في ظلال القرآن سورة الأنفال
4 مشترك
صفحة 4 من اصل 5
صفحة 4 من اصل 5 • 1, 2, 3, 4, 5
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
إن رسول الله [ ص ] إنما يدعوهم إلى ما يحييهم . . إنها دعوة إلى الحياة بكل صور الحياة , وبكل معاني الحياة . .
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول , وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ; ومن ضغط الوهم والأسطورة , ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة , ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ; تعلن تحرر "الإنسان" وتكريمه بصدورها عن الله وحده , ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ; لا يتحكم فرد في شعب , ولا طبقة في أمة , ولا جنس في جنس , ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .
ويدعوهم إلى منهج للحياة , ومنهج للفكر , ومنهج للتصور ; يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة , المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان , العليم بما خلق ; هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ; ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم , والثقة بدينهم وبربهم , والانطلاق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" بجملته ; وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ; وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله , فاستلبها منه الطغاة !
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله , لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ; وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ; ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ; حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ; وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [ ص ] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .
إن هذا الدين منهج حياة كاملة , لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية:
إنه يدعوهم إلى عقيدة تحيي القلوب والعقول , وتطلقها من أوهاق الجهل والخرافة ; ومن ضغط الوهم والأسطورة , ومن الخضوع المذل للأسباب الظاهرة والحتميات القاهرة , ومن العبودية لغير الله والمذلة للعبد أو للشهوات سواء . .
ويدعوهم إلى شريعة من عند الله ; تعلن تحرر "الإنسان" وتكريمه بصدورها عن الله وحده , ووقوف البشر كلهم صفا متساوين في مواجهتها ; لا يتحكم فرد في شعب , ولا طبقة في أمة , ولا جنس في جنس , ولا قوم في قوم . . ولكنهم ينطلقون كلهم أحراراً متساوين في ظل شريعة صاحبها الله رب العباد .
ويدعوهم إلى منهج للحياة , ومنهج للفكر , ومنهج للتصور ; يطلقهم من كل قيد إلا ضوابط الفطرة , المتمثلة في الضوابط التي وضعها خالق الإنسان , العليم بما خلق ; هذه الضوابط التي تصون الطاقة البانية من التبدد ; ولا تكبت هذه الطاقة ولا تحطمها ولا تكفها عن النشاط الإيجابي البناء .
ويدعوهم إلى القوة والعزة والاستعلاء بعقيدتهم ومنهجهم , والثقة بدينهم وبربهم , والانطلاق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" بجملته ; وإخراجه من عبودية العباد إلى عبودية الله وحده ; وتحقيق إنسانيته العليا التي وهبها له الله , فاستلبها منه الطغاة !
ويدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله , لتقرير ألوهية الله سبحانه - في الأرض وفي حياة الناس ; وتحطيم ألوهية العبيد المدعاة ; ومطاردة هؤلاء المعتدين على ألوهية الله - سبحانه - وحاكميته وسلطانه ; حتى يفيئوا إلى حاكمية الله وحده ; وعندئذ يكون الدين كله لله . حتى إذا أصابهم الموت في هذا الجهاد كان لهم في الشهادة حياة .
ذلك مجمل ما يدعوهم إليه الرسول [ ص ] وهو دعوة إلى الحياة بكل معاني الحياة .
إن هذا الدين منهج حياة كاملة , لا مجرد عقيدة مستسرة . منهج واقعي تنمو الحياة في ظله وتترقى . ومن ثم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
هو دعوة إلى الحياة في كل صورها وأشكالها . وفي كل مجالاتها ودلالاتها . والتعبير القرآني يجمل هذا كله في كلمات قليلة موحية:
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). .
استجيبوا له طائعين مختارين ; وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد:
(واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه). .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . (يحول بين المرء وقلبه)فيفصل بينه وبين قلبه ; ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه , ويصرفه كيف شاء , ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !
إنها صورة رهيبة حقاً ; يتمثلها القلب في النص القرآني , ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب , ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة , والحذر الدائم , والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ; والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ; والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته , أو غفلة من غفلاته , أو دفعة من دفعاته . .
ولقد كان رسول الله [ ص ] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه:" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس , وهم غير مرسلين ولا معصومين ?!
إنها صورة تهز القلب حقا ; ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات , ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه , وهو في قبضة القاهر الجبار ; وهو لا يملك منه شيئا , وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). .
ليقول لهم:إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة , ولكنه - سبحانه - يكرمكم ; فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ; وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ; وأمانة الخلافة الواعية , وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .
(وأنه إليه تحشرون). .
استجيبوا له طائعين مختارين ; وإن كان الله - سبحانه - قادراً على قهركم على الهدى لو أراد:
(واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه). .
ويا لها من صورة رهيبة مخيفة للقدرة القاهرة اللطيفة . . (يحول بين المرء وقلبه)فيفصل بينه وبين قلبه ; ويستحوذ على هذا القلب ويحتجزه , ويصرفه كيف شاء , ويقلبه كما يريد . وصاحبه لا يملك منه شيئا وهو قلبه الذي بين جنبيه !
إنها صورة رهيبة حقاً ; يتمثلها القلب في النص القرآني , ولكن التعبير البشري يعجز عن تصوير إيقاعها في هذا القلب , ووصف هذا الإيقاع في العصب والحس !
إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة , والحذر الدائم , والاحتياط الدائم . اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته ; والحذر من كل هاجسة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقا ; والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف والهواجس . . والتعلق الدائم بالله - سبحانه - مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من سهواته , أو غفلة من غفلاته , أو دفعة من دفعاته . .
ولقد كان رسول الله [ ص ] وهو رسول الله المعصوم يكثر من دعاء ربه:" اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " . . فكيف بالناس , وهم غير مرسلين ولا معصومين ?!
إنها صورة تهز القلب حقا ; ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات , ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه , وهو في قبضة القاهر الجبار ; وهو لا يملك منه شيئا , وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير !
صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم:
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). .
ليقول لهم:إن الله قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة , ولكنه - سبحانه - يكرمكم ; فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر ; وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها الله بهذا الخلق المسمى بالإنسان . . أمانة الهداية المختارة ; وأمانة الخلافة الواعية , وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة .
(وأنه إليه تحشرون). .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
فقلوبكم بين يديه . وأنتم بعد ذلك محشورون إليه . فما لكم منه مفر . لا في دنيا ولا في آخرة . وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور , لا استجابة العبد المقهور .
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد , وعن تلبية دعوة الحياة , والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان:
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب). .
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
والفتنة:الابتلاء أو البلاء . . والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ; ولا تأخذ الطريق على المفسدين . . جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين . . فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع ; بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ] وهم ساكتون . ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون !
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال ; فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها , وبما كان من الأذى الذي ينالها , والخوف الذي يظللها . . وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا . . فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله . ولا عن تكاليف هذه الحياة , التي أعزها بها الله , وأعطاها وحماها:
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض , تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). .
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم ; واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف , قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين , وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله !
ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف:
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد , وعن تلبية دعوة الحياة , والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان:
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب). .
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
والفتنة:الابتلاء أو البلاء . . والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ; ولا تأخذ الطريق على المفسدين . . جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين . . فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع ; بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ] وهم ساكتون . ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون !
ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال ; فقد عاد القرآن يذكر العصبة المسلمة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها , وبما كان من الأذى الذي ينالها , والخوف الذي يظللها . . وكيف آواها الله بدينه هذا وأعزها ورزقها رزقا طيبا . . فلا تقعد إذن عن الحياة التي يدعوها إليها رسول الله . ولا عن تكاليف هذه الحياة , التي أعزها بها الله , وأعطاها وحماها:
(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض , تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). .
اذكروا هذا لتستيقنوا أن الرسول يدعوكم لما يحييكم ; واذكروه كي لا تقعدوا عن مكافحة الظلم في كل صوره وأشكاله . . اذكروا أيام الضعف والخوف , قبل أن يوجهكم الله إلى قتال المشركين , وقبل أن يدعوكم الرسول إلى الطائفة ذات الشوكة وأنتم كارهون . . ثم انظروا كيف صرتم بعد الدعوة المحيية التي انقلبتم بها أعزاء منصورين مأجورين مرزوقين . يرزقكم الله من الطيبات ليؤهلكم لشكره فتؤجروا على شكركم لفضله !
ويرسم التعبير مشهدا حيا للقلة والضعف والقلق والخوف:
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
تخافون أن يتخطفكم الناس). .
وهو مشهد التربص الوجِل , والترقب الفزع , حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة , والحركات المفزَّعة , والعيون الزائغة . . والأيدي تمتد للتخطف ; والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس !
ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم , في ظل الله الذي آواهم إلى حماه:
(فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات). .
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا:
(لعلكم تشكرون). .
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة , ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية . . صوت الرسول الأمين الكريم . . ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه , وهذا المشهد وذلك معروضان عليه , ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه ?
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك . . كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهموحاضرهم . . ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق . .
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس ; قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين , ولا تذوقت المذاقين . . ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك . ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى:
(إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس). .
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله ; وأن تترقب في يقين وثقة , موعود الله للعصبة المسلمة , موعوده الذي حققه للعصبة الأولى , ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه , وتصبر على تكاليفه . . وأن تنتظر قوله تعالى:
(فآواكم وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع !
الدرس الثامن:27 - 29 النهي عن خيانة الأمانة والتوجيه لتقوى الله
ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى . . إن الأموال والأولاد قد تُقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا . والحياة التي يدعو إليها رسول الله [ ص ] حياة كريمة , لا بد لها من تكاليف , ولا بد لها من تضحيات . . لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد - فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان - وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان ; ومن التخلف عن دعوة الجهاد ; وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة . واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول , وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض , وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد , والوصاية على البشرية بالحق والعدل . . ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد , التي قد تُقعد الناس عن التضحية والجهاد:
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية:
"لا إله إلا الله , محمد رسول الله" . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ; والأخذ في هذا بما بلغه محمد [ ص ] وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ; ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية , وشهادة أن لا إله إلا الله , اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ; ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . .
هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير , وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ; يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ; فأصبح متعينا عليها
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
وهو مشهد التربص الوجِل , والترقب الفزع , حتى لتكاد العين تبصر بالسمات الخائفة , والحركات المفزَّعة , والعيون الزائغة . . والأيدي تمتد للتخطف ; والقلة المسلمة في ارتقاب وتوجس !
ومن هذا المشهد المفزع إلى الأمن والقوة والنصر والرزق الطيب والمتاع الكريم , في ظل الله الذي آواهم إلى حماه:
(فآواكم , وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات). .
وفي ظل توجيه الله لهم ليشكروا فيؤجروا:
(لعلكم تشكرون). .
فمن ذا الذي يتأمل هذه النقلة البعيدة , ثم لا يستجيب لصوت الحياة الآمنة القوية الغنية . . صوت الرسول الأمين الكريم . . ثم من ذا الذي لا يشكر الله على إيوائه ونصره وآلائه , وهذا المشهد وذلك معروضان عليه , ولكل منهما إيقاعه وإيحاؤه ?
على أن القوم إنما كانوا يعيشون هذا المشهد وذاك . . كانوا يذكرون بما يعرفون من حالهم في ماضيهموحاضرهم . . ومن ثم كان لهذا القرآن في حسهم ذلك المذاق . .
والعصبة المسلمة التي تجاهد اليوم لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الأرض وفي حياة الناس ; قد لا تكون قد مرت بالمرحلتين , ولا تذوقت المذاقين . . ولكن هذا القرآن يهتف لها بهذه الحقيقة كذلك . ولئن كانت اليوم إنما تعيش في قوله تعالى:
(إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس). .
فأولى لها أن تستجيب لدعوة الحياة التي يدعوها إليها رسول الله ; وأن تترقب في يقين وثقة , موعود الله للعصبة المسلمة , موعوده الذي حققه للعصبة الأولى , ووعد بتحقيقه لكل عصبة تستقيم على طريقه , وتصبر على تكاليفه . . وأن تنتظر قوله تعالى:
(فآواكم وأيدكم بنصره , ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).
وهي إنما تتعامل مع وعد الله الصادق - لا مع ظواهر الواقع الخادع - ووعد الله هو واقع العصبة المسلمة الذي يرجح كل واقع !
الدرس الثامن:27 - 29 النهي عن خيانة الأمانة والتوجيه لتقوى الله
ثم يتكرر الهتاف للذين آمنوا مرة أخرى . . إن الأموال والأولاد قد تُقعد الناس عن الاستجابة خوفا وبخلا . والحياة التي يدعو إليها رسول الله [ ص ] حياة كريمة , لا بد لها من تكاليف , ولا بد لها من تضحيات . . لذلك يعالج القرآن هذا الحرص بالتنبيه إلى فتنة الأموال والأولاد - فهي موضع ابتلاء واختبار وامتحان - وبالتحذير من الضعف عن اجتياز هذا الامتحان ; ومن التخلف عن دعوة الجهاد ; وعن تكاليف الأمانة والعهد والبيعة . واعتبار هذا التخلف خيانة لله والرسول , وخيانة للأمانات التي تضطلع بها الأمة المسلمة في الأرض , وهي إعلاء كلمة الله وتقرير ألوهيته وحده للعباد , والوصاية على البشرية بالحق والعدل . . ومع هذا التحذير التذكير بما عند الله من أجر عظيم يرجح الأموال والأولاد , التي قد تُقعد الناس عن التضحية والجهاد:
(يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون . واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن التخلي عن تكاليف الأمة المسلمة في الأرض خيانة لله والرسول . فالقضية الأولى في هذا الدين هي قضية:
"لا إله إلا الله , محمد رسول الله" . . قضية إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ; والأخذ في هذا بما بلغه محمد [ ص ] وحده . . والبشرية في تاريخها كله لم تكن تجحد الله البتة ; ولكنها إنما كانت تشرك معه آلهة أخرى . أحيانا قليلة في الاعتقاد والعبادة . وأحيانا كثيرة في الحاكمية والسلطان - وهذا هو غالب الشرك ومعظمه - ومن ثم كانت القضية الأولى لهذا الدين ليست هي حمل الناس على الاعتقاد بألوهية الله . ولكن حملهم على إفراده - سبحانه - بالألوهية , وشهادة أن لا إله إلا الله , اي إفراده بالحاكمية في حياتهم الأرضية - كما أنهم مقرّون بحاكميته في نظام الكون - تحقيقا لقول الله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله). . كذلك كانت هي حملهم على أن الرسول هو وحده المبلغ عن الله ; ومن ثم الالتزام بكل ما يبلغهم إياه . .
هذه هي قضية هذا الدين - اعتقادا لتقريره في الضمير , وحركة لتقريره في الحياة - ومن هنا كان التخلي عنها خيانة الله لله والرسول ; يحذر الله منها العصبة المسلمة التي آمنت به وأعلنت هذا الإيمان ; فأصبح متعينا عليها
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
أن تجاهد لتحقيق مدلوله الواقعي ; والنهوض بتكاليف هذا الجهاد في الأنفس والأموال والأولاد .
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [ ص ] على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان , وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ; وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ; ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته , ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ; وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ; وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ; وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله . .
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ; وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه , ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال ; وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد , وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم , المدخر لعباده الأمناء على أماناته , الصابرين المؤثرين المضحين:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية , بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي , وبما يطلع منها على الظاهر والباطن , وعلى المنحنيات والدروب والمسالك !
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ; ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها ? أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها ?: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). . فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا ! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد . .
هذا هو التنبيه الأول:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة). .
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار , كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط ; أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .
كذلك يحذرها خيانة الأمانة التي حملتها يوم بايعت رسول الله [ ص ] على الإسلام . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان , وليس مجرد عبارات وأدعيات . إنما هو منهج حياة كاملة شاملة تعترضه العقبات والمشاق . إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة أن لا إله إلا الله ; وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق ; ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته , ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء ; وتأمين الحق والعدل للناس جميعا ; وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت ; وتعمير الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله . .
وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها ; وخاس بعهده الذي عاهد الله عليه , ونقض بيعته التي بايع بها رسوله .
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال ; وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد , وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم , المدخر لعباده الأمناء على أماناته , الصابرين المؤثرين المضحين:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة , وأن الله عنده أجر عظيم). .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية , بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي , وبما يطلع منها على الظاهر والباطن , وعلى المنحنيات والدروب والمسالك !
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ; ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها ? أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها ?: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). . فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا ! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد . .
هذا هو التنبيه الأول:
(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة). .
فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار , كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط ; أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض . . فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف ; وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد ! إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى , ليستعين به على الفتنة ويتقوى:
(وأن الله عنده أجر عظيم). .
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد , فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف , الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: (وخلق الإنسان ضعيفاً). .
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور , والتربية والتوجيه , والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم ; لأنه هو الذي خلقألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ?).
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى . فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال , إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل . وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله:
(يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا , ويكفر عنكم سيئاتكم , ويغفر لكم . والله ذو الفضل العظيم). .
هذا هو الزاد , وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ; فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة:أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ; والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ; والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل , ووضح الحق , وتكشف الطريق , واطمأن القلب , واستراح الضمير , واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ; والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش , ويحجب الرؤية , ويُعمي المسالك , ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله , ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة , ويرفع اللبس , ويكشف الطريق .
وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما (الفضل العظيم). .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب(الكريم)ذو الفضل العظيم !
الوحدة الثانية:30 - 40 الموضوع:من عداوات وأعمال الكافرين
مقدمة الوحدة يمضي السياق في السورة , يستعرض الماضي في مواجهة الحاضر ; ويصور للعصبة المسلمة التي خاضت المعركة وانتصرت فيها ذلك النصر المؤزر , مدى النقلة الهائلة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر ; ويريها فضل الله عليها في تدبيره لها وتقديره . . الأمر الذي تتضاءل إلى جانبه الأنفال والغنائم ; كما تهون إلى جانبه التضحيات والمشاق .
ولقد سبق في الدرس الماضي تصوير ما كان عليه موقف المسلمين في مكة - وقبل هذه الغزوة - من القلة والضعف وقلة المنعة , حتى ليخافون أن يتخطفهم الناس ; وتصوير ما صاروا إليه من الإيواء والعزة والنعمة بتدبير الله ورعايته وفضله . .
وهنا يستطرد إلى تصوير موقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله [ ص ] قبيل الهجرة ويتآمرون . وهم يُعرضون عما معه من الآيات ويزعمون أنهم قادرون على الإتيان بمثلها لو يشاءون ! وهم يعاندون ويلج بهم العناد حتى ليستعجلون العذاب - إن كان هذا هو الحق من عند الله - بدلا من أن يفيئوا إليه ويهتدوا به !
ثم يذكر كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله , ويجمعوا لحرب رسول الله ; ويوعدهم بالخيبة والحسرة في الدنيا , والحشر إلى جهنم في الآخرة , والخسارة هنا وهناك من وراء الكيد والجمع والتدبير .
وفي النهاية يأمر الله نبيه أن يواجه الذين كفروا فيخيرهم بين أمرين:أن ينتهوا عن الكفر العناد وحرب الله ورسوله فيغفر لهم ما سبق في جاهليتهم من هذه المنكرات . أو أن يعودوا لما هم عليه وما حاولوه فيصيبهم ما أصاب الأولين من أمثالهم ; وتجري عليه سنة الله بالعذاب الذي يشاؤه الله ويقدره كما يريد . . .
ثم يأمر الله المسلمين أن يقاتلوهم حتى لا تكون للكفر قوة يفتنون بها المسلمين ; وحتى تتقرر الألوهية فيالأرض لله وحده - فيكون الدين كله لله - فإن أعلنوا الاستسلام قبل منهم النبي [ ص ] هذا ونيتهم يحاسبهم بها الله , والله بما يعملون بصير . وإن تولوا وظلوا على حربهم وعنادهم وعدم اعترافهم بألوهية الله وحده , وعدم استسلامهم لسلطان الله في الأرض , واصل المسلمون جهادهم , مستيقنين أن الله مولاهم , ونعم المولى ونعم النصير . .
الدرس الأول:30 - 31 التآمر على الرسول ليلة الهجرة والشبهات على القرآن
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين). .
إنه التذكير بما كان في مكة , قبل تغير الحال , وتبدل الموقف . وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ; كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر . . ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة , يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب , وما كان فيه من خوف وقلق ; في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة . . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله [ ص ] في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم , لا مجرد النجاة منهم !
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله [ ص ] ويحبسوه حتى يموت ; أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ; أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا . . ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ; على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ; ليتفرق دمه في القبائل ; ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها , فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !
قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالرزاق , أخبرنا معمر , أخبرني عثمان الجريري , عن مقسم مولى ابن عباس , أخبره ابن عباس في قوله: (وإذ يمكر بك). . . قال:" تشاورت قريش ليلة بمكة . فقال بعضهم:إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي [ ص ] - وقال بعضهم:بل اقتلوه . وقال بعضهم:بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه [ ص ] على ذلك ; فبات عليّ - رضي الله عنه - على فراش رسول الله [ ص ] وخرج النبي [ ص ] حتى لحق بالغار . وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي [ ص ] فلما أصبحوا ثاروا إليه ; فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم , فقالوا:أين صاحبك هذا ? قال:لا أدري ! فاقتصوا أثره ; فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم , فصعدوا في الجبل , فمروا بالغار , فرأوا على بابه نسج العنكبوت , فقالوا:لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .
(ويمكرون ويمكر الله , والله خير الماكرين).
(وأن الله عنده أجر عظيم). .
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد , فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف , الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه: (وخلق الإنسان ضعيفاً). .
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور , والتربية والتوجيه , والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم ; لأنه هو الذي خلقألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ?).
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى . فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال , إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل . وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله:
(يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا , ويكفر عنكم سيئاتكم , ويغفر لكم . والله ذو الفضل العظيم). .
هذا هو الزاد , وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ; فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة:أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ; والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ; والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل , ووضح الحق , وتكشف الطريق , واطمأن القلب , واستراح الضمير , واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ; والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش , ويحجب الرؤية , ويُعمي المسالك , ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله , ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة , ويرفع اللبس , ويكشف الطريق .
وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما (الفضل العظيم). .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب(الكريم)ذو الفضل العظيم !
الوحدة الثانية:30 - 40 الموضوع:من عداوات وأعمال الكافرين
مقدمة الوحدة يمضي السياق في السورة , يستعرض الماضي في مواجهة الحاضر ; ويصور للعصبة المسلمة التي خاضت المعركة وانتصرت فيها ذلك النصر المؤزر , مدى النقلة الهائلة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر ; ويريها فضل الله عليها في تدبيره لها وتقديره . . الأمر الذي تتضاءل إلى جانبه الأنفال والغنائم ; كما تهون إلى جانبه التضحيات والمشاق .
ولقد سبق في الدرس الماضي تصوير ما كان عليه موقف المسلمين في مكة - وقبل هذه الغزوة - من القلة والضعف وقلة المنعة , حتى ليخافون أن يتخطفهم الناس ; وتصوير ما صاروا إليه من الإيواء والعزة والنعمة بتدبير الله ورعايته وفضله . .
وهنا يستطرد إلى تصوير موقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله [ ص ] قبيل الهجرة ويتآمرون . وهم يُعرضون عما معه من الآيات ويزعمون أنهم قادرون على الإتيان بمثلها لو يشاءون ! وهم يعاندون ويلج بهم العناد حتى ليستعجلون العذاب - إن كان هذا هو الحق من عند الله - بدلا من أن يفيئوا إليه ويهتدوا به !
ثم يذكر كيف ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله , ويجمعوا لحرب رسول الله ; ويوعدهم بالخيبة والحسرة في الدنيا , والحشر إلى جهنم في الآخرة , والخسارة هنا وهناك من وراء الكيد والجمع والتدبير .
وفي النهاية يأمر الله نبيه أن يواجه الذين كفروا فيخيرهم بين أمرين:أن ينتهوا عن الكفر العناد وحرب الله ورسوله فيغفر لهم ما سبق في جاهليتهم من هذه المنكرات . أو أن يعودوا لما هم عليه وما حاولوه فيصيبهم ما أصاب الأولين من أمثالهم ; وتجري عليه سنة الله بالعذاب الذي يشاؤه الله ويقدره كما يريد . . .
ثم يأمر الله المسلمين أن يقاتلوهم حتى لا تكون للكفر قوة يفتنون بها المسلمين ; وحتى تتقرر الألوهية فيالأرض لله وحده - فيكون الدين كله لله - فإن أعلنوا الاستسلام قبل منهم النبي [ ص ] هذا ونيتهم يحاسبهم بها الله , والله بما يعملون بصير . وإن تولوا وظلوا على حربهم وعنادهم وعدم اعترافهم بألوهية الله وحده , وعدم استسلامهم لسلطان الله في الأرض , واصل المسلمون جهادهم , مستيقنين أن الله مولاهم , ونعم المولى ونعم النصير . .
الدرس الأول:30 - 31 التآمر على الرسول ليلة الهجرة والشبهات على القرآن
(وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك . ويمكرون ويمكر الله . والله خير الماكرين). .
إنه التذكير بما كان في مكة , قبل تغير الحال , وتبدل الموقف . وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل ; كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر . . ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة , يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق . وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب , وما كان فيه من خوف وقلق ; في مواجهة الحاضر الواقع وما فيه من أمن وطمأنينة . . وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله [ ص ] في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم , لا مجرد النجاة منهم !
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله [ ص ] ويحبسوه حتى يموت ; أو ليقتلوه ويتخلصوا منه ; أو ليخرجوه من مكة منفيا مطرودا . . ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله ; على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعا ; ليتفرق دمه في القبائل ; ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلها , فيرضوا بالدية وينتهي الأمر !
قال الإمام أحمد:حدثنا عبدالرزاق , أخبرنا معمر , أخبرني عثمان الجريري , عن مقسم مولى ابن عباس , أخبره ابن عباس في قوله: (وإذ يمكر بك). . . قال:" تشاورت قريش ليلة بمكة . فقال بعضهم:إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي [ ص ] - وقال بعضهم:بل اقتلوه . وقال بعضهم:بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه [ ص ] على ذلك ; فبات عليّ - رضي الله عنه - على فراش رسول الله [ ص ] وخرج النبي [ ص ] حتى لحق بالغار . وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي [ ص ] فلما أصبحوا ثاروا إليه ; فلما رأوه عليا رد الله تعالى عليهم مكرهم , فقالوا:أين صاحبك هذا ? قال:لا أدري ! فاقتصوا أثره ; فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم , فصعدوا في الجبل , فمروا بالغار , فرأوا على بابه نسج العنكبوت , فقالوا:لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه . . فمكث فيه ثلاث ليال " .
(ويمكرون ويمكر الله , والله خير الماكرين).
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
والصورة التي يرسمها قوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله). . صورة عميقة التأثير . . ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش , وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون . . والله من ورائهم , محيط , يمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون !
إنها صورة ساخرة , وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل , من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار , القاهر فوق عباده , الغالب على أمره , وهو بكل شيء محيط ?
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ; فيهز بها القلوب , ويحرك بها أعماق الشعور .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)
ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم ; ودعاويهم ومفترياتهم . حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا ! مع وصف هذا القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين:
(وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ذكر ابن كثير في التفسير - نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم - أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال:" فإنه - لعنه الله - كان قد ذهب إلى بلاد فارس , وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ; ولما قدم وجد رسول الله [ ص ] قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن . فكان - عليه [ ص ] - إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ; ثم يقول:بالله أينا أحسن قصصا ? أنا أو محمد ? ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى , أمر رسول الله [ ص ] أن تضرب رقبته صبرا بين يديه , ففعل ذلك والحمد لله . وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه . . كما قال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد ابن جبير قال:قتل النبي [ ص ] يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط , وطعيمة بن عدي , والنضر بن الحارث . وكان المقداد أسر النضر , فلما أمر بقتله قال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول " . فأمر رسول الله [ ص ] بقتله , فقال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" اللهم أغن المقداد من فضلك " . فقال المقداد:هذا الذي أردت ! قال:وفيه أنزلت هذه الآيةوإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا , لو نشاء لقلنا مثل هذا , إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن:إنه أساطير الأولينوقالوا:أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا). .
وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن , وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب ; ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك . وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات . وهم يعلمون أنها مناورات ! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب , الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات , للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد !
لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة , مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله , معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة , والخروج من حاكمية العباد جملة ; والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته . ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله [ ص ] وحده , دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله ! . . وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها ; وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد [ ص ] ويخضعون لقيادته وسلطانه ; وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية ; ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة , وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة . .
كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . وكان هذا واقعاً يشهده الملأمن قريش ; ويحسون خطره على كيانهم , وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم .
لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون - لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم ; ويؤدون بعض الشعائر التعبدية , بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل ; وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه .
وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة . . ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ; ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة ; كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها ; وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين . . فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل . ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام . .
وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام , ومن هذا القرآن . . إنه لم يزعجهم من قبل أن "الحنفاء" اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم ; واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده , واجتنبوا عبادة الأصنام أصلاً . . فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء ; لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية ! إن هذا ليس هو الإسلام - كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين , ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين ! - إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين . . هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه ; والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع . . وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش , فيقاومونه بشتى الأساليب . . ومنها هذا الأسلوب . . أسلوب الادعاء على القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين ! وأنهم - لو شاءوا - قالوا مثله ! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة . . وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون !
والأساطير واحدتها أسطورة . وهي الحكاية المتلبسة - غالباً - بالتصورات الخرافية عن الآلهة ; وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة , وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً . .
وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين ; وقصص الخوارق والمعجزات ; وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين . . . إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات ; فيقولون للجماهير المستغفلة:إنها أساطير الأولين ; اكتتبها محمد ممن يجمعونها ; وجاء يتلوها عليكم , زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله . . وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله [ ص ] بعد انتهائه ; أو يجلس مجلساً آخر يجاوره ; ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس ; ليقول للناس:إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد . وهأنذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كما يدعي ! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير !
ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس . وبخاصة في أول الأمر , قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص , وبين القرآن الكريم . لندرك لم نادى منادي رسول الله [ ص ] قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث . ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفرالقليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى ; ولم يقبل فيه فدية كالآخرين .
على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً ; وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين ; وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله ; وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً , قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات , فلم يقف له منها شيء ; وراح الملأ من قريش - في ذعر - يقولون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون !)ووجد كبراؤهم , من أمثال أبي سفيان , وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن ; ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله [ ص ] في خفية عن الآخرين ; حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود , ألا يعودوا إليها , مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين !
على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه , لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون . . لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر . . لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن . فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون , وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم . . . ويفهمون أنهم مسلمون , ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين !
لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه . . لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها . . حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم , إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم , وقيمهم وموازينهم ! ثم قالوا لهم:إن هذا الدين محترم , وإن هذا القرآن مصون . وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين ; ويترنم به المترنمون , ويرتله المرتلون . . فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل ?! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم , وأما أنظمتكم وأوضاعكم , وأما شرائعكم وقوانينكم , وأما قيمكم وموازينكم , فإن هناك قرآنا آخر هو المرجع فيها كلها , فإليه ترجعون !
إنها مناورة النضر بن الحارث , ولكن في صورة متطورة معقدة , تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة . . ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة , التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين , على مدار القرون !
ولكن العجيب في شأن هذا القرآن , أنه - على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه - ما يزال يغلب ! . . إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة , والسلطان القاهر على الفطرة , ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين ; وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين !
إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية ; بحيث يذيعه - على السواء - اليهود , ويذيعه الصليبيون , ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين !
وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس "المسلمين" ! - إلى مجرد أنغام وتراتيل ; أو مجرد تمائم وتعاويذ ! وبعد أن أبعدوه - حتى في خاطر الناس . . المسلمين ! . . من أن يكون مصدر التوجيه للحياة ; وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون . . ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد ; وسيظل يعمل ; وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب , وتتخذه
إنها صورة ساخرة , وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة . . فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل , من تلك القدرة القادرة . . قدرة الله الجبار , القاهر فوق عباده , الغالب على أمره , وهو بكل شيء محيط ?
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير ; فيهز بها القلوب , ويحرك بها أعماق الشعور .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)
ويمضي السياق في وصف أحوال الكفار وأفعالهم ; ودعاويهم ومفترياتهم . حتى ليبلغ بهم الادعاء أن يزعموا أن في مقدورهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن لو شاءوا ! مع وصف هذا القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين:
(وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا ! لو نشاء لقلنا مثل هذا ! إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ذكر ابن كثير في التفسير - نقلا عن سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم - أن القائل لذلك هو النضر ابن الحارث قال:" فإنه - لعنه الله - كان قد ذهب إلى بلاد فارس , وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ; ولما قدم وجد رسول الله [ ص ] قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن . فكان - عليه [ ص ] - إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ; ثم يقول:بالله أينا أحسن قصصا ? أنا أو محمد ? ولهذا لما أمكن الله تعالى فيه يوم بدر ووقع في الأسارى , أمر رسول الله [ ص ] أن تضرب رقبته صبرا بين يديه , ففعل ذلك والحمد لله . وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه . . كما قال ابن جرير:حدثنا محمد بن بشار , حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد ابن جبير قال:قتل النبي [ ص ] يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط , وطعيمة بن عدي , والنضر بن الحارث . وكان المقداد أسر النضر , فلما أمر بقتله قال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول " . فأمر رسول الله [ ص ] بقتله , فقال المقداد:يا رسول الله , أسيري ! فقال رسول الله [ ص ]:" اللهم أغن المقداد من فضلك " . فقال المقداد:هذا الذي أردت ! قال:وفيه أنزلت هذه الآيةوإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا:قد سمعنا , لو نشاء لقلنا مثل هذا , إن هذا إلا أساطير الأولين). .
ولقد تكررت في القرآن حكاية قول المشركين عن القرآن:إنه أساطير الأولينوقالوا:أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا). .
وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن يقفوا بها في وجه هذا القرآن , وهو يخاطب الفطرة البشرية بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب ; ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك . وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات . وهم يعلمون أنها مناورات ! ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم ليموهوا به على جماهير العرب , الذين من أجلهم تطلق هذه المناورات , للاحتفاظ بهم في حظيرة العبودية للعبيد !
لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة , مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة ! كانوا يعرفون أن شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمداً رسول الله , معناها إعلان التمرد على سلطان البشر كافة , والخروج من حاكمية العباد جملة ; والفرار إلى ألوهية الله وحده وحاكميته . ثم التلقي في هذه العبودية لله عن محمد رسول الله [ ص ] وحده , دون الناطقين باسم الآلهة أو باسم الله ! . . وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميتها ; وينضمون إلى التجمع الحركي الذي يقوده محمد [ ص ] ويخضعون لقيادته وسلطانه ; وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهلية ; ويتوجهون بولائهم كله للقيادة الجديدة , وللعصبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الجديدة . .
كان هذا كله هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . وكان هذا واقعاً يشهده الملأمن قريش ; ويحسون خطره على كيانهم , وعلى الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعقيدية التي يقوم عليها كيانهم .
لم يكن مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , هو هذا المدلول الباهت الفارغ الهزيل الذي يعنيه اليوم من يزعمون أنهم مسلمون - لمجرد أنهم يشهدون هذه الشهادة بألسنتهم ; ويؤدون بعض الشعائر التعبدية , بينما ألوهية الله في الأرض وفي حياة الناس لا وجود لها ولا ظل ; وبينما القيادات الجاهلية والشرائع الجاهلية هي التي تحكم المجتمع وتصرف شؤونه .
وحقيقة إنه في مكة لم تكن للإسلام شريعة ولا دولة . . ولكن الذين كانوا ينطقون بالشهادتين كانوا يسلمون قيادهم من فورهم للقيادة المحمدية ; ويمنحون ولاءهم من فورهم للعصبة المسلمة ; كما كانوا ينسلخون من القيادة الجاهلية ويتمردون عليها ; وينزعون ولاءهم من الأسرة والعشيرة والقبيلة والقيادة الجاهلية بمجرد نطقهم بالشهادتين . . فلم يكن الأمر هو هذا النطق الفارغ الباهت الهزيل . ولكن كانت دلالته الواقعية العملية هي التي تترجمه إلى حقيقة يقوم عليها الإسلام . .
وهذا هو الذي كان يزعج الملأ من قريش من زحف الإسلام , ومن هذا القرآن . . إنه لم يزعجهم من قبل أن "الحنفاء" اعتزلوا معتقدات المشركين وعباداتهم ; واعتقدوا بألوهية الله وحده وقدموا له الشعائر وحده , واجتنبوا عبادة الأصنام أصلاً . . فإلى هنا لا يهم الطاغوت الجاهلي شيء ; لأنه لا خطر على الطاغوت من الاعتقاد السلبي والشعائر التعبدية ! إن هذا ليس هو الإسلام - كما يظن بعض الطيبين الخيرين الذين يريدون اليوم أن يكونوا مسلمين , ولكنهم لا يعرفون ما هو الإسلام معرفة اليقين ! - إنما الإسلام هو تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين . . هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه ; والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية وللعصبة المسلمة التي تريد أن تحقق الإسلام في عالم الواقع . . وهذا ما كان يقض مضاجع الملأ من قريش , فيقاومونه بشتى الأساليب . . ومنها هذا الأسلوب . . أسلوب الادعاء على القرآن الكريم , بأنه أساطير الأولين ! وأنهم - لو شاءوا - قالوا مثله ! ذلك مع تحديهم به مرة ومرة ومرة . . وهم في كل مرة يعجزون ويخنسون !
والأساطير واحدتها أسطورة . وهي الحكاية المتلبسة - غالباً - بالتصورات الخرافية عن الآلهة ; وعن أقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة , وعن الأحداث التي يلعب فيها الخيال والخرافة دوراً كبيراً . .
وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأولين ; وقصص الخوارق والمعجزات ; وفعل الله بالمكذبين وإنجائه للمؤمنين . . . إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه الموضوعات ; فيقولون للجماهير المستغفلة:إنها أساطير الأولين ; اكتتبها محمد ممن يجمعونها ; وجاء يتلوها عليكم , زاعماً أنه أوحي إليه بها من عند الله . . وكذلك كان النضر ابن الحارث يجلس في مجلس رسول الله [ ص ] بعد انتهائه ; أو يجلس مجلساً آخر يجاوره ; ويقص الأساطير الفارسية التي تعلمها من رحلاته في بلاد فارس ; ليقول للناس:إن هذا من جنس ما يقوله لكم محمد . وهأنذا لا أدعي النبوة ولا الوحي كما يدعي ! فإن هي إلا أساطير من نوع هذه الأساطير !
ولا بد أن نقدر أنه كان هناك تأثير لهذه البلبلة في الوسط الجاهلي عند عامة الناس . وبخاصة في أول الأمر , قبل أن تتجلى الفوارق بين هذه الأساطير والقصص , وبين القرآن الكريم . لندرك لم نادى منادي رسول الله [ ص ] قبل المعركة في بدر بقتل النضر بن الحارث . ثم لما وجده أسيراً أمر بقتله هو والنفرالقليل الذين أمر بقتلهم من الأسرى ; ولم يقبل فيه فدية كالآخرين .
على أن الذي انتهى إليه الأمر في مكة أن هذه الأساليب لم تعش طويلاً ; وأن هذا النوع من المناورات قد انكشف بعد حين ; وأن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله ; وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً , قد اكتسح هذه الأساليب وهذه المناورات , فلم يقف له منها شيء ; وراح الملأ من قريش - في ذعر - يقولون: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون !)ووجد كبراؤهم , من أمثال أبي سفيان , وأبي جهل والأخنس بن شريق أنفسهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفية لهذا القرآن ; ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلة بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله [ ص ] في خفية عن الآخرين ; حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود , ألا يعودوا إليها , مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدين !
على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه , لم تكن هي المحاولة الأخيرة ولن تكون . . لقد تكررت في صور شتى وسوف تتكرر . . لقد حاول أعداء هذا الدين دائماً أن يصرفوا الناس نهائياً عن هذا القرآن . فلما عجزوا حولوه إلى تراتيل يترنم بها القراء ويطرب لها المستمعون , وحولوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في جيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم . . . ويفهمون أنهم مسلمون , ويظنون أنهم أدوا حق هذا القرآن وحق هذا الدين !
لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه . . لقد صاغ لهم أعداء هذا الدين أبدالاً منه يتلقون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها . . حتى ليتلقون منها تصوراتهم ومفاهيمهم , إلى جانب ما يتلقون منها شرائعهم وقوانينهم , وقيمهم وموازينهم ! ثم قالوا لهم:إن هذا الدين محترم , وإن هذا القرآن مصون . وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين ; ويترنم به المترنمون , ويرتله المرتلون . . فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنم وهذا الترتيل ?! فأما تصوراتكم ومفهوماتكم , وأما أنظمتكم وأوضاعكم , وأما شرائعكم وقوانينكم , وأما قيمكم وموازينكم , فإن هناك قرآنا آخر هو المرجع فيها كلها , فإليه ترجعون !
إنها مناورة النضر بن الحارث , ولكن في صورة متطورة معقدة , تناسب تطور الزمان وتعقد الحياة . . ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة , التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدين , على مدار القرون !
ولكن العجيب في شأن هذا القرآن , أنه - على طول الكيد وتعقده وتطوره وترقيه - ما يزال يغلب ! . . إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة , والسلطان القاهر على الفطرة , ما يغلب به كيد الجاهلية في الأرض كلها وكيد الشياطين من اليهود والصليبيين ; وكيد الأجهزة العالمية التي يقيمها اليهود والصليبيون في كل أرض وفي كل حين !
إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها ليجعلوه مادة إذاعية في جميع محطات العالم الإذاعية ; بحيث يذيعه - على السواء - اليهود , ويذيعه الصليبيون , ويذيعه عملاؤهم المتسترون تحت أسماء المسلمين !
وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الناس "المسلمين" ! - إلى مجرد أنغام وتراتيل ; أو مجرد تمائم وتعاويذ ! وبعد أن أبعدوه - حتى في خاطر الناس . . المسلمين ! . . من أن يكون مصدر التوجيه للحياة ; وأقاموا مصادر غيره للتوجيه في جميع الشؤون . . ولكن هذا الكتاب ما يزال يعمل من وراء هذا الكيد ; وسيظل يعمل ; وما تزال في أنحاء في الأرض عصبة مسلمة تتجمع على جدية هذا الكتاب , وتتخذه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
وحده مصدر التوجيه ; وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين . من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد . . وما كان مرة لا بد أن سيكون . .
الدرس الثاني:34 - 35 من أعمال الكفرة المنكرة
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ; فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ; وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء , أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه:
(وإذ قالوا:اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك , فأمطر علينا حجارة من السماء , أو ائتنا بعذاب أليم). .
وهو دعاء غريب ; يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق , حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق , وأن يهديها إليه , دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة , تأخذها العزة بالإثم , حتى لتؤثر الهلاك والعذاب , على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
ويعقب السياق على هذا العناد , وعلى هذا الادعاء , بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق . . مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم . لأن رسول الله [ ص ] بينهم , ولا يزال يدعوهم إلى الهدى . والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم . كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها ; وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت . فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام , وما كانوا أولياءه , إن أولياؤه إلا المتقون , ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .
وحده مصدر التوجيه ; وهي ترتقب وعد الله لها بالنصر والتمكين . من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد . . وما كان مرة لا بد أن سيكون . .
الدرس الثاني:34 - 35 من أعمال الكفرة المنكرة
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ; فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ; وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء , أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه:
(وإذ قالوا:اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك , فأمطر علينا حجارة من السماء , أو ائتنا بعذاب أليم). .
وهو دعاء غريب ; يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق , حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق , وأن يهديها إليه , دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة , تأخذها العزة بالإثم , حتى لتؤثر الهلاك والعذاب , على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
ويعقب السياق على هذا العناد , وعلى هذا الادعاء , بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق . . مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم . لأن رسول الله [ ص ] بينهم , ولا يزال يدعوهم إلى الهدى . والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم . كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها ; وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت . فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام , وما كانوا أولياءه , إن أولياؤه إلا المتقون , ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم ; ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام - وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه , وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه !
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول [ ص ] بينهم , يدعوهم , فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم ; فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون . والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). .
فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام . وما كانوا أولياءه . إن أولياؤه إلا المتقون . ولكن أكثرهم لا يعلمون). .
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام . . فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع . إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه . إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه ! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف . إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله . . ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم - عليه السلام - فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب ; إنما هي وراثة دين وعقيدة . والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله ; فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم !
إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم . فما هذه بصلاة ! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيقاً بالأيدي , وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه , ولا استشعار لحرمة البيت , ولا خشوع لهيبة الله .
عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال:إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض , ويصفقون ويصفرون .
وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها "بلاد المسلمين" ! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة . بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة:صورة ألوهية العبيد في الأرض , وحاكميتهم في حياة الناس . . وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها , وفرع منها !
(فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .
وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة . فأما العذاب الذي طلبوه - عذاب الاستئصال المعروف - فهو مؤجل عنهم , رحمة من الله بهم , وإكراماً لنبيه [ ص ] ومقامه فيهم , عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه .
الدرس الثالث:36 - 37 خسارة الكفار في محاربة الحق
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله . . هكذا فعلوا يوم بدر , على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة . . وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية . والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون , ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة:
(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ; ثم يغلبون ; والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض , فيركمه جميعاً , فيجعله في جهنم , أولئك هم الخاسرون). .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا:لما أصيبت قريش يوم بدر , ورجع فلهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ; ورجع أبو سفيان بِعيره , مشى عبدالله بن ربيعة , وعكرمة بن أبي جهل , وصفوان بن أمية , في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر , فكلموا أبا سفيان بن حرب , ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة , فقالوا:يا معشر قريش , إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ! فأعينونا بهذا المال على حربه , لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففعلوا . فقال:ففيهم - كما ذكر ابن عباس - أنزل الله عز وجل: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم . . .).
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين . . إنهم ينفقون أموالهم , ويبذلون جهودهم , ويستنفدون كيدهم , في الصد عن سبيل الله , وفي إقامة العقبات في وجه هذا
لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38)
الدين . وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين . .
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول [ ص ] بينهم , يدعوهم , فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم ; فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون . والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا:
(وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم , وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون). .
فأما لو عاملهم الله بما هم فيه فهم مستحقون لهذا العذاب:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
(وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام . وما كانوا أولياءه . إن أولياؤه إلا المتقون . ولكن أكثرهم لا يعلمون). .
إنه لا يمنع العذاب عنهم ما يدعونه من أنهم ورثة إبراهيم وسدنة بيت الله الحرام . . فهذه ليست سوى دعوى لا أساس لها من الواقع . إنهم ليسوا أولياء هذا البيت ولا أصحابه . إنهم أعداء هذا البيت وغاصبوه ! إن بيت الله الحرام ليس تركة يرثها الخلف عن السلف . إنه بيت الله يرثه أولياء الله المتقون لله . . ومثله دعواهم أنهم ورثة إبراهيم - عليه السلام - فوراثة إبراهيم ليست وراثة دم ونسب ; إنما هي وراثة دين وعقيدة . والمتقون هم ورثة إبراهيم وبيت الله الذي بناه لله ; فإذا هم يصدون عنه أولياءه الحقيقيين المؤمنين بدين إبراهيم !
إنهم ليسوا أولياء لهذا البيت وإن كانوا يصلون عنده صلاتهم . فما هذه بصلاة ! إنما كانت صفيراً بالأفواه وتصفيقاً بالأيدي , وهرجاً ومرجاً لا وقار فيه , ولا استشعار لحرمة البيت , ولا خشوع لهيبة الله .
عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال:إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض , ويصفقون ويصفرون .
وإن هذا ليخطر بالبال صور العازفين المصفقين الصاخبين الممرغين خدودهم على الأعتاب والمقامات اليوم في كثير من البلاد التي يسمونها "بلاد المسلمين" ! إنها الجاهلية تبرز في صورة من صورها الكثيرة . بعدما برزت في صورتها الواضحة الكبيرة:صورة ألوهية العبيد في الأرض , وحاكميتهم في حياة الناس . . وإذا وقعت هذه فكل صور الجاهلية الأخرى إنما هي تبع لها , وفرع منها !
(فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون). .
وهو ذلك العذاب الذي نزل بهم في بدر بأيدي العصبة المسلمة . فأما العذاب الذي طلبوه - عذاب الاستئصال المعروف - فهو مؤجل عنهم , رحمة من الله بهم , وإكراماً لنبيه [ ص ] ومقامه فيهم , عسى أن ينتهي بهم الأمر إلى التوبة والاستغفار مما هم فيه .
الدرس الثالث:36 - 37 خسارة الكفار في محاربة الحق
والكفار ينفقون أموالهم ليتعاونوا على الصد عن سبيل الله . . هكذا فعلوا يوم بدر , على نحو ما ذكرنا في سياق الحديث عن الموقعة من كتب السيرة . . وهكذا ظلوا بعد بدر يستعدون للوقعة التالية . والله ينذرهم بالخيبة فيما يبغون وبالحسرة على ما ينفقون , ويعدهم الهزيمة في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة:
(إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله . فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ; ثم يغلبون ; والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض , فيركمه جميعاً , فيجعله في جهنم , أولئك هم الخاسرون). .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري وغيره قالوا:لما أصيبت قريش يوم بدر , ورجع فلهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ; ورجع أبو سفيان بِعيره , مشى عبدالله بن ربيعة , وعكرمة بن أبي جهل , وصفوان بن أمية , في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر , فكلموا أبا سفيان بن حرب , ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة , فقالوا:يا معشر قريش , إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ! فأعينونا بهذا المال على حربه , لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففعلوا . فقال:ففيهم - كما ذكر ابن عباس - أنزل الله عز وجل: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم . . .).
وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين . . إنهم ينفقون أموالهم , ويبذلون جهودهم , ويستنفدون كيدهم , في الصد عن سبيل الله , وفي إقامة العقبات في وجه هذا
لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38)
الدين . وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين . .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
إن المعركة لن تكف . وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة . ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن . وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية , وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان ; ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت .
والله - سبحانه - ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة . . إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية , وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا . وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم , فتتم الحسرة الكبرى . . ذلك . .
(ليميز الله الخبيث من الطيب , ويجعل الخبيث بعضه على بعض , فيركمه جميعاً ; فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون). .
فكيف ?
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان ; فيقابله الحق بالكفاح والجهاد ; وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة . . وفي هذا الاحتكاك المرير , تنكشف الطباع , ويتميز الحق من الباطل , كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل - حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء ! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله , لأنهم أهل لحمل أماناته , والقيام عليها , وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة . . عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث , فيلقي به في جهنم . . وتلك غاية الخسران . .
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم , وكأنما هو كومة من الأقذار , يقذف بها في النار , دون اهتمام ولا اعتبار !
(فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم). .
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس . . وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير . .
الدرس الرابع:38 - 40 دعوة الكفار للإيمان وإلا القتال
وعندما يصل السياق إلى هذا التقرير الحاسم , عن مصير الكفر المتعاون , ونهاية الخبث المتراكم , يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] لينذر الكافرين إنذاره الأخير , ويتجه بالخطاب كذلك إلى الجبهة المسلمة يأمرها بالقتال حتى لا تكون في الأرض فتنة , وحتى يكون الدين كله لله , ويطمئن العصبة المسلمة المجاهدة إلى أن الله مولاها ونصيرها , فلا غالب لها من الناس بحرب ولا بكيد , والله وليها الناصر المعين:
(قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف , وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله , فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم , نعم المولى ونعم النصير). .
قل للذين كفروا - في ضوء ما سبق من قرار الخالق الجبار عن خيبتهم في جمعهم , وحسرتهم على ما أنفقوا , وصيرورتهم بعد الخزي والحسرة في الدنيا إلى أن يراكم الخبيث منهم على الخبيث فيجعل الخبيث كله في جهنم . .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
(قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف , وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين). .
فالفرصة أمامهم سانحة لينتهوا عما هم فيه من الكفر , ومن التجمع لحرب الإسلام وأهله , ومن إنفاق الأموال للصد عن سبيل الله . . والطريق أمامهم مفتوح ليتوبوا عن هذا كله ويرجعوا إلى الله , ولهم عندئذ أن يغفر لهم ما قد سلف . فالإسلام يجب ما قبله , ويدخله الإنسان بريئاً من كل ما كان قبله كما ولدته أمه . . فأما إن هم عادوا - بعد هذا البيان - إلى ما هم فيه من الكفر والعدوان فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف . ولقد مضت سنة الله أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين ; وأن يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين . . وهذه السنة ماضية لا تتخلف . . وللذين كفروا أن يختاروا وهم على مفرق الطريق !
بذلك ينتهي الحديث مع الذين كفروا ويتجه السياق إلى الذين آمنوا:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم , نعم المولى ونعم النصير). .
وهذه حدود الجهاد في سبيل الله في كل زمان , لا في ذلك الزمان . . ومع أن النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة , وبقوانين الحرب والسلام , ليست هي النصوص النهائية , فقد نزلت النصوص الأخيرة في هذا الباب في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة ; ومع أن الإسلام - كما قلنا في تقديم السورة - حركة إيجابية تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة , وأنه حركة ذات مراحل , كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية . .
ومع هذا فإن قوله تعالى:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). .
يقرر حكماً دائماً للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم . .
ولقد جاء الإسلام - كما سبق في التعريف بالسورة - ليكون إعلاناً عاماً لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين . . وأن معنى هذا الإعلان:الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها , والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض , الحكم فيه للبشر في صورة من الصور . . . الخ .
ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين:
أولهما:دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين , ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان , ويرجعون بعبوديتهم لله وحده , ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال . . وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام , وتنفذه في عالم الواقع , وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين , أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه . .
وثانيهما:تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر - في صورة من الصور - وذلك لضمان الهدف الأول , ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها , بحيث لا تكون هناك دينونةإلا لله وحده - فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله - وليس هو مجرد الاعتقاد . .
ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول , على حين أن الله سبحانه يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). .
ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام - وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب:"الجهاد في سبيل الله" للأستاذ أبي الأعلى المودودي , ما يكفي للبيان الواضح . . إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً , وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين !
إن الذي يعنيه هذا النص: (ويكون الدين كله لله). . هو إزالة الحواجز المادية , المتمثلة في سلطان الطواغيت , وفي الأوضاع القاهرة للأفراد , فلا يكون هناك - حينئذ - سلطان في الأرض لغير الله , ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله . . فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط . على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين , ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى , ويفتن بها الذين يتحررون فعلا من كل سلطان إلا سلطان الله . . إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم , على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً , فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد . فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد .
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله , ولن يتحرر "الإنسان" في "الأرض" , إلا حين يكون الدين كله لله , فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه .
ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة:
(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). .
فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له , قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه , ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره , وتركوا هذا لله:
(فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير). .
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله:
(وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم . نعم المولى ونعم النصير). .
هذه تكاليف هذا الدين ; وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع ; ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس . .
إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب ; للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة ! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى ! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه !
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان . . وهو منهج حركي واقعي , يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة . . يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان . . ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله . .
والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري . والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابلبنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع سلطة , ولا بد - كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة - أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة . ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله , فلا تكون هناك دينونة لسواه .
هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين . . لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون . . ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من "المسلمين" , ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين !
. . والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . .
انتهى الجزء التاسع
ويليه الجزء العاشر مبدوءاً بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول)
بسم الله الرحمن الرحيم
من بقية سورة الأنفال وأول سورة التوبة
الجزء العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الجزء يتألف هذا الجزء من بقية سورة الأنفال - التي وردت أوائلها في الجزء التاسع - ومن قسم كبير من سورة التوبة . . وسنمضي أولاً مع بقية الأنفال , أما سورة التوبة فسنعرّف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله .
لقد ألممنا بالخطوط الرئيسية للسورة في مطلعها عند نهاية الجزء التاسع . وهذه البقية منها تمضي على هذه الخطوط الرئيسية فيها . . إلا أن الظاهرة التي تلمح بوضوح في سياق السورة , هي أن هذا الشطر الأخير منها , يكاد يكون مماثلا في سياقه وترتيب موضوعاته للشطر الأول منها , ومع انتفاء التكرار بسبب تجدد الموضوعات , إلا أن ترتيب هذه الموضوعات في السياق يكاد يجعل هذا الشطر دورة , والشطر الأول دورة , بينهما هذا التناسق العجيب !
لقد بدأ الشطر الأول بالحديث عن الأنفال وتنازعهم عليها ; فردها إلى اللّه والرسول . . ثم دعاهم إلى التقوى , وبين لهم حقيقة الإيمان ليرتفعوا إليها . . ثم كشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي يتنازعون أنفالها , مستحضراً جانباً من مواقف المعركة مشاهدها , فإذا التدبير كله للّه والمدد كله من الله , والمعركة كلها مسوقة لتحقيق إرادة الله وإن هم فيها إلا ستار وأداة . . ثم أهاب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند الزحف ; وطمأنهم إلى نصرة اللّه ومعيته , وإلى تخذيل اللّه لأعدائهم وأخذهم بذنوبهم . . ثم حذرهم خيانة اللّه وخيانة الرسول وفتنة الأموال والأولاد ; وأمر الرسول - [ ص ] - أن يحذر الذين كفروا عاقبة ما هم فيه ; وأن يقبل منهم الاستجابة - لو استجابوا - ويكل خبيئهم إلى اللّه ; وأمر المسلمين أن يقاتلوهم إن تولوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه . .
وكذلك يسير هذا الشطر الثاني . . يبدأ ببيان حكم اللّه في الغنائم - بعد أن ردها إلى اللّه ورسوله - ثم يدعوهم إلى الإيمان باللّه وما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . ثم يكشف لهم عن تدبير اللّه وتقديره في الموقعة التي جاءت بهذه الغنائم ; ويستحضر جانبا آخر من مواقف المعركة ومشاهدها , يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير , كما يتجلى فيه أنهم لم يكونوا سوى أداة لقدر اللّه وستار . . ثم يهيب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء , وإلى ذكر اللّه , وطاعته وطاعة رسوله ; ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار ; ويدعوهم إلى الصبر ; وتجنب البطر والرياء في الجهاد ; ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , منخدعين بمكر الشيطان ; ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده , القوي القادر على النصر الحكيم في تقديره وتدبيره . . ثم يريهم سنة اللهفي أخذ الكافرين المكذبين بذنوبهم . . وكما ذكر الملائكة في الشطر الأول وهم يثبتون المؤمنين ويضربون أعناق الكفار وأيديهم , فكذلك يذكر في هذا الشطر الثاني أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم . . وكما قال في الشطر الأول عن الذين كفروا:إنهم شر الدواب , فكذلك يكرر هنا هذا الوصف بمناسبة الحديث عن نقضهم لعهدهم كلما عاهدوا , وتمهيدا لما يأمر به الله رسوله [ ص ] من أحكام التعامل معهم في الحرب والسلم ; وهي أحكام مفصلة للعلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات المعادية والمسالمة , بعضها أحكام نهائية , وبعضها أحكام استكملت فيما بعد في سورة التوبة . .
وإلى هنا تكاد تكون هذه الدورة الثانية في السورة مطابقة - من حيث طبيعة الموضوعات ومن حيث ترتيبها في السياق - لما جاء في الدورة الأولى , مع شيء من التفصيل في أحكام المعاملات بين المعسكر الإسلامي وسائر المعسكرات .
ثم تزيد في ختام السورة موضوعات وأحكام أخرى متصلة بها , ومكملة لها:
يذكر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] والذين آمنوا معه , بمنته عليهم في تأليف قلوبهم , وقد كانت مستعصية على التأليف لولا إرادة الله ورحمته ومنته .
ويطمئنهم الله كذلك إلى كفايته لهم وحمايته . . ومن ثم يأمر رسوله بتحريضهم على القتال ; ويريهم أنهم بإيمانهم - إذا صبروا - أكفاء لعشرة أضعافهم من الذين كفروا الذين لا يفقهون , لأنهم لا يؤمنون ! وأنهم في أضعف حالاتهم أكفاء لضعفهم من الذين كفروا - متى صبروا . والله مع الصابرين .
والله - سبحانه - ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة . . إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية , وليغلبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا . وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم , فتتم الحسرة الكبرى . . ذلك . .
(ليميز الله الخبيث من الطيب , ويجعل الخبيث بعضه على بعض , فيركمه جميعاً ; فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون). .
فكيف ?
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان ; فيقابله الحق بالكفاح والجهاد ; وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة . . وفي هذا الاحتكاك المرير , تنكشف الطباع , ويتميز الحق من الباطل , كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل - حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء ! - ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله , لأنهم أهل لحمل أماناته , والقيام عليها , وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة . . عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث , فيلقي به في جهنم . . وتلك غاية الخسران . .
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم , وكأنما هو كومة من الأقذار , يقذف بها في النار , دون اهتمام ولا اعتبار !
(فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم). .
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس . . وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير . .
الدرس الرابع:38 - 40 دعوة الكفار للإيمان وإلا القتال
وعندما يصل السياق إلى هذا التقرير الحاسم , عن مصير الكفر المتعاون , ونهاية الخبث المتراكم , يتجه بالخطاب إلى رسول الله [ ص ] لينذر الكافرين إنذاره الأخير , ويتجه بالخطاب كذلك إلى الجبهة المسلمة يأمرها بالقتال حتى لا تكون في الأرض فتنة , وحتى يكون الدين كله لله , ويطمئن العصبة المسلمة المجاهدة إلى أن الله مولاها ونصيرها , فلا غالب لها من الناس بحرب ولا بكيد , والله وليها الناصر المعين:
(قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف , وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله , فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم , نعم المولى ونعم النصير). .
قل للذين كفروا - في ضوء ما سبق من قرار الخالق الجبار عن خيبتهم في جمعهم , وحسرتهم على ما أنفقوا , وصيرورتهم بعد الخزي والحسرة في الدنيا إلى أن يراكم الخبيث منهم على الخبيث فيجعل الخبيث كله في جهنم . .
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
(قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف , وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين). .
فالفرصة أمامهم سانحة لينتهوا عما هم فيه من الكفر , ومن التجمع لحرب الإسلام وأهله , ومن إنفاق الأموال للصد عن سبيل الله . . والطريق أمامهم مفتوح ليتوبوا عن هذا كله ويرجعوا إلى الله , ولهم عندئذ أن يغفر لهم ما قد سلف . فالإسلام يجب ما قبله , ويدخله الإنسان بريئاً من كل ما كان قبله كما ولدته أمه . . فأما إن هم عادوا - بعد هذا البيان - إلى ما هم فيه من الكفر والعدوان فإن سنة الله في الأولين لا تتخلف . ولقد مضت سنة الله أن يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين ; وأن يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين . . وهذه السنة ماضية لا تتخلف . . وللذين كفروا أن يختاروا وهم على مفرق الطريق !
بذلك ينتهي الحديث مع الذين كفروا ويتجه السياق إلى الذين آمنوا:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير . وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم , نعم المولى ونعم النصير). .
وهذه حدود الجهاد في سبيل الله في كل زمان , لا في ذلك الزمان . . ومع أن النصوص المتعلقة بالجهاد في هذه السورة , وبقوانين الحرب والسلام , ليست هي النصوص النهائية , فقد نزلت النصوص الأخيرة في هذا الباب في سورة براءة التي نزلت في السنة التاسعة ; ومع أن الإسلام - كما قلنا في تقديم السورة - حركة إيجابية تواجه الواقع البشري بوسائل مكافئة , وأنه حركة ذات مراحل , كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية . .
ومع هذا فإن قوله تعالى:
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). .
يقرر حكماً دائماً للحركة الإسلامية في مواجهة الواقع الجاهلي الدائم . .
ولقد جاء الإسلام - كما سبق في التعريف بالسورة - ليكون إعلاناً عاماً لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين . . وأن معنى هذا الإعلان:الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها , والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض , الحكم فيه للبشر في صورة من الصور . . . الخ .
ولا بد لتحقيق هذا الهدف الضخم من أمرين أساسيين:
أولهما:دفع الأذى والفتنة عمن يعتنقون هذا الدين , ويعلنون تحررهم من حاكمية الإنسان , ويرجعون بعبوديتهم لله وحده , ويخرجون من العبودية للعبيد في جميع الصور والأشكال . . وهذا لا يتم إلا بوجود عصبة مؤمنة ذات تجمع حركي تحت قيادة تؤمن بهذا الإعلان العام , وتنفذه في عالم الواقع , وتجاهد كل طاغوت يعتدي بالأذى والفتنة على معتنقي هذا الدين , أو يصد بالقوة وبوسائل الضغط والقهر والتوجيه من يريدون اعتناقه . .
وثانيهما:تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر - في صورة من الصور - وذلك لضمان الهدف الأول , ولإعلان ألوهية الله وحدها في الأرض كلها , بحيث لا تكون هناك دينونةإلا لله وحده - فالدين هنا بمعنى الدينونة لسلطان الله - وليس هو مجرد الاعتقاد . .
ولا بد هنا من بيان الشبهة التي قد تحيك في الصدور من هذا القول , على حين أن الله سبحانه يقول: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي). .
ومع أن فيما سبق تقريره عن طبيعة الجهاد في الإسلام - وبخاصة فيما اقتطفناه من كتاب:"الجهاد في سبيل الله" للأستاذ أبي الأعلى المودودي , ما يكفي للبيان الواضح . . إلا أننا نزيد الأمر إيضاحاً , وذلك لكثرة ما لبس الملبسون ومكر الماكرون من أعداء هذا الدين !
إن الذي يعنيه هذا النص: (ويكون الدين كله لله). . هو إزالة الحواجز المادية , المتمثلة في سلطان الطواغيت , وفي الأوضاع القاهرة للأفراد , فلا يكون هناك - حينئذ - سلطان في الأرض لغير الله , ولا يدين العباد يومئذ لسلطان قاهر إلا سلطان الله . . فإذا أزيلت هذه الحواجز المادية ترك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط . على ألا تتمثل العقيدة المخالفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يضغط بها على الآخرين , ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى , ويفتن بها الذين يتحررون فعلا من كل سلطان إلا سلطان الله . . إن الناس أحرار في اختيار عقيدتهم , على أن يعتنقوا هذه العقيدة أفراداً , فلا يكونون سلطة قاهرة يدين لها العباد . فالعباد لا يدينون إلا لسلطان رب العباد .
ولن تنال البشرية الكرامة التي وهبها لها الله , ولن يتحرر "الإنسان" في "الأرض" , إلا حين يكون الدين كله لله , فلا تكون هنالك دينونة لسلطان سواه .
ولهذه الغاية الكبرى تقاتل العصبة المؤمنة:
(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). .
فمن قبل هذا المبدأ وأعلن استسلامه له , قبل منه المسلمون إعلانه هذا واستسلامه , ولم يفتشوا عن نيته وما يخفي صدره , وتركوا هذا لله:
(فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير). .
ومن تولى وأصر على مقاومة سلطان الله قاتله المسلمون معتمدين على نصرة الله:
(وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم . نعم المولى ونعم النصير). .
هذه تكاليف هذا الدين ; وهذه هي جديته وواقعيته وإيجابيته وهو يتحرك لتحقيق ذاته في عالم الواقع ; ولتقرير ألوهية الله وحده في دنيا الناس . .
إن هذا الدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب ; للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة ! وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى ! كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه !
إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان . . وهو منهج حركي واقعي , يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة . . يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان . . ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله . .
والحركة بهذا الدين حركة في واقع بشري . والصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابلبنظرية! إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع سلطة , ولا بد - كي يقابلها هذا الدين بوسائل مكافئة - أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة . ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله , فلا تكون هناك دينونة لسواه .
هذا هو المنهج الواقعي الحركي الإيجابي لهذا الدين . . لا ما يقوله المهزومون والمخدوعون . . ولو كانوا من المخلصين الطيبين الذين يريدون أن يكونوا من "المسلمين" , ولكن تغيم في عقولهم وفي قلوبهم صورة هذا الدين !
. . والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . .
انتهى الجزء التاسع
ويليه الجزء العاشر مبدوءاً بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول)
بسم الله الرحمن الرحيم
من بقية سورة الأنفال وأول سورة التوبة
الجزء العاشر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الجزء يتألف هذا الجزء من بقية سورة الأنفال - التي وردت أوائلها في الجزء التاسع - ومن قسم كبير من سورة التوبة . . وسنمضي أولاً مع بقية الأنفال , أما سورة التوبة فسنعرّف بها في موضعها من هذا الجزء إن شاء الله .
لقد ألممنا بالخطوط الرئيسية للسورة في مطلعها عند نهاية الجزء التاسع . وهذه البقية منها تمضي على هذه الخطوط الرئيسية فيها . . إلا أن الظاهرة التي تلمح بوضوح في سياق السورة , هي أن هذا الشطر الأخير منها , يكاد يكون مماثلا في سياقه وترتيب موضوعاته للشطر الأول منها , ومع انتفاء التكرار بسبب تجدد الموضوعات , إلا أن ترتيب هذه الموضوعات في السياق يكاد يجعل هذا الشطر دورة , والشطر الأول دورة , بينهما هذا التناسق العجيب !
لقد بدأ الشطر الأول بالحديث عن الأنفال وتنازعهم عليها ; فردها إلى اللّه والرسول . . ثم دعاهم إلى التقوى , وبين لهم حقيقة الإيمان ليرتفعوا إليها . . ثم كشف لهم عن تدبير الله وتقديره في الموقعة التي يتنازعون أنفالها , مستحضراً جانباً من مواقف المعركة مشاهدها , فإذا التدبير كله للّه والمدد كله من الله , والمعركة كلها مسوقة لتحقيق إرادة الله وإن هم فيها إلا ستار وأداة . . ثم أهاب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند الزحف ; وطمأنهم إلى نصرة اللّه ومعيته , وإلى تخذيل اللّه لأعدائهم وأخذهم بذنوبهم . . ثم حذرهم خيانة اللّه وخيانة الرسول وفتنة الأموال والأولاد ; وأمر الرسول - [ ص ] - أن يحذر الذين كفروا عاقبة ما هم فيه ; وأن يقبل منهم الاستجابة - لو استجابوا - ويكل خبيئهم إلى اللّه ; وأمر المسلمين أن يقاتلوهم إن تولوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه . .
وكذلك يسير هذا الشطر الثاني . . يبدأ ببيان حكم اللّه في الغنائم - بعد أن ردها إلى اللّه ورسوله - ثم يدعوهم إلى الإيمان باللّه وما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . ثم يكشف لهم عن تدبير اللّه وتقديره في الموقعة التي جاءت بهذه الغنائم ; ويستحضر جانبا آخر من مواقف المعركة ومشاهدها , يتجلى فيه هذا التقدير وذلك التدبير , كما يتجلى فيه أنهم لم يكونوا سوى أداة لقدر اللّه وستار . . ثم يهيب بهم من وراء هذا الذي كشفه لهم من حقيقة المعركة إلى الثبات عند اللقاء , وإلى ذكر اللّه , وطاعته وطاعة رسوله ; ويحذرهم التنازع مخافة الفشل والانكسار ; ويدعوهم إلى الصبر ; وتجنب البطر والرياء في الجهاد ; ويحذرهم عاقبة الكفار الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , منخدعين بمكر الشيطان ; ويدعوهم إلى التوكل على الله وحده , القوي القادر على النصر الحكيم في تقديره وتدبيره . . ثم يريهم سنة اللهفي أخذ الكافرين المكذبين بذنوبهم . . وكما ذكر الملائكة في الشطر الأول وهم يثبتون المؤمنين ويضربون أعناق الكفار وأيديهم , فكذلك يذكر في هذا الشطر الثاني أن الملائكة يتوفون الذين كفروا يضربون وجوههم وأدبارهم . . وكما قال في الشطر الأول عن الذين كفروا:إنهم شر الدواب , فكذلك يكرر هنا هذا الوصف بمناسبة الحديث عن نقضهم لعهدهم كلما عاهدوا , وتمهيدا لما يأمر به الله رسوله [ ص ] من أحكام التعامل معهم في الحرب والسلم ; وهي أحكام مفصلة للعلاقات بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات المعادية والمسالمة , بعضها أحكام نهائية , وبعضها أحكام استكملت فيما بعد في سورة التوبة . .
وإلى هنا تكاد تكون هذه الدورة الثانية في السورة مطابقة - من حيث طبيعة الموضوعات ومن حيث ترتيبها في السياق - لما جاء في الدورة الأولى , مع شيء من التفصيل في أحكام المعاملات بين المعسكر الإسلامي وسائر المعسكرات .
ثم تزيد في ختام السورة موضوعات وأحكام أخرى متصلة بها , ومكملة لها:
يذكر الله - سبحانه - رسوله [ ص ] والذين آمنوا معه , بمنته عليهم في تأليف قلوبهم , وقد كانت مستعصية على التأليف لولا إرادة الله ورحمته ومنته .
ويطمئنهم الله كذلك إلى كفايته لهم وحمايته . . ومن ثم يأمر رسوله بتحريضهم على القتال ; ويريهم أنهم بإيمانهم - إذا صبروا - أكفاء لعشرة أضعافهم من الذين كفروا الذين لا يفقهون , لأنهم لا يؤمنون ! وأنهم في أضعف حالاتهم أكفاء لضعفهم من الذين كفروا - متى صبروا . والله مع الصابرين .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
ثم يعاتبهم الله سبحانه على قبولهم الفدية في الأسرى ; وهم لم يثخنوا في الأرض بعد , ولم يخضدوا شوكة عدوهم ; ولم يستقر سلطانهم وتثبت دولتهم . فيقرر بهذا منهج الحركة الإسلامية في المراحل المختلفة والأحوال المتعددة , ويدل على مرونة هذا المنهج وواقعيته في مواجهة الواقع في المراحل المختلفة . . وكذلك يبين الله لهم كيف يعاملون من في أيديهم من الأسرى , وكيف يحببونهم في الإيمان , ويزينونه في قلوبهم ; ثم يخذل الله هؤلاء الأسرى عن محاولة الخيانة مرة أخرى وييئسهم من جدواها ; فالله الذي أمكن منهم أول مرة حين خانوه بالكفر , سيمكن منهم مرة أخرى لو خانوا رسوله [ ص ] .
وأخيراً تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها , وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام , ولكنها لا تلحق بدار الإسلام , ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة , ومن حيث المبدأ العام أيضاً . حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي ; وطبيعة المنهج الإسلامي كله ; وحيث يبدو بوضوح كامل أن "التجمع الحركي" هو قاعدة الوجود الإسلامي , الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية ; وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم .
وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير , لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل:
الوحدة الثالثة:41 - 54 الموضوع من أحكام القتال وحقائق الجهاد
مقدمة الوحدة السياق متصل بين مطالع هذا الدرس وخواتم الدرس الماضي في آخر الجزء التاسع . . فهو استطراد في أحكام القتال الذي بدأ الحديث عنه هناك في قوله تعالى: (. . . قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف , وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله , فإن انتهوا فإن اللهبما يعملون بصير , وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم , نعم المولى ونعم النصير). .
ثم تابع الحديث في هذا الدرس عن أحكام الغنائم التي تنشأ من النصر في ذلك القتال الذي بين غايته وهدفه:
(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). .
ومع أن غاية الجهاد قد تحددت بهذا النص الواضح ; وتبين منها أنه جهاد لله , وفي سبيل أهداف تخص دعوة الله ودينه ومنهجه للحياة . . ومع أن ملكية الأنفال التي تتخلف عن هذا الجهاد قد بت في أمرها من قبل , فردت إلى الله والرسول , وجرّد منها المجاهدون لتخلص بينّتهم وحركتهم لله . . مع هذا وذلك فإن المنهج القرآني الرباني يواجه الواقع الفعلي بالأحكام المنظمة له . فهناك غنائم وهناك محاربون . وهؤلاء المحاربون يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم:هم يتطوعون للجهاد , وهم يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة ; وهم يجهزون غيرهم من المجاهدين الذين لا يجدون ما ينفقون . . ثم هم يغنمون من المعركة غنائم . يغنمونها بصبرهم وثباتهم وبلائهم في الجهاد . . ولقد خلص الله نفوسهم وقلوبهم من أن يكون فيها شيء يحيك من شأن هذه الغنائم فرد ملكيتها ابتداء لله ورسوله . . وهكذا لم يعد من بأس في إعطائهم نصيبهم من هذه الغنائم - وهم يشعرون أنهم إنما يعطيهم الله ورسوله - فيلبي هذا الإعطاء حاجتهم الواقعية , ومشاعرهم البشرية , دون أن ينشأ عنه محظور من التكالب عليه , والتنازع فيه , بعد ذلك الحسم الذي جاء في أول السورة . .
إنه منهج الله الذي يعلم طبيعة البشر ; ويعاملهم بهذا المنهج المتوازن المتكامل , الذي يلبي حاجات الواقع كما يلبي مشاعر البشر ; وفي الوقت ذاته يتقي فساد الضمائر وفساد المجتمع , من أجل تلك المغانم !
الدرس الأول:41 كيفية توزيع الغنائم
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه , وللرسول , ولذي القربى , واليتامى , والمساكين , وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . والله على كل شيء قدير). .
وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل . . أولاً:حول مدلول "الغنائم" ومدلول "الأنفال" هل هما شيء واحد , أم هما شيئان مختلفان ? وثانياً:حول هذا الخمس - الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين - كيف يقسم ? وثالثاً:حول خمس الخمس الذي لله . أهو الخمس الذي لرسول الله , أم هو خمس مستقل ?:ورابعا:حول خمس الخمس الذي لرسول الله [ ص ] أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده ? وخامساً:حول خمس الخمس الذي لأولي القربى , أهو باق في قرابة رسول الله [ ص ] من بني هاشم وبني عبد المطلب , كما كان على عهد رسول الله [ ص ] , أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه ? وسادساً:أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس , أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله [ ص ] ولخلفائه من بعده ? . . . وخلافات أخرى فرعية .
ونحن - على طريقتنا في هذه الظلال - لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة . . هذا بصفة عامة . . وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا . فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة , لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله , ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها ! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة ; ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها , فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية ! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه . . إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان . والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
وحده ! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر , والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة ; ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً .
هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين ; وليس هناك - في البدء - قضية أخرى سواها . . ليس هناك قضية غنائم , لأنه ليس هناك قضية جهاد ! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة , لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية , وذلك لسبب بسيط:هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل , يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى !!!
والمنهج الإسلامي منهج واقعي , لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ; ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع ! . . إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام ! هذا ليس منهج هذا الدين . هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية , حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا ! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه:دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ; ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد - كما دخل فيه الناس أول مرة - كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية . . ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق . . ثم يحتاج حينئذ - وحينئذ فقط - إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه ; كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره . . وحينئذ - وحينئذ فقط - يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية - في الداخل وفي الخارج - وحينئذ - وحينئذ فقط - تكون لهذا الاجتهاد قيمته , لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته !
من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين , لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم ; حتى يحين وقتها عندما يشاء الله ; وينشأ المجتمع الإسلامي , ويواجه حالة جهاد فعلي , تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام ! وحسبنا - في هذه الظلال - أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي , والمنهج القرآني التربوي . فهذا هو العنصر الثابت , الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم . . وكل ما عداه تبع له وقائم عليه :
إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني:
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه , وللرسول , ولذي القربى , واليتامى , والمساكين , وابن السبيل).
يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين , واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله [ ص ] والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله , من بعده في هذه المصارف: لله وللرسول , ولذي القربى , واليتامى , والمساكين , وابن السبيل . . بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم . . . وفي هذا كفاية . .
أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير:
(إن كنتم آمنتم بالله , وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان , والله على كل شيء قدير). .
إن للإيمان إمارات تدل عليه ; والله - سبحانه - يعلق الاعتراف لأهل بدر - وهم أهل بدر - بأنهم آمنوا بالله , وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان , على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية ; فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن ; كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان .
وهكذا نجد مدلول الإيمان - في القرآن - واضحاً جازماً لا تميع فيه , ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد , عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات , ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية , كما دخل الناس - بسبب الفرق المذهبية والسياسية - في الاتهامات ودفع الاتهامات ; وصار النبز بالكفر , ودفع هذا النبز , لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين ; إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين ! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية ; ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة . . وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية . . أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو . . " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " . . ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة . . والكفر:رفض ما شرع الله , والحكم بغير ما أنزل الله , والتحاكم إلى غير شرع الله . . في الصغير وفي الكبير سواء . . أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة . . وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات . .
وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه:
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). .
ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله .
لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة ; وردها الى الله والرسول - في أول السورة - ليخلص الأمر كله لله والرسول ; وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض ; وليسلموا أمرهم كله - أوله وآخره - لله ربهم وللرسول قائدهم ; وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله , وتحت راية الله , طاعة لله ; يحكمونه في أرواحهم , ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض . . فهذا هو الايمان . . كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسولهيسألونك عن الأنفال . قل الأنفال لله والرسول , فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم , وأطيعوا الله ورسوله . . إن كنتم مؤمنين . .).
حتى إذا استسلموا لأمر الله , وارتضوا حكمه ذاك , فاستقر فيهم مدلول الإيمان . . عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة , ويستبقي الخمس على الأصل - لله والرسول - يتصرف فيه رسول الله [ ص ] , وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة , وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح , فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله ; إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها ; كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده ;ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله . . وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان . . هو شرط الإيمان , وهو مقتضى الإيمان . .
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . .
وهكذا تتواتر النصوص , لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه .
ثم نقف أمام وصف الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] بقولهعبدنا)في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء , وأمر الخمس المتبقي أخيراً:
(إن كنتم آمنتم بالله , وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). .
إنه وصف موحٍ . . إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان ; وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له ; فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله [ ص ] التبليغ عن الله , كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله .
وإنه لكذلك في واقع الحياة ! إنه لكذلك مقام كريم . . أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان . .
وأخيراً تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها , وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام , ولكنها لا تلحق بدار الإسلام , ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة , ومن حيث المبدأ العام أيضاً . حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي ; وطبيعة المنهج الإسلامي كله ; وحيث يبدو بوضوح كامل أن "التجمع الحركي" هو قاعدة الوجود الإسلامي , الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية ; وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم .
وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير , لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل:
الوحدة الثالثة:41 - 54 الموضوع من أحكام القتال وحقائق الجهاد
مقدمة الوحدة السياق متصل بين مطالع هذا الدرس وخواتم الدرس الماضي في آخر الجزء التاسع . . فهو استطراد في أحكام القتال الذي بدأ الحديث عنه هناك في قوله تعالى: (. . . قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف , وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين . وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله , فإن انتهوا فإن اللهبما يعملون بصير , وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم , نعم المولى ونعم النصير). .
ثم تابع الحديث في هذا الدرس عن أحكام الغنائم التي تنشأ من النصر في ذلك القتال الذي بين غايته وهدفه:
(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله). .
ومع أن غاية الجهاد قد تحددت بهذا النص الواضح ; وتبين منها أنه جهاد لله , وفي سبيل أهداف تخص دعوة الله ودينه ومنهجه للحياة . . ومع أن ملكية الأنفال التي تتخلف عن هذا الجهاد قد بت في أمرها من قبل , فردت إلى الله والرسول , وجرّد منها المجاهدون لتخلص بينّتهم وحركتهم لله . . مع هذا وذلك فإن المنهج القرآني الرباني يواجه الواقع الفعلي بالأحكام المنظمة له . فهناك غنائم وهناك محاربون . وهؤلاء المحاربون يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم:هم يتطوعون للجهاد , وهم يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة ; وهم يجهزون غيرهم من المجاهدين الذين لا يجدون ما ينفقون . . ثم هم يغنمون من المعركة غنائم . يغنمونها بصبرهم وثباتهم وبلائهم في الجهاد . . ولقد خلص الله نفوسهم وقلوبهم من أن يكون فيها شيء يحيك من شأن هذه الغنائم فرد ملكيتها ابتداء لله ورسوله . . وهكذا لم يعد من بأس في إعطائهم نصيبهم من هذه الغنائم - وهم يشعرون أنهم إنما يعطيهم الله ورسوله - فيلبي هذا الإعطاء حاجتهم الواقعية , ومشاعرهم البشرية , دون أن ينشأ عنه محظور من التكالب عليه , والتنازع فيه , بعد ذلك الحسم الذي جاء في أول السورة . .
إنه منهج الله الذي يعلم طبيعة البشر ; ويعاملهم بهذا المنهج المتوازن المتكامل , الذي يلبي حاجات الواقع كما يلبي مشاعر البشر ; وفي الوقت ذاته يتقي فساد الضمائر وفساد المجتمع , من أجل تلك المغانم !
الدرس الأول:41 كيفية توزيع الغنائم
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه , وللرسول , ولذي القربى , واليتامى , والمساكين , وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . والله على كل شيء قدير). .
وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل . . أولاً:حول مدلول "الغنائم" ومدلول "الأنفال" هل هما شيء واحد , أم هما شيئان مختلفان ? وثانياً:حول هذا الخمس - الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين - كيف يقسم ? وثالثاً:حول خمس الخمس الذي لله . أهو الخمس الذي لرسول الله , أم هو خمس مستقل ?:ورابعا:حول خمس الخمس الذي لرسول الله [ ص ] أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده ? وخامساً:حول خمس الخمس الذي لأولي القربى , أهو باق في قرابة رسول الله [ ص ] من بني هاشم وبني عبد المطلب , كما كان على عهد رسول الله [ ص ] , أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه ? وسادساً:أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس , أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله [ ص ] ولخلفائه من بعده ? . . . وخلافات أخرى فرعية .
ونحن - على طريقتنا في هذه الظلال - لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة . . هذا بصفة عامة . . وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا . فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة , لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله , ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها ! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة ; ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها , فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية ! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه . . إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان . والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
وحده ! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر , والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة ; ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً .
هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين ; وليس هناك - في البدء - قضية أخرى سواها . . ليس هناك قضية غنائم , لأنه ليس هناك قضية جهاد ! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة , لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية , وذلك لسبب بسيط:هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل , يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى !!!
والمنهج الإسلامي منهج واقعي , لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ; ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع ! . . إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام ! هذا ليس منهج هذا الدين . هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية , حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا ! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه:دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ; ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد - كما دخل فيه الناس أول مرة - كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية . . ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق . . ثم يحتاج حينئذ - وحينئذ فقط - إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه ; كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره . . وحينئذ - وحينئذ فقط - يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية - في الداخل وفي الخارج - وحينئذ - وحينئذ فقط - تكون لهذا الاجتهاد قيمته , لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته !
من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين , لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم ; حتى يحين وقتها عندما يشاء الله ; وينشأ المجتمع الإسلامي , ويواجه حالة جهاد فعلي , تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام ! وحسبنا - في هذه الظلال - أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي , والمنهج القرآني التربوي . فهذا هو العنصر الثابت , الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم . . وكل ما عداه تبع له وقائم عليه :
إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني:
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه , وللرسول , ولذي القربى , واليتامى , والمساكين , وابن السبيل).
يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين , واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله [ ص ] والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله , من بعده في هذه المصارف: لله وللرسول , ولذي القربى , واليتامى , والمساكين , وابن السبيل . . بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم . . . وفي هذا كفاية . .
أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير:
(إن كنتم آمنتم بالله , وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان , والله على كل شيء قدير). .
إن للإيمان إمارات تدل عليه ; والله - سبحانه - يعلق الاعتراف لأهل بدر - وهم أهل بدر - بأنهم آمنوا بالله , وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان , على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية ; فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن ; كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان .
وهكذا نجد مدلول الإيمان - في القرآن - واضحاً جازماً لا تميع فيه , ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد , عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات , ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية , كما دخل الناس - بسبب الفرق المذهبية والسياسية - في الاتهامات ودفع الاتهامات ; وصار النبز بالكفر , ودفع هذا النبز , لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين ; إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين ! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية ; ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة . . وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية . . أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو . . " ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل " . . ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة . . والكفر:رفض ما شرع الله , والحكم بغير ما أنزل الله , والتحاكم إلى غير شرع الله . . في الصغير وفي الكبير سواء . . أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة . . وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات . .
وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه:
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). .
ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله .
لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة ; وردها الى الله والرسول - في أول السورة - ليخلص الأمر كله لله والرسول ; وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض ; وليسلموا أمرهم كله - أوله وآخره - لله ربهم وللرسول قائدهم ; وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله , وتحت راية الله , طاعة لله ; يحكمونه في أرواحهم , ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض . . فهذا هو الايمان . . كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسولهيسألونك عن الأنفال . قل الأنفال لله والرسول , فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم , وأطيعوا الله ورسوله . . إن كنتم مؤمنين . .).
حتى إذا استسلموا لأمر الله , وارتضوا حكمه ذاك , فاستقر فيهم مدلول الإيمان . . عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة , ويستبقي الخمس على الأصل - لله والرسول - يتصرف فيه رسول الله [ ص ] , وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة , وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح , فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله ; إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها ; كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده ;ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله . . وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان . . هو شرط الإيمان , وهو مقتضى الإيمان . .
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل . . إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . .
وهكذا تتواتر النصوص , لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه .
ثم نقف أمام وصف الله - سبحانه - لرسوله [ ص ] بقولهعبدنا)في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء , وأمر الخمس المتبقي أخيراً:
(إن كنتم آمنتم بالله , وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). .
إنه وصف موحٍ . . إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان ; وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له ; فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله [ ص ] التبليغ عن الله , كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله .
وإنه لكذلك في واقع الحياة ! إنه لكذلك مقام كريم . . أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان . .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى , والعاصم من العبودية للعباد . . وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له , إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه .
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده , يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى . يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم ; فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع "الإنسان" من بين سائر الأنواع ; وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب , وإذا هم كالأنعام بل هم أضل , وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا - كما خلقهم الله - في أحسن تقويم .
كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها . . يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم , يصرفون حياتهم وفق هواهم , ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر , مشوبة بحب الاستعلاء , كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى !
ويقعون في عبودية "الحتميات" التي يقال لهم:إنه لا قبل لهم بها , وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها . . "حتمية التاريخ" . . و "حتمية الاقتصاد" . . و "حتمية التطور" وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين "الإنسان" في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه , ولا أن يناقش - في عبوديته البائسة الذليلة - هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة !
ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان:
(إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). .
لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده - فرقاناً . . فرقاناً بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالاً - وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً . .
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً . . ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض , وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء . . الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير , وفي عبودية الكون كله:سمائه وأرضه , أشيائه وأحيائه , لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد , ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك . . والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ; ويغشي على ذلك الحق الأصيل ; ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء , وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء ! . . فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر ; حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي ; وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان !
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق , على أبعاد وآماد:كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير . . فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور , وفي الخلق والسلوك , وفي العبادة والعبودية ; وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات . . .
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك . . فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء , وللقيم والأوضاع , وللشرائع والقوانين , وللتقاليد والعادات . . . وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه , ولا مشرع إلا إياه . . فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله ; وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه ; وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة . .
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية:عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار . وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع . . والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة , ومنهجا جديدا للوجود الإنساني , ونظاما جديداً للمجتمع , وشكلاً جديداً للدولة . . بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير "الإنسان" في "الأرض" بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته , ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته . . الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع , لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد . لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه , تتمثل في شعائر تعبدية لله , وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم . ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد , والمنهج الجديد , والدولة الجديدة , والمجتمع الجديد , في واقع الحياة ; وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً ; ثم في حياة البشرية كلها أخيراً . . وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله . .
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية . . فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام . . هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام . وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور . وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان . وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء . . هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد . إنما صار - شيئا ًفشيئا - ملكاً للبشرية كلها ; تأثرت به سواءفي دار الإسلام أم في خارجها , سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته ! . . والصليبيون الذين زحفوا من الغرب , ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه , قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه ; وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم , بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي ! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام ! - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية ; وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة ; وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا ! . . وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام , أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء .
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة . فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين ; وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة , حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غر هؤلاء دينهم). . وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو - وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ; ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد ; فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية , لا لمجرد السلاح والعتاد ; وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية , لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة ; وأن هذا ليس كلاماً يقال , إنما هو واقع متحقق للعيان .
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر . ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة:
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم , ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين , ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين , إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة . فأراد الله لهم غير ما أرادوا . أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [ غير ذات الشوكة ] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ ذات الشوكة ] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ; ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة ! وقال لهم الله - سبحانه - إنه صنع هذا:
(ليحق الحق ويبطل الباطل). .
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة . . إن الحق لا يحق , وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان "النظري" للحق والباطل . ولا بمجرد الاعتقاد "النظري" بأن هذا حق وهذا باطل . . إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس ; وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس . إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق , وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا , ويهزم جند الباطل ويندحروا . . فهذا الدين منهج حركي واقعي , لا مجرد "نظرية " للمعرفة والجدل ! أو لمجرد الاعتقاد السلبي !
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة ; وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبارالذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه -من وراء المعركة , ومن وراء إخراج الرسول [ ص ] من بيته بالحق ; ومن وراء إفلات القافلة [ غير ذات الشوكة ] ولقاء الفئة ذات الشوكة . .
ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته , تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم . . وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته ; حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين ! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين !
وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة . .
(والله على كل شيء قدير). .
وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء . . مثل لا يجادل فيه مجادل , ولا يماري فيه ممار . . مثل من الواقع المشهود , الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله . وأن الله على كل شيء قدير .
الدرس الثاني:42 - 44 حكمة الله في إنشاب معركة بدر
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعود إلى المعركة , فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها , كما لو كانت معروضة فعلاً , ويكشف عن تدبير الله في إدارتها . حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله - سبحانه - من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه:
إذ أنتم بالعدوة الدنيا , وهم بالعدوة القصوى , والركب أسفل منكم . ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد , ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة , وإن الله لسميع عليم . إذ يريكهم الله في منامك قليلاً , ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر , ولكن الله سلم , إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً , وإلى الله ترجع الأمور .
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها ; وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها . . إن يد الله تكاد ترى , وهي توقف هؤلاء وهؤلاء هناك والقافلة من بعيد ! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول [ ص ] وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر وفي إغراء كل منهما بالآخر . . وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد , عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية , وبهذه الحركة المرئية , وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير !
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص , قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها . . ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ; ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة ; وبين الفريقين ربوة تفصلهما . . أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين .
إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه . وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده . حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد ! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره .
(إذ أنتم بالعدوة الدنيا , وهم بالعدوة القصوى , والركب أسفل منكم , ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد , ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً). .
إن وراء هذا التلاقي على غير موعد - بهذه الدقة وبهذا الضبط - لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع , ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف ; ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه , ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به !
أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه:
ليهلك من هلك عن بينة , ويحيا من حي عن بينة . .
والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر , كما يعبر به عن الكفر . وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان . . وهذا المدلول الثاني أظهر هنا , وذلك كما قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?). . فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة ; وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان . هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن .
ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر - كما قال الله سبحانه - كان (يوم الفرقان)وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل - كما ذكرنا منذ قليل - ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة - يكفر عن بينة فيهلك عن بينة - ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة . .
إن الموقعة - بظروفها التي صاحبتها - تحمل بينة لا تجحد , وتدل دلالة لا تنكر , على تدبير وراء تدبير البشر , وعلى قوى وراءها غير قوة البشر . . إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا , وأنه له كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم . .
ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال:" فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم , ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة " ! ولقد علموا - لو كان العلم يجدي - أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين , وأنه ما لأحد بالله من طاقة . . فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة !
هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب: ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . .
ولكن يبقى وراءه إيحاء آخر:
إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل ; واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع - بعد استعلائه فيعالم الضمائر - إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب ; وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس ; بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى ; فلا تعود لمن يختار الهلاك - أي الكفر - شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى ; كما أن الذي يريد أن يحيا - أي يؤمن - لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله , ويخذل الطغاة .
وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع - في التعريف بسورة الأنفال - من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت ; وإعلاء راية الحق وسلطان الله . . فهذا مما يعين على جلاء الحق: ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . . كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى , في هذه السورة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . .)فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب . لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" كما أسلفنا .
والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة , وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو: (وإن الله لسميع عليم). . .
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده , يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى . يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم ; فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع "الإنسان" من بين سائر الأنواع ; وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب , وإذا هم كالأنعام بل هم أضل , وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا - كما خلقهم الله - في أحسن تقويم .
كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها . . يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم , يصرفون حياتهم وفق هواهم , ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر , مشوبة بحب الاستعلاء , كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى !
ويقعون في عبودية "الحتميات" التي يقال لهم:إنه لا قبل لهم بها , وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها . . "حتمية التاريخ" . . و "حتمية الاقتصاد" . . و "حتمية التطور" وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين "الإنسان" في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه , ولا أن يناقش - في عبوديته البائسة الذليلة - هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة !
ثم نقف كذلك أمام وصف الله - سبحانه - ليوم بدر بأنه يوم الفرقان:
(إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان). .
لقد كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده - فرقاناً . . فرقاناً بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالاً - وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً . .
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً . . ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض , وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء . . الحق الذي يتمثل في تفرد الله - سبحانه - بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير , وفي عبودية الكون كله:سمائه وأرضه , أشيائه وأحيائه , لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد , ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك . . والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ; ويغشي على ذلك الحق الأصيل ; ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء , وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء ! . . فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر ; حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي ; وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان !
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق , على أبعاد وآماد:كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير . . فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور , وفي الخلق والسلوك , وفي العبادة والعبودية ; وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات . . .
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك . . فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء , وللقيم والأوضاع , وللشرائع والقوانين , وللتقاليد والعادات . . . وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه , ولا مشرع إلا إياه . . فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله ; وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه ; وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة . .
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية:عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار . وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع . . والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة , ومنهجا جديدا للوجود الإنساني , ونظاما جديداً للمجتمع , وشكلاً جديداً للدولة . . بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير "الإنسان" في "الأرض" بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته , ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته . . الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع , لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد . لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه , تتمثل في شعائر تعبدية لله , وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم . ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد , والمنهج الجديد , والدولة الجديدة , والمجتمع الجديد , في واقع الحياة ; وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً ; ثم في حياة البشرية كلها أخيراً . . وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله . .
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية . . فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام . . هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام . وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور . وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان . وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء . . هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد . إنما صار - شيئا ًفشيئا - ملكاً للبشرية كلها ; تأثرت به سواءفي دار الإسلام أم في خارجها , سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته ! . . والصليبيون الذين زحفوا من الغرب , ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه , قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه ; وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم , بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي ! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه - بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام ! - قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية ; وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة ; وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا ! . . وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله - منذ وقعة بدر - متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام , أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء .
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة . فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين ; وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة , حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غر هؤلاء دينهم). . وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو - وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة - لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة ; ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد ; فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية , لا لمجرد السلاح والعتاد ; وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية , لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة ; وأن هذا ليس كلاماً يقال , إنما هو واقع متحقق للعيان .
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر . ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة:
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم , وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم , ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين , ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين , إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة . فأراد الله لهم غير ما أرادوا . أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [ غير ذات الشوكة ] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ ذات الشوكة ] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ; ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة ! وقال لهم الله - سبحانه - إنه صنع هذا:
(ليحق الحق ويبطل الباطل). .
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة . . إن الحق لا يحق , وإن الباطل لا يبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان "النظري" للحق والباطل . ولا بمجرد الاعتقاد "النظري" بأن هذا حق وهذا باطل . . إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس ; وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس . إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق , وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا , ويهزم جند الباطل ويندحروا . . فهذا الدين منهج حركي واقعي , لا مجرد "نظرية " للمعرفة والجدل ! أو لمجرد الاعتقاد السلبي !
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة ; وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبارالذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته - سبحانه -من وراء المعركة , ومن وراء إخراج الرسول [ ص ] من بيته بالحق ; ومن وراء إفلات القافلة [ غير ذات الشوكة ] ولقاء الفئة ذات الشوكة . .
ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته , تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم . . وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته ; حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين ! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين !
وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة . .
(والله على كل شيء قدير). .
وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء . . مثل لا يجادل فيه مجادل , ولا يماري فيه ممار . . مثل من الواقع المشهود , الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله . وأن الله على كل شيء قدير .
الدرس الثاني:42 - 44 حكمة الله في إنشاب معركة بدر
وهنا يعود السياق إلى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان . . يعود إلى المعركة , فيعيد عرضها بأسلوب عجيب في استحضار مشاهدها ومواقفها , كما لو كانت معروضة فعلاً , ويكشف عن تدبير الله في إدارتها . حتى ليكاد الإنسان يرى يد الله - سبحانه - من وراء الأحداث والحركات كما يكشف عن غاية ذلك التدبير التي تحققت كما أرادها الله سبحانه:
إذ أنتم بالعدوة الدنيا , وهم بالعدوة القصوى , والركب أسفل منكم . ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد , ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً . ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة , وإن الله لسميع عليم . إذ يريكهم الله في منامك قليلاً , ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر , ولكن الله سلم , إنه عليم بذات الصدور . وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً , وإلى الله ترجع الأمور .
إن المعركة شاخصة بمواقع الفريقين فيها ; وشاهدة بالتدبير الخفي من ورائها . . إن يد الله تكاد ترى , وهي توقف هؤلاء وهؤلاء هناك والقافلة من بعيد ! والكلمات تكاد تشف عن تدبير الله في رؤيا الرسول [ ص ] وفي تقليل كل فريق في عين الفريق الآخر وفي إغراء كل منهما بالآخر . . وما يملك إلا الأسلوب القرآني الفريد , عرض المشاهد وما وراء المشاهد بهذه الحيوية , وبهذه الحركة المرئية , وفي مثل هذه المساحة الصغيرة من التعبير !
وهذه المشاهد التي تستحضرها النصوص , قد مر بنا في استعراض الوقعة من السيرة الإشارة إليها . . ذلك أن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ; ونزل جيش المشركين بقيادة أبي جهل بالضفة الأخرى البعيدة من المدينة ; وبين الفريقين ربوة تفصلهما . . أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين .
إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
ولم يكن كل من الجيشين يعلم بموقع صاحبه . وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة لأمر يريده . حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بمثل هذه الدقة والضبط من ناحية المكان والموعد ! وهذا ما يذكر الله به العصبة المسلمة ليذكرها بتدبيره وتقديره .
(إذ أنتم بالعدوة الدنيا , وهم بالعدوة القصوى , والركب أسفل منكم , ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد , ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً). .
إن وراء هذا التلاقي على غير موعد - بهذه الدقة وبهذا الضبط - لأمراً مقضياً يريد الله تحقيقه في عالم الواقع , ويدبر له هذا التدبير الخفي اللطيف ; ويجعلكم أنتم أداة تحقيقه , ويهيئ له جميع الظروف التي تيسر لكم القيام به !
أما هذا الأمر المقتضى الذي دبر الله الظروف لتحقيقه فهو الذي يقول عنه:
ليهلك من هلك عن بينة , ويحيا من حي عن بينة . .
والهلاك يعبر به عن مدلوله المباشر , كما يعبر به عن الكفر . وكذلك الحياة فإنها قد تفيد مدلولها المباشر وقد يعبر بها عن الإيمان . . وهذا المدلول الثاني أظهر هنا , وذلك كما قال الله سبحانه في مثل هذا المعنى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?). . فعبر عن الكفر بالموت وعبر عن الإيمان بالحياة ; وجرى في هذا على نظرة الإسلام لحقيقة الكفر وحقيقة الإيمان . هذه النظرة التي أوضحناها بشيء من التفصيل عند استعراض هذه الآية من سورة الأنعام في الجزء الثامن .
ووجه ترجيح هذا المدلول هنا أن يوم بدر - كما قال الله سبحانه - كان (يوم الفرقان)وقد فرق الله فيه بين الحق والباطل - كما ذكرنا منذ قليل - ومن ثم فإن من يكفر بعدها فإنما يكفر في غير شبهة - يكفر عن بينة فيهلك عن بينة - ومن يؤمن بعدها فإنما يؤمن عن بينة واضحة تبرزها المعركة . .
إن الموقعة - بظروفها التي صاحبتها - تحمل بينة لا تجحد , وتدل دلالة لا تنكر , على تدبير وراء تدبير البشر , وعلى قوى وراءها غير قوة البشر . . إنها تثبت أن لهذا الدين رباً يتولى أصحابه متى أخلصوا له وجاهدوا في سبيله وصبروا وثبتوا , وأنه له كان الأمر إلى القوى المادية الظاهرة ما هزم المشركون ولا انتصرت العصبة المسلمة هذا الانتصار العظيم . .
ولقد قال المشركون أنفسهم لحليفهم الذي أراد أن يمدهم بالرجال وهم ذاهبون للقتال:" فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم , ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة " ! ولقد علموا - لو كان العلم يجدي - أنهم إنما يقاتلون الله كما قال لهم محمد الصادق الأمين , وأنه ما لأحد بالله من طاقة . . فإذا هلكوا بعد ذلك بالكفر فإنما يهلكون عن بينة !
هذا ما يتبادر إلى الذهن من معنى هذا التعقيب: ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . .
ولكن يبقى وراءه إيحاء آخر:
إن وقوع المعركة بين جند الحق وجند الباطل ; واستعلاء سلطان الحق في عالم الواقع - بعد استعلائه فيعالم الضمائر - إن هذا كله مما يعين على جلاء الحق للعيون والقلوب ; وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس ; بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح ويتجلى ; فلا تعود لمن يختار الهلاك - أي الكفر - شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى ; كما أن الذي يريد أن يحيا - أي يؤمن - لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله , ويخذل الطغاة .
وهذا يعود بنا إلى ما قدمناه في الجزء التاسع - في التعريف بسورة الأنفال - من الحديث عن ضرورة الجهاد لتحطيم قوى الشر وسلطان الطاغوت ; وإعلاء راية الحق وسلطان الله . . فهذا مما يعين على جلاء الحق: ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة . . كما أن هذه اللفتة تساعدنا على تفهم أبعاد الإيحاء الذي يعطيه قول الله تعالى , في هذه السورة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم . . .)فإعداد القوة والإرهاب بها مما يعين على جلاء الحق في أنماط من القلوب . لا تستيقظ ولا تتبين إلا على إيقاعات القوة التي تحمل الحق وتنطلق به لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" كما أسلفنا .
والتعقيب على ذلك الجانب من التدبير الإلهي في المعركة , وعلى غاية هذا التدبير التي تحققت فعلاً هو: (وإن الله لسميع عليم). . .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
فهو - سبحانه - لا يخفى عليه شيء مما يقول فريق الحق أو فريق الباطل ; ولا شيء مما يخفونه في صدورهم وراء الأقوال والأفعال ; وهو يدبر ويقدر باطلاعه على الظواهر وعلمه بالسرائر , وهو السميع العليم . .
وبعد هذا التعقيب الذي يتوسط استعراض المعركة وأحداثها وملابساتها يمضي السياق في هذا الاستعراض ; ويكشف التدبير الخفي اللطيف:
(إذ يريكهم الله في منامك قليلاً , ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر . ولكن الله سلم . إنه عليم بذات الصدور). .
ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله [ ص ] الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن . فينبئ أصحابه برؤياه , فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة . . ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً . فلقد علم - سبحانه - أنه لو أراهم له كثيراً , لفت ذلك في قلوب القلة التي معه , وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال , ولضعفوا عن لقاء عدوهم ; وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم:فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم . . وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً !
(ولكن الله سلم . إنه عليم بذات الصدور). .
ولقد كان - سبحانه - يعلم بذوات الصدور ; فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف ; فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً , ولم يرهم إياه كثيراً . .
والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية . فقد رآهم رسول الله [ ص ] قليلاً . . وهم كثير عددهم , ولكن قليل غناؤهم , قليل وزنهم في المعركة , قلوبهم خواء من الإدراك الواسع , والإيمان الدافع , والزاد النافع . . وهذه الحقيقة الواقعة - من وراء الظاهر الخادع - هي التي أراها الله لرسوله ; فأدخل بها
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45)
الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة . والله عليم بسرائرهم , مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم , وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم , من ضعف عن المواجهة ; وتنازع على الالتحام أو الإحجام . وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور .
وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه , تكررت الرؤيا النبوية الصادقة , في صورة عيانية من الجانبين ; وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به ; عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها .
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً , ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً , وإلى الله ترجع الأمور). .
ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة . . والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً , لأنهم يرونهم بعين الحقيقة ! - والمشركون يرونهم قليلاً - وهم يرونهم بعين الظاهر - ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها , تحققت غاية التدبير الإلهي ; ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه . . (وإلى الله ترجع الأمور). .
وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء . . . فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده , يصرفها بسلطانه , ويوقعها بإرادته , ولا تند عن قدرته وحكمه . ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره .
الدرس الثالث:45 - 49 من شروط النصر وأسباب الهزيمة وبعض أحداث بدر
وإذ إن الأمر كذلك . . التدبير تدبير الله . والنصر من عند الله . والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر . والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة . . فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا ; وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة ; وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير , وصاحب العون والمدد , وصاحب القوة والسلطان ; وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة ; وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل ; وليحترزوا من خداع الشيطان , الذي أهلك أولئك الكفار ; وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم:
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا . واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله ; ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم . واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط . وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب . إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض:غر هؤلاء دينهم ! ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). .
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات , وقواعد وتوجيهات , وصور ومشاهد ; وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة , وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر . . مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير ; ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد !
إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا - في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة - وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء , وإلى التزود بزاد النصر ; والتأهب بأهبته .
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا , واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون , وأطيعوا الله ورسوله , ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم , واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). .
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ; وأنه يألم كما يألمون , ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه ! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر ? بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها , ولا حياة له سواها ?!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة , وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة , فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي , قولهموما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين). .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل , وهي تواجه جالوت وجنودهولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). .
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا , والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . .
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ; فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" ; فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم , كان هذا التعليم حاضراً في نفوسهاالذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيماناً وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل). .
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى:إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها , فهي معركة لله , لتقرير ألوهيته في الأرض , وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ; وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ; لا للسيطرة , ولا للمغنم , ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ; يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله , فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). . فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس للهورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر , إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها ! وإنما هو وضع "الذات" في كفة , والحق في كفة ; وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . . ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة . . إنها طاعة القيادة العليا فيها , التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله , ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . . والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . . أية معركة . . في ميدان النفس أم في ميدان القتال .
(واصبروا , إن الله مع الصابرين). .
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح . . ويبقى التعليم الأخير:
(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها ! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ; تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر , وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده , والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله , تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم , لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة , فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ; وفي إقامة منهجه في الحياة ; وفي إعلاء كلمته في الأرض ; وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ; يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ; كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله:وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه:
(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط). .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل , وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير , إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل:" لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر ,
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
وتعزف القيان علينا , فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:" واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع , لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم , إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان , وأصاب محمد [ ص ] النفير ; وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ; وكانت بدر قاصمة الظهر لهم:
(والله بما يعملون محيط). .
لا يفوته منهم شيء , ولا يعجزه من قوتهم شيء , وهو محيط بهم وبما يعملون .
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار:
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس , وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه , وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب). .
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ; ليس من بينها حديث عن رسول الله [ ص ] إلا ما رواه مالك في الموطأ:حدثنا أحمد بن الفرج , قال:حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون , قال:حدثنا مالك , عن إبراهيم بن أبي عبلة , عن طلحة بن عبيد الله بن كريز:أن رسول الله [ ص ] قال:" ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة , وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب , إلا ما رأى يوم بدر " ! قالوا:يا رسول الله وما رأى يوم بدر ? قال:" أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة " . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبدالعزيز بن الماجشون , وهو ضعيف الحديث , والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري:
حدثني المثنى , قال:حدثنا عبد الله بن صالح , قال:حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قال:جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية , في صورة رجل من بني مدلج , والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين:" لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله [ ص ] قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين , فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس , فلما رآه , وكانت يده في يد رجل من المشركين , انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته , فقال الرجل:يا سراقة , تزعم أنك لنا جار ? قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب)وذلك حين رأى الملائكة .
حدثنا ابن حميد قال:حدثنا سلمة قال:قال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال:لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي , وكان من أشراف كنانة , فقال:
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال:حدثنا يزيد , حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم)إلى قوله: (شديد العقاب)قال:ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة , وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله). . وكذب والله عدو الله , ما به مخافة الله , ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له , وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له , حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم , وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم , وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ; وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - (نكص على عقبيه وقال:إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب). . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم , ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم , والتي قال لهم بها:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك . .
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ; ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .
فإلى هنا ينتهي اجتهادنا . ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم . وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية:
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم). . أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين , إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته , وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم:لا غالب لكم اليوم من الناس , لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب , فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا , وإني مع هذا - أو والحال أني - جار لكم . قال البيضاوي في تفسيره:وأوهمهم أن اتباعهم إياه , فيما يظنون أنها قربات , مجير لهم , حتى قالوا:اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين" .
(فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه). . أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر , وصار بحيث يراه ويعرف حاله , وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه , نكص:أي رجع القهقرى , وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين [ أي مؤخري الرجلين ] وأخطأ من قال من المفسرين:إن المراد بالترائي التلاقي - والمراد:أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم , فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ; وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره . ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم , وتركه إياهم وشأنهم وهو [ وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله ] أي تبرأ منهم وخاف عليهم , وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة [ والله شديد العقاب ] يجوزأن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفاً" .
. . . "أقول:معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم ; كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم . . . " .
وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين ; وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)- وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين . . هو منهج تلك المدرسة بجملتها . . ومثله تفسير "الطير الأبابيل" بأنها ميكروبات الجدري ! في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم . . هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية ; حيث لا ضرورة لهذا التأويل , لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها . . وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة . . وهو المنهج الذي اتخذناه فعلاً . .
وبعد , فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , ويشجعهم على الخروج , ثم يتركهم لمصيرهم البائس . . . كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف , يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون ; وهم يرونها تواجه جحافل المشركين , وهي قليلة العدد ضعيفة العدة ; ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة , مخدوعين بدينهم , ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم:
(إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض:غر هؤلاء دينهم). .
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل:إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الاسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين , فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة !
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ; فهم يرون ظواهر الأمور , دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ; ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة , والثقة في الله , والتوكل عليه , واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية . . فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم , مغرورين بدينهم , واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها !
إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . . فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه ; والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من "الواقع" الحقيقي ! الواقع الذي يشمل جميع القوى , ويوازن بينها موازنة صحيحة:
(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). .
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51)
هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه ; وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه ! وهذا ما يرجح الكفة , ويقرر النتيجة , ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان .
وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض , عن العصبة المسلمة يوم بدر: (غر هؤلاء دينهم). . هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه ; وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين ; وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة ; وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله ; وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت , وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر , وتستخف بالخطر ! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة , وللأخطار الواضحة . . إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة ! . . إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها ; فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى ! . . إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن , ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً ; فهي مؤدية الى إحدى الحسنيين:النصر والغلب , أو الشهادة والجنة . . ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف ; فهناك الله . . وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض !
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة ; وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه , وأن ترى بنور الله وهداه , وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة , وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله , وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين:
(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). .
. . وصدق الله العظيم . .
الدرس الرابع:50 - 54 مشاهد من تعذيب الكفار
وأخيراً يعرض السياق القرآني مشهداً من مشاهد التدخل الإلهي في المعركة , والملأ الأعلى من الملائكة - بأمر الله وإذنه - يشارك في أخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب ; والملائكة يقبضون أرواحهم في صورة منكرة , ويؤذونهم أذى مهيناً - جزاء على البطر والاستكبار - ويذكرونهم في أشد اللحظات ضيقا وحرجا بسوء أعمالهم وبسوء مآلهم , جزاء وفاقاً لا يظلمهم الله فيه شيئاً . . ويقرر السياق في إثر عرض هذا المشهد أن أخذ الكفار بتكذيبهم سنة ماضية: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)وأنه كذلك أخذ فرعون وملأه , وكذلك يأخذ كل من يفعل فعله ويشرك شركه:
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم , وذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله , فأخذهم الله بذنوبهم , إن الله قوي شديد العقاب . ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم , وأن الله سميع عليم . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم , فأهلكناهم بذنوبهم , وأغرقنا آل فرعون . وكل كانوا ظالمين .
والآيتان الأوليان في هذا المقطع:
(ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم , وذوقوا عذاب الحريق , ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد). .
وبعد هذا التعقيب الذي يتوسط استعراض المعركة وأحداثها وملابساتها يمضي السياق في هذا الاستعراض ; ويكشف التدبير الخفي اللطيف:
(إذ يريكهم الله في منامك قليلاً , ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر . ولكن الله سلم . إنه عليم بذات الصدور). .
ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله [ ص ] الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن . فينبئ أصحابه برؤياه , فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة . . ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً . فلقد علم - سبحانه - أنه لو أراهم له كثيراً , لفت ذلك في قلوب القلة التي معه , وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال , ولضعفوا عن لقاء عدوهم ; وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم:فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم . . وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً !
(ولكن الله سلم . إنه عليم بذات الصدور). .
ولقد كان - سبحانه - يعلم بذوات الصدور ; فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف ; فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً , ولم يرهم إياه كثيراً . .
والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية . فقد رآهم رسول الله [ ص ] قليلاً . . وهم كثير عددهم , ولكن قليل غناؤهم , قليل وزنهم في المعركة , قلوبهم خواء من الإدراك الواسع , والإيمان الدافع , والزاد النافع . . وهذه الحقيقة الواقعة - من وراء الظاهر الخادع - هي التي أراها الله لرسوله ; فأدخل بها
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45)
الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة . والله عليم بسرائرهم , مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم , وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم , من ضعف عن المواجهة ; وتنازع على الالتحام أو الإحجام . وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور .
وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه , تكررت الرؤيا النبوية الصادقة , في صورة عيانية من الجانبين ; وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به ; عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها .
(وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً , ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً , وإلى الله ترجع الأمور). .
ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة . . والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً , لأنهم يرونهم بعين الحقيقة ! - والمشركون يرونهم قليلاً - وهم يرونهم بعين الظاهر - ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها , تحققت غاية التدبير الإلهي ; ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه . . (وإلى الله ترجع الأمور). .
وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء . . . فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده , يصرفها بسلطانه , ويوقعها بإرادته , ولا تند عن قدرته وحكمه . ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره .
الدرس الثالث:45 - 49 من شروط النصر وأسباب الهزيمة وبعض أحداث بدر
وإذ إن الأمر كذلك . . التدبير تدبير الله . والنصر من عند الله . والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر . والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة . . فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا ; وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة ; وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير , وصاحب العون والمدد , وصاحب القوة والسلطان ; وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة ; وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل ; وليحترزوا من خداع الشيطان , الذي أهلك أولئك الكفار ; وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم:
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا . واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون . وأطيعوا الله ورسوله ; ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم . واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط . وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب . إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض:غر هؤلاء دينهم ! ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). .
وفي هذه الفقرات القليلة تحتشد معان وإيحاءات , وقواعد وتوجيهات , وصور ومشاهد ; وتشخص مواقف من المعركة كأنها حية واقعة , وتتكشف خواطر ومشاعر وضمائر وسرائر . . مما يحتاج تصويره إلى أضعاف هذه المساحة من التعبير ; ثم لا يبلغ ذلك شيئاً من هذا التصوير المدهش الفريد !
إنها تبدأ بنداء الذين آمنوا - في سلسلة النداءات المتكررة للعصبة المسلمة في السورة - وتوجيههم إلى الثبات عند لقاء الأعداء , وإلى التزود بزاد النصر ; والتأهب بأهبته .
وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا , واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون , وأطيعوا الله ورسوله , ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم , واصبروا إن الله مع الصابرين . ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). .
فهذه هي عوامل النصر الحقيقية:الثبات عند لقاء العدو . والاتصال بالله بالذكر . والطاعة لله والرسول . وتجنب النزاع والشقاق . والصبر على تكاليف المعركة . والحذر من البطر والرئاء والبغي . .
فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر . فأثبت الفريقين أغلبهما . وما يدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون ; وأنه يألم كما يألمون , ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون ; فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه ! وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار ; وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين:الشهادة أو النصر ? بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا ; وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها , ولا حياة له سواها ?!
وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن ; كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة , وحكاه عنها القرآن الكريم في تاريخ الأمة المسلمة في موكب الإيمان التاريخي . ومما حكاه القرآن الكريم من قول سحرة فرعون عندما استسلمت قلوبهم للإيمان فجأة , فواجههم فرعون بالتهديد المروع البشع الطاغي , قولهموما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا . ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين). .
ومما حكاه كذلك عن الفئة القليلة المؤمنة من بني إسرائيل , وهي تواجه جالوت وجنودهولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا:ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين). .
ومما حكاه عن الفئات المؤمنة على مدار التاريخ في مواجهة المعركة: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير , فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله , وما ضعفوا وما استكانوا , والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا:ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا , وثبت أقدامنا , وانصرنا على القوم الكافرين . .
ولقد استقر هذا التعليم في نفوس العصبة المسلمة ; فكان هذا شأنها حيثما واجهت عدواً . وقد حكى الله - فيما بعد - عن العصبة التي أصابها القرح في "أحد" ; فلما دعيت إلى الخروج ثاني يوم , كان هذا التعليم حاضراً في نفوسهاالذين قال لهم الناس:إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيماناً وقالوا:حسبنا الله ونعم الوكيل). .
إن ذكر الله عند لقاء العدو يؤدي وظائف شتى:إنه الاتصال بالقوة التي لا تغلب ; والثقة بالله الذي ينصر أولياءه . . وهو في الوقت ذاته استحضار حقيقة المعركة وبواعثها وأهدافها , فهي معركة لله , لتقرير ألوهيته في الأرض , وطرد الطواغيت المغتصبة لهذه الألوهية ; وإذن فهي معركة لتكون كلمة الله هي العليا ; لا للسيطرة , ولا للمغنم , ولا للاستعلاء الشخصي أو القومي . . كما أنه توكيد لهذا الواجب - واجب ذكر الله - في أحرج الساعات وأشد المواقف . . وكلها إيحاءات ذات قيمة في المعركة ; يحققها هذا التعليم الرباني .
وأما طاعة الله ورسوله , فلكي يدخل المؤمنون المعركة مستسلمين لله ابتداء ; فتبطل أسباب النزاع التي أعقبت الأمر بالطاعة: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). . فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه ; وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار . فإذا استسلم الناس للهورسوله انتفى السبب الأول الرئيسي للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر , إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها ! وإنما هو وضع "الذات" في كفة , والحق في كفة ; وترجيح الذات على الحق ابتداء ! . . ومن ثم هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة . . إنه من عمليات "الضبط" التي لا بد منها في المعركة . . إنها طاعة القيادة العليا فيها , التي تنبثق منها طاعة الأمير الذي يقودها . وهي طاعة قلبية عميقة لا مجرد الطاعة التنظيمية في الجيوش التي لا تجاهد لله , ولا يقوم ولاؤها للقيادة على ولائها لله أصلاً . . والمسافة كبيرة كبيرة . .
وأما الصبر . فهو الصفة التي لا بد منها لخوض المعركة . . أية معركة . . في ميدان النفس أم في ميدان القتال .
(واصبروا , إن الله مع الصابرين). .
وهذه المعية من الله هي الضمان للصابرين بالفوز والغلب والفلاح . . ويبقى التعليم الأخير:
(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , والله بما يعملون محيط). .
يبقى هذا التعليم ليحمي العصبة المؤمنة من أن تخرج للقتال متبطرة طاغية تتعاجب بقوتها ! وتستخدم نعمة القوة التي أعطاها الله لها في غير ما أرادها . . والعصبة المؤمنة إنما تخرج للقتال في سبيل الله ; تخرج لتقرير ألوهيته سبحانه في حياة البشر , وتقرير عبودية العباد لله وحده . وتخرج لتحطيم الطواغيت التي تغتصب حق الله في تعبيد العباد له وحده , والتي تزاول الألوهية في الأرض بمزاولتها للحاكمية - بغير إذن الله وشرعه - وتخرج لإعلان تحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل عبودية لغير الله , تستذل إنسانية الإنسان وكرامته . وتخرج لحماية حرمات الناس وكراماتهم وحرياتهم , لا للاستعلاء على الناس واستعبادهم والتبطر بنعمة القوة باستخدامها هذا الإستخدام المنكر . وتخرج متجردة من حظ نفسها في المعركة جملة , فلا يكون لها من النصر والغلب إلا تحقيق طاعة الله في تلبية أمره بالجهاد ; وفي إقامة منهجه في الحياة ; وفي إعلاء كلمته في الأرض ; وفي التماس فضله بعد ذلك ورضاه . . حتى الغنائم التي تخلفها المعركة فهي من فضل الله . .
ولقد كانت صورة الخروج بطراً ورئاء الناس وصدا عن سبيل الله حاضرة أمام العصبة المسلمة ; يرونها في خروج قريش بالصورة التي خرجت بها ; كما كانت صورة العاقبة لهذا الخروج حاضرة فيما أصاب قريشاً التي خرجت في ذلك اليوم بفخرها وعزها وكبريائها تحاد الله ورسوله:وعادت في آخر اليوم بالذل والخيبة والانكسار والهزيمة . . وكان الله سبحانه يذكر العصبة المسلمة بشيء حاضر له وقعه وله إيحاؤه:
(ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله . والله بما يعملون محيط). .
والبطر والمراءاة والصد عن سبيل الله تتجلى كلها في قولة أبي جهل , وقد جاءه رسول أبي سفيان - بعد أن ساحل بالعير فنجت من رصد المسلمين - يطلب إليه الرجوع بالنفير , إذ لم تعد بهم حاجة لقتال محمد وأصحابه . وكانت قريش قد خرجت بالقيان والدفوف يغنون وينحرون الجزر على مراحل الطريق . فقال أبو جهل:" لا والله لا نرجع حتى نرد بدراً , فنقيم ثلاثاً , ننحر الجزر , ونطعم الطعام , ونشرب الخمر ,
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
وتعزف القيان علينا , فلن تزال العرب تهابنا أبداً " . . فلما عاد الرسول إلى أبي سفيان برد أبي جهل قال:" واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هشام [ يعني أبا جهل ] كره أن يرجع , لأنه ترأس على الناس فبغى , والبغي منقصة وشؤم , إن أصاب محمد النفير ذللنا " . . وصحت فراسة أبي سفيان , وأصاب محمد [ ص ] النفير ; وذل المشركون بالبطر والبغي والرياء والصد عن سبيل الله ; وكانت بدر قاصمة الظهر لهم:
(والله بما يعملون محيط). .
لا يفوته منهم شيء , ولا يعجزه من قوتهم شيء , وهو محيط بهم وبما يعملون .
ويمضي السياق يصور وسوسة الشيطان للمشركين وإغراءهم بهذا الخروج الذي نالهم منه ما نالهم من الذل والخيبة والخسار والانكسار:
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس , وإني جار لكم . فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه , وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب). .
ولقد وردت في هذه الآية والحادث الذي تشير إليه عدة آثار ; ليس من بينها حديث عن رسول الله [ ص ] إلا ما رواه مالك في الموطأ:حدثنا أحمد بن الفرج , قال:حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون , قال:حدثنا مالك , عن إبراهيم بن أبي عبلة , عن طلحة بن عبيد الله بن كريز:أن رسول الله [ ص ] قال:" ما رئي إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة , وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب , إلا ما رأى يوم بدر " ! قالوا:يا رسول الله وما رأى يوم بدر ? قال:" أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة " . .
وفي هذا الأثر عبد الملك بن عبدالعزيز بن الماجشون , وهو ضعيف الحديث , والخبر مرسل . فأما سائر الآثار فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - من طريق علي بن أبي طلحة وطريق ابن جريج . وعن عروة بن الزبير من طريق ابن إسحاق . وعن قتادة من طريق سعيد بن جبير . وعن الحسن وعن محمد بن كعب . وهذه أمثلة منها من رواية ابن جرير الطبري:
حدثني المثنى , قال:حدثنا عبد الله بن صالح , قال:حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قال:جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه راية , في صورة رجل من بني مدلج , والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين:" لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " . . فلما اصطف الناس أخذ رسول الله [ ص ] قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين , فولوا مدبرين . وأقبل جبير إلى إبليس , فلما رآه , وكانت يده في يد رجل من المشركين , انتزع إبليس يده فولى مدبراً هو وشيعته , فقال الرجل:يا سراقة , تزعم أنك لنا جار ? قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب)وذلك حين رأى الملائكة .
حدثنا ابن حميد قال:حدثنا سلمة قال:قال ابن إسحاق:حدثني يزيد بن رومان . عن عروة بن الزبير قال:لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر - يعني من الحرب - فكاد ذلك أن يثنيهم . فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي , وكان من أشراف كنانة , فقال:
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه . فخرجوا سراعاً .
حدثنا بشر بن معاذ قال:حدثنا يزيد , حدثنا سعيد , عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم)إلى قوله: (شديد العقاب)قال:ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة فزعم عدو الله أنه لا يد له بالملائكة , وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله). . وكذب والله عدو الله , ما به مخافة الله , ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له , وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له , حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم , وتبرأ منهم عند ذلك .
ونحن - على منهجنا في هذه الظلال - لا نتعرض لهذه الأمور الغيبية بتفصيل لم يرد به نص قرآني أو حديث نبوي صحيح متواتر . فهي من أمور لاعتقاد التي لا يلتزم فيها إلا بنص هذه درجته . ولكننا في الوقت ذاته لا نقف موقف الإنكار والرفض . .
وفي هذا الحديث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم , وشجعهم على الخروج بإعلان إجارته لهم ونصرته إياهم ; وأنه بعد ذلك - لما تراءى الجمعان أي بريء منكم إني رأى أحدهما الآخر - (نكص على عقبيه وقال:إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله , والله شديد العقاب). . فخذلهم وتركهم يلاقون مصيرهم وحدهم , ولم يوف بعهده معهم . .
ولكننا لا نعلم الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم , والتي قال لهم بها:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم . والتي نكص بها كذلك وقال ما قاله بعد ذلك . .
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها . ذلك أن أمر الشيطان كله غيب ; ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء في أمره إلا في حدود النص المسلم . والنص هنا لا يذكر الكيفية إنما يثبت الحادث . .
فإلى هنا ينتهي اجتهادنا . ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده في التفسير من محاولة تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل تأويلا معينا ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم . وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية:
(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم , وقال:لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم). . أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين , إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته , وقال لهم بما ألقاه في هواجسهم:لا غالب لكم اليوم من الناس , لا أتباع محمد الضعفاء ولا غيرهم من قبائل العرب , فأنتم أعز نفرا وأكثر نفيرا وأعظم بأسا , وإني مع هذا - أو والحال أني - جار لكم . قال البيضاوي في تفسيره:وأوهمهم أن اتباعهم إياه , فيما يظنون أنها قربات , مجير لهم , حتى قالوا:اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين" .
(فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه). . أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر , وصار بحيث يراه ويعرف حاله , وقبل أن يلقاه في المعركة ويصطلي نار القتال معه , نكص:أي رجع القهقرى , وتولى إلى الوراء وهو جهة العقبين [ أي مؤخري الرجلين ] وأخطأ من قال من المفسرين:إن المراد بالترائي التلاقي - والمراد:أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره إياهم , فخرج الكلام مخرج التمثيل بتشبيه وسوسته بما ذكر بحال المقبل على الشيء ; وتركها بحال من ينكص عنه ويوليه دبره . ثم زاد على هذا ما يدل على براءته منهم , وتركه إياهم وشأنهم وهو [ وقال:إني بريء منكم , إني أرى ما لا ترون , إني أخاف الله ] أي تبرأ منهم وخاف عليهم , وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله المسلمين بالملائكة [ والله شديد العقاب ] يجوزأن يكون هذا من كلامه ويجوز أن يكون مستأنفاً" .
. . . "أقول:معنى هذا أن جند الشيطان الخبيث كانوا منبثين في المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة ما يغريهم ويغرهم ; كما كان الملائكة منبثين في المؤمنين يلهمونهم بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم . . . " .
وهذا الميل الظاهر إلى تفسير أفعال الملائكة بأنها مجرد ملابسة لأرواح المؤمنين ; وقد جزم في موضع آخر بأن الملائكة لم تقاتل يوم بدر على الرغم من قول الله تعالى: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان)- وتفسير فعل الشيطان بأنه مجرد ملابسة لأرواح المشركين . . هو منهج تلك المدرسة بجملتها . . ومثله تفسير "الطير الأبابيل" بأنها ميكروبات الجدري ! في تفسير الشيخ محمد عبده لجزء عم . . هذا كله مبالغة في تأويل هذه النصوص المتعلقة بأمور غيبية ; حيث لا ضرورة لهذا التأويل , لأنه ليس هناك ما يمنع من الدلالة الصريحة للألفاظ فيها . . وكل ما ينبغي هو الوقوف وراء النصوص بلا تفصيلات لا تدل عليها دلالة صريحة . . وهو المنهج الذي اتخذناه فعلاً . .
وبعد , فإنه بينما كان الشيطان يخدع المشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله , ويشجعهم على الخروج , ثم يتركهم لمصيرهم البائس . . . كان المنافقون والذين في قلوبهم ضعف , يظنون بالعصبة المؤمنة الظنون ; وهم يرونها تواجه جحافل المشركين , وهي قليلة العدد ضعيفة العدة ; ويرون - بقلوبهم المدخولة ونظرتهم إلى الظواهر المادية الخادعة - أن المؤمنين أوردوا أنفسهم موارد التهلكة , مخدوعين بدينهم , ظانين أنه ينصرهم أو يقيهم:
(إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض:غر هؤلاء دينهم). .
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض قيل:إنهم مجموعة من الذين مالوا إلى الاسلام في مكة - ولكن لم تصح عقيدتهم ولم تطمئن قلوبهم - خرجوا مع النفير مزعزعين , فلما رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين قالوا هذه المقالة !
والمنافقون والذين في قلوبهم مرض لا يدركون حقيقة أسباب النصر وأسباب الهزيمة ; فهم يرون ظواهر الأمور , دون أن تهديهم بصيرة إلى بواطنها ; ودون أن يشعروا بالقوة الكامنة في العقيدة , والثقة في الله , والتوكل عليه , واستصغار شأن الجموع والقوى التي لا ترتكن إلى عقيدة في الله تمنحها القوة الحقيقية . . فلا جرم يظنون المسلمين يومئذ مخدوعين في موقفهم , مغرورين بدينهم , واردين موارد التهلكة بتعرضهم لجحافل المشركين التي يرونها !
إن الواقع المادي الظاهر لا يختلف من ناحية مظهره عند القلوب المؤمنة وعند القلوب الخاوية من الإيمان . ولكن الذي يختلف هو التقدير والتقويم لهذا الواقع المادي الظاهر . . فالقلوب الخاوية تراه ولا ترى شيئاً وراءه ; والقلوب المؤمنة ترى ما وراءه من "الواقع" الحقيقي ! الواقع الذي يشمل جميع القوى , ويوازن بينها موازنة صحيحة:
(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). .
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51)
هذا ما تدركه القلوب المؤمنة وتطمئن إليه ; وما هو محجوب عن القلوب الخاوية فلا تحسب حسابه ! وهذا ما يرجح الكفة , ويقرر النتيجة , ويفصل في القضية في نهاية المطاف في كل زمان وفي كل مكان .
وقولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض , عن العصبة المسلمة يوم بدر: (غر هؤلاء دينهم). . هي قولة المنافقين والذين في قلوبهم مرض كلما رأوا العصبة المسلمة تتعرض لجحافل الطاغوت في عنفوانه ; وعدتها الأساسية التي تملكها هي هذا الدين ; وهي هذه العقيدة الدافعة الدافقة ; وهي الغيرة على ألوهية الله وعلى حرمات الله ; وهي التوكل على الله والثقة بنصره لأوليائه .
إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض يقفون ليتفرجوا والعصبة المسلمة تصارع جحافل الطاغوت , وفي نفوسهم سخرية من هذه العصبة التي تتصدى للخطر , وتستخف بالخطر ! وفي نفوسهم عجب كذلك ودهشة في اقتحام العصبة المسلمة للمكاره الظاهرة , وللأخطار الواضحة . . إنهم هم لا يعرفون مبرراً لهذا التهور - كما يسمونه - وللإلقاء بالنفس إلى التهلكة ! . . إنهم يحسبون الحياة كلها - بما فيها الدين والعقيدة - صفقة في سوق التجارة . إن كانت ظاهرة الربح أقدموا عليها ; فأما إذا كان الخطر فالسلامة أولى ! . . إنهم لا يدركون الأمور ببصيرة المؤمن , ولا يزنون النتائج كذلك بميزان الإيمان . . إنها في حس المؤمن وميزانه صفقة رابحة دائماً ; فهي مؤدية الى إحدى الحسنيين:النصر والغلب , أو الشهادة والجنة . . ثم إن حساب القوى في نفسه يختلف ; فهناك الله . . وهذا مالا يدخل في حساب المنافقين والذين في قلوبهم مرض !
والعصبة المسلمة في كل مكان وفي كل زمان مدعوة إلى أن تزن بميزان الإيمان والعقيدة ; وأن تدرك ببصيرة المؤمن وقلبه , وأن ترى بنور الله وهداه , وألا تتعاظمها قوى الطاغوت الظاهرة , وألا تستهين بقوتها ووزنها فإن معها الله , وأن تلقي بالها دائما إلى تعليم الله سبحانه للمؤمنين:
(ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم). .
. . وصدق الله العظيم . .
الدرس الرابع:50 - 54 مشاهد من تعذيب الكفار
وأخيراً يعرض السياق القرآني مشهداً من مشاهد التدخل الإلهي في المعركة , والملأ الأعلى من الملائكة - بأمر الله وإذنه - يشارك في أخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب ; والملائكة يقبضون أرواحهم في صورة منكرة , ويؤذونهم أذى مهيناً - جزاء على البطر والاستكبار - ويذكرونهم في أشد اللحظات ضيقا وحرجا بسوء أعمالهم وبسوء مآلهم , جزاء وفاقاً لا يظلمهم الله فيه شيئاً . . ويقرر السياق في إثر عرض هذا المشهد أن أخذ الكفار بتكذيبهم سنة ماضية: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم) (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)وأنه كذلك أخذ فرعون وملأه , وكذلك يأخذ كل من يفعل فعله ويشرك شركه:
ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم , وذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله , فأخذهم الله بذنوبهم , إن الله قوي شديد العقاب . ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم , وأن الله سميع عليم . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم , فأهلكناهم بذنوبهم , وأغرقنا آل فرعون . وكل كانوا ظالمين .
والآيتان الأوليان في هذا المقطع:
(ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم , وذوقوا عذاب الحريق , ذلك بما قدمت أيديكم , وأن الله ليس بظلام للعبيد). .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
قد تعنيان حال المشركين يوم بدر ; والملائكة تشترك في المعركة - كما قال لهم الله سبحانه: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله , ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب). . وإن كنا - كما قلنا عند استعراض هذا النص في الجزء التاسع - لا ندري كيف تضرب الملائكة فوق الأعناق وكل بنان . ولكن جهلنا بالكيفية لا يدعونا إلى تأويل هذا النص عن مدلوله الظاهر ; وهو أن هناك أمراً من الله للملائكة بالضرب , وأن الملائكة (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) . . وتكون هاتان الآيتان هنا تذكيراً بما كان يوم بدر ; وتكملة لحكاية فعل الملائكة فيه بالذين كفروا . .
كما أن هاتين الآيتين قد تعنيان حالة دائمة كلما توفت الملائكة الذين كفروا . . في يوم بدر وفي غيره . . ويكون قوله تعالى: (ولو ترى). . موجهاً توجيه الخطاب لكل من يرى , كما يكثر مثل هذا الاسلوب في التوجيه إلى المشاهد البارزة التي من شأنها أن يتوجه إليها كل من يرى . .
وسواء كان هذا أو ذاك . فالتعبير القرآني يرسم صورة منكرة للذين كفروا , والملائكة تستل منهم أرواحهم في مشهد مهين ; يضيف المهانة والخزي , إلى العذاب والموت:
(ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم). .
ثم يتحول السياق من صيغة الخبر إلى صيغة الخطاب:
(وذوقوا عذاب الحريق).
ليرد المشهد حاضراً كأنه اللحظة مشهود ; وكأنما جهنم بنارها وحريقها في المشهد وهم يدفعون إليها دفعاً مع التأنيب والتهديد:
(ذلك بما قدمت أيديكم). .
وأنتم إنما تلاقون جزاء عادلاً , تستحقونه بما قدمت أيديكم:
(وأن الله ليس بظلام للعبيد). .
وهذا النص - بما يعرضه من مشهد "عذاب الحريق" - يثير في النفس سؤالا:ترى هذا تهديد من الملائكة للذين كفروا بعذاب المستقبل المقرر لهم - كأنه واقع بهم - بعد البعث والحساب ? أم أنهم يلاقون عذاب الحريق بمجرد توفيهم ? . .
وكلاهما جائز , لا يمنع مانع من فهمه من النص القرآني . . ولا نحب أن نزيد شيئاً على هذا التقرير . . فهو أمر من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه ; وليس علينا فيه إلا اليقين بوقوعه . وهو واقع ماله من دافع . أما موعده فعلم ذلك عند علام الغيوب .
وننتقل من هذه الوقفة الخاطفة , مع السياق في انتقاله إلى تقرير الحقيقة الكلية وراء هذا المشهد . . إن
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
أخذ الذين كفروا بالمهانة والعذاب , سنة ماضية لا تتخلف ولا تتبدل ; فهذا هو المصير المحتوم الذي جرت به السنة من قديم:
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ; كفروا بآيات الله , فأخذهم الله بذنوبهم , إن الله قوي شديد العقاب). .
إن الله - سبحانه - لا يكل الناس إلى فلتات عابرة , ولا إلى جزاف لا ضابط له . . إنما هي سنته يمضي بها قدره . . وما أصاب المشركين في يوم بدر , هو ما يصيب المشركين في كل وقت ; وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم:
(كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم). .
ولم يعجزوه - سبحانه - ولم يتخلف عنهم عقابه:
(إن الله قوي شديد العقاب).
ولقد آتاهم الله من نعمته , ورزقهم من فضله , ومكن لهم في الأرض , وجعلهم خلائف فيها . . وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحاناً , لينظر أيشكرون أم يكفرون ? ولكنهم كفروا ولم يشكروا ; وطغوا وبغوا بما أعطوا , وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة . . وجاءتهم آيات الله فكفروا بها . . وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها . . وعندئذ غير الله النعمة , وأخذهم بالعذاب , ودمر عليهم تدميراً:
(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وأن الله سميع عليم . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم . كذبوا بآيات ربهم , فأهلكناهم بذنوبهم , وأغرقنا آل فرعون . وكل كانوا ظالمين). .
لقد أهلكهم الله بعد التكذيب بآياته . ولم يهلكهم قبلها سبحانه - مع أنهم كانوا كافرين - لأن هذه سنته ورحمته: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً). . وهو يعبر هنا عن آل فرعون والذين من قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا بآيات الله فأهلكهم . . بأنهم (كانوا ظالمين). . مستخدماً لفظ "الظلم" بمعنى "الكفر" أو "الشرك" وهذا هو الاستعمال الغالب في القرآن . .
ولا بد أن نقف قليلاً عند نص هذه الآية:
(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). .
إنه , من جانب , يقرر عدل الله في معاملة العباد ; فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم , ويبدلوا سلوكهم , ويقلبوا أوضاعهم , ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها . . ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم , حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ; ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم , وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم . . ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة - تقابل التكريم العظيم - على هذا الكائن . فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54)
ويملك أن يزاد عليها , إذا هو عرف فشكر ; كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر , وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه .
وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانباً من جوانب "التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان" ; وعلاقة قدر الله به في هذا الوجود ; وعلاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه . . ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان الله ; وتكريمه بهذا التقدير ; كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله ; فيبدو عنصراً إيجابياً في صياغة هذا المصير - بإذن الله وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه - وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية , التي تصوره عنصراً سلبياً إزاء الحتميات الجبارة . حتمية الاقتصاد , وحتمية التاريخ , وحتمية التطور . . . إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة , ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول !
كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه ; وتصور عدل الله المطلق , في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره , ولا يظلم فيها عبد من عبيده:
وان الله ليس بظلام للعبيد . .
(فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين). .
(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
. . والحمد لله رب العالمين . .
الوحدة الرابعة:55 - 75 الموضوع:قواعد في السلم والحرب والمعاهدات والعلاقات الدولية مقدمة الوحدة هذا الدرس الأخير من سورة الأنفال يتضمن الكثير من قواعد التعامل مع المعسكرات المتنوعة في السلم والحرب ; والتنظيمات الداخلية للمجتمع الإسلامي وعلاقته بالمنظمات الخارجية ; ونظرة الإسلام إلى العهود والمواثيق في شتى الأحوال ; ونظرته كذلك إلى علاقات الدم والجنس والأرض وعلاقات العقيدة .ومنه تتبين عدة قواعد وأحكام بعضها نهائي في موضوعه ; وبعضها مرحلي كان يواجه أحوالاً معينة واقعة , ثم أدخلت عليه التعديلات النهائية المستقرة في سورة التوبة قرب نهاية العهد المدني .
ومن بين هذه القواعد والأحكام حسب ورودها في السياق القرآني:
أن الذين يعاهدون المعسكر الإسلامي , ثم يخلفون عهدهم معه هم شر الدواب . . ومن ثم ينبغي أن يؤدبهم المعسكر الإسلامي تأديباً يلحظ فيه الإرهاب الذي يشردهم ويشرد من وراءهم ممن تراودهم نية نقض العهد أو نية مهاجمة المعسكر الإسلامي .
أن المعاهدين الذين تخشى القيادة الإسلامية منهم نقض العهد والخيانة ; فإن لهذه القيادة أن تنبذ إليهم عهدهم , وتعلنهم بإلغائه . ومن ثم تصبح في حل من قتالهم وتأديبهم وإرهاب من وراءهم من أمثالهم .
أنه يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائماً واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة ; لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض ; التي ترهبها جميع القوى المبطلة ; والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض , فتهاب أولا أن تهاجم دار الاسلام ; وتستسلم كذلك لسلطان الله فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة , ولا تصد أحداً من أهلها عن الاستجابة , ولا تدعي حق الحاكمية وتعبيد الناس , حتى يكون الدين كله لله .
أنه إذا جنح فريق من غير المسلمين إلى مسالمة المعسكر الإسلامي وموادعته وعدم الوقوف في وجهه فإن القيادة الإسلامية تقبل منهم المسالمة , وتعاهدهم عليها . فإن أضمروا الخديعة ولم يبد في الظاهر ما يدل عليها , ترك أمرهم إلى الله , وهو يكفي المسلمين شر الخادعين .
أن الجهاد فريضة على المسلمين حتى لو كان عدد أعدائهم أضعاف عددهم . وأنهم منصورون بعون الله على أعدائهم , وان الواحد منهم كفء لعشرة من الأعداء , وكفء لاثنين في أضعف الحالات وفريضة الجهاد إذن لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم ; فحسب المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى , وأن يثقوا بالله , وأن يثبتوا في المعركة , ويصبروا عليها ; والبقية على الله . ذلك أنهم يملكون قوة أخرى غير القوى المادية الظاهرة . .
أن المعسكر الإسلامي يجب أن يكون همه ابتداء القضاء على قوة الطاغوت بتحطيم كل أسباب القوة . فإذا كان أسر المقاتلين وفداؤهم لا يحقق هذه الغاية , فان هذا الاجراء يستبعد . . ذلك أنه لا يكون للرسل وأتباعهم أسرى إلا بعد أن يثخنوا في الأرض , فيدمروا قوة عدوهم , ويستعلوا هم في الأرض ويتمكنوا بقوتهم ; وعندئذ لا يكون هناك من بأس في أخذ الأسرى وفدائهم . أما قبل ذلك فالتقتيل في المعركة أولى وأجدى .
أن الغنائم حل للمسلمين في المعركة من أموال المشركين . كما أحل لهم أن يأخذوا فدية الأسرى بعد أن يثخنوا في الأرض ويتمكنوا فيها ويخضدوا شوكة عدوهم ويحطموها .
أن الأسرى في المعسكر المسلم ينبغي أن يرغبوا في الإسلام . بوعد الله لهم أن يعطيهم خيراً مما أخذ منهم من الغنيمة أو الفداء . مع تحذيرهم من الخيانة ببأس الله الذي أمكن منهم أول مرة .
أن آصرة التجمع في المجتمع الإسلامي هي العقيدة ; ولكن الولاء في هذا المجتمع لا يكون إلا على أساس
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
العقيدة والتنظيم الحركي معاً , فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض . أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الاسلام , فلا ولاء بينهم وبين المعسكر المسلم في دار الاسلام . . أي لا تناصر ولا تكافل . . ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم ; وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد .
أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي , لا يمنع أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ; فيكونوا أقرب في الولاء - متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي - فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي .
هذه - على وجه الإجمال - هي المبادئ والقواعد التي يتضمنها هذا الدرس ; وهي تمثل جملة صالحة من قواعد النظام الإسلامي الداخلي والخارجي . . وسنحاول أن نتناولها بشيء من التفصيل في مواجهة النصوص القرآنية:
الدرس الأول:55 - 63 مقدمة الدرس
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة , وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء , إن الله لا يحب الخائنين . ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم , وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم . وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم . .
هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة , عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة ; وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة .
وهي تمثل إحدي قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى , ولم تدخل عليها إلا تكملات وتعديلات جانبية فيما بعد ; ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية .
إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة ; ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها ; مع إعطاء هذه العهود الإحترام الكامل والجدية الحقيقية . فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر ; ويستعد للمبادأة والشر ; فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود , وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ ; وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين . . على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سرا أو جهراً ! . . فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي ; ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية , أو الحيلولة دون وصولها إلى كل سمع ; فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها .
وهذه - كما هو ظاهر - مواجهة عملية واقعية لحالات عملية واقعية في العلاقات بين المعسكرات المتجاورة ; لا ترفض الموادعة - متى تحقق للدعوة الإسلامية الأمان الحقيقي وزوال العقبات المادية من طريقها وهي تتحرك لتبلغ الأسماع والقلوب - وفي الوقت ذاته لا تسمح أن تكون عهود الموادعة ستاراً للأعداء , وترساً يتترسون به لضرب المجتمع المسلم غيلة وغدراً .
أما الحالة الواقعة التي كانت هذه النصوص تواجهها في مجتمع المدينة يومذاك , فقد نشأت من الظروف التي واجهتها القيادة المسلمة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة , والتي يلخصها الإمام ابن القيم في زاد المعاد بقوله:"ولما قدم النبي [ ص ] المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام:قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه - وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم - وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة . وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه , بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه . . ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن . ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم . ومنهم من دخل معه في الظاهر , وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين , وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى " . .
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة ; وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة . كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة .
وظاهر أن هذه الأوضاع لم تكن إلا أوضاعاً موقتة , تواجه أحوالاً واقعة ; ولم تكن أحكاماً نهائية في العلاقات الدولية الإسلامية ; وأنها عدلت فيما بعد تعديلات متوالية , حتى استقرت في الأحكام التي نزلت في سورة براءة . .
وهذه المراحل التي مرت بها هذه العلاقات سبق في الجزء التاسع أن نقلنا لها تلخيصاً جيداً للإمام ابن القيم في زاد المعاد . ولا نرى بأساً من إعادة هذا التلخيص هنا لضرورته:
"فصل في ترتيب سياق هديه [ [ ص ] ] مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل . . أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى:أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته . فأمره أن يقرأ في نفسه , ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ . ثم أنزل عليهيا أيها المدثر . قم فأنذر)فنبأه بقولهاقرأ)وأرسله ب(يا أيها المدثر). ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ; ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله , ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام:أهل صلح وهدنة , وأهل حرب , وأهل ذمة . . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم , وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد , فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ,
كما أن هاتين الآيتين قد تعنيان حالة دائمة كلما توفت الملائكة الذين كفروا . . في يوم بدر وفي غيره . . ويكون قوله تعالى: (ولو ترى). . موجهاً توجيه الخطاب لكل من يرى , كما يكثر مثل هذا الاسلوب في التوجيه إلى المشاهد البارزة التي من شأنها أن يتوجه إليها كل من يرى . .
وسواء كان هذا أو ذاك . فالتعبير القرآني يرسم صورة منكرة للذين كفروا , والملائكة تستل منهم أرواحهم في مشهد مهين ; يضيف المهانة والخزي , إلى العذاب والموت:
(ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم). .
ثم يتحول السياق من صيغة الخبر إلى صيغة الخطاب:
(وذوقوا عذاب الحريق).
ليرد المشهد حاضراً كأنه اللحظة مشهود ; وكأنما جهنم بنارها وحريقها في المشهد وهم يدفعون إليها دفعاً مع التأنيب والتهديد:
(ذلك بما قدمت أيديكم). .
وأنتم إنما تلاقون جزاء عادلاً , تستحقونه بما قدمت أيديكم:
(وأن الله ليس بظلام للعبيد). .
وهذا النص - بما يعرضه من مشهد "عذاب الحريق" - يثير في النفس سؤالا:ترى هذا تهديد من الملائكة للذين كفروا بعذاب المستقبل المقرر لهم - كأنه واقع بهم - بعد البعث والحساب ? أم أنهم يلاقون عذاب الحريق بمجرد توفيهم ? . .
وكلاهما جائز , لا يمنع مانع من فهمه من النص القرآني . . ولا نحب أن نزيد شيئاً على هذا التقرير . . فهو أمر من أمور الغيب الذي استأثر الله بعلمه ; وليس علينا فيه إلا اليقين بوقوعه . وهو واقع ماله من دافع . أما موعده فعلم ذلك عند علام الغيوب .
وننتقل من هذه الوقفة الخاطفة , مع السياق في انتقاله إلى تقرير الحقيقة الكلية وراء هذا المشهد . . إن
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
أخذ الذين كفروا بالمهانة والعذاب , سنة ماضية لا تتخلف ولا تتبدل ; فهذا هو المصير المحتوم الذي جرت به السنة من قديم:
(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ; كفروا بآيات الله , فأخذهم الله بذنوبهم , إن الله قوي شديد العقاب). .
إن الله - سبحانه - لا يكل الناس إلى فلتات عابرة , ولا إلى جزاف لا ضابط له . . إنما هي سنته يمضي بها قدره . . وما أصاب المشركين في يوم بدر , هو ما يصيب المشركين في كل وقت ; وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم:
(كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم). .
ولم يعجزوه - سبحانه - ولم يتخلف عنهم عقابه:
(إن الله قوي شديد العقاب).
ولقد آتاهم الله من نعمته , ورزقهم من فضله , ومكن لهم في الأرض , وجعلهم خلائف فيها . . وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحاناً , لينظر أيشكرون أم يكفرون ? ولكنهم كفروا ولم يشكروا ; وطغوا وبغوا بما أعطوا , وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة . . وجاءتهم آيات الله فكفروا بها . . وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها . . وعندئذ غير الله النعمة , وأخذهم بالعذاب , ودمر عليهم تدميراً:
(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وأن الله سميع عليم . كدأب آل فرعون والذين من قبلهم . كذبوا بآيات ربهم , فأهلكناهم بذنوبهم , وأغرقنا آل فرعون . وكل كانوا ظالمين). .
لقد أهلكهم الله بعد التكذيب بآياته . ولم يهلكهم قبلها سبحانه - مع أنهم كانوا كافرين - لأن هذه سنته ورحمته: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً). . وهو يعبر هنا عن آل فرعون والذين من قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا بآيات الله فأهلكهم . . بأنهم (كانوا ظالمين). . مستخدماً لفظ "الظلم" بمعنى "الكفر" أو "الشرك" وهذا هو الاستعمال الغالب في القرآن . .
ولا بد أن نقف قليلاً عند نص هذه الآية:
(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). .
إنه , من جانب , يقرر عدل الله في معاملة العباد ; فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم , ويبدلوا سلوكهم , ويقلبوا أوضاعهم , ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها . . ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم , حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ; ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم , وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم . . ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة - تقابل التكريم العظيم - على هذا الكائن . فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54)
ويملك أن يزاد عليها , إذا هو عرف فشكر ; كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر , وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه .
وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانباً من جوانب "التصور الإسلامي لحقيقة الإنسان" ; وعلاقة قدر الله به في هذا الوجود ; وعلاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه . . ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان الله ; وتكريمه بهذا التقدير ; كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله ; فيبدو عنصراً إيجابياً في صياغة هذا المصير - بإذن الله وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه - وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية , التي تصوره عنصراً سلبياً إزاء الحتميات الجبارة . حتمية الاقتصاد , وحتمية التاريخ , وحتمية التطور . . . إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة , ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول !
كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه ; وتصور عدل الله المطلق , في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره , ولا يظلم فيها عبد من عبيده:
وان الله ليس بظلام للعبيد . .
(فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين). .
(ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
. . والحمد لله رب العالمين . .
الوحدة الرابعة:55 - 75 الموضوع:قواعد في السلم والحرب والمعاهدات والعلاقات الدولية مقدمة الوحدة هذا الدرس الأخير من سورة الأنفال يتضمن الكثير من قواعد التعامل مع المعسكرات المتنوعة في السلم والحرب ; والتنظيمات الداخلية للمجتمع الإسلامي وعلاقته بالمنظمات الخارجية ; ونظرة الإسلام إلى العهود والمواثيق في شتى الأحوال ; ونظرته كذلك إلى علاقات الدم والجنس والأرض وعلاقات العقيدة .ومنه تتبين عدة قواعد وأحكام بعضها نهائي في موضوعه ; وبعضها مرحلي كان يواجه أحوالاً معينة واقعة , ثم أدخلت عليه التعديلات النهائية المستقرة في سورة التوبة قرب نهاية العهد المدني .
ومن بين هذه القواعد والأحكام حسب ورودها في السياق القرآني:
أن الذين يعاهدون المعسكر الإسلامي , ثم يخلفون عهدهم معه هم شر الدواب . . ومن ثم ينبغي أن يؤدبهم المعسكر الإسلامي تأديباً يلحظ فيه الإرهاب الذي يشردهم ويشرد من وراءهم ممن تراودهم نية نقض العهد أو نية مهاجمة المعسكر الإسلامي .
أن المعاهدين الذين تخشى القيادة الإسلامية منهم نقض العهد والخيانة ; فإن لهذه القيادة أن تنبذ إليهم عهدهم , وتعلنهم بإلغائه . ومن ثم تصبح في حل من قتالهم وتأديبهم وإرهاب من وراءهم من أمثالهم .
أنه يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائماً واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة ; لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض ; التي ترهبها جميع القوى المبطلة ; والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض , فتهاب أولا أن تهاجم دار الاسلام ; وتستسلم كذلك لسلطان الله فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة , ولا تصد أحداً من أهلها عن الاستجابة , ولا تدعي حق الحاكمية وتعبيد الناس , حتى يكون الدين كله لله .
أنه إذا جنح فريق من غير المسلمين إلى مسالمة المعسكر الإسلامي وموادعته وعدم الوقوف في وجهه فإن القيادة الإسلامية تقبل منهم المسالمة , وتعاهدهم عليها . فإن أضمروا الخديعة ولم يبد في الظاهر ما يدل عليها , ترك أمرهم إلى الله , وهو يكفي المسلمين شر الخادعين .
أن الجهاد فريضة على المسلمين حتى لو كان عدد أعدائهم أضعاف عددهم . وأنهم منصورون بعون الله على أعدائهم , وان الواحد منهم كفء لعشرة من الأعداء , وكفء لاثنين في أضعف الحالات وفريضة الجهاد إذن لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم ; فحسب المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى , وأن يثقوا بالله , وأن يثبتوا في المعركة , ويصبروا عليها ; والبقية على الله . ذلك أنهم يملكون قوة أخرى غير القوى المادية الظاهرة . .
أن المعسكر الإسلامي يجب أن يكون همه ابتداء القضاء على قوة الطاغوت بتحطيم كل أسباب القوة . فإذا كان أسر المقاتلين وفداؤهم لا يحقق هذه الغاية , فان هذا الاجراء يستبعد . . ذلك أنه لا يكون للرسل وأتباعهم أسرى إلا بعد أن يثخنوا في الأرض , فيدمروا قوة عدوهم , ويستعلوا هم في الأرض ويتمكنوا بقوتهم ; وعندئذ لا يكون هناك من بأس في أخذ الأسرى وفدائهم . أما قبل ذلك فالتقتيل في المعركة أولى وأجدى .
أن الغنائم حل للمسلمين في المعركة من أموال المشركين . كما أحل لهم أن يأخذوا فدية الأسرى بعد أن يثخنوا في الأرض ويتمكنوا فيها ويخضدوا شوكة عدوهم ويحطموها .
أن الأسرى في المعسكر المسلم ينبغي أن يرغبوا في الإسلام . بوعد الله لهم أن يعطيهم خيراً مما أخذ منهم من الغنيمة أو الفداء . مع تحذيرهم من الخيانة ببأس الله الذي أمكن منهم أول مرة .
أن آصرة التجمع في المجتمع الإسلامي هي العقيدة ; ولكن الولاء في هذا المجتمع لا يكون إلا على أساس
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
العقيدة والتنظيم الحركي معاً , فالذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا بعضهم أولياء بعض . أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى دار الاسلام , فلا ولاء بينهم وبين المعسكر المسلم في دار الاسلام . . أي لا تناصر ولا تكافل . . ولا ينصرهم المسلمون إلا إذا اعتدي عليهم في عقيدتهم ; وكان هذا الاعتداء من قوم ليس بينهم وبين المسلمين عهد .
أن قيام التجمع والولاء في المجتمع المسلم على آصرة العقيدة والتنظيم الحركي , لا يمنع أن يكون أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ; فيكونوا أقرب في الولاء - متى تحقق شرط العقيدة وشرط التنظيم الحركي - فأما قرابة الرحم وحدها فلا تنشئ أولوية ولا ولاء إذا انفصمت رابطة العقيدة ورابطة التنظيم الحركي .
هذه - على وجه الإجمال - هي المبادئ والقواعد التي يتضمنها هذا الدرس ; وهي تمثل جملة صالحة من قواعد النظام الإسلامي الداخلي والخارجي . . وسنحاول أن نتناولها بشيء من التفصيل في مواجهة النصوص القرآنية:
الدرس الأول:55 - 63 مقدمة الدرس
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة , وهم لا يتقون . فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون . وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء , إن الله لا يحب الخائنين . ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون . وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم , وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون . وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم . وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم . .
هذه الآيات كانت تواجه حالة قائمة بالفعل في حياة الجماعة المسلمة , عند نشأة الدولة المسلمة بالمدينة ; وتزود القيادة المسلمة بالأحكام التي تواجه بها هذه الحالة .
وهي تمثل إحدي قواعد العلاقات الخارجية بين المعسكر المسلم وما حوله من المعسكرات الأخرى , ولم تدخل عليها إلا تكملات وتعديلات جانبية فيما بعد ; ولكنها ظلت إحدى القواعد الأساسية في المعاملات الإسلامية الدولية .
إنها تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة ; ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها ; مع إعطاء هذه العهود الإحترام الكامل والجدية الحقيقية . فأما إذا اتخذ الفريق الآخر هذه العهود ستاراً يدبر من ورائه الخيانة والغدر ; ويستعد للمبادأة والشر ; فإن للقيادة المسلمة أن تنبذ هذه العهود , وتعلن الفريق الآخر بهذا النبذ ; وتصبح مطلقة اليد في اختيار وقت الضربة التالية للخائنين الغادرين . . على أن تكون هذه الضربة من العنف والشدة بحيث ترهب كل من تحدثه نفسه بالتعرض للمجتمع المسلم سرا أو جهراً ! . . فأما الذين يسالمون المعسكر الإسلامي ; ويريدون عدم التعرض للدعوة الإسلامية , أو الحيلولة دون وصولها إلى كل سمع ; فإن للقيادة المسلمة أن توادعهم ما دام ظاهرهم يدل على أنهم يجنحون إلى السلم ويريدونها .
وهذه - كما هو ظاهر - مواجهة عملية واقعية لحالات عملية واقعية في العلاقات بين المعسكرات المتجاورة ; لا ترفض الموادعة - متى تحقق للدعوة الإسلامية الأمان الحقيقي وزوال العقبات المادية من طريقها وهي تتحرك لتبلغ الأسماع والقلوب - وفي الوقت ذاته لا تسمح أن تكون عهود الموادعة ستاراً للأعداء , وترساً يتترسون به لضرب المجتمع المسلم غيلة وغدراً .
أما الحالة الواقعة التي كانت هذه النصوص تواجهها في مجتمع المدينة يومذاك , فقد نشأت من الظروف التي واجهتها القيادة المسلمة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة , والتي يلخصها الإمام ابن القيم في زاد المعاد بقوله:"ولما قدم النبي [ ص ] المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام:قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوه - وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم - وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة . وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه , بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه . . ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن . ومنهم من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم . ومنهم من دخل معه في الظاهر , وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين , وهؤلاء هم المنافقون فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى " . .
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة ; وهم بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة . كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة .
وظاهر أن هذه الأوضاع لم تكن إلا أوضاعاً موقتة , تواجه أحوالاً واقعة ; ولم تكن أحكاماً نهائية في العلاقات الدولية الإسلامية ; وأنها عدلت فيما بعد تعديلات متوالية , حتى استقرت في الأحكام التي نزلت في سورة براءة . .
وهذه المراحل التي مرت بها هذه العلاقات سبق في الجزء التاسع أن نقلنا لها تلخيصاً جيداً للإمام ابن القيم في زاد المعاد . ولا نرى بأساً من إعادة هذا التلخيص هنا لضرورته:
"فصل في ترتيب سياق هديه [ [ ص ] ] مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل . . أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى:أن يقرأ باسم ربه الذي خلق . وذلك أول نبوته . فأمره أن يقرأ في نفسه , ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ . ثم أنزل عليهيا أيها المدثر . قم فأنذر)فنبأه بقولهاقرأ)وأرسله ب(يا أيها المدثر). ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين . ثم أنذر قومه . ثم أنذر من حولهم من العرب . ثم أنذر العرب قاطبة . ثم أنذر العالمين . فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ; ويؤمر بالكف والصبر والصفح . ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال . ثم أمره أن يقاتل من قاتله , ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله . ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله . . ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام:أهل صلح وهدنة , وأهل حرب , وأهل ذمة . . فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم , وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد , فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ,
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
وأمر أن يقاتل من نقض عهده . . ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها:فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام . وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم . فجاهد الكفار بالسيف والسنان , والمنافقين بالحجة واللسان . وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم إليهم . . وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام:قسماً أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له , فحاربهم وظهر عليهم . وقسماً لهم عهد موقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليهفأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم . وقسماً لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق , فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر , فإذا انسلخت قاتلهم . فقتل الناقض لعهده ; وأجل من لا عهد له , أو له عهد مطلق , أربعة أشهر . وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته , فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية . . . إلخ " . .
ومن مراجعة هذا التلخيص الجيد , ومراجعة أحداث السيرة , وتاريخ نزول السور والآيات التي تتضمن هذه الأحكام , يتبين لنا أن آيات سورة الأنفال التي نحن بصددها هنا , تمثل مرحلة وسيطة بين ما كان عليه الحال أول العهد بالمدينة , وما انتهى إليه الحال بعد نزول سورة براءة . ويجب أن تدرس هذه النصوص في ضوء هذه الاعتبارات . . ومع أنها تقرر بعض القواعد الأساسية , إلا أنها لا تمثلها في صورتها النهائية . فالصورة النهائية تمثلها نصوص سورة براءة , والتطبيقات العملية لها في أواخر حياة رسول الله [ ص ] كما سيأتي . .
وفي ضوء هذا البيان نستطيع أن نواجه هذه النصوص القرآنية:
الدرس:55-63
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). .
ولفظ(الدواب)وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض , فيشمل الأناسي فيما يشمل , إلا أنه - كما أسلفنا - يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين . . ظل البهيمة . . ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض ! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان ! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة !
وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص . . قيل:إنهم بنو قريظة , وقيل:إنهم بنو النضير . وقيل:إنهم بنو قينقاع . وقيل:إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين . . والنص والواقع التاريخي كلاهما يحتمل أن يكونوا هؤلاء جميعاً . فلقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله [ ص ] طائفة طائفة , كما أنه قد تكرر نقض المشركين لعهودهم أيضاً . . والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالة واقعة قبل بدر وبعدها , إلى حين نزول هذه الآيات . ولكن الحكم الصادر فيها , المصور لطبيعة الناقضين للعهد يصور حالة دائمة , ويقرر صفة ثابتة . .
فهؤلاء الذين كفروا ولّجوا في الكفر (فهم لا يؤمنون). . ففسدت بذلك فطرتهم , وباتوا بذلك شر الدواب عند الله . هؤلاء الذين ينقضون كل عهد أبرموه , فتجردوا بذلك من خصيصة إنسانية أخرى - خصيصة التقيد بالعهد - وانطلقوا من كل قيد , كما تنطلق البهيمة , لولا أن البهيمة مقيدة بضوابط فطرتها , وهؤلاء لا ضابط لهم . فهم بذلك شر الدواب عند الله !
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ; وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم , والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم , إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم , والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين , مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58)
(فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون). .
وإنه لتعبير عجيب , يرسم صورة للأخذ المفزع , والهول المرعب , الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد , وانطلقوا من ضوابط الإنسان , ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً , وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ; وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة , ولا بد له من قوة , ولا بد له من سطوة , ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ , في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت , هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ; وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة ; وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً:
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . إن الله لا يحب الخائنين). .
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده ; فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية ; ولم يخن ولم يغدر ; ولم يغش ولم يخدع ; وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم . فليس بينه وبينهم أمان . . وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة , وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة . . إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ ; ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم . . فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة , لأن كل خصم قد أخذ حذره ; فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل ! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة !
إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ; ويريد للبشرية أن تعف ; فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب ; وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ; ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة .
إن الإسلام يكره الخيانة , ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ; ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة . . إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ; ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة , فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة . . وليس مسلما من يبرر الوسيلة بالغاية , فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية , لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات . . إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل , فإن الشط الممرع لا بد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية . . من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة:
(إن الله لا يحب الخائنين).
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59)
ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق . لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان . قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت . ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي . ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع ; حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي ! وعلى الذين يبهرهم "التقدم الفني في صناعة القانون" أن يدركوا حقيقة "الواقع" بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً !
وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر , ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر !
(ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون). .
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق , لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم , ولن يفلت الخائنين لخيانتهم . والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم , وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم .
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخلصوا النية فيها لله - من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة . فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض , ويعلون كلمته في الناس , وينطلقون باسمه . يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ; فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ; وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ; وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل , ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ; والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ; ويخص (رباط الخيل)لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في "الأرض" لتحرير "الإنسان" . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة:أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ; فلا يصدوا عنها , ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني:أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على "دار الإسلام" التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث:أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" كله في "الأرض" كلها . . والأمر الرابع:أن تحطم هذه القوة كل قوة
ومن مراجعة هذا التلخيص الجيد , ومراجعة أحداث السيرة , وتاريخ نزول السور والآيات التي تتضمن هذه الأحكام , يتبين لنا أن آيات سورة الأنفال التي نحن بصددها هنا , تمثل مرحلة وسيطة بين ما كان عليه الحال أول العهد بالمدينة , وما انتهى إليه الحال بعد نزول سورة براءة . ويجب أن تدرس هذه النصوص في ضوء هذه الاعتبارات . . ومع أنها تقرر بعض القواعد الأساسية , إلا أنها لا تمثلها في صورتها النهائية . فالصورة النهائية تمثلها نصوص سورة براءة , والتطبيقات العملية لها في أواخر حياة رسول الله [ ص ] كما سيأتي . .
وفي ضوء هذا البيان نستطيع أن نواجه هذه النصوص القرآنية:
الدرس:55-63
(إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون . الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). .
ولفظ(الدواب)وإن كان يشمل كل ما دب على الأرض , فيشمل الأناسي فيما يشمل , إلا أنه - كما أسلفنا - يلقي ظلاً خاصاً حين يطلق على الآدميين . . ظل البهيمة . . ثم يصبح هؤلاء الآدميون شر البهيمة التي تدب على الأرض ! وهؤلاء هم الذين كفروا حتى بلغ بهم الكفر ألا يصير حالهم إلى الإيمان ! وهم الذين ينقضون عهدهم في كل مرة ولا يتقون الله في مرة !
وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص . . قيل:إنهم بنو قريظة , وقيل:إنهم بنو النضير . وقيل:إنهم بنو قينقاع . وقيل:إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين . . والنص والواقع التاريخي كلاهما يحتمل أن يكونوا هؤلاء جميعاً . فلقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله [ ص ] طائفة طائفة , كما أنه قد تكرر نقض المشركين لعهودهم أيضاً . . والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالة واقعة قبل بدر وبعدها , إلى حين نزول هذه الآيات . ولكن الحكم الصادر فيها , المصور لطبيعة الناقضين للعهد يصور حالة دائمة , ويقرر صفة ثابتة . .
فهؤلاء الذين كفروا ولّجوا في الكفر (فهم لا يؤمنون). . ففسدت بذلك فطرتهم , وباتوا بذلك شر الدواب عند الله . هؤلاء الذين ينقضون كل عهد أبرموه , فتجردوا بذلك من خصيصة إنسانية أخرى - خصيصة التقيد بالعهد - وانطلقوا من كل قيد , كما تنطلق البهيمة , لولا أن البهيمة مقيدة بضوابط فطرتها , وهؤلاء لا ضابط لهم . فهم بذلك شر الدواب عند الله !
هؤلاء الذين لا يستطيع أحد أن يطمئن إلى عهدهم وجوارهم . . جزاؤهم هو حرمانهم الأمن كما حرموا غيرهم الأمن ; وجزاؤهم هو تخويفهم وتشريدهم , والضرب على أيديهم بشدة لا ترهبهم وحدهم , إنما ترهب من يتسامع بهم ممن وراءهم من أمثالهم , والرسول [ ص ] ومن بعده من المسلمين , مأمورون - إذا التقوا بأمثال هؤلاء في القتال - أن يصنعوا بهم ذلك الصنيع:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58)
(فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون). .
وإنه لتعبير عجيب , يرسم صورة للأخذ المفزع , والهول المرعب , الذي يكفي السماع به للهرب والشرود . فما بال من يحل به هذا العذاب الرعيب ? إنها الضربة المروّعة يأمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يأخذ بها هؤلاء الذين مردوا على نقض العهد , وانطلقوا من ضوابط الإنسان , ليؤمن المعسكر الإسلامي أولاً , وليدمر هيبة الخارجين عليه أخيراً ; وليمنع كائناً من كان أن يجرؤ على التفكير في الوقوف في وجه المد الإسلامي من قريب أو من بعيد . .
إنها طبيعة هذا المنهج التي يجب أن تستقر صورتها في قلوب العصبة المسلمة . إن هذا الدين لا بد له من هيبة , ولا بد له من قوة , ولا بد له من سطوة , ولا بد له من الرعب الذي يزلزل الطواغيت حتى لا تقف للمد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من كل طاغوت . والذين يتصورون أن منهج هذا الدين هو مجرد الدعوة والتبليغ , في وجه العقبات المادية من قوى الطاغوت , هم ناس لا يعرفون شيئاً عن طبيعة هذا الدين !
وهذا هو الحكم الأول يتعلق بحالة نقض العهد فعلاً مع المعسكر الإسلامي ; وما ينبغي أن يتبع في ضرب الناقضين للعهد وإرهابهم وإرهاب من وراءهم بالضربة القاصمة المروعة الهائلة .
فأما الحكم الثاني فيتعلق بحالة الخوف من نقض العهد وتوقع الخيانة ; وذلك بظهور أفعال وأمارات تدل على أن القوم يهمون بنقض العهد فعلاً:
(وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء . إن الله لا يحب الخائنين). .
إن الإسلام يعاهد ليصون عهده ; فإذا خاف الخيانة من غيره نبذ العهد القائم جهرة وعلانية ; ولم يخن ولم يغدر ; ولم يغش ولم يخدع ; وصارح الآخرين بأنه نفض يده من عهدهم . فليس بينه وبينهم أمان . . وبذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة , وإلى آفاق من الأمن والطمأنينة . . إنه لا يبيت الآخرين بالهجوم الغادر الفاجر وهم آمنون مطمئنون إلى عهود ومواثيق لم تنقض ولم تنبذ ; ولا يروّع الذين لم يأخذوا حذرهم حتى وهو يخشى الخيانة من جانبهم . . فأما بعد نبذ العهد فالحرب خدعة , لأن كل خصم قد أخذ حذره ; فإذا جازت الخدعة عليه فهو غير مغدور به إنما هو غافل ! وكل وسائل الخدعة حينئذ مباحة لأنها ليست غادرة !
إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ; ويريد للبشرية أن تعف ; فلا يبيح الغدر في سبيل الغلب ; وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ; ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة .
إن الإسلام يكره الخيانة , ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ; ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة . . إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ; ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة , فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة . . وليس مسلما من يبرر الوسيلة بالغاية , فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية , لأنه لا انفصال في تكوين النفس البشرية وعالمها بين الوسائل والغايات . . إن الشط الممرع لا يغري المسلم بخوض بركة من الوحل , فإن الشط الممرع لا بد أن تلوثه الأقدام الملوثة في النهاية . . من أجل هذا كله يكره الله الخائنين ويكره الله الخيانة:
(إن الله لا يحب الخائنين).
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59)
ويجب أن نذكر أن هذه الأحكام كانت تتنزل والبشرية بجملتها لا تتطلع إلى مثل هذا الأفق المشرق . لقد كان قانون الغابة هو قانون المتحاربين حتى ذلك الزمان . قانون القوة التي لا تتقيد بقيد متى قدرت . ويجب أن نذكر كذلك أن قانون الغابة هو الذي ظل يحكم المجتمعات الجاهلية كلها بعد ذلك إلى القرن الثامن عشر الميلادي حيث لم تكن أوربا تعرف شيئاً عن المعاملات الدولية إلا ما تقتبسه في أثناء تعاملها مع العالم الإسلامي . ثم هي لم ترتفع قط حتى اللحظة إلى هذا الأفق في عالم الواقع ; حتى بعد ما عرفت نظرياً شيئاً اسمه القانون الدولي ! وعلى الذين يبهرهم "التقدم الفني في صناعة القانون" أن يدركوا حقيقة "الواقع" بين الإسلام والنظم المعاصرة جميعاً !
وفي مقابل هذه النصاعة وهذه النظافة يعد الله المسلمين النصر , ويهوّن عليهم أمر الكفار والكفر !
(ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا , إنهم لا يعجزون). .
فتبييتهم الغدر والخيانة لن يمنحهم فرصة السبق , لأن الله لن يترك المسلمين وحدهم , ولن يفلت الخائنين لخيانتهم . والذين كفروا أضعف من أن يعجزوا الله حين يطلبهم , وأضعف من أن يعجزوا المسلمين والله ناصرهم .
فليطمئن أصحاب الوسائل النظيفة - متى أخلصوا النية فيها لله - من أن يسبقهم أصحاب الوسائل الخسيسة . فإنما هم منصورون بالله الذي يحققون سنته في الأرض , ويعلون كلمته في الناس , وينطلقون باسمه . يجاهدون ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك .
ولكن الإسلام يتخذ للنصر عدته الواقعية التي تدخل في طوق العصبة المسلمة ; فهو لا يعلق أبصارها بتلك الآفاق العالية إلا وقد أمن لها الأرض الصلبة التي تطمئن عليها أقدامها ; وهيأ لها الأسباب العملية التي تعرفها فطرتها وتؤيدها تجاربها ; وإلا إذا أعدها هي للحركة الواقعية التي تحقق هذه الغايات العلوية:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل , ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم . وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون).
فالاستعداد بما في الطوق فريضة تصاحب فريضة الجهاد ; والنص يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وألوانها وأسبابها ; ويخص (رباط الخيل)لأنه الأداة التي كانت بارزة عند من كان يخاطبهم بهذا القرآن أول مرة . . ولو أمرهم بإعداد أسباب لا يعرفونها في ذلك الحين مما سيجد مع الزمن لخاطبهم بمجهولات محيرة - تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا - والمهم هو عموم التوجيه:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في "الأرض" لتحرير "الإنسان" . . وأول ما تصنعه هذه القوة في حقل الدعوة:أن تؤمن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارها ; فلا يصدوا عنها , ولا يفتنوا كذلك بعد اعتناقها . . والأمر الثاني:أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على "دار الإسلام" التي تحميها تلك القوة . . والأمر الثالث:أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء أن لا يفكروا في الوقوف في وجه المد الإسلامي , وهو ينطلق لتحرير "الإنسان" كله في "الأرض" كلها . . والأمر الرابع:أن تحطم هذه القوة كل قوة
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية , فتحكم الناس بشرائعها هي وسلطانها ; ولا تعترف بأن الألوهية لله وحده ; ومن ثم فالحاكمية له وحده سبحانه . .
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60)
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب , وتنظيماً للشعائر , ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ; يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية , وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى , وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ; ولا لتقرير سلطان زعيم , أو دولة , أو طبقة , أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ; ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ; ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير , ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ; وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة:
(ترهبون به عدو الله وعدوكم , وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ; ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم , أو لم يجهروا لهم بالعداوة , واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء , وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ; ولتكون كلمة اللّه هي العليا , وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا , وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل , فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله:
(وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله , من كل غاية أرضية , ومن كل دافع شخصي ; ومن كل شعور قومي أو طبقي , ليتمحض خالصا للّه "في سبيل اللّه" لتحقيق كلمة اللّه , ابتغاء رضوان اللّه .
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن , أو قوم على قوم , أو جنس على جنس , أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ; ويجنحون إلى السلم والمسالمة ; وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها , وتوكل على الله . إنه هو السميع العليم).
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح , تعبير لطيف , يلقي ظل الدعة الرقيق . فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم , ويرخي ريشه في وداعة ! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر . وفي التوكل عليه الكفاية والأمان .
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله [ ص ] وموقفه كذلك منهم , أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم , يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله [ ص ] ولم يقاتله ; وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية , ولا للدولة المسلمة . وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يترك هذا الفريق , وأن يقبل مهادنته ومسالمته [ وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد , أو كان له عهد غير موقت , مدة أربعة أشهر , يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه ] ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات , ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن , وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله [ ص ] .
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه . فقد عمل رسول الله [ ص ] به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة . .
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية . . ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ; فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة , وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ; ولم تكن أحكام الجزية موجودة . والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي , أن يقال:إن هذا الحكم ليس نهائياً ; وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة [ التوبة ] والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام:إما محاربين يحاربون . وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله . وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا . . وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي . وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية , وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد:
قال أحمد:حدثنا وكيع , حدثنا سفيان , عن علقمة بن مرثد , عن سليمان بن يزيد , عن أبيه , عنيزيد بن الخطيب الأسلمي - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله [ ص ] إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله , وبمن معه من المسلمين خيراً , وقال:" اغزوا باسم الله . في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال , أو خلال , فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم , وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين , ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب , إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " . .
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين , مع ذكر الجزية . . والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ; وبعد الفتح لم تعد هجرة [ بالقياس إلى الجماعة المسلمة الاولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن ] والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ; وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية . فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس , وهم مثلهم في الشرك ; ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم . وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد [ أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك , وروى غيره عن أبي حنيفة ]:
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه , أن قول الله تعالى:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب , وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة . إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد , أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين . وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة . فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ; ليكون الدين كله لله .
ولقد استطردت - بعض الشيء - في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام" ; فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ; ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث:الإسلام , أو الجزية , أو القتال , وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ; وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ; كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ; ولا حول لهم في الأرض ولا قوة . . وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤلوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ; ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته !
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية , فيجعلون منها نصوصاً نهائية ; وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة , فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ; حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوصالمقيدة المرحلية ! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين , وعن دار الإسلام عندما تهاجم ! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة . والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ! إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع , أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه , ولا بالخضوع لمنهج الله , اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ! أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه , فيتحرك حينئذ للدفاع !
ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر , أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع - دون ليّ لأعناق النصوص - لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ; ولاستطاعوا أن يقولوا:إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو , ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة ; إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة .
وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات:
لقد عقد رسول الله [ ص ] أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة . مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله [ ص ] والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش , والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة , أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله [ ص ] وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم , وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً , وأن يوادعهم ما وادعوه . . . ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا .
ولما كانت غزوة الخندق ; وتجمع المشركون على المدينة ; ونقضت بنو قريظة العهد ; وخاف رسول الله [ ص ] على المسلمين ; عرض على عيينة بن حصن الفزاري , والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة , وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها . وكانت هذه المقالة من رسول الله [ ص ] لهما مراوضة ولم تكن عقداً . فلما رأى رسول الله [ ص ] منهما أنهما قد رضيا , استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا:يا رسول الله , هذا أمر تحبه فنصنعه لك ? أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ? او أمر تصنعه لنا ? فقال:" بل أمر أصنعه لكم , فان العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بن معاذ:يا رسول الله , والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان , ولا نعبد الله ولا نعرفه , وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة , إلا شراء أو قرى . فحين أكرمنا الله بالإسلام , وهدانا له , وأعزنا بك , نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله [ ص ] وقال:" أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث:" انصرفا , فليس لكما عندنا إلا السيف " . . فهذا الذي فكر فيه رسول الله [ ص ] إجراء لمواجهة الضرورة . . وليس حكماً نهائياً . .
وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون , وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين , وأن يأمن الناس بعضهم من بعض , وأن يرجع عنهم عامه ذلك , حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً , وألا يدخلها إلا بسلاح الراكبوالسيوف في القرب , وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه , ومن أتاه من أصحاب المشركين رده . . . وقد رضي رسول الله [ ص ] بما ألهمه الله - هذه الشروط , التي تبدو في ظاهرها مجحفة , لأمر يريده الله ألهم به رسوله . . وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة ; تتصرف من خلاله القيادة المسلمة . .
إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة , وهو منهج متحرك مرن , ولكنه متين واضح , والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! وإنما المطلوب هو تقوى الله , والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي , والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع , وهو دين مسيطر حاكم , يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه . .
وعندما أمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يقبل موادعة من وادعوه , وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه ; وجهه إلى التوكل عليه , وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
ثم أمنه من خداعهم , إن هم أرادوا خيانته , وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم . وقال له:إن الله حسبه وكافيه وحافظه ; وهو الذي أيده بنصره - في بدر - وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام ; وكانت عصية على التآلف , لا يملك تأليفها إلا الله القدير الحكيم:
(وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله , هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم). .
حسبك الله , فهو كافيك , وهو الذي أيدك بنصره أول مرة , وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ; وجعل منهم قوة موحدة , بعد أن كانت قلوبهم شتى , وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديداً . سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج - وهم الأنصار - فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً . . أو كان المقصود هم المهاجرون , وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية . . أو كان الجميع مقصودين , فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً !
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله , والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ; فاستحالت هذه القلوب النافرة , وهذه الطباع الشموس , إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض , المحب بعضها لبعض , المتآلف بعضها مع بعض , بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ ; والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة -: ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين .
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب , تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب , التي تلين جاسيها , وترقق حواشيها , وتندي جفافها , وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد , ونطق الجارحة , وخفقة القلب , ترانيم من التعارف والتعاطف , والولاء والتناصر , والسماحة والهوادة , لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ; ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله ; وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه ,
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله .
يقول رسول الله [ ص ]:" إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى " قالوا:يا رسول الله تخبرنا من هم . قال:" هم قوم تحابوا بروح الله بينهم , على غير أرحام بينهم , ولا أموال يتعاطونها , والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور . لا يخافون إذا خاف الناس , ولا يحزنون إذا حزن الناس " . . [ أخرجه أبو داود ] .
ويقول [ ص ]:" إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم , فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار " . . [ رواه الطبراني ] .
وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب ; وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته [ ص ] ; كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة , ولا مجرد أعمال مثالية فردية ; إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت , بإذن الله , الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه .
الدرس الثاني:64 - 66 وحدة الصف الإسلامي والتخفيف في القتال
بعد ذلك يمضي السياق يطمئن رسول الله [ ص ] والعصبة المسلمة من ورائه , إلى ولاية الله - سبحانه - له ولها ; وهو حسبه وحسبها ; ثم يأمره بتحريض المؤمنين على القتال في سبيل الله ; فهم أكفاء لعشرة أمثالهم ممن لا يفقهون فقههم ; وهم على الأقل أكفاء لمثليهم في أضعف الحالات:
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين . يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال , إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا , بأنهم قوم لا يفقهون . الآن خفف الله عنكم , وعلم أن فيكم ضعفاً , فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله , والله مع الصابرين . .
ويقف الفكر ليستعرض القوة التي لا راد لها , ولا معقب عليها - قوة الله القوي العزيز - وأمامها تلك القوة الضئيلة العاجزة الهزيلة - التي تتصدى لكتائب الله - فإذا الفرق شاسع , والبون بعيد . وإذا هي معركة مضمونة العاقبة , معروفة النهاية , مقررة المصير . . وهذا كله يتضمنه قوله تعالى:
(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين). .
ومن ثم يأتي الأمر بتحريض المؤمنين على القتال - في سبيل الله - وقد تهيأت كل نفس , واستعد كل قلب وشد كل عصب , وتحفز كل عرق ; وانسكبت في القلوب الطمأنينة والثقة واليقين:
(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال). .
حرضهم وهم لعدوهم وعدو الله كفء , وإن قل عددهم وكثر أعداؤهم وأعداء الله حولهم:
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا . .
فأما تعليل هذا التفاوت فهو تعليل مفاجيء عجيب . ولكنه صادق عميق:
(بأنهم قوم لا يفقهون). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60)
إن الإسلام ليس نظاماً لاهوتياً يتحقق بمجرد استقراره عقيدة في القلوب , وتنظيماً للشعائر , ثم تنتهي مهمته ! إن الإسلام منهج عملي واقعي للحياة ; يواجه مناهج أخرى تقوم عليها سلطات وتقف وراءها قوى مادية . فلا مفر للإسلام - لإقرار منهجه الرباني - من تحطيم تلك القوى المادية , وتدمير السلطات التي تنفذ تلك المناهج الأخرى , وتقاوم المنهج الرباني . .
وينبغي للمسلم ألا يتمتم ولا يجمجم وهو يعلن هذه الحقيقة الكبيرة . . ينبغي ألا يستشعر الخجل من طبيعة منهجه الرباني . ينبغي أن يذكر أن الإسلام حين ينطلق في الأرض إنما ينطلق لإعلان تحرير الإنسان بتقرير ألوهية الله وحده وتحطيم ألوهية العبيد ! إنه لا ينطلق بمنهج من صنع البشر ; ولا لتقرير سلطان زعيم , أو دولة , أو طبقة , أو جنس ! إنه لا ينطلق لاسترقاق العبيد ليفلحوا مزارع الأشراف كالرومان ; ولا لاستغلال الأسواق والخامات كالرأسمالية الغربية ; ولا لفرض مذهب بشري من صنع بشر جاهل قاصر كالشيوعية وما إليها من المذاهب البشرية . . إنما ينطلق بمنهج من صنع الله العليم الحكيم الخبير البصير , ولتقرير ألوهية الله وحده وسلطانه لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعبيد . .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يدركها المهزومون الذين يقفون بالدين موقف الدفاع ; وهم يتمتمون ويجمجمون للاعتذار عن المد الإسلامي ! والجهاد الإسلامي .
ويحسن أن نعرف حدود التكليف بإعداد القوة . فالنص يقول:
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). .
فهي حدود الطاقة إلى أقصاها . بحيث لا تقعد العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها . كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة:
(ترهبون به عدو الله وعدوكم , وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). .
فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض . الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون ; ومن وراءهم ممن لا يعرفونهم , أو لم يجهروا لهم بالعداوة , واللّه يعلم سرائرهم وحقائقهم . وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم . والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء , وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض ; ولتكون كلمة اللّه هي العليا , وليكون الدين كله للّه .
ولما كان إعداد العدة يقتضي أموالا , وكان النظام الإسلامي كله يقوم على أساس التكافل , فقد اقترنت الدعوة إلى الجهاد بالدعوة إلى إنفاق المال في سبيل الله:
(وما تنفقوا من شيء - في سبيل الله - يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). .
وهكذا يجرد الإسلام الجهاد والنفقة في سبيله , من كل غاية أرضية , ومن كل دافع شخصي ; ومن كل شعور قومي أو طبقي , ليتمحض خالصا للّه "في سبيل اللّه" لتحقيق كلمة اللّه , ابتغاء رضوان اللّه .
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
ومن ثم ينفي الإسلام من حسابه - منذ الوهلة الاولى - كل حرب تقوم على أمجاد الأشخاص والدول . وكل حرب تقوم للاستغلال وفتح الأسواق . وكل حرب تقوم للقهر والإذلال . وكل حرب تقوم لتسويد وطن على وطن , أو قوم على قوم , أو جنس على جنس , أو طبقة على طبقة . . ويستبقي نوعاً واحداً من الحركة . . حركة الجهاد في سبيل الله . . والله - سبحانه - لا يريد تسويد جنس ولا وطن ولا قوم ولا طبقة ولا فرد ولا شعب . إنما يريد أن تسود ألوهيته وسلطانه وحاكميته . وهو غني عن العالمين . ولكن سيادة ألوهيته هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للعالمين .
والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ; ويجنحون إلى السلم والمسالمة ; وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها , وتوكل على الله . إنه هو السميع العليم).
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح , تعبير لطيف , يلقي ظل الدعة الرقيق . فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم , ويرخي ريشه في وداعة ! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر . وفي التوكل عليه الكفاية والأمان .
وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله [ ص ] وموقفه كذلك منهم , أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم , يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله [ ص ] ولم يقاتله ; وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية , ولا للدولة المسلمة . وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يترك هذا الفريق , وأن يقبل مهادنته ومسالمته [ وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد , أو كان له عهد غير موقت , مدة أربعة أشهر , يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه ] ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات , ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن , وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله [ ص ] .
ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه . فقد عمل رسول الله [ ص ] به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة . .
ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية . . ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ; فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة , وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ; ولم تكن أحكام الجزية موجودة . والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي , أن يقال:إن هذا الحكم ليس نهائياً ; وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة [ التوبة ] والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام:إما محاربين يحاربون . وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله . وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا . . وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي . وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية , وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد:
قال أحمد:حدثنا وكيع , حدثنا سفيان , عن علقمة بن مرثد , عن سليمان بن يزيد , عن أبيه , عنيزيد بن الخطيب الأسلمي - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله [ ص ] إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله , وبمن معه من المسلمين خيراً , وقال:" اغزوا باسم الله . في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال , أو خلال , فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم , وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين , وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين , ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب , إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " . .
والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين , مع ذكر الجزية . . والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ; وبعد الفتح لم تعد هجرة [ بالقياس إلى الجماعة المسلمة الاولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن ] والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ; وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية . فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس , وهم مثلهم في الشرك ; ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم . وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد [ أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك , وروى غيره عن أبي حنيفة ]:
وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه , أن قول الله تعالى:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب , وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة . إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد , أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين . وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة . فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ; ليكون الدين كله لله .
ولقد استطردت - بعض الشيء - في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام" ; فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ; ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث:الإسلام , أو الجزية , أو القتال , وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ; وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ; كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ; ولا حول لهم في الأرض ولا قوة . . وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤلوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ; ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته !
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية , فيجعلون منها نصوصاً نهائية ; وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة , فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ; حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوصالمقيدة المرحلية ! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين , وعن دار الإسلام عندما تهاجم ! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة . والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ! إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع , أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه , ولا بالخضوع لمنهج الله , اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ! أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه , فيتحرك حينئذ للدفاع !
ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر , أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع - دون ليّ لأعناق النصوص - لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ; ولاستطاعوا أن يقولوا:إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو , ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة ; إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة .
وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات:
لقد عقد رسول الله [ ص ] أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة . مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله [ ص ] والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش , والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة , أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله [ ص ] وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم , وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً , وأن يوادعهم ما وادعوه . . . ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا .
ولما كانت غزوة الخندق ; وتجمع المشركون على المدينة ; ونقضت بنو قريظة العهد ; وخاف رسول الله [ ص ] على المسلمين ; عرض على عيينة بن حصن الفزاري , والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة , وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها . وكانت هذه المقالة من رسول الله [ ص ] لهما مراوضة ولم تكن عقداً . فلما رأى رسول الله [ ص ] منهما أنهما قد رضيا , استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا:يا رسول الله , هذا أمر تحبه فنصنعه لك ? أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ? او أمر تصنعه لنا ? فقال:" بل أمر أصنعه لكم , فان العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بن معاذ:يا رسول الله , والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان , ولا نعبد الله ولا نعرفه , وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة , إلا شراء أو قرى . فحين أكرمنا الله بالإسلام , وهدانا له , وأعزنا بك , نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله [ ص ] وقال:" أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث:" انصرفا , فليس لكما عندنا إلا السيف " . . فهذا الذي فكر فيه رسول الله [ ص ] إجراء لمواجهة الضرورة . . وليس حكماً نهائياً . .
وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون , وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين , وأن يأمن الناس بعضهم من بعض , وأن يرجع عنهم عامه ذلك , حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً , وألا يدخلها إلا بسلاح الراكبوالسيوف في القرب , وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه , ومن أتاه من أصحاب المشركين رده . . . وقد رضي رسول الله [ ص ] بما ألهمه الله - هذه الشروط , التي تبدو في ظاهرها مجحفة , لأمر يريده الله ألهم به رسوله . . وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة ; تتصرف من خلاله القيادة المسلمة . .
إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة , وهو منهج متحرك مرن , ولكنه متين واضح , والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! وإنما المطلوب هو تقوى الله , والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي , والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع , وهو دين مسيطر حاكم , يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه . .
وعندما أمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يقبل موادعة من وادعوه , وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه ; وجهه إلى التوكل عليه , وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة:
(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله , إنه هو السميع العليم). .
ثم أمنه من خداعهم , إن هم أرادوا خيانته , وبيتوا الغدر من وراء الجنوح إلى السلم . وقال له:إن الله حسبه وكافيه وحافظه ; وهو الذي أيده بنصره - في بدر - وأيده بالمؤمنين وجمع قلوبهم على الود والإخاء في الإسلام ; وكانت عصية على التآلف , لا يملك تأليفها إلا الله القدير الحكيم:
(وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله , هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين , وألف بين قلوبهم , لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم , ولكن الله ألف بينهم , إنه عزيز حكيم). .
حسبك الله , فهو كافيك , وهو الذي أيدك بنصره أول مرة , وأيدك بالمؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ; وجعل منهم قوة موحدة , بعد أن كانت قلوبهم شتى , وعداواتهم جاهرة وبأسهم بينهم شديداً . سواء كان المقصود هم الأوس والخزرج - وهم الأنصار - فقد كان بينهم في الجاهلية من الثارات والدماء والمنازعات ما يستحيل معه الالتئام فضلاً على هذا الإخاء الذي لم تعرف له الأرض نظيراً ولا شبيهاً . . أو كان المقصود هم المهاجرون , وهم كانوا كالأنصار في الجاهلية . . أو كان الجميع مقصودين , فقد كانت هذه هي حالة عرب الجزيرة جميعاً !
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله , والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ; فاستحالت هذه القلوب النافرة , وهذه الطباع الشموس , إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض , المحب بعضها لبعض , المتآلف بعضها مع بعض , بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ ; والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة -: ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين .
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب , تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب , التي تلين جاسيها , وترقق حواشيها , وتندي جفافها , وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد , ونطق الجارحة , وخفقة القلب , ترانيم من التعارف والتعاطف , والولاء والتناصر , والسماحة والهوادة , لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ; ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله ; وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه ,
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله .
يقول رسول الله [ ص ]:" إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى " قالوا:يا رسول الله تخبرنا من هم . قال:" هم قوم تحابوا بروح الله بينهم , على غير أرحام بينهم , ولا أموال يتعاطونها , والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور . لا يخافون إذا خاف الناس , ولا يحزنون إذا حزن الناس " . . [ أخرجه أبو داود ] .
ويقول [ ص ]:" إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم , فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار " . . [ رواه الطبراني ] .
وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب ; وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته [ ص ] ; كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة , ولا مجرد أعمال مثالية فردية ; إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت , بإذن الله , الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه .
الدرس الثاني:64 - 66 وحدة الصف الإسلامي والتخفيف في القتال
بعد ذلك يمضي السياق يطمئن رسول الله [ ص ] والعصبة المسلمة من ورائه , إلى ولاية الله - سبحانه - له ولها ; وهو حسبه وحسبها ; ثم يأمره بتحريض المؤمنين على القتال في سبيل الله ; فهم أكفاء لعشرة أمثالهم ممن لا يفقهون فقههم ; وهم على الأقل أكفاء لمثليهم في أضعف الحالات:
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين . يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال , إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا , بأنهم قوم لا يفقهون . الآن خفف الله عنكم , وعلم أن فيكم ضعفاً , فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله , والله مع الصابرين . .
ويقف الفكر ليستعرض القوة التي لا راد لها , ولا معقب عليها - قوة الله القوي العزيز - وأمامها تلك القوة الضئيلة العاجزة الهزيلة - التي تتصدى لكتائب الله - فإذا الفرق شاسع , والبون بعيد . وإذا هي معركة مضمونة العاقبة , معروفة النهاية , مقررة المصير . . وهذا كله يتضمنه قوله تعالى:
(يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين). .
ومن ثم يأتي الأمر بتحريض المؤمنين على القتال - في سبيل الله - وقد تهيأت كل نفس , واستعد كل قلب وشد كل عصب , وتحفز كل عرق ; وانسكبت في القلوب الطمأنينة والثقة واليقين:
(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال). .
حرضهم وهم لعدوهم وعدو الله كفء , وإن قل عددهم وكثر أعداؤهم وأعداء الله حولهم:
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا . .
فأما تعليل هذا التفاوت فهو تعليل مفاجيء عجيب . ولكنه صادق عميق:
(بأنهم قوم لا يفقهون). .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
فما صلة الفقه بالغلب في ظاهر الأمر ? ولكنها صلة حقيقية , وصلة قوية . . إن الفئة المؤمنة إنما تمتاز بأنها تعرف طريقها , وتفقه منهجها , وتدرك حقيقة وجودها وحقيقة غايتها . . إنها تفقه حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ; فتفقه أن الألوهية لا بد أن تنفرد وتستعلي , وأن العبودية يجب أن تكون لله وحده بلا شريك . وتفقه أنها هي - الأمة المسلمة - المهتدية بهدى الله , المنطلقة في الأرض بإذن الله لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ; وأنها هي المستخلفة عن الله في الأرض ; الممكنة فيها لا لتستعلي هي تستمع ; ولكن لتعلي كلمة الله وتجاهد في سبيل الله ; ولتعمر الأرض بالحق ; وتحكم بين الناس بالقسط ; وتقيم في الأرض مملكة الله التي تقوم على العدل بين الناس . . وكل ذلك فقه يسكب في قلوب العصبة المسلمة النور والثقة والقوة واليقين ; ويدفع بها إلى الجهاد في سبيل الله في قوة وفي طمأنينة للعاقبة تضاعف القوة . بينما أعداؤها (قوم لا يفقهون). قلوبهم مغلقة , وبصائرهم مطموسة ; وقوتهم كليلة عاجزة مهما تكن متفوقة ظاهرة . إنها قوة منقطعة معزولة عن الأصل الكبير !
وهذه النسبة . . واحد لعشرة . . هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون . . وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي:واحد لاثنين:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله , والله مع الصابرين . .
وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة , وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف . . وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها . . فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق ; وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم , وتثبت أقدامهم ; وليست أحكاماً تشريعية - فيما نرجح - والله أعلم بما يريد .
الدرس الثالث:67 - 71 العتاب في أسرى بدر
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى - بمناسبة تصرف الرسول [ ص ] والمسلمين في أسرى بدر - وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض , تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة , والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم).
وهذه النسبة . . واحد لعشرة . . هي الأصل في ميزان القوى بين المؤمنين الذين يفقهون والكافرين الذين لا يفقهون . . وحتى في أضعف حالات المسلمين الصابرين فإن هذه النسبة هي:واحد لاثنين:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين , وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله , والله مع الصابرين . .
وقد فهم بعض المفسرين والفقهاء أن هذه الآيات تتضمن أمراً للذين آمنوا ألا يفر الواحد منهم من عشرة في حالة القوة , وألا يفر الواحد من اثنين في حالة الضعف . . وهناك خلافات فرعية كثيرة لا ندخل نحن فيها . . فالراجح عندنا أن الآيات إنما تتضمن حقيقة في تقدير قوة المؤمنين في مواجهة عدوهم في ميزان الله وهو الحق ; وأنها تعريف للمؤمنين بهذه الحقيقة لتطمئن قلوبهم , وتثبت أقدامهم ; وليست أحكاماً تشريعية - فيما نرجح - والله أعلم بما يريد .
الدرس الثالث:67 - 71 العتاب في أسرى بدر
ومن التحريض على القتال ينتقل السياق إلى بيان حكم الأسرى - بمناسبة تصرف الرسول [ ص ] والمسلمين في أسرى بدر - وإلى الحديث إلى هؤلاء الأسرى وترغيبهم في الإيمان وما وراءه من حسن العوض عما فاتهم وعما لحقهم من الخسارة في الموقعة:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض , تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة , والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم . فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم).
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى:إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم , والله غفور رحيم . وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم , والله عليم حكيم). .
قال ابن إسحاق - وهو يقص أخبار الغزوة -:" فلما وضع القوم أيديهم يأسرون , ورسول الله [ ص ] في العريش , وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله [ ص ] متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله [ ص ] يخافون عليه كرة العدو , ورأى رسول الله [ ص ] فيما ذكر لي , في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ,
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
فقال له رسول الله [ ص ]:" والله لكأنك يا سعد تكره مايصنع القوم ! " قال:أجل والله يا رسول الله , كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك , فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ! "
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم - قال:لما كان يومئذ التقوا , فهزم الله المشركين , فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً , واستشار رسول الله [ ص ] أبا بكر وعمر وعلياً . فقال أبو بكر:يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ; وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية , فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار , وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً . فقال رسول الله [ ص ]:" ما ترى يا ابن الخطاب ? " قال قلت:والله ما أرى رأي أبي بكر , ولكني أرى أن تمكني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه , وتمكن علياً من عقيل [ ابن أبي طالب ] فيضرب عنقه , وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه , حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين , هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ! . . فهوى رسول الله - [ ص ] - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت , وأخذ منهم الفداء . . فلما كان من الغد - قال عمر - فغدوت إلى النبي [ ص ] وأبي بكر وهما يبكيان . فقلت:ما يبكيك أنت وصاحبك ? فإن وجدت بكاء بكيت , وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ! قال النبي [ ص ]:" للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء . لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة من النبي [ ص ] - وأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)إلى قوله: (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً)فأحل لهم الغنائم . . . ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني .
وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن هاشم , عن حميد , عن أنس - رضي الله عنه - قال:استشار النبي [ ص ] الناس في الأسارى يوم بدر , فقال:" إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال:يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال:" يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر فقال:يا رسول الله , اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال للناس مثل ذلك . فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال:يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء . قال:فذهب عن وجه رسول الله [ ص ] ما كان فيه من الغم , فعفا عنهم وقبل منهم الفداء . قال:وأنزل الله عز وجللولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
وقال الأعمش , عن عمر بن مرة , عن أبي عبيدة , عن عبد الله , قال:لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ]:" ما تقولون في الأسارى ? " فقال أبو بكر:يا رسول الله , قومك وأهلك , استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم . . وقال عمر:يا رسول الله , كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم . . وقال عبدالله بن رواحة:يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب . فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه ! فسكت رسول الله [ ص ] فلم يرد عليهم شيئاً . ثم قام فدخل . فقال ناس:يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس:يأخذ بقول عمر . وقال ناس:يأخذ بقول عبدالله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله [ ص ] فقال:" إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن , وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة , وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيمعليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قالإن تعذبهم فإنهم عبادك , وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً). أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود:قلت:يا رسول الله , إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام ! فسكت رسول الله [ ص ] فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على ّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم , حتى قال رسول الله [ ص ] " إلا سهيل بن بيضاء " . فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . . .)إلى آخر الآية . . . [ رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به , والحاكم في مستدركه وقال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه ] .
والإثخان المقصود:التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين , وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر . فعاتب الله المسلمين فيه .
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين . وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة . وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين . وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء .
قال ابن إسحاق - وهو يقص أخبار الغزوة -:" فلما وضع القوم أيديهم يأسرون , ورسول الله [ ص ] في العريش , وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله [ ص ] متوشحاً السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله [ ص ] يخافون عليه كرة العدو , ورأى رسول الله [ ص ] فيما ذكر لي , في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس ,
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
فقال له رسول الله [ ص ]:" والله لكأنك يا سعد تكره مايصنع القوم ! " قال:أجل والله يا رسول الله , كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك , فكان الإثخان في القتل أحب إليّ من استبقاء الرجال ! "
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم - قال:لما كان يومئذ التقوا , فهزم الله المشركين , فقتل منهم سبعون رجلاً وأسر منهم سبعون رجلاً , واستشار رسول الله [ ص ] أبا بكر وعمر وعلياً . فقال أبو بكر:يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ; وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية , فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار , وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً . فقال رسول الله [ ص ]:" ما ترى يا ابن الخطاب ? " قال قلت:والله ما أرى رأي أبي بكر , ولكني أرى أن تمكني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه , وتمكن علياً من عقيل [ ابن أبي طالب ] فيضرب عنقه , وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه , حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين , هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ! . . فهوى رسول الله - [ ص ] - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت , وأخذ منهم الفداء . . فلما كان من الغد - قال عمر - فغدوت إلى النبي [ ص ] وأبي بكر وهما يبكيان . فقلت:ما يبكيك أنت وصاحبك ? فإن وجدت بكاء بكيت , وإن لم أجد تباكيت لبكائكما ! قال النبي [ ص ]:" للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء . لقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة من النبي [ ص ] - وأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)إلى قوله: (فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً)فأحل لهم الغنائم . . . ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار اليماني .
وقال الإمام أحمد:حدثنا علي بن هاشم , عن حميد , عن أنس - رضي الله عنه - قال:استشار النبي [ ص ] الناس في الأسارى يوم بدر , فقال:" إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال:يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال:" يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر فقال:يا رسول الله , اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي [ ص ] , فقال للناس مثل ذلك . فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال:يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء . قال:فذهب عن وجه رسول الله [ ص ] ما كان فيه من الغم , فعفا عنهم وقبل منهم الفداء . قال:وأنزل الله عز وجللولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
وقال الأعمش , عن عمر بن مرة , عن أبي عبيدة , عن عبد الله , قال:لما كان يوم بدر قال رسول الله [ ص ]:" ما تقولون في الأسارى ? " فقال أبو بكر:يا رسول الله , قومك وأهلك , استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم . . وقال عمر:يا رسول الله , كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم . . وقال عبدالله بن رواحة:يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب . فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه ! فسكت رسول الله [ ص ] فلم يرد عليهم شيئاً . ثم قام فدخل . فقال ناس:يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس:يأخذ بقول عمر . وقال ناس:يأخذ بقول عبدالله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله [ ص ] فقال:" إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن , وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة , وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيمعليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قالإن تعذبهم فإنهم عبادك , وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم). وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً). أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود:قلت:يا رسول الله , إلا سهيل ابن بيضاء فإنه يذكر الإسلام ! فسكت رسول الله [ ص ] فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع على ّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم , حتى قال رسول الله [ ص ] " إلا سهيل بن بيضاء " . فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض . . .)إلى آخر الآية . . . [ رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به , والحاكم في مستدركه وقال:صحيح الإسناد ولم يخرجاه ] .
والإثخان المقصود:التقتيل حتى تضعف شوكة المشركين وتشتد شوكة المسلمين , وهذا ما كان ينبغي قبل أن يكون للنبي والمسلمين أسرى يستبقونهم ويطلقونهم بالفدية كما حدث في بدر . فعاتب الله المسلمين فيه .
لقد كانت غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين . وكان المسلمون ما يزالون قلة والمشركون ما يزالون كثرة . وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبرياءهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين . وكان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب . . ذلك هو المعنى الكبير الذي عبر عنه عمر رضي الله عنه في صرامة ونصاعة وهو يقول:" وحتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين " . .
لهذين السببين البارزين نحسب - والله أعلم - أن الله - سبحانه - كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال . ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص - وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف - قال الله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). .
"ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى:
(تريدون عرض الدنيا). .
أي:فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم ; وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم !
(والله يريد الآخرة). .
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله , فهو خير وأبقى . والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا !
(والله عزيز حكيم). .
قدر لكم النصر , وأقدركم عليه , لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)
ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون ; فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم !
لهذين السببين البارزين نحسب - والله أعلم - أن الله - سبحانه - كره للمسلمين أن يأخذوا الأسرى يوم بدر وأن يفادوهم بمال . ولهذه الظروف الواقعية التي كان يواجهها النص - وهو يواجهها كلما تكررت هذه الظروف - قال الله تعالى:
(ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض). .
"ولذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في أسرى المعركة الأولى:
(تريدون عرض الدنيا). .
أي:فأخذتموهم أسرى بدل أن تقتلوهم ; وقبلتم فيهم الفداء وأطلقتموهم !
(والله يريد الآخرة). .
والمسلمون عليهم أن يريدوا ما يريد الله , فهو خير وأبقى . والآخرة تقتضي التجرد من إرادة عرض الدنيا !
(والله عزيز حكيم). .
قدر لكم النصر , وأقدركم عليه , لحكمة يريدها من قطع دابر الكافرين(ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). .
فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)
ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون ; فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم !
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
ثم زادهم الله فضلاً ومنة ; فجعل غنائم الحرب حلالاً لهم - ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها - وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل - مذكراً إياهم بتقوى الله , وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته , لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم , فلا تغرهم المغفرة والرحمة , ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة:
(فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم). .
ثم يلمس قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء , وتطلق فيها الأمل , وتشيع فيها النور , وتعلقها بمستقبل خير من الماضي , وبحياة أكرم مما كانوا فيه , وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار . وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله:
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى:إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). .
هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان ; فيعلم الله أن فيها خيراً . . والخير هو الإيمان حتى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص . الخير محض الخير , والذي لا يسمى شيء ما خيراً إلا أن يستمد منه وينبثق منه ويقوم عليه .
إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه , ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح , وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى . لا ليستذلهم انتقاماً , ولا ليسخرهم استغلالاً ; كما كانت تتجه فتوحات الرومان ; وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام !
عن الزهري عن جماعة سماهم قال:بعثت قريش في فداء أسراهم , ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس:يا رسول الله قد كنت مسلماً ! فقال رسول الله [ ص ]:" الله أعلم بإسلامك , فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك , وأما ظاهرك فقد كان علينا , فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب , وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب , وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر ":قال ":ما ذاك عندي يا رسول الله" ! قال:" فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل , قلت لها:إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم ? " . قال:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله . إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل . فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني - عشرين أوقية من مال كان معي" ! - فقال رسول الله [ ص ]:" لا . ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك " . ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه . فأنزل الله عز وجليا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). . قال العباس:فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به , مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .
(فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً , واتقوا الله , إن الله غفور رحيم). .
ثم يلمس قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء , وتطلق فيها الأمل , وتشيع فيها النور , وتعلقها بمستقبل خير من الماضي , وبحياة أكرم مما كانوا فيه , وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار . وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله:
(يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى:إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). .
هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان ; فيعلم الله أن فيها خيراً . . والخير هو الإيمان حتى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص . الخير محض الخير , والذي لا يسمى شيء ما خيراً إلا أن يستمد منه وينبثق منه ويقوم عليه .
إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه , ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح , وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى . لا ليستذلهم انتقاماً , ولا ليسخرهم استغلالاً ; كما كانت تتجه فتوحات الرومان ; وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام !
عن الزهري عن جماعة سماهم قال:بعثت قريش في فداء أسراهم , ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا . وقال العباس:يا رسول الله قد كنت مسلماً ! فقال رسول الله [ ص ]:" الله أعلم بإسلامك , فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك , وأما ظاهرك فقد كان علينا , فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب , وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب , وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر ":قال ":ما ذاك عندي يا رسول الله" ! قال:" فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل , قلت لها:إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم ? " . قال:" والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله . إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل . فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني - عشرين أوقية من مال كان معي" ! - فقال رسول الله [ ص ]:" لا . ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك " . ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه . فأنزل الله عز وجليا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم , ويغفر لكم , والله غفور رحيم). . قال العباس:فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به , مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم , يحذرهم خيانة الرسول [ ص ] كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير:
(وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم , والله عليم حكيم). .
وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
لقد خانوا الله فأشركوا به غيره , ولم يفردوه سبحانه بالربوبية , وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده . فإن أرادوا خيانة رسوله [ ص ] وهم أسرى في يديه , فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر , ومكنت منهم رسول الله وأولياءه . . والله(عليم)بسرائرهم(حكيم)في إيقاع العقاب بهم:
(والله عليم حكيم). .
قال القرطبي في التفسير , قال ابن العربي:لما أسر من أسر من المشركين , تكلم قوم منهم بالإسلام , ولم يمضوا فيه عزيمة , ولا اعترفوا به اعترافاً جازماً . ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين - قال علماؤنا:إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمناً . وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً . إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها , فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله [ ص ] الحقيقة فقال: (وإن يريدوا خيانتك). أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكراً (فقد خانوا الله من قبل)بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك . وإن كان هذا القول منهم خيراً , ويعلمه الله , فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيراً مما خرج عنهم:ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم .
الدرس الرابع:72 - 75 قواعد في علاقة المجتمع الإسلامي مع المجتمعات الأخرى
وأخيراً يختم هذا الدرس , وتختم السورة معه , ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم , وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى ; وبيان الأحكام المنظمة لهذه العلاقات وتلك ; ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته ; والقاعدة التي ينطلق منها والتي يقوم عليها كذلك . . إنها ليست علاقات الدم , ولا علاقات الأرض , ولا علاقات الجنس , ولا علاقات التاريخ , ولا علاقات اللغة , ولا علاقات الاقتصاد . . ليست هي القرابة , وليست هي الوطنية , وليست هي القومية , وليست هي المصالح الاقتصادية . . إنما هي علاقة العقيدة , وعلاقة القيادة , وعلاقة التنظيم الحركي . . فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام , متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم , وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ; والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد , أولئك بعضهم أولياء بعض . . والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية ; لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة , ولم يدينوا
(وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم , والله عليم حكيم). .
وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
لقد خانوا الله فأشركوا به غيره , ولم يفردوه سبحانه بالربوبية , وهو قد أخذ العهد على فطرتهم فخانوا عهده . فإن أرادوا خيانة رسوله [ ص ] وهم أسرى في يديه , فليذكروا عاقبة خيانتهم الأولى التي أوقعتهم في الأسر , ومكنت منهم رسول الله وأولياءه . . والله(عليم)بسرائرهم(حكيم)في إيقاع العقاب بهم:
(والله عليم حكيم). .
قال القرطبي في التفسير , قال ابن العربي:لما أسر من أسر من المشركين , تكلم قوم منهم بالإسلام , ولم يمضوا فيه عزيمة , ولا اعترفوا به اعترافاً جازماً . ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين - قال علماؤنا:إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمناً . وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافراً . إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها , فإن الله قد عفا عنها وأسقطها . وقد بين الله لرسوله [ ص ] الحقيقة فقال: (وإن يريدوا خيانتك). أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكراً (فقد خانوا الله من قبل)بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك . وإن كان هذا القول منهم خيراً , ويعلمه الله , فيقبل منهم ذلك ويعوضهم خيراً مما خرج عنهم:ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم .
الدرس الرابع:72 - 75 قواعد في علاقة المجتمع الإسلامي مع المجتمعات الأخرى
وأخيراً يختم هذا الدرس , وتختم السورة معه , ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم , وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى ; وبيان الأحكام المنظمة لهذه العلاقات وتلك ; ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته ; والقاعدة التي ينطلق منها والتي يقوم عليها كذلك . . إنها ليست علاقات الدم , ولا علاقات الأرض , ولا علاقات الجنس , ولا علاقات التاريخ , ولا علاقات اللغة , ولا علاقات الاقتصاد . . ليست هي القرابة , وليست هي الوطنية , وليست هي القومية , وليست هي المصالح الاقتصادية . . إنما هي علاقة العقيدة , وعلاقة القيادة , وعلاقة التنظيم الحركي . . فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام , متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم , وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ; والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد , أولئك بعضهم أولياء بعض . . والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية ; لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة , ولم يدينوا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
بعد للقيادة ; ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد . . وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره . . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك . . هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات , كما تصورها هذه النصوص الحاسمة:
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض . والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم . . في الدين . . فعليكم النصر - إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق - والله بما تعملون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض:إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم . وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله , إن الله بكل شيء عليم . .
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر , كانت ولاية توارث وتكافل في الدياتوولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة . . حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة , ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم , داخل المجتمع المسلم . . فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا , استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين , فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية , كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات , وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة . . وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد , لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية !
ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي , وقيمه الأساسية . ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية ; والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ; ومنهجه الحركي والتزاماته:
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله [ ص ] - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً:هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ; وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ; إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق , أو يشركون مع الله آلهة أخرى:إما في صورة الاعتقاد والعبادة ; وإما في صورة الحاكمية والاتباع ; وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله , الذي كانوا يعرفونه
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض . والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم . . في الدين . . فعليكم النصر - إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق - والله بما تعملون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض:إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً , لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم . وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله , إن الله بكل شيء عليم . .
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر , كانت ولاية توارث وتكافل في الدياتوولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة . . حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة , ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم , داخل المجتمع المسلم . . فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا , استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين , فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية , كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات , وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة . . وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد , لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية !
ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي , وقيمه الأساسية . ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية ; والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ; ومنهجه الحركي والتزاماته:
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله [ ص ] - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً:هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ; وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ; إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق , أو يشركون مع الله آلهة أخرى:إما في صورة الاعتقاد والعبادة ; وإما في صورة الحاكمية والاتباع ; وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله , الذي كانوا يعرفونه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
على يد كل رسول , ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد , ويرتدون إلى الجاهلية , التي أخرجهم منها , ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . . إما في الاعتقاد والعبادة , وإما في الاتباع والحاكمية , وإما فيها جميعا . .
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . . إنها تستهدف(الإسلام). . إسلام العباد لرب العباد ; وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم , إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . . وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد [ ص ] , كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . . جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ; فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ; فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم , وحياتهم وموتهم ; كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ; وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ; كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ; فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة , تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري , وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر , والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ; والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله [ ص ] بدعوته . . هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في "نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها "نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع , خاضع لقيادة هذا المجتمع , وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته , وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي , الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ; والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد .
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في "نظرية " مجردة , ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ; فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية , ورد الناس إلى الله مرة أخرى , لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في "نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لاتكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاًوالمتمثلة في تجمع حركي عضوي , فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل , لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . . إنها تستهدف(الإسلام). . إسلام العباد لرب العباد ; وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم , إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . . وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد [ ص ] , كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . . جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ; فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ; فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم , وحياتهم وموتهم ; كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ; وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ; كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ; فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة , تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري , وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر , والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ; والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله [ ص ] بدعوته . . هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في "نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها "نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع , خاضع لقيادة هذا المجتمع , وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته , وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي , الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ; والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد .
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في "نظرية " مجردة , ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ; فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية , ورد الناس إلى الله مرة أخرى , لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في "نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لاتكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاًوالمتمثلة في تجمع حركي عضوي , فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل , لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية , وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة:"شهادة أن لا إله إلا الله" . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . . إفراده بها اعتقاداً في الضمير , وعبادة في الشعائر , وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله , لا توجد فعلا ; ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . . أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله , لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها , ولا في أي جانب من جوانبها , من عند أنفسهم ; بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . . وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ; وهو رسول الله . . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول:"شهادة أن محمداً رسول الله" .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ; يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية , في داخل دار الإسلام وخارجها ; في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الاخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ; ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام . لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى , وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . . لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي , منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله [ ص ] ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة:"شهادة أن لا إله إلا الله" . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . . إفراده بها اعتقاداً في الضمير , وعبادة في الشعائر , وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله , لا توجد فعلا ; ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . . أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله , لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها , ولا في أي جانب من جوانبها , من عند أنفسهم ; بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . . وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ; وهو رسول الله . . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول:"شهادة أن محمداً رسول الله" .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ; يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية , في داخل دار الإسلام وخارجها ; في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الاخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في "نظرية " مجردة ; ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ; ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى "وجود فعلي" للإسلام . لأن الأفراد "المسلمين نظرياً" الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً , بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ; وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ; لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد "المسلمين نظرياً" سيظلون يقومون "فعلا" بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون "نظريا" لإزالته ; وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى , وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي , لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . . لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي , منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله [ ص ] ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: في ظلال القرآن سورة الأنفال
وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت , سواء كانت في صورة قيادة دينية , من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم , أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش , وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة .
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام , ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ; لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ; له وجود ذاتي مستقل , يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ; وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه , وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . . هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . . ولم يوجد قط في صورة "نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . . وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . . ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان , بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ; وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة , في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ; وعلاقاته مع الذين آمنوا
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام , ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ; لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ; له وجود ذاتي مستقل , يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ; وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه , وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . . هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . . ولم يوجد قط في صورة "نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . . وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . . ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان , بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ; وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة , في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ; وعلاقاته مع الذين آمنوا
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
صفحة 4 من اصل 5 • 1, 2, 3, 4, 5
مواضيع مماثلة
» في ظلال القرآن سورة أل عمران
» في ظلال سورة التوبة
» فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
» فى ظلال القرآن ـ سيد قطب - صورة الأنعام
» فى ظلال القرأن الجزء الأول سورة إبراهيم
» في ظلال سورة التوبة
» فى ظلال القرأن - سورة الإسراء
» فى ظلال القرآن ـ سيد قطب - صورة الأنعام
» فى ظلال القرأن الجزء الأول سورة إبراهيم
صفحة 4 من اصل 5
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى