم أخرى في كهوف يُجمع الرأي على أنها من عهد ما قبل التاريخ "مما فيها من آلات صَوَّانية غير مصقولة وعظم وعاج مصقولين" فأيدت ما كان وصل إليه "سوتولا" من رأي لكن "سوتولا" عندئذ لم يكن على قيد الحياة؛ وجاء الجيولوجيون إلى "ألتاميرا" وأقروا بإجماع أدرك الحقيقة بعد أوانها، أقروا بإجماع أن الرواسب التي كانت تغطي بعض الرسوم إنما ترجع إلى العصر الحجري الأول(18) وأن الرأي السائد الآن هو أن رسوم "ألتاميرا"- والجزء الأكبر من بواقي الفن التي بقيت لنا من عهد ما قبل التاريخ- ترجع إلى الثقافة المجدلية؛ أي إلى عهد يقع نحو سنة 000ر16 ق.م(19)؛ وكذلك وجدت رسوماً أحدث تاريخا من هذه بقليل، لكنها ما زالت من بقايا العصر الحجري القديم، في كهوف كثيرة في فرنسا .
وتمثل الرسوم في معظم الحالات صنوفا من الحيوان- أوعالا وماموث وجياداُ وخنازير ودببة وغيرها؛ وربما كانت هذه الصنوف عن إنسان ذلك العصر طعاما شهيا، ولذلك كانت موضع عنايته في صيده؛ وأحيانا نرى صورة حيوان مطعونا بالسهام، ومن رأى "فريزر" و "ريناخ" Reintach أن أمثال هذه الصور قُصد بها أن تكون رسوما سحرية تأتي بالحيوان في قبضة الفنان أو الصائد، وبالتالي تأتي به إلى معدته(20) ومن الجائز أنها رسوم لم يقصد بها إلا
صفحة رقم : 179
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
إلى الفن الخالص. دفع إليها الإبداع الفني وما يصاحبه من لذة فنية خالصة؛ ذلك لأن أغلظ الرسوم كان يكفي لتحقيق غايات السحر، على حين ترى هذه الصور في كثير من الحالات قد بلغت من الرقة والقوة والمهارة حداً يوحي إليك بما يحزنك، وهو أن الفن- في هذا الميدان على أقل تقدير- لم يتقدم كثيراً في شوط التاريخ الإنساني الطويل؛ فها هنا الحياة والحركة والفخامة قد عُبّر عنها تعبيراً قوياً أخاذا بخط واحد جريء أو خَطين؛ وهاهنا خَط واحد يصور حيواناً حياً مهاجماً"أم هل تكون سائر الخطوط قد محاها الزمن؟" تُرى هل تبقى صورة "العشاء الأخير" لـ "ليوناردو" Leonardo أو صورة الادعاء للرسام "إلجريكو" El Greco كما بقيت رسوم "كرو- مانيون" فتظهر خطوطها وألوانها بعد عشرين ألف عام؟.
إن التصوير فن مترف، لا يظهر إلا بعد قرون طوال تنقضي في تطور عقلي وفني؛ ولو أخذنا بالنظرية السائدة اليوم "ومن الخطر دائما أن تأخذ بالنظريات السائدة" فالتصوير قد تطور عن صناعة التماثيل، التي بدأت بتماثيل كاملة، ثم تطورت إلى تماثيل بارزة على لوحة منحوتة، وعن هذه جاءت خطوة التصوير بالخطوط والألوان؛ وإذن فالتصوير عبارة عن نحت نقص بعد من أبعاده؛ والخطوة الوسطى من فن ما قبل التاريخ تراها ممثلة خير تمثيل في نحت بارز يدهشك بقوة وضوحه؛ والنحت تمثال لرجل رامٍ بسهم "أو بحربة" وهو منقوش على الصخور الأورجناسيّة "بلوسل" في فرنسا؛ وكَشَفَ "لوي بجوان" Louis Begouen في كهف "بأربيج" في فرنسا- بين آثار مجدلية أخرى عن كثير من المقابض المزخرفة صنعت من قرون الأوعال؛ وأحد هذه المقابض يدل على فن ناضج ممتاز، كأنما كان الفن عندئذ قد اجتاز أجيالا من التدريب والتطور؛ وكذلك ترى في أرجاء البحر الأبيض المتوسط منذ عهد ما قبل التاريخ- في مصر وكريت وإيطاليا وفرنسا وأسبانيا- صوراً لا عدد لها لنساء سمينات
صفحة رقم : 180
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> الفنون في العصر الحجري القديم
قصيرات تدل إما على عبادة هؤلاء الناس للأمومة، وإما على تصوير الإفريقيين عندئذ للجمال؛ واستخرجت من الأرض في تشكوسلوفاكيا تماثيل حجرية لحصان وحشي ووعل وماموث، وجدت بين آثار ترجع- على سبيل الشك- إلى سنة 000ر30 ق.م(22) .
إن تفسيرنا لسير التاريخ على أنه سير إلى الأمام، لينهار من أساسه إذ شككنا في أن هذه التماثيل وهذه النقوش البارزة وهذه الصور- على كثرة عددها- قد لا تكون إلا جزءاً صغيراً جداً من الفن الذي عبر به الإنسان البدائي عن نفسه، أو الذي زَيَّنَ به حياته؛ إن ما بقى لنا كله في كهوف، حيث عَزَّ على عوامل المناخ أن تتسلَّل إليها فتفسدها، ولكن ذلك لا يقتضي أن إنسان ما قبل التاريخ لم يكن فناناً إلا حين سكن الكهوف؛ فربما نحتوا في كل مكان كما يفعل اليابانيون، وربما أكثروا صناعة التماثيل مثل اليونان، وربما لم يقتصروا في تصويرهم على صخور الكهوف، بل صوروا كذلك رسومهم على أقمشة وخشب وعلى كل شيء آخر- غير مستثنين أجسامهم؛ ربما أبدعوا في الفن آيات تفوق بكثير هذه القطع التي بقيت لنا؛ ففي أحد الكهوف وجدنا أنبوبة مصنوعة من عظم الوعل وملآنة بمادة ملونة لجلد الإنسان(23)؛ وفي كهف آخر وجدنا لوحة مصور فنان مما يوضع عليه الألوان عند التصوير، وجدناها لا تزال تحمل على سطحها طلاء مَغْرَةٍِ "تراب حديدي" أحمر، على الرغم من مائتي قرن مضت عليه(24)؛ فالظاهر أن الفنون بلغت درجة عالية من التطور، واتسع نطاقها بين الناس منذ ثمانية عشرة ألف عام؛ فيجوز أن قد كان بين أهل العصر الحجري القديم فنانون محترفون، ويجوز أن قد كان بينهم كذلك همج متأخرين يتضورون جوعا ويسكنون الكهوف الحقيرة، حيث ينكرون الطبقات الغنية من التجار، ويتآمرون على قتل المجاميع العلمية، ويصنعون بأيديهم أشياء وصلت إلينا فأصبحت تُحفَا.
صفحة رقم : 181
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
الفصل الرابع
ثقافة العصر الحجري الحديث
فضلات المطبخ - سكان البحيرة - ظهور الزراعة - استئناس الحيوان -
الأساليب الفنية - النسيج في العصر الحجري الحديث - صناعة الخزف -
البناء - النقل - الدين - العلم - موجز لما تم فيما قبل التاريخ من تمهيد للمدنية
حدث في فترات مختلفة من القرن الأخير أن وُجِدت أكداس هائلة مما يرجح أنها من فضلات ما قبل التاريخ، وجدت في فرنسا وساردينيا والبرتغال والبرازيل واليابان ومنشوريا، ثم وُجدت فوق ذلك كله في الدانمركه حيث أطلق عليها هذا الاسم العجيب "فضلات المطبخ" التي أصبحت تعرف به أمثال هذه الأكداس من آثار القديم؛ وتتألف أكداس الفضلات هذه من قواقع، خصوصاً قواقع المحار وبلح البحر وحلزون البحر، ومن عظام كثير من الحيوانات البرية والبحرية، ومن آلات وأسلحة صنعت من العظم والقرن والحجر غير المصقول، ومن بقايا أرضية مثل الفحم والرماد والخزف المكسور؛ وهذه الآثار التي لا تأخذ العين بجمالها- دلائل واضحةُّ على ثقافة تكونت في تاريخ يقع حول سنة ثمانية آلاف ق.م؛ وهو تاريخ أَحدث من العصر الحجري القديم بالمعنى الدقيق، لكنه كذلك لا يبلغ من الحداثة أن يكون من العصر الحجري الحديث، لأنه لم يكن قد وصل بعد إلى عصر استخدام الحجر المصقول؛ ولا نكاد نعلم شيئا عَمَّن خَلفَّوُا لنا هذه الآثار، سوى أن ذوقهم كان أصيلا إلى حدٍ ما؛ ويمكن اعتبار "فضلات المطبخ"- بالإضافة إلى ثقافة "مادزيل" Mas dazil في فرنسا، وهي أقدم من الفضلات قليلا ممثلة لعصر حجري وسيط، هو بمثابة مرحلة انتقال بين العصرين الحجريين القديم والحديث.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 182
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
وفي عام 1854 حيث كان الشتاء من الجفاف بدرجة خارقة للمألوف، هبط مستوى الماء في البحيرات السويسرية، فكشف عن عصر آخر من عصور ما قبل التاريخ؛ فوجدت أكوام فيما يقرب من مائتي موضع في هذه البحيرات؛ ووجد أن هذه الأكوام ظلت مكانها تحت الماء زمنا يتراوح بين ثلاثين قرنا وسبعين؛ ولقد كانت تلك الأكوام مصفوفة على نحو يبيّن أن قد شيدت فوقها قُرَّى صغيرة، وربما شيدت هناك
رغبة في العزلة أو في الدفاع؛ وأن كل قرية كانت تتصل باليابس بجسر ضيق لم تزل أساس بعضها في أماكنها؛ وكانت قوائم المنازل نفسها ما تزال باقية هنا وهناك، لم تُزِلِها الأمواج بفعلها الدءوب وبين هذه الخرائب الباقية وجدت آلات من العظم والحجر المصقول الذي أصبح
صفحة رقم : 183
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
في رأي علماء الآثار علامة مميزة للعصر الحجري الجديد الذي ازدهر حول سنة 000ر10 ق.م في آسيا، وحول سنة 5000 ق.م في أوربا(28): وشبيه بهذه الآثار ما تركه الجنس البشري العجيب الذي نسميه باسم "بُنَاة الجبال" من بقايا هائلة ضخمة في وديان المسسبي وفروعه؛ ولسنا ندري عن ذلك الجنس من أجناس البشر إلا أنه في هذه الجبال التي بنوها وتركوها على هيئة مذابح القربان أو على أشكال هندسية مختلفة أو على هيئة حيوانات الطوطم، وجدت أشياء صنعوها من حجر وقوقع وعظم ومعدن مطروق، مما يضع هؤلاء الناس الملغزين في خاتمة العصر الحجري الجديد.
فلو حاولنا أن نلفّق صورة من هذه الأشتات الأثرية عن العصر الحجري الجديد، لرأينا في الصورة على الفور خطوة جديدة خطاها الإنسان، تثير فيك الدهشة عند رؤيتها، ألا وهي الزراعة؛ إنك تستطيع أن تقول إن التاريخ الإنساني كله- بمعنى من معانيه- يدور حول انقلابين: الانقلاب الذي حدث في العصر الحجري الحديث فنقل الإنسان من الصيد إلى الزراعة، والانقلاب الذي حدث أخيراً فنقله من الزراعة إلى الصناعة؛ ولن تجد فيما شهد الإنسان من ضروب الانقلاب ما هو حقيقي أساسيّ كهذين الانقلابين؛ فالآثار تدلنا على أن "سكان البحيرة" كانوا يأكلون القمح والذرة والجويدار والشعير والشوفان، فضلا عن مائة وعشرين نوعاً من أنواع الفاكهة، وأنواع كثيرة من البندق(29)؛ ولم نجد في هذه الآثار محراثاً، ويجوز أن تكون علة ذلك هي أن سنان المحاريث كانت تصنع من خشب، فيُدَقَّ جذع شجرة إلى فرع بمسمار من حجر الصَّوان؛ لكن نقشا محفورا على الصخر من العصر الحجري الحديث يدل دلالة لا يأتيها الشك على أنها صورة فلاح يسوق محراثاً يَشُدُّه ثوران(30) وهذا يحدد لنا اختراعا جاء بمثابة بداية لعصر جديد من عصور التاريخ؛ إن الأرض قبل أن تدخلها الزراعة كان في مستطاعها أن تهيئ أسباب العيش لما يقرب من عشرين مليوناً من
صفحة رقم : 184
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
الأنفس البشرية "في تقدير سير آرثر كيث غير الدقيق"، وحياة هؤلاء الملايين العشرين كانت معرضة لموت سريع بسبب الصيد والحرب(31)، أما بعد الزراعة فقد بدأ تكاثر الناس تكاثراً أيَّدَ سيادة الإنسان على الأرض سيادة مكينة لا شك فيها.
وفي الوقت نفسه كان أهل العصر الحجري الحديث يقيمون أساسا آخر من أسس الحضارة، وهو استئناس الحيوان وتربيته؛ ولا شك أن قد استغرق هذا العمل حينا طويلا من الدهر، قد تكون بدايته أسبق تاريخاً من العصر الحجري الحديث؛ فحب الإنسان بغريزته للاجتماع بغيره ربما كان عاملا مساعدا على اتصال الإنسان والحيوان، كما لا نزال نرى علائم ذلك واضحة في فرحة البدائيين بتدريب الوحوش المفترسة، وفي ملء أكواخهم بالقردة والببغاوات وأمثالها من سائر الزملاء(32) وأقدم العظام في آثار العصر الحجري الحديث (حوالي 000ر8 ق.م) هي عظام الكلب- الذي هو أقدم زملاء الجنس البشري عهداً وأشرفها خلقاً؛ ثم جاءت بعد ذلك (حوالي 6000 ق.م) الماعز والخروف والخنزير والثور(33) وأخيرا جاء الحصان الذي لم يكن عند أهل العصر الحجري القديم إلا حيوانا يصاد، إذا حكمنا من الرسوم التي في الكهوف؛ أما في هذا العصر الحجري الحديث فقد أخذه الناس إلى حيث يسكنون واستأنسوه وجعلوا منه عبداً محبباً إلى نفوسهم(34) إذ استخدموه على شتى العصور ليزيد من ثروة الإنسان وفراغه وقوته؛ وهكذا أخذ هذا الإنسان الذي بسط سيادته على الأرض آخر الأمر، في الإكثار من موارد طعامه بتربية الحيوان إلى جانب صيده له؛ وربما عرف الإنسان كذلك- في هذا العصر الحجري الحديث- كيف يستخدم لبن البقرة طعاماً.
وأخذ المخترعون في العصر الحجري الجديد شيئاً فشيئاً يوسّعون ويحسنون آلاتهم وأسلحتهم، فها هنا ترى بين مخَلفّاتهم بَكَرات ورافعات ومُرهِفّات ومغارز
صفحة رقم : 185
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
وملاقط وفؤوساً ومعازيق وسلالم وأزاميل ومغازل ومناسج ومناجل ومناشير وأشصاص السمك وقباقيب للانزلاق على الثلج وإبرا ومشابك صَدر ودبابيس(35) ثم هاهنا فوق هذا كله ترى العجلة، وهي مخترع آخر من مخترعات الإنسان الأساسية، وضرورة متواضعة من ضرورات الصناعة والمدنيَّة؛ فهي في هذه المرحلة من العصر الحجري كانت قد تطورت إلى قرص وإلى أنواع أخرى من العجلات ذوات الأقطار؛ وكذلك استعملوا كل صنوف الحجر في هذه المرحلة- حتى العِصِيّ منها كالحجر الزجاجي الأسود- فطحنوه وثقبوه وصقلوه، واحتُفِرت الصَّوانات على نطاق واسع؛ فوجدت في أحد محافر العصر الحجري الحديث، في مدينة براندُن بإنجلترا، ثمان حافرات من قرن الغزال، ورؤيت على أسطحها المعفّرة بصمات العمّال الذين وضعوها هناك منذ عشرة آلاف من السنين؛ وفي بلجيكا كشف عن هيكل عظمي لعامل من عمال المناجم في العصر الحجري الحديث، سقط عليه حجر فأرداه، كُشف عنه ولا تزال الحافرة في قبضة يده(36) فعلى الرغم من مائة قرن تفصلنا عنه، نحسّ كأنه واحد منا ونشاطره بخيالنا الضعيف فَزَعَه وآلامه؛ فكم من آلاف السنين قضاها الإنسان وهو يمزق أحشاء الأرض يستخرج الأسس المعدنية التي قامت عليها المدنية!
فلما أن صنع الإنسان الإبر والدبابيس، بدأ ينسج، أو إن شئت فقل إنه لما بدأ ينسج حَرَّكَتْه الضرورة إلى صناعة الإبر والدبابيس؛ ذلك أن الإنسان لم يعد يرضيه أن يدثّر نفسه بفراء الحيوان وجلوده، فنسج صوف خرافه وألياف النبات أردية كانت هي أساس الثوب الذي يلبسه الهندوسيّ، والشَملة التي كان يلبسها اليوناني، والثوب الذي يغطي أسفل الجسم الذي كان يرتديه المصري، وسائر الصنوف الخلابة التي تراها في الثياب عند الإنسان، ثم اصطنع الناس صبغة استخرجوها صنوفا من أخلاط عصير النبات أو مستخرجا الأرض، وصبغوا بها الثياب لتكون علامة ترف ينفرد بها الملوك؛ والظاهر أن الإنسان
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
وفي عام 1854 حيث كان الشتاء من الجفاف بدرجة خارقة للمألوف، هبط مستوى الماء في البحيرات السويسرية، فكشف عن عصر آخر من عصور ما قبل التاريخ؛ فوجدت أكوام فيما يقرب من مائتي موضع في هذه البحيرات؛ ووجد أن هذه الأكوام ظلت مكانها تحت الماء زمنا يتراوح بين ثلاثين قرنا وسبعين؛ ولقد كانت تلك الأكوام مصفوفة على نحو يبيّن أن قد شيدت فوقها قُرَّى صغيرة، وربما شيدت هناك
رغبة في العزلة أو في الدفاع؛ وأن كل قرية كانت تتصل باليابس بجسر ضيق لم تزل أساس بعضها في أماكنها؛ وكانت قوائم المنازل نفسها ما تزال باقية هنا وهناك، لم تُزِلِها الأمواج بفعلها الدءوب وبين هذه الخرائب الباقية وجدت آلات من العظم والحجر المصقول الذي أصبح
صفحة رقم : 183
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
في رأي علماء الآثار علامة مميزة للعصر الحجري الجديد الذي ازدهر حول سنة 000ر10 ق.م في آسيا، وحول سنة 5000 ق.م في أوربا(28): وشبيه بهذه الآثار ما تركه الجنس البشري العجيب الذي نسميه باسم "بُنَاة الجبال" من بقايا هائلة ضخمة في وديان المسسبي وفروعه؛ ولسنا ندري عن ذلك الجنس من أجناس البشر إلا أنه في هذه الجبال التي بنوها وتركوها على هيئة مذابح القربان أو على أشكال هندسية مختلفة أو على هيئة حيوانات الطوطم، وجدت أشياء صنعوها من حجر وقوقع وعظم ومعدن مطروق، مما يضع هؤلاء الناس الملغزين في خاتمة العصر الحجري الجديد.
فلو حاولنا أن نلفّق صورة من هذه الأشتات الأثرية عن العصر الحجري الجديد، لرأينا في الصورة على الفور خطوة جديدة خطاها الإنسان، تثير فيك الدهشة عند رؤيتها، ألا وهي الزراعة؛ إنك تستطيع أن تقول إن التاريخ الإنساني كله- بمعنى من معانيه- يدور حول انقلابين: الانقلاب الذي حدث في العصر الحجري الحديث فنقل الإنسان من الصيد إلى الزراعة، والانقلاب الذي حدث أخيراً فنقله من الزراعة إلى الصناعة؛ ولن تجد فيما شهد الإنسان من ضروب الانقلاب ما هو حقيقي أساسيّ كهذين الانقلابين؛ فالآثار تدلنا على أن "سكان البحيرة" كانوا يأكلون القمح والذرة والجويدار والشعير والشوفان، فضلا عن مائة وعشرين نوعاً من أنواع الفاكهة، وأنواع كثيرة من البندق(29)؛ ولم نجد في هذه الآثار محراثاً، ويجوز أن تكون علة ذلك هي أن سنان المحاريث كانت تصنع من خشب، فيُدَقَّ جذع شجرة إلى فرع بمسمار من حجر الصَّوان؛ لكن نقشا محفورا على الصخر من العصر الحجري الحديث يدل دلالة لا يأتيها الشك على أنها صورة فلاح يسوق محراثاً يَشُدُّه ثوران(30) وهذا يحدد لنا اختراعا جاء بمثابة بداية لعصر جديد من عصور التاريخ؛ إن الأرض قبل أن تدخلها الزراعة كان في مستطاعها أن تهيئ أسباب العيش لما يقرب من عشرين مليوناً من
صفحة رقم : 184
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
الأنفس البشرية "في تقدير سير آرثر كيث غير الدقيق"، وحياة هؤلاء الملايين العشرين كانت معرضة لموت سريع بسبب الصيد والحرب(31)، أما بعد الزراعة فقد بدأ تكاثر الناس تكاثراً أيَّدَ سيادة الإنسان على الأرض سيادة مكينة لا شك فيها.
وفي الوقت نفسه كان أهل العصر الحجري الحديث يقيمون أساسا آخر من أسس الحضارة، وهو استئناس الحيوان وتربيته؛ ولا شك أن قد استغرق هذا العمل حينا طويلا من الدهر، قد تكون بدايته أسبق تاريخاً من العصر الحجري الحديث؛ فحب الإنسان بغريزته للاجتماع بغيره ربما كان عاملا مساعدا على اتصال الإنسان والحيوان، كما لا نزال نرى علائم ذلك واضحة في فرحة البدائيين بتدريب الوحوش المفترسة، وفي ملء أكواخهم بالقردة والببغاوات وأمثالها من سائر الزملاء(32) وأقدم العظام في آثار العصر الحجري الحديث (حوالي 000ر8 ق.م) هي عظام الكلب- الذي هو أقدم زملاء الجنس البشري عهداً وأشرفها خلقاً؛ ثم جاءت بعد ذلك (حوالي 6000 ق.م) الماعز والخروف والخنزير والثور(33) وأخيرا جاء الحصان الذي لم يكن عند أهل العصر الحجري القديم إلا حيوانا يصاد، إذا حكمنا من الرسوم التي في الكهوف؛ أما في هذا العصر الحجري الحديث فقد أخذه الناس إلى حيث يسكنون واستأنسوه وجعلوا منه عبداً محبباً إلى نفوسهم(34) إذ استخدموه على شتى العصور ليزيد من ثروة الإنسان وفراغه وقوته؛ وهكذا أخذ هذا الإنسان الذي بسط سيادته على الأرض آخر الأمر، في الإكثار من موارد طعامه بتربية الحيوان إلى جانب صيده له؛ وربما عرف الإنسان كذلك- في هذا العصر الحجري الحديث- كيف يستخدم لبن البقرة طعاماً.
وأخذ المخترعون في العصر الحجري الجديد شيئاً فشيئاً يوسّعون ويحسنون آلاتهم وأسلحتهم، فها هنا ترى بين مخَلفّاتهم بَكَرات ورافعات ومُرهِفّات ومغارز
صفحة رقم : 185
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
وملاقط وفؤوساً ومعازيق وسلالم وأزاميل ومغازل ومناسج ومناجل ومناشير وأشصاص السمك وقباقيب للانزلاق على الثلج وإبرا ومشابك صَدر ودبابيس(35) ثم هاهنا فوق هذا كله ترى العجلة، وهي مخترع آخر من مخترعات الإنسان الأساسية، وضرورة متواضعة من ضرورات الصناعة والمدنيَّة؛ فهي في هذه المرحلة من العصر الحجري كانت قد تطورت إلى قرص وإلى أنواع أخرى من العجلات ذوات الأقطار؛ وكذلك استعملوا كل صنوف الحجر في هذه المرحلة- حتى العِصِيّ منها كالحجر الزجاجي الأسود- فطحنوه وثقبوه وصقلوه، واحتُفِرت الصَّوانات على نطاق واسع؛ فوجدت في أحد محافر العصر الحجري الحديث، في مدينة براندُن بإنجلترا، ثمان حافرات من قرن الغزال، ورؤيت على أسطحها المعفّرة بصمات العمّال الذين وضعوها هناك منذ عشرة آلاف من السنين؛ وفي بلجيكا كشف عن هيكل عظمي لعامل من عمال المناجم في العصر الحجري الحديث، سقط عليه حجر فأرداه، كُشف عنه ولا تزال الحافرة في قبضة يده(36) فعلى الرغم من مائة قرن تفصلنا عنه، نحسّ كأنه واحد منا ونشاطره بخيالنا الضعيف فَزَعَه وآلامه؛ فكم من آلاف السنين قضاها الإنسان وهو يمزق أحشاء الأرض يستخرج الأسس المعدنية التي قامت عليها المدنية!
فلما أن صنع الإنسان الإبر والدبابيس، بدأ ينسج، أو إن شئت فقل إنه لما بدأ ينسج حَرَّكَتْه الضرورة إلى صناعة الإبر والدبابيس؛ ذلك أن الإنسان لم يعد يرضيه أن يدثّر نفسه بفراء الحيوان وجلوده، فنسج صوف خرافه وألياف النبات أردية كانت هي أساس الثوب الذي يلبسه الهندوسيّ، والشَملة التي كان يلبسها اليوناني، والثوب الذي يغطي أسفل الجسم الذي كان يرتديه المصري، وسائر الصنوف الخلابة التي تراها في الثياب عند الإنسان، ثم اصطنع الناس صبغة استخرجوها صنوفا من أخلاط عصير النبات أو مستخرجا الأرض، وصبغوا بها الثياب لتكون علامة ترف ينفرد بها الملوك؛ والظاهر أن الإنسان
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 186
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
أو ما نسج جعل يضفر الخيوط على نحو ما يضفر القشَّ بأنه يجدل خيطا مع خيط؛ ثم انتقل بعد ذلك إلى ثَقب جلود الحيوان وربطها من هذه الثقوب بألياف غليظة تتخللها، كالمِشدَّات التي كان يستعملها النساء حديثاً، وكالأحذية التي نلبسها اليوم؛ ثم أخذت الألياف تتهذب تدريجياً حتى أصبحت خيط، وعندئذ أصبحت الحياكة من أهم الفنون عند المرأة؛ فالمغازل التي بين آثار العصر الحجري الحديث تكشف عن أصل من الأصول العظمى للصناعة الإنسانية بل أنك لتجد في هذه الآثار حتى المرايا(37)، وإذن فقد اصبح كل شيء مُعَدًّا للمدنيَّة.
ولم نجد آثاراً خزفية في قبور الجزء الأول من العصر الحجري العظيم، وإنما ظهرت منه قِطَع قليلة في آثار الثقافة المجدلية في بلجيكا(38)؛ لكنه في العصر الحجري الحديث الذي خَلَّفَ لنا "فضلات المطبخ" هو الذي نجد في آثاره خزفاً على شيء من التقدم في الصناعة؛ ونحن بالطبع لا نعلم كيف نشأت هذه الصناعة؛ فيجوز أن قد لاحظ الإنسان البدائي أن الفجوة التي تصنعها قدمه في الطين، كانت تحتفظ في جوفها بالماء دون أن يتسرب(39)؛ ويجوز أن قد شاءت المصادفة أن تلقى قطعة من الطين إلى جانب نار موقدة فتجف، فتوحي بجفافها هذا إلى الإنسان الأول بالفكرة التي أفرزت في النهاية هذا المخترع، وكشفت له عما يمكنه استغلاله من هذه المادة التي توجد بكثرة، والتي تطاوع يده في تشكيلها، والتي يسهل تجفيفها في النار أو في الشمس؛ ولا شك في أن الإنسان قد لبث آلاف السنين يحفظ طعامه وشرابه في آنية طبيعية كهذه، إلى جانب كؤوس القَرع وجوز الهند وقواقع البحر؛ ثم صنع لنفسه أقداحاً ومغارف من الخشب أو الحجر؛ كما صنع السلال والمقاطف من الحلفاء والقش، وهاهو ذا قد صنع لنفسه كذلك آنية أدوم بقاء من الطين المجفف وبه ابتدع مخترعاً جديداً يُعَدُّ من أعظم الصناعات التي عرفها الإنسان، لكن إنسان العصر الحجري
صفحة رقم : 187
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
الجديد لم يعرف عجلة الخزَّاف، فيما تدل الآثار الباقية لنا؛ إنما صنع بيديه هذا الطين أشكالا ذات جمال ونفع في آن معاً؛ وزخرفة الآنية برسوم ساذجة(40) وهكذا جعل صناعة الخزف منذ بدايتها تقريباً لا تقف عند حد كونها صناعة فحسب، بل جعل منها فنًّا كذلك.
وهاهنا كذلك نجد العلامات الأولى لصناعة أخرى من كبُرى الصناعات الأولى: صناعة البناء؛ فإنسان العصر الحجري القديم لم يخلّف لنا أثراً كائناً ما كان لمسكن غير الكهوف؛ حتى إذا ما بلغنا العصر الحجري الحديث، ألقينا بعض وسائل البناء مثل السلمّ الخشبّي والبكرة والرافعة والمقصلة(41)؛ فقد كان "سكان البحيرة" نجارين مهرة يربطون أعمدة الخشب إلى أساس البناء بخوابير ثابتة من الخشب؛ أو يصلونها وهي موضوعة رأساً لرأس، أو يزيدونها قوة بدقّ عوارض تتطلب معها على الجوانب؛ وكانت أرضيَّة الغرفة عندهم من الطين، وجدرانها من الغصون المجدولة مغطاة بطبقة من الطين، والسقف من اللحاء والقش والحلفاء والغاب؛ ثم بمعونة البكرة والعجلة استطاع الإنسان أن ينقل مواد البناء من مكان إلى مكان، وبدأ في وضع أسس ضخمة من الحجر لقُراه؛ وكذلك أصبح النقل صناعة من الصناعات، فصُنِعت الزوارق التي لا بد أن تكون قد ملأت البحيرات حركة؛ ونُقِلت التجارة عبر الجبال وإلى القارات البعيدة(42)، وأخذت أوربا تستورد من البلاد النائية أحجاراً نادرة كالعنير والبَشم والحجر الزجاجي الأسود(43) وأنك لتجد في أصقاع مختلفة من الأرض تشابها في كلمات أو حروف أو أساطير أو خزف أو رسوم، مما يدلك على ما كان بين جماعات البشر قبل التاريخ من اتصال ثقافي(44).
ولو استثنيت الخزف، وجدت أن العصر الحجري الجديد لم يخلّف لنا فنا نستطيع مقارنته إلى ما كان عند إنسان العصر الحجري القديم من تصوير وصناعة تماثيل؛ فهنا وهناك بين مشاهد الحياة في هذا العصر الحجري الحديث،
صفحة رقم : 188
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
من إنجلترا إلى الصين، ترى أكواما مستديرة من الحجر، أو أعمدة قائمة أو آثاراً ضخمة من البناء لا نعرف الغاية من بنائها، كالتي تراها في "ستوُنهِنج" أو "موربهان"، والراجح أننا لن نعرف معنى هذه الآثار البنائية أو وظائفها، وربما كانت بقايا مذابح للقرابين أو معابد(45) ذلك لأن إنسان العصر الحجري الجديد لابد أن قد كانت له ديانات وأساطير يصوّر بها ما يعتور الشمس كل يوم من مأساة ونصر، وما تصيب التربة من موت وبعث، كما يصور بها تأثير القمر تأثيراً عجيباً على الأرض؛ إنه ليستحيل علينا أن نفهم عقائد الإنسان في عصور التاريخ بغير افتراض أصول كهذه تمتد إلى ما قبل التاريخ(46)؛ ويجوز أن يكون ترتيب الأحجار في هذه الأبنية نتيجة لاعتبارات فلكية، ويدل على معرفتهم بالتقويم- كما يظن "شنيدر" Shneider (47)؛ وكان للناس في ذلك العصر أيضاً بعض المعرفة العلمية، لأن بعض الجماجم من العصر الحجري الجديد وجدت بها آثار تَربَنَة، وبعض الهياكل العظيمة فيها أعضاء يظهر أنها كُسِرَت ثم جُبِرَت(48).
ليس في وسعنا أن نقدر ما أداه الإنسان فيما قبل التاريخ تقديراً تاماً، لأننا من جهة لا ينبغي أن ننساق وراء الخيال في تصوير حياتهم بحيث نجاوز ما تبرره الشواهد، ولكننا قد نشك من جهة أخرى أن الدهر قد محا آثاراً لو بقيت لضيَّقَت مسافة الحُلف بين الإنسان الأول والإنسان الحديث؛ ومع ذلك فما قد بقى لنا من أدلة على خطوات التقدم التي خطاها إنسان العصور الحجرية، يكفي وحده لتقديره: فحسبنا ما تم في العصر الحجري القديم من صناعة الآلات واكتشاف النار وتقدم الفنون، وحسبنا ما ظهر في العصر الحجري الحديث من زراعة وتربية حيوان ونسج وخزف وبناء ونقل وطب. وسيادة الإنسان على الأرض سيادة لم يَعُد منازَعاً فيها، والتوسع في عمرانها بأبناء الجنس البشري؛ هكذا وُضعت للمدنية كل أساسها؛ كل شيء قد تم إعداده للمدنيات التاريخية إلا المعادن "فيما نظن" والكتاب والدولة؛ فهيأ للإنسان سبيلا لتسجيل أفكاره وأعماله، بحيث يمكن نقلها كاملةً آمنة من جيل إلى جيل، تبدأ له المدنية.
صفحة رقم : 189
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
الفصل الخامس
مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية
1- ظهور المعادن
النحاس - البرونز - الحديد
متى وكيف بدأ الإنسان استخدام المعادن؟ لسنا ندري، نقولها هنا مرة أخرى؛ وكلما نستطيعه هو أن نقول على سبيل الظنّ إنه بدأ بفعل المصادفة، ونفترض أن قد كانت بداية ذلك في نهاية العصر الحجري الحديث، ويؤيدنا في ذلك عدم ظهوره فيما وجدنا من آثار العصور السابقة لذلك التاريخ؛ فلو حددنا هذا التاريخ بسنة 4000 ق.م أو نحوها، أبصرنا أمامنا صورة لعصر المعادن "والكتابة والمدنية" لا تمتد إلى أكثر من ستة آلاف عام، تراها بمثابة الذيل الصغير الذي أعقب عصراً حجرياً امتد على وجه الدهر أربعين ألف عام على أَقل تقدير، أو أعقب عمراً طويلا عاشه الإنسان مداه مليون عام ؛ إلا ما أحدث العهد الذي يدونّه لنا التاريخ.
كان النحاس أول معدن يلين لاستخدام الإنسان فيما نعلم؛ فنجده في مسكن من "مساكن البحيرة" عند "روبتهاوزن" في سويسره، ويرجع ذلك إلى سنة 6000 ق.م تقريباً(49) ونجده أيضاً في أرض الجزيرة "بين دجلة والفرات" من عهد ما قبل التاريخ، ويرجع إلى سنة 4500 ق.م تقريبا؛ ثم نجده في مقابر البداري في مصر، ويرجع عهده إلى ما يقرب من سنة 4000 ق.م، ونجده كذلك في آثار "أور" التي ترجع إلى سنة 3100 قبل الميلاد
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
أو ما نسج جعل يضفر الخيوط على نحو ما يضفر القشَّ بأنه يجدل خيطا مع خيط؛ ثم انتقل بعد ذلك إلى ثَقب جلود الحيوان وربطها من هذه الثقوب بألياف غليظة تتخللها، كالمِشدَّات التي كان يستعملها النساء حديثاً، وكالأحذية التي نلبسها اليوم؛ ثم أخذت الألياف تتهذب تدريجياً حتى أصبحت خيط، وعندئذ أصبحت الحياكة من أهم الفنون عند المرأة؛ فالمغازل التي بين آثار العصر الحجري الحديث تكشف عن أصل من الأصول العظمى للصناعة الإنسانية بل أنك لتجد في هذه الآثار حتى المرايا(37)، وإذن فقد اصبح كل شيء مُعَدًّا للمدنيَّة.
ولم نجد آثاراً خزفية في قبور الجزء الأول من العصر الحجري العظيم، وإنما ظهرت منه قِطَع قليلة في آثار الثقافة المجدلية في بلجيكا(38)؛ لكنه في العصر الحجري الحديث الذي خَلَّفَ لنا "فضلات المطبخ" هو الذي نجد في آثاره خزفاً على شيء من التقدم في الصناعة؛ ونحن بالطبع لا نعلم كيف نشأت هذه الصناعة؛ فيجوز أن قد لاحظ الإنسان البدائي أن الفجوة التي تصنعها قدمه في الطين، كانت تحتفظ في جوفها بالماء دون أن يتسرب(39)؛ ويجوز أن قد شاءت المصادفة أن تلقى قطعة من الطين إلى جانب نار موقدة فتجف، فتوحي بجفافها هذا إلى الإنسان الأول بالفكرة التي أفرزت في النهاية هذا المخترع، وكشفت له عما يمكنه استغلاله من هذه المادة التي توجد بكثرة، والتي تطاوع يده في تشكيلها، والتي يسهل تجفيفها في النار أو في الشمس؛ ولا شك في أن الإنسان قد لبث آلاف السنين يحفظ طعامه وشرابه في آنية طبيعية كهذه، إلى جانب كؤوس القَرع وجوز الهند وقواقع البحر؛ ثم صنع لنفسه أقداحاً ومغارف من الخشب أو الحجر؛ كما صنع السلال والمقاطف من الحلفاء والقش، وهاهو ذا قد صنع لنفسه كذلك آنية أدوم بقاء من الطين المجفف وبه ابتدع مخترعاً جديداً يُعَدُّ من أعظم الصناعات التي عرفها الإنسان، لكن إنسان العصر الحجري
صفحة رقم : 187
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
الجديد لم يعرف عجلة الخزَّاف، فيما تدل الآثار الباقية لنا؛ إنما صنع بيديه هذا الطين أشكالا ذات جمال ونفع في آن معاً؛ وزخرفة الآنية برسوم ساذجة(40) وهكذا جعل صناعة الخزف منذ بدايتها تقريباً لا تقف عند حد كونها صناعة فحسب، بل جعل منها فنًّا كذلك.
وهاهنا كذلك نجد العلامات الأولى لصناعة أخرى من كبُرى الصناعات الأولى: صناعة البناء؛ فإنسان العصر الحجري القديم لم يخلّف لنا أثراً كائناً ما كان لمسكن غير الكهوف؛ حتى إذا ما بلغنا العصر الحجري الحديث، ألقينا بعض وسائل البناء مثل السلمّ الخشبّي والبكرة والرافعة والمقصلة(41)؛ فقد كان "سكان البحيرة" نجارين مهرة يربطون أعمدة الخشب إلى أساس البناء بخوابير ثابتة من الخشب؛ أو يصلونها وهي موضوعة رأساً لرأس، أو يزيدونها قوة بدقّ عوارض تتطلب معها على الجوانب؛ وكانت أرضيَّة الغرفة عندهم من الطين، وجدرانها من الغصون المجدولة مغطاة بطبقة من الطين، والسقف من اللحاء والقش والحلفاء والغاب؛ ثم بمعونة البكرة والعجلة استطاع الإنسان أن ينقل مواد البناء من مكان إلى مكان، وبدأ في وضع أسس ضخمة من الحجر لقُراه؛ وكذلك أصبح النقل صناعة من الصناعات، فصُنِعت الزوارق التي لا بد أن تكون قد ملأت البحيرات حركة؛ ونُقِلت التجارة عبر الجبال وإلى القارات البعيدة(42)، وأخذت أوربا تستورد من البلاد النائية أحجاراً نادرة كالعنير والبَشم والحجر الزجاجي الأسود(43) وأنك لتجد في أصقاع مختلفة من الأرض تشابها في كلمات أو حروف أو أساطير أو خزف أو رسوم، مما يدلك على ما كان بين جماعات البشر قبل التاريخ من اتصال ثقافي(44).
ولو استثنيت الخزف، وجدت أن العصر الحجري الجديد لم يخلّف لنا فنا نستطيع مقارنته إلى ما كان عند إنسان العصر الحجري القديم من تصوير وصناعة تماثيل؛ فهنا وهناك بين مشاهد الحياة في هذا العصر الحجري الحديث،
صفحة رقم : 188
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> ثقافة العصر الحجري الحديث
من إنجلترا إلى الصين، ترى أكواما مستديرة من الحجر، أو أعمدة قائمة أو آثاراً ضخمة من البناء لا نعرف الغاية من بنائها، كالتي تراها في "ستوُنهِنج" أو "موربهان"، والراجح أننا لن نعرف معنى هذه الآثار البنائية أو وظائفها، وربما كانت بقايا مذابح للقرابين أو معابد(45) ذلك لأن إنسان العصر الحجري الجديد لابد أن قد كانت له ديانات وأساطير يصوّر بها ما يعتور الشمس كل يوم من مأساة ونصر، وما تصيب التربة من موت وبعث، كما يصور بها تأثير القمر تأثيراً عجيباً على الأرض؛ إنه ليستحيل علينا أن نفهم عقائد الإنسان في عصور التاريخ بغير افتراض أصول كهذه تمتد إلى ما قبل التاريخ(46)؛ ويجوز أن يكون ترتيب الأحجار في هذه الأبنية نتيجة لاعتبارات فلكية، ويدل على معرفتهم بالتقويم- كما يظن "شنيدر" Shneider (47)؛ وكان للناس في ذلك العصر أيضاً بعض المعرفة العلمية، لأن بعض الجماجم من العصر الحجري الجديد وجدت بها آثار تَربَنَة، وبعض الهياكل العظيمة فيها أعضاء يظهر أنها كُسِرَت ثم جُبِرَت(48).
ليس في وسعنا أن نقدر ما أداه الإنسان فيما قبل التاريخ تقديراً تاماً، لأننا من جهة لا ينبغي أن ننساق وراء الخيال في تصوير حياتهم بحيث نجاوز ما تبرره الشواهد، ولكننا قد نشك من جهة أخرى أن الدهر قد محا آثاراً لو بقيت لضيَّقَت مسافة الحُلف بين الإنسان الأول والإنسان الحديث؛ ومع ذلك فما قد بقى لنا من أدلة على خطوات التقدم التي خطاها إنسان العصور الحجرية، يكفي وحده لتقديره: فحسبنا ما تم في العصر الحجري القديم من صناعة الآلات واكتشاف النار وتقدم الفنون، وحسبنا ما ظهر في العصر الحجري الحديث من زراعة وتربية حيوان ونسج وخزف وبناء ونقل وطب. وسيادة الإنسان على الأرض سيادة لم يَعُد منازَعاً فيها، والتوسع في عمرانها بأبناء الجنس البشري؛ هكذا وُضعت للمدنية كل أساسها؛ كل شيء قد تم إعداده للمدنيات التاريخية إلا المعادن "فيما نظن" والكتاب والدولة؛ فهيأ للإنسان سبيلا لتسجيل أفكاره وأعماله، بحيث يمكن نقلها كاملةً آمنة من جيل إلى جيل، تبدأ له المدنية.
صفحة رقم : 189
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
الفصل الخامس
مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية
1- ظهور المعادن
النحاس - البرونز - الحديد
متى وكيف بدأ الإنسان استخدام المعادن؟ لسنا ندري، نقولها هنا مرة أخرى؛ وكلما نستطيعه هو أن نقول على سبيل الظنّ إنه بدأ بفعل المصادفة، ونفترض أن قد كانت بداية ذلك في نهاية العصر الحجري الحديث، ويؤيدنا في ذلك عدم ظهوره فيما وجدنا من آثار العصور السابقة لذلك التاريخ؛ فلو حددنا هذا التاريخ بسنة 4000 ق.م أو نحوها، أبصرنا أمامنا صورة لعصر المعادن "والكتابة والمدنية" لا تمتد إلى أكثر من ستة آلاف عام، تراها بمثابة الذيل الصغير الذي أعقب عصراً حجرياً امتد على وجه الدهر أربعين ألف عام على أَقل تقدير، أو أعقب عمراً طويلا عاشه الإنسان مداه مليون عام ؛ إلا ما أحدث العهد الذي يدونّه لنا التاريخ.
كان النحاس أول معدن يلين لاستخدام الإنسان فيما نعلم؛ فنجده في مسكن من "مساكن البحيرة" عند "روبتهاوزن" في سويسره، ويرجع ذلك إلى سنة 6000 ق.م تقريباً(49) ونجده أيضاً في أرض الجزيرة "بين دجلة والفرات" من عهد ما قبل التاريخ، ويرجع إلى سنة 4500 ق.م تقريبا؛ ثم نجده في مقابر البداري في مصر، ويرجع عهده إلى ما يقرب من سنة 4000 ق.م، ونجده كذلك في آثار "أور" التي ترجع إلى سنة 3100 قبل الميلاد
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 190
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
تقريباً، وفي آثار "بناة الجبال" في أمريكا الشمالية، التي ترجع إلى عصر لا نستطيع تحديده(50) وليست تقع بداية عصر المعادن عند تأريخ اكتشافها بل يبدأ ذلك العصر بتحوير المعادن بواسطة النار والطَّرق بحيث تلائم غايات الإنسان؛ ويعتقد علماء المعادن أن أول استعدان للنحاس من مناجمه الحجرية جاء بفعل المصادفة حين أذابت نارُ أوقدها الناس ليستدفئوا، نحاساً كان لاصقا بالأحجار التي أحاطوا بها النار؛ ولقد لوحظت أمثال هذه المصادفة مراراً في اجتماعات البدائيين حول نارهم في عصرنا هذا؛ ومن الجائز أن تكون هذه الحادثة العابرة هي التي أدت بالإنسان الأول في نهاية الأمر- بعد تكرارها مرات كثيرة- ذلك الإنسان الذي لبث أمداً طويلا لا يساوره القلق في استعمال الحجر الأصم الصليب، أن يجعل من هذه المادة المرنة عنصراً يتخذ منه آلاته وأسلحته، لأنها أيسر من الحجر صياغة وأدوم بقاء(51)؛ والأغلب أن يكون المعدن قد استعمل بادئ ذي بدء بالصورة التي قدمته عليها يد الطبيعة، وإنها لَيَدٌ فيها سخاء وبها إهمال في آن واحد؛ فكان نقيا حينا، مشوبا في معظم الأحيان ثم حدث بعد ذلك بزمن طويل- وربما كان ذلك حول سنة 3500 ق.م- في المنطقة التي تحيط بالطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، أن وقع الناس على فن صهر المعادن واستخراجها من مناجمها؛ ثم بدءوا في صبهّا نحو سنة 1500 ق.م "كما تدل على ذلك النقوش البارزة في مقبرة رخ- مارا في مصر)؛ فكانوا يصبّون النحاس المصهور في إناء من الطين أو الرمل، ثم يتركونه يبرد على صورة يريدونها، مثل رأس الرمح أو الفأس(52)؛ فلما أن كشف الإنسان عن هذه العملية في النحاس، استخدمها في مجموعة منوَّعة من المعادن الأخرى؛ وبهذا توفر للإنسان من العناصر القوية ما استطاع به أن يبني أعظم ما يعرف من ضروب الصناعة، وتهيأ له الطريق إلى غزو الأرض والبحر والهواء؛ ومن الجائز أن تكون كثرة النحاس في شرقي البحر الأبيض المتوسط
صفحة رقم : 191
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
هي التي سبَّبَت قيام ثقافات جديدة قوية في الألف الرابع من السنين قبل الميلاد، في "عيلام" و "ما بين النهرين" ومصر، ثم امتدت من هاتيك الأصقاع إلى سائر أجزاء المعمورة فبدّلتها حالا بعد حال(53).
غير أن النحاس وحده ليّن، فهو على الرغم من شدة صلاحيته للتشكيل مما ينفع في تحقيق طائفة من أغراضنا "ماذا كان يصنع عصرنا الكهربائي بغير نحاس؟" إلا أنه أضعف من أن يحتمل مهام السلم و الحرب التي تتطلب معدنا أقوى؛ لهذا كان لابد من عنصر آخر يضاف إلى النحاس ليشدّ من صلابته؛ ورغم أن الطبيعة قد أشارت إلى الإنسان بما عسى أن يضيفه إلى النحاس لهذه الغاية من مواد كثيرة الأنواع، بل إن الطبيعة كثيراً ما قدمت له نحاسا تم بالفعل خلطه واشتدت صلابته بما فيه من قصدير وزنك، مكونّةً بذلك برونزاً طبيعيا أو نحاسا أصفر، على رغم هذه المعونة من الطبيعة، فقد لبث الإنسان- فيما نظن- قرونا قبل أن يخطو الخطوة الثانية في هذا الصدد؛ وأعني بها خلط معدن بمعدن خلطا مدبرَّا مقصودا للحصول على مركبات أصلح لأغراضه، وعلى كل حال فهذا الكشف قد اهتدى إليه الإنسان منذ خمسة آلاف عام على أقل تقدير لأننا وجدنا البرونز بين الآثار الكريتية التي ترجع الى سنة 3000 ق.م، وفي الآثار المصرية التي ترجع إلى سنة 2800 ق.م، وفي ثاني مدن طروادة سنة 2000 ق.م(54)، فلم يعد- إذن- في وسعنا أن نتحدث عن "عصر البرونز" بمعنى الكلمة الدقيق، لأن هذا المعدن قد ظهر لشعوب مختلفة، في عصور مختلفة، وإذن فعبارة "عصر البرونز" ليس لها معنى زمني تؤديه(55) أضف إلى أن بعض الثقافات الإنسانية قد عَبَرَ مرحلة البرونز لم يَخطهُا، بل وثب رأسا من عصر الحجر إلى عصر الحديد، كما هي الحال في ثقافات فنلندة وشمال روسيا وبولنيزيا وإفريقية الوسطى وجنوب الهند وأمريكا و واستراليا واليابان(56)؛ بل إن الثقافات التي ظهرت فيها مرحلة البرونز لم يحتل فيها هذا
صفحة رقم : 192
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
المعدن إلا مكانة ثانوية، باعتباره ترََفاً يتمتع به الكهنة وعلِيَةُ الناس والملوك، على حين ظل غمار الشعب مرغما على الوقوف عند مرحلة الحجر لا يجاوزها(57) وحتى عبارتا "العصر الحجري القديم" و "العصر الحجري الحديث" فهما نسبيتان إلى حد كبير، وتصفان صورا من الحياة أكثر مما تحددان أزماناً وعصورا فإلى يومنا هذا يعيش كثير من الشعوب البدائية في عصرنا الحجري "مثل الإسكيمو وسكان جزاير بولنيزيا" لا يعرفون الحديد في حياتهم إلا على أنه ترََفّ يجيئهم به الرحالة المستكشفون من خارج؛ فعندما أرسى "الكابتن كوك" سفنه في زيلندة الجديدة سنة 1778، اشترى بضعة خنازير بمسمار ثمنه ستة بنسات "قرشان ونصف قرش"، ووصف رحالة آخر سكان "جزيرة الكلب" بأنهم "في حاجة نهمة للحديد، حتى لتحدثهم أنفسهم أن ينتزعوا المسامير من السفن" (58).
ولئن كان البرونز قوياً شديد الاحتمال، إلا أن النحاس والقصدير اللازمين لصناعته لم يكونا من الكثرة في الكمية أو في أماكن وجودهما بحيث يجد الإنسان حاجته من أجوده صنفاً لشئون الصناعة والحرب؛ فكان لابد للحديد أن يظهر عاجلا أو آجلا؛ وإنه لمن متناقضات التاريخ ألا يظهر الحديد- على وفرته- إلا بعد أن ظهر النحاس والبرونز؛ وربما بدأ الناس استخدام الحديد بصناعة الأسلحة من حديد الشهُب، كما قد صنع "بُناةُ الجبال"- فيما يظهر- وكما يفعل بعض البدائيين حتى يومنا هذا؛ ويجوز أن يكون الناس قد عقبوا على ذلك بإذابة المعدن من منجمه بواسطة النار، ثم طرقوه إلى حديد مشغول؛ ولقد وجدنا ما يشبه أن يكون حديداً شهابياً في المقابر المصرية قبل عهد الأسرات المالكة؛ وتذكر النقوشُ البابليةُ الحديدَ على أنه سلعة نادرة ثمينة في عاصمة حمورابي (2100 ق.م) وكشفنا عن مَسبَك للحديد قد يرجع عهده إلى أربعة آلاف عام، في روديسيا الشمالية، كما أن استنجام الحديد في جنوب أفريقيا
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
تقريباً، وفي آثار "بناة الجبال" في أمريكا الشمالية، التي ترجع إلى عصر لا نستطيع تحديده(50) وليست تقع بداية عصر المعادن عند تأريخ اكتشافها بل يبدأ ذلك العصر بتحوير المعادن بواسطة النار والطَّرق بحيث تلائم غايات الإنسان؛ ويعتقد علماء المعادن أن أول استعدان للنحاس من مناجمه الحجرية جاء بفعل المصادفة حين أذابت نارُ أوقدها الناس ليستدفئوا، نحاساً كان لاصقا بالأحجار التي أحاطوا بها النار؛ ولقد لوحظت أمثال هذه المصادفة مراراً في اجتماعات البدائيين حول نارهم في عصرنا هذا؛ ومن الجائز أن تكون هذه الحادثة العابرة هي التي أدت بالإنسان الأول في نهاية الأمر- بعد تكرارها مرات كثيرة- ذلك الإنسان الذي لبث أمداً طويلا لا يساوره القلق في استعمال الحجر الأصم الصليب، أن يجعل من هذه المادة المرنة عنصراً يتخذ منه آلاته وأسلحته، لأنها أيسر من الحجر صياغة وأدوم بقاء(51)؛ والأغلب أن يكون المعدن قد استعمل بادئ ذي بدء بالصورة التي قدمته عليها يد الطبيعة، وإنها لَيَدٌ فيها سخاء وبها إهمال في آن واحد؛ فكان نقيا حينا، مشوبا في معظم الأحيان ثم حدث بعد ذلك بزمن طويل- وربما كان ذلك حول سنة 3500 ق.م- في المنطقة التي تحيط بالطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، أن وقع الناس على فن صهر المعادن واستخراجها من مناجمها؛ ثم بدءوا في صبهّا نحو سنة 1500 ق.م "كما تدل على ذلك النقوش البارزة في مقبرة رخ- مارا في مصر)؛ فكانوا يصبّون النحاس المصهور في إناء من الطين أو الرمل، ثم يتركونه يبرد على صورة يريدونها، مثل رأس الرمح أو الفأس(52)؛ فلما أن كشف الإنسان عن هذه العملية في النحاس، استخدمها في مجموعة منوَّعة من المعادن الأخرى؛ وبهذا توفر للإنسان من العناصر القوية ما استطاع به أن يبني أعظم ما يعرف من ضروب الصناعة، وتهيأ له الطريق إلى غزو الأرض والبحر والهواء؛ ومن الجائز أن تكون كثرة النحاس في شرقي البحر الأبيض المتوسط
صفحة رقم : 191
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
هي التي سبَّبَت قيام ثقافات جديدة قوية في الألف الرابع من السنين قبل الميلاد، في "عيلام" و "ما بين النهرين" ومصر، ثم امتدت من هاتيك الأصقاع إلى سائر أجزاء المعمورة فبدّلتها حالا بعد حال(53).
غير أن النحاس وحده ليّن، فهو على الرغم من شدة صلاحيته للتشكيل مما ينفع في تحقيق طائفة من أغراضنا "ماذا كان يصنع عصرنا الكهربائي بغير نحاس؟" إلا أنه أضعف من أن يحتمل مهام السلم و الحرب التي تتطلب معدنا أقوى؛ لهذا كان لابد من عنصر آخر يضاف إلى النحاس ليشدّ من صلابته؛ ورغم أن الطبيعة قد أشارت إلى الإنسان بما عسى أن يضيفه إلى النحاس لهذه الغاية من مواد كثيرة الأنواع، بل إن الطبيعة كثيراً ما قدمت له نحاسا تم بالفعل خلطه واشتدت صلابته بما فيه من قصدير وزنك، مكونّةً بذلك برونزاً طبيعيا أو نحاسا أصفر، على رغم هذه المعونة من الطبيعة، فقد لبث الإنسان- فيما نظن- قرونا قبل أن يخطو الخطوة الثانية في هذا الصدد؛ وأعني بها خلط معدن بمعدن خلطا مدبرَّا مقصودا للحصول على مركبات أصلح لأغراضه، وعلى كل حال فهذا الكشف قد اهتدى إليه الإنسان منذ خمسة آلاف عام على أقل تقدير لأننا وجدنا البرونز بين الآثار الكريتية التي ترجع الى سنة 3000 ق.م، وفي الآثار المصرية التي ترجع إلى سنة 2800 ق.م، وفي ثاني مدن طروادة سنة 2000 ق.م(54)، فلم يعد- إذن- في وسعنا أن نتحدث عن "عصر البرونز" بمعنى الكلمة الدقيق، لأن هذا المعدن قد ظهر لشعوب مختلفة، في عصور مختلفة، وإذن فعبارة "عصر البرونز" ليس لها معنى زمني تؤديه(55) أضف إلى أن بعض الثقافات الإنسانية قد عَبَرَ مرحلة البرونز لم يَخطهُا، بل وثب رأسا من عصر الحجر إلى عصر الحديد، كما هي الحال في ثقافات فنلندة وشمال روسيا وبولنيزيا وإفريقية الوسطى وجنوب الهند وأمريكا و واستراليا واليابان(56)؛ بل إن الثقافات التي ظهرت فيها مرحلة البرونز لم يحتل فيها هذا
صفحة رقم : 192
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
المعدن إلا مكانة ثانوية، باعتباره ترََفاً يتمتع به الكهنة وعلِيَةُ الناس والملوك، على حين ظل غمار الشعب مرغما على الوقوف عند مرحلة الحجر لا يجاوزها(57) وحتى عبارتا "العصر الحجري القديم" و "العصر الحجري الحديث" فهما نسبيتان إلى حد كبير، وتصفان صورا من الحياة أكثر مما تحددان أزماناً وعصورا فإلى يومنا هذا يعيش كثير من الشعوب البدائية في عصرنا الحجري "مثل الإسكيمو وسكان جزاير بولنيزيا" لا يعرفون الحديد في حياتهم إلا على أنه ترََفّ يجيئهم به الرحالة المستكشفون من خارج؛ فعندما أرسى "الكابتن كوك" سفنه في زيلندة الجديدة سنة 1778، اشترى بضعة خنازير بمسمار ثمنه ستة بنسات "قرشان ونصف قرش"، ووصف رحالة آخر سكان "جزيرة الكلب" بأنهم "في حاجة نهمة للحديد، حتى لتحدثهم أنفسهم أن ينتزعوا المسامير من السفن" (58).
ولئن كان البرونز قوياً شديد الاحتمال، إلا أن النحاس والقصدير اللازمين لصناعته لم يكونا من الكثرة في الكمية أو في أماكن وجودهما بحيث يجد الإنسان حاجته من أجوده صنفاً لشئون الصناعة والحرب؛ فكان لابد للحديد أن يظهر عاجلا أو آجلا؛ وإنه لمن متناقضات التاريخ ألا يظهر الحديد- على وفرته- إلا بعد أن ظهر النحاس والبرونز؛ وربما بدأ الناس استخدام الحديد بصناعة الأسلحة من حديد الشهُب، كما قد صنع "بُناةُ الجبال"- فيما يظهر- وكما يفعل بعض البدائيين حتى يومنا هذا؛ ويجوز أن يكون الناس قد عقبوا على ذلك بإذابة المعدن من منجمه بواسطة النار، ثم طرقوه إلى حديد مشغول؛ ولقد وجدنا ما يشبه أن يكون حديداً شهابياً في المقابر المصرية قبل عهد الأسرات المالكة؛ وتذكر النقوشُ البابليةُ الحديدَ على أنه سلعة نادرة ثمينة في عاصمة حمورابي (2100 ق.م) وكشفنا عن مَسبَك للحديد قد يرجع عهده إلى أربعة آلاف عام، في روديسيا الشمالية، كما أن استنجام الحديد في جنوب أفريقيا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 193
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
ليس وليد العصور الحديثة؛ وأقدم حديد مشغول مما نعرف، مجموعةُّ من المُدَى وُجِدَت في "جيرار" في فلسطين ، حَدَّدَ "بترى" تاريخها بسنة 1350 ق.م؛ ثم ظهر الحديد بعد ذلك بقرن كامل في مصر، في عهد الملك العظيم رمسيس الثاني؛ وبعد ذلك بقرن آخر من الزمان، ظهر في جزر بحر إيجه؛ وأما في غرب أوربا فقد ظهر في "هولستات" Holistatt بالنمسا حوالي سنة 900 ق.م، كما ظهر في صناعة مدينة "لاتين" La Tene في سويسرا حول سنة 500 ق.م؛ وقد عرفته الهند حين أدخله فيها الإسكندر، وعرفته أمريكا على يد كولمبس، كما عرفته أوشيانيا بفضل "كوك" (59)؛ وبهذه السرعة الوئيدة الخطى، طفق الحديد، قرناً بعد قرن، يطوف بالعالم ليغزوه.
صفحة رقم : 194
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
2- الكتابة
أصولها الخزفية الممكنة - "رموز البحر الأبيض
المتوسط" - الكتابة الهيروغليفية - أحرف الهجاء
لكن أوسع خطوة خطاها الإنسان في انتقاله إلى المدنية هي الكتابة؛ ففي قطع من الخزف هبطت إلينا من العصر الحجري الثاني، خطوط مرسومة بالألوان فَسرَّها كثير من الباحثين على أنها رموز(60)؛ وقد يكون هذا موضعاً للشك، لكنه من الجائز أن تكون الكتابة- بمعناها الواسع الذي يدل على رموز من رسوم تعبّر عن أفكار- قد بدأت بعلاماتٍ مطبوعة بالأظفار أو بالمسامير على الطين وهو ليّن؛ بغية زخرفته أو تمييزه بعد أن تتم صناعته خزفاً؛ ففي أقدم كتابة هيروغليفية في "سومر" توحي صورة الطائر بأوجُه شبه بينها وبين الزخارف الطائرية الموجودة على أقدم الآثار الخزفية عند "سوزا" في "عيلام" كذلك أقدم صورة للغلال مما استُخدم في الكتابة التصويرية؛ نُقلَت رأساً من الزخارف الغلالية الهندسية الأشكال في "سوزا" و"سومر"؛
صفحة رقم : 195
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
والأحرف المستقيمة الخطوط التي ظهرت بادئ الأمر في "سومر" حول سنة 3600 ق.م إن هي- فيما يظهر- إلا صورة مختصرة من الرموز والرسوم المصورة أو المطبوعة على الخزف البدائي في الجزء الأدنى من بلاد ما بين النهرين أو في "عيلام" (60 أ)؛ وإذن فالكتابة- شأنها شأن التصوير والنحت- قد تكون في نشأتها فناً خزفياً إذ بدأت ضرباً من ضروب النقش والرسم؛ وبذلك تكون الطينة نفسها التي استحالت في يد الخزّاف آنية، وفي يد النحات تماثيل، وفي يد البناء آجُرًّا، قد هيأت للكاتب مادته التي يخط عليها كتابته؛ وطريق التطور من هذه البداية إلى الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين، منطقي المراحل مفهوم التدرّج.
وأقدم الرموز التصويرية المعروفة لدينا هي تلك التي وجدها "فِلِندَرز بتِرى" Flinders Petrie على قطع الفخار وآنيته وعلى قطع من الحجر، مما كَشَفَ عنه في مقابر ما قبل التاريخ، في مصر وإسبانيا والشرق الأدنى، ولقد حَدَّدَ عمرها بسخائه المعهود في تقدير الأعمار، بسبعة آلاف عام؛ وهذه الرموز الكتابية التي وجدت في حوض البحر الأبيض المتوسط، تبلغ ما يقرب من ثلاثمائة رمز، معظمها متشابه في جميع الأرجاء، مما يدل على علاقات تجارية قامت بين طرفي البحر الأبيض المتوسط في عهد يرجع في التاريخ إلى سنة 5000 ق.م؛ ولم تكن هذه الرموز صوراً، بل كان معظمها علامات تجارية- علامات تدل على الملِكية والكمية أو غير ذلك من معلومات يقتضيها التبادل التجاري؛ فلئن كان هذا الأصل المتواضع مما يؤذي الطبقة الوسطى من الأغنياء، فإن لهم ما يعزيهم في أن الأدب قد اشتقَّ أصوله من "فواتير" الحساب ومن شحنات المراكب؛ ولم تكن العلامات حروفاً، لأن العلامة الواحدة كانت كلمة كاملة أو فكرة بأسرها، ومع ذلك فمعظمها كان شديد الشبه بأحرف الهجاء الفينيقية؛ ويستنتج "بترى" من ذلك أن "مجموعة كبيرة من الرموز قد استخدمت شيئاً فشيئاً في العصور الأولى لأغراض شتى، فقد تبودلت مع التجارة، وانتشرت من قطر إلى
صفحة رقم : 196
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
قطر ... حتى كتب النصر لنحو ستة رموز، فأصبحت مِلكا مشاعاً لطائفة من هيئات التجارة، بينما أخذت سائر الأشكال التي اقتصر استعمالها على قطر واحد دون بقية الأقطار، تموت في عزلتها شيئاً فشيئاً" (61) والنظرية القائلة بأن هذه العلامات الرمزية هي أصل الأحرف الهجائية، جديرة بالاهتمام، وهي نظرية امتاز الأستاذ "بتري" بأنه يعتنقها دون سائر العلماء(62).
ومهما يكن من أمر تطور هذه الرموزية التجارية الأولى، فلقد سايرها جنبا إلى جنب ضرب من الكتابة كان فرعاً من الرسم والتصوير، وكان يعبر بالصور عن فكر متصل؛ ولا تزال صخور بالقرب من البحيرة العليا "بحيرة سوبيرير" تحل آثارا من الصور الغليظة التي استخدمها هنود أمريكا في روايتهم لقصة عبورهم هذه البحيرة الجبارة رووها للخلف، أو ربما رووها لزملائهم، روايةً يعبرون فيها عن زهوهم بما صنعوا(63)؛ كذلك يظهر أن تطوراً كهذا نَقَلَ الرسم إلى كتابة في أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط عند نهاية العصر الحجري الحديث؛ ويقيناً أنه ما جاءت سنة 3600 ق.م- وقد يكون قبل ذلك التاريخ بزمن طويل- حتى كانت "عيلام" و"سومر" ومصر قد طوَّرت مجموعة من الصور التي يعبرون بها عن أفكارهم، وأطلقوا عليها اسم "الكتابة الهيروغليفية" لأن معظم من قام بها كان من الكهنة(64) وظهرت مجموعة أخرى من هذه الصور شبيهة بتلك، في كريت حول سنة 2500 ق.م؛ وسنرى فيما بعد كيف استحالت هذه الكتابة الهيروغليفية التي تمثل كلُّ صورة منها فكرة، كيف استحالت بخطأ الاستعمال، ثم بما تناولها من تنسيق وتنظيم عرفي، إلى مقاطع. أعني إلى مجموعة من الرموز يدل كل منها على مقطع؛ ثم كيف استخدمت العلامات آخر الأمر لا لتدل على المقطع كله، بل على أول ما فيه من أصوات. وبهذا أصبحت حروفاً؛ وربما كان تاريخ هذه الكتابة الهيروغليفية يرتد في التاريخ إلى سنة 3000 ق.م في مصر، وأما في كريت فقد ظهرت
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> ظهور المعادن
ليس وليد العصور الحديثة؛ وأقدم حديد مشغول مما نعرف، مجموعةُّ من المُدَى وُجِدَت في "جيرار" في فلسطين ، حَدَّدَ "بترى" تاريخها بسنة 1350 ق.م؛ ثم ظهر الحديد بعد ذلك بقرن كامل في مصر، في عهد الملك العظيم رمسيس الثاني؛ وبعد ذلك بقرن آخر من الزمان، ظهر في جزر بحر إيجه؛ وأما في غرب أوربا فقد ظهر في "هولستات" Holistatt بالنمسا حوالي سنة 900 ق.م، كما ظهر في صناعة مدينة "لاتين" La Tene في سويسرا حول سنة 500 ق.م؛ وقد عرفته الهند حين أدخله فيها الإسكندر، وعرفته أمريكا على يد كولمبس، كما عرفته أوشيانيا بفضل "كوك" (59)؛ وبهذه السرعة الوئيدة الخطى، طفق الحديد، قرناً بعد قرن، يطوف بالعالم ليغزوه.
صفحة رقم : 194
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
2- الكتابة
أصولها الخزفية الممكنة - "رموز البحر الأبيض
المتوسط" - الكتابة الهيروغليفية - أحرف الهجاء
لكن أوسع خطوة خطاها الإنسان في انتقاله إلى المدنية هي الكتابة؛ ففي قطع من الخزف هبطت إلينا من العصر الحجري الثاني، خطوط مرسومة بالألوان فَسرَّها كثير من الباحثين على أنها رموز(60)؛ وقد يكون هذا موضعاً للشك، لكنه من الجائز أن تكون الكتابة- بمعناها الواسع الذي يدل على رموز من رسوم تعبّر عن أفكار- قد بدأت بعلاماتٍ مطبوعة بالأظفار أو بالمسامير على الطين وهو ليّن؛ بغية زخرفته أو تمييزه بعد أن تتم صناعته خزفاً؛ ففي أقدم كتابة هيروغليفية في "سومر" توحي صورة الطائر بأوجُه شبه بينها وبين الزخارف الطائرية الموجودة على أقدم الآثار الخزفية عند "سوزا" في "عيلام" كذلك أقدم صورة للغلال مما استُخدم في الكتابة التصويرية؛ نُقلَت رأساً من الزخارف الغلالية الهندسية الأشكال في "سوزا" و"سومر"؛
صفحة رقم : 195
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
والأحرف المستقيمة الخطوط التي ظهرت بادئ الأمر في "سومر" حول سنة 3600 ق.م إن هي- فيما يظهر- إلا صورة مختصرة من الرموز والرسوم المصورة أو المطبوعة على الخزف البدائي في الجزء الأدنى من بلاد ما بين النهرين أو في "عيلام" (60 أ)؛ وإذن فالكتابة- شأنها شأن التصوير والنحت- قد تكون في نشأتها فناً خزفياً إذ بدأت ضرباً من ضروب النقش والرسم؛ وبذلك تكون الطينة نفسها التي استحالت في يد الخزّاف آنية، وفي يد النحات تماثيل، وفي يد البناء آجُرًّا، قد هيأت للكاتب مادته التي يخط عليها كتابته؛ وطريق التطور من هذه البداية إلى الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين، منطقي المراحل مفهوم التدرّج.
وأقدم الرموز التصويرية المعروفة لدينا هي تلك التي وجدها "فِلِندَرز بتِرى" Flinders Petrie على قطع الفخار وآنيته وعلى قطع من الحجر، مما كَشَفَ عنه في مقابر ما قبل التاريخ، في مصر وإسبانيا والشرق الأدنى، ولقد حَدَّدَ عمرها بسخائه المعهود في تقدير الأعمار، بسبعة آلاف عام؛ وهذه الرموز الكتابية التي وجدت في حوض البحر الأبيض المتوسط، تبلغ ما يقرب من ثلاثمائة رمز، معظمها متشابه في جميع الأرجاء، مما يدل على علاقات تجارية قامت بين طرفي البحر الأبيض المتوسط في عهد يرجع في التاريخ إلى سنة 5000 ق.م؛ ولم تكن هذه الرموز صوراً، بل كان معظمها علامات تجارية- علامات تدل على الملِكية والكمية أو غير ذلك من معلومات يقتضيها التبادل التجاري؛ فلئن كان هذا الأصل المتواضع مما يؤذي الطبقة الوسطى من الأغنياء، فإن لهم ما يعزيهم في أن الأدب قد اشتقَّ أصوله من "فواتير" الحساب ومن شحنات المراكب؛ ولم تكن العلامات حروفاً، لأن العلامة الواحدة كانت كلمة كاملة أو فكرة بأسرها، ومع ذلك فمعظمها كان شديد الشبه بأحرف الهجاء الفينيقية؛ ويستنتج "بترى" من ذلك أن "مجموعة كبيرة من الرموز قد استخدمت شيئاً فشيئاً في العصور الأولى لأغراض شتى، فقد تبودلت مع التجارة، وانتشرت من قطر إلى
صفحة رقم : 196
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
قطر ... حتى كتب النصر لنحو ستة رموز، فأصبحت مِلكا مشاعاً لطائفة من هيئات التجارة، بينما أخذت سائر الأشكال التي اقتصر استعمالها على قطر واحد دون بقية الأقطار، تموت في عزلتها شيئاً فشيئاً" (61) والنظرية القائلة بأن هذه العلامات الرمزية هي أصل الأحرف الهجائية، جديرة بالاهتمام، وهي نظرية امتاز الأستاذ "بتري" بأنه يعتنقها دون سائر العلماء(62).
ومهما يكن من أمر تطور هذه الرموزية التجارية الأولى، فلقد سايرها جنبا إلى جنب ضرب من الكتابة كان فرعاً من الرسم والتصوير، وكان يعبر بالصور عن فكر متصل؛ ولا تزال صخور بالقرب من البحيرة العليا "بحيرة سوبيرير" تحل آثارا من الصور الغليظة التي استخدمها هنود أمريكا في روايتهم لقصة عبورهم هذه البحيرة الجبارة رووها للخلف، أو ربما رووها لزملائهم، روايةً يعبرون فيها عن زهوهم بما صنعوا(63)؛ كذلك يظهر أن تطوراً كهذا نَقَلَ الرسم إلى كتابة في أرجاء حوض البحر الأبيض المتوسط عند نهاية العصر الحجري الحديث؛ ويقيناً أنه ما جاءت سنة 3600 ق.م- وقد يكون قبل ذلك التاريخ بزمن طويل- حتى كانت "عيلام" و"سومر" ومصر قد طوَّرت مجموعة من الصور التي يعبرون بها عن أفكارهم، وأطلقوا عليها اسم "الكتابة الهيروغليفية" لأن معظم من قام بها كان من الكهنة(64) وظهرت مجموعة أخرى من هذه الصور شبيهة بتلك، في كريت حول سنة 2500 ق.م؛ وسنرى فيما بعد كيف استحالت هذه الكتابة الهيروغليفية التي تمثل كلُّ صورة منها فكرة، كيف استحالت بخطأ الاستعمال، ثم بما تناولها من تنسيق وتنظيم عرفي، إلى مقاطع. أعني إلى مجموعة من الرموز يدل كل منها على مقطع؛ ثم كيف استخدمت العلامات آخر الأمر لا لتدل على المقطع كله، بل على أول ما فيه من أصوات. وبهذا أصبحت حروفاً؛ وربما كان تاريخ هذه الكتابة الهيروغليفية يرتد في التاريخ إلى سنة 3000 ق.م في مصر، وأما في كريت فقد ظهرت
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 197
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
حول سنة 1600 ق.م(65)؛ إن الفينيقيين لم يخلقوا أحرف الهجاء، ولكنهم اتخذوا منها سلعة للبيع والشراء؛ فقد أخذوها- فيما نظن- من مصر وكريت(66) وأدخلوها جزءاً جزءاً في "صور" و "صيدا" و "بيبلوس" Byblos، ثم أصدروها إلى كل مدينة من مدن البحر الأبيض المتوسط؛ وهكذا كانوا سماسرة لأحرف الهجاء يأخذونها من أصحابها ليذيعوها، ولم يكونوا مبدعيها حتى إذا ما كان عصر هومر، كان اليونان يأخذون هذه الأحرف الفينيقية- أو قُل الأحرف التي اتحد في خلقها الآراميون جميعاً- وكانوا يطلقون عليها الاسمين الساميَّين الحرفين الأولَّين "وهما: ألفا، بيتا؛ وبالعبرية ألفِ، بيت(67).
فالظاهر أن الكتابة من نتائج التجارة، وهي إحدى وسائل التجارة المسهلة لأمورها، فها هنا أيضا ترى الثقافة كم هي مدينةّ للتجارة؛ ذلك أنه لما اصطنع الكهنة لأنفسهم مجموعة من رسوم يكتبون بها عباراتهم السحرية والطقوسية والطبيّة، اتحدت الطائفتان: الدنيوية والدينية، وهما طائفتان متنازعتان عادة، اتحدتا مؤقتاً لتتعاونا على إخراج أعظم ما أخرجته الإنسانية من مخترعاتها منذ عرف الإنسان الكلام؛ نستطيع أن نقول إن تطور الكتابة هو الذي كان يخلق الحضارة خلقاً، لأن الكتابة هيأت وسيلة تسجيل المعرفة ونقلها كما كانت وسيلة ازدهار العلم وازدهار الأدب، وانتشار السلام والنظام بين القبائل المتنافرة، لكنها متصلة على تنافرها، لأن استخدام لغة واحدة أخضعتها جميعاً لدولة واحدة؛ إن بداية ظهور الكتابة هي الحدُّ الذي يُعَيّن بداية التاريخ، تلك البداية التي يتراجع عهدها كلما اتسعت معارف الإنسان بآثار الأولين.
صفحة رقم : 198
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> المدنيات المفقودة
3- المدنيَّات المفقودة
بولينزيا - أطلانطس
ما دمنا الآن قد دنونا من تاريخ الأمم المتحضرة، فلا بد لنا أن نلاحظ أننا سنكتفي من كل ثقافة نعرضها بجزء يسير نختاره منها، وليس ذلك فحسب، بل قد لا نتناول بوصفنا إلا عدداً قليلا من المدنيات التي يجوز أن تكون قد قامت قوائمها يوماً على الأرض؛ فليس في وسعنا أن نُصَمَّ آذاننا فلا نسمع هذه الأساطير التي لم تنقطع روايتها طوال عصور التاريخ، عن مدنيات كانت ذات يوم عظيمة عالية الثقافة، ثم حلت بها كارثة من كوارث الطبيعة أو الحرب فحطمتها تحطيماً لم يُبق منها ولم يَذَر، فإن حفائرنا الحديثة في مدنيَّات كريت وسومر ويقطان تدل كلها على مدى احتمال الصدق في هذه الأساطير.
ففي المحيط الهادي آثار مدنيَّة واحدة على الأقل من هذه المدنيَّات الضائعة؛ فالتماثيل الضخمة في جزيرة "إبستر" وما يرويه الرواة في بولينزيا عن أمم قوية ومقاتلين أبطال كانوا ذات يوم يكتبون المجد لساموا وتاهيتي؛ ثم ما لسكانها من قدرة في الفن وحساسية في الشعر، كل ذلك يدل على مجد ذاهب، يدل على شعب لا يبدأ اليوم نهوضه ليأخذ في الحضارة، بل يتدهور من منزلة عالية كان ينزلها؛ وفي قاع المحيط الأطلسي، يمتد جزء مرتفع تحت الماء من أيسلندة شمالا إلى القطب الجنوبي، فينهض دليلا جديدا يؤيد هذه الأسطورة التي نقلها إلينا أفلاطون(68) في صورة جذابة خلابة الأسطورة التي تروى عن حضارة ازدهرت يوما على قارة محاطة بالماء بين أوربا وآسيا، ثم ضاعت بين عشية وضحاها حين ارتجَّت الأرض ارتجاجا فابتلع اليمُّ تلك القارة في جوفه ابتلاعا؛ ويعتقد "شليمان"
صفحة رقم : 199
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> المدنيات المفقودة
- الذي بعث طروادة بعد موت- أن قارة أطلنطس كانت بمثابة حلقة اتصال بين ثقافتي أوربا ويقطان، وأن مصر كانت قد استمدت حضارتها من أطلنطس هذه(69) ولعل أمريكا نفسها أن تكون هي أطلنطس وأنها كانت ذات حضارة قديمة متصلة بحضارات إفريقية وأوربا في العصر الحجري الحديث؛ ويجوز أن كل كشف جديد يقع عليه الإنسان اليوم، هو كشف للمرة الثانية، سبقه في العصر السالف كشف أول.
لاشك أنه من الجائز- كما ظن أرسطو- أن يكون العالم قد شهد مدنيات كثيرة، وصلت إلى كثير من المخترعات وأسباب الترف ثم أصابها الدمار وزالت من ذاكرات البشر؛ ويقول "بيكُن" عن التاريخ إنه حطام سفينة، إذ ضاع من الماضي أكثر مما بقى؛ وإننا لنجد العزاء عن هذا الضائع في الرأي القائل بأنه كما أن ذاكرة الفرد لا بد أن تنسى الجزء الأعظم مما يصادفه في خبرته من حوادث، لكي يحتفظ الفرد بقوته العاقلة، فكذلك الجنس البشري كله لم يحتفظ في تراثه إلا بأنصع وأقوى ما مَر به من تجارب ثقافية- أم هل استمد هذا المحفوظ نصوعه في الذاكرة وقوته لأنه وحده ما أجاد الذاكرة الاحتفاظ به؟- ومهما يكن من أمر تراثنا الذي نعيه، فحتى لو لم يكن إلا عُشر ما مَر بالإنسان من تجارب، فليس في وسع إنسان أن يلم به كله؛ وسنجد قصة الإنسان رغم ذلك كله مليئة مترعة بما يكفي.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> الكتابة
حول سنة 1600 ق.م(65)؛ إن الفينيقيين لم يخلقوا أحرف الهجاء، ولكنهم اتخذوا منها سلعة للبيع والشراء؛ فقد أخذوها- فيما نظن- من مصر وكريت(66) وأدخلوها جزءاً جزءاً في "صور" و "صيدا" و "بيبلوس" Byblos، ثم أصدروها إلى كل مدينة من مدن البحر الأبيض المتوسط؛ وهكذا كانوا سماسرة لأحرف الهجاء يأخذونها من أصحابها ليذيعوها، ولم يكونوا مبدعيها حتى إذا ما كان عصر هومر، كان اليونان يأخذون هذه الأحرف الفينيقية- أو قُل الأحرف التي اتحد في خلقها الآراميون جميعاً- وكانوا يطلقون عليها الاسمين الساميَّين الحرفين الأولَّين "وهما: ألفا، بيتا؛ وبالعبرية ألفِ، بيت(67).
فالظاهر أن الكتابة من نتائج التجارة، وهي إحدى وسائل التجارة المسهلة لأمورها، فها هنا أيضا ترى الثقافة كم هي مدينةّ للتجارة؛ ذلك أنه لما اصطنع الكهنة لأنفسهم مجموعة من رسوم يكتبون بها عباراتهم السحرية والطقوسية والطبيّة، اتحدت الطائفتان: الدنيوية والدينية، وهما طائفتان متنازعتان عادة، اتحدتا مؤقتاً لتتعاونا على إخراج أعظم ما أخرجته الإنسانية من مخترعاتها منذ عرف الإنسان الكلام؛ نستطيع أن نقول إن تطور الكتابة هو الذي كان يخلق الحضارة خلقاً، لأن الكتابة هيأت وسيلة تسجيل المعرفة ونقلها كما كانت وسيلة ازدهار العلم وازدهار الأدب، وانتشار السلام والنظام بين القبائل المتنافرة، لكنها متصلة على تنافرها، لأن استخدام لغة واحدة أخضعتها جميعاً لدولة واحدة؛ إن بداية ظهور الكتابة هي الحدُّ الذي يُعَيّن بداية التاريخ، تلك البداية التي يتراجع عهدها كلما اتسعت معارف الإنسان بآثار الأولين.
صفحة رقم : 198
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> المدنيات المفقودة
3- المدنيَّات المفقودة
بولينزيا - أطلانطس
ما دمنا الآن قد دنونا من تاريخ الأمم المتحضرة، فلا بد لنا أن نلاحظ أننا سنكتفي من كل ثقافة نعرضها بجزء يسير نختاره منها، وليس ذلك فحسب، بل قد لا نتناول بوصفنا إلا عدداً قليلا من المدنيات التي يجوز أن تكون قد قامت قوائمها يوماً على الأرض؛ فليس في وسعنا أن نُصَمَّ آذاننا فلا نسمع هذه الأساطير التي لم تنقطع روايتها طوال عصور التاريخ، عن مدنيات كانت ذات يوم عظيمة عالية الثقافة، ثم حلت بها كارثة من كوارث الطبيعة أو الحرب فحطمتها تحطيماً لم يُبق منها ولم يَذَر، فإن حفائرنا الحديثة في مدنيَّات كريت وسومر ويقطان تدل كلها على مدى احتمال الصدق في هذه الأساطير.
ففي المحيط الهادي آثار مدنيَّة واحدة على الأقل من هذه المدنيَّات الضائعة؛ فالتماثيل الضخمة في جزيرة "إبستر" وما يرويه الرواة في بولينزيا عن أمم قوية ومقاتلين أبطال كانوا ذات يوم يكتبون المجد لساموا وتاهيتي؛ ثم ما لسكانها من قدرة في الفن وحساسية في الشعر، كل ذلك يدل على مجد ذاهب، يدل على شعب لا يبدأ اليوم نهوضه ليأخذ في الحضارة، بل يتدهور من منزلة عالية كان ينزلها؛ وفي قاع المحيط الأطلسي، يمتد جزء مرتفع تحت الماء من أيسلندة شمالا إلى القطب الجنوبي، فينهض دليلا جديدا يؤيد هذه الأسطورة التي نقلها إلينا أفلاطون(68) في صورة جذابة خلابة الأسطورة التي تروى عن حضارة ازدهرت يوما على قارة محاطة بالماء بين أوربا وآسيا، ثم ضاعت بين عشية وضحاها حين ارتجَّت الأرض ارتجاجا فابتلع اليمُّ تلك القارة في جوفه ابتلاعا؛ ويعتقد "شليمان"
صفحة رقم : 199
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> المدنيات المفقودة
- الذي بعث طروادة بعد موت- أن قارة أطلنطس كانت بمثابة حلقة اتصال بين ثقافتي أوربا ويقطان، وأن مصر كانت قد استمدت حضارتها من أطلنطس هذه(69) ولعل أمريكا نفسها أن تكون هي أطلنطس وأنها كانت ذات حضارة قديمة متصلة بحضارات إفريقية وأوربا في العصر الحجري الحديث؛ ويجوز أن كل كشف جديد يقع عليه الإنسان اليوم، هو كشف للمرة الثانية، سبقه في العصر السالف كشف أول.
لاشك أنه من الجائز- كما ظن أرسطو- أن يكون العالم قد شهد مدنيات كثيرة، وصلت إلى كثير من المخترعات وأسباب الترف ثم أصابها الدمار وزالت من ذاكرات البشر؛ ويقول "بيكُن" عن التاريخ إنه حطام سفينة، إذ ضاع من الماضي أكثر مما بقى؛ وإننا لنجد العزاء عن هذا الضائع في الرأي القائل بأنه كما أن ذاكرة الفرد لا بد أن تنسى الجزء الأعظم مما يصادفه في خبرته من حوادث، لكي يحتفظ الفرد بقوته العاقلة، فكذلك الجنس البشري كله لم يحتفظ في تراثه إلا بأنصع وأقوى ما مَر به من تجارب ثقافية- أم هل استمد هذا المحفوظ نصوعه في الذاكرة وقوته لأنه وحده ما أجاد الذاكرة الاحتفاظ به؟- ومهما يكن من أمر تراثنا الذي نعيه، فحتى لو لم يكن إلا عُشر ما مَر بالإنسان من تجارب، فليس في وسع إنسان أن يلم به كله؛ وسنجد قصة الإنسان رغم ذلك كله مليئة مترعة بما يكفي.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 200
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> مهود المدنية
4- مهود المدنيّة
آسيا الوسطى - أناو - خطوط الانتشار
إنه من المناسب أن نختم هذا الفصل الذي ملأناه بأسئلة لا يمكن الجواب عنها، بهذا السؤال: "أين بدأت المدنية؟"- وهو كذلك سؤال يعزّ على الجواب؛ فلو أخذنا بما يقوله الجيولوجيون الذين يعنون في أبحاثهم عما قبل التاريخ بضباب أين منه شطحات الميتافيزيقا، لو أخذنا بما يقولونه، لكانت المناطق
صفحة رقم : 201
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> مهود المدنية
القاحلة في آسيا الوسطى ذات ماضٍ فيه ماء وفيه اعتدال في حرارة الجو، وفيه ما يُزهره من بحيرات عظيمة وأنهار كثيرة(70)، تراجعت عنها آخر الموجات الجليدية، فجفَّت شيئا فشيئا حتى لم يعد ما يسقط على ذلك الإقليم من مطر كافيا لقيام المدن والدول؛ فأخذت المدائن تقفر من أهلها واحدة في إثر واحدة، حين هرب الناس غربا وشرقا وشمالا وجنوبا سعيا وراء الماء؛ ولا تزال ترى أنقاض مدن مثل "باكترا" Bactrai غائصة في الصحراء إلى نصفها- ولابد أن تكون "باكترا" هذه قد ازدحمت بسكانها في مساحتها التي تمتد قطر دائرتها اثنين وعشرين ميلا؛ ولقد حدث في عهد جدّ حديث- سنة 1868- أن اضطر عدد من أهل تركستان الغربية يقرب من ثمانين ألف نسمة، أن يهاجر لأن الرمال الزاحفة قد غمرت موضعه من الأرض(71) وكثيرون يذهبون إلى أن هذه الأصقاع التي تسير اليوم في طريقها إلى الفناء، قد شهدت أول خطوات أساسية من خطوات التقدم، في هذا المزيج المؤلف من نظام وطعام وعرف وأخلاق وترف وثقافة، والذي منه تتكون المدنية(72).
ولقد كشف "بَمبلِي" سنة 1907 قي "أناو" جنوبي التركستان، عن خزف وآثار أخرى تدل على ثقافة قديمة أرجعها إلى سنة 9000 ق.م، وربما أسرف في تقديره هذا فزاد أربعة آلاف(73)؛ وهاهنا نجد زراعة القمح والشعير والذرة، واستخدم الناس واستئناس الحيوان، وزخرفة الفخار بزخارف بينها من التشابه في قواعد الرسم ما يدل على أنهم كانوا قد جمعوا تقاليد وبطانة في الفنون لعدة قرون سلفت(74) والظاهر أن ثقافة تركستان سنة 5000 ق.م كانت قد قطعت من الزمن أشواطا؛ وربما كان بينهم إذ ذاك مؤرخون يضربون في أعماق ماضيهم عبثاً للبحث عن أصول المدنية، وفلاسفة أخذوا يندبون بعبارة فصيحة ما أصاب الجنس البشري إذ ذاك من تدهور كان يؤدي به إلى الموت.
ولو اهتدينا بالخيال حيث يعزُّ علينا العلم الصحيح، لقلنا إنه من هذا المركز
صفحة رقم : 202
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> مهود المدنية
هاجر الناس- يلوذون فراراً مما أصاب أرضهم من جفاف في المطر وجفاف في تربة الأرض- فساروا في اتجاهات ثلاثة، يحملون معهم ما لهم من فن ومدنية؛ فبلغت فنونهم- إن لم يبلغوا بفضيلتهم- أرض الصين ومنشوريا وأمريكا الشمالية من جهة الشرق؛ وبلغت شمال الهند في سيرها إلى الجنوب؛ ثم أدركت في طريقها نحو الغرب بلاد "عيلام" و "سومر" ومصر؛ بل إيطاليا وأسبانيا كذلك(75)؛ فقد وجدت في "سوزا" وهي في "عيلام" القديمة (فارس الحديثة) آثار تشبه في نمطها آثار "أناو" شبهاً يكاد يبرر للخيال الذي يعيد قوته صورة الماضي، أن يفترض أنه قد كان بين "سوزا" و "أناو" صلات ثقافية في فجر المدنية (أي حول سنة 4000 ق.م)(76) وكذلك يوجد شَبَه كهذا في الفنون والمنتجات القديمة يوحي بوجود علاقة كهذه بين بلاد ما بين النهرين ومصر فيما قبل التاريخ، وبوجود ارتباط يدل على اتصال مجرى المدنية.
ويستحيل علينا أن نعلم علم اليقين أيّ هذه الثقافات جاء أولا، وليس ذلك بكبير الأهمية، لأنها جميعاً كانت في جوهرها أفراد أسرة واحدة ونمط واحد، فلو كان لنا أن نخالف الرأي الشائع الذي اكتسب احتراما لقِدَمه، بحيث نضع "عيلام" و"سومر" قبل مصر، فلسنا نصدر في ذلك عن عبث يريد مخالفة المعروف لذاتها، لكننا نعتمد على الحقيقة التي تدل على أن عمر هذه المدنيات الآسيوية، إذا قيس إلى مدنيات إفريقية وأوربا، يمتد طولا كلما ازداد علمنا بتلك المدنيات عمقا؛ فمجاريف علماء الآثار بعد أن قضت قرنا كاملا في بحثها المظفّر على ضفاف النيل، انتقلت في سيرها عبر السويس إلى جزيرة العرب وإلى فلسطين وبين النهرين وفارس، وهي كلما خطت في طريقها هذا، ازددنا ترجيحا مع تزايد المعرفة التي تعود علينا من أبحاثنا، أن الدلتا الخصيبة للأنهار التي تجري في أرض الجزيرة "ما بين النهرين" هي التي شهدت أول مناظر المسرحية التاريخية للمدنية الإنسانية، فيما نعلم.
صفحة رقم : 203
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> توجيه
الكتاب الأول
الشرق الأدنى
الباب السابع
سومر
توجيه - فضل الشرق الأدنى على الحضارة الغربية
لقد انقضى منذ بداية التاريخ المكتوب حتى الآن ما لا يقل عن ستة آلاف عام، وفي خلال نصف هذا العهد كان الشرق الأدنى مركز الشئون البشرية التي وصل إلينا علمها. وإذا ذكرنا هذا اللفظ المبهم لهذا الكتاب فإنا نقصد به جميع بلاد آسية الجنوبية الغربية الممتدة جنوب الروسيا والبحر الأسود، وغرب الهند وأفغانستان. وسنطلق هذا الاسم أيضا- وإن خرجنا في هذا على مقتضيات الدقة أكثر من ذي قبل- على مصر، لأن هذه البلاد كانت شديدة الاتصال بذلك الجزء من العالم كما كانت مركزا انتشرت منه الحضارة الشرقية. على هذا المسرح غير الدقيق التحديد الآهل بالسكان وبالثقافات المتباينة نشأت الزراعة والتجارة، والخيل المستأنسة والمركبات، وسكت النقود، وكتبت خطابات الاعتماد، ونشأت الحرف والصناعات، والشرائع والحكومات، وعلوم الرياضة والطب، والحقن الشرجية، وطرق صرف المياه، والهندسة والفلك، والتقويم والساعات، وصورت دائرة البروج، وعرفت الحروف الهجائية والكتابة، واخترع الورق والحبر، وألفت الكتب وشيدت المكتبات والمدارس، ونشأت الآداب والموسيقى والنحت وهندسة البناء، وصنع الخزف المطلي المصقول والأثاث الدقيق الجميل، ونشأت عقيدة التوحيد ووحدة الزواج، واستخدمت دهان التجميل والحلي، وعرف النرد والداما، وفرضت ضريبة الدخل، واستخدمت المرضعات وشربت الخمور- عرفت هذه الأشياء كلها واستمدت منها أوربا وأمريكا
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> توجيه
ثقافتهما على مدى القرون عن طريق كريت واليونان والرومان. وقصارى القول أن "الآريين" لم يشيدوا صرح الحضارة- بل أخذوها عن بابل ومصر، وأن اليونان لم ينشئوا الحضارة إنشاء لأن ما ورثوه منها أكثر مما ابتدعوه. وكانوا الوارث المدلل المتلاف لذخيرة من الفن والعلم مضى عليها ثلاثة آلاف من السنين، وجاءت إلى مدائنهم مع مغانم التجارة والحرب. فإذا درسنا الشرق الأدنى وعظمنا شأنه، فإننا بذلك نعترف بما علينا من دين لمن شادوا بحق صرح الحضارة الأوربية والأمريكية، وهو دين كان يجب أن يؤدى من زمن بعيد.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> مهود المدنية
4- مهود المدنيّة
آسيا الوسطى - أناو - خطوط الانتشار
إنه من المناسب أن نختم هذا الفصل الذي ملأناه بأسئلة لا يمكن الجواب عنها، بهذا السؤال: "أين بدأت المدنية؟"- وهو كذلك سؤال يعزّ على الجواب؛ فلو أخذنا بما يقوله الجيولوجيون الذين يعنون في أبحاثهم عما قبل التاريخ بضباب أين منه شطحات الميتافيزيقا، لو أخذنا بما يقولونه، لكانت المناطق
صفحة رقم : 201
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> مهود المدنية
القاحلة في آسيا الوسطى ذات ماضٍ فيه ماء وفيه اعتدال في حرارة الجو، وفيه ما يُزهره من بحيرات عظيمة وأنهار كثيرة(70)، تراجعت عنها آخر الموجات الجليدية، فجفَّت شيئا فشيئا حتى لم يعد ما يسقط على ذلك الإقليم من مطر كافيا لقيام المدن والدول؛ فأخذت المدائن تقفر من أهلها واحدة في إثر واحدة، حين هرب الناس غربا وشرقا وشمالا وجنوبا سعيا وراء الماء؛ ولا تزال ترى أنقاض مدن مثل "باكترا" Bactrai غائصة في الصحراء إلى نصفها- ولابد أن تكون "باكترا" هذه قد ازدحمت بسكانها في مساحتها التي تمتد قطر دائرتها اثنين وعشرين ميلا؛ ولقد حدث في عهد جدّ حديث- سنة 1868- أن اضطر عدد من أهل تركستان الغربية يقرب من ثمانين ألف نسمة، أن يهاجر لأن الرمال الزاحفة قد غمرت موضعه من الأرض(71) وكثيرون يذهبون إلى أن هذه الأصقاع التي تسير اليوم في طريقها إلى الفناء، قد شهدت أول خطوات أساسية من خطوات التقدم، في هذا المزيج المؤلف من نظام وطعام وعرف وأخلاق وترف وثقافة، والذي منه تتكون المدنية(72).
ولقد كشف "بَمبلِي" سنة 1907 قي "أناو" جنوبي التركستان، عن خزف وآثار أخرى تدل على ثقافة قديمة أرجعها إلى سنة 9000 ق.م، وربما أسرف في تقديره هذا فزاد أربعة آلاف(73)؛ وهاهنا نجد زراعة القمح والشعير والذرة، واستخدم الناس واستئناس الحيوان، وزخرفة الفخار بزخارف بينها من التشابه في قواعد الرسم ما يدل على أنهم كانوا قد جمعوا تقاليد وبطانة في الفنون لعدة قرون سلفت(74) والظاهر أن ثقافة تركستان سنة 5000 ق.م كانت قد قطعت من الزمن أشواطا؛ وربما كان بينهم إذ ذاك مؤرخون يضربون في أعماق ماضيهم عبثاً للبحث عن أصول المدنية، وفلاسفة أخذوا يندبون بعبارة فصيحة ما أصاب الجنس البشري إذ ذاك من تدهور كان يؤدي به إلى الموت.
ولو اهتدينا بالخيال حيث يعزُّ علينا العلم الصحيح، لقلنا إنه من هذا المركز
صفحة رقم : 202
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> نشأة الحضارة -> بدايات المدنية فيما قبل التاريخ -> مرحلة الانتقال إلى العصور التاريخية -> مهود المدنية
هاجر الناس- يلوذون فراراً مما أصاب أرضهم من جفاف في المطر وجفاف في تربة الأرض- فساروا في اتجاهات ثلاثة، يحملون معهم ما لهم من فن ومدنية؛ فبلغت فنونهم- إن لم يبلغوا بفضيلتهم- أرض الصين ومنشوريا وأمريكا الشمالية من جهة الشرق؛ وبلغت شمال الهند في سيرها إلى الجنوب؛ ثم أدركت في طريقها نحو الغرب بلاد "عيلام" و "سومر" ومصر؛ بل إيطاليا وأسبانيا كذلك(75)؛ فقد وجدت في "سوزا" وهي في "عيلام" القديمة (فارس الحديثة) آثار تشبه في نمطها آثار "أناو" شبهاً يكاد يبرر للخيال الذي يعيد قوته صورة الماضي، أن يفترض أنه قد كان بين "سوزا" و "أناو" صلات ثقافية في فجر المدنية (أي حول سنة 4000 ق.م)(76) وكذلك يوجد شَبَه كهذا في الفنون والمنتجات القديمة يوحي بوجود علاقة كهذه بين بلاد ما بين النهرين ومصر فيما قبل التاريخ، وبوجود ارتباط يدل على اتصال مجرى المدنية.
ويستحيل علينا أن نعلم علم اليقين أيّ هذه الثقافات جاء أولا، وليس ذلك بكبير الأهمية، لأنها جميعاً كانت في جوهرها أفراد أسرة واحدة ونمط واحد، فلو كان لنا أن نخالف الرأي الشائع الذي اكتسب احتراما لقِدَمه، بحيث نضع "عيلام" و"سومر" قبل مصر، فلسنا نصدر في ذلك عن عبث يريد مخالفة المعروف لذاتها، لكننا نعتمد على الحقيقة التي تدل على أن عمر هذه المدنيات الآسيوية، إذا قيس إلى مدنيات إفريقية وأوربا، يمتد طولا كلما ازداد علمنا بتلك المدنيات عمقا؛ فمجاريف علماء الآثار بعد أن قضت قرنا كاملا في بحثها المظفّر على ضفاف النيل، انتقلت في سيرها عبر السويس إلى جزيرة العرب وإلى فلسطين وبين النهرين وفارس، وهي كلما خطت في طريقها هذا، ازددنا ترجيحا مع تزايد المعرفة التي تعود علينا من أبحاثنا، أن الدلتا الخصيبة للأنهار التي تجري في أرض الجزيرة "ما بين النهرين" هي التي شهدت أول مناظر المسرحية التاريخية للمدنية الإنسانية، فيما نعلم.
صفحة رقم : 203
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> توجيه
الكتاب الأول
الشرق الأدنى
الباب السابع
سومر
توجيه - فضل الشرق الأدنى على الحضارة الغربية
لقد انقضى منذ بداية التاريخ المكتوب حتى الآن ما لا يقل عن ستة آلاف عام، وفي خلال نصف هذا العهد كان الشرق الأدنى مركز الشئون البشرية التي وصل إلينا علمها. وإذا ذكرنا هذا اللفظ المبهم لهذا الكتاب فإنا نقصد به جميع بلاد آسية الجنوبية الغربية الممتدة جنوب الروسيا والبحر الأسود، وغرب الهند وأفغانستان. وسنطلق هذا الاسم أيضا- وإن خرجنا في هذا على مقتضيات الدقة أكثر من ذي قبل- على مصر، لأن هذه البلاد كانت شديدة الاتصال بذلك الجزء من العالم كما كانت مركزا انتشرت منه الحضارة الشرقية. على هذا المسرح غير الدقيق التحديد الآهل بالسكان وبالثقافات المتباينة نشأت الزراعة والتجارة، والخيل المستأنسة والمركبات، وسكت النقود، وكتبت خطابات الاعتماد، ونشأت الحرف والصناعات، والشرائع والحكومات، وعلوم الرياضة والطب، والحقن الشرجية، وطرق صرف المياه، والهندسة والفلك، والتقويم والساعات، وصورت دائرة البروج، وعرفت الحروف الهجائية والكتابة، واخترع الورق والحبر، وألفت الكتب وشيدت المكتبات والمدارس، ونشأت الآداب والموسيقى والنحت وهندسة البناء، وصنع الخزف المطلي المصقول والأثاث الدقيق الجميل، ونشأت عقيدة التوحيد ووحدة الزواج، واستخدمت دهان التجميل والحلي، وعرف النرد والداما، وفرضت ضريبة الدخل، واستخدمت المرضعات وشربت الخمور- عرفت هذه الأشياء كلها واستمدت منها أوربا وأمريكا
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> توجيه
ثقافتهما على مدى القرون عن طريق كريت واليونان والرومان. وقصارى القول أن "الآريين" لم يشيدوا صرح الحضارة- بل أخذوها عن بابل ومصر، وأن اليونان لم ينشئوا الحضارة إنشاء لأن ما ورثوه منها أكثر مما ابتدعوه. وكانوا الوارث المدلل المتلاف لذخيرة من الفن والعلم مضى عليها ثلاثة آلاف من السنين، وجاءت إلى مدائنهم مع مغانم التجارة والحرب. فإذا درسنا الشرق الأدنى وعظمنا شأنه، فإننا بذلك نعترف بما علينا من دين لمن شادوا بحق صرح الحضارة الأوربية والأمريكية، وهو دين كان يجب أن يؤدى من زمن بعيد.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 205
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> عيلام
الفصل الأول
عيلام
ثقافة السوس - عجلة الفخارى - عجلات المركبات
إذ نظر القارئ إلى مصور لبلاد إيران ومر بإصبعه على نهر دجلة-مبتدئا من الخليج الفارسي حتى يصل إلى العمارة، ثم اتجه به شرقاً مخترقاً حدود العراق إلى مدينة شوشان الحديثة، إذا فعل هذا فقد حدد لنفسه موقع مدينة السوس القديمة- التي كانت فيما مضى مركز إقليم يسميه اليهود بلاد عيلام- أي الأرض العالية. في هذا الصقع الضيق الذي تحميه من غربة المنافع ومن شرقه الجبال الحافة بهضبة إيران العظيمة، أنشأ شعب من الشعوب لا نعرف أصله ولا الجنس الذي ينتمي إليه إحدى المدنيات الأولى المعروفة في تاريخ العالم. وقد وجد علماء الآثار الفرنسيون في هذا الإقليم منذ جيل مضى آثاراً بشرية يرجع عهدها إلى عشرين ألف عام، كما وجدوا شواهد تدل على قيام ثقافة راقية يرجع عهدها إلى عام 4500 ق.م .
ويبدو أن أهل عيلام كانوا في ذلك الوقت قد خرجوا من الحياة البدوية، حياة صيد الحيوان والسمك، ولكنهم كانت لهم وقتئذٍ أسلحة وأدوات من النحاس، وكانوا يزرعون الحبوب ويؤنسون الحيوان، وكانت لهم كتابة مقدسة ووثائق تجارية، ومرايا وحلي، وتجارة تمتد من مصر إلى الهند(3). ونجد بين أدوات الظران المسواة التي ترجع بنا إلى العصر الحجري الجديد مزهريات كاملة الصنع رشيقة مستديرة عليها رسوم أنيقة من أشكال هندسية أو صور جميلة تمثل الحيوان والنبات، تعد بعضها ما صنعه الإنسان في عهود التاريخ
صفحة رقم : 206
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> عيلام
كله (4). ولسنا نجد في تلك البلاد أقدم ما عرف من عجلات الخزاف وحسب بل نجد فيها أيضاً أقدم ما عرف من عجلات المركبات، ذلك أنا لا نعثر مرة أخرى على هذه المركبة التي كان لها شأن متواضع، ولكنه شأن حيوي، في نقل المدينة من مكان إلى مكان، إلا بعد هذا الوقت في بلاد بابل، ثم بعد ذلك أيضا في مصر(5). ثم انتقل العيلاميون من هذه البدايات المعقدة إلى حياة السلطان والغزو ذات الأعباء الثقال، فامتلكوا سومر وبابل ثم دارت عليهم الدائرة فاستولت عليهم هاتان الدولتان كلتاهما بعد الأخرى. وعاشت مدينة السوس ستة آلاف من السنين، شهدت في خلالهما عظمة إمبراطوريات سومر، وبابل، ومصر، وأشور، وفارس، واليونان، ورومة ؛ وظلت باسم شوشان، مدينة مزدهرة حتى القرن الرابع عشر الميلادي. ومرت بها في خلال تاريخها الطويل فترات مختلفة نمت فيها ثروات نموا عظيما. وحسبنا شاهداً على هذا وصف المؤرخين لما عثر عليه فيها أشور بانيبال حين استولى عليها ونهبها في عام 646 ق.م من ذهب وفضة، وحجارة كريمة، وجواهر ملكية، وثياب ثمينة، وأثاث فخم، ومركبات ساقها الفاتحون وراءهم إلى نينوى. ذكر المؤرخون هذه المغانم كلها ولم يحاولوا الانتقاص من شأنها أو الاستخفاف بها. وهكذا بدأ التاريخ دورته المحزنة فبدلها في وقت قصير من فنها المزدهر حربا وخرابا.
صفحة رقم : 207
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
الفصل الثاني
السومريون
1- تاريخهم
الكشف عن أرض سومر - جغرافيتها - أهلها
وجنسيتهم - مظهرهم - الطوفان السومري - الملوك
مصلح قديم - سرجون ملك أكاد - عصر أور الذهبي
إذا عدنا إلى خريطة الشرق الأدنى وتتبعنا المجرى المشترك المكون من نهري دجلة والفرات من مصبه في الخليج الفارسي إلى أن ينفصل المجريان "عند بلدة القرنة الحديثة"، ثم تتبعنا نهر الفرات متجهين إلى الغرب، وجدنا في شماله وجنوبه المدن السومرية القديمة المطمورة هي : إريدو "أبوشهرين الحديثة" وأور "المُقَيَّر الحديثة" وأورك "وهي المسماة إرك في التوراة والمعروفة الآن باسم الوركاء" ولارْسا "المسماة في التوراة باسم إلاسار والمعروفة الآن باسم سنكرة" ولكش "سيبرلا الحديثة" ونبور "نفر". تتبع بعدئذ نهر الفرات في سيره نحو الشمال الغربي إلى بابل التي كانت في يوم من الأيام أشهر بلاد الجزيرة "أرض ما بين النهرين" تجد إلى شرقها مباشرة بلدة كش مقر أقدم ثقافة عرفت في هذا الإقليم، ثم سر بعدئذ مع النهر صعدا قرابة ستين ميلا حتى مقر أجاد قصبة مملكة أكد في الأيام الخالية. ولم يكن تاريخ أرض الجزيرة القديم من إحدى نواحيه إلا صراعا قامت به الشعوب غير السامية التي تسكن بلاد سومر لتحتفظ باستقلالها أمام الهجرات السامية والزحف السامي من كش وأجاد وغيرهما من مراكز العمران الشمالية. وكانت هذه الأجناس المختلفة الأصول في خلال هذا الصراع تتعاون دون أن تشعر بتعاونها- ولعلها كانت تتعاون على الرغم منها- لتقيم صرح
صفحة رقم : 208
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
حضارة هي أول ما عرف من حضارة واسعة شاملة فذة، وهي من أعظمها إبداعا وإنشاء .
وليس في وسعنا رغم ما قام به العلماء من بحوث أن نعرف إلى أية سلالة من السلالات البشرية ينتمي هؤلاء السومريون، أو أي طريق سلكوه حتى دخلوا بلاد سومر. ومن يدري لعلهم جاءوا من آسية الوسطى أو من بلاد القفقاس أو من أرمينية واخترقوا أرض الجزيرة من الشمال متتبعين في سيرهم مجريي دجلة
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> عيلام
الفصل الأول
عيلام
ثقافة السوس - عجلة الفخارى - عجلات المركبات
إذ نظر القارئ إلى مصور لبلاد إيران ومر بإصبعه على نهر دجلة-مبتدئا من الخليج الفارسي حتى يصل إلى العمارة، ثم اتجه به شرقاً مخترقاً حدود العراق إلى مدينة شوشان الحديثة، إذا فعل هذا فقد حدد لنفسه موقع مدينة السوس القديمة- التي كانت فيما مضى مركز إقليم يسميه اليهود بلاد عيلام- أي الأرض العالية. في هذا الصقع الضيق الذي تحميه من غربة المنافع ومن شرقه الجبال الحافة بهضبة إيران العظيمة، أنشأ شعب من الشعوب لا نعرف أصله ولا الجنس الذي ينتمي إليه إحدى المدنيات الأولى المعروفة في تاريخ العالم. وقد وجد علماء الآثار الفرنسيون في هذا الإقليم منذ جيل مضى آثاراً بشرية يرجع عهدها إلى عشرين ألف عام، كما وجدوا شواهد تدل على قيام ثقافة راقية يرجع عهدها إلى عام 4500 ق.م .
ويبدو أن أهل عيلام كانوا في ذلك الوقت قد خرجوا من الحياة البدوية، حياة صيد الحيوان والسمك، ولكنهم كانت لهم وقتئذٍ أسلحة وأدوات من النحاس، وكانوا يزرعون الحبوب ويؤنسون الحيوان، وكانت لهم كتابة مقدسة ووثائق تجارية، ومرايا وحلي، وتجارة تمتد من مصر إلى الهند(3). ونجد بين أدوات الظران المسواة التي ترجع بنا إلى العصر الحجري الجديد مزهريات كاملة الصنع رشيقة مستديرة عليها رسوم أنيقة من أشكال هندسية أو صور جميلة تمثل الحيوان والنبات، تعد بعضها ما صنعه الإنسان في عهود التاريخ
صفحة رقم : 206
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> عيلام
كله (4). ولسنا نجد في تلك البلاد أقدم ما عرف من عجلات الخزاف وحسب بل نجد فيها أيضاً أقدم ما عرف من عجلات المركبات، ذلك أنا لا نعثر مرة أخرى على هذه المركبة التي كان لها شأن متواضع، ولكنه شأن حيوي، في نقل المدينة من مكان إلى مكان، إلا بعد هذا الوقت في بلاد بابل، ثم بعد ذلك أيضا في مصر(5). ثم انتقل العيلاميون من هذه البدايات المعقدة إلى حياة السلطان والغزو ذات الأعباء الثقال، فامتلكوا سومر وبابل ثم دارت عليهم الدائرة فاستولت عليهم هاتان الدولتان كلتاهما بعد الأخرى. وعاشت مدينة السوس ستة آلاف من السنين، شهدت في خلالهما عظمة إمبراطوريات سومر، وبابل، ومصر، وأشور، وفارس، واليونان، ورومة ؛ وظلت باسم شوشان، مدينة مزدهرة حتى القرن الرابع عشر الميلادي. ومرت بها في خلال تاريخها الطويل فترات مختلفة نمت فيها ثروات نموا عظيما. وحسبنا شاهداً على هذا وصف المؤرخين لما عثر عليه فيها أشور بانيبال حين استولى عليها ونهبها في عام 646 ق.م من ذهب وفضة، وحجارة كريمة، وجواهر ملكية، وثياب ثمينة، وأثاث فخم، ومركبات ساقها الفاتحون وراءهم إلى نينوى. ذكر المؤرخون هذه المغانم كلها ولم يحاولوا الانتقاص من شأنها أو الاستخفاف بها. وهكذا بدأ التاريخ دورته المحزنة فبدلها في وقت قصير من فنها المزدهر حربا وخرابا.
صفحة رقم : 207
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
الفصل الثاني
السومريون
1- تاريخهم
الكشف عن أرض سومر - جغرافيتها - أهلها
وجنسيتهم - مظهرهم - الطوفان السومري - الملوك
مصلح قديم - سرجون ملك أكاد - عصر أور الذهبي
إذا عدنا إلى خريطة الشرق الأدنى وتتبعنا المجرى المشترك المكون من نهري دجلة والفرات من مصبه في الخليج الفارسي إلى أن ينفصل المجريان "عند بلدة القرنة الحديثة"، ثم تتبعنا نهر الفرات متجهين إلى الغرب، وجدنا في شماله وجنوبه المدن السومرية القديمة المطمورة هي : إريدو "أبوشهرين الحديثة" وأور "المُقَيَّر الحديثة" وأورك "وهي المسماة إرك في التوراة والمعروفة الآن باسم الوركاء" ولارْسا "المسماة في التوراة باسم إلاسار والمعروفة الآن باسم سنكرة" ولكش "سيبرلا الحديثة" ونبور "نفر". تتبع بعدئذ نهر الفرات في سيره نحو الشمال الغربي إلى بابل التي كانت في يوم من الأيام أشهر بلاد الجزيرة "أرض ما بين النهرين" تجد إلى شرقها مباشرة بلدة كش مقر أقدم ثقافة عرفت في هذا الإقليم، ثم سر بعدئذ مع النهر صعدا قرابة ستين ميلا حتى مقر أجاد قصبة مملكة أكد في الأيام الخالية. ولم يكن تاريخ أرض الجزيرة القديم من إحدى نواحيه إلا صراعا قامت به الشعوب غير السامية التي تسكن بلاد سومر لتحتفظ باستقلالها أمام الهجرات السامية والزحف السامي من كش وأجاد وغيرهما من مراكز العمران الشمالية. وكانت هذه الأجناس المختلفة الأصول في خلال هذا الصراع تتعاون دون أن تشعر بتعاونها- ولعلها كانت تتعاون على الرغم منها- لتقيم صرح
صفحة رقم : 208
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
حضارة هي أول ما عرف من حضارة واسعة شاملة فذة، وهي من أعظمها إبداعا وإنشاء .
وليس في وسعنا رغم ما قام به العلماء من بحوث أن نعرف إلى أية سلالة من السلالات البشرية ينتمي هؤلاء السومريون، أو أي طريق سلكوه حتى دخلوا بلاد سومر. ومن يدري لعلهم جاءوا من آسية الوسطى أو من بلاد القفقاس أو من أرمينية واخترقوا أرض الجزيرة من الشمال متتبعين في سيرهم مجريي دجلة
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 209
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
والفرات- حيث توجد- كما في أشور مثلا شواهد دالة على ثقافتهم الأولى. أو لعلهم قد سلكوا الطريق المائي من الخليج الفارسي- كما تروي الأساطير- أو من مصر أو غيرها من الأقطار، ثم اتخذوا سبيلهم نحو الشمال متتبعين على مهل النهرين العظيمين. أو لعلهم جاءوا من السوس حيث يوجد بين آثارها رأس من الأسفلت فيه خواص الجنس السومري كلها. بل إن في وسعنا أن نذهب إلى أبعد من هذا كله فنقول إنهم قد يكونون من أصل مغولي قديم موغل في القدم.
ذلك بأن في لغتهم كثيراً من التراكيب الشبيهة بلسان المغول(9)). لكن علم هذا كله عند علام الغيوب.
وتدل آثارهم على أنهم كانوا قصار القامة ممتلئ الجسم، لهم أنوف شم مصفحة ليست كأنوف الأجناس السامية، وجباه منحدرة قليلا إلى الوراء، وعيون مائلة إلى أسفل. وكان كثيرون منهم ملتحين، وبعضهم حليقين، وكثرتهم العظمى يحفون شواربهم. وكانوا يتخذون ملابسهم من جلود الغنم، ومن الصوف المغزول الرفيع، وكانت النساء يسدلن من أكتافهن اليسرى مآزر على أجسامهن، أما الرجال فكانوا يشدونها على أوساطهم ويتركون الجزء الأعلى من أجسامهم عارياً. ثم علت أثواب الرجال مع تقدم الحضارة شيئاً فشيئاً حتى غطت جسمهم كله إلى الرقبة. أما الخدم رجالا كانوا أو نساء فقد ظلوا يمشون عراة من الرأس إلى وسط الجسم إذا كانوا في داخل البيوت. وكانوا في العادة يلبسون قلانس على رؤوسهم وأخفافاً في أقدامهم، ولكن نساء الموسرين منهم كن ينتعلن أحذية من الجلد اللين الرقيق غير ذات كعاب عالية، وذات أربطة شبيهة بأربطة أحذيتنا في هذه الأيام. وكانت الأساور والقلائد والخلاخيل والخواتم والأقراط زينة النساء السومريات التي يظهرن بها ثراء أزواجهن كما تظهره النساء الأمريكيات في هذه الأيام(10).
ولما تقدم العهد بمدنيتهم- حوالي 2300 ق.م- حاول الشعراء والعلماء
صفحة رقم : 210
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
السومريون أن يستعيدوا تاريخ بلادهم القديم. فكتب الشعراء قصصاً عن بداية الخلق ، وعن جنة بدائية، وعن طوفان مروع غمر هذه الجنة وخربها عقاباً لأهلها على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين(11). وتناقل البابليون والعبرانيون قصة هذا الطوفان وأصبحت بعدئذ جزءاً من العقيدة المسيحية. وبينما كان الأستاذ َولي ينقب في خرائب أور عام 1929 إذ كشف على عمق عظيم من سطح الأرض، عن طبقة من الغرين سمكها ثمان أقدام، رسبت - إذا أخذنا بقوله - على أثر فيضان مروع لنهر الفرات ظل عالقاً بأذهان الأجيال التالية ومعروفاً لديهم باسم الطوفان، وصفها الشعراء فيما بعد بأنها العصر الذهبي لتلك البلاد.
وحاول الكهنة المؤرخون في هذه الأثناء أن يخلقوا ماضياً يتسع لنمو جميع عجائب الحضارة السومرية. فوضعوا من عندهم قوائم بأسماء ملوكهم الأقدمين، ورجعوا بالأسر المالكة التي حكمت قبل الطوفان إلى 000ر432 عام(12)، ورووا عن اثنين من هؤلاء الحكماء وهما تموز وجلجمش من القصص المؤثرة ما جعل ثانيهما بطل أعظم ملحمة في الأدب البابلي. أما تموز فقد انتقل إلى مجمع الآلهة البابليين، وأصبح فيما بعد أدونيس اليونان. ولعل الكهنة قد تغالوا بعض الشيء في قدم حضارتهم ولكن في وسعنا أن نقدر عمر الثقافة السومرية تقديراً تقريبياً إذا لاحظنا أن خرائب نبور تمتد إلى عمق ست وستين قدما، وأن ما يمتد منها أسفل آثار سرجون ملك أكد يكاد يعدل ما يمتد فوق هذه الآثار إلى أعلى الطبقات الأرضية (أي إلى بداية القرن الأول من التاريخ الميلادي).
وإذا حسبنا عمر نبور على هذا الأساس رجع بنا إلى عام 5262 ق.م. ويلوح أن أسرا قوية من ملوك المدن مستمسكة بعروشها قد ازدهرت في كش حوالي عام 4500 ق.م وفي أور حوالي 3500 ق.م. وإنا لنجد في التنافس الذي قام بين هذين المركزين الأولين من مراكز الحضارة القديمة أول دور من
صفحة رقم : 211
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
أدوار النزاع بين السامية وغير السامية، وهو النزاع الذي يكوَّن في تاريخ الشرق الأدنى مأساة دموية متصلة تبدأ من عظمة كش السامية وتستمر خلال فتوح الملكين الساميين سرجون الأول وحمورابي إلى استيلاء القائدين الآريين قورش والإسكندر على بابل في القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، وإلى اصطراع الصليبيين والمسلمين لامتلاك قبر المسيح، وإلى التسابق التجاري، وتمتد إلى هذا اليوم الذي يحاول فيه البريطانيون جاهدين أن يسيطروا على الأقوام الساميين المنقسمين على أنفسهم في الشرق الأدنى وينشروا السلام في ربوعه.
وبعد عام 3000 ق.م تروى السجلات المكونة من ألواح الطين التي كان الكهنة يحتفظون بها، والتي وجدت في خرائب أور، قصة دقيقة دقة لا بأس بها عن قيام ملوك المدائن وتتويجهم وانتصارهم غير المنقطع وجنائزهم الفخمة في مدن أور ولكش وأرك وما إليها. وما أكثر ما غالى المؤرخون في هذا الوصف، لأن كتابة التاريخ وتحيز المؤرخين من الأمور التي يرجع عهدها إلى أقدم الأزمان.
وكان واحد من هؤلاء الملوك وهو أوروكاجينا ملك لكش ملكاً مصلحاً ومستبداً مستنيراً، أصدر المراسيم التي تحرم استغلال الأغنياء للفقراء واستغلال الكهنة لكافة الناس. وينص أحد هذه المراسيم على أن الكاهن الأكبر يجب "ألا يدخل بعد هذا اليوم إلى حديقة الأم الفقيرة ويأخذ منها الخشب أو يستولي على ضريبة من الفاكهة". وخفضت رسوم دفن الموتى إلى خمس ما كانت عليه، وحرم على الكهنة وكبار الموظفين أن يقتسموا فيما بينهم ما يقربه الناس قرباناً للآلهة من أموال أو ماشية. وكان مما يباهى به الملك أنه "وهب شعبه الحرية". وما من شك في أن الألواح التي سجلت فيها مراسيمه تكشف عن أقدم القوانين المعروفة في التاريخ وأقلها ألفاظاً وأكثرها عدلا.
واختتمت هذه الفترة الواضحة من تاريخ أور كما تختتم في العادة مثيلاتها من الفترات على يد رجل يدعى لوجال- زجيزي، غزا لكش وأطاح بأوروكاجينا
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
والفرات- حيث توجد- كما في أشور مثلا شواهد دالة على ثقافتهم الأولى. أو لعلهم قد سلكوا الطريق المائي من الخليج الفارسي- كما تروي الأساطير- أو من مصر أو غيرها من الأقطار، ثم اتخذوا سبيلهم نحو الشمال متتبعين على مهل النهرين العظيمين. أو لعلهم جاءوا من السوس حيث يوجد بين آثارها رأس من الأسفلت فيه خواص الجنس السومري كلها. بل إن في وسعنا أن نذهب إلى أبعد من هذا كله فنقول إنهم قد يكونون من أصل مغولي قديم موغل في القدم.
ذلك بأن في لغتهم كثيراً من التراكيب الشبيهة بلسان المغول(9)). لكن علم هذا كله عند علام الغيوب.
وتدل آثارهم على أنهم كانوا قصار القامة ممتلئ الجسم، لهم أنوف شم مصفحة ليست كأنوف الأجناس السامية، وجباه منحدرة قليلا إلى الوراء، وعيون مائلة إلى أسفل. وكان كثيرون منهم ملتحين، وبعضهم حليقين، وكثرتهم العظمى يحفون شواربهم. وكانوا يتخذون ملابسهم من جلود الغنم، ومن الصوف المغزول الرفيع، وكانت النساء يسدلن من أكتافهن اليسرى مآزر على أجسامهن، أما الرجال فكانوا يشدونها على أوساطهم ويتركون الجزء الأعلى من أجسامهم عارياً. ثم علت أثواب الرجال مع تقدم الحضارة شيئاً فشيئاً حتى غطت جسمهم كله إلى الرقبة. أما الخدم رجالا كانوا أو نساء فقد ظلوا يمشون عراة من الرأس إلى وسط الجسم إذا كانوا في داخل البيوت. وكانوا في العادة يلبسون قلانس على رؤوسهم وأخفافاً في أقدامهم، ولكن نساء الموسرين منهم كن ينتعلن أحذية من الجلد اللين الرقيق غير ذات كعاب عالية، وذات أربطة شبيهة بأربطة أحذيتنا في هذه الأيام. وكانت الأساور والقلائد والخلاخيل والخواتم والأقراط زينة النساء السومريات التي يظهرن بها ثراء أزواجهن كما تظهره النساء الأمريكيات في هذه الأيام(10).
ولما تقدم العهد بمدنيتهم- حوالي 2300 ق.م- حاول الشعراء والعلماء
صفحة رقم : 210
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
السومريون أن يستعيدوا تاريخ بلادهم القديم. فكتب الشعراء قصصاً عن بداية الخلق ، وعن جنة بدائية، وعن طوفان مروع غمر هذه الجنة وخربها عقاباً لأهلها على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين(11). وتناقل البابليون والعبرانيون قصة هذا الطوفان وأصبحت بعدئذ جزءاً من العقيدة المسيحية. وبينما كان الأستاذ َولي ينقب في خرائب أور عام 1929 إذ كشف على عمق عظيم من سطح الأرض، عن طبقة من الغرين سمكها ثمان أقدام، رسبت - إذا أخذنا بقوله - على أثر فيضان مروع لنهر الفرات ظل عالقاً بأذهان الأجيال التالية ومعروفاً لديهم باسم الطوفان، وصفها الشعراء فيما بعد بأنها العصر الذهبي لتلك البلاد.
وحاول الكهنة المؤرخون في هذه الأثناء أن يخلقوا ماضياً يتسع لنمو جميع عجائب الحضارة السومرية. فوضعوا من عندهم قوائم بأسماء ملوكهم الأقدمين، ورجعوا بالأسر المالكة التي حكمت قبل الطوفان إلى 000ر432 عام(12)، ورووا عن اثنين من هؤلاء الحكماء وهما تموز وجلجمش من القصص المؤثرة ما جعل ثانيهما بطل أعظم ملحمة في الأدب البابلي. أما تموز فقد انتقل إلى مجمع الآلهة البابليين، وأصبح فيما بعد أدونيس اليونان. ولعل الكهنة قد تغالوا بعض الشيء في قدم حضارتهم ولكن في وسعنا أن نقدر عمر الثقافة السومرية تقديراً تقريبياً إذا لاحظنا أن خرائب نبور تمتد إلى عمق ست وستين قدما، وأن ما يمتد منها أسفل آثار سرجون ملك أكد يكاد يعدل ما يمتد فوق هذه الآثار إلى أعلى الطبقات الأرضية (أي إلى بداية القرن الأول من التاريخ الميلادي).
وإذا حسبنا عمر نبور على هذا الأساس رجع بنا إلى عام 5262 ق.م. ويلوح أن أسرا قوية من ملوك المدن مستمسكة بعروشها قد ازدهرت في كش حوالي عام 4500 ق.م وفي أور حوالي 3500 ق.م. وإنا لنجد في التنافس الذي قام بين هذين المركزين الأولين من مراكز الحضارة القديمة أول دور من
صفحة رقم : 211
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
أدوار النزاع بين السامية وغير السامية، وهو النزاع الذي يكوَّن في تاريخ الشرق الأدنى مأساة دموية متصلة تبدأ من عظمة كش السامية وتستمر خلال فتوح الملكين الساميين سرجون الأول وحمورابي إلى استيلاء القائدين الآريين قورش والإسكندر على بابل في القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، وإلى اصطراع الصليبيين والمسلمين لامتلاك قبر المسيح، وإلى التسابق التجاري، وتمتد إلى هذا اليوم الذي يحاول فيه البريطانيون جاهدين أن يسيطروا على الأقوام الساميين المنقسمين على أنفسهم في الشرق الأدنى وينشروا السلام في ربوعه.
وبعد عام 3000 ق.م تروى السجلات المكونة من ألواح الطين التي كان الكهنة يحتفظون بها، والتي وجدت في خرائب أور، قصة دقيقة دقة لا بأس بها عن قيام ملوك المدائن وتتويجهم وانتصارهم غير المنقطع وجنائزهم الفخمة في مدن أور ولكش وأرك وما إليها. وما أكثر ما غالى المؤرخون في هذا الوصف، لأن كتابة التاريخ وتحيز المؤرخين من الأمور التي يرجع عهدها إلى أقدم الأزمان.
وكان واحد من هؤلاء الملوك وهو أوروكاجينا ملك لكش ملكاً مصلحاً ومستبداً مستنيراً، أصدر المراسيم التي تحرم استغلال الأغنياء للفقراء واستغلال الكهنة لكافة الناس. وينص أحد هذه المراسيم على أن الكاهن الأكبر يجب "ألا يدخل بعد هذا اليوم إلى حديقة الأم الفقيرة ويأخذ منها الخشب أو يستولي على ضريبة من الفاكهة". وخفضت رسوم دفن الموتى إلى خمس ما كانت عليه، وحرم على الكهنة وكبار الموظفين أن يقتسموا فيما بينهم ما يقربه الناس قرباناً للآلهة من أموال أو ماشية. وكان مما يباهى به الملك أنه "وهب شعبه الحرية". وما من شك في أن الألواح التي سجلت فيها مراسيمه تكشف عن أقدم القوانين المعروفة في التاريخ وأقلها ألفاظاً وأكثرها عدلا.
واختتمت هذه الفترة الواضحة من تاريخ أور كما تختتم في العادة مثيلاتها من الفترات على يد رجل يدعى لوجال- زجيزي، غزا لكش وأطاح بأوروكاجينا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 212
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
ونهب المدينة وهي في أوج عزها ورخائها، وهدم معابدها وذبح أهلها في الطرقات، وساق أمامه تماثيل الآلهة أسيرة ذليلة. ومن أقدم القصائد المعروفة في التاريخ قصيدة كتبت على لوح من الطين لعل عمرها يبلغ 4800 سنة يرثى فيها الشاعر السومري دِنْجِرِ دَّامو انّهاب إلهة لكش ويقول فيها :
وا أسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على المدينة وعلى الكنوز
وا أسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على مدينتي جرسو "لكش" وعلى الكنوز
إن الأطفال في جرسو المقدسة لفي بؤس شديد
لقد استقر "الغازي" في الضريح الأفخم
وجاء بالملكة المعظمة من معبدها
أي سيدة مدينتي المقفرة الموحشة متى تعودين ؟
ولا حاجة بنا إلى الوقوف عند السفاح لوجال- زجيزي وغيره من الملوك السومريين ذوي الأسماء الطنانة الرنانة أمثال لوجال- شجنجور، ولوجال- كيجوب- تدودو، وننيجي- دبتي، ولوجال- أندرنوجنجا... وفي هذه الأثناء كان شعب آخر من الجنس السامي قد أنشأ مملكة أكد بزعامة سرجون الأول، واتخذ مقر حكمه في مدينة أجاد على مسيرة مئتي ميل أو نحوها من دول المدن السومرية من ناحية الشمال الغربي. وقد عثر في مدينة سومر على أثر ضخم مكون من حجر واحد يمثل سرجون ذا لحية كبيرة تخلع عليه كثيراً من المهابة، وعليه من الثياب ما يدل على الكبرياء وعظيم السلطان. ولم يكن سرجون هذا من أبناء الملوك: فلم يعرف التاريخ له أباً، ولم تكن والدته غير عاهرة من عاهرات المعابد(16). ولكن الأساطير السومرية اصطنعت له سيرة روتها على لسانه شبيهة في بدايتها بسيرة موسى، فهو يقول: "وحملت بي أمي الوضيعة الشأن، وأخرجتني إلى العالم سراً ووضعتني في قارب من السل كالسلة وأغلقت علىَّ
صفحة رقم : 213
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
الباب بالقار" (17). وأنجاه أحد العمال، وأصبح فيما بعد ساقي الملك، فقربه إليه، وزاد نفوذه وسلطانه. ثم خرج على سيده وخلعه وجلس على عرش أجاد، وسمى نفسه "الملك صاحب السلطان العالي" وإن لم يكن يحكم إلا قسما صغيراً من أرض الجزيرة. ويسميه المؤرخون سرجون "الأعظم" لأنه غزا مدناً كثيرة، وغنم مغانم عظيمة، وأهلك عدداً كبيراً من الخلائق. وكان من بين ضحاياه لوجال- زجيزي نفسه الذي نهب لكش وانتهك حرمة إلهتها، فقد هزمه سرجون وساقه مقيداً بالأغلال إلى نبور. وأخذ هذا الجندي الباسل يخضع البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فاستولى على عيلام وغسل أسلحته في مياه الخليج الفارسي العظيم رمزاً لانتصاراته الباهرة، ثم اجتاز غرب آسية ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط (18)، وظل يحكمها خمساً وخمسين سنةً، وتجمعت حوله الأساطير فهيأت عقول الأجيال التالية لأن تجعل منه إلهاً. وانتهى حكمه ونار الثورة مشتعلة في جميع أنحاء دولته.
وخلفه ثلاثة من أبنائه كل منهم بعد أخيه. وكان ثالثهم نارام - سِنْ بنَّاء عظيما وإن لم يبق من أعماله كلها إلا لوحة تذكارية تسجل انتصاره على ملك خامل غير ذي شأن. وقد عثر ده مورجان على هذه اللوحة ذات النقش البارز في مدينة السوس عام 1897، وهي الآن من كنوز متحف اللوفر، وتمثل نارام- سِنْ رجلاً مفتول العضلات، مسلحاً بالقوس والسهام، يطأ بقدميه في خيلاء الملوك أجسام من ظفر بهم من أعدائه. ويدل مظهره على أنه يتأهب لأن يرد بالموت العاجل على توسل أعدائه المنهزمين واسترحامهم. وصور بين هؤلاء الأعداء أحد الضحايا وقد أصابه سهم اخترق عنقه فسقط على الأرض يحتضر، وتطل على هذا المنظر من خلفه جبال زجروس. وقد سجل انتصار نارام- سِنْ على أحد التلال بكتابة مسمارية جميلة. وتدل هذه اللوحة على أن فن النحت قد توطدت وقتئذ قواعده وأصبحت له تقاليد مرعية طويلة الأمد.
صفحة رقم : 214
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
على إن إحراق مدينة من المدن لا يكون في جميع الأحوال من الكوارث الأبدية التي تبتلى بها، بل كثيراً ما يكون نافعاً لها من الناحيتين العمرانية والصحية. وهذه القاعدة تنطبق على لكش في ذلك العهد، فقد ازدهرت هذه المدينة من جديد قبل أن يحل القرن السادس والعشرون قبل الميلاد، وذلك في عهد ملك آخر مستنير يدعى جوديا تعد تماثيله القصيرة المكتنزة أشهر ما بقى من آثار فن النحت السومري. وفي متحف اللوفر تمثال له من حجر الديوريت يمثله في موقف من مواقف التقوى، ورأسه ملفوف بعصابة ثقيلة كالتي نشاهدها في التماثيل المقامة في مسرح الكولوسيوم، ويداه مطويتان في حجره، وكتفاه
صفحة رقم : 215
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
وقدماه عارية، وساقاه قصيرتان ضخمتان يغطيهما ثوب نصفي مطرز بطائفة كبيرة من الكتابة المقدسة. وتدل ملامحه القوية المتناسبة على أنه رجل مفكر، عادل، حازم، دمث الأخلاق. وكان رعاياه يجلونه، لا لأنه جندي محارب، بل لأنه فيلسوف مفكر أشبه ما يكون بالإمبراطور ماركس أوريليوس الروماني، يختص بعنايته الشؤون الدينية والأدبية والأعمال النافعة الإنشائية، شاد المعابد، وشجع دراسة الآثار القديمة بالروح التي تدرسها بها البعثات التي كشفت عن تمثاله، ويحد من سلطان الأقوياء رحمة بالضعفاء. ويفصح نقش من نقوشه التي عثر عليها عن سياسته التي من أجلها عبده رعاياه واتخذوه إلهاً لهم بعد موته: "في خلال سبع سنين كانت الخادمة نداً لمخدومتها، وكان العبد يمشي بجوار سيده، واستراح الضعيف في بلده بجوار القوي" (19).
وفي هذه الأثناء كانت "أور مدينة الكلدان" تنعم بعهد من أكثر عهودها الطوال رخاءً وازدهاراً، امتد من عام 3500 ق.م "وهو على ما يلوح عهد أقدم مقابرها" إلى عام 700 ق.م وأخضع أعظم ملوكها أور- انجور جميع بلاد آسيا الغربية ونشر فيها لواء السلام وأعلن في جميع الدولة السومرية أول كتاب شامل من كتب القانون في تاريخ العالم. وفي ذلك يقول: "لقد أقمت إلى أبد الدهر صرح العدالة" (20). ولما زادت ثروة أور بفضل التجارة التي انصبت إليها صبا عن طريق نهر الفرات فعل فيها ما فعل بركليز بأثينا من بعده فشرع يجملها بإنشاء الهياكل، وأقام فيها وغيرها من المدائن الخاضعة له أمثال لارسا وأوروك ونبور كثيراً من الأبنية. وواصل ابنه دنجى طوال حكمه الذي دام ثمانية وخمسين عام أعمال أبيه، وحكم البلاد حكماً عادلاً حكيماً، جعل رعاياه يتخذونه من بعد موته إلهاً، ويصفونه بأنه الإله الذي أعاد إليهم جنتهم القديمة.
لكن سرعان ما أخذ هذا المجد يزول، فقد انقض على أور التي كانت تنعم
صفحة رقم : 216
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
وقتئذ بالرخاء والفراغ والسلم أهل عيلام ذوو الروح الحربية من الشرق، والعموريون الذين علا شأنهم وقتئذ من الغرب، وأسروا ملكها، ونهبوها ودمروها شر تدمير. وأنشأ شعراء أور القصائد التي يندبون فيها انتهاب تمثال إشتار أمهم الإلهة المحبوبة التي انتزعها من ضريحها الغزاة الآثمون. ومن الغريب أن هذه القصائد التي صيغت في صيغة المتكلم، وأسلوبها مما لا تسر منه الأدباء السفسطائيين، ولكننا على الرغم من هذا نحس من خلال الأربعة آلاف من السنين التي تفصل بيننا وبين الشاعر السومري بما حل بالمدينة وأهلها من خراب وتدمير. يقول الشاعر:
لقد انتهك العدو حرمتي بيديه النجستين ؛
انتهكت يداه حرمتي وقضى على من شدة الفزع.
آه، ما اتعس حظي! إن هذا العدو لم يظهر لي شيئاً من الاحترام،
بل جرّدني من ثيابي وألبسها زوجه هو،
وانتزع مني ُحليي وزين بها أخته،
وأنا "الآن" أسيرة في قصوره- فقد أخذ يبحث عني
في ضريحي- واحسرتاه. لقد كنت ارتجف من هول اليوم الذي اخرج فيه،
فقد أخذ يطاردني في هيكلي، وقذف الرعب في قلبي،
هناك بين جدران بيتي ؛ وكنت كالحمامة ترفرف ثم تحط
على رافدة، أو كالبومة الصغيرة اختبأت في كهف،
وأخذ يطاردني في ضريحي كما يطارد الطير،
طاردني من مدينتي كما يطارد الطير وأنا أتحسر وأنادي
"إن هيكلي من خلفي، ما أبعد المسافة بينه وبيني
وهكذا ظلت بلاد سومر خاضعة لحكم العيلاميين والعموريين مائتي عام تبدو لأعيننا كأنها لحظة لا خطر لها.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
ونهب المدينة وهي في أوج عزها ورخائها، وهدم معابدها وذبح أهلها في الطرقات، وساق أمامه تماثيل الآلهة أسيرة ذليلة. ومن أقدم القصائد المعروفة في التاريخ قصيدة كتبت على لوح من الطين لعل عمرها يبلغ 4800 سنة يرثى فيها الشاعر السومري دِنْجِرِ دَّامو انّهاب إلهة لكش ويقول فيها :
وا أسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على المدينة وعلى الكنوز
وا أسفاه! إن نفسي لتذوب حسرة على مدينتي جرسو "لكش" وعلى الكنوز
إن الأطفال في جرسو المقدسة لفي بؤس شديد
لقد استقر "الغازي" في الضريح الأفخم
وجاء بالملكة المعظمة من معبدها
أي سيدة مدينتي المقفرة الموحشة متى تعودين ؟
ولا حاجة بنا إلى الوقوف عند السفاح لوجال- زجيزي وغيره من الملوك السومريين ذوي الأسماء الطنانة الرنانة أمثال لوجال- شجنجور، ولوجال- كيجوب- تدودو، وننيجي- دبتي، ولوجال- أندرنوجنجا... وفي هذه الأثناء كان شعب آخر من الجنس السامي قد أنشأ مملكة أكد بزعامة سرجون الأول، واتخذ مقر حكمه في مدينة أجاد على مسيرة مئتي ميل أو نحوها من دول المدن السومرية من ناحية الشمال الغربي. وقد عثر في مدينة سومر على أثر ضخم مكون من حجر واحد يمثل سرجون ذا لحية كبيرة تخلع عليه كثيراً من المهابة، وعليه من الثياب ما يدل على الكبرياء وعظيم السلطان. ولم يكن سرجون هذا من أبناء الملوك: فلم يعرف التاريخ له أباً، ولم تكن والدته غير عاهرة من عاهرات المعابد(16). ولكن الأساطير السومرية اصطنعت له سيرة روتها على لسانه شبيهة في بدايتها بسيرة موسى، فهو يقول: "وحملت بي أمي الوضيعة الشأن، وأخرجتني إلى العالم سراً ووضعتني في قارب من السل كالسلة وأغلقت علىَّ
صفحة رقم : 213
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
الباب بالقار" (17). وأنجاه أحد العمال، وأصبح فيما بعد ساقي الملك، فقربه إليه، وزاد نفوذه وسلطانه. ثم خرج على سيده وخلعه وجلس على عرش أجاد، وسمى نفسه "الملك صاحب السلطان العالي" وإن لم يكن يحكم إلا قسما صغيراً من أرض الجزيرة. ويسميه المؤرخون سرجون "الأعظم" لأنه غزا مدناً كثيرة، وغنم مغانم عظيمة، وأهلك عدداً كبيراً من الخلائق. وكان من بين ضحاياه لوجال- زجيزي نفسه الذي نهب لكش وانتهك حرمة إلهتها، فقد هزمه سرجون وساقه مقيداً بالأغلال إلى نبور. وأخذ هذا الجندي الباسل يخضع البلاد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فاستولى على عيلام وغسل أسلحته في مياه الخليج الفارسي العظيم رمزاً لانتصاراته الباهرة، ثم اجتاز غرب آسية ووصل إلى البحر الأبيض المتوسط (18)، وظل يحكمها خمساً وخمسين سنةً، وتجمعت حوله الأساطير فهيأت عقول الأجيال التالية لأن تجعل منه إلهاً. وانتهى حكمه ونار الثورة مشتعلة في جميع أنحاء دولته.
وخلفه ثلاثة من أبنائه كل منهم بعد أخيه. وكان ثالثهم نارام - سِنْ بنَّاء عظيما وإن لم يبق من أعماله كلها إلا لوحة تذكارية تسجل انتصاره على ملك خامل غير ذي شأن. وقد عثر ده مورجان على هذه اللوحة ذات النقش البارز في مدينة السوس عام 1897، وهي الآن من كنوز متحف اللوفر، وتمثل نارام- سِنْ رجلاً مفتول العضلات، مسلحاً بالقوس والسهام، يطأ بقدميه في خيلاء الملوك أجسام من ظفر بهم من أعدائه. ويدل مظهره على أنه يتأهب لأن يرد بالموت العاجل على توسل أعدائه المنهزمين واسترحامهم. وصور بين هؤلاء الأعداء أحد الضحايا وقد أصابه سهم اخترق عنقه فسقط على الأرض يحتضر، وتطل على هذا المنظر من خلفه جبال زجروس. وقد سجل انتصار نارام- سِنْ على أحد التلال بكتابة مسمارية جميلة. وتدل هذه اللوحة على أن فن النحت قد توطدت وقتئذ قواعده وأصبحت له تقاليد مرعية طويلة الأمد.
صفحة رقم : 214
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
على إن إحراق مدينة من المدن لا يكون في جميع الأحوال من الكوارث الأبدية التي تبتلى بها، بل كثيراً ما يكون نافعاً لها من الناحيتين العمرانية والصحية. وهذه القاعدة تنطبق على لكش في ذلك العهد، فقد ازدهرت هذه المدينة من جديد قبل أن يحل القرن السادس والعشرون قبل الميلاد، وذلك في عهد ملك آخر مستنير يدعى جوديا تعد تماثيله القصيرة المكتنزة أشهر ما بقى من آثار فن النحت السومري. وفي متحف اللوفر تمثال له من حجر الديوريت يمثله في موقف من مواقف التقوى، ورأسه ملفوف بعصابة ثقيلة كالتي نشاهدها في التماثيل المقامة في مسرح الكولوسيوم، ويداه مطويتان في حجره، وكتفاه
صفحة رقم : 215
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
وقدماه عارية، وساقاه قصيرتان ضخمتان يغطيهما ثوب نصفي مطرز بطائفة كبيرة من الكتابة المقدسة. وتدل ملامحه القوية المتناسبة على أنه رجل مفكر، عادل، حازم، دمث الأخلاق. وكان رعاياه يجلونه، لا لأنه جندي محارب، بل لأنه فيلسوف مفكر أشبه ما يكون بالإمبراطور ماركس أوريليوس الروماني، يختص بعنايته الشؤون الدينية والأدبية والأعمال النافعة الإنشائية، شاد المعابد، وشجع دراسة الآثار القديمة بالروح التي تدرسها بها البعثات التي كشفت عن تمثاله، ويحد من سلطان الأقوياء رحمة بالضعفاء. ويفصح نقش من نقوشه التي عثر عليها عن سياسته التي من أجلها عبده رعاياه واتخذوه إلهاً لهم بعد موته: "في خلال سبع سنين كانت الخادمة نداً لمخدومتها، وكان العبد يمشي بجوار سيده، واستراح الضعيف في بلده بجوار القوي" (19).
وفي هذه الأثناء كانت "أور مدينة الكلدان" تنعم بعهد من أكثر عهودها الطوال رخاءً وازدهاراً، امتد من عام 3500 ق.م "وهو على ما يلوح عهد أقدم مقابرها" إلى عام 700 ق.م وأخضع أعظم ملوكها أور- انجور جميع بلاد آسيا الغربية ونشر فيها لواء السلام وأعلن في جميع الدولة السومرية أول كتاب شامل من كتب القانون في تاريخ العالم. وفي ذلك يقول: "لقد أقمت إلى أبد الدهر صرح العدالة" (20). ولما زادت ثروة أور بفضل التجارة التي انصبت إليها صبا عن طريق نهر الفرات فعل فيها ما فعل بركليز بأثينا من بعده فشرع يجملها بإنشاء الهياكل، وأقام فيها وغيرها من المدائن الخاضعة له أمثال لارسا وأوروك ونبور كثيراً من الأبنية. وواصل ابنه دنجى طوال حكمه الذي دام ثمانية وخمسين عام أعمال أبيه، وحكم البلاد حكماً عادلاً حكيماً، جعل رعاياه يتخذونه من بعد موته إلهاً، ويصفونه بأنه الإله الذي أعاد إليهم جنتهم القديمة.
لكن سرعان ما أخذ هذا المجد يزول، فقد انقض على أور التي كانت تنعم
صفحة رقم : 216
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
وقتئذ بالرخاء والفراغ والسلم أهل عيلام ذوو الروح الحربية من الشرق، والعموريون الذين علا شأنهم وقتئذ من الغرب، وأسروا ملكها، ونهبوها ودمروها شر تدمير. وأنشأ شعراء أور القصائد التي يندبون فيها انتهاب تمثال إشتار أمهم الإلهة المحبوبة التي انتزعها من ضريحها الغزاة الآثمون. ومن الغريب أن هذه القصائد التي صيغت في صيغة المتكلم، وأسلوبها مما لا تسر منه الأدباء السفسطائيين، ولكننا على الرغم من هذا نحس من خلال الأربعة آلاف من السنين التي تفصل بيننا وبين الشاعر السومري بما حل بالمدينة وأهلها من خراب وتدمير. يقول الشاعر:
لقد انتهك العدو حرمتي بيديه النجستين ؛
انتهكت يداه حرمتي وقضى على من شدة الفزع.
آه، ما اتعس حظي! إن هذا العدو لم يظهر لي شيئاً من الاحترام،
بل جرّدني من ثيابي وألبسها زوجه هو،
وانتزع مني ُحليي وزين بها أخته،
وأنا "الآن" أسيرة في قصوره- فقد أخذ يبحث عني
في ضريحي- واحسرتاه. لقد كنت ارتجف من هول اليوم الذي اخرج فيه،
فقد أخذ يطاردني في هيكلي، وقذف الرعب في قلبي،
هناك بين جدران بيتي ؛ وكنت كالحمامة ترفرف ثم تحط
على رافدة، أو كالبومة الصغيرة اختبأت في كهف،
وأخذ يطاردني في ضريحي كما يطارد الطير،
طاردني من مدينتي كما يطارد الطير وأنا أتحسر وأنادي
"إن هيكلي من خلفي، ما أبعد المسافة بينه وبيني
وهكذا ظلت بلاد سومر خاضعة لحكم العيلاميين والعموريين مائتي عام تبدو لأعيننا كأنها لحظة لا خطر لها.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 217
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
ثم أقبل من الشمال حمورابي العظيم ملك بابل واستعاد من العيلاميين أوروك وإيسين، وظل ساكناً ثلاثاً وعشرين سنة غزا بعدها بلاد عيلام، وقبض على ملكها، وبسط حكمه على عمور وأشور النائية، وأنشأ إمبراطورية لم يعهد لها التاريخ من قبل لها مثيلاً في قوتها، وسن لها قانوناً عاماً نظم شئونها. وظل الساميون بعد ذلك الوقت قروناً كثيرة يحكمون ما بين النهرين حتى قامت دولة الفرس، فلم نعد نسمع بعدئذ شيئا عن السومريين إذ طويت صحفهم القليلة في كتاب التاريخ.
صفحة رقم : 218
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
2- الحياة الاقتصادية
الزراعة - الصناعة - التجارة - طبقات الناس - العلوم
انقضى عهد السومريين، ولكن حضارتهم لم ُيقض عليها، فقد ظلت سومر وأكد تخرجان صناعاً وشعراء وفنانين وحكماء ورجال دين، وانتقلت حضارة المدن الجنوبية إلى الشمال على طول مجرى نهر الفرات ودجلة حتى وصلت إلى بلاد بابل وأشور، وكانت هي التراث الأول لحضارة بلاد الجزيرة.
وكان أساس هذه الثقافة وتربة الأرض التي أخصبها فيضان النهرين السنوي، وهو الفيضان الناشئ من سقوط الأمطار الشتوية. وكان هذا الفيضان ضاراً ونافعاً، فقد هدا السومريين إلى أن يجروا ماءه جرياناً أميناً في قنوات للري تخترق البلاد طولاً وعرضاً؛ وقد خلدوا أخطاره الأولى بالقصص التي تتحدث عن فيضان عظيم طغى على الأرض ثم انحسر عنها آخر الأمر ونجا الناس من شره (23). وكان نظام الري المحكم الذي يرجع عهده إلى أربعة آلاف سنة ق.م من أعظم الأعمال الإنشائية في الحضارة السومرية، وما من شك في أنه كان أيضا الأساس الذي قامت عليه. فقد أخرجت الحقول التي عنوا بريها وزرعها محصولات موفورة من الذرة والشعير والقمح والبلح والخضر الكثيرة
صفحة رقم : 219
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
المختلفة الأنواع، وظهر عندهم المحراث من أقدم العصور تجره الثيران كما كانت تجره في بلادنا حتى الأمس القريب. وكان يتصل به أنبوبة مثقوبة لبذر البذور. وكانوا يدرسون المحاصيل بعربات كبيرة من الخشب ركبت فيها أسنان من الظران تفتت القش ليكون علفاً للماشية، وتفصل منه الحب ليكون طعاماً للناس(24).
ولقد كانت هذه الثقافة بدائية من نواحٍ كثيرة فقد كان السومريون يستخدمون النحاس والقصدير، وكانوا يخلطونهما في بعض الأحيان ليصنعوا منهما البرونز، وبلغ من أمرهم أنهم كانوا من حين إلى حين يصنعون من الحديد آلات كبيرة(25). ولكن المعادن مع هذا كانت نادرة الوجود قليلة الاستعمال؛ وكانت كثرة الآلات السومرية تتخذ من الظران، وبعضها، كالمناجل التي يقطع بها الشعير، يصنع من الطين؛ أما الدقيق منها كالإبر والمثاقب فكان يصنع من العاج والعظام (26). وكانت صناعة النسيج واسعة الانتشار يشرف عليها مراقبون يعينهم الملك (27) على أحدث طراز من الإشراف الحكومي على الصناعات عرف حتى الآن. وكانت البيوت تبنى من الغاب تعلوه لبنات من الطين والقش تعجن بالماء وتجفف بالشمس. ولا يزال من اليسير العثور على منازل من هذا الطراز في الأرض التي كانت من قبل بلاد سومر، وكان لهذه الأكواخ أبواب من الخشب تدور في أوقاب منحوتة من الحجارة، وكانت أرضها عادة من الطين، وسقفها مقوسة تصنع من الغاب المثنى إلى أعلى، أو مستوية مصنوعة من الغاب المغطى بالطين المبسوط فوق دعامات من الخشب. وكانت البقر والضأن والخنازير تجول في المساكن في رفقة الإنسان البدائية وكان ماء الشرب يؤخذ من الآبار(28).
وأكثر ما كانت تنقل البضائع بطريق الماء. ولما كانت الحجارة نادرة الوجود في بلاد سومر فقد كانت تنقل إليها من خارج البلاد عن طريق الخليج الفارسي أو من أعالي النهرين، ثم تحمل في القنوات إلى أرصفة المدن النهرية.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> تاريخهم
ثم أقبل من الشمال حمورابي العظيم ملك بابل واستعاد من العيلاميين أوروك وإيسين، وظل ساكناً ثلاثاً وعشرين سنة غزا بعدها بلاد عيلام، وقبض على ملكها، وبسط حكمه على عمور وأشور النائية، وأنشأ إمبراطورية لم يعهد لها التاريخ من قبل لها مثيلاً في قوتها، وسن لها قانوناً عاماً نظم شئونها. وظل الساميون بعد ذلك الوقت قروناً كثيرة يحكمون ما بين النهرين حتى قامت دولة الفرس، فلم نعد نسمع بعدئذ شيئا عن السومريين إذ طويت صحفهم القليلة في كتاب التاريخ.
صفحة رقم : 218
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
2- الحياة الاقتصادية
الزراعة - الصناعة - التجارة - طبقات الناس - العلوم
انقضى عهد السومريين، ولكن حضارتهم لم ُيقض عليها، فقد ظلت سومر وأكد تخرجان صناعاً وشعراء وفنانين وحكماء ورجال دين، وانتقلت حضارة المدن الجنوبية إلى الشمال على طول مجرى نهر الفرات ودجلة حتى وصلت إلى بلاد بابل وأشور، وكانت هي التراث الأول لحضارة بلاد الجزيرة.
وكان أساس هذه الثقافة وتربة الأرض التي أخصبها فيضان النهرين السنوي، وهو الفيضان الناشئ من سقوط الأمطار الشتوية. وكان هذا الفيضان ضاراً ونافعاً، فقد هدا السومريين إلى أن يجروا ماءه جرياناً أميناً في قنوات للري تخترق البلاد طولاً وعرضاً؛ وقد خلدوا أخطاره الأولى بالقصص التي تتحدث عن فيضان عظيم طغى على الأرض ثم انحسر عنها آخر الأمر ونجا الناس من شره (23). وكان نظام الري المحكم الذي يرجع عهده إلى أربعة آلاف سنة ق.م من أعظم الأعمال الإنشائية في الحضارة السومرية، وما من شك في أنه كان أيضا الأساس الذي قامت عليه. فقد أخرجت الحقول التي عنوا بريها وزرعها محصولات موفورة من الذرة والشعير والقمح والبلح والخضر الكثيرة
صفحة رقم : 219
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
المختلفة الأنواع، وظهر عندهم المحراث من أقدم العصور تجره الثيران كما كانت تجره في بلادنا حتى الأمس القريب. وكان يتصل به أنبوبة مثقوبة لبذر البذور. وكانوا يدرسون المحاصيل بعربات كبيرة من الخشب ركبت فيها أسنان من الظران تفتت القش ليكون علفاً للماشية، وتفصل منه الحب ليكون طعاماً للناس(24).
ولقد كانت هذه الثقافة بدائية من نواحٍ كثيرة فقد كان السومريون يستخدمون النحاس والقصدير، وكانوا يخلطونهما في بعض الأحيان ليصنعوا منهما البرونز، وبلغ من أمرهم أنهم كانوا من حين إلى حين يصنعون من الحديد آلات كبيرة(25). ولكن المعادن مع هذا كانت نادرة الوجود قليلة الاستعمال؛ وكانت كثرة الآلات السومرية تتخذ من الظران، وبعضها، كالمناجل التي يقطع بها الشعير، يصنع من الطين؛ أما الدقيق منها كالإبر والمثاقب فكان يصنع من العاج والعظام (26). وكانت صناعة النسيج واسعة الانتشار يشرف عليها مراقبون يعينهم الملك (27) على أحدث طراز من الإشراف الحكومي على الصناعات عرف حتى الآن. وكانت البيوت تبنى من الغاب تعلوه لبنات من الطين والقش تعجن بالماء وتجفف بالشمس. ولا يزال من اليسير العثور على منازل من هذا الطراز في الأرض التي كانت من قبل بلاد سومر، وكان لهذه الأكواخ أبواب من الخشب تدور في أوقاب منحوتة من الحجارة، وكانت أرضها عادة من الطين، وسقفها مقوسة تصنع من الغاب المثنى إلى أعلى، أو مستوية مصنوعة من الغاب المغطى بالطين المبسوط فوق دعامات من الخشب. وكانت البقر والضأن والخنازير تجول في المساكن في رفقة الإنسان البدائية وكان ماء الشرب يؤخذ من الآبار(28).
وأكثر ما كانت تنقل البضائع بطريق الماء. ولما كانت الحجارة نادرة الوجود في بلاد سومر فقد كانت تنقل إليها من خارج البلاد عن طريق الخليج الفارسي أو من أعالي النهرين، ثم تحمل في القنوات إلى أرصفة المدن النهرية.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 220
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
لكن النقل البري أخذ ينمو وينتشر، وشاهد ذلك ما كشفته بعثة أكسفورد في كش من مركبات هي أقدم ما عرف من المركبات ذات العجلات في تاريخ العالم (29). وقد عثر في أماكن متفرقة على أختام يستدل منها على وجود صلات تجارية بين سومر وبين مصر والهند (30). ولم تكن النقود قد عرفت في ذلك الوقت، ولهذا كانت التجارة تتبادل عادةً بطريق المقايضة، ولكن الذهب والفضة كانا يستعملان حتى في ذلك الوقت البعيد لتقدير قيم البضاعة، وكانا يقبلان في العادة بدلاً من البضائع نفسها - إما على هيئة سبائك وحلقات ذات قيم محدودة وإما بكميات تقدر قيمتها حسب وزنها في كل صفقة تجارية. وكانت الطريقة الثانية أكثر الطريقتين استعمالاً. وإن كثيراً من ألواح الطين التي وصلت إلينا وعليها بعض الكتابات السومرية لهي وثائق تجارية تكشف عن حياة تجارية جمة النشاط. ويتحدث لوح من هذه الألواح في لغة تدل على الملل والسآمة عن "المدينة التي تعج بضوضاء الإنسان". وكان لديهم عقود مكتوبة موثقة يشهد عليها الشهود، ونظام للائتمان تقرض بمقتضاه البضائع والذهب والفضة، وتؤدي عنها فوائد عينية يختلف سعرها من 15% إلى 33% في السنة (31).ولما كان استقرار المجتمع يتناسب إلى حد ما تناسباً عكسياً مع سعر الفائدة فإن لنا أن نفترض أن التجارة السومرية كانت كتجارتنا يحيط بها جو من الارتياب والاضطراب الاقتصاديين والسياسيين.
وقد وجدت في المقابر كميات كبيرة من الذهب والفضة منها ما هو حلي ومنها ما هو أوانٍ وأسلحة وزخارف، بل إن منها ما هو عدد وآلات. وكان أهل البلاد الأغنياء منهم والفقراء ينقسمون إلى طبقات ومراتب كثيرة، وكانت تجارة الرقيق منتشرة بينهم وحقوق الملكية مقدسة لديهم (32). ونشأت بين الأغنياء والفقراء طبقة أفرادها من صغار رجال الأعمال وطلاب العلم والأطباء والكهنة. وقد علا شأن الطب عندهم فكان لكل داء دواء خاص ، ولكنه ظل يختلط
صفحة رقم : 221
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
بالدين ويعترف بأن المرض لا يمكن شفاءه إلا إذا طردت الشياطين من أجسام المرضى، لأن الأمراض إنما تنشأ من تقمصها هذه الأجسام. وكان لديهم تقويم، لا نعرف متى نشأ ولا أين نشأ، تقسم السنة بمقتضاها إلى اثنا عشر شهراً قمرياً يزيدونها شهراً في كل ثلاثة أعوام أو أربعة حتى يتفق تقويمهم هذا مع فصول السنة ومع منازل الشمس. وكانت كل مدينة تسمي هذه الأشهر بأسماء خاصة(33).
صفحة رقم : 222
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> نظام الحكم
3- نظام الحكم
الملوك - الخطط الحربية - أمراء الإقطاع - القانون
والحق أن كل مدينة كانت شديدة الحرص على استقلالها، تعض عليه بالنواجذ، وتستمتع بملك خاص بها تسميه باتيسى أو الملك- الكاهن تدل بهذه التسمية نفسها على أن نظام الحكم كان وثيق الاتصال بالدين. وما وافى عام 1800 ق.م حتى نمت التجارة نمواً جعل هذا الانفصال بين المدن أمراً مستحيلاً، فنشأت منها جميعاً "إمبراطوريات" استطاعت فيها شخصية قوية عظيمة أن تخضع المدن والملوك- الكهنة لسلطانها، وأن تؤلف من هذه المدن وحدة سياسية واقتصادية. وكان هذا الملك الأعظم صاحب السلطان المطلق يحيط به جو من العنف والخوف شبيه بما كان يحيط بالملوك في عصر النهضة الأوربية. ذلك بأنه كان معرضاً في كل وقت إلى أن ُيقضى عليه بنفس الوسائل التي قضى بها على أعدائه وارتقى بها عرشه. وكان يعيش في قصر منيع له مدخلان ضيقان لا يتسع الواحد منهما لدخول أكثر من شخص واحد في كل مرة. وكان عن يمين المدخل وشماله مخابئ يستطيع من فيها من الحراس السريين أن يفحصوا عن كل زائر أو ينقضوا عليه بالخناجر(34). بل إن هيكل الملك كان هو نفسه مكاناً سرياً مختفياً في قصره يستطيع أن يؤدي فيه واجباته الدينية دون أن تراه الأعين، أو أن يغفل أداءها دون أن يعرف الناس شيئا عن هذا الإغفال.
صفحة رقم : 223
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> نظام الحكم
وكان الملك يخرج إلى الحرب في عربة على رأس جيش مؤلف من خليط من المقاتلين مسلحين بالقسى والسهام والحراب. وكانت الحرب تشن لأسباب صريحة هي السيطرة على طرق التجارة والاستحواذ على السلع التجارية؛ فلم يكن يخطر لهم ببال أن يستروا هذا الغرض بستار من الألفاظ يخدعون بها أصحاب المثل العليا. من ذلك أن منشتوسو ملك أكد أعلن في صراحة أنه يغزو بلاد عيلام ليستولي على ما فيها من مناجم الفضة، وليحصل منها على حجر الديوريت لتصنع منه التماثيل التي تخلد ذكره في الأعقاب- وتلك هي الحرب الوحيدة في التاريخ التي تخوضها الجيوش لأغراض فنية. وكان المغلوبون يباعون ليكونوا عبيداً، فإذا لم يكن في بيعهم ربح ذبحوا ذبحاً في ميدان القتال. وكان يحدث أحياناً أن يقدم عشر الأسرى قرباناً إلى الآلهة المتعطشة للدماء، فيقتلوا بعد أن يوضعوا في شباك لا يستطيعون الإفلات منها. وقد حدث في هذه المدن ما حدث بعد إذ في المدن الإيطالية في عصر النهضة، فكانت النزعة الانفصالية التي تسود المدن السومرية حافزاً قوياً للحياة والفن فيها، ولكنها كانت كذلك باعثاً على العنف والنزاع الداخلي، فأدى هذا إلى ضعف الدويلات جميعها وإلى سقوط بلاد سومر بأكملها (35).
وكان نظام الإقطاع وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في الإمبراطورية السومرية. فقد كان الملك عقب كل حرب يقطع الزعماء البواسل مساحات واسعة من الأرض ويعفيها من الضرائب. وكان من واجب هؤلاء الزعماء أن يحافظوا على النظام في إقطاعاتهم، ويقدموا للملك حاجاته من الجند والعتاد. وكانت موارد الحكومة تتكون من الضرائب التي تجبى عيناً وتخزن في المخازن الملكية وتؤدى منها مرتبات موظفي الدولة وعمالها(36).
وكان يقوم إلى جانب هذا النظام الملكي الإقطاعي طائفة من القوانين تستند إلى سوابق كثيرة من عهد أور- أنجور ودنجى اللذين جمعا قوانين أور ودوناها.
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
لكن النقل البري أخذ ينمو وينتشر، وشاهد ذلك ما كشفته بعثة أكسفورد في كش من مركبات هي أقدم ما عرف من المركبات ذات العجلات في تاريخ العالم (29). وقد عثر في أماكن متفرقة على أختام يستدل منها على وجود صلات تجارية بين سومر وبين مصر والهند (30). ولم تكن النقود قد عرفت في ذلك الوقت، ولهذا كانت التجارة تتبادل عادةً بطريق المقايضة، ولكن الذهب والفضة كانا يستعملان حتى في ذلك الوقت البعيد لتقدير قيم البضاعة، وكانا يقبلان في العادة بدلاً من البضائع نفسها - إما على هيئة سبائك وحلقات ذات قيم محدودة وإما بكميات تقدر قيمتها حسب وزنها في كل صفقة تجارية. وكانت الطريقة الثانية أكثر الطريقتين استعمالاً. وإن كثيراً من ألواح الطين التي وصلت إلينا وعليها بعض الكتابات السومرية لهي وثائق تجارية تكشف عن حياة تجارية جمة النشاط. ويتحدث لوح من هذه الألواح في لغة تدل على الملل والسآمة عن "المدينة التي تعج بضوضاء الإنسان". وكان لديهم عقود مكتوبة موثقة يشهد عليها الشهود، ونظام للائتمان تقرض بمقتضاه البضائع والذهب والفضة، وتؤدي عنها فوائد عينية يختلف سعرها من 15% إلى 33% في السنة (31).ولما كان استقرار المجتمع يتناسب إلى حد ما تناسباً عكسياً مع سعر الفائدة فإن لنا أن نفترض أن التجارة السومرية كانت كتجارتنا يحيط بها جو من الارتياب والاضطراب الاقتصاديين والسياسيين.
وقد وجدت في المقابر كميات كبيرة من الذهب والفضة منها ما هو حلي ومنها ما هو أوانٍ وأسلحة وزخارف، بل إن منها ما هو عدد وآلات. وكان أهل البلاد الأغنياء منهم والفقراء ينقسمون إلى طبقات ومراتب كثيرة، وكانت تجارة الرقيق منتشرة بينهم وحقوق الملكية مقدسة لديهم (32). ونشأت بين الأغنياء والفقراء طبقة أفرادها من صغار رجال الأعمال وطلاب العلم والأطباء والكهنة. وقد علا شأن الطب عندهم فكان لكل داء دواء خاص ، ولكنه ظل يختلط
صفحة رقم : 221
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الحياة الاقتصادية
بالدين ويعترف بأن المرض لا يمكن شفاءه إلا إذا طردت الشياطين من أجسام المرضى، لأن الأمراض إنما تنشأ من تقمصها هذه الأجسام. وكان لديهم تقويم، لا نعرف متى نشأ ولا أين نشأ، تقسم السنة بمقتضاها إلى اثنا عشر شهراً قمرياً يزيدونها شهراً في كل ثلاثة أعوام أو أربعة حتى يتفق تقويمهم هذا مع فصول السنة ومع منازل الشمس. وكانت كل مدينة تسمي هذه الأشهر بأسماء خاصة(33).
صفحة رقم : 222
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> نظام الحكم
3- نظام الحكم
الملوك - الخطط الحربية - أمراء الإقطاع - القانون
والحق أن كل مدينة كانت شديدة الحرص على استقلالها، تعض عليه بالنواجذ، وتستمتع بملك خاص بها تسميه باتيسى أو الملك- الكاهن تدل بهذه التسمية نفسها على أن نظام الحكم كان وثيق الاتصال بالدين. وما وافى عام 1800 ق.م حتى نمت التجارة نمواً جعل هذا الانفصال بين المدن أمراً مستحيلاً، فنشأت منها جميعاً "إمبراطوريات" استطاعت فيها شخصية قوية عظيمة أن تخضع المدن والملوك- الكهنة لسلطانها، وأن تؤلف من هذه المدن وحدة سياسية واقتصادية. وكان هذا الملك الأعظم صاحب السلطان المطلق يحيط به جو من العنف والخوف شبيه بما كان يحيط بالملوك في عصر النهضة الأوربية. ذلك بأنه كان معرضاً في كل وقت إلى أن ُيقضى عليه بنفس الوسائل التي قضى بها على أعدائه وارتقى بها عرشه. وكان يعيش في قصر منيع له مدخلان ضيقان لا يتسع الواحد منهما لدخول أكثر من شخص واحد في كل مرة. وكان عن يمين المدخل وشماله مخابئ يستطيع من فيها من الحراس السريين أن يفحصوا عن كل زائر أو ينقضوا عليه بالخناجر(34). بل إن هيكل الملك كان هو نفسه مكاناً سرياً مختفياً في قصره يستطيع أن يؤدي فيه واجباته الدينية دون أن تراه الأعين، أو أن يغفل أداءها دون أن يعرف الناس شيئا عن هذا الإغفال.
صفحة رقم : 223
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> نظام الحكم
وكان الملك يخرج إلى الحرب في عربة على رأس جيش مؤلف من خليط من المقاتلين مسلحين بالقسى والسهام والحراب. وكانت الحرب تشن لأسباب صريحة هي السيطرة على طرق التجارة والاستحواذ على السلع التجارية؛ فلم يكن يخطر لهم ببال أن يستروا هذا الغرض بستار من الألفاظ يخدعون بها أصحاب المثل العليا. من ذلك أن منشتوسو ملك أكد أعلن في صراحة أنه يغزو بلاد عيلام ليستولي على ما فيها من مناجم الفضة، وليحصل منها على حجر الديوريت لتصنع منه التماثيل التي تخلد ذكره في الأعقاب- وتلك هي الحرب الوحيدة في التاريخ التي تخوضها الجيوش لأغراض فنية. وكان المغلوبون يباعون ليكونوا عبيداً، فإذا لم يكن في بيعهم ربح ذبحوا ذبحاً في ميدان القتال. وكان يحدث أحياناً أن يقدم عشر الأسرى قرباناً إلى الآلهة المتعطشة للدماء، فيقتلوا بعد أن يوضعوا في شباك لا يستطيعون الإفلات منها. وقد حدث في هذه المدن ما حدث بعد إذ في المدن الإيطالية في عصر النهضة، فكانت النزعة الانفصالية التي تسود المدن السومرية حافزاً قوياً للحياة والفن فيها، ولكنها كانت كذلك باعثاً على العنف والنزاع الداخلي، فأدى هذا إلى ضعف الدويلات جميعها وإلى سقوط بلاد سومر بأكملها (35).
وكان نظام الإقطاع وسيلة حفظ النظام الاجتماعي في الإمبراطورية السومرية. فقد كان الملك عقب كل حرب يقطع الزعماء البواسل مساحات واسعة من الأرض ويعفيها من الضرائب. وكان من واجب هؤلاء الزعماء أن يحافظوا على النظام في إقطاعاتهم، ويقدموا للملك حاجاته من الجند والعتاد. وكانت موارد الحكومة تتكون من الضرائب التي تجبى عيناً وتخزن في المخازن الملكية وتؤدى منها مرتبات موظفي الدولة وعمالها(36).
وكان يقوم إلى جانب هذا النظام الملكي الإقطاعي طائفة من القوانين تستند إلى سوابق كثيرة من عهد أور- أنجور ودنجى اللذين جمعا قوانين أور ودوناها.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 224
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> نظام الحكم
فكانت هي المعين الذي استمد منه حمورابي شريعته الذائعة الصيت. وكانت تلك الشرائع أبسط واكثر بدائية من الشرائع اللاحقة، ولكنها كانت أيضا أقل منها قسوة.
مثال ذلك أن الشرائع السامية تقضي بقتل الزوجة إذا زنت، أما الشريعة السومرية فكل ما تجيزه أن تسمح للزوج بأن يتخذ له زوجة ثانية، وأن ينزل الزوجة الأولى منزلة أقل من منزلتها السابقة (37). والقانون السومري يشمل العلاقات التجارية كما يشمل العلاقات الزوجية والجنسية بوجه عام، وينظم شئون القروض والعقود، والبيع والشراء، والتبني والوصية بكافة أنواعها. وكانت المحاكم تعقد جلساتها في المعابد وكان معظم قضاتها من رجال الدين؛ أما المحاكم العليا فكان يعين لها قضاة فنيون مختصون. وخير ما في القانون كله هو النظام الذي وضعه لتجنب التقاضي: ذلك أن كل نزاع كان يعرض أولاً على محكم عام واجبه أن يسويه بطريقة ودية دون أن يلجأ المتنازعون إلى حكم القانون (38)، فها هي ذي مدينة بدائية يجدر بنا أن نتلقى منها درسا نصلح به مدينتنا.
صفحة رقم : 225
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
4- الدين والأخلاق
مجمع الآلهة السومرية - طعام الآلهة - الأساطير - التعليم - صلاة
سومرية - عاهرات المعابد - حقوق المرأة - أدهنة الشعر والوجوه
نشر أور- أنجور في البلاد شرائعه باسم الإله الأعظم شمش، ذلك أن الحكومة سرعان ما رأت ما في الالتجاء إلى الدين من فوائد سياسية. فلما أن أصبح الآلهة ذوي فائدة من هذه الناحية تضاعف عددهم مراراً حتى أصبح لكل مدينة، ولكل ولاية، ولكل نوع من النشاط البشري، إله موح مدبر. وكانت عبادة الشمس قد تقادم عهدها حين نشأت بلاد سومر، وكان مظهرها عبادة شمس "نور الآلهة" الذي كان يقضي الليل في الأعماق الشمالية حتى يفتح
صفحة رقم : 226
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
له الفجر أبوابه فيصعد في السماء كاللهب ويضرب بعربته في أعماق القبة الزرقاء. ولم تكن الشمس إلا عجلة في مركبته النارية(39). وشيدت مدينة نبور المعابد العظيمة للإله إنليل ولصاحبته ننهيل، وأكثر ما كانت تعبد أوروك إلهة أنينى العذراء إلهة الأرض والمعروفة لدى أهل أكد الساميين باسم إستير، والتي تشبه عند أهل الشرق الأدنى أفرديتى- دمتر الفاجرة الغمليجة عند الغربيين. وعبدت مدينتا كش ولكش أمّاً لهما حزينة هي الإلهة ننكر ساج التي أحزنها شقاء البشر فأخذت تشفع لهم عند الآلهة الذين كانوا أشد منها قسوة (40)؛ وكان ننجرسو إله الريّ و"ربّ الفيضانات". وكان أبو أو تموز إله الزرع؛ وكان سِنْ إله القمر، وكانوا يمثلونه في صورة إنسان يعلو رأسه هلال أشبه شيء بالهلالات التي تحيط برؤوس القديسين في العصور الوسطى؛ وكان الهواء كله في زعمهم مملوءً بالأرواح- منها ملائكة خيرين لكل سومر ملك منهم يحميه، ومنها أرواح خبيثة أو شياطين تعمل جاهدة لطرد الروح الخيرة الواقية وتقمص جسم الآدمي وروحه.
وكانت كثرة الآلهة تسكن المعابد حيث يقرب لها المؤمنون القرابين من مال وطعام وأزواج، وتنص ألواح جوديا على الأشياء التي ترتاح لها الآلهة وتفضلها عن غيرها، ومنها الثيران، والمعز، والضأن، واليمام، والدجاج، والبط، والسمك، والبلح، والتين، والخيار، والزبد، والزيت، والكعك(41). ولنا أن نستدل من هذا الثبت على أن الموسرين من أهل البلاد كانوا يتمتعون بالكثير من أصناف الطعام؛ ويلوح أن الآلهة كانوا في بادئ الأمر يفضلون لحم الآدميين فلما ارتقى أخلاق الناس لم يجدوا بدا من الاقتناع بلحم الحيوان.
وقد عثر في الخرائب السومرية على لوح نقشت عليه بعض الصلوات وجاءت فيها هذه النذر الدينية الغريبة: "إن الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته" (42)، وأثرى الكهنة من هذه القرابين حتى أصبحوا أكثر الطبقات مالاً وأعظمها قوة في المدن السومرية، وحتى كانوا هم الحكام
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> نظام الحكم
فكانت هي المعين الذي استمد منه حمورابي شريعته الذائعة الصيت. وكانت تلك الشرائع أبسط واكثر بدائية من الشرائع اللاحقة، ولكنها كانت أيضا أقل منها قسوة.
مثال ذلك أن الشرائع السامية تقضي بقتل الزوجة إذا زنت، أما الشريعة السومرية فكل ما تجيزه أن تسمح للزوج بأن يتخذ له زوجة ثانية، وأن ينزل الزوجة الأولى منزلة أقل من منزلتها السابقة (37). والقانون السومري يشمل العلاقات التجارية كما يشمل العلاقات الزوجية والجنسية بوجه عام، وينظم شئون القروض والعقود، والبيع والشراء، والتبني والوصية بكافة أنواعها. وكانت المحاكم تعقد جلساتها في المعابد وكان معظم قضاتها من رجال الدين؛ أما المحاكم العليا فكان يعين لها قضاة فنيون مختصون. وخير ما في القانون كله هو النظام الذي وضعه لتجنب التقاضي: ذلك أن كل نزاع كان يعرض أولاً على محكم عام واجبه أن يسويه بطريقة ودية دون أن يلجأ المتنازعون إلى حكم القانون (38)، فها هي ذي مدينة بدائية يجدر بنا أن نتلقى منها درسا نصلح به مدينتنا.
صفحة رقم : 225
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
4- الدين والأخلاق
مجمع الآلهة السومرية - طعام الآلهة - الأساطير - التعليم - صلاة
سومرية - عاهرات المعابد - حقوق المرأة - أدهنة الشعر والوجوه
نشر أور- أنجور في البلاد شرائعه باسم الإله الأعظم شمش، ذلك أن الحكومة سرعان ما رأت ما في الالتجاء إلى الدين من فوائد سياسية. فلما أن أصبح الآلهة ذوي فائدة من هذه الناحية تضاعف عددهم مراراً حتى أصبح لكل مدينة، ولكل ولاية، ولكل نوع من النشاط البشري، إله موح مدبر. وكانت عبادة الشمس قد تقادم عهدها حين نشأت بلاد سومر، وكان مظهرها عبادة شمس "نور الآلهة" الذي كان يقضي الليل في الأعماق الشمالية حتى يفتح
صفحة رقم : 226
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
له الفجر أبوابه فيصعد في السماء كاللهب ويضرب بعربته في أعماق القبة الزرقاء. ولم تكن الشمس إلا عجلة في مركبته النارية(39). وشيدت مدينة نبور المعابد العظيمة للإله إنليل ولصاحبته ننهيل، وأكثر ما كانت تعبد أوروك إلهة أنينى العذراء إلهة الأرض والمعروفة لدى أهل أكد الساميين باسم إستير، والتي تشبه عند أهل الشرق الأدنى أفرديتى- دمتر الفاجرة الغمليجة عند الغربيين. وعبدت مدينتا كش ولكش أمّاً لهما حزينة هي الإلهة ننكر ساج التي أحزنها شقاء البشر فأخذت تشفع لهم عند الآلهة الذين كانوا أشد منها قسوة (40)؛ وكان ننجرسو إله الريّ و"ربّ الفيضانات". وكان أبو أو تموز إله الزرع؛ وكان سِنْ إله القمر، وكانوا يمثلونه في صورة إنسان يعلو رأسه هلال أشبه شيء بالهلالات التي تحيط برؤوس القديسين في العصور الوسطى؛ وكان الهواء كله في زعمهم مملوءً بالأرواح- منها ملائكة خيرين لكل سومر ملك منهم يحميه، ومنها أرواح خبيثة أو شياطين تعمل جاهدة لطرد الروح الخيرة الواقية وتقمص جسم الآدمي وروحه.
وكانت كثرة الآلهة تسكن المعابد حيث يقرب لها المؤمنون القرابين من مال وطعام وأزواج، وتنص ألواح جوديا على الأشياء التي ترتاح لها الآلهة وتفضلها عن غيرها، ومنها الثيران، والمعز، والضأن، واليمام، والدجاج، والبط، والسمك، والبلح، والتين، والخيار، والزبد، والزيت، والكعك(41). ولنا أن نستدل من هذا الثبت على أن الموسرين من أهل البلاد كانوا يتمتعون بالكثير من أصناف الطعام؛ ويلوح أن الآلهة كانوا في بادئ الأمر يفضلون لحم الآدميين فلما ارتقى أخلاق الناس لم يجدوا بدا من الاقتناع بلحم الحيوان.
وقد عثر في الخرائب السومرية على لوح نقشت عليه بعض الصلوات وجاءت فيها هذه النذر الدينية الغريبة: "إن الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته" (42)، وأثرى الكهنة من هذه القرابين حتى أصبحوا أكثر الطبقات مالاً وأعظمها قوة في المدن السومرية، وحتى كانوا هم الحكام
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
المتصرفين في معظم الشئون، حتى ليصعب علينا أن نحكم إلى أي حد كان الباتيسى كاهنا- وإلى أي حد كان ملكاً.
فلما أسرف الكهنة في ابتزاز أموال الناس نهض أوروكاجينا كما نهض لوثر فيما بعد، وأخذ يندد بنهمهم وجشعهم، ويتهمهم بالرشوة في توزيع العدالة، وبأنهم يتخذون الضرائب وسيلة يبتزون بها من الزراع والصيادين ثمرة كدهم. وأفلح وقتا ما في تطهير المحاكم من هؤلاء الموظفين المرتشين الفاسدين، وسن قوانين لتنظيم الضرائب والرسوم التي تؤدى للمعابد، وحمى الضعفاء من ضروب الابتزاز، ووضع الشرائع التي تحول دون اغتصاب الأموال والأملاك (43). لكن العالم كان قد عمر حتى شاخ، وتأصلت فيه الأساليب القديمة التي غشاها الزمان بشيء من التبجيل والتقديس.
واستعاد الكهنة سلطانهم بعد موت أورو- كاجينا كما استعادوا سلطانهم في مصر بعد موت إخناتون؛ ذلك أن الناس لا يترددون في أن يؤدوا أغلى الأثمان لكي يعودوا إلى ما خطته لهم أساطيرهم؛ وكانت جذور الأساطير الدينية حتى في ذلك العهد السحيق قد أخذت تتأصل في العقول. ومن حقنا أن نفترض أن السومريين كانوا يؤمنون بالحياة الآخرة، لأن الطعام والأدوات كانت تدفن مع الموتى في القبور (44)، ولكنهم كانوا يصورون الدار الآخرة، كما صورها اليونان من بعدهم، عالماً مظلماً تسكنه الأطياف التعسة ويهوى إليه الموتى أياً كان شأنهم من غير تمييز بينهم.
ولم تكن فكرة الجنة والنار والنعيم الدائم والعذاب المخلد، قد استقرت بعد في عقولهم، ولم يكونوا يتقدمون بالصلاة والقربان طمعا في "الحياة الخالدة"، بل كانوا يتقدمون بهما طمعاً في النعم المادية الملموسة في الحياة الدنيا (45). وتصف إحدى الأساطير المتأخرة كيف علمت إي إلهة الحكمة أدابا حكيم إريدو جميع العلوم، ولم تخف عنه من أسرارها إلا سراً واحداً- هو سر الحياة الأبدية التي
صفحة رقم : 228
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
لا تنتهي بالموت(46). وتقول أسطورة أخرى أن الآلهة خلقت الإنسان منعما سعيدا، ولكنه أذنب وارتكب الخطايا بإرادته الحرة، فأرسل عليه طوفان عظيم عقاباً له على فعله، فأهلك الناس كافة ولم ينج منه إلا رجلاً واحد هو تجتوج الحائك، وأن تجتوج هذا خسر الحياة الخالدة والعافية لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة (47).
وكان الكهنة يعلمون الناس العلوم ويلقنونهم الأساطير، وما من شك في أنهم كانوا يتخذون من هذه الأساطير سبيلاً إلى تعليم الناس ما يريدونه هم، وإلى حكمهم والسيطرة عليهم. وكانت تلحق بمعظم الهياكل مدارس يعلم فيها الكهنة الأولاد والبنات الخط والحساب، ويغرسون في نفوسهم مبادئ الوطنية والصلاح، ويعدون بعضهم للمهنة العليا مهنة الكتابة. ولقد بقيت لنا من أيامهم الألواح المدرسية وعليها جداول للضرب والقسمة، والجذور التربيعية والتكعيبية، ومسائل في الهندسة التطبيقية(48).ويستدل من أحد الألواح المحتوية على خلاصة لتاريخ الإنسان الطبيعي على أن ما كان يتلقاه أطفال ذلك العهد من هذا العلم لم يكن أسخف كثيرا مما تلقاه أبناؤنا في هذه الأيام. فقد جاء في هذا اللوح: "إن الإنسان في أول خلقه لم يكن يعرف شيئاً عن خبز يؤكل أو ثياب تلبس، فكان الناس يمشون منكبين على وجوههم، يقتلعون الأعشاب بأفواههم ليقتاتوا بها كما تقتات بها الأغنام، ويشربون الماء من حفر في الأرض" (49).
ومن أعظم الشواهد الناطقة بما بلغه من هذا الدين- وهو أول الأديان التي عرفها التاريخ- من نبل في التعبير والتفكير، ذلك الدعاء الذي يتضرع به الملك جوديا للإلهة "بو" راعية لكش ونصيرتها:
أي ملكتي، أيتها الأم التي شيدت لكش
إن الذين تلحظينهم بعينيك ينالون العزة والسلطان،
والعابد الذي تنظرين إليه تطول حياته؛
أنا ليس لي أُم- فأنت أمي،
صفحة رقم : 229
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
وليس لي أب- فأنت أبي... ؛
أي إلهتي بو؟ إن عندك علم الخير،
وأنت التي وهبتني أنفاس الحياة،
وسأقيم في كنفك أعظّمك وأمجّدك،
واحتمي بحماك يا أُمّاه
وكان يتصل بالهياكل عدد من النساء منهن خادمات، ومنهن سراري للآلهة أو لممثليهم الذين يقومون مقامهم على الأرض؛ ولم تكن الفتاة السومرية ترى شيئا من العار في أن تخدم الهياكل على هذا النحو، وكان أبوها يفخر بأن يهب جمالها ومفاتنها لتخفيف ما يعتري حياة الكاهن المقدسة من ملل وسآمة؛ وكان يحتفل بإدخال ابنته في هذه الخدمة المقدسة، ويقرّب القرابين في هذا الاحتفال، كما كان يقدم بائنة ابنته إلى المعبد الذي تدخله(51).
وكان الزواج قد أصبح وقتئذ نظاماً معقداً تحوطه شرائع كثيرة. فكانت البنت إذا تزوجت تحتفظ لنفسها بما يقدمه أبوها من بائنة ؛ ومع أن زوجها كان يشترك معها في القيام بهذه البائنة، فقد كان لها وحدها أن تقرر من يرثها بعد وفاتها . وكان لها من الحقوق على أولادها ما لزوجها نفسه، وإذا غاب زوجها ولم يكن لها ابن كبير يقيم معها كانت تدير هي المزارع كما تدير البيت. وكان لها أن تشتغل بالأعمال التجارية مستقلة عن زوجها ، وأن تحتفظ بعبيدها أو أن تطلق سراحهم. وكانت تسمو أحياناً إلى منزلة الملكة كما سمت شوب- آد وتحكم مدينتها حكماً رحيماً رغداً قوياً. غير أن الرجل كان هو السيد المسيطر في الأزمات جميعها وكان من حقه في بعض الظروف أن يقتل زوجته أو يبيعها أمة وفاء لما عليه من الديون. وكان الحكم الأخلاقي على الرجل يختلف عن الحكم الأخلاقي على المرأة حتى في ذلك العهد السحيق، وكان ذلك نتيجة لازمة لاختلافهما في شئون الملكية والوراثة. فزني الرجل كان يعد من النزوات التي يمكن الصفح عنها،
المتصرفين في معظم الشئون، حتى ليصعب علينا أن نحكم إلى أي حد كان الباتيسى كاهنا- وإلى أي حد كان ملكاً.
فلما أسرف الكهنة في ابتزاز أموال الناس نهض أوروكاجينا كما نهض لوثر فيما بعد، وأخذ يندد بنهمهم وجشعهم، ويتهمهم بالرشوة في توزيع العدالة، وبأنهم يتخذون الضرائب وسيلة يبتزون بها من الزراع والصيادين ثمرة كدهم. وأفلح وقتا ما في تطهير المحاكم من هؤلاء الموظفين المرتشين الفاسدين، وسن قوانين لتنظيم الضرائب والرسوم التي تؤدى للمعابد، وحمى الضعفاء من ضروب الابتزاز، ووضع الشرائع التي تحول دون اغتصاب الأموال والأملاك (43). لكن العالم كان قد عمر حتى شاخ، وتأصلت فيه الأساليب القديمة التي غشاها الزمان بشيء من التبجيل والتقديس.
واستعاد الكهنة سلطانهم بعد موت أورو- كاجينا كما استعادوا سلطانهم في مصر بعد موت إخناتون؛ ذلك أن الناس لا يترددون في أن يؤدوا أغلى الأثمان لكي يعودوا إلى ما خطته لهم أساطيرهم؛ وكانت جذور الأساطير الدينية حتى في ذلك العهد السحيق قد أخذت تتأصل في العقول. ومن حقنا أن نفترض أن السومريين كانوا يؤمنون بالحياة الآخرة، لأن الطعام والأدوات كانت تدفن مع الموتى في القبور (44)، ولكنهم كانوا يصورون الدار الآخرة، كما صورها اليونان من بعدهم، عالماً مظلماً تسكنه الأطياف التعسة ويهوى إليه الموتى أياً كان شأنهم من غير تمييز بينهم.
ولم تكن فكرة الجنة والنار والنعيم الدائم والعذاب المخلد، قد استقرت بعد في عقولهم، ولم يكونوا يتقدمون بالصلاة والقربان طمعا في "الحياة الخالدة"، بل كانوا يتقدمون بهما طمعاً في النعم المادية الملموسة في الحياة الدنيا (45). وتصف إحدى الأساطير المتأخرة كيف علمت إي إلهة الحكمة أدابا حكيم إريدو جميع العلوم، ولم تخف عنه من أسرارها إلا سراً واحداً- هو سر الحياة الأبدية التي
صفحة رقم : 228
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
لا تنتهي بالموت(46). وتقول أسطورة أخرى أن الآلهة خلقت الإنسان منعما سعيدا، ولكنه أذنب وارتكب الخطايا بإرادته الحرة، فأرسل عليه طوفان عظيم عقاباً له على فعله، فأهلك الناس كافة ولم ينج منه إلا رجلاً واحد هو تجتوج الحائك، وأن تجتوج هذا خسر الحياة الخالدة والعافية لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة (47).
وكان الكهنة يعلمون الناس العلوم ويلقنونهم الأساطير، وما من شك في أنهم كانوا يتخذون من هذه الأساطير سبيلاً إلى تعليم الناس ما يريدونه هم، وإلى حكمهم والسيطرة عليهم. وكانت تلحق بمعظم الهياكل مدارس يعلم فيها الكهنة الأولاد والبنات الخط والحساب، ويغرسون في نفوسهم مبادئ الوطنية والصلاح، ويعدون بعضهم للمهنة العليا مهنة الكتابة. ولقد بقيت لنا من أيامهم الألواح المدرسية وعليها جداول للضرب والقسمة، والجذور التربيعية والتكعيبية، ومسائل في الهندسة التطبيقية(48).ويستدل من أحد الألواح المحتوية على خلاصة لتاريخ الإنسان الطبيعي على أن ما كان يتلقاه أطفال ذلك العهد من هذا العلم لم يكن أسخف كثيرا مما تلقاه أبناؤنا في هذه الأيام. فقد جاء في هذا اللوح: "إن الإنسان في أول خلقه لم يكن يعرف شيئاً عن خبز يؤكل أو ثياب تلبس، فكان الناس يمشون منكبين على وجوههم، يقتلعون الأعشاب بأفواههم ليقتاتوا بها كما تقتات بها الأغنام، ويشربون الماء من حفر في الأرض" (49).
ومن أعظم الشواهد الناطقة بما بلغه من هذا الدين- وهو أول الأديان التي عرفها التاريخ- من نبل في التعبير والتفكير، ذلك الدعاء الذي يتضرع به الملك جوديا للإلهة "بو" راعية لكش ونصيرتها:
أي ملكتي، أيتها الأم التي شيدت لكش
إن الذين تلحظينهم بعينيك ينالون العزة والسلطان،
والعابد الذي تنظرين إليه تطول حياته؛
أنا ليس لي أُم- فأنت أمي،
صفحة رقم : 229
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
وليس لي أب- فأنت أبي... ؛
أي إلهتي بو؟ إن عندك علم الخير،
وأنت التي وهبتني أنفاس الحياة،
وسأقيم في كنفك أعظّمك وأمجّدك،
واحتمي بحماك يا أُمّاه
وكان يتصل بالهياكل عدد من النساء منهن خادمات، ومنهن سراري للآلهة أو لممثليهم الذين يقومون مقامهم على الأرض؛ ولم تكن الفتاة السومرية ترى شيئا من العار في أن تخدم الهياكل على هذا النحو، وكان أبوها يفخر بأن يهب جمالها ومفاتنها لتخفيف ما يعتري حياة الكاهن المقدسة من ملل وسآمة؛ وكان يحتفل بإدخال ابنته في هذه الخدمة المقدسة، ويقرّب القرابين في هذا الاحتفال، كما كان يقدم بائنة ابنته إلى المعبد الذي تدخله(51).
وكان الزواج قد أصبح وقتئذ نظاماً معقداً تحوطه شرائع كثيرة. فكانت البنت إذا تزوجت تحتفظ لنفسها بما يقدمه أبوها من بائنة ؛ ومع أن زوجها كان يشترك معها في القيام بهذه البائنة، فقد كان لها وحدها أن تقرر من يرثها بعد وفاتها . وكان لها من الحقوق على أولادها ما لزوجها نفسه، وإذا غاب زوجها ولم يكن لها ابن كبير يقيم معها كانت تدير هي المزارع كما تدير البيت. وكان لها أن تشتغل بالأعمال التجارية مستقلة عن زوجها ، وأن تحتفظ بعبيدها أو أن تطلق سراحهم. وكانت تسمو أحياناً إلى منزلة الملكة كما سمت شوب- آد وتحكم مدينتها حكماً رحيماً رغداً قوياً. غير أن الرجل كان هو السيد المسيطر في الأزمات جميعها وكان من حقه في بعض الظروف أن يقتل زوجته أو يبيعها أمة وفاء لما عليه من الديون. وكان الحكم الأخلاقي على الرجل يختلف عن الحكم الأخلاقي على المرأة حتى في ذلك العهد السحيق، وكان ذلك نتيجة لازمة لاختلافهما في شئون الملكية والوراثة. فزني الرجل كان يعد من النزوات التي يمكن الصفح عنها،
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: قصة الحضارة - لول ديورانت
صفحة رقم : 230
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
أما زني الزوجة فكان عقابه الإعدام ، وكان ينتظر منها أن تلد لزوجها وللدولة كثيرا من الأبناء؛ فإذا كانت عاقرا جاز طلاقها لهذا السبب وحده، أما إذا كرهت أن تقوم بواجبات الأمومة، فكانت تقتل غرقاً. ولم يكن للأطفال شئ من الحقوق الشرعية، وكان للآباء إذا تبرءوا منهم علناً أن يحملوا ولاة الأمور على نفيهم من المدينة(53).
غير أن نساء الطبقات العليا كن يحيين حياة مترفة، وكان لهن من النعم ما كاد يعدل بؤس أخواتهن الفقيرات، شأنهن في هذا شأن النساء في جميع الحضارات. فالأدهان والأصباغ والجواهر من أظهر العاديات في المقابر السومرية وقد كشف الأستاذ ولي في قبر الملكة شوب- آد عن مدهنة صغيرة من دهنج أزرق مشرب بخضرة، وعلى دبابيس من ذهب رؤوسها من اللازورد، كما عثر أيضا على مثبنة عليها قشرة من الذهب المخرم. وقد وجد في هذه المثبنة التي لا يزيد حجمها على حجم الخنصر ملعقة صغيرة لعلها كانت تستخدم في أخذ الصبغة الحمراء من المدهنة. وكان فيها أيضا عصا معدنية يستعان بها على ملوسة الجلد، وملقط لعله كان يستعمل لتزجيج الحاجبين أو لنزع ما ليس مرغوبا فيه من الشعر. وكانت خواتم الملكة مصنوعة من أسلاك الذهب وكان أحدها مطعما بفصوص من اللازورد، وكان عقدها من الذهب المنقوش واللازورد. وما أصدق المثل القائل أنه لا جديد تحت شمس وأن الفرق بين المرأة الأولى والمرأة الأخيرة ليتسع له سم الخياط.
صفحة رقم : 231
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
5- الآداب والفنون
الكتابة - الأدب - الهياكل والقصور - صناعة التماثيل -
صناعة الفخار - الحلي - كلمة موجزة عن المدينة السومرية
الكتابة أروع ما خلفه السومريون، ويبدو هذا الفن عندهم فناً عظيم الرقي صالحاً للتعبير عن الأفكار المعقدة في التجارة والشعر والدين. والنقوش الحجرية أقدم ما عثر عليه من النقوش، ويرجع عهدها إلى عام 3600 ق. م. (45)؛ وتبدأ الألواح الطينية في الظهور حوالي 3200 ق. م. ويلوح أن السومريين قد بدءوا من ذلك الوقت يجدون في هذا الكشف العظيم ما ترتاح له نفوسهم وما يفي بأغراضهم. ولقد كان من حسن حظنا أن سكان ما بين النهرين لم يكتبوا بالمداد السريع الزوال على الورق السريع العطب القصير الأجل، بل كتبوا على الطين الطري ونقشوا عليه ما يريدون نقشه بسن آلة حادة كالإسفين. وكانوا في ذلك جد مهرة، فاستطاع كتابهم بفضل هذه المادة اللينة أن يحتفظوا بالسجلات، ويدونوا العقود والمشارطات، ويكتبوا الوثائق الرسمية، ويسجلوا الممتلكات والأحكام القضائية والبيوع، ويخلقوا من هذه كلها حضارة لم يكن القلم فيها أقل قوة من السيف. وكان الكاتب إذا أتم ما يريد كتابته جفف اللوح الطيني في النار أو عرضه لحرارة الشمس، فجعله بذلك مخطوطا أبقى على الدهر من الورق، ولا يفوقه في طول العمر إلا الحجر وحده. وكانت نشأة هذه الكتابة المسمارية وتطورها أعظم ما للسومريين من فضل على الحضارة العالمية.
وتُقرأ الكتابة السومرية من اليمين إلى اليسار ؛ والبابليون على ما نعلم هم أول من كتب من اليسار إلى اليمين. ولعل الكتابة في سطور كانت نوعاً من العلامات والصور التي جرى بها العرف والتي كانت تصور أو تنقش على الأواني الخزفية السومرية البدائية . وأكبر الظن أن الصور الأصلية قد صغَّرت وبسطت
صفحة رقم : 232
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
في خلال القرون الطويلة وبسبب الرغبة في سرعة كتابتها، حتى أضحت شيئاً فشيئاً علامات تختلف في شكلها اختلافاً تاما عن الأشياء التي كانت تمثلها، فصارت بهذا رموزاً للأصوات لا صوراً للأشياء. ولنضرب لهذا مثلاً من اللغة العربية يوضح هذه الطريقة وهو صورة العين. فإذا افترضنا أن صورة العين قد صغرت وبسطت وصورت حتى لم يعد معناها العين نفسها بل كان هو الصوت الخاص الذي تمثله مع حركتها "وهو الفتحة في هذه الحالة" والذي ينطق به مع حروف أخرى في كلمات مختلفة كالعَسَل مثلاً، كان هذا شبيهاً بما حدث في اللغة السومرية . ولم يخط السومريون الخطوة التالية في هذا التطور فيجعلوا الرسم ممثلاً للحرف وحده دون الحركة عنه حتى يمكن استخدام العلامة الدالة على العين في ألفاظ مثل عنب وعُرقوب ومعمل تختلف حركة العين فيها عن الفتحة. وظلت هذه الخطوة التي أحدثت انقلاباً عظيماً في طرق الكتابة حتى خطاها قدماء المصريين(55).
ويغلب على الظن أن الانتقال من الكتابة إلى الأدب تطلب عدة مئات من السنين. فقد ظلت الكتابة قروناً عدة أداة تستخدم في الأعمال التجارية لكتابة العقود والصكوك، وقوائم البضائع التي تنقلها السفن، والإيصالات ونحوها ؛ ولعلها كانت بالإضافة إلى هذا أداة لتسجيل الشؤون الدينية، ومحاولة للاحتفاظ بالطلاسم السحرية، والإجراءات المتبعة في الاحتفالات والمراسم، وبالأقاصيص المقدسة، والصلوات والتراتيل، حتى لا تبيد أو يدخل عليها المسخ والتغيير. ومع هذا فلم يحل عام 2700 ق. م. حتى كان عدد كبير من دور الكتب العظيمة قد أنشئ في المدن السومرية. فقد كشف ده سرزاك في مدينة تلو مثلاً،
صفحة رقم : 233
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
وفي أنقاض عمائر معاصرة لعهد جوديا، مجموعة مؤلفة من ثلاثين ألف لوح موضوعة بعضها فوق بعض في نظام أنيق منطقي دقيق (56). وبدأ المؤرخون السومريون من عام 2000 ق. م. يكتبون ماضيهم ويسجلون حاضرهم ليخلفوه لمن يجئ بعدهم. ووصلت إلينا أجزاء من هذه السجلات ولكنها لم تصل إلينا في صورتها الأصلية بل جاءتنا مقتبسة في تواريخ المؤرخين البابليين. على أن من بين ما بقى من هذه الكتب في صورته الأصلية لوحاً عثر عليه في نبور كتب عليه الأصل السومري البدائي لملحمة جلجميش التي سندرسها فيما بعد في الصورة التي تطورت إليها عند البابليين (57). وتحتوي بعض الألواح المحطمة على مراثٍ ذات قوة لا بأس بها في أسلوب أدبي خليق بالتقدير. وفي هذه الألواح تبدأ خاصة التكرار اللفظي الذي تمتاز به أغاني الشرق الأدنى، فترى ألفاظاً بعينها تتكرر في بداية السطور، كما ترى كثيراً من الجمل تكرر المعنى الذي ذكر في جمل سابقة أو توضحه. وفي هذه الأثناء التي نجت من عوادى الأيام ترى النشأة الدينية للأدب في الأغاني والمراثي التي يرددها الكهنة. فلم تكن القصائد الأولى إذن أراجيز أو أناشيد غزلية بل كانت صلوات وأدعية دينية.
وما من شك في أن قروناً طويلة من النماء والتطور في سومر وفي غيرها من البلاد قد سبقت هذه البدايات الثقافية الظاهرة؛ فهذه الثقافات لم يبتدعها السومريون في هذه الحقبة بل نمت عندهم وتطورت. وكما يبدو في الكتابة أن السومريين قد ابتدعوا الخط المسماري، كذلك يبدو في العمارة أنهم ابتدعوا الأشكال الأساسية للمنازل والهياكل والأعمدة والقباب والعقود (58).
ويخيل إلينا أن الفلاح السومري كان أول الأمر ينشئ كوخه بأن يغرس الأعواد على هيئة مربع أو مستطيل أو دائرة، ويثني أعلاها حتى يجتمع، ثم يربطها حتى يتكون منها قوس أو عقدة أو قبة (59). فكان ذلك هو البداية البسيطة أو المظهر الأول المعروف لهذه الأشكال الهندسية المعمارية. وقد عثر المنقبون في
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الدين والأخلاق
أما زني الزوجة فكان عقابه الإعدام ، وكان ينتظر منها أن تلد لزوجها وللدولة كثيرا من الأبناء؛ فإذا كانت عاقرا جاز طلاقها لهذا السبب وحده، أما إذا كرهت أن تقوم بواجبات الأمومة، فكانت تقتل غرقاً. ولم يكن للأطفال شئ من الحقوق الشرعية، وكان للآباء إذا تبرءوا منهم علناً أن يحملوا ولاة الأمور على نفيهم من المدينة(53).
غير أن نساء الطبقات العليا كن يحيين حياة مترفة، وكان لهن من النعم ما كاد يعدل بؤس أخواتهن الفقيرات، شأنهن في هذا شأن النساء في جميع الحضارات. فالأدهان والأصباغ والجواهر من أظهر العاديات في المقابر السومرية وقد كشف الأستاذ ولي في قبر الملكة شوب- آد عن مدهنة صغيرة من دهنج أزرق مشرب بخضرة، وعلى دبابيس من ذهب رؤوسها من اللازورد، كما عثر أيضا على مثبنة عليها قشرة من الذهب المخرم. وقد وجد في هذه المثبنة التي لا يزيد حجمها على حجم الخنصر ملعقة صغيرة لعلها كانت تستخدم في أخذ الصبغة الحمراء من المدهنة. وكان فيها أيضا عصا معدنية يستعان بها على ملوسة الجلد، وملقط لعله كان يستعمل لتزجيج الحاجبين أو لنزع ما ليس مرغوبا فيه من الشعر. وكانت خواتم الملكة مصنوعة من أسلاك الذهب وكان أحدها مطعما بفصوص من اللازورد، وكان عقدها من الذهب المنقوش واللازورد. وما أصدق المثل القائل أنه لا جديد تحت شمس وأن الفرق بين المرأة الأولى والمرأة الأخيرة ليتسع له سم الخياط.
صفحة رقم : 231
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
5- الآداب والفنون
الكتابة - الأدب - الهياكل والقصور - صناعة التماثيل -
صناعة الفخار - الحلي - كلمة موجزة عن المدينة السومرية
الكتابة أروع ما خلفه السومريون، ويبدو هذا الفن عندهم فناً عظيم الرقي صالحاً للتعبير عن الأفكار المعقدة في التجارة والشعر والدين. والنقوش الحجرية أقدم ما عثر عليه من النقوش، ويرجع عهدها إلى عام 3600 ق. م. (45)؛ وتبدأ الألواح الطينية في الظهور حوالي 3200 ق. م. ويلوح أن السومريين قد بدءوا من ذلك الوقت يجدون في هذا الكشف العظيم ما ترتاح له نفوسهم وما يفي بأغراضهم. ولقد كان من حسن حظنا أن سكان ما بين النهرين لم يكتبوا بالمداد السريع الزوال على الورق السريع العطب القصير الأجل، بل كتبوا على الطين الطري ونقشوا عليه ما يريدون نقشه بسن آلة حادة كالإسفين. وكانوا في ذلك جد مهرة، فاستطاع كتابهم بفضل هذه المادة اللينة أن يحتفظوا بالسجلات، ويدونوا العقود والمشارطات، ويكتبوا الوثائق الرسمية، ويسجلوا الممتلكات والأحكام القضائية والبيوع، ويخلقوا من هذه كلها حضارة لم يكن القلم فيها أقل قوة من السيف. وكان الكاتب إذا أتم ما يريد كتابته جفف اللوح الطيني في النار أو عرضه لحرارة الشمس، فجعله بذلك مخطوطا أبقى على الدهر من الورق، ولا يفوقه في طول العمر إلا الحجر وحده. وكانت نشأة هذه الكتابة المسمارية وتطورها أعظم ما للسومريين من فضل على الحضارة العالمية.
وتُقرأ الكتابة السومرية من اليمين إلى اليسار ؛ والبابليون على ما نعلم هم أول من كتب من اليسار إلى اليمين. ولعل الكتابة في سطور كانت نوعاً من العلامات والصور التي جرى بها العرف والتي كانت تصور أو تنقش على الأواني الخزفية السومرية البدائية . وأكبر الظن أن الصور الأصلية قد صغَّرت وبسطت
صفحة رقم : 232
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
في خلال القرون الطويلة وبسبب الرغبة في سرعة كتابتها، حتى أضحت شيئاً فشيئاً علامات تختلف في شكلها اختلافاً تاما عن الأشياء التي كانت تمثلها، فصارت بهذا رموزاً للأصوات لا صوراً للأشياء. ولنضرب لهذا مثلاً من اللغة العربية يوضح هذه الطريقة وهو صورة العين. فإذا افترضنا أن صورة العين قد صغرت وبسطت وصورت حتى لم يعد معناها العين نفسها بل كان هو الصوت الخاص الذي تمثله مع حركتها "وهو الفتحة في هذه الحالة" والذي ينطق به مع حروف أخرى في كلمات مختلفة كالعَسَل مثلاً، كان هذا شبيهاً بما حدث في اللغة السومرية . ولم يخط السومريون الخطوة التالية في هذا التطور فيجعلوا الرسم ممثلاً للحرف وحده دون الحركة عنه حتى يمكن استخدام العلامة الدالة على العين في ألفاظ مثل عنب وعُرقوب ومعمل تختلف حركة العين فيها عن الفتحة. وظلت هذه الخطوة التي أحدثت انقلاباً عظيماً في طرق الكتابة حتى خطاها قدماء المصريين(55).
ويغلب على الظن أن الانتقال من الكتابة إلى الأدب تطلب عدة مئات من السنين. فقد ظلت الكتابة قروناً عدة أداة تستخدم في الأعمال التجارية لكتابة العقود والصكوك، وقوائم البضائع التي تنقلها السفن، والإيصالات ونحوها ؛ ولعلها كانت بالإضافة إلى هذا أداة لتسجيل الشؤون الدينية، ومحاولة للاحتفاظ بالطلاسم السحرية، والإجراءات المتبعة في الاحتفالات والمراسم، وبالأقاصيص المقدسة، والصلوات والتراتيل، حتى لا تبيد أو يدخل عليها المسخ والتغيير. ومع هذا فلم يحل عام 2700 ق. م. حتى كان عدد كبير من دور الكتب العظيمة قد أنشئ في المدن السومرية. فقد كشف ده سرزاك في مدينة تلو مثلاً،
صفحة رقم : 233
قصة الحضارة -> التراث الشرقي -> الشرق الأدنى -> سومر -> السومريون -> الآداب والفنون
وفي أنقاض عمائر معاصرة لعهد جوديا، مجموعة مؤلفة من ثلاثين ألف لوح موضوعة بعضها فوق بعض في نظام أنيق منطقي دقيق (56). وبدأ المؤرخون السومريون من عام 2000 ق. م. يكتبون ماضيهم ويسجلون حاضرهم ليخلفوه لمن يجئ بعدهم. ووصلت إلينا أجزاء من هذه السجلات ولكنها لم تصل إلينا في صورتها الأصلية بل جاءتنا مقتبسة في تواريخ المؤرخين البابليين. على أن من بين ما بقى من هذه الكتب في صورته الأصلية لوحاً عثر عليه في نبور كتب عليه الأصل السومري البدائي لملحمة جلجميش التي سندرسها فيما بعد في الصورة التي تطورت إليها عند البابليين (57). وتحتوي بعض الألواح المحطمة على مراثٍ ذات قوة لا بأس بها في أسلوب أدبي خليق بالتقدير. وفي هذه الألواح تبدأ خاصة التكرار اللفظي الذي تمتاز به أغاني الشرق الأدنى، فترى ألفاظاً بعينها تتكرر في بداية السطور، كما ترى كثيراً من الجمل تكرر المعنى الذي ذكر في جمل سابقة أو توضحه. وفي هذه الأثناء التي نجت من عوادى الأيام ترى النشأة الدينية للأدب في الأغاني والمراثي التي يرددها الكهنة. فلم تكن القصائد الأولى إذن أراجيز أو أناشيد غزلية بل كانت صلوات وأدعية دينية.
وما من شك في أن قروناً طويلة من النماء والتطور في سومر وفي غيرها من البلاد قد سبقت هذه البدايات الثقافية الظاهرة؛ فهذه الثقافات لم يبتدعها السومريون في هذه الحقبة بل نمت عندهم وتطورت. وكما يبدو في الكتابة أن السومريين قد ابتدعوا الخط المسماري، كذلك يبدو في العمارة أنهم ابتدعوا الأشكال الأساسية للمنازل والهياكل والأعمدة والقباب والعقود (58).
ويخيل إلينا أن الفلاح السومري كان أول الأمر ينشئ كوخه بأن يغرس الأعواد على هيئة مربع أو مستطيل أو دائرة، ويثني أعلاها حتى يجتمع، ثم يربطها حتى يتكون منها قوس أو عقدة أو قبة (59). فكان ذلك هو البداية البسيطة أو المظهر الأول المعروف لهذه الأشكال الهندسية المعمارية. وقد عثر المنقبون في
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
صفحة 4 من اصل 6 • 1, 2, 3, 4, 5, 6
مواضيع مماثلة
» قصة الحضارة - ول ديورانت
» الجزء الثانى من - قصة الحضارة ول ديورانت
» حركة الترجمة و دورها في إثراء الحياة العلمية في الحضارة الإسلامية
» الجزء الثانى من - قصة الحضارة ول ديورانت
» حركة الترجمة و دورها في إثراء الحياة العلمية في الحضارة الإسلامية
صفحة 4 من اصل 6
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى