تاريخ بن خلدون الجزء الأول
4 مشترك
صفحة 2 من اصل 2
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلته . و هو لعمري علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة و أدلتهم و مران المطالعين له على الاستدلال فيما يرومون الإستدلال عليه . وتآليف الحنفية و الشافعية فيه أكثر من تآليف المالكية لأن القياس عند الحنفية أصل للكثير من فروع مذهبهم كما عرفت فهم لذلك أهل النظر و البحث . و أما المالكية فالأثر أكثر معتمدهم و ليسوا بأهل نظر و أ يضا فأكثرهم أهل الغرب و هم بادية غفل من الصنائع إلا في الأقل . و للغزالي رحمه الله تعالى فيه كتاب المآخذ و لأبي بكر العربي من المالكية كتاب التلخيص جلبه من المشرق . و لأبي زيد الدبوسي كتاب التعليقة و لابن القصار من شيوخ المالكية عيون الأدلة و قد جمع ابن الساعاتي في مختصره في أصول الفقه جميع ما ينبني عليها من الفقه الخلافي مدرجا ، في كل مسألة ما ينبني عليها من الخلافيات .
و أما الجدال و هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية و غيرهم فإنة لما كان باب المناظرة في الرد و القبول متسعا و كل واحد من المتناظرين في الاستدلال و الجواب يرسل عنانة في الاحتجاج . و منة ما يكون صوابا و منة ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا و أحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد و القبول و كيف يكون حال المستدل و المجيب و حيث يسوغ له أن يكون فستدلا و كيف يكون مخصوصا فنقطعا و محل اعتراضه أو معارضته و أين يجب عليه السكوت و لخصمه الكلام و الإستدلال . و لذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود و الآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي و هدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره . و هي طريقتان طريقة البزدوي و هي خاصة بالأدلة الشرعية من النص و الإجماع و الإستدلال و طريقة العميدي و هي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان و أكثره استدلال . و هو من المناحي الحسنة و المغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة . و إذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي و السوفسطائي . إلا أن صور الأدلة و الأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي . و هذا العميدي هو أول من كتب فيها و نسبت الطريقة إليه . وضع الكتاب المسمى يالإرشاد مختصرا و تبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي و غيره جاؤوا على أثره و سلكوا مسلكه و كثرت في الطريقة التآليف . و هي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم و التعليم في الأمصار الإسلامية . و هي مع ذلك كمالية و ليست ضرورية و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل العاشر : في علم الكلام
هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية و الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف و أهل السنة . و سر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد . فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق و المآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علمه و فيما ينظر و يشير إلى حدوثه في الملة و ما دعا إلى وضعه فنقول : إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلابد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة و عنها يتم كونة . و كل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلابد له من أسباب أخرى و لا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب و موجدها و خالقها سبحانه لا إله إلا هو . و تلك الأسباب في ارتقائها تتفسح و تتضاعف طولا و عرضا و يحار العقل في إدراكها و تعديدها . فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية و الحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود و الإرادات إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته و القصد إليه . و القصود و الإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا . و تلك التصورات هي أسباب قصد الفعل و قد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى و كل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه . إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية و لا على ترتيبها . إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا و الإنسان عاجز عن معرفة مبادئها و غاياتها . و إنما يحيط علما في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة و يقع في مداركها على نظام و ترتيب لأن الطبيعة محصورة للنفس و تحت طورها . و أما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة . و تأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب و الوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر و لا يحلو منة يطائل و لا يظفز بحقيقة . قال الله : " ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " . و ربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمة و أصبح من الضابين الهالكين نغوذ بالله من الحرمان و الخسران المبين . و لا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنة في قدرتك و اختيارك بل هو لون يحصل للنفس و صبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها . إذ لو علمناها لتحررنا منها . فلنتحرر من ذلك بقطع النظر عنها جملة . و أيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد يالاستناد إلى الظاهر . وحقيقة التأثير و كيفيته مجهولة . " و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا " . فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها و إلغائها جملة و التوجه إلى مسبب الأسباب كلها و فاعلها و موجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا و طرق سعادتنا لاطلاعه على ما وراء الحسن . قال صلى الله عليه و سلم : " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " . فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع و حقت عليه كلمة الكفر و أن سبح في بحر النظر و البحث عنها و عن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فإنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة . فيذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب و أمرنا بالتوجيد المطلق " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد و لم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " و لا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات و أسبابها و الوقوف على تفصيل الوجود كله و سفه رأيه في ذلك . و اعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها و الأمر في نفسه بخلاف ذلك و الحق من ورائه . ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع و المعقولات و يسقط من الوجود عنده صنف المسموعات . و كذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات و لولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء و المشيخة من أهل عصرهم و الكافة لما أقروا به لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم و طبيعة إدراكهم و لو سئل الحيوان الأعجم و نطق لوجدناه منكرا للمعقولات و ساقطة لديه بالكلية فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة و خلق الله أكبر من خلق الناس . و الحصر مجهول و الوجود أوسع نطاقا من ذلك و الله من ورائهم محيط . فاتهم إدراكك و مدركاتك في الحصر و اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك و عملك فهو أحرص على سعادتك و أعلم يما ينفغك لأنه من طور فوق إدراكك و من نطاق أوسع من نطاق عقلك و ليس ذلك بقادح في العقل و مداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها . غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد و الآخرة و حقيقة النبوة و حقائق الصفات الإلهية و كل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال . و مثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن يه الجبال و هذا لا يدرك . على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده و لا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله و يصفاته فإنة ذرة من ذرات الوجود الحاصل منة . و تفطن في هذا الغلط و من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا و قصور فهمه و اضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك و إذ تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الإرتقاء نطاق إدراكنا و وجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام و يحار و ينقطع . فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب و كيفيات تأثيرها و تفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيرة و كلها ترتقي إليه و ترجع إلى قدرته و علمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنة لا غير و هذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين : العجز عن الإدراك إدراك . ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس و إنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس كما أن المطلوب من الأعمال و العبادات أيضا حصول ملكة الطاعة و الانقياد و تفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانيا . و الفرق بين الحال و العلم في العقائد فرق ما بين القول و الاتصاف . و شرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم و المسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها و يقول بذلك و يعترف به و يذكر مأخذه من الشريعة و هو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرعنه و استنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة و ما بعد ذلك من مقامات العطف و الحنو و الصدقة . فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم و لم يحصل له مقام الحال و الاتصاف . ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم و الاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول و هو الاتصاف بالرحمة و حصول ملكتها . فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه و مسح عليه و التمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك و لو دفع عنه . ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده و كذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به و العلم حاصل عن الاتصاف ضرورة و هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف . و ليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل و يتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة و يحصل الاتصاف و التحقيق و يجيء العلم الثاني النافع في الآخرة . فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى و النفع و هذا علم أكثر النظار و المطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة . و اعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف و ما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف و التحقق بها . ثم إن الإقبال على العبادات و المواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة . قال صلى الله عليه و سلم : " في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة " فإن الصلاة صارت له صفة و حالا يجد فيها منتهى لذاته و قرة عينه و أين هذا من صلاة الناس و من لهم بها ؟ " فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون " اللهم وفقنا " اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين " فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد و هو العقيدة الإيمانية و هو الذي تحصل به السعادة و أن ذلك سواء في التكاليف القلبية و البدنية . و يتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف و ينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب . أولها التصديق القلبي الموافق للسان و أعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي و ما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح . و تندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني . و هذا أرفع مراتب الإيمان و هو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة و لا كبيرة إذ حصول الملكة و رسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة غين قال صلى الله عليه و سلم : " لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن " و في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه و سلم و أحواله فقال في أصحابه : " هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال : لا ! قال : و كذلك الإيمان حين تخالط بشاشتة القلوب " . و معناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة و الفطرة و هذه هي المرتبة العالية من الإيمان و هي في المرتبة الثانية من العصمة . لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا و هذه حاصلة للمؤمنية حصولا تابعا لأعمالهم و تصديقهم . و بهذه الملكة و رسوخها يقع التفاوت في الإيمان كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف . و في تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه . مثل أن الإيمان قول و عمل و يزيد و ينقص و أن الصلاة و الصيام من الإيمان و أن تطوع رمضان من الإيمان و الحياء من الإيمان . و المراد بهذا كله الإيمان الكامل الذي أشرنا إليه و إلى ملكته و هو فعلي . و أما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه . فمن اعتبر أوائل الأسماء و حمله على التصديق منع من التفاوت كما قال أئمة المتكلمين و من اعتبر أواخر الأسماء و حمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت . و ليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنة أقل ما يطلق عليه اسم الإيمان و هو المخلص من عهدة الكفر و الفيصل بين الكافر و المسلم فلا يجزي أقل منه . و هو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت و إنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم . و اعلم أن الشارع وصف لنا هذاالإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق و عين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا و اعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا و هي العقائد التي تقررت في الدين . قال صلى الله عليه و سلم حين سئل عن الإيمان فقال : " أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره " و هذه هي العقائد الإيمانية المقررة في عليم الكلام . و لنشر إليها مجملة لتتبين في حقيقة هذا الفن و كيفية حدوثه فنقول . اعلم أن الشارع لقد أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الذي رد الأفعال كلها إليه و أفرده به كما قدمناه و عرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود و هو إذ ذاك يتعذر على إدراكنا و من فوق طورنا . فكلنا أولا : اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين و إلا لما صح أنة خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير ثم تنزيهه غن صفات النقص و إلا لشابة المخلوقين ثم توحيده با لاتحاد و إلا لم يتم الخلق للتمانع ثم اعتقاد أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الاتحاد و الخلق و مريد و إلا لم يخصص شيء من المخلوقات و مقدر لكل كائن و إلا فالإرادة حادثة . و أنة يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته ، بالإيجاد و لو كان لأمر فإن كان عبثا فهو للبقاء السرمدي بعد الموت . ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحوله بالشقاء و السعادة و عدم معرفتنا بذلك و تمام لطفه بنا في الإيتاء بذلك و بيان الطريقين . و أن الجنة للنعيم و جهنم للعذاب . هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية و أدلتها من الكتاب و السنة كثيرة . و عن تلك الأدلة أخذها السلف و أرشد إليها العلماء و حققها الأئمة إلا أنة عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام و التناظر و الاستدلال يالعقل و زيادة إلى النقل . فحدث بذلك علم الكلام . و لنبين لك تفصيل هذا المجمل . و ذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة و هي سلوب كلها و صريحة في بابها فوجب الإيمان بها . و وقع في كلام الشارع صلوات الله عليه و كلام الصحابة و التابعين تفسيرها على ظاهرها . ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات و أخرى في الصفات . فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها و وضوح دلالتها ، و علموا استحالة التشبيه . و قضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها و لم يتعرضوا لمعناها ببحث و لا تأويل . و هذا معنى قول الكثير منهم : إقرأوها كما جاءت أي آمنوا بأنها من عند الله . و لا تتعرضوا لتأويلها و لا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء . فيجب الوقف و الإذعان له . و شذ لعصرهم مبتدعة أتبعوا ما تشابه من الآيات و توغلوا في التشبيه . ففريق أشبهوا ، في الذات باعتقاد اليد و القدم و الوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح و مخالفة آي التنزيه المطلق التس هي أكثر موارد و أوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص و الافتقار . و تغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد و أوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية و جمع بين الدليلين بتأويلها ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام . و ليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض و جمع بين نفي و إثبات إن كانا بالمعقولية واحدة من الجسم ، و إن خالفوا بينهما و نفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه و لم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه . ويتوقف مثلة على الأذن . و فريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة و الاستواء و النزول و الصوت و الحرف و أمثال ذلك . و آل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنزول يعنون من الأجسام . و اندفع ذلك بما اندفع به الأول ، و لم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف و مذاهبهم و الإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن . و لهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبى زيد و كتاب المختصر له و في كتاب الحافظ ابن عبد البر و غيرهم فإنهم يحومون على هذا المعنى . و لا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم . ثم لما كثرت العلوم و الصنائع و ولى الناس بالتدوين و البحث في سائر الأنحاء و ألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم و هو مردود بأن الصفات ليست عين الذات و لا غيرها و قضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات و قضوا بنفي السمع و البصر لكونهما من عوارض الأجسام . و هو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ و إنما هو إدراك المسموع أو المبصر . و قضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع و البصر و لم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق و ذلك بدعة صرح السلف بخلافها . و عظم ضرر هذه البدعة و لقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها و خالفهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودماؤهم ، و كان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع و قام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق و نفى التشبيه و أثبت الصفات المعنويه و قصر التنزيه على ما قصره عليه السلف . و شهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية و السمع و البصر و الكلام القائم بالنفس بطريق النقل و العقل . و رد على المبتدعة في ذلك كله و تكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح و الأصلح و التحسين و التقبيح و كمل العقائد في البعثة و أحوال المعاد و الجنة و النار و الثواب و العقاب . و ألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان و إنه يجب على النبي تعيينها و الخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له ، و كذلك على الأمة . و قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية و لا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن و سموا مجموعة علم الكلام : إما لما فيه من المناظرة على البدع و هي كلام صرف و ليست براجعة إلى عمل ، و إما لأن سبب وضعه و الخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي . و كثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري و اقتفى طريقتة من بعده تلميذه كابن مجاهد و غيره . و أخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم و هذبها و وضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الأدلة و الأنظار و ذلك مثل إثبات الجوهر الفرد و الخلاء . و أن العرض لا يقوم بالعرض و أنه لا يبقى زمانين . و أمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم . و جعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها و أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول . و جملت هذه الطريقة و جاءت من أحسن الفنون النظرية و العلوم الدينية . إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان . على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم و لأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة و تعتبر بها الأقيسة و لم تكن حينئذ ظاهرة في المئلة ، و لو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك . ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل و أوسع القول فيه . ثم لخصه في كتاب الإرشاد و اتخذه الناس إماما لعقائدهم . ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة و قرأه الناس و فرقوا بينه و بين العلوم الفلسفية بأنة قانون و معيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما تسبر من سواها . ثم نظروا في تلك القواعد و المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك و بما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات و الإلهيات . فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها و لم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى و تسمى طريقة المتأخرين و ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية و جعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة و مذاهبهم . و أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله و تبعه الإمام ابن الخطيب و جماعة قفوا أثرهم و اعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة و التبس عليهم شان الموضح في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما . و اعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات و أحوالها على وجود البارئ و صفاته و هو نوع استدلالهم غالبا . و الجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات و هو بعض من هذه الكائنات . إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم و هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك و يسكن و المتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل . و كذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق و ما يقتضيه لذاته و نظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد . و بالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن ستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع و تزول الشكوك و الشبيه عن تلك العقائد و إذا تأملت حال الفن قي حدوثه و كيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر و كلهم يفرض العقائد صحيحة و يستنهض الحجج و الأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن و أنه لا يعدوه . و لقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين و التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر . و لا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع و من جاء بعدة من علماء العجم في جميع تآليفهم . إلا أن هذه الطريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب و الإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها . و أما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين و أصلها كتاب الإرشاد و ما حذا حذوة . و من أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي و الإمام ابن الخطيب فإنها و إن وقع فيها مخالفة للإصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل و الالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم و على الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا و الأئمة . من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا و دونوا و الأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا و نصروا . و أما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته و إطلاقه و لقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال : ما هؤلاء ؟ فقيل : قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث و سمات النقص . فقال : نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكن فائدته في آحاد الناس و طلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها . و الله ولي المؤمنين .
الفصل الحادي عشر : في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر
اعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة ، كالعناصر و آثارها و المكونات الثلاثة عنها . التي هي المعدن و النبات و الحيوان . و هذه كلها متعلقات القدرة الإلهية و على أفعال صادرة عن الحيوانات ، واقعة بمقصودها ، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها : فمنها منتظم مرتب ، و هي الأفعال البشرية ، و منها غير منتظم و لا مرتب ، و هي أفعال الحيوانات غير البشر . و ذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع ، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء ، فلأجل الترتيب بين الحوادث لابد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه ، و هي على الجملة مبادئه ، إذ لا يوجد إلا ثانيا عنها و لا يمكن إيقاع المتقدم متأخرا ، و لا المتأخر متقدما . و ذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخرا عنه ، و قد يرتقي ذلك أو ينتهي . فإذا انتهى إلى آخر المبادىء في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد ، و شرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر ، فكان أول عمله . ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته . مثلا : لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى لحائط الذي يدعمه ، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر . ثم يبدأ في العمل بالأساس ، ثم بالحائط ، ثم بالسقف ، و هو آخر العمل .
و هذا معنى قولهم : أول العمل آخر الفكرة ، و أول الفكرة آخر العمل فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض . ثم يشرع في فعلها . و أول هذا الفكر هو المسبب الأخير ، و هو آخرها في العمل . و أولها في العمل هو المسبب الأول و هو آخرها في الفكر . و لأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الإنتظام في الأفعال البشرية .
و أما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل علي الترتيب فيما يفعل . إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس و مدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنة لا يكون إلا بالفكر . و لما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة ، و غير المنتظمة إنما هيى تبع لها . اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها ، فكانت مسخرة للبشر . و استولت أفعال البشر على عالم الحوادث . بما فيه ، فكان كله في طاعته و تسخره . و هذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى : " إني جاعل في الأرض خليفة " فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان . و على قدر حصول الأسباب و المسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيتة . فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث ، و منهم من لا يتجاوزها ، و منهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى . و اعتبر ذلك بلاعب الشطرنج : فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات و الخمس الذي ترتيبها وضعي ، و منهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه . و إن كان هذا المثال غير مطابق . لأن لعب الشطرنج بالملكة ، و معرفة الأسباب و المسببات بالطبع . لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد . و الله خلق الإنسان و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا .
الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي و كيفية حدوثه
و أما الجدال و هو معرفة آداب المناظرة التي تجري بين أهل المذاهب الفقهية و غيرهم فإنة لما كان باب المناظرة في الرد و القبول متسعا و كل واحد من المتناظرين في الاستدلال و الجواب يرسل عنانة في الاحتجاج . و منة ما يكون صوابا و منة ما يكون خطأ فاحتاج الأئمة إلى أن يضعوا آدابا و أحكاما يقف المتناظران عند حدودها في الرد و القبول و كيف يكون حال المستدل و المجيب و حيث يسوغ له أن يكون فستدلا و كيف يكون مخصوصا فنقطعا و محل اعتراضه أو معارضته و أين يجب عليه السكوت و لخصمه الكلام و الإستدلال . و لذلك قيل فيه إنه معرفة بالقواعد من الحدود و الآداب في الاستدلال التي يتوصل بها إلى حفظ رأي و هدمه سواء كان ذلك الرأي من الفقه أو غيره . و هي طريقتان طريقة البزدوي و هي خاصة بالأدلة الشرعية من النص و الإجماع و الإستدلال و طريقة العميدي و هي عامة في كل دليل يستدل به من أي علم كان و أكثره استدلال . و هو من المناحي الحسنة و المغالطات فيه في نفس الأمر كثيرة . و إذا اعتبرنا النظر المنطقي كان في الغالب أشبه بالقياس المغالطي و السوفسطائي . إلا أن صور الأدلة و الأقيسة فيه محفوظة مراعاة يتحرى فيها طرق الاستدلال كما ينبغي . و هذا العميدي هو أول من كتب فيها و نسبت الطريقة إليه . وضع الكتاب المسمى يالإرشاد مختصرا و تبعه من بعده من المتأخرين كالنسفي و غيره جاؤوا على أثره و سلكوا مسلكه و كثرت في الطريقة التآليف . و هي لهذا العهد مهجورة لنقص العلم و التعليم في الأمصار الإسلامية . و هي مع ذلك كمالية و ليست ضرورية و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل العاشر : في علم الكلام
هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية و الرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف و أهل السنة . و سر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد . فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق و المآخذ ثم نرجع إلى تحقيق علمه و فيما ينظر و يشير إلى حدوثه في الملة و ما دعا إلى وضعه فنقول : إعلم أن الحوادث في عالم الكائنات سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية فلابد لها من أسباب متقدمة عليها بها تقع في مستقر العادة و عنها يتم كونة . و كل واحد من هذه الأسباب حادث أيضا فلابد له من أسباب أخرى و لا تزال تلك الأسباب مرتقية حتى تنتهي إلى مسبب الأسباب و موجدها و خالقها سبحانه لا إله إلا هو . و تلك الأسباب في ارتقائها تتفسح و تتضاعف طولا و عرضا و يحار العقل في إدراكها و تعديدها . فإذا لا يحصرها إلا العلم المحيط سيما الأفعال البشرية و الحيوانية فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود و الإرادات إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته و القصد إليه . و القصود و الإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصورات سابقة يتلو بعضها بعضا . و تلك التصورات هي أسباب قصد الفعل و قد تكون أسباب تلك التصورات تصورات أخرى و كل ما يقع في النفس من التصورات مجهول سببه . إذ لا يطلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية و لا على ترتيبها . إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضا و الإنسان عاجز عن معرفة مبادئها و غاياتها . و إنما يحيط علما في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة و يقع في مداركها على نظام و ترتيب لأن الطبيعة محصورة للنفس و تحت طورها . و أما التصورات فنطاقها أوسع من النفس لأنها للعقل الذي هو فوق طور النفس فلا تدرك الكثير منها فضلا عن الإحاطة . و تأمل من ذلك حكمة الشارع في نهيه عن النظر إلى الأسباب و الوقوف معها فإنه واد يهيم فيه الفكر و لا يحلو منة يطائل و لا يظفز بحقيقة . قال الله : " ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " . و ربما انقطع في وقوفه عن الارتقاء إلى ما فوقه فزلت قدمة و أصبح من الضابين الهالكين نغوذ بالله من الحرمان و الخسران المبين . و لا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنة في قدرتك و اختيارك بل هو لون يحصل للنفس و صبغة تستحكم من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها . إذ لو علمناها لتحررنا منها . فلنتحرر من ذلك بقطع النظر عنها جملة . و أيضا فوجه تأثير هذه الأسباب في الكثير من مسبباتها مجهول لأنها إنما يوقف عليها بالعادة لاقتران الشاهد يالاستناد إلى الظاهر . وحقيقة التأثير و كيفيته مجهولة . " و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا " . فلذلك أمرنا بقطع النظر عنها و إلغائها جملة و التوجه إلى مسبب الأسباب كلها و فاعلها و موجدها لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علمنا الشارع الذي هو أعرف بمصالح ديننا و طرق سعادتنا لاطلاعه على ما وراء الحسن . قال صلى الله عليه و سلم : " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " . فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع و حقت عليه كلمة الكفر و أن سبح في بحر النظر و البحث عنها و عن أسبابها وتأثيراتها واحدا بعد واحد فإنا الضامن له أن لا يعود إلا بالخيبة . فيذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب و أمرنا بالتوجيد المطلق " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد و لم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " و لا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات و أسبابها و الوقوف على تفصيل الوجود كله و سفه رأيه في ذلك . و اعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها و الأمر في نفسه بخلاف ذلك و الحق من ورائه . ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع و المعقولات و يسقط من الوجود عنده صنف المسموعات . و كذلك الأعمى أيضا يسقط عنده صنف المرئيات و لولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء و المشيخة من أهل عصرهم و الكافة لما أقروا به لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف لا بمقتضى فطرتهم و طبيعة إدراكهم و لو سئل الحيوان الأعجم و نطق لوجدناه منكرا للمعقولات و ساقطة لديه بالكلية فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة و خلق الله أكبر من خلق الناس . و الحصر مجهول و الوجود أوسع نطاقا من ذلك و الله من ورائهم محيط . فاتهم إدراكك و مدركاتك في الحصر و اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك و عملك فهو أحرص على سعادتك و أعلم يما ينفغك لأنه من طور فوق إدراكك و من نطاق أوسع من نطاق عقلك و ليس ذلك بقادح في العقل و مداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها . غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد و الآخرة و حقيقة النبوة و حقائق الصفات الإلهية و كل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال . و مثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن يه الجبال و هذا لا يدرك . على أن الميزان في أحكامه غير صادق لكن العقل قد يقف عنده و لا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله و يصفاته فإنة ذرة من ذرات الوجود الحاصل منة . و تفطن في هذا الغلط و من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا و قصور فهمه و اضمحلال رأيه فقد تبين لك الحق من ذلك و إذ تبين ذلك فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الإرتقاء نطاق إدراكنا و وجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل العقل في بيداء الأوهام و يحار و ينقطع . فإذا التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب و كيفيات تأثيرها و تفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيرة و كلها ترتقي إليه و ترجع إلى قدرته و علمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنة لا غير و هذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين : العجز عن الإدراك إدراك . ثم إن المعتبر في هذا التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي فإن ذلك من حديث النفس و إنما الكمال فيه حصول صفة منه تتكيف بها النفس كما أن المطلوب من الأعمال و العبادات أيضا حصول ملكة الطاعة و الانقياد و تفريغ القلب عن شواغل ما سوى المعبود حتى ينقلب المريد السالك ربانيا . و الفرق بين الحال و العلم في العقائد فرق ما بين القول و الاتصاف . و شرحه أن كثيرا من الناس يعلم أن رحمة اليتيم و المسكين قربة إلى الله تعالى مندوب إليها و يقول بذلك و يعترف به و يذكر مأخذه من الشريعة و هو لو رأى يتيما أو مسكينا من أبناء المستضعفين لفرعنه و استنكف أن يباشره فضلا عن التمسح عليه للرحمة و ما بعد ذلك من مقامات العطف و الحنو و الصدقة . فهذا إنما حصل له من رحمة اليتيم مقام العلم و لم يحصل له مقام الحال و الاتصاف . ومن الناس من يحصل له مع مقام العلم و الاعتراف بأن رحمة المسكين قربة إلى الله تعالى مقام آخر أعلى من الأول و هو الاتصاف بالرحمة و حصول ملكتها . فمتى رأى يتيما أو مسكينا بادر إليه و مسح عليه و التمس الثواب في الشفقة عليه لا يكاد يصبر عن ذلك و لو دفع عنه . ثم يتصدق عليه بما حضره من ذات يده و كذا علمك بالتوحيد مع اتصافك به و العلم حاصل عن الاتصاف ضرورة و هو أوثق مبنى من العلم الحاصل قبل الاتصاف . و ليس الاتصاف بحاصل عن مجرد العلم حتى يقع العمل و يتكرر مرارا غير منحصرة فترسخ الملكة و يحصل الاتصاف و التحقيق و يجيء العلم الثاني النافع في الآخرة . فإن العلم الأول المجرد عن الاتصاف قليل الجدوى و النفع و هذا علم أكثر النظار و المطلوب إنما هو العلم الحالي الناشئ عن العادة . و اعلم أن الكمال عند الشارع في كل ما كلف به إنما هو في هذا فما طلب اعتقاده فالكمال فيه في العلم الثاني الحاصل عن الاتصاف و ما طلب عمله من العبادات فالكمال فيها في حصول الاتصاف و التحقق بها . ثم إن الإقبال على العبادات و المواظبة عليها هو المحصل لهذه الثمرة الشريفة . قال صلى الله عليه و سلم : " في رأس العبادات جعلت قرة عيني في الصلاة " فإن الصلاة صارت له صفة و حالا يجد فيها منتهى لذاته و قرة عينه و أين هذا من صلاة الناس و من لهم بها ؟ " فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون " اللهم وفقنا " اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين " فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري للنفس هو التوحيد و هو العقيدة الإيمانية و هو الذي تحصل به السعادة و أن ذلك سواء في التكاليف القلبية و البدنية . و يتفهم منه أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف و ينبوعها هو بهذه المثابة ذو مراتب . أولها التصديق القلبي الموافق للسان و أعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي و ما يتبعه من العمل مستولية على القلب فيستتبع الجوارح . و تندرج في طاعتها جميع التصرفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني . و هذا أرفع مراتب الإيمان و هو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرة و لا كبيرة إذ حصول الملكة و رسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة غين قال صلى الله عليه و سلم : " لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن " و في حديث هرقل لما سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه و سلم و أحواله فقال في أصحابه : " هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال : لا ! قال : و كذلك الإيمان حين تخالط بشاشتة القلوب " . و معناه أن ملكة الإيمان إذا استقرت عسر على النفس مخالفتها شأن الملكات إذا استقرت فإنها تحصل بمثابة الجبلة و الفطرة و هذه هي المرتبة العالية من الإيمان و هي في المرتبة الثانية من العصمة . لأن العصمة واجبة للأنبياء وجوبا سابقا و هذه حاصلة للمؤمنية حصولا تابعا لأعمالهم و تصديقهم . و بهذه الملكة و رسوخها يقع التفاوت في الإيمان كالذي يتلى عليك من أقاويل السلف . و في تراجم البخاري رضي الله عنه في باب الإيمان كثير منه . مثل أن الإيمان قول و عمل و يزيد و ينقص و أن الصلاة و الصيام من الإيمان و أن تطوع رمضان من الإيمان و الحياء من الإيمان . و المراد بهذا كله الإيمان الكامل الذي أشرنا إليه و إلى ملكته و هو فعلي . و أما التصديق الذي هو أول مراتبه فلا تفاوت فيه . فمن اعتبر أوائل الأسماء و حمله على التصديق منع من التفاوت كما قال أئمة المتكلمين و من اعتبر أواخر الأسماء و حمله على هذه الملكة التي هي الإيمان الكامل ظهر له التفاوت . و ليس ذلك بقادح في اتحاد حقيقته الأولى التي هي التصديق إذ التصديق موجود في جميع رتبه لأنة أقل ما يطلق عليه اسم الإيمان و هو المخلص من عهدة الكفر و الفيصل بين الكافر و المسلم فلا يجزي أقل منه . و هو في نفسه حقيقة واحدة لا تتفاوت و إنما التفاوت في الحال الحاصلة عن الأعمال كما قلناه فافهم . و اعلم أن الشارع وصف لنا هذاالإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق و عين أمورا مخصوصة كلفنا التصديق بها بقلوبنا و اعتقادها في أنفسنا مع الإقرار بها بألسنتنا و هي العقائد التي تقررت في الدين . قال صلى الله عليه و سلم حين سئل عن الإيمان فقال : " أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره " و هذه هي العقائد الإيمانية المقررة في عليم الكلام . و لنشر إليها مجملة لتتبين في حقيقة هذا الفن و كيفية حدوثه فنقول . اعلم أن الشارع لقد أمرنا بالإيمان بهذا الخالق الذي رد الأفعال كلها إليه و أفرده به كما قدمناه و عرفنا أن في هذا الإيمان نجاتنا عند الموت إذا حضرنا لم يعرفنا بكنه حقيقة هذا الخالق المعبود و هو إذ ذاك يتعذر على إدراكنا و من فوق طورنا . فكلنا أولا : اعتقاد تنزيهه في ذاته عن مشابهة المخلوقين و إلا لما صح أنة خالق لهم لعدم الفارق على هذا التقدير ثم تنزيهه غن صفات النقص و إلا لشابة المخلوقين ثم توحيده با لاتحاد و إلا لم يتم الخلق للتمانع ثم اعتقاد أنه عالم قادر فبذلك تتم الأفعال شاهد قضيته لكمال الاتحاد و الخلق و مريد و إلا لم يخصص شيء من المخلوقات و مقدر لكل كائن و إلا فالإرادة حادثة . و أنة يعيدنا بعد الموت تكميلا لعنايته ، بالإيجاد و لو كان لأمر فإن كان عبثا فهو للبقاء السرمدي بعد الموت . ثم اعتقاد بعثة الرسل للنجاة من شقاء هذا المعاد لاختلاف أحوله بالشقاء و السعادة و عدم معرفتنا بذلك و تمام لطفه بنا في الإيتاء بذلك و بيان الطريقين . و أن الجنة للنعيم و جهنم للعذاب . هذه أمهات العقائد الإيمانية معللة بأدلتها العقلية و أدلتها من الكتاب و السنة كثيرة . و عن تلك الأدلة أخذها السلف و أرشد إليها العلماء و حققها الأئمة إلا أنة عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة فدعا ذلك إلى الخصام و التناظر و الاستدلال يالعقل و زيادة إلى النقل . فحدث بذلك علم الكلام . و لنبين لك تفصيل هذا المجمل . و ذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة و هي سلوب كلها و صريحة في بابها فوجب الإيمان بها . و وقع في كلام الشارع صلوات الله عليه و كلام الصحابة و التابعين تفسيرها على ظاهرها . ثم وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه مرة في الذات و أخرى في الصفات . فأما السلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها و وضوح دلالتها ، و علموا استحالة التشبيه . و قضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها و لم يتعرضوا لمعناها ببحث و لا تأويل . و هذا معنى قول الكثير منهم : إقرأوها كما جاءت أي آمنوا بأنها من عند الله . و لا تتعرضوا لتأويلها و لا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء . فيجب الوقف و الإذعان له . و شذ لعصرهم مبتدعة أتبعوا ما تشابه من الآيات و توغلوا في التشبيه . ففريق أشبهوا ، في الذات باعتقاد اليد و القدم و الوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح و مخالفة آي التنزيه المطلق التس هي أكثر موارد و أوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص و الافتقار . و تغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد و أوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية و جمع بين الدليلين بتأويلها ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام . و ليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض و جمع بين نفي و إثبات إن كانا بالمعقولية واحدة من الجسم ، و إن خالفوا بينهما و نفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه و لم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه . ويتوقف مثلة على الأذن . و فريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة و الاستواء و النزول و الصوت و الحرف و أمثال ذلك . و آل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات نزول لا كالنزول يعنون من الأجسام . و اندفع ذلك بما اندفع به الأول ، و لم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف و مذاهبهم و الإيمان بها كما هي لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن . و لهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرسالة لابن أبى زيد و كتاب المختصر له و في كتاب الحافظ ابن عبد البر و غيرهم فإنهم يحومون على هذا المعنى . و لا تغمض عينك عن القرائن الدالة على ذلك في غضون كلامهم . ثم لما كثرت العلوم و الصنائع و ولى الناس بالتدوين و البحث في سائر الأنحاء و ألف المتكلمون في التنزيه حدثت بدعة المعتزلة في تعميم هذا التنزيه في آي السلوب فقضوا بنفي صفات المعاني من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة زائدة على أحكامها لما يلزم على ذلك من تعدد القديم بزعمهم و هو مردود بأن الصفات ليست عين الذات و لا غيرها و قضوا بنفي صفة الإرادة فلزمهم نفي القدر لأن معناه سبق الإرادة للكائنات و قضوا بنفي السمع و البصر لكونهما من عوارض الأجسام . و هو مردود لعدم اشتراط البنية في مدلول هذا اللفظ و إنما هو إدراك المسموع أو المبصر . و قضوا بنفي الكلام لشبه ما في السمع و البصر و لم يعقلوا صفة الكلام التي تقوم بالنفس فقضوا بأن القرآن مخلوق و ذلك بدعة صرح السلف بخلافها . و عظم ضرر هذه البدعة و لقنها بعض الخلفاء عن أئمتهم فحمل الناس عليها و خالفهم أئمة السلف فاستحل لخلافهم إيسار كثير منهم ودماؤهم ، و كان ذلك سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعا في صدور هذه البدع و قام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق و نفى التشبيه و أثبت الصفات المعنويه و قصر التنزيه على ما قصره عليه السلف . و شهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية و السمع و البصر و الكلام القائم بالنفس بطريق النقل و العقل . و رد على المبتدعة في ذلك كله و تكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح و الأصلح و التحسين و التقبيح و كمل العقائد في البعثة و أحوال المعاد و الجنة و النار و الثواب و العقاب . و ألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان و إنه يجب على النبي تعيينها و الخروج عن العهدة في ذلك لمن هي له ، و كذلك على الأمة . و قصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية و لا تلحق بالعقائد فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن و سموا مجموعة علم الكلام : إما لما فيه من المناظرة على البدع و هي كلام صرف و ليست براجعة إلى عمل ، و إما لأن سبب وضعه و الخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي . و كثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري و اقتفى طريقتة من بعده تلميذه كابن مجاهد و غيره . و أخذ عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني فتصدر للإمامة في طريقتهم و هذبها و وضع المقدمات العقلية التى تتوقف عليها الأدلة و الأنظار و ذلك مثل إثبات الجوهر الفرد و الخلاء . و أن العرض لا يقوم بالعرض و أنه لا يبقى زمانين . و أمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم . و جعل هذه القواعد تبعا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها و أن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول . و جملت هذه الطريقة و جاءت من أحسن الفنون النظرية و العلوم الدينية . إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان . على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم و لأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة و تعتبر بها الأقيسة و لم تكن حينئذ ظاهرة في المئلة ، و لو ظهر منها بعض الشيء فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة فكانت مهجورة عندهم لذلك . ثم جاء بعد القاضي أبي بكر الباقلاني من أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في الطريقة كتاب الشامل و أوسع القول فيه . ثم لخصه في كتاب الإرشاد و اتخذه الناس إماما لعقائدهم . ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة و قرأه الناس و فرقوا بينه و بين العلوم الفلسفية بأنة قانون و معيار للأدلة فقط يسبر به الأدلة منها كما تسبر من سواها . ثم نظروا في تلك القواعد و المقدمات في فن الكلام للأقدمين فخالفوا الكثير منها بالبراهين التي أدلت إلى ذلك و بما أن كثيرا منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات و الإلهيات . فلما سبروها بمعيار المنطق ردهم إلى ذلك فيها و لم يعتقدوا بطلان المدلول من بطلان دليله كما صار إليه القاضي فصارت هذه الطريقة في مصطلحهم مباينة للطريقة الأولى و تسمى طريقة المتأخرين و ربما أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية و جعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة و مذاهبهم . و أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي رحمه الله و تبعه الإمام ابن الخطيب و جماعة قفوا أثرهم و اعتمدوا تقليدهم ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة و التبس عليهم شان الموضح في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما . و اعلم أن المتكلمين لما كانوا يستدلون في أكثر أحوالهم بالكائنات و أحوالها على وجود البارئ و صفاته و هو نوع استدلالهم غالبا . و الجسم الطبيعي الذي ينظر فيه الفيلسوف في الطبيعيات و هو بعض من هذه الكائنات . إلا أن نظره فيها مخالف لنظر المتكلم و هو ينظر في الجسم من حيث يتحرك و يسكن و المتكلم ينظر فيه من حيث يدل على الفاعل . و كذا نظر الفيلسوف في الإلهيات إنما هو نظر في الوجود المطلق و ما يقتضيه لذاته و نظر المتكلم في الوجود من حيث إنه يدل على الموجد . و بالجملة فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن ستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع و تزول الشكوك و الشبيه عن تلك العقائد و إذا تأملت حال الفن قي حدوثه و كيف تدرج كلام الناس فيه صدرا بعد صدر و كلهم يفرض العقائد صحيحة و يستنهض الحجج و الأدلة علمت حينئذ ما قررناه لك في موضوع الفن و أنه لا يعدوه . و لقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين و التبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين من الآخر . و لا يحصل عليه طالبه من كتبهم كما فعله البيضاوي في الطوالع و من جاء بعدة من علماء العجم في جميع تآليفهم . إلا أن هذه الطريقة قد يعنى بها بعض طلبة العلم للاطلاع على المذاهب و الإغراق في معرفة الحجاج لوفور ذلك فيها . و أما محاذاة طريقة السلف بعقائد علم الكلام فإنما هو في الطريقة القديمة للمتكلمين و أصلها كتاب الإرشاد و ما حذا حذوة . و من أراد إدخال الرد على الفلاسفة في عقائده فعليه بكتب الغزالي و الإمام ابن الخطيب فإنها و إن وقع فيها مخالفة للإصطلاح القديم فليس فيها من الاختلاط في المسائل و الالتباس في الموضوع ما في طريقة هؤلاء المتأخرين من بعدهم و على الجملة فينبغي أن يعلم أن هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم إذ الملحدة و المبتدعة قد انقرضوا و الأئمة . من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا و دونوا و الأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا و نصروا . و أما الآن فلم يبق منها إلا كلام تنزه الباري عن كثير إيهاماته و إطلاقه و لقد سئل الجنيد رحمه الله عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه فقال : ما هؤلاء ؟ فقيل : قوم ينزهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث و سمات النقص . فقال : نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب لكن فائدته في آحاد الناس و طلبة العلم فائدة معتبرة إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها . و الله ولي المؤمنين .
الفصل الحادي عشر : في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر
اعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة ، كالعناصر و آثارها و المكونات الثلاثة عنها . التي هي المعدن و النبات و الحيوان . و هذه كلها متعلقات القدرة الإلهية و على أفعال صادرة عن الحيوانات ، واقعة بمقصودها ، متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها : فمنها منتظم مرتب ، و هي الأفعال البشرية ، و منها غير منتظم و لا مرتب ، و هي أفعال الحيوانات غير البشر . و ذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع أو بالوضع ، فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء ، فلأجل الترتيب بين الحوادث لابد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه ، و هي على الجملة مبادئه ، إذ لا يوجد إلا ثانيا عنها و لا يمكن إيقاع المتقدم متأخرا ، و لا المتأخر متقدما . و ذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخرا عنه ، و قد يرتقي ذلك أو ينتهي . فإذا انتهى إلى آخر المبادىء في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد ، و شرع في العمل الذي يوجد به ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر ، فكان أول عمله . ثم تابع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته . مثلا : لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى لحائط الذي يدعمه ، ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر . ثم يبدأ في العمل بالأساس ، ثم بالحائط ، ثم بالسقف ، و هو آخر العمل .
و هذا معنى قولهم : أول العمل آخر الفكرة ، و أول الفكرة آخر العمل فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المرتبات لتوقف بعضها على بعض . ثم يشرع في فعلها . و أول هذا الفكر هو المسبب الأخير ، و هو آخرها في العمل . و أولها في العمل هو المسبب الأول و هو آخرها في الفكر . و لأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الإنتظام في الأفعال البشرية .
و أما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل علي الترتيب فيما يفعل . إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس و مدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنة لا يكون إلا بالفكر . و لما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة ، و غير المنتظمة إنما هيى تبع لها . اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها ، فكانت مسخرة للبشر . و استولت أفعال البشر على عالم الحوادث . بما فيه ، فكان كله في طاعته و تسخره . و هذا معنى الاستحلاف المشار إليه في قوله تعالى : " إني جاعل في الأرض خليفة " فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان . و على قدر حصول الأسباب و المسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيتة . فمن الناس من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث ، و منهم من لا يتجاوزها ، و منهم من ينتهي إلى خمس أو ست فتكون إنسانيته أعلى . و اعتبر ذلك بلاعب الشطرنج : فإن في اللاعبين من يتصور الثلاث حركات و الخمس الذي ترتيبها وضعي ، و منهم من يقصر عن ذلك لقصور ذهنه . و إن كان هذا المثال غير مطابق . لأن لعب الشطرنج بالملكة ، و معرفة الأسباب و المسببات بالطبع . لكنه مثال يحتذي به الناظر في تعقل ما يورد عليه من القواعد . و الله خلق الإنسان و فضله على كثير ممن خلق تفضيلا .
الفصل الثاني عشر في العقل التجريبي و كيفية حدوثه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
إنك تسمع في كتب الحكماء قولهم أن الإنسان هو مدني الطبع ، يذكرونه في إثبات النبوات و غيرها . و النسبة فيه إلى المدينة ، و هي عندهم كناية عن الاجتماع البشري . و معنى هذا القول ، أنة لا تمكن حياة المنفرد من البشر ، و لا يتم وجوده إلا مع أبناء جنسه . و ذلك لما هو عليه من العجز عن استكمال وجوده و حياته ، فهو محتاج إلى المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه . و تلك المعاونة لابد فيها من المفاوضة أولا ، ثم المشاركة و ما بعدها . و ربما تفضي المعاملة عند اتحاد الأعراض إلى المنازعة و المشاجرة فتنشأ المنافرة و المؤالفة . و الصداقة و العداوة . و يؤول إلى الحرب و السلم بين الأمم و القبائل . و ليس ذلك على أي وجه اتفق ، كما بين الهمل من الحيوانات ، بل للبشر يما جعل الله فيهم من انتظام الأفعال و ترتيبها بالفكر كما تقدم . جعل منتظما فيهم و يسرهم لإيقاعه على وجوه سياسية و قوانين حكمية . ينكبون فيها عن المفاسد إلى المصالح ، و عن الحسن إلى القبيح ، بعد أن يميزوا القبائح و المفسدة . بما ينشأ عن الفعل من ذلك عن تجربة صحيحة ، و عوائد معروفة بينهم ، فيفارقون الهمل من الحيوان . و تظهر عليهم نتيجة الفكر في انتظام الأفعال و بعدها عن المفاسد .
هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحس كل البعد و لا يتعمق فيها الناظر ، بل كلها تدرك بالتجربة و بها يستفاد . لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات و صدقها و كذبها ، يظهر قريبا في الواقع ، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك . و يستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصا له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه . حتى يتعين له ما يجب و ينبغي ، فعلا و تركا . و تحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه . و من تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كل قضية . و لابد بما تسعه التجربة من الزمن . و قد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة ، إذ قلد فيها الآباء و المشيخة و الأكابر ، و لقن عنهم و وعى تعليمهم ، فيستغني عن طول المعانات في تتبع الوقائع و اقتناص هذا المعنى من بينها . و من فقد العلم في ذلك و التقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه و اتباعه ، طال عناؤة في التأديب بذلك ، فيجري في غير مألوف و يدركها على غير نسبة ، فتوجد آدابه و فعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل ، و يفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه . و هذا معنى القول المشهور : من لم يؤدبه والده أدبه الزمان . أي من لم يلقن الآداب في معاملة البشر من والديه و في معناهما المشيخة و الأكابر و يتعلم ذلك منهم رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام ، فيكون الزمان معلمه و مؤدبة لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه .
و هذا هو العقل التجريبي ، و هو يحصل بعد العقل التمييزي الذي تقع به الأفعال كما بيناه . و بعد هذين مرتبة العقل النظري الذي تكفل يتفسيره أهل العلوم ، فلا تحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب . و الله " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " .
الفصل الثالث عشر : في علوم البشر و علوم الملائكة
إنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم : أولها : عالم الحس و نعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك . ثم نعتبره الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علما ضروريا بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحس ، فتراه عالما آخر فوق عالم الحس . ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات و الوجهات ، نحو الحركات الفعلية ، فنعلم أن هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا و هو عالم الأرواح و الملائكة . و فيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا و بينها من المغايرة . و ربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني و ذواته بالرؤيا و ما نجد في النوم ، و يلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة ، و تطابق الواقع في الصحيحة منها ، فنعلم أنها حق و من عالم الحق . و أما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن و يجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحس . و لا نجد على هذا العالم الروحاني برهانا أوضح من هذا ، فنعلمه كذلك على الجملة و لا ندرك له تفصيلا .
و ما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته و ترتيبها ، المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه . كما هو مقرر في كلامهم في المنطق . لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية . و هذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها . و لا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان و يحكمها . و أعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر ، لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية و الروحانية . و يشترك في عالم الحس مع الحيوانات و في عالم العقل و الأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته ، و هي ذوات مجردة عن الجسمانية و المادة ، و عقل صرف يتحد فيه العقل و العاقل و المعقول ، و كأنه ذات حقيقتها الإدراك و العقل ، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة .
و علم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة . فهو كله مكتسب ، و الذات التي يحصل فيها صور المعلومات و هي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا فشيئا ، حتى تستكمل ، و يصح وجودها بالموت في مادتها و صورتها . فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي و الإثبات دائما ، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين . فإذا حصل و صار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة ، و ربما أوضحها البرهان الصناعي ، لكنه من وراء الحجاب . و ليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة . و قد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكي . فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد في علمه ، و عالم بالكسب و الصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية . و كشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالإذكار التي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء و المنكر . و بالتنزه عن المتناولات المهمة و رأسها الصوم ، و بالوجهة إلى الله بجميع قواه . و الله علم الإنسان ما لم يعلم .
الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام
إنا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر و أحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية و النزوعية من الشهوة و الغضب و سائر الأحوال البدنية . فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية ، من العبادة و الذكر لله بما يقتضي معرفتهم به ، فخبرين عنة بما يوحي إليهم في تلك الحالة ، من هداية الأمة على طريقة واحدة و سنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنة جبلة فطرهم الله عليها . و قد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب . و بينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة و المركبة على تركيب طبيعي من أعلاها و أسفلها متصلة كلها اتصالا لا ينخرم . و أن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاوزها من الأسفل و الأعلى . استعدادا طبيعيا . كما في العناصر الجسمانية البسيطة . و كما في النخل و الكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون و الصدف من أفق الحيوان و كما في القردة التي استجمع فيها الكيس و الإدراك مع الإنسان صاحب الفكر و الروية . و هذا الاستعداد الذي في جانب كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها .
و فوق العالم البشري عالم روحاني ، شهدت لنا به الآثار التي فينا منه ، بما يعطينا من قوى الإدراك و الإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف و تعقل محض ، و هو عالم الملائكة ، فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية . لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات . و في لمحة من اللمحات . ثم تراجع بشريتها و قد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر . و هذا هو معنى الوحي و خطاب الملائكة . و الأنبياء كلهم مفطورون عليه . كأنه جبلة لهم و يعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة و الغطيط ما هو معروف عنهم . و علومهم في تلك الحالة علم شهادة و عيان ، لا يلحقه الخطأ و الزلل ، و لا يقع فيه الغلط و الوهم ، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب و حصول الشهادة الواضحة ، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية ، لا تفارق علمهم الوضوح . استصحابا له من تلك الحالة الأولى ، و لما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها ، يتردد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى : " إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه " . فافهم ذلك و راجع ما قدمناه لك أول الكتاب ، في أصناف المدركين للغيب ، يتضح لك شرحه و بيانه ، فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا . و الله الموفق .
الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات ، و أن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له ، يوقع به أفعاله على انتظام و هو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء و المصلح و المفاسد من أبناء جنسه ، و هو العقل التجريبي ، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا و شاهدا ، على ما هي عليه ، و هو العقل النظري ، و هذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه . و يبدأ من التمييز ، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة ، معدود من الحيوانات ، لاحق بمبدئه في التكوين ، من النطفة و العلقة و المضغة . و ما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس و الأفئدة التي هي الفكر . قال تعالى في الامتنان علينا : " و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة " فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط . لجهله بجميع المعارف . ثم تستكمل صورته بالع لم الذي يكتسبه بآلاته ، فكمل ذاته الإنسانية في وجودها . و انظر إلى قوله تعالى مبدأ الوحي على نبيه " اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم " أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أن كان علقة و مضغة فقد كشفت لنا طبيعته و ذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي و العلم الكسبي و أشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده . و هي الإنسانية . و حالتاه الفطرية و الكسبية في أول التنزيل و مبدأ الوحي . و كان الله عليما حكيما .
الفصل السادس عشر : في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب و السنة و ما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية و المبتدعة في الاعتقادات
اعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم يدعونا إلى النجاة و الفوز بالنعيم و أنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين . يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك . و كان في خلال هذا الخطاب ، و من ضروراته ، ذكر صفاته سبحانه و أسمائه ، ليعرفنا بذاته ، و ذكر الروح المتعلقة بنا ، و ذكر الوحي و الملائكة ، الوسائط بينه و بين رسله إلينا . و ذكر لنا يوم البعث و إنذاراته و لم يعين لنا الوقت في شيء منه . و ثبت في هذا القرآن الكريم حروفا من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره ، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها . و سمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابها . و ذم على اتباعها فقال تعالى : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " ، و حمل العلماء من سلف الصحابة و التابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام . و لذا قال الفقهاء في اصطلاحهم : المحكم المتضح المعنى . و أما المتشابهات فلهم فيها عبارات . فقيل هي التي تفتقر إلى نظر و تفسير تصحح معناها ، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل ، فتخفى دلالتها و تشتبه . و على هذا قال ابن عباس : المتشابه يؤمن به و لا يعمل به و قال مجاهد و عكرمة : كلما سوى آيات الأحكام و القصص متشابه و عليه القاضي أبو بكر و إمام الحرمين . و قال الثوري و الشعبي و جماعة من علماء السلف : المتشابه ، ما لم يكن سبيل إلى علمه ، كشروط الساعة و أوقات الإنذارات و حروف الهجاء في أوائل السور ، و قوله في الآية " هن أم الكتاب " أي معظمة و غالبة و المتشابه أقله ، و قد يرد إلى المحكم . ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به . وسماهم أهل زيغ ، أي ميل عن الحق من الكفار و الزنادقة و جهلة أهل البدع . و أن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم .
ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها و لا يعلمه إلا هو فقال : و ما يعلم تأويله إلا الله . ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط . فقال : " و الراسخون في العلم يقولون آمنا به " . و لهذا جعل السلف و الراسخون مستأنفا و رجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء و مع عطفه إنما يكون إيمانا بالشاهد . لأنهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيبا . و يعضد ذلك قوله " كل من عند ربنا " و يدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر . إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم . منها المعاني التي وضعها العرب لها ، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ ، و إن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه و لا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه ، فلا سبيل لنا إلى ذلك . و قد قالت عائشة رضي الله عنها : إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم . هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة . و جاء في السنة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد .
و إذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه ، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها . فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة و أشراطها و أوقات الإنذارات و عدد الزبانية وأمثال ذلك ، فليس هذا و الله أعلم من المتشابه ، لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل و لا غيره و إنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه و على لسان نبيه . و قال : " إنما علمها عند الله " . و العجب ممن عدها من التشابه . و أما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء و ليس ببعيد أن تكون مرادة . و قد قال الزمخشري : فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز ، لأن القرآن المنزل مؤلف منها ، و البشر فيها سواء ، و التفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف . و إن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح ، كقولهم في طه ، إنه نداء من طاهر و هادي و أمثال ذلك . و النقل الصحيح متعذر ، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه . و أما الوحي والملائكة و الروح و الجن ، فاشتباهها من حاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة ، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك . و قد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة و الجنة والدجال و الفتن و الشروط ، و ما هو بخلاف العوائد المألوفة ، و هو غير بعيد ، إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه . و سيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهم ، و لم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه و على لسان نبيه ، مما يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا . و قد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم . و تنازعوا و تطرقت البدع إلى العقائد . فلنشر إلى بيان مذاهبهم و إيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول ، و ما توفيقي إلا بالله : اعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم ، قادر ، شديد ، حي ، سميع ، بصير . متكلم ، جليل ، كريم ، جواد ، منعم ، عزيز ، عظيم . و كذا أثبت لنفسه اليدين و العينين و الوجه و القدم واللسان ، إلى غير ذلك من الصفات : فمنها ما يقتضي صحة ألوهية . مثل العلم والقدرة و الإرادة . ثم الحياة التي هي شرط جميعها ، و منها ما هي صفة كمال ، كالسمع و البصر و الكلام ، و منها ما يوهم النقص كالاستواء و النزول و المجيء ، و كالوجه و اليدين و العينين التي هي صفات المحدثات . ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر ، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح .
فأما السلف من الصحابة و التابعين فأثبتوا له صفات الألوهية و الكمال و فوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله . ثم اختلف الناس من بعدهم و جاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنية مجردة ، و لم يثبتوا صفة تقوم بذاته . و سموا ذلك توحيدا ، و جعلوا الإنسان خالقا لأفعاله . و لا تتعلق بها قدرة الله تعالى ، سيما الشرور و المعاصي منها ، إذ يمتنع على الحكيم فعلها . و جعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه . و سموا ذلك عدلا ، بعد أن كانوا أولا يقولون بنفي القدر ، و أن الأمر كله فستأنف بعلم حادث و قدرة و إرادة كذلك ، كما ورد في الصحيح . و أن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني و أصحابه القائلين بذلك . و انتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي ، منهم ، تلميذ الحسن البصري ، لعهد عبد الملك بن مروان . ثم آخرا إلى معمر السلمي و رجعوا عن القول به . و كان منهم أبو الهذيل العلاف ، و هو شيخ المعتزلة . أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل . و كان من صفات القدر ، و اتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجودية لظهور مذاهبهم يومئذ .ثم جاء إبراهيم النظام ، و قال بالقدر ، و اتبعوه . و طالع كتب الفلاسفة و شدد في نفي الصفات و قرر قواعد الاعتزال . ثم جاء الجاحظ و الكعبي و الجبائي . و كانت طريقتهم تسمى علم الكلام : إما لما فيها من الحجاج و الجدال . و هو الذي يسمى كلاما ، و إما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام . فلهذا كأنما الشافعي يقول : حقهم أن يضربوا بالجريد و يطاف بهم . و قرر هؤلاء طريقتهم أثبتوا منها و ردوا ، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري و ناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح و الأصلح ، فرفض طريقتهم ، و كان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب و أبي العباس القلانسي و الحرث ابن أسد المحاسبي من أتباع السلف و على طريقة السنة . فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية و أثبت الصفات لى قائمة بذات الله تعالى ، من العلم و القدرة و الإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء . و كان من مذهبهم إثبات الكلام و السمع و البصر لأنها وإن أوهم ظاهرا النقص بالصوت و الحرف الجسمانيين ، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف و الصوت ، و هو ما يدور في الخلد . و الكلام حقيقة فيه دون الأول ، فأثبتوها لله تعالى و انتفى إيهام النقص . و أثبتوا هذه الضفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى . و صار القرآن اسما مشتركا بين القديم بذات الله تعالى . و هو الكلام النفسي و المحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات . فإذا قيل قديم ، فالمراد الأول ، و إذا قيل مقروء ، مسموع ، فلدلالة القراءة و الكتابة عليه . و تورع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه ، لأنه لم يسمع من السلف قبله : لا إنه يقول أن المصاحف المكتوبة قديمة ، و لا أن القراءة الجارية على السنة قديمة . و هو شاهدها فحدثه . و إنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه . و أما غير ذلك فإنكار للضروريات ، و حاشاة منه . و أما السمع و البصر ، و إن كان يوهم إدراك الجارحة . فهو يدل أيضا لغة على إدراك المسموع و المبصر و ينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما . و أما لفظ الاستواء و المجيء و النزول و الوجه و اليدين و العينين و أمثال ذلك ، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها ، على طريقة العرب ، حيث تتعذر حقائق الألفاظ ، فيرجعون إلى المجاز . كما في قوله تعالى : " يريد أن ينقض " و أمثاله ، طريقة معروفة . لهم غير منكرة و لا مبتدعة . وحملهم على هذا التأويل ، و إن كان مخالفا لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف و هم المحدثون و المتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى ، مجهولة الكيفية . فيقولون في " استوى على العرش " تثبت له استواء ، بحيث مدلول اللفظة . فرارا من تعطيله . و لا نقول بكيفيته فرارا من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب ، من قوله " ليس كمثله شيء " " سبحان الله عما يصفون " تعالى الله عما يقول الظالمون " لم يلد و لم يولد " و لم يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء ، و الاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار و التمكن . و هو جسماني . و أما التعطيل الذي يشنعون بإلزامه ، و هو تعطيل اللفظ ، فلا محذور فيه . و إنما المحذور في تعطيل الآلة . و كذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق و هو تمويه . لأن التشابه لم يقع في التكاليف ، ثم يدعون أن هذا مذهب السلف ، و حاشا لله من ذلك . و إنما مذهب السلف ما قررناه أولا من تفويض المراد بها إلى الله ، و السكوت عن فهمها . و قد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك : إن الاستواء معلوم الثبوت لله و حاشاه من ذلك ، لأنة يعلم مدلول الاستواء . و إنما أراد أن الاستواء معلوم من الله ، و هو الجسماني . و كيفيته أي حقيقته . لأن حقائق الصفات كلها كيفيات ، و هي مجهولة الثبوت لله . و كذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء . و أنها لما قال لها النبي صلى الله عليه و سلم : " أين الله ؟ و قالت في السماء ، فقال أعتقها فإنها مؤمنة " . والنبي صلى الله عليه و سلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله ، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر ، أن الله في السماء ، فدخلت في
هذه المعاني التي يحصل بها ذلك لا تبعد عن الحس كل البعد و لا يتعمق فيها الناظر ، بل كلها تدرك بالتجربة و بها يستفاد . لأنها معان جزئية تتعلق بالمحسوسات و صدقها و كذبها ، يظهر قريبا في الواقع ، فيستفيد طالبها حصول العلم بها من ذلك . و يستفيد كل واحد من البشر القدر الذي يسر له منها مقتنصا له بالتجربة بين الواقع في معاملة أبناء جنسه . حتى يتعين له ما يجب و ينبغي ، فعلا و تركا . و تحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه . و من تتبع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كل قضية . و لابد بما تسعه التجربة من الزمن . و قد يسهل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة ، إذ قلد فيها الآباء و المشيخة و الأكابر ، و لقن عنهم و وعى تعليمهم ، فيستغني عن طول المعانات في تتبع الوقائع و اقتناص هذا المعنى من بينها . و من فقد العلم في ذلك و التقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه و اتباعه ، طال عناؤة في التأديب بذلك ، فيجري في غير مألوف و يدركها على غير نسبة ، فتوجد آدابه و فعاملاته سيئة الأوضاع بادية الخلل ، و يفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه . و هذا معنى القول المشهور : من لم يؤدبه والده أدبه الزمان . أي من لم يلقن الآداب في معاملة البشر من والديه و في معناهما المشيخة و الأكابر و يتعلم ذلك منهم رجع إلى تعلمه بالطبع من الواقعات على توالي الأيام ، فيكون الزمان معلمه و مؤدبة لضرورة ذلك بضرورة المعاونة التي في طبعه .
و هذا هو العقل التجريبي ، و هو يحصل بعد العقل التمييزي الذي تقع به الأفعال كما بيناه . و بعد هذين مرتبة العقل النظري الذي تكفل يتفسيره أهل العلوم ، فلا تحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب . و الله " وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون " .
الفصل الثالث عشر : في علوم البشر و علوم الملائكة
إنا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصحيح وجود ثلاثة عوالم : أولها : عالم الحس و نعتبره بمدارك الحس الذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك . ثم نعتبره الفكر الذي اختص به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانية علما ضروريا بما بين جنبينا من مدارك العلمية التي هي فوق مدارك الحس ، فتراه عالما آخر فوق عالم الحس . ثم نستدل على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره التي تلقى في أفئدتنا كالإرادات و الوجهات ، نحو الحركات الفعلية ، فنعلم أن هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا و هو عالم الأرواح و الملائكة . و فيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا و بينها من المغايرة . و ربما يستدل على هذا العالم الأعلى الروحاني و ذواته بالرؤيا و ما نجد في النوم ، و يلقى إلينا فيه من الأمور التي نحن في غفلة عنها في اليقظة ، و تطابق الواقع في الصحيحة منها ، فنعلم أنها حق و من عالم الحق . و أما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن و يجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحس . و لا نجد على هذا العالم الروحاني برهانا أوضح من هذا ، فنعلمه كذلك على الجملة و لا ندرك له تفصيلا .
و ما يزعمه الحكماء الإلهيون في تفصيل ذواته و ترتيبها ، المسماة عندهم بالعقول فليس شيء من ذلك بيقيني لاختلال شرط البرهان النظري فيه . كما هو مقرر في كلامهم في المنطق . لأن من شرطه أن تكون قضاياه أولية ذاتية . و هذه الذوات الروحانية مجهولة الذاتيات فلا سبيل للبرهان فيها . و لا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلا ما نقتبسه من الشرعيات التي يوضحها الإيمان و يحكمها . و أعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر ، لأنه وجداني مشهود في مداركنا الجسمانية و الروحانية . و يشترك في عالم الحس مع الحيوانات و في عالم العقل و الأرواح مع الملائكة الذين ذواتهم من جنس ذواته ، و هي ذوات مجردة عن الجسمانية و المادة ، و عقل صرف يتحد فيه العقل و العاقل و المعقول ، و كأنه ذات حقيقتها الإدراك و العقل ، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتة .
و علم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة . فهو كله مكتسب ، و الذات التي يحصل فيها صور المعلومات و هي النفس مادة هيولانية تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا فشيئا ، حتى تستكمل ، و يصح وجودها بالموت في مادتها و صورتها . فالمطلوبات فيها مترددة بين النفي و الإثبات دائما ، بطلب أحدهما بالوسط الرابط بين الطرفين . فإذا حصل و صار معلوما افتقر إلى بيان المطابقة ، و ربما أوضحها البرهان الصناعي ، لكنه من وراء الحجاب . و ليس كالمعاينة التي في علوم الملائكة . و قد ينكشف ذلك الحجاب فيصير إلى المطابقة بالعيان الإدراكي . فقد تبين أن البشر جاهل بالطبع للتردد في علمه ، و عالم بالكسب و الصناعة لتحصيله المطلوب بفكرة الشروط الصناعية . و كشف الحجاب الذي أشرنا إليه إنما هو بالرياضة بالإذكار التي أفضلها صلاة تنتهي عن الفحشاء و المنكر . و بالتنزه عن المتناولات المهمة و رأسها الصوم ، و بالوجهة إلى الله بجميع قواه . و الله علم الإنسان ما لم يعلم .
الفصل الرابع عشر في علوم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام
إنا نجد هذا الصنف من البشر تعتريهم حالة إلهية خارجة عن منازع البشر و أحوالهم فتغلب الوجهة الربانية فيهم على البشرية في القوى الإدراكية و النزوعية من الشهوة و الغضب و سائر الأحوال البدنية . فتجدهم متنزهين عن الأحوال الربانية ، من العبادة و الذكر لله بما يقتضي معرفتهم به ، فخبرين عنة بما يوحي إليهم في تلك الحالة ، من هداية الأمة على طريقة واحدة و سنن معهود منهم لا يتبدل فيهم كأنة جبلة فطرهم الله عليها . و قد تقدم لنا الكلام في الوحي أول الكتاب في فصل المدركين للغيب . و بينا هنالك أن الوجود كله في عوالمه البسيطة و المركبة على تركيب طبيعي من أعلاها و أسفلها متصلة كلها اتصالا لا ينخرم . و أن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاوزها من الأسفل و الأعلى . استعدادا طبيعيا . كما في العناصر الجسمانية البسيطة . و كما في النخل و الكرم من آخر أفق النبات مع الحلزون و الصدف من أفق الحيوان و كما في القردة التي استجمع فيها الكيس و الإدراك مع الإنسان صاحب الفكر و الروية . و هذا الاستعداد الذي في جانب كل أفق من العوالم هو معنى الاتصال فيها .
و فوق العالم البشري عالم روحاني ، شهدت لنا به الآثار التي فينا منه ، بما يعطينا من قوى الإدراك و الإرادة فذوات العلم العالم إدراك صرف و تعقل محض ، و هو عالم الملائكة ، فوجب من ذلك كله أن يكون للنفس الإنسانية استعداد للانسلاخ من البشرية إلى الملكية . لتصير بالفعل من جنس الملائكة وقتا من الأوقات . و في لمحة من اللمحات . ثم تراجع بشريتها و قد تلقت في عالم الملكية ما كفلت بتبليغه إلى أبناء جنسها من البشر . و هذا هو معنى الوحي و خطاب الملائكة . و الأنبياء كلهم مفطورون عليه . كأنه جبلة لهم و يعالجون في ذلك الانسلاخ من الشدة و الغطيط ما هو معروف عنهم . و علومهم في تلك الحالة علم شهادة و عيان ، لا يلحقه الخطأ و الزلل ، و لا يقع فيه الغلط و الوهم ، بل المطابقة فيه ذاتية لزوال حجاب الغيب و حصول الشهادة الواضحة ، عند مفارقة هذه الحالة إلى البشرية ، لا تفارق علمهم الوضوح . استصحابا له من تلك الحالة الأولى ، و لما هم عليه من الذكاء المفضي بهم إليها ، يتردد ذلك فيهم دائما إلى أن تكمل هداية الأمة التي بعثوا لها كما في قوله تعالى : " إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه " . فافهم ذلك و راجع ما قدمناه لك أول الكتاب ، في أصناف المدركين للغيب ، يتضح لك شرحه و بيانه ، فقد بسطناه هنالك بسطا شافيا . و الله الموفق .
الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات ، و أن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له ، يوقع به أفعاله على انتظام و هو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء و المصلح و المفاسد من أبناء جنسه ، و هو العقل التجريبي ، أو يحصل به في تصور الموجودات غائبا و شاهدا ، على ما هي عليه ، و هو العقل النظري ، و هذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه . و يبدأ من التمييز ، فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة ، معدود من الحيوانات ، لاحق بمبدئه في التكوين ، من النطفة و العلقة و المضغة . و ما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس و الأفئدة التي هي الفكر . قال تعالى في الامتنان علينا : " و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة " فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط . لجهله بجميع المعارف . ثم تستكمل صورته بالع لم الذي يكتسبه بآلاته ، فكمل ذاته الإنسانية في وجودها . و انظر إلى قوله تعالى مبدأ الوحي على نبيه " اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم " أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلا له بعد أن كان علقة و مضغة فقد كشفت لنا طبيعته و ذاته ما هو عليه من الجهل الذاتي و العلم الكسبي و أشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده . و هي الإنسانية . و حالتاه الفطرية و الكسبية في أول التنزيل و مبدأ الوحي . و كان الله عليما حكيما .
الفصل السادس عشر : في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب و السنة و ما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية و المبتدعة في الاعتقادات
اعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم يدعونا إلى النجاة و الفوز بالنعيم و أنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين . يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك . و كان في خلال هذا الخطاب ، و من ضروراته ، ذكر صفاته سبحانه و أسمائه ، ليعرفنا بذاته ، و ذكر الروح المتعلقة بنا ، و ذكر الوحي و الملائكة ، الوسائط بينه و بين رسله إلينا . و ذكر لنا يوم البعث و إنذاراته و لم يعين لنا الوقت في شيء منه . و ثبت في هذا القرآن الكريم حروفا من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره ، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها . و سمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابها . و ذم على اتباعها فقال تعالى : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " ، و حمل العلماء من سلف الصحابة و التابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام . و لذا قال الفقهاء في اصطلاحهم : المحكم المتضح المعنى . و أما المتشابهات فلهم فيها عبارات . فقيل هي التي تفتقر إلى نظر و تفسير تصحح معناها ، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل ، فتخفى دلالتها و تشتبه . و على هذا قال ابن عباس : المتشابه يؤمن به و لا يعمل به و قال مجاهد و عكرمة : كلما سوى آيات الأحكام و القصص متشابه و عليه القاضي أبو بكر و إمام الحرمين . و قال الثوري و الشعبي و جماعة من علماء السلف : المتشابه ، ما لم يكن سبيل إلى علمه ، كشروط الساعة و أوقات الإنذارات و حروف الهجاء في أوائل السور ، و قوله في الآية " هن أم الكتاب " أي معظمة و غالبة و المتشابه أقله ، و قد يرد إلى المحكم . ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به . وسماهم أهل زيغ ، أي ميل عن الحق من الكفار و الزنادقة و جهلة أهل البدع . و أن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم .
ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها و لا يعلمه إلا هو فقال : و ما يعلم تأويله إلا الله . ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط . فقال : " و الراسخون في العلم يقولون آمنا به " . و لهذا جعل السلف و الراسخون مستأنفا و رجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء و مع عطفه إنما يكون إيمانا بالشاهد . لأنهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيبا . و يعضد ذلك قوله " كل من عند ربنا " و يدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر . إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم . منها المعاني التي وضعها العرب لها ، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ ، و إن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه و لا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه ، فلا سبيل لنا إلى ذلك . و قد قالت عائشة رضي الله عنها : إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم . هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة . و جاء في السنة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد .
و إذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه ، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها . فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة و أشراطها و أوقات الإنذارات و عدد الزبانية وأمثال ذلك ، فليس هذا و الله أعلم من المتشابه ، لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل و لا غيره و إنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه و على لسان نبيه . و قال : " إنما علمها عند الله " . و العجب ممن عدها من التشابه . و أما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء و ليس ببعيد أن تكون مرادة . و قد قال الزمخشري : فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز ، لأن القرآن المنزل مؤلف منها ، و البشر فيها سواء ، و التفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف . و إن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح ، كقولهم في طه ، إنه نداء من طاهر و هادي و أمثال ذلك . و النقل الصحيح متعذر ، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه . و أما الوحي والملائكة و الروح و الجن ، فاشتباهها من حاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة ، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك . و قد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة و الجنة والدجال و الفتن و الشروط ، و ما هو بخلاف العوائد المألوفة ، و هو غير بعيد ، إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه . و سيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهم ، و لم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه و على لسان نبيه ، مما يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا . و قد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم . و تنازعوا و تطرقت البدع إلى العقائد . فلنشر إلى بيان مذاهبهم و إيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول ، و ما توفيقي إلا بالله : اعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم ، قادر ، شديد ، حي ، سميع ، بصير . متكلم ، جليل ، كريم ، جواد ، منعم ، عزيز ، عظيم . و كذا أثبت لنفسه اليدين و العينين و الوجه و القدم واللسان ، إلى غير ذلك من الصفات : فمنها ما يقتضي صحة ألوهية . مثل العلم والقدرة و الإرادة . ثم الحياة التي هي شرط جميعها ، و منها ما هي صفة كمال ، كالسمع و البصر و الكلام ، و منها ما يوهم النقص كالاستواء و النزول و المجيء ، و كالوجه و اليدين و العينين التي هي صفات المحدثات . ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر ، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح .
فأما السلف من الصحابة و التابعين فأثبتوا له صفات الألوهية و الكمال و فوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله . ثم اختلف الناس من بعدهم و جاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنية مجردة ، و لم يثبتوا صفة تقوم بذاته . و سموا ذلك توحيدا ، و جعلوا الإنسان خالقا لأفعاله . و لا تتعلق بها قدرة الله تعالى ، سيما الشرور و المعاصي منها ، إذ يمتنع على الحكيم فعلها . و جعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه . و سموا ذلك عدلا ، بعد أن كانوا أولا يقولون بنفي القدر ، و أن الأمر كله فستأنف بعلم حادث و قدرة و إرادة كذلك ، كما ورد في الصحيح . و أن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني و أصحابه القائلين بذلك . و انتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي ، منهم ، تلميذ الحسن البصري ، لعهد عبد الملك بن مروان . ثم آخرا إلى معمر السلمي و رجعوا عن القول به . و كان منهم أبو الهذيل العلاف ، و هو شيخ المعتزلة . أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل . و كان من صفات القدر ، و اتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجودية لظهور مذاهبهم يومئذ .ثم جاء إبراهيم النظام ، و قال بالقدر ، و اتبعوه . و طالع كتب الفلاسفة و شدد في نفي الصفات و قرر قواعد الاعتزال . ثم جاء الجاحظ و الكعبي و الجبائي . و كانت طريقتهم تسمى علم الكلام : إما لما فيها من الحجاج و الجدال . و هو الذي يسمى كلاما ، و إما أن أصل طريقتهم نفي صفة الكلام . فلهذا كأنما الشافعي يقول : حقهم أن يضربوا بالجريد و يطاف بهم . و قرر هؤلاء طريقتهم أثبتوا منها و ردوا ، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري و ناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح و الأصلح ، فرفض طريقتهم ، و كان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب و أبي العباس القلانسي و الحرث ابن أسد المحاسبي من أتباع السلف و على طريقة السنة . فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية و أثبت الصفات لى قائمة بذات الله تعالى ، من العلم و القدرة و الإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء . و كان من مذهبهم إثبات الكلام و السمع و البصر لأنها وإن أوهم ظاهرا النقص بالصوت و الحرف الجسمانيين ، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف و الصوت ، و هو ما يدور في الخلد . و الكلام حقيقة فيه دون الأول ، فأثبتوها لله تعالى و انتفى إيهام النقص . و أثبتوا هذه الضفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى . و صار القرآن اسما مشتركا بين القديم بذات الله تعالى . و هو الكلام النفسي و المحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات . فإذا قيل قديم ، فالمراد الأول ، و إذا قيل مقروء ، مسموع ، فلدلالة القراءة و الكتابة عليه . و تورع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه ، لأنه لم يسمع من السلف قبله : لا إنه يقول أن المصاحف المكتوبة قديمة ، و لا أن القراءة الجارية على السنة قديمة . و هو شاهدها فحدثه . و إنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه . و أما غير ذلك فإنكار للضروريات ، و حاشاة منه . و أما السمع و البصر ، و إن كان يوهم إدراك الجارحة . فهو يدل أيضا لغة على إدراك المسموع و المبصر و ينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما . و أما لفظ الاستواء و المجيء و النزول و الوجه و اليدين و العينين و أمثال ذلك ، فعدلوا عن حقائقها اللغوية لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها ، على طريقة العرب ، حيث تتعذر حقائق الألفاظ ، فيرجعون إلى المجاز . كما في قوله تعالى : " يريد أن ينقض " و أمثاله ، طريقة معروفة . لهم غير منكرة و لا مبتدعة . وحملهم على هذا التأويل ، و إن كان مخالفا لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف و هم المحدثون و المتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى ، مجهولة الكيفية . فيقولون في " استوى على العرش " تثبت له استواء ، بحيث مدلول اللفظة . فرارا من تعطيله . و لا نقول بكيفيته فرارا من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب ، من قوله " ليس كمثله شيء " " سبحان الله عما يصفون " تعالى الله عما يقول الظالمون " لم يلد و لم يولد " و لم يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء ، و الاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار و التمكن . و هو جسماني . و أما التعطيل الذي يشنعون بإلزامه ، و هو تعطيل اللفظ ، فلا محذور فيه . و إنما المحذور في تعطيل الآلة . و كذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق و هو تمويه . لأن التشابه لم يقع في التكاليف ، ثم يدعون أن هذا مذهب السلف ، و حاشا لله من ذلك . و إنما مذهب السلف ما قررناه أولا من تفويض المراد بها إلى الله ، و السكوت عن فهمها . و قد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك : إن الاستواء معلوم الثبوت لله و حاشاه من ذلك ، لأنة يعلم مدلول الاستواء . و إنما أراد أن الاستواء معلوم من الله ، و هو الجسماني . و كيفيته أي حقيقته . لأن حقائق الصفات كلها كيفيات ، و هي مجهولة الثبوت لله . و كذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء . و أنها لما قال لها النبي صلى الله عليه و سلم : " أين الله ؟ و قالت في السماء ، فقال أعتقها فإنها مؤمنة " . والنبي صلى الله عليه و سلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله ، بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر ، أن الله في السماء ، فدخلت في
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه . و القطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار . و من أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل " ليس كمثله شيء " ، وأشباهه . و من قوله : " و هو الله في السموات و في الأرض " ، إذ الموجود لا يكون في مكانين ، فليست في هذا للمكان قطعا ، و المراد غيره . ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه و العينين و اليدين ، و النزول و الكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية و ينزهونه عن مدلول الجسماني منها . و هذا شيء لا يعرف في اللغة . و قد درج على ذلك الأول و الآخر منهم و نافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية و الحنفية . و رفضوا عقائدهم في ذلك ، و وقع بين متكلمي الحنفية ببخارى و بين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف . و أما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية . و أنها لا كالأجسام . و لفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات . و إنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر ، فلم يقتصروا عليه ، بل توغلوا و أثبتوا الجسمية . يزعمون فيها مثل ذلك و ينزهونه بقول متناقض سفساف ، و هو قولهم : جسم لا كالأجسام . و الجسم في لغة العرب هو العميق المحدود و غير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر و غير ذلك ، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي . فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر . حيث أثبتوا لله وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه . و لا كلام نبيه . فقد تبين لك الفرق بين مذاهب السلف و المتكلمين السنية و المحدثين والمبتدعة من المعتزلة و المجسمة بما أطلعناك عليه . و في المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه ، حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال : أعفوني من اللحية و الفرج و سلوا عما بدا لكم من سواهما . و إن لم يتأول ذلك لهم ، بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة . و حملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم ، و إلا فهو كفر صريح و العياذ بالله . و كتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع . و بسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة . و إنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات و جملها . و الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
و أما الظواهر الخفية الأدلة و الدلالة ، كالوحي و الملائكة و الروح و الجن والبرزخ و أحوال القيامة والدجال و الفتن و الشروط . و سائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات ، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله ، و هم أهل السنة . فلا تشابه ، و إن قلنا فيه بالتشابه ، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول : اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات ، و أرفعها . و هو و إن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى ، كأن الحقائق فيها مختلفة .
فالطور الأول : عالمه الجسماني بحسه الظاهر و فكره المعاشي و سائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر .
الطور الثاني : عالم النوم ، و هو تصور الخيال بانفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة و الأمكنة و سائر الأحوال الجسمانية ، و يشاهدها في إمكان ليس هو فيه . و يحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية و الأخروية ، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه . و هذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر ، و هما مختلفان في المدارك كما تراه .
الطور الثالث : طور النبوة ، و هو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته و توحيده . و تنزل ملائكته عليهم بوحيه . و تكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة .
الطور الرابع : طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه و يعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى ، و هي دار الجزاء الأكبر نعيما و عذابا في الجنة أو في النار .
و الطوران الأولان شاهدهما وجداني . و الطور الثالث النبوي شاهده المعجزة و الأحوال المختصة بالأنبياء ، و الطور الرابع شاهده ما تنزل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد و أحوال البرزخ و القيامة ، مع أن العقل يقتضي به ، كما نبهنا الله عليه ، في كثير من آيات البعثة . و من أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالا تليق به . لكان إيجاده الأول عبثا . إذ الموت إذا كان عدما كان مآل الشخص إلى العدم . فلا يكون لوجوده الأول حكمة . و العبث على الحكيم محال . وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة ، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بينا يكشف لك غور المتشابه . فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية . قال الله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف و يستكمل حقيقة إنسانية و يوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة .
و أما مداركه في الطور الثاني . و هو طور النوم . فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها . لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة . لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه و لا يرتاب . مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها . و الناس في حقيقة هذه الحال فريقان : الحكماء ، يزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر و الحس الباطن . فتصور محسوسة بالظاهر في الحواس كلها . و يشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت و أرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية ، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد .
الفريق الثاني : المتكلمون . أجملوا فيها القول . و قالوا : هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة . و هذا أليق و إن كنا لا نتصور كيفيته .
و هذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار .
و أما الطور الثالث ، و هو طور الأنبياء . فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية . عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين . فيرى النبي الله و الملائكة . و يسمع كلام الله منه أو من الملائكة . و يرى الجنة و النار ، و العرش و الكرسي ، و يخترق السموات السبع في إسرائه و يركب البراق فيها ، و يلقى النبيين هنالك . و يصلى بهم ، و يدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني و النومي ، بعلم ضروري يخلقه الله له ، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح . و لا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحس المشترك . فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم ، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه ، فيكون على هذا حقيقة الوحي و الرؤيا من النبي واحدة في يقينها و حقيقتها . و ليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم قبل الوحي ستة أشهر و أنها كانت بمدة الوحي و مقدمته . و يشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة . و كذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه و يقاسي منه شدة كما هي في الصحيح . حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات . و بعد ذلك نزل عليه براءة في غزوة تبوك جملة واحدة ، و هو يسير على ناقته . فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط ، و من الخيال إلى الحس المشترك ، لم يكن بين هذه الحالات فرق . و أما الطور الرابع ، و هو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر . و هم مجردون عن البدن . أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام . فمداركهم الحسية موجودة ، فيرى الميت في قبره الملكان يسألانه . و يرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه ، و يرى شهود الجنازة و يسمع كلامهم و خفق نعالهم في الانصراف عنه ، و يسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين ، و غير ذلك . و في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قليب بدر و فيه قتلى المشركين من قريش ، و ناداهم بأسمائهم ، فقال عمر : يا رسول الله ! أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول . ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم و أبصارهم كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه و عذاب النار على مراتبه ، و يرون الملائكة و يرون ربهم " ، كما ورد في الصحيح : إنكم ترون ربكم يوم القيامة ، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته . و هذه المدارك لم تكن لهم في . الحياة الدنيا و هي حسية مثلها . و تقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلناه . و سر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن و بمداركه ، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية ، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح ، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها ، أرفع من إدراكها ، و هي في الجسد . قاله الغزالي رحمه الله ، و زاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها . بعد المفارقة فيها العينان و الأذنان و سائر الجوارح المدركة أمثالا لها ، كان في البدن و صورا .
و أنا أقول : إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك . فإذا تفطنت لهذا كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا ، و إنما هي تختلف بالقوة و الضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال . و يشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علما ضروريا بتلك المدارك . أي مدرك كان ، و يعنون به هذا القدر الذي أوضحناه . و هذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه . و لو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه . فلنفرع إلى الله سبحانه في الهداية و الفهم عن أنبيائه و كتابه ، بما يحصل به الحق في توحيدنا . و الظفر بنجاتنا و الله يهدي من يشاء .
الفصل السابع عشر : في علم التصوف
هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها ، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة و كان ذلك عاما في الصحابة و السلف . فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده و جنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة . و قال القشيري رحمه الله : ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربة و لا قياس . و الظاهر أنه لقب . و من قال اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي ، قال : و كذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه . قلت : و الأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف و هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من فخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم و ذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك و إدراكه نوعان : إدراك للعلوم و المعارف من اليقين و الفن و الشك و الوهم و إدراك للأحوال القائمة من الفرح و الحزن و القبض و البسط و الرضى و الغضب و الصبر و الشكر و أمثال ذلك . فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات و إرادات و أحوال و هي التي يميز بها الإنسان . و بعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة و الفرح و الحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به و النشاط عن الحمام و الكسل عن الإعياء . و كذلك المريد في مجاهدته و عبادته لابد و أن ينشأ له عن في مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة . و تلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ و تصير مقاما للمريد و إما أن لا تكون عبادة و إنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات . و لا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد و المعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة . قال صلى الله عليه و سلم : " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " فالمريد لابد له من الترقي في هذه الأطوار و أصلها كلها الطاعة و الإخلاص و يتقدمها الإيمان و يصاحبها ، و تنشأ عنها الأحوال و الصفات نتائج و ثمرات . ثم تنشأ عنها أخرى و أخرى إلى مقام التوحيد و العرفان . و إذا وقع ، تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله . و كذلك في الخواطر النفسانية و الواردات القلبية . فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله و ينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري و تصورها من الخلل فيها كذلك . و المريد يجد ذلك بذوقه و يحاسب نفسه على أسبابه . و لا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة . و غاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء و الامتثال . و هؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق و المواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أو لا ، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال و التروك و الكلام في هذه الأذواق و المواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم و اصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة . فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمة منه . فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه . و صار علم الشريعة على صنفين : صنف مخصوص بالفقهاء و أهل الفتيا و هي الأحكام العامة في العبادات و العادات و المعاملات . و صنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة و محاسبة النفس عليها و الكلام في الأذواق و المواجد العارضة في طريقها و كيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق و شرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك . فلما كتبت العلوم و دونت و ألف الفقهاء في الفقه و أصوله و الكلام و التفسير وغير ذلك . كتب رجال من أهل هذه الطرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع و محاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ و الترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة و السهرودي في كتاب عوارف المعارف و أمثالهم . و جمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع و الاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم و شرح اصطلاحاتهم في عباراتهم و صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط و كانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير و الحديث و الفقه والأصول و غير ذلك . ثم إن هذه المجاهدة و الخلوة و الذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها . و الروح من تلك العوالم . و سبب هذا الكشف أن . الروح إذا رجع في الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس و قويت أحوال الروح و غلب سلطانه و تجدد نشؤه أعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح و لا يزال في نمو و تزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما . و يكشف حجاب الحس ، و يتم وجود النفس التي لها من ذاتها . و هو عين الإدراك . فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية و العلوم اللدنية و الفتح الإلهي و تقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة . و هذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود مالا يدرك سواهم و كذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها و يتصرفون بهممهم و قوى نفوسهم في الموجودات السفلية و تصير طوع إرادتهم . فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف و لا يتصرفون و لا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منة إذا هاجمهم . و قد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية . و في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم كثير منها . و تبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم . ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب و الكلام في المدارك التي وراءه و اختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية و تغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها و تغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ و أنهم كشفوا ذوات الوجود و تصوروا حقائقها كلها من العرش ثم إلى الطش . هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة . ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع و الخلوة و إن لم يكن هناك استقامة كالسحرة و غيرهم من المرتاضين . و ليس مرادنا إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة و مثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة و حوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته . و إن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا . فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال . و لما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية و السفلية و حقائق الملك و الروح و العرش و الكرسي و أمثال ذلك . و قصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم و مواجدهم في ذلك . و أهل الفتيا بين فنكر عليهم و مسلم لهم . و ليس البرهان و الدليل بنافع في هذا الطريق ردا و قبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات .
تفصيل و تحقيق : يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث و الفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته . و يقع للمتكلمين أنة لا مباين و لا متصل . و يقع للفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه . و يقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات : إما بمعنى الحلول فيها ، أو بمعنى إنه هو عينها . و ليس هناك غيره جملة و لا تفصيلا . فلنبين تفصيل هذه المذاهب و نشرح حقيقة كل واحد منها ، حتى تتضح معانيها فنقول ، إن المباينة تقال لمعنيين :
أحدهما المباينة في الحيز و الجهة ، و يقابله الاتصال . و نشعر هذه المقابلة على هذه التقيد . بالمكان إما صريحا و هو تجسيم ، أو لزوما و هو تشبيه من قبيل القول بالجهة . و قد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة ، فيحتمل غير هذا المعنى . و من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا : لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته ، و لا متصل بها ، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات . و ما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى و ضده . فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا ، و أما مع امتناعه فلا ، بل يجوز الخلو عن المعنى و ضده . كما يقال في الجماد ، لا عالم و لا جاهل ، و لا قادر و لا عاجز ولا كاتب و لا أمي . و صحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها . و البارئ سبحانه منزه عن ذلك . ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين و قال : و لا يقال في البارئ مباين للعالم و لا متصل به ، و لا داخل فيه و لا خارج عنة . و هو معنى ما يقول الفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه ، يناء على وجود الجواهر غير المتحيزة . و أنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات . و هو مبسوط في علم الكلام .
وأما المعنى الآخر للمباينة ، فهو المغايرة و المخالفة فيقال : البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته و هويته و وجوده و صفاته . و يقابله الاتحاد و الامتزاج والاختلاط . و هذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف و علماء الشرائع و المتكلمين و المتصوفة الأقدمين أهل الرسالة و من نحا منحاهم . و ذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية ، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته و وجوده و صفاته . و ربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو ، مثل أفلاطون و سقراط ، و هو الذي يقينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة و يحاولون الرد عليه لأنه ذاتان ، تنتفي إحداهما ، أو تندرج اندراج الجزء . فإن تلك مغايرة صريحة . و لا يقولون بذلك . و هذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام و هو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به . و هو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة . و تقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين :
الأولى : أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها و معقولها ، متحدة بها في المتصورين ، و هي كلها مظاهر له ، و هو القائم عليها ، أي المقدم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدما و هو رأي أهل الحلول .
الثانية : طريق أهل الوحدة المطلقة و كأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد ، فنفوها بين القديم و بين المخلوقات في الذات و الوجود و الصفات . و غالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس و العقل بأن ذلك من المدارك البشرية ، و هي أوهام . و لا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم و الفن و الشك ، إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة ، و وجود في المدرك البشري فقط . و لا وجود بالحقيقة إلا للقديم ، لا في الظاهر و لا في الباطن كما نقرره بعد ، بحسب الإمكان . و التعويل في تعقل ذلك على النظر و الاستدلال ، كما في المدارك البشرية ، غير مفيد ، لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية ، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة و من بعدهم للأولياء بهدايتهم . و قصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال . و ربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات و ترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض .و ربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود و ترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر و الاصطلاحات و العلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل و ترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية و هما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير . و يسمون هذا الصدور بالتجلي . و أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه و هو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد و الظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني و هذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود و تفصيل الحقائق و هو عندهم عالم المعاني و الحضرة الكمالية و الحقيقة المحمدية و فيها حقائق الصفات و اللوح و القلم و حقائق الأنبياء و الرسل أجمعين و الكمل من أهل الملة المحمدية . و هذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية . و يصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية و هي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ، ثم عالم العناصر ، ثم عالم التركيب . هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق . و يسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي و المظاهر و الحضرات و هو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه و انغلاقه و بعد ما بين كلام صاحب المشاهدة و الوجدان و صاحب الدليل . و ربما أنكر بظاهر الشرع . هذا الترتيب و كذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة و هو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه . يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات و صورها و موادها . و العناصر إنما كانت بما فيها من القوى و كذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها . ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب ، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها و زيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية و زيادة قوتها في نفسها و كذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية و زيادة . و كذا الذوات الروحانية و القوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية و جزئية و جمعتها و أحاطت بها من كل وجه . لا من جهة الظهور و لا من جهة الخفاء و لا من جهة الصورة و لا من جهة المادة فالكل واحد و هو نفس الذات الإلهية و هي في الحقيقة واحدة بسيطة و الاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية . ألا ترى أنها مندرجة فيها و كائنة بكونها . فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع ، في كل موجود كما ذكرناه و تارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال . و هم في هذا كله يفرون من التركيب و الكثرة بوجه من الوجوه و إنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال . و الذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه . و كذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي ، بل و الموجودات المعقولة و المتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري . فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر و البرد و الصلابة و اللين بل والأرض و الماء و النار و السماء و الكواكب ، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود و إنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد و هو أنا لا غيره . و يعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام و فقد الحس الظاهر فقد كل محسوس و هو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال . قالوا : فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل و هذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية . هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان و هو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه و إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا و بوجود السماء المظلة و الكواكب و سائر الأشياء الغائبة عنا . و الإنسان قاطع بذلك و لا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة و يسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات و يعبرون عن ذلك بمقام الفرق و هو مقام العارف المحقق و لابد للمريد عندهم من عقبة الجمع و هي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الوحدة كما أشرنا إليه و ملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره . و تبعهم ابن العربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف وابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم . و كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر . و اختلط كلامهم و تشابهت عقائدهم . و ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب و معناه رأس العارفين . يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله . ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان . و قد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال : جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد . و هذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ، و لا دليل شرعي و إنما هو من أنواع الخطابة و هو بعينه ما تقوله الرافضة و دانوا به . ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء . حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة
و أما الظواهر الخفية الأدلة و الدلالة ، كالوحي و الملائكة و الروح و الجن والبرزخ و أحوال القيامة والدجال و الفتن و الشروط . و سائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات ، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله ، و هم أهل السنة . فلا تشابه ، و إن قلنا فيه بالتشابه ، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول : اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات ، و أرفعها . و هو و إن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى ، كأن الحقائق فيها مختلفة .
فالطور الأول : عالمه الجسماني بحسه الظاهر و فكره المعاشي و سائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر .
الطور الثاني : عالم النوم ، و هو تصور الخيال بانفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة و الأمكنة و سائر الأحوال الجسمانية ، و يشاهدها في إمكان ليس هو فيه . و يحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية و الأخروية ، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه . و هذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر ، و هما مختلفان في المدارك كما تراه .
الطور الثالث : طور النبوة ، و هو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته و توحيده . و تنزل ملائكته عليهم بوحيه . و تكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة .
الطور الرابع : طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه و يعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى ، و هي دار الجزاء الأكبر نعيما و عذابا في الجنة أو في النار .
و الطوران الأولان شاهدهما وجداني . و الطور الثالث النبوي شاهده المعجزة و الأحوال المختصة بالأنبياء ، و الطور الرابع شاهده ما تنزل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد و أحوال البرزخ و القيامة ، مع أن العقل يقتضي به ، كما نبهنا الله عليه ، في كثير من آيات البعثة . و من أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالا تليق به . لكان إيجاده الأول عبثا . إذ الموت إذا كان عدما كان مآل الشخص إلى العدم . فلا يكون لوجوده الأول حكمة . و العبث على الحكيم محال . وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة ، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بينا يكشف لك غور المتشابه . فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية . قال الله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف و يستكمل حقيقة إنسانية و يوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة .
و أما مداركه في الطور الثاني . و هو طور النوم . فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها . لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة . لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه و لا يرتاب . مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها . و الناس في حقيقة هذه الحال فريقان : الحكماء ، يزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر و الحس الباطن . فتصور محسوسة بالظاهر في الحواس كلها . و يشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت و أرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية ، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد .
الفريق الثاني : المتكلمون . أجملوا فيها القول . و قالوا : هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة . و هذا أليق و إن كنا لا نتصور كيفيته .
و هذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار .
و أما الطور الثالث ، و هو طور الأنبياء . فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية . عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين . فيرى النبي الله و الملائكة . و يسمع كلام الله منه أو من الملائكة . و يرى الجنة و النار ، و العرش و الكرسي ، و يخترق السموات السبع في إسرائه و يركب البراق فيها ، و يلقى النبيين هنالك . و يصلى بهم ، و يدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني و النومي ، بعلم ضروري يخلقه الله له ، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح . و لا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحس المشترك . فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم ، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه ، فيكون على هذا حقيقة الوحي و الرؤيا من النبي واحدة في يقينها و حقيقتها . و ليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم قبل الوحي ستة أشهر و أنها كانت بمدة الوحي و مقدمته . و يشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة . و كذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه و يقاسي منه شدة كما هي في الصحيح . حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات . و بعد ذلك نزل عليه براءة في غزوة تبوك جملة واحدة ، و هو يسير على ناقته . فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط ، و من الخيال إلى الحس المشترك ، لم يكن بين هذه الحالات فرق . و أما الطور الرابع ، و هو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر . و هم مجردون عن البدن . أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام . فمداركهم الحسية موجودة ، فيرى الميت في قبره الملكان يسألانه . و يرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه ، و يرى شهود الجنازة و يسمع كلامهم و خفق نعالهم في الانصراف عنه ، و يسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين ، و غير ذلك . و في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قليب بدر و فيه قتلى المشركين من قريش ، و ناداهم بأسمائهم ، فقال عمر : يا رسول الله ! أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول . ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم و أبصارهم كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه و عذاب النار على مراتبه ، و يرون الملائكة و يرون ربهم " ، كما ورد في الصحيح : إنكم ترون ربكم يوم القيامة ، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته . و هذه المدارك لم تكن لهم في . الحياة الدنيا و هي حسية مثلها . و تقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلناه . و سر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن و بمداركه ، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية ، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح ، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها ، أرفع من إدراكها ، و هي في الجسد . قاله الغزالي رحمه الله ، و زاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها . بعد المفارقة فيها العينان و الأذنان و سائر الجوارح المدركة أمثالا لها ، كان في البدن و صورا .
و أنا أقول : إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك . فإذا تفطنت لهذا كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا ، و إنما هي تختلف بالقوة و الضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال . و يشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علما ضروريا بتلك المدارك . أي مدرك كان ، و يعنون به هذا القدر الذي أوضحناه . و هذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه . و لو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه . فلنفرع إلى الله سبحانه في الهداية و الفهم عن أنبيائه و كتابه ، بما يحصل به الحق في توحيدنا . و الظفر بنجاتنا و الله يهدي من يشاء .
الفصل السابع عشر : في علم التصوف
هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها ، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة و كان ذلك عاما في الصحابة و السلف . فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده و جنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة . و قال القشيري رحمه الله : ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربة و لا قياس . و الظاهر أنه لقب . و من قال اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي ، قال : و كذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه . قلت : و الأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف و هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من فخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم و ذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك و إدراكه نوعان : إدراك للعلوم و المعارف من اليقين و الفن و الشك و الوهم و إدراك للأحوال القائمة من الفرح و الحزن و القبض و البسط و الرضى و الغضب و الصبر و الشكر و أمثال ذلك . فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات و إرادات و أحوال و هي التي يميز بها الإنسان . و بعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة و الفرح و الحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به و النشاط عن الحمام و الكسل عن الإعياء . و كذلك المريد في مجاهدته و عبادته لابد و أن ينشأ له عن في مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة . و تلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ و تصير مقاما للمريد و إما أن لا تكون عبادة و إنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات . و لا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد و المعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة . قال صلى الله عليه و سلم : " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " فالمريد لابد له من الترقي في هذه الأطوار و أصلها كلها الطاعة و الإخلاص و يتقدمها الإيمان و يصاحبها ، و تنشأ عنها الأحوال و الصفات نتائج و ثمرات . ثم تنشأ عنها أخرى و أخرى إلى مقام التوحيد و العرفان . و إذا وقع ، تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله . و كذلك في الخواطر النفسانية و الواردات القلبية . فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله و ينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري و تصورها من الخلل فيها كذلك . و المريد يجد ذلك بذوقه و يحاسب نفسه على أسبابه . و لا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة . و غاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء و الامتثال . و هؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق و المواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أو لا ، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال و التروك و الكلام في هذه الأذواق و المواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم و اصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة . فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمة منه . فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه . و صار علم الشريعة على صنفين : صنف مخصوص بالفقهاء و أهل الفتيا و هي الأحكام العامة في العبادات و العادات و المعاملات . و صنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة و محاسبة النفس عليها و الكلام في الأذواق و المواجد العارضة في طريقها و كيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق و شرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك . فلما كتبت العلوم و دونت و ألف الفقهاء في الفقه و أصوله و الكلام و التفسير وغير ذلك . كتب رجال من أهل هذه الطرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع و محاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ و الترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة و السهرودي في كتاب عوارف المعارف و أمثالهم . و جمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع و الاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم و شرح اصطلاحاتهم في عباراتهم و صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط و كانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير و الحديث و الفقه والأصول و غير ذلك . ثم إن هذه المجاهدة و الخلوة و الذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها . و الروح من تلك العوالم . و سبب هذا الكشف أن . الروح إذا رجع في الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس و قويت أحوال الروح و غلب سلطانه و تجدد نشؤه أعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح و لا يزال في نمو و تزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما . و يكشف حجاب الحس ، و يتم وجود النفس التي لها من ذاتها . و هو عين الإدراك . فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية و العلوم اللدنية و الفتح الإلهي و تقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة . و هذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود مالا يدرك سواهم و كذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها و يتصرفون بهممهم و قوى نفوسهم في الموجودات السفلية و تصير طوع إرادتهم . فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف و لا يتصرفون و لا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منة إذا هاجمهم . و قد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية . و في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم كثير منها . و تبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم . ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب و الكلام في المدارك التي وراءه و اختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية و تغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها و تغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ و أنهم كشفوا ذوات الوجود و تصوروا حقائقها كلها من العرش ثم إلى الطش . هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة . ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع و الخلوة و إن لم يكن هناك استقامة كالسحرة و غيرهم من المرتاضين . و ليس مرادنا إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة و مثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة و حوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته . و إن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا . فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال . و لما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية و السفلية و حقائق الملك و الروح و العرش و الكرسي و أمثال ذلك . و قصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم و مواجدهم في ذلك . و أهل الفتيا بين فنكر عليهم و مسلم لهم . و ليس البرهان و الدليل بنافع في هذا الطريق ردا و قبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات .
تفصيل و تحقيق : يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث و الفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته . و يقع للمتكلمين أنة لا مباين و لا متصل . و يقع للفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه . و يقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات : إما بمعنى الحلول فيها ، أو بمعنى إنه هو عينها . و ليس هناك غيره جملة و لا تفصيلا . فلنبين تفصيل هذه المذاهب و نشرح حقيقة كل واحد منها ، حتى تتضح معانيها فنقول ، إن المباينة تقال لمعنيين :
أحدهما المباينة في الحيز و الجهة ، و يقابله الاتصال . و نشعر هذه المقابلة على هذه التقيد . بالمكان إما صريحا و هو تجسيم ، أو لزوما و هو تشبيه من قبيل القول بالجهة . و قد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة ، فيحتمل غير هذا المعنى . و من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا : لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته ، و لا متصل بها ، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات . و ما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى و ضده . فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا ، و أما مع امتناعه فلا ، بل يجوز الخلو عن المعنى و ضده . كما يقال في الجماد ، لا عالم و لا جاهل ، و لا قادر و لا عاجز ولا كاتب و لا أمي . و صحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها . و البارئ سبحانه منزه عن ذلك . ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين و قال : و لا يقال في البارئ مباين للعالم و لا متصل به ، و لا داخل فيه و لا خارج عنة . و هو معنى ما يقول الفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه ، يناء على وجود الجواهر غير المتحيزة . و أنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات . و هو مبسوط في علم الكلام .
وأما المعنى الآخر للمباينة ، فهو المغايرة و المخالفة فيقال : البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته و هويته و وجوده و صفاته . و يقابله الاتحاد و الامتزاج والاختلاط . و هذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف و علماء الشرائع و المتكلمين و المتصوفة الأقدمين أهل الرسالة و من نحا منحاهم . و ذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية ، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته و وجوده و صفاته . و ربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو ، مثل أفلاطون و سقراط ، و هو الذي يقينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة و يحاولون الرد عليه لأنه ذاتان ، تنتفي إحداهما ، أو تندرج اندراج الجزء . فإن تلك مغايرة صريحة . و لا يقولون بذلك . و هذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام و هو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به . و هو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة . و تقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين :
الأولى : أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها و معقولها ، متحدة بها في المتصورين ، و هي كلها مظاهر له ، و هو القائم عليها ، أي المقدم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدما و هو رأي أهل الحلول .
الثانية : طريق أهل الوحدة المطلقة و كأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد ، فنفوها بين القديم و بين المخلوقات في الذات و الوجود و الصفات . و غالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس و العقل بأن ذلك من المدارك البشرية ، و هي أوهام . و لا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم و الفن و الشك ، إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة ، و وجود في المدرك البشري فقط . و لا وجود بالحقيقة إلا للقديم ، لا في الظاهر و لا في الباطن كما نقرره بعد ، بحسب الإمكان . و التعويل في تعقل ذلك على النظر و الاستدلال ، كما في المدارك البشرية ، غير مفيد ، لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية ، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة و من بعدهم للأولياء بهدايتهم . و قصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال . و ربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات و ترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض .و ربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود و ترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر و الاصطلاحات و العلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل و ترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية و هما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير . و يسمون هذا الصدور بالتجلي . و أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه و هو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد و الظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني و هذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود و تفصيل الحقائق و هو عندهم عالم المعاني و الحضرة الكمالية و الحقيقة المحمدية و فيها حقائق الصفات و اللوح و القلم و حقائق الأنبياء و الرسل أجمعين و الكمل من أهل الملة المحمدية . و هذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية . و يصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية و هي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ، ثم عالم العناصر ، ثم عالم التركيب . هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق . و يسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي و المظاهر و الحضرات و هو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه و انغلاقه و بعد ما بين كلام صاحب المشاهدة و الوجدان و صاحب الدليل . و ربما أنكر بظاهر الشرع . هذا الترتيب و كذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة و هو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه . يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات و صورها و موادها . و العناصر إنما كانت بما فيها من القوى و كذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها . ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب ، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها و زيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية و زيادة قوتها في نفسها و كذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية و زيادة . و كذا الذوات الروحانية و القوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية و جزئية و جمعتها و أحاطت بها من كل وجه . لا من جهة الظهور و لا من جهة الخفاء و لا من جهة الصورة و لا من جهة المادة فالكل واحد و هو نفس الذات الإلهية و هي في الحقيقة واحدة بسيطة و الاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية . ألا ترى أنها مندرجة فيها و كائنة بكونها . فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع ، في كل موجود كما ذكرناه و تارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال . و هم في هذا كله يفرون من التركيب و الكثرة بوجه من الوجوه و إنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال . و الذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه . و كذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي ، بل و الموجودات المعقولة و المتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري . فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر و البرد و الصلابة و اللين بل والأرض و الماء و النار و السماء و الكواكب ، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود و إنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد و هو أنا لا غيره . و يعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام و فقد الحس الظاهر فقد كل محسوس و هو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال . قالوا : فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل و هذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية . هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان و هو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه و إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا و بوجود السماء المظلة و الكواكب و سائر الأشياء الغائبة عنا . و الإنسان قاطع بذلك و لا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة و يسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات و يعبرون عن ذلك بمقام الفرق و هو مقام العارف المحقق و لابد للمريد عندهم من عقبة الجمع و هي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الوحدة كما أشرنا إليه و ملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره . و تبعهم ابن العربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف وابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم . و كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر . و اختلط كلامهم و تشابهت عقائدهم . و ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب و معناه رأس العارفين . يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله . ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان . و قد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال : جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد . و هذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ، و لا دليل شرعي و إنما هو من أنواع الخطابة و هو بعينه ما تقوله الرافضة و دانوا به . ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء . حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه . و القطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار . و من أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل " ليس كمثله شيء " ، وأشباهه . و من قوله : " و هو الله في السموات و في الأرض " ، إذ الموجود لا يكون في مكانين ، فليست في هذا للمكان قطعا ، و المراد غيره . ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه و العينين و اليدين ، و النزول و الكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية و ينزهونه عن مدلول الجسماني منها . و هذا شيء لا يعرف في اللغة . و قد درج على ذلك الأول و الآخر منهم و نافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية و الحنفية . و رفضوا عقائدهم في ذلك ، و وقع بين متكلمي الحنفية ببخارى و بين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف . و أما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية . و أنها لا كالأجسام . و لفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات . و إنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر ، فلم يقتصروا عليه ، بل توغلوا و أثبتوا الجسمية . يزعمون فيها مثل ذلك و ينزهونه بقول متناقض سفساف ، و هو قولهم : جسم لا كالأجسام . و الجسم في لغة العرب هو العميق المحدود و غير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر و غير ذلك ، فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي . فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر . حيث أثبتوا لله وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه . و لا كلام نبيه . فقد تبين لك الفرق بين مذاهب السلف و المتكلمين السنية و المحدثين والمبتدعة من المعتزلة و المجسمة بما أطلعناك عليه . و في المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه ، حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال : أعفوني من اللحية و الفرج و سلوا عما بدا لكم من سواهما . و إن لم يتأول ذلك لهم ، بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة . و حملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم ، و إلا فهو كفر صريح و العياذ بالله . و كتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع . و بسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة . و إنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات و جملها . و الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
و أما الظواهر الخفية الأدلة و الدلالة ، كالوحي و الملائكة و الروح و الجن والبرزخ و أحوال القيامة والدجال و الفتن و الشروط . و سائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات ، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله ، و هم أهل السنة . فلا تشابه ، و إن قلنا فيه بالتشابه ، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول : اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات ، و أرفعها . و هو و إن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى ، كأن الحقائق فيها مختلفة .
فالطور الأول : عالمه الجسماني بحسه الظاهر و فكره المعاشي و سائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر .
الطور الثاني : عالم النوم ، و هو تصور الخيال بانفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة و الأمكنة و سائر الأحوال الجسمانية ، و يشاهدها في إمكان ليس هو فيه . و يحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية و الأخروية ، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه . و هذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر ، و هما مختلفان في المدارك كما تراه .
الطور الثالث : طور النبوة ، و هو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته و توحيده . و تنزل ملائكته عليهم بوحيه . و تكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة .
الطور الرابع : طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه و يعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى ، و هي دار الجزاء الأكبر نعيما و عذابا في الجنة أو في النار .
و الطوران الأولان شاهدهما وجداني . و الطور الثالث النبوي شاهده المعجزة و الأحوال المختصة بالأنبياء ، و الطور الرابع شاهده ما تنزل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد و أحوال البرزخ و القيامة ، مع أن العقل يقتضي به ، كما نبهنا الله عليه ، في كثير من آيات البعثة . و من أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالا تليق به . لكان إيجاده الأول عبثا . إذ الموت إذا كان عدما كان مآل الشخص إلى العدم . فلا يكون لوجوده الأول حكمة . و العبث على الحكيم محال . وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة ، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بينا يكشف لك غور المتشابه . فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية . قال الله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف و يستكمل حقيقة إنسانية و يوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة .
و أما مداركه في الطور الثاني . و هو طور النوم . فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها . لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة . لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه و لا يرتاب . مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها . و الناس في حقيقة هذه الحال فريقان : الحكماء ، يزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر و الحس الباطن . فتصور محسوسة بالظاهر في الحواس كلها . و يشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت و أرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية ، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد .
الفريق الثاني : المتكلمون . أجملوا فيها القول . و قالوا : هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة . و هذا أليق و إن كنا لا نتصور كيفيته .
و هذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار .
و أما الطور الثالث ، و هو طور الأنبياء . فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية . عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين . فيرى النبي الله و الملائكة . و يسمع كلام الله منه أو من الملائكة . و يرى الجنة و النار ، و العرش و الكرسي ، و يخترق السموات السبع في إسرائه و يركب البراق فيها ، و يلقى النبيين هنالك . و يصلى بهم ، و يدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني و النومي ، بعلم ضروري يخلقه الله له ، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح . و لا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحس المشترك . فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم ، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه ، فيكون على هذا حقيقة الوحي و الرؤيا من النبي واحدة في يقينها و حقيقتها . و ليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم قبل الوحي ستة أشهر و أنها كانت بمدة الوحي و مقدمته . و يشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة . و كذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه و يقاسي منه شدة كما هي في الصحيح . حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات . و بعد ذلك نزل عليه براءة في غزوة تبوك جملة واحدة ، و هو يسير على ناقته . فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط ، و من الخيال إلى الحس المشترك ، لم يكن بين هذه الحالات فرق . و أما الطور الرابع ، و هو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر . و هم مجردون عن البدن . أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام . فمداركهم الحسية موجودة ، فيرى الميت في قبره الملكان يسألانه . و يرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه ، و يرى شهود الجنازة و يسمع كلامهم و خفق نعالهم في الانصراف عنه ، و يسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين ، و غير ذلك . و في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قليب بدر و فيه قتلى المشركين من قريش ، و ناداهم بأسمائهم ، فقال عمر : يا رسول الله ! أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول . ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم و أبصارهم كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه و عذاب النار على مراتبه ، و يرون الملائكة و يرون ربهم " ، كما ورد في الصحيح : إنكم ترون ربكم يوم القيامة ، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته . و هذه المدارك لم تكن لهم في . الحياة الدنيا و هي حسية مثلها . و تقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلناه . و سر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن و بمداركه ، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية ، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح ، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها ، أرفع من إدراكها ، و هي في الجسد . قاله الغزالي رحمه الله ، و زاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها . بعد المفارقة فيها العينان و الأذنان و سائر الجوارح المدركة أمثالا لها ، كان في البدن و صورا .
و أنا أقول : إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك . فإذا تفطنت لهذا كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا ، و إنما هي تختلف بالقوة و الضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال . و يشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علما ضروريا بتلك المدارك . أي مدرك كان ، و يعنون به هذا القدر الذي أوضحناه . و هذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه . و لو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه . فلنفرع إلى الله سبحانه في الهداية و الفهم عن أنبيائه و كتابه ، بما يحصل به الحق في توحيدنا . و الظفر بنجاتنا و الله يهدي من يشاء .
الفصل السابع عشر : في علم التصوف
هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها ، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة و كان ذلك عاما في الصحابة و السلف . فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده و جنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة . و قال القشيري رحمه الله : ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربة و لا قياس . و الظاهر أنه لقب . و من قال اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي ، قال : و كذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه . قلت : و الأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف و هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من فخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم و ذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك و إدراكه نوعان : إدراك للعلوم و المعارف من اليقين و الفن و الشك و الوهم و إدراك للأحوال القائمة من الفرح و الحزن و القبض و البسط و الرضى و الغضب و الصبر و الشكر و أمثال ذلك . فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات و إرادات و أحوال و هي التي يميز بها الإنسان . و بعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة و الفرح و الحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به و النشاط عن الحمام و الكسل عن الإعياء . و كذلك المريد في مجاهدته و عبادته لابد و أن ينشأ له عن في مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة . و تلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ و تصير مقاما للمريد و إما أن لا تكون عبادة و إنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات . و لا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد و المعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة . قال صلى الله عليه و سلم : " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " فالمريد لابد له من الترقي في هذه الأطوار و أصلها كلها الطاعة و الإخلاص و يتقدمها الإيمان و يصاحبها ، و تنشأ عنها الأحوال و الصفات نتائج و ثمرات . ثم تنشأ عنها أخرى و أخرى إلى مقام التوحيد و العرفان . و إذا وقع ، تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله . و كذلك في الخواطر النفسانية و الواردات القلبية . فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله و ينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري و تصورها من الخلل فيها كذلك . و المريد يجد ذلك بذوقه و يحاسب نفسه على أسبابه . و لا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة . و غاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء و الامتثال . و هؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق و المواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أو لا ، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال و التروك و الكلام في هذه الأذواق و المواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم و اصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة . فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمة منه . فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه . و صار علم الشريعة على صنفين : صنف مخصوص بالفقهاء و أهل الفتيا و هي الأحكام العامة في العبادات و العادات و المعاملات . و صنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة و محاسبة النفس عليها و الكلام في الأذواق و المواجد العارضة في طريقها و كيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق و شرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك . فلما كتبت العلوم و دونت و ألف الفقهاء في الفقه و أصوله و الكلام و التفسير وغير ذلك . كتب رجال من أهل هذه الطرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع و محاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ و الترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة و السهرودي في كتاب عوارف المعارف و أمثالهم . و جمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع و الاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم و شرح اصطلاحاتهم في عباراتهم و صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط و كانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير و الحديث و الفقه والأصول و غير ذلك . ثم إن هذه المجاهدة و الخلوة و الذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها . و الروح من تلك العوالم . و سبب هذا الكشف أن . الروح إذا رجع في الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس و قويت أحوال الروح و غلب سلطانه و تجدد نشؤه أعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح و لا يزال في نمو و تزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما . و يكشف حجاب الحس ، و يتم وجود النفس التي لها من ذاتها . و هو عين الإدراك . فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية و العلوم اللدنية و الفتح الإلهي و تقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة . و هذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود مالا يدرك سواهم و كذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها و يتصرفون بهممهم و قوى نفوسهم في الموجودات السفلية و تصير طوع إرادتهم . فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف و لا يتصرفون و لا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منة إذا هاجمهم . و قد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية . و في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم كثير منها . و تبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم . ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب و الكلام في المدارك التي وراءه و اختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية و تغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها و تغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ و أنهم كشفوا ذوات الوجود و تصوروا حقائقها كلها من العرش ثم إلى الطش . هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة . ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع و الخلوة و إن لم يكن هناك استقامة كالسحرة و غيرهم من المرتاضين . و ليس مرادنا إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة و مثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة و حوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته . و إن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا . فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال . و لما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية و السفلية و حقائق الملك و الروح و العرش و الكرسي و أمثال ذلك . و قصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم و مواجدهم في ذلك . و أهل الفتيا بين فنكر عليهم و مسلم لهم . و ليس البرهان و الدليل بنافع في هذا الطريق ردا و قبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات .
تفصيل و تحقيق : يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث و الفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته . و يقع للمتكلمين أنة لا مباين و لا متصل . و يقع للفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه . و يقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات : إما بمعنى الحلول فيها ، أو بمعنى إنه هو عينها . و ليس هناك غيره جملة و لا تفصيلا . فلنبين تفصيل هذه المذاهب و نشرح حقيقة كل واحد منها ، حتى تتضح معانيها فنقول ، إن المباينة تقال لمعنيين :
أحدهما المباينة في الحيز و الجهة ، و يقابله الاتصال . و نشعر هذه المقابلة على هذه التقيد . بالمكان إما صريحا و هو تجسيم ، أو لزوما و هو تشبيه من قبيل القول بالجهة . و قد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة ، فيحتمل غير هذا المعنى . و من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا : لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته ، و لا متصل بها ، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات . و ما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى و ضده . فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا ، و أما مع امتناعه فلا ، بل يجوز الخلو عن المعنى و ضده . كما يقال في الجماد ، لا عالم و لا جاهل ، و لا قادر و لا عاجز ولا كاتب و لا أمي . و صحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها . و البارئ سبحانه منزه عن ذلك . ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين و قال : و لا يقال في البارئ مباين للعالم و لا متصل به ، و لا داخل فيه و لا خارج عنة . و هو معنى ما يقول الفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه ، يناء على وجود الجواهر غير المتحيزة . و أنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات . و هو مبسوط في علم الكلام .
وأما المعنى الآخر للمباينة ، فهو المغايرة و المخالفة فيقال : البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته و هويته و وجوده و صفاته . و يقابله الاتحاد و الامتزاج والاختلاط . و هذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف و علماء الشرائع و المتكلمين و المتصوفة الأقدمين أهل الرسالة و من نحا منحاهم . و ذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية ، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته و وجوده و صفاته . و ربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو ، مثل أفلاطون و سقراط ، و هو الذي يقينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة و يحاولون الرد عليه لأنه ذاتان ، تنتفي إحداهما ، أو تندرج اندراج الجزء . فإن تلك مغايرة صريحة . و لا يقولون بذلك . و هذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام و هو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به . و هو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة . و تقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين :
الأولى : أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها و معقولها ، متحدة بها في المتصورين ، و هي كلها مظاهر له ، و هو القائم عليها ، أي المقدم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدما و هو رأي أهل الحلول .
الثانية : طريق أهل الوحدة المطلقة و كأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد ، فنفوها بين القديم و بين المخلوقات في الذات و الوجود و الصفات . و غالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس و العقل بأن ذلك من المدارك البشرية ، و هي أوهام . و لا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم و الفن و الشك ، إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة ، و وجود في المدرك البشري فقط . و لا وجود بالحقيقة إلا للقديم ، لا في الظاهر و لا في الباطن كما نقرره بعد ، بحسب الإمكان . و التعويل في تعقل ذلك على النظر و الاستدلال ، كما في المدارك البشرية ، غير مفيد ، لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية ، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة و من بعدهم للأولياء بهدايتهم . و قصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال . و ربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات و ترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض .و ربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود و ترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر و الاصطلاحات و العلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل و ترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية و هما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير . و يسمون هذا الصدور بالتجلي . و أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه و هو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد و الظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني و هذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود و تفصيل الحقائق و هو عندهم عالم المعاني و الحضرة الكمالية و الحقيقة المحمدية و فيها حقائق الصفات و اللوح و القلم و حقائق الأنبياء و الرسل أجمعين و الكمل من أهل الملة المحمدية . و هذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية . و يصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية و هي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ، ثم عالم العناصر ، ثم عالم التركيب . هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق . و يسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي و المظاهر و الحضرات و هو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه و انغلاقه و بعد ما بين كلام صاحب المشاهدة و الوجدان و صاحب الدليل . و ربما أنكر بظاهر الشرع . هذا الترتيب و كذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة و هو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه . يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات و صورها و موادها . و العناصر إنما كانت بما فيها من القوى و كذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها . ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب ، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها و زيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية و زيادة قوتها في نفسها و كذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية و زيادة . و كذا الذوات الروحانية و القوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية و جزئية و جمعتها و أحاطت بها من كل وجه . لا من جهة الظهور و لا من جهة الخفاء و لا من جهة الصورة و لا من جهة المادة فالكل واحد و هو نفس الذات الإلهية و هي في الحقيقة واحدة بسيطة و الاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية . ألا ترى أنها مندرجة فيها و كائنة بكونها . فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع ، في كل موجود كما ذكرناه و تارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال . و هم في هذا كله يفرون من التركيب و الكثرة بوجه من الوجوه و إنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال . و الذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه . و كذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي ، بل و الموجودات المعقولة و المتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري . فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر و البرد و الصلابة و اللين بل والأرض و الماء و النار و السماء و الكواكب ، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود و إنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد و هو أنا لا غيره . و يعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام و فقد الحس الظاهر فقد كل محسوس و هو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال . قالوا : فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل و هذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية . هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان و هو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه و إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا و بوجود السماء المظلة و الكواكب و سائر الأشياء الغائبة عنا . و الإنسان قاطع بذلك و لا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة و يسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات و يعبرون عن ذلك بمقام الفرق و هو مقام العارف المحقق و لابد للمريد عندهم من عقبة الجمع و هي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الوحدة كما أشرنا إليه و ملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره . و تبعهم ابن العربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف وابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم . و كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر . و اختلط كلامهم و تشابهت عقائدهم . و ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب و معناه رأس العارفين . يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله . ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان . و قد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال : جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد . و هذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ، و لا دليل شرعي و إنما هو من أنواع الخطابة و هو بعينه ما تقوله الرافضة و دانوا به . ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء . حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة
و أما الظواهر الخفية الأدلة و الدلالة ، كالوحي و الملائكة و الروح و الجن والبرزخ و أحوال القيامة والدجال و الفتن و الشروط . و سائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات ، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله ، و هم أهل السنة . فلا تشابه ، و إن قلنا فيه بالتشابه ، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول : اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات ، و أرفعها . و هو و إن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى ، كأن الحقائق فيها مختلفة .
فالطور الأول : عالمه الجسماني بحسه الظاهر و فكره المعاشي و سائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر .
الطور الثاني : عالم النوم ، و هو تصور الخيال بانفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة و الأمكنة و سائر الأحوال الجسمانية ، و يشاهدها في إمكان ليس هو فيه . و يحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية و الأخروية ، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه . و هذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر ، و هما مختلفان في المدارك كما تراه .
الطور الثالث : طور النبوة ، و هو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته و توحيده . و تنزل ملائكته عليهم بوحيه . و تكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة .
الطور الرابع : طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه و يعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى ، و هي دار الجزاء الأكبر نعيما و عذابا في الجنة أو في النار .
و الطوران الأولان شاهدهما وجداني . و الطور الثالث النبوي شاهده المعجزة و الأحوال المختصة بالأنبياء ، و الطور الرابع شاهده ما تنزل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد و أحوال البرزخ و القيامة ، مع أن العقل يقتضي به ، كما نبهنا الله عليه ، في كثير من آيات البعثة . و من أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالا تليق به . لكان إيجاده الأول عبثا . إذ الموت إذا كان عدما كان مآل الشخص إلى العدم . فلا يكون لوجوده الأول حكمة . و العبث على الحكيم محال . وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة ، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بينا يكشف لك غور المتشابه . فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية . قال الله تعالى : " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة " . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف و يستكمل حقيقة إنسانية و يوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة .
و أما مداركه في الطور الثاني . و هو طور النوم . فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها . لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة . لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه و لا يرتاب . مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها . و الناس في حقيقة هذه الحال فريقان : الحكماء ، يزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر و الحس الباطن . فتصور محسوسة بالظاهر في الحواس كلها . و يشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت و أرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية ، مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد .
الفريق الثاني : المتكلمون . أجملوا فيها القول . و قالوا : هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة . و هذا أليق و إن كنا لا نتصور كيفيته .
و هذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار .
و أما الطور الثالث ، و هو طور الأنبياء . فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية . عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين . فيرى النبي الله و الملائكة . و يسمع كلام الله منه أو من الملائكة . و يرى الجنة و النار ، و العرش و الكرسي ، و يخترق السموات السبع في إسرائه و يركب البراق فيها ، و يلقى النبيين هنالك . و يصلى بهم ، و يدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني و النومي ، بعلم ضروري يخلقه الله له ، لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح . و لا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحس المشترك . فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم ، لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه ، فيكون على هذا حقيقة الوحي و الرؤيا من النبي واحدة في يقينها و حقيقتها . و ليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم قبل الوحي ستة أشهر و أنها كانت بمدة الوحي و مقدمته . و يشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة . و كذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه و يقاسي منه شدة كما هي في الصحيح . حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات . و بعد ذلك نزل عليه براءة في غزوة تبوك جملة واحدة ، و هو يسير على ناقته . فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط ، و من الخيال إلى الحس المشترك ، لم يكن بين هذه الحالات فرق . و أما الطور الرابع ، و هو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر . و هم مجردون عن البدن . أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام . فمداركهم الحسية موجودة ، فيرى الميت في قبره الملكان يسألانه . و يرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه ، و يرى شهود الجنازة و يسمع كلامهم و خفق نعالهم في الانصراف عنه ، و يسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين ، و غير ذلك . و في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وقف على قليب بدر و فيه قتلى المشركين من قريش ، و ناداهم بأسمائهم ، فقال عمر : يا رسول الله ! أتكلم هؤلاء الجيف ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : و الذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول . ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم و أبصارهم كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه و عذاب النار على مراتبه ، و يرون الملائكة و يرون ربهم " ، كما ورد في الصحيح : إنكم ترون ربكم يوم القيامة ، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته . و هذه المدارك لم تكن لهم في . الحياة الدنيا و هي حسية مثلها . و تقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلناه . و سر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن و بمداركه ، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية ، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح ، فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها ، أرفع من إدراكها ، و هي في الجسد . قاله الغزالي رحمه الله ، و زاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها . بعد المفارقة فيها العينان و الأذنان و سائر الجوارح المدركة أمثالا لها ، كان في البدن و صورا .
و أنا أقول : إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك . فإذا تفطنت لهذا كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا ، و إنما هي تختلف بالقوة و الضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال . و يشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علما ضروريا بتلك المدارك . أي مدرك كان ، و يعنون به هذا القدر الذي أوضحناه . و هذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه . و لو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه . فلنفرع إلى الله سبحانه في الهداية و الفهم عن أنبيائه و كتابه ، بما يحصل به الحق في توحيدنا . و الظفر بنجاتنا و الله يهدي من يشاء .
الفصل السابع عشر : في علم التصوف
هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة و أصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة و كبارها من الصحابة و التابعين و من بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة و الانقطاع إلى الله تعالى و الإعراض عن زخرف الدنيا و زينتها ، و الزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة و مال و جاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة و كان ذلك عاما في الصحابة و السلف . فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني و ما بعده و جنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية و المتصوفة . و قال القشيري رحمه الله : ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربة و لا قياس . و الظاهر أنه لقب . و من قال اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي ، قال : و كذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه . قلت : و الأظهر إن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف و هم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من فخالفه الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد و الانفراد عن الخلق و الإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم و ذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك و إدراكه نوعان : إدراك للعلوم و المعارف من اليقين و الفن و الشك و الوهم و إدراك للأحوال القائمة من الفرح و الحزن و القبض و البسط و الرضى و الغضب و الصبر و الشكر و أمثال ذلك . فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات و إرادات و أحوال و هي التي يميز بها الإنسان . و بعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم من الأدلة و الفرح و الحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به و النشاط عن الحمام و الكسل عن الإعياء . و كذلك المريد في مجاهدته و عبادته لابد و أن ينشأ له عن في مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة . و تلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ و تصير مقاما للمريد و إما أن لا تكون عبادة و إنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات . و لا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد و المعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة . قال صلى الله عليه و سلم : " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " فالمريد لابد له من الترقي في هذه الأطوار و أصلها كلها الطاعة و الإخلاص و يتقدمها الإيمان و يصاحبها ، و تنشأ عنها الأحوال و الصفات نتائج و ثمرات . ثم تنشأ عنها أخرى و أخرى إلى مقام التوحيد و العرفان . و إذا وقع ، تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله . و كذلك في الخواطر النفسانية و الواردات القلبية . فلهذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله و ينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري و تصورها من الخلل فيها كذلك . و المريد يجد ذلك بذوقه و يحاسب نفسه على أسبابه . و لا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة . و غاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء و الامتثال . و هؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق و المواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أو لا ، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال و التروك و الكلام في هذه الأذواق و المواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاما يترقى منها إلى غيرها ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم و اصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة . فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمة منه . فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه . و صار علم الشريعة على صنفين : صنف مخصوص بالفقهاء و أهل الفتيا و هي الأحكام العامة في العبادات و العادات و المعاملات . و صنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة و محاسبة النفس عليها و الكلام في الأذواق و المواجد العارضة في طريقها و كيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق و شرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك . فلما كتبت العلوم و دونت و ألف الفقهاء في الفقه و أصوله و الكلام و التفسير وغير ذلك . كتب رجال من أهل هذه الطرقة في طريقهم فمنهم من كتب في الورع و محاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ و الترك كما فعله القشيري في كتاب الرسالة و السهرودي في كتاب عوارف المعارف و أمثالهم . و جمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع و الاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم و شرح اصطلاحاتهم في عباراتهم و صار علم التصوف في الملة علما مدونا بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط و كانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير و الحديث و الفقه والأصول و غير ذلك . ثم إن هذه المجاهدة و الخلوة و الذكر يتبعها غالبا كشف حجاب الحس و الاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها . و الروح من تلك العوالم . و سبب هذا الكشف أن . الروح إذا رجع في الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس و قويت أحوال الروح و غلب سلطانه و تجدد نشؤه أعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح و لا يزال في نمو و تزيد إلى أن يصير شهودا بعد أن كان علما . و يكشف حجاب الحس ، و يتم وجود النفس التي لها من ذاتها . و هو عين الإدراك . فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية و العلوم اللدنية و الفتح الإلهي و تقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة . و هذا الكشف كثيرا ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود مالا يدرك سواهم و كذلك يدركون كثيرا من الواقعات قبل وقوعها و يتصرفون بهممهم و قوى نفوسهم في الموجودات السفلية و تصير طوع إرادتهم . فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف و لا يتصرفون و لا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة و يتعوذون منة إذا هاجمهم . و قد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة و كان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية . و في فضائل أبي بكر و عمر و عثمان و علي رضي الله عنهم كثير منها . و تبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم و من تبع طريقتهم من بعدهم . ثم إن قوما من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب و الكلام في المدارك التي وراءه و اختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية و تغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها و تغذيتها فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ و أنهم كشفوا ذوات الوجود و تصوروا حقائقها كلها من العرش ثم إلى الطش . هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة . ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحا كاملا عندهم إلا إذا كان ناشئا عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع و الخلوة و إن لم يكن هناك استقامة كالسحرة و غيرهم من المرتاضين . و ليس مرادنا إلا الكشف الناشئ عن الاستقامة و مثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة و حوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجا على غير صورته . و إن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحا . فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال . و لما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية و السفلية و حقائق الملك و الروح و العرش و الكرسي و أمثال ذلك . و قصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم و مواجدهم في ذلك . و أهل الفتيا بين فنكر عليهم و مسلم لهم . و ليس البرهان و الدليل بنافع في هذا الطريق ردا و قبولا إذ هي من قبيل الوجدانيات .
تفصيل و تحقيق : يقع كثيرا في كلام أهل العقائد من علماء الحديث و الفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته . و يقع للمتكلمين أنة لا مباين و لا متصل . و يقع للفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه . و يقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات : إما بمعنى الحلول فيها ، أو بمعنى إنه هو عينها . و ليس هناك غيره جملة و لا تفصيلا . فلنبين تفصيل هذه المذاهب و نشرح حقيقة كل واحد منها ، حتى تتضح معانيها فنقول ، إن المباينة تقال لمعنيين :
أحدهما المباينة في الحيز و الجهة ، و يقابله الاتصال . و نشعر هذه المقابلة على هذه التقيد . بالمكان إما صريحا و هو تجسيم ، أو لزوما و هو تشبيه من قبيل القول بالجهة . و قد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة ، فيحتمل غير هذا المعنى . و من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا : لا يقال في البارئ أنة مباين مخلوقاته ، و لا متصل بها ، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات . و ما يقال من أن المحل لا يخلو عي الاتصاف بالمعنى و ضده . فهو مشروط بصحة الاتصاف أولا ، و أما مع امتناعه فلا ، بل يجوز الخلو عن المعنى و ضده . كما يقال في الجماد ، لا عالم و لا جاهل ، و لا قادر و لا عاجز ولا كاتب و لا أمي . و صحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها . و البارئ سبحانه منزه عن ذلك . ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين و قال : و لا يقال في البارئ مباين للعالم و لا متصل به ، و لا داخل فيه و لا خارج عنة . و هو معنى ما يقول الفلاسفة أنة لا داخل العالم و لا خارجه ، يناء على وجود الجواهر غير المتحيزة . و أنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارئ في أخص الصفات . و هو مبسوط في علم الكلام .
وأما المعنى الآخر للمباينة ، فهو المغايرة و المخالفة فيقال : البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته و هويته و وجوده و صفاته . و يقابله الاتحاد و الامتزاج والاختلاط . و هذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف و علماء الشرائع و المتكلمين و المتصوفة الأقدمين أهل الرسالة و من نحا منحاهم . و ذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية ، إلى أن البارئ تعالى متحد بمخلوقاته في هويته و وجوده و صفاته . و ربما زعموا أنة مذهب الفلاسفة قبل أرسطو ، مثل أفلاطون و سقراط ، و هو الذي يقينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصوفة و يحاولون الرد عليه لأنه ذاتان ، تنتفي إحداهما ، أو تندرج اندراج الجزء . فإن تلك مغايرة صريحة . و لا يقولون بذلك . و هذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام و هو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به . و هو أيضا عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأئمة . و تقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين :
الأولى : أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها و معقولها ، متحدة بها في المتصورين ، و هي كلها مظاهر له ، و هو القائم عليها ، أي المقدم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدما و هو رأي أهل الحلول .
الثانية : طريق أهل الوحدة المطلقة و كأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد ، فنفوها بين القديم و بين المخلوقات في الذات و الوجود و الصفات . و غالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس و العقل بأن ذلك من المدارك البشرية ، و هي أوهام . و لا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم و الفن و الشك ، إنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة ، و وجود في المدرك البشري فقط . و لا وجود بالحقيقة إلا للقديم ، لا في الظاهر و لا في الباطن كما نقرره بعد ، بحسب الإمكان . و التعويل في تعقل ذلك على النظر و الاستدلال ، كما في المدارك البشرية ، غير مفيد ، لأن ذلك إنما نقل من المدارك الملكية ، وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة و من بعدهم للأولياء بهدايتهم . و قصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال . و ربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات و ترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى يالأغمض فالأغمض .و ربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود و ترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر و الاصطلاحات و العلوم كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل و ترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية و هما معا صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير . و يسمون هذا الصدور بالتجلي . و أول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه و هو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد و الظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه : كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني و هذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود و تفصيل الحقائق و هو عندهم عالم المعاني و الحضرة الكمالية و الحقيقة المحمدية و فيها حقائق الصفات و اللوح و القلم و حقائق الأنبياء و الرسل أجمعين و الكمل من أهل الملة المحمدية . و هذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية . و يصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية و هي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ، ثم عالم العناصر ، ثم عالم التركيب . هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق . و يسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي و المظاهر و الحضرات و هو كلام لا يقتدر أهل النظر إلى تحصيل مقتضاه لغموضه و انغلاقه و بعد ما بين كلام صاحب المشاهدة و الوجدان و صاحب الدليل . و ربما أنكر بظاهر الشرع . هذا الترتيب و كذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة و هو رأي أغرب من الأول في تعقله و تفاريعه . يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات و صورها و موادها . و العناصر إنما كانت بما فيها من القوى و كذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها . ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب ، كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها و زيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية و زيادة قوتها في نفسها و كذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية و زيادة . و كذا الذوات الروحانية و القوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية و جزئية و جمعتها و أحاطت بها من كل وجه . لا من جهة الظهور و لا من جهة الخفاء و لا من جهة الصورة و لا من جهة المادة فالكل واحد و هو نفس الذات الإلهية و هي في الحقيقة واحدة بسيطة و الاعتبار هو المفصل لها كالإنسانية مع الحيوانية . ألا ترى أنها مندرجة فيها و كائنة بكونها . فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع ، في كل موجود كما ذكرناه و تارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال . و هم في هذا كله يفرون من التركيب و الكثرة بوجه من الوجوه و إنما أوجبها عندهم الوهم و الخيال . و الذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما تقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه . و كذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي ، بل و الموجودات المعقولة و المتوهمة أيضا مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري . فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل الوجود بل هو بسيط واحد فالحر و البرد و الصلابة و اللين بل والأرض و الماء و النار و السماء و الكواكب ، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود و إنما هو في المدارك فقط فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد و هو أنا لا غيره . و يعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام و فقد الحس الظاهر فقد كل محسوس و هو في تلك الحال إلا ما يفصله له الخيال . قالوا : فكذا اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل و هذا هو معنى قولهم الموهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية . هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان و هو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون عنه و إليه يقينا مع غيبته عن أعيننا و بوجود السماء المظلة و الكواكب و سائر الأشياء الغائبة عنا . و الإنسان قاطع بذلك و لا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة و يسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات و يعبرون عن ذلك بمقام الفرق و هو مقام العارف المحقق و لابد للمريد عندهم من عقبة الجمع و هي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة ثم إن كل هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف و فيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول و الوحدة كما أشرنا إليه و ملئوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له و غيره . و تبعهم ابن العربي و ابن سبعين و تلميذهما ابن العفيف وابن الفارض و النجم الإسرائيلي في قصائدهم . و كان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول و إلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر . و اختلط كلامهم و تشابهت عقائدهم . و ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب و معناه رأس العارفين . يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله . ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان . و قد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فضول التصوف منها فقال : جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد . و هذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ، و لا دليل شرعي و إنما هو من أنواع الخطابة و هو بعينه ما تقوله الرافضة و دانوا به . ثم قالوا بترتيب وجود الإبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء . حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم و نحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه و هو من هذا المعنى أيضا . و إلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بتخليه و لا طريقة في لباس و لا حال . بل كان أبو بكر و عمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أكثرهم عبادة . و لم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين و الزهد و المجاهدة .
تشهد بذلك سيرهم و أخبارهم ، نعم إن الشيعة يخيلون بما ينعلون من ذلك اختصاص علي رضي الله عنه بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم . و الذي يظهر أني المتصوفة بالعراق ، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة ، و ظهر كلامهم في الإمامة و ما يرجع إليها ما هو معروف ، فاقتبسوا من ذلك الموزانة بين الظاهر و الباطن و جعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع ، و أفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع . ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين ، و أفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر و أن يكون على وزانه في الباطن و سموه قطبا لمدار المعرفة عليه ، و جعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمل ذلك .
يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي و ما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات و إنما هو مأخوذ من كلام الشيعة و الرافضة و مذاهبهم في كتبهم . و الله يهدي إلى الحق .
تذييل : و قد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس ، أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أ بيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها و بقوله :
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته تثنيه أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده و نعت من ينعته لاحد
فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه : استشكل الناس إطلاق لفظ الجمود على كل من وحد الواحد و لفظ الإلحاد على من نعته و وصفه . و استبشعوا هذه الأبيات و حملوا قائلها على الكفر و استخفوه . و نحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتقاء عين الحدوث بثبوت عين القدم و أن الوجود كله حقيقة واحدة وانية واحدة . و قد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم : الحق عين ما ظهر و عين ما بطن . و يرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية . و هم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال و الصدا و المرأى . و أن كل ما سوى عين القدم ، إذا استتبع فهو عدم . و هذا معنى : كان الله ، و لا شيء معه ، و هو الآن على ما هو عليه كان عندهم . و معنى قول كبير الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : " ألا كل شيء ، ما خلا الله باطل " . قالوا : فمن وحد و نعت ، فقد قال بموجد محدث . هو نفسه ، و توحيد محدث هو فعله ، موجود قدير ، هو معبود .
و قد تقدم معنى التوحيد انتقاء عين الحدوث ، و عين الحدوث ، الآن ثابتة بل متعددة ، و التوحيد مجحود والدعوى كاذبة . كمن يقول لغيره ، و هما معا في بيت واحد : ليس في البيت غيرك ، فيقول الآخر بلسان حاله : لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت ! و قد قال بعض المحققين في قولهم : خلق الله الزمان ، هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان و هو فعل لابد من وقوعه في الزمان . و إنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق و عجز اللغات عن تأدية الحق فيها و بها . فإذا تحقق أن الموحد هو الموحد ، و عدم ما سواه جملة . صح التوحيد حقيقة . و هذا معنى قولهم لا يعرف الله إلا الله و لا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم و الآثار ، و إنما هو من باب : حسنات الأبرار سيئات المقربين . لأن ذلك لازم التقييد و العبودية و الشفعية . و من ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصا ، مع علمه بمرتبته ، و أنه تلبيس تستلزمه العبودية و يرمعه الشهود و يطهر من دنس حدوثه عين الجمع . و أعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة . و مدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد ، و إنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض و التنبيه و التفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية و يحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا . و عبارة : فمن سلم استراح و من نازعته حقيقة أنس بقوله : كنت سمعه و بصره . و إذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ . و الذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور ، لا نطق فيه و لا خبر عنه . و هذا المقدار من الإشارة كاف . و التعمق في مثل هذا حجاب . و هو الذي أوقع في المقالات المعروفة . انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات ، و نقلته من كتاب الوزير أبي الخطيب الذي ألفه في المحبة . و سماه التعريف بالحب الشريف . و قد سمعته من شيخنا أبى مهدي مرارا . إلا أني رأيت رسوم الكتاب أوعى له . لطول عهدي به . و الله الموفق .
ثم إن كثيرا من الفقهاء و أهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات و أمثالها و شملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة . و الحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع : أحدها الكلام على المجاهدات و ما يحصل من الأذواق و المواجد و محاسبة النفس على أعمالها لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما و يترقى منة إلى غيره كما قلناه و ثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية و العرش و الكرسي والملائكة و الوحي و النبؤة و الروح و حقائق كل موجود غائب أو شاهد و تركيب الألوان في صدورها عن موجودها و تكونها كما مر ، و ثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات ، و رابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر و محسن و متأول . فأما الكلام في المجاهدات و المقامات و ما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها و محاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد و أذواقهم فيه صحيحة و التحقق بها هو عين السعادة . و أما الكلام في كرامات القوم و أخبارهم بالمغيبات و تصرفهم في الكائنات . فأمر صحيح غير منكر . و إن مآل بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق . و ما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي و هو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به . قالوا : ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق . فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها و هو محال . هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات و إنكارها نوع مكابرة . و قد وقع للصحابة و أكابر السلف كثير من ذلك و هو معلوم مشهور . و أما الكلام في الكشف و إعطاء حقائق العلويات و ترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم و فاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه . و اللغات لا تعطى له دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للتعارف و أكثره من المحسوسات . فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك و نتركه فيما تركناه من المتشابه و من رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة . و أما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات و يوآخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس و الواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه و صاحب الغيبة غير مخاطب و المجبور معذور . فمن علم منهم فضله و اقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا و أمثاله و أن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي و أمثاله . و من لم يعلم فضله و لا اشتهر فموآخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه . و أما من تكلم بمثلها و هو حاضر في حسه و لم يملكه الحال فموآخذ أيضا . و لهذا أفتى الفقهاء و أكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور و هو مالك لحاله . و الله أعلم . و سلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب و لا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع و الاقتداء ما استطاعوا . و من عرض له شيء من ذلك أعرض عنه و لم يحفل به بل يفرون منه و يرون أنة من العوائق و المحن و أنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث و أن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان . و علم الله أوسع و خلقه أكبر و شريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون . بل حظروا الخوض في ذلك و منعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه و الوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع و الاقتداء و يأمرون أصحابهم بالتزامها . و هكذا ينبغي أن يكون حال المريد و الله الموفق للصواب .
الفصل الثامن عشر : في علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشرعية و هو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع و كتب الناس فيها . و أما الرؤيا و التعبير لها فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف . و ربما كان في الملوك و الأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام . و إلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق و لابد من تعبيرها . فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن . و كذلك ثبت عن الصحيح " عن النبي صلى الله عليه و سلم و عن أبي بكر رضي الله عنه و الرؤيا مدرك من مدارك الغيب . و قال صلى الله عليه و سلم : الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبؤة " . و قال : " لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له " و أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . " و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه : هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ؟ " يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين و إعزازه . و أما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو أن الروح القلبي و هو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات و مع الدم في سائر البدن و به تكمل أفعال القوى الحيوانية و إحساسها . فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس و تصريف القوى الظاهرة و غشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انحبس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها و ذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب . ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان و الروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته و ذاته عين الإدراك . و إنما يمنع من تعلقه للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن و قواه و حواشه . فلو قد خلا من هذا الحجاب و تجرد عنه لرجع إلى حقيقته و هو عين الإدراك فيعقل كل مدرك . فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلابد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له و هو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها و هي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه . و إذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه . إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية . و المدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية و المتصرف منها هو الخيال . فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر و الاستدلال . و كذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول و الخيال واسطة بينهما . و لذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة و يدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنة محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي . و الخيال أيضا واسطة . هذه حقيقة الرؤيا . و من هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم . و لكن إن كانت تلك الصور متتزلة من الروح العقلي المدرك فهو رؤيا . و إن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام .
و اعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها و تشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله مما ألقى إليه في نومه : فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا ، كأنة يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة و لو كان مستغرقا في نومه ، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن و عوارضه ، و منها ثبوت ذلك الإدراك و دوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخيلها سهو و لا نسيان . و لا يحتاج إلى إحضارها بالفكر و التذكير ، بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه . و لا يغرب عنه شيء منها ، لأن الإدراك النفساني ليس بزماني و لا يلحقه ترتبت ، بل يدركه دفعة في زمن فرد . و أضغاث الأحلام زمانية . لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه . و أفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك و المتقدم و المتأخر . و يعرض النسيان العارض للقوى الدماغية . و ليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية ، و لا ترتيب فيها . و ما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر . و قد تبقى الرؤيا بعد الانتباه . حاضرة في الحفظ أياما من العمر . لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قويا ، و إذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر و الوجهة إليها ، و ينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة ، و إنما هي من أضغاث الأحلام . و هذه العلامات من خواص الوحي . قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : " لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه " و الرؤيا لها نسبة من النبوة و الوحي كما في الصحيح . قال صلى الله عليه و سلم : " الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة " فلخواصها أيضا نسبة إلى خواص النبوة . بذلك القدر ، فلا تستبعد ذلك ، فهذا وجه الحق . و الله الخالق لما يشاء .
و أما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركة و ألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية . فإذا استيقظ و هو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة و أن المدرك وراءها و هو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا : هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه بها السلطان و كذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها و كذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك . و من المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها و وضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك و شبهه . و لهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث : رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان . فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل و التي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير و الرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث . و اعلم أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه . فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس و ما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر و لا العدو بالحية و لا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذه و إنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها و مناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات و المشمومات . و ليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير و فسد قانونه . ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه . و تأويله كما يقولون : البحر يدل على السلطان ، و في موضع آخر يقولون : البحر يدل على الغيظ ، و في موضع آخر يقولون : البحر يدل على الهم والأمر الفادح . و مثل ما يقولون : الحية تدل على العدو ، و في موضع آخر يقولون : هي كاتم سر ، و في موضع آخر يقولون : تدل على الحياة و أمثال ذلك . فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية ، و يعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا . و تلك القرائن منها في اليقظة و منها في النوم و منها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه و كل ميسر لما خلق له . و لم يزل هذا العلم فتناقلا بين السلف . و كان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء و كتب عنه في ذلك القوانين و تناقلها الناس لهذا العهد . و ألف الكرماني فيه من بعده . ثم ألف المتكلمون المتأخرون و أكثروا . و المتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع و غيره و كتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه و أحضرها . و كذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس . و هو علم مضيء ينور النبؤة للمناسبة التي بينهما و لكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح و الله علام الغيوب .
الفصل التاسع عشر : في العلوم العقلية و أصنافهاو أما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم و يستوون في مداركها و مباحثها . و هي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران
تشهد بذلك سيرهم و أخبارهم ، نعم إن الشيعة يخيلون بما ينعلون من ذلك اختصاص علي رضي الله عنه بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهابا مع عقائد التشيع المعروفة لهم . و الذي يظهر أني المتصوفة بالعراق ، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة ، و ظهر كلامهم في الإمامة و ما يرجع إليها ما هو معروف ، فاقتبسوا من ذلك الموزانة بين الظاهر و الباطن و جعلوا الإمامة لسياسة الخلف في الانقياد إلى الشرع ، و أفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع . ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين ، و أفردوه بذلك تشبيها بالإمام في الظاهر و أن يكون على وزانه في الباطن و سموه قطبا لمدار المعرفة عليه ، و جعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمل ذلك .
يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي و ما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات و إنما هو مأخوذ من كلام الشيعة و الرافضة و مذاهبهم في كتبهم . و الله يهدي إلى الحق .
تذييل : و قد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس ، أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أ بيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها و بقوله :
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته تثنيه أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده و نعت من ينعته لاحد
فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه : استشكل الناس إطلاق لفظ الجمود على كل من وحد الواحد و لفظ الإلحاد على من نعته و وصفه . و استبشعوا هذه الأبيات و حملوا قائلها على الكفر و استخفوه . و نحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتقاء عين الحدوث بثبوت عين القدم و أن الوجود كله حقيقة واحدة وانية واحدة . و قد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم : الحق عين ما ظهر و عين ما بطن . و يرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية . و هم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال و الصدا و المرأى . و أن كل ما سوى عين القدم ، إذا استتبع فهو عدم . و هذا معنى : كان الله ، و لا شيء معه ، و هو الآن على ما هو عليه كان عندهم . و معنى قول كبير الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله : " ألا كل شيء ، ما خلا الله باطل " . قالوا : فمن وحد و نعت ، فقد قال بموجد محدث . هو نفسه ، و توحيد محدث هو فعله ، موجود قدير ، هو معبود .
و قد تقدم معنى التوحيد انتقاء عين الحدوث ، و عين الحدوث ، الآن ثابتة بل متعددة ، و التوحيد مجحود والدعوى كاذبة . كمن يقول لغيره ، و هما معا في بيت واحد : ليس في البيت غيرك ، فيقول الآخر بلسان حاله : لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت ! و قد قال بعض المحققين في قولهم : خلق الله الزمان ، هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان و هو فعل لابد من وقوعه في الزمان . و إنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق و عجز اللغات عن تأدية الحق فيها و بها . فإذا تحقق أن الموحد هو الموحد ، و عدم ما سواه جملة . صح التوحيد حقيقة . و هذا معنى قولهم لا يعرف الله إلا الله و لا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم و الآثار ، و إنما هو من باب : حسنات الأبرار سيئات المقربين . لأن ذلك لازم التقييد و العبودية و الشفعية . و من ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصا ، مع علمه بمرتبته ، و أنه تلبيس تستلزمه العبودية و يرمعه الشهود و يطهر من دنس حدوثه عين الجمع . و أعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة . و مدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد ، و إنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض و التنبيه و التفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية و يحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا . و عبارة : فمن سلم استراح و من نازعته حقيقة أنس بقوله : كنت سمعه و بصره . و إذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ . و الذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور ، لا نطق فيه و لا خبر عنه . و هذا المقدار من الإشارة كاف . و التعمق في مثل هذا حجاب . و هو الذي أوقع في المقالات المعروفة . انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات ، و نقلته من كتاب الوزير أبي الخطيب الذي ألفه في المحبة . و سماه التعريف بالحب الشريف . و قد سمعته من شيخنا أبى مهدي مرارا . إلا أني رأيت رسوم الكتاب أوعى له . لطول عهدي به . و الله الموفق .
ثم إن كثيرا من الفقهاء و أهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات و أمثالها و شملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة . و الحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع : أحدها الكلام على المجاهدات و ما يحصل من الأذواق و المواجد و محاسبة النفس على أعمالها لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاما و يترقى منة إلى غيره كما قلناه و ثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية و العرش و الكرسي والملائكة و الوحي و النبؤة و الروح و حقائق كل موجود غائب أو شاهد و تركيب الألوان في صدورها عن موجودها و تكونها كما مر ، و ثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات ، و رابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر و محسن و متأول . فأما الكلام في المجاهدات و المقامات و ما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها و محاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد و أذواقهم فيه صحيحة و التحقق بها هو عين السعادة . و أما الكلام في كرامات القوم و أخبارهم بالمغيبات و تصرفهم في الكائنات . فأمر صحيح غير منكر . و إن مآل بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق . و ما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي و هو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به . قالوا : ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق . فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها و هو محال . هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات و إنكارها نوع مكابرة . و قد وقع للصحابة و أكابر السلف كثير من ذلك و هو معلوم مشهور . و أما الكلام في الكشف و إعطاء حقائق العلويات و ترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم و فاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه . و اللغات لا تعطى له دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للتعارف و أكثره من المحسوسات . فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك و نتركه فيما تركناه من المتشابه و من رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة . و أما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات و يوآخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس و الواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه و صاحب الغيبة غير مخاطب و المجبور معذور . فمن علم منهم فضله و اقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا و أمثاله و أن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي و أمثاله . و من لم يعلم فضله و لا اشتهر فموآخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه . و أما من تكلم بمثلها و هو حاضر في حسه و لم يملكه الحال فموآخذ أيضا . و لهذا أفتى الفقهاء و أكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور و هو مالك لحاله . و الله أعلم . و سلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب و لا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع و الاقتداء ما استطاعوا . و من عرض له شيء من ذلك أعرض عنه و لم يحفل به بل يفرون منه و يرون أنة من العوائق و المحن و أنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث و أن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان . و علم الله أوسع و خلقه أكبر و شريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء مما يدركون . بل حظروا الخوض في ذلك و منعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه و الوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع و الاقتداء و يأمرون أصحابهم بالتزامها . و هكذا ينبغي أن يكون حال المريد و الله الموفق للصواب .
الفصل الثامن عشر : في علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشرعية و هو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع و كتب الناس فيها . و أما الرؤيا و التعبير لها فقد كان موجودا في السلف كما هو في الخلف . و ربما كان في الملوك و الأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام . و إلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق و لابد من تعبيرها . فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن . و كذلك ثبت عن الصحيح " عن النبي صلى الله عليه و سلم و عن أبي بكر رضي الله عنه و الرؤيا مدرك من مدارك الغيب . و قال صلى الله عليه و سلم : الرؤيا الصالحة جزء من ستة و أربعين جزءا من النبؤة " . و قال : " لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له " و أول ما بدأ به النبي صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . " و كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه : هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ؟ " يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين و إعزازه . و أما السبب في كون الرؤيا مدركا للغيب فهو أن الروح القلبي و هو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات و مع الدم في سائر البدن و به تكمل أفعال القوى الحيوانية و إحساسها . فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس و تصريف القوى الظاهرة و غشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انحبس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها و ذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب . ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان و الروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته و ذاته عين الإدراك . و إنما يمنع من تعلقه للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن و قواه و حواشه . فلو قد خلا من هذا الحجاب و تجرد عنه لرجع إلى حقيقته و هو عين الإدراك فيعقل كل مدرك . فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلابد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له و هو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها و هي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة من عالمه . و إذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه . إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية . و المدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية و المتصرف منها هو الخيال . فإنه ينتزع من الصور المحسوسة صورا خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت الحاجة إليها عند النظر و الاستدلال . و كذلك تجرد النفس منها صورا أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول و الخيال واسطة بينهما . و لذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة و يدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنة محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي . و الخيال أيضا واسطة . هذه حقيقة الرؤيا . و من هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم . و لكن إن كانت تلك الصور متتزلة من الروح العقلي المدرك فهو رؤيا . و إن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي أضغاث أحلام .
و اعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها و تشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله مما ألقى إليه في نومه : فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا ، كأنة يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة و لو كان مستغرقا في نومه ، لتقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن و عوارضه ، و منها ثبوت ذلك الإدراك و دوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخيلها سهو و لا نسيان . و لا يحتاج إلى إحضارها بالفكر و التذكير ، بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه . و لا يغرب عنه شيء منها ، لأن الإدراك النفساني ليس بزماني و لا يلحقه ترتبت ، بل يدركه دفعة في زمن فرد . و أضغاث الأحلام زمانية . لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه . و أفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك و المتقدم و المتأخر . و يعرض النسيان العارض للقوى الدماغية . و ليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية ، و لا ترتيب فيها . و ما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من لمح البصر . و قد تبقى الرؤيا بعد الانتباه . حاضرة في الحفظ أياما من العمر . لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قويا ، و إذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر و الوجهة إليها ، و ينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة ، و إنما هي من أضغاث الأحلام . و هذه العلامات من خواص الوحي . قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه و سلم : " لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه " و الرؤيا لها نسبة من النبوة و الوحي كما في الصحيح . قال صلى الله عليه و سلم : " الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزءا من النبوة " فلخواصها أيضا نسبة إلى خواص النبوة . بذلك القدر ، فلا تستبعد ذلك ، فهذا وجه الحق . و الله الخالق لما يشاء .
و أما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركة و ألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية . فإذا استيقظ و هو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة و أن المدرك وراءها و هو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلا : هو السلطان لأن البحر خلق عظيم يناسب أن يشبه بها السلطان و كذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها و كذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك . و من المرئي ما يكون صريحا لا يفتقر إلى تعبير لجلائها و وضوحها أو لقرب الشبه فيها بين المدرك و شبهه . و لهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث : رؤيا من الله و رؤيا من الملك و رؤيا من الشيطان . فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل و التي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير و الرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث . و اعلم أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه . فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس و ما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئا فلا يمكن من ولد أعمى أن يصور له السلطان بالبحر و لا العدو بالحية و لا النساء بالأواني لأنه لم يدرك شيئا من هذه و إنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها و مناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات و المشمومات . و ليتحفظ المعبر من مثل هذا فربما اختلط به التعبير و فسد قانونه . ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبر عبارة ما يقص عليه . و تأويله كما يقولون : البحر يدل على السلطان ، و في موضع آخر يقولون : البحر يدل على الغيظ ، و في موضع آخر يقولون : البحر يدل على الهم والأمر الفادح . و مثل ما يقولون : الحية تدل على العدو ، و في موضع آخر يقولون : هي كاتم سر ، و في موضع آخر يقولون : تدل على الحياة و أمثال ذلك . فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية ، و يعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هو أليق بالرؤيا . و تلك القرائن منها في اليقظة و منها في النوم و منها ما ينقدح في نفس المعبر بالخاصية التي خلقت فيه و كل ميسر لما خلق له . و لم يزل هذا العلم فتناقلا بين السلف . و كان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء و كتب عنه في ذلك القوانين و تناقلها الناس لهذا العهد . و ألف الكرماني فيه من بعده . ثم ألف المتكلمون المتأخرون و أكثروا . و المتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع و غيره و كتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه و أحضرها . و كذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس . و هو علم مضيء ينور النبؤة للمناسبة التي بينهما و لكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح و الله علام الغيوب .
الفصل التاسع عشر : في العلوم العقلية و أصنافهاو أما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذو فكر فهي غير مختصة بملة بل بوجه النظر فيها إلى أهل الملل كلهم و يستوون في مداركها و مباحثها . و هي موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
الخليقة . و تسمى هذه العلوم علوم الفلسفة و الحكمة و هي مشتملة على أربعة علوم : الأول علم المنطق و هو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة و فائدته تمييز الخطأ من الصواب . فيما يلتمسه الناظر في الموجودات و عوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفيا و ثبوتا بمنتهى فكره . ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية و المكونة عنها من المعدن و النبات و الحيوان و الأجسام الفلكية والحركات الطبيعية . و النفس التي تنبعث عنها الحركات و غير ذلك . و يسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي و هو العلم الثاني منها . و إما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و هو الثالث منها . و العلم الرابع و هو الناظر في المقادير و يشتمل على أربعة علوم و تسمى التعاليم . أولها : علم الهندسة و هو النظر في المقادير على الإطلاق . إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة و هي إما ذو بعد واحد و هو الخط أو ذو بعدين و في السطح ، أو ذو أبعاد ثلاثة و هو الجسم التعليمي . ينظر في هذه المقادير و ما يعرض لها إما من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض . و ثانيها علم الأرتماطيقي و هو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد و يؤخذ له من الخواص و العوارض اللاحقة . و ثالثها علم الموسيقى و هو معرفة نسب الأصوات و النغم بعضها من بعض و تقديرها بالعدد و ثمرته معرفة تلاحين الغناء . و رابعها علم الهيئة و هو تعيين الأشكال للأفلاك و حصر أوضاعها و تعددها لكل كوكب من السيارة و الثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها و من رجوعها و استقامتها و إقبالها و إدبارها . فهذه أصول العلوم الفلسفية و هي سبعة : المنطق و هو المقدم منها و بعده التعاليم فالأرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات و لكل واحد منها فروع تتفرع عنه . فمن فروع الطبيعيات الطب و من فروع علم العدد علم الحساب والفرائض و المعاملات و من فروع الهيئة الأزياج و هي قوانين لحساب حركات الكواكب و تعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك و من فروعها النظر في النجوم على الأحكام النجومية و نحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها . و اعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام و هما فارس و الروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدولة و السلطان قبل الإسلام و عصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم و أمصارهم . و كان للكلدانيين و من قبلهم من السريانيين و من عاصرهم من القبط عناية بالسحر و النجامة و ما يتبعها من الطلاسم و أخذ ذلك عنهم الأمم من فارس و يونان فاختص بها القبط و طمى بحرها فيهم كما وقع في المتلو من خبر هاروت و ماروت و شأن السحرة و ما نقله أهل العلم من شأن البراري بصعيد مصر . ثم تتابعت الملل بحظر ذلك و تحريمه فدرست علومه و بطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع . و الله أعلم بصحتها . مع أن سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها . و أما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيما و نطاقها متسعا لما كانت عليه دولتهم من الضخامة و اتصال الملك . و لقد يقال إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا و غلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم و علومهم . إلا أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس ، و أصابوا من كتبهم وصحائف علومهم مما لا يأخذه الحصر و لما فتحت أرض فارس و وجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها و تنقيلها للمسلمين . فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء . فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه و إن يكن ضلالا فقد كفانا الله . فطرحوها في الماء أو في النار و ذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا . و أما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولا و كان لهذه العلوم بينهم مجال رحب و حملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة و غيرهم . و اختص فيها المشاءون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم كانوا يقرؤون في رواق يظلم من الشمس و البرد على ما زعموا . و اتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدن ، ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسي ، و تامسطيون و غيرهم . و كان أرسطو معلما للأسكندر ملكهم الذي غلب الفرس على ملكهم و انتزع الملك من أيديهم . و كان أرسخهم في هذه العلوم قدما و أبعدهم فيه صيتا و شهرة . و كان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر . ولما انقرض أمر اليونان و صار الأمر للقياصرة و أخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل و الشرائع فيها . و بقيت في صحفها و دواوينها مخلدة باقية في خزائنهم ثم ملكوا الشام و كتب هذه العلوم باقية فيهم . ثم جاء الله بالإسلام و كان لأهله الظهور الذي لا كفاء له و ابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم . و ابتدأ أمرهم بالسذاجة و الغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح من السلطان و الدولة و أخذ الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم و تفننوا في الصنائع و العلوم . تشوقوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة و الأقسة المعاهدين بعض ذكر منها و بما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها . فبغث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس و بعض كتب الطبيعيات . فقرأها المسلمون و اطلعوا على ما فيها و ازدادوا حرصا على الظفر بما بقي منها . و جاء المأمون بعد ذلك و كانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا و أوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين و انتساخها بالخط العربي و بعث المترجمين لذلك فأوعى منه و استوعب . و عكف عليها النظار من أهل الإسلام و حذقوا في فنونها و انتهت إلى الغاية أنظارهم فيها . و خالفوا كثيرا من آراء المعلم الأول و اختصوه بالرد و القبول لوقوف الشهرة عنده . و دونوا في ذلك الدواوين وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم و كان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي و أبو علي بن سينا بالمشرق و القاضي أبو الوليد بن رشد و الوزير أبو بكر بن الصائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم . و اختص هؤلاء بالشهرة والذكر و اقتصر كثيرون على انتحال التعاليم و ما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر و الطلسمات . و وقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق و مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس و تلميذه . و دخل على الملة من هذه العلوم و أهلها داخلة و استهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها و الذنب في ذلك لمن ارتكبه . و لو شاء الله ما فعلوه . ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما و تناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من الناس و تحت رقبة من علماء السنة . و يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة و خصوصا في عراق العجم و ما بعده فيما وراء النهر و أنهم على بح من العلوم العقلية لتوفر عمرانهم و استحكام الحضارة فيهم . و لقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام و أصول الفقه و البيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم . و في أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية و قدما عالية في سائر الفنون العقلية و الله يؤيد بنصره من يشاء . كذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة و ما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق و أن رسومها هناك . متجددة و مجالس تعليمها متعددة و دواوينها جامعة متوفرة و طلبتها متكثرة و الله أعلم بما هنالك و هو يخلق ما يشاء و يختار .
الفصل العشرون : في العلوم العددية
و أولها الأرتماطيقي و هو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد و مثل ضعف الواسطة إن كانت عدة تلك الأعداد فردا مثل الأفراد على تواليها و الأزواج على تواليها و مثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها الخ ، أو يكون أولها ثلث ثانيها و ثانيها ثلث ثالثها الخ فإن ضرب الطرفين أحدهما في الآخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد أحدهما في الآخر . و مثل مربع الواسطة إن كانت العدة فردا و ذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر و مثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية و المربعات و المخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة . و تتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة . و تزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبلة فتكون مخمسة و هلم جرا . و تتوالى الأشكال على توالى الأضلاع و يحدث جدول ذو طول و عرض . ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات الخ و في طوله كل عدد و أشكاله بالغا ما بلغ و تحدث في جمعها و قسمة بعضها على بعض طولا و عرضا خواص غريبة استقرت منها و تقررت في دواوينهم مسائلها كذلك ما يحدث للزوج و الفرد و زوج الزوج و زوج الفرد و زوج الزوج و الفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن و ليست في غيره . و هذا الفن أول أجزاء التعاليم و أثبتها و يدخل في براهين الحساب . و للحكماء المتقدمين و المتأخرين فيه تآليف ، و أكثرهم يدرجونه في التعاليم و لا يفردونه بالتآليف . فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و غيره من المتقدمين . و أما المتأخرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول و منفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب و غيره و الله سبحانه و تعالى أعلم . و من فروع علم العدد صناعة الحساب . و هي صناعة علمية في حساب الأعداد بالضم و التفريق . فالضم يكون في الأعداد بالأفراد و هو الجمع . و بالتضعيف تضاعف عددا بآحاد عدد آخر و هذا هو الضرب و التفريق أيضا يكون في الأعداد إما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد و صرفه الباقي و هو الطرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة و هو القسمة . و سواء كان هذا الضم و التفريق في الصحيح من العب أو الكسر . و معنى الكسر نسبة عدد إلى عدد و تلك النسبة تسمى كسرا . و كذلك يكون بالضم و التفريق في الجذور و معناها العد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع . فإن تلك الجذور أيضا يدخلها الضم و التفريق و هذه الصناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات ألف الناس فيها كثيرا و تداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان . و من أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة و براهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب . و قد قال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني و مناقشة النفس فيصير ذلك خلقا و يتعود الصدق و يلازمه مذهبا . و من أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير . و لابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب و هو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني . و هو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه و هو كتاب جدير بذلك . و ساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب ، لابن منعم و الكامل للأحدب ، و لخص براهينها و غيرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة ، هي سر الإشارة بالحروف و زبدتها . و هي كلها مستغلقة و إنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم لأن مسائلها و أعمالها واضحة كلها . و إذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال . و في ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله . و الله يهدي بنوره من يشاء و هو القوي المتين . و من فروعه الجبر و المقابلة . و هي صناعة تستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك . فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب . أولها العدد لأنه به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه و ثانيها الشيء لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء و هو أيضا جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية و ثالثها المال و هو أمر مبهم و ما بعد ذلك فعلى نسبة الأس في المضروبين . ثم يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض و يجبرون ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحا . و يحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم و هي العدد و الشيء و المال . فإن كانت المعادلة بين ، واحد و واحد تعين فالمال و الجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد و يتعين . و المال و إن عادل الجذور فيتعين بعدتها . و إن كانت المعادلة بين واحد و اثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين و هي مبهمة فيعنيها ذلك الضرب المفصل . و لا يمكن المعادلة بين اثنين و اثنين . و أكثر ما انتهت المعادلة بينهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد و جذر و مال مفردة أو مركبة تجيء ستة . و أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي و بعده أبو كامل شجاع بن أسلم ، و جاء الناس على أثره فيه . و كتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه . و شرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا و من أحسن شروحاته كتاب القرشي . و قد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعاملات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس ، و بلغها إلى فوق العشرين و استخرج لها كلها أعمالا و أتبعه ببراهين هندسية . و الله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه و تعالى . و من فروعه أيضا العاملات . و هو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات و المساحات و الزكوات و سائر ما يغرض فيه العدد من المعاملات يصرف في صناعتنا ذلك الحساب في المجهول و المعلوم و الكسر والصحيح و الجذور و غيرها . و الغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران و الدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب . و لأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها معاملات الزهراوي و ابن السمح و أبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم . و من فروعه أيضا الفرائض . و هي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت و هلك بعض الوارثين و انكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها و تزاحمها على المال كله أو كان في الفريضة إقرار و إنكار من بعض الورثة فتحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة من كم تصح و سهام الورثة من كل بطن مصححا حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة . فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه و كسرة و جذره و معلومه و مجهوله و ترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية و مسائلها . فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه و هو أحكام الوراثة من الفروض و العول و الإقرار و الإنكار و الوصايا و التدبير و غير ذلك من مسائلها و على جزء من الحساب و هو تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي و هي من أجل العلوم . و قد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها مثل الفرائض ثلث العلم و أنها أول ما يرفع من العلوم و غير ذلك . و عندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم . و أما الفرائض العينية فكثيرة و قد ألف الناس في هذا الفن قديما و حديثا و أوعبوا و من أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله كتاب ابن ثابت و مختصر القاضي أبي القاسم الحوفي و كتاب ابن المنمر و الجعدي و الصردي و غيرهم . لكن الفضل للحوفي فكتابه مقدم على جميعها . و قد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس فأوضح و أوعب . و لإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي تشهد باتساع باعه في العلوم ، و رسوخ قدمه ، و كذا للحنفية والحنابلة . و مقامات الناس في العلوم مختلفة . و الله يهدي من يشاء بمنه و كرمه لا رب سواه .
الفصل الحادي و العشرون : في العلوم الهندسية
هذا العلم هو النظر في المقادير إما المتصلة كالخط و السطح و الجسم و إما المنفصلة كالأعداد و فيما يعرض لها من العوارض الذاتية . مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين . و مثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه و لو خرجا إذ غير نهاية . و مثل أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان . و مثل أن الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع و أمثال ذلك . و الكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب أوقليدس و يسمى كتاب الأصول و كتاب الأركان و هو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين و أول ما ترجم من كتاب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور و نسخه مختلفة باختلاف المترجمين . فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة و ليوسف بن الحجاج و يشتمل على خمس عشرة مقالة . أربع في السطوح و واحدة في الأقدار المتناسبة و أخرى في نسب السطوح بعضها إلى بعض و ثلاث في العدد و العاشرة في المنطقات و القوى على المنطقات و معناه الجذور و خمس في المجسمات . و قد اختصره الناس اختصارات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء . أفرد له جزءا منها اختصه به . و كذلك ابن الصلت في كتاب الاقتصار و غيرهم . و شرحه آخرون شروحا كثيرة و هو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق . و اعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله ، استقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها و انتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ و ينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع و قد زعموا أنة كان مكتوبا على باب أفلاطون : من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا و كان شيوخنا رحمهم الله يقولون ممارسة الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار و ينقيه من الأوضار والأدران ، و إنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه و انتظامه . و من فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية و المخروطات أما الأشكال الكروية ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس و ميلاوش في سطوحها و قطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه . و لابد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليه . فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية و ما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكروية سطوحها و قطوعها . و أما المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضا . و هو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال و القطوع و يبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول . و فائدتها تظهر في الصنائع العملية التي موادها الأجسام مثل التجارة و البناء و كيف تصنع التماثيل الغريبة و الهياكل النادرة و كيف يتخيل على جر الأثقال و نقل الهياكل بالهندام و الميخال و أمثال ذلك . و قد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتابا في الحيل العلمية يتضمن من الصناعات الغريبة و الحيل المستظرفة كل عجيبة . و ربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية و هو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر . و الله تعالى أعلم . و من فروع الهندسة المساحة و هو فن يحتاج إليه في مسح الأرض و معناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما و نسبة أرض من أرض إذ قويست بمثل ذلك . و يحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع و الفدن و بساتين الغراسة و في قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء و الورثة و أمثال ذلك . و للناس فيها موضوعات حسنة و كثيرة و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه . المناظرة من فروع الهندسة و هو علم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر و قاعدته المرئي . ثم يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا و البعيد صغيرا . و كذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء و وراء الأجسام الشفافة كبيرة و رؤية النقطة النازلة من المطر خطا مستقيما و السلقة دائرة و أمثال ذلك . فيتبين في هذا العلم أسباب ذلك و كيفياته بالبراهين الهندسية و يتبين به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة و حصول الكسوفات و كثير من أمثال هذا . و قد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين . و أشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم . و لغيره أيضا تآليف و هو من هذه الرياضة و تفاريعها .
الفصل الثاني و العشرون : في علم الهيئة
و هو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة و المحركة و المتحيرة . و يستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال و أوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية . كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال و الإدبار و كما يستدل بالرجوع و الاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم و كما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة و كما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له و أمثال ذلك . و إدراك الموجود من الحركات و كيفياتها و أجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركة الإقبال و الإدبار به . و كذا تركيب الأفلاك في طبقاتها و كذا الرجوع و الاستقامة و أمثال ذلك . و كان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا و يتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين . و كانت تسمى عندهم ذات الحلق و صناعة عملها و البراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس .
و أما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل . و كان في أيام المأمون شيء منه و صنع هذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق . و شرع في ذلك فلم يتم . و لما مات ذهب رسمه و أغفل و اعتمد من بعده على الأرصاد القديمة و ليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب . و أن مطابقة حركة الآلة للرصد بحركة الأفلاك و الكواكب إنما هو بالتقريب . و هذه الهيئة صناعة شريفة و ليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطى صورة السماوات و ترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور و الهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات . و أنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمختلفين و إن قلنا إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم و لا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل و هو أحد أركان التعاليم . و من أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس . و ليس من ملوك اليونان الذين أسماؤهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب . و قد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا و أدرجه في تعاليم الشفاء . و لخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس و ابن السمح و ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار . و لابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها و حذف براهينها الهندسية . و الله علم الإنسان ما لم يعلم . سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين . و من فروعه علم الأزياج . و هي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته و ما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة و بطء و استقامة و رجوع و غير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة . و لهذه الصناعة قوانين كالمقدمات و الأصول لها في معرفة الشهور و الأيام و التواريخ الماضية و أصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض و الميول و أصناف الحركات و استخراج بعضها من بعض ، يضعونها في جدول مرتبة تسهيلا على المتعلمين و تسمى الأزياج . و يسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلا و تقويما . و للناس فيه تآليف كثيرة للمتقدمين و المتأخرين مثل البتاني و ابن الكماد . و قد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة . و يزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد . و أن يهوديا كان بصقلية ماهرا في الهيئة و التعاليم و كان قد عني بالرصد و كان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب و حركه لها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون . و لخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج فولع به الناس لما سهل من الأعمال فيه و إنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتنبني عليها الأحكام النجومية و هو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك و الدول و المواليد البشرية و الكوائن الحادثة كما نبينه بعد و نوضح فيه أدلتهم إن شاء الله تعالى . و الله الموفق لما يحبه و يرضاه لا معبود سواه .
الفصل الثالث و العشرون : في علم المنطق
الفصل العشرون : في العلوم العددية
و أولها الأرتماطيقي و هو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد و مثل ضعف الواسطة إن كانت عدة تلك الأعداد فردا مثل الأفراد على تواليها و الأزواج على تواليها و مثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها الخ ، أو يكون أولها ثلث ثانيها و ثانيها ثلث ثالثها الخ فإن ضرب الطرفين أحدهما في الآخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعدد واحد أحدهما في الآخر . و مثل مربع الواسطة إن كانت العدة فردا و ذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر و مثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية و المربعات و المخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة . و تتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة . و تزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبلة فتكون مخمسة و هلم جرا . و تتوالى الأشكال على توالى الأضلاع و يحدث جدول ذو طول و عرض . ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات الخ و في طوله كل عدد و أشكاله بالغا ما بلغ و تحدث في جمعها و قسمة بعضها على بعض طولا و عرضا خواص غريبة استقرت منها و تقررت في دواوينهم مسائلها كذلك ما يحدث للزوج و الفرد و زوج الزوج و زوج الفرد و زوج الزوج و الفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن و ليست في غيره . و هذا الفن أول أجزاء التعاليم و أثبتها و يدخل في براهين الحساب . و للحكماء المتقدمين و المتأخرين فيه تآليف ، و أكثرهم يدرجونه في التعاليم و لا يفردونه بالتآليف . فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و غيره من المتقدمين . و أما المتأخرون فهو عندهم مهجور إذ هو غير متداول و منفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب و غيره و الله سبحانه و تعالى أعلم . و من فروع علم العدد صناعة الحساب . و هي صناعة علمية في حساب الأعداد بالضم و التفريق . فالضم يكون في الأعداد بالأفراد و هو الجمع . و بالتضعيف تضاعف عددا بآحاد عدد آخر و هذا هو الضرب و التفريق أيضا يكون في الأعداد إما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد و صرفه الباقي و هو الطرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة و هو القسمة . و سواء كان هذا الضم و التفريق في الصحيح من العب أو الكسر . و معنى الكسر نسبة عدد إلى عدد و تلك النسبة تسمى كسرا . و كذلك يكون بالضم و التفريق في الجذور و معناها العد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع . فإن تلك الجذور أيضا يدخلها الضم و التفريق و هذه الصناعة حادثة احتيج إليها للحساب في المعاملات ألف الناس فيها كثيرا و تداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان . و من أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة و براهين منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب . و قد قال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني و مناقشة النفس فيصير ذلك خلقا و يتعود الصدق و يلازمه مذهبا . و من أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير . و لابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب و هو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني . و هو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه و هو كتاب جدير بذلك . و ساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب ، لابن منعم و الكامل للأحدب ، و لخص براهينها و غيرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة ، هي سر الإشارة بالحروف و زبدتها . و هي كلها مستغلقة و إنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم لأن مسائلها و أعمالها واضحة كلها . و إذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال . و في ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله . و الله يهدي بنوره من يشاء و هو القوي المتين . و من فروعه الجبر و المقابلة . و هي صناعة تستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك . فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب . أولها العدد لأنه به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه و ثانيها الشيء لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء و هو أيضا جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية و ثالثها المال و هو أمر مبهم و ما بعد ذلك فعلى نسبة الأس في المضروبين . ثم يقع العمل المفروض في المسألة فتخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثر من هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض و يجبرون ما فيها من الكسر حتى يصير صحيحا . و يحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم و هي العدد و الشيء و المال . فإن كانت المعادلة بين ، واحد و واحد تعين فالمال و الجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد و يتعين . و المال و إن عادل الجذور فيتعين بعدتها . و إن كانت المعادلة بين واحد و اثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين و هي مبهمة فيعنيها ذلك الضرب المفصل . و لا يمكن المعادلة بين اثنين و اثنين . و أكثر ما انتهت المعادلة بينهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد و جذر و مال مفردة أو مركبة تجيء ستة . و أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي و بعده أبو كامل شجاع بن أسلم ، و جاء الناس على أثره فيه . و كتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه . و شرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا و من أحسن شروحاته كتاب القرشي . و قد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعاملات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس ، و بلغها إلى فوق العشرين و استخرج لها كلها أعمالا و أتبعه ببراهين هندسية . و الله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه و تعالى . و من فروعه أيضا العاملات . و هو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات و المساحات و الزكوات و سائر ما يغرض فيه العدد من المعاملات يصرف في صناعتنا ذلك الحساب في المجهول و المعلوم و الكسر والصحيح و الجذور و غيرها . و الغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران و الدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب . و لأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها معاملات الزهراوي و ابن السمح و أبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم . و من فروعه أيضا الفرائض . و هي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت و هلك بعض الوارثين و انكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها و تزاحمها على المال كله أو كان في الفريضة إقرار و إنكار من بعض الورثة فتحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة من كم تصح و سهام الورثة من كل بطن مصححا حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة . فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه و كسرة و جذره و معلومه و مجهوله و ترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية و مسائلها . فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه و هو أحكام الوراثة من الفروض و العول و الإقرار و الإنكار و الوصايا و التدبير و غير ذلك من مسائلها و على جزء من الحساب و هو تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي و هي من أجل العلوم . و قد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها مثل الفرائض ثلث العلم و أنها أول ما يرفع من العلوم و غير ذلك . و عندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم . و أما الفرائض العينية فكثيرة و قد ألف الناس في هذا الفن قديما و حديثا و أوعبوا و من أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله كتاب ابن ثابت و مختصر القاضي أبي القاسم الحوفي و كتاب ابن المنمر و الجعدي و الصردي و غيرهم . لكن الفضل للحوفي فكتابه مقدم على جميعها . و قد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس فأوضح و أوعب . و لإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي تشهد باتساع باعه في العلوم ، و رسوخ قدمه ، و كذا للحنفية والحنابلة . و مقامات الناس في العلوم مختلفة . و الله يهدي من يشاء بمنه و كرمه لا رب سواه .
الفصل الحادي و العشرون : في العلوم الهندسية
هذا العلم هو النظر في المقادير إما المتصلة كالخط و السطح و الجسم و إما المنفصلة كالأعداد و فيما يعرض لها من العوارض الذاتية . مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين . و مثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه و لو خرجا إذ غير نهاية . و مثل أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان . و مثل أن الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع و أمثال ذلك . و الكتاب المترجم لليونانيين في هذه الصناعة كتاب أوقليدس و يسمى كتاب الأصول و كتاب الأركان و هو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين و أول ما ترجم من كتاب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور و نسخه مختلفة باختلاف المترجمين . فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة و ليوسف بن الحجاج و يشتمل على خمس عشرة مقالة . أربع في السطوح و واحدة في الأقدار المتناسبة و أخرى في نسب السطوح بعضها إلى بعض و ثلاث في العدد و العاشرة في المنطقات و القوى على المنطقات و معناه الجذور و خمس في المجسمات . و قد اختصره الناس اختصارات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء . أفرد له جزءا منها اختصه به . و كذلك ابن الصلت في كتاب الاقتصار و غيرهم . و شرحه آخرون شروحا كثيرة و هو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق . و اعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله ، استقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها و انتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ و ينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع و قد زعموا أنة كان مكتوبا على باب أفلاطون : من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا و كان شيوخنا رحمهم الله يقولون ممارسة الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار و ينقيه من الأوضار والأدران ، و إنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه و انتظامه . و من فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكروية و المخروطات أما الأشكال الكروية ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس و ميلاوش في سطوحها و قطوعها وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه . و لابد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليه . فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية و ما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكره فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكروية سطوحها و قطوعها . و أما المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضا . و هو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال و القطوع و يبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول . و فائدتها تظهر في الصنائع العملية التي موادها الأجسام مثل التجارة و البناء و كيف تصنع التماثيل الغريبة و الهياكل النادرة و كيف يتخيل على جر الأثقال و نقل الهياكل بالهندام و الميخال و أمثال ذلك . و قد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتابا في الحيل العلمية يتضمن من الصناعات الغريبة و الحيل المستظرفة كل عجيبة . و ربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية و هو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر . و الله تعالى أعلم . و من فروع الهندسة المساحة و هو فن يحتاج إليه في مسح الأرض و معناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما و نسبة أرض من أرض إذ قويست بمثل ذلك . و يحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع و الفدن و بساتين الغراسة و في قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء و الورثة و أمثال ذلك . و للناس فيها موضوعات حسنة و كثيرة و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه . المناظرة من فروع الهندسة و هو علم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر و قاعدته المرئي . ثم يقع الغلط كثيرا في رؤية القريب كبيرا و البعيد صغيرا . و كذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء و وراء الأجسام الشفافة كبيرة و رؤية النقطة النازلة من المطر خطا مستقيما و السلقة دائرة و أمثال ذلك . فيتبين في هذا العلم أسباب ذلك و كيفياته بالبراهين الهندسية و يتبين به أيضا اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة و حصول الكسوفات و كثير من أمثال هذا . و قد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين . و أشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم . و لغيره أيضا تآليف و هو من هذه الرياضة و تفاريعها .
الفصل الثاني و العشرون : في علم الهيئة
و هو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة و المحركة و المتحيرة . و يستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال و أوضاع للأفلاك لزمت عنها لهذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية . كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال و الإدبار و كما يستدل بالرجوع و الاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم و كما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة و كما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له و أمثال ذلك . و إدراك الموجود من الحركات و كيفياتها و أجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركة الإقبال و الإدبار به . و كذا تركيب الأفلاك في طبقاتها و كذا الرجوع و الاستقامة و أمثال ذلك . و كان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيرا و يتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين . و كانت تسمى عندهم ذات الحلق و صناعة عملها و البراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس .
و أما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل . و كان في أيام المأمون شيء منه و صنع هذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق . و شرع في ذلك فلم يتم . و لما مات ذهب رسمه و أغفل و اعتمد من بعده على الأرصاد القديمة و ليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب . و أن مطابقة حركة الآلة للرصد بحركة الأفلاك و الكواكب إنما هو بالتقريب . و هذه الهيئة صناعة شريفة و ليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطى صورة السماوات و ترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور و الهيئات للأفلاك لزمت عن هذه الحركات . و أنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازما لمختلفين و إن قلنا إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم و لا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل و هو أحد أركان التعاليم . و من أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي منسوب لبطليموس . و ليس من ملوك اليونان الذين أسماؤهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب . و قد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا و أدرجه في تعاليم الشفاء . و لخصه ابن رشد أيضا من حكماء الأندلس و ابن السمح و ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار . و لابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها و حذف براهينها الهندسية . و الله علم الإنسان ما لم يعلم . سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين . و من فروعه علم الأزياج . و هي صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته و ما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة و بطء و استقامة و رجوع و غير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة . و لهذه الصناعة قوانين كالمقدمات و الأصول لها في معرفة الشهور و الأيام و التواريخ الماضية و أصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض و الميول و أصناف الحركات و استخراج بعضها من بعض ، يضعونها في جدول مرتبة تسهيلا على المتعلمين و تسمى الأزياج . و يسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الصناعة تعديلا و تقويما . و للناس فيه تآليف كثيرة للمتقدمين و المتأخرين مثل البتاني و ابن الكماد . و قد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة . و يزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد . و أن يهوديا كان بصقلية ماهرا في الهيئة و التعاليم و كان قد عني بالرصد و كان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب و حركه لها فكان أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون . و لخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج فولع به الناس لما سهل من الأعمال فيه و إنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتنبني عليها الأحكام النجومية و هو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك و الدول و المواليد البشرية و الكوائن الحادثة كما نبينه بعد و نوضح فيه أدلتهم إن شاء الله تعالى . و الله الموفق لما يحبه و يرضاه لا معبود سواه .
الفصل الثالث و العشرون : في علم المنطق
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
و هو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعرفة للماهيات و الحجج المفيدة للتصديقات و ذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس . و جميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق و غيره و إنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات و هي مجردة من المحسوسات . و ذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة و هي الكلي . ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض . فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتفقا فيه . و لا يزال يرتقي في التجريد إلى الكل الذي لا يجد كليا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا . و هذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها . ثم ينظر بينه و بين الحيوان و يجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما . ثم ينظر بينهما و بين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي و هو الجوهر فلا يجد كليا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد . ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم و الصنائع و كان العلم : إما تصورا للماهيات و يعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه و إما تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التأليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص و إما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له و يكون ذلك تصديقا . و غايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل إنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي . و هذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح و قد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق . و تكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملا جملا و مفترقا مفترقا . و لم تهذب طرقه و لم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه و رتب مسائله و فصوله و جعله أول العلوم الحكمية و فاتحتها . و لذلك يسمى بالمعلم الأول و كتابة المخصوص بالمنطق يسمى النص و هو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صور القياس و أربعة في مادته . و ذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء . فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه و منها ما يكون المطلوب فيه الفن و هو على مراتب فيظهر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده و ما ينبغي أن تكون مقدماته بذلك الاعتبار و من أي جنس يكون من العلم أو من الفن . و قد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة . و يقال للنظر الأول إنه من حيث المادة و نعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن و يقال للنظر الثاني إنه من حيث الصورة و إنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانية : الأول في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات و هي التي ليس فوقها جنس و يسمى كتاب المقولات . و الثاني في القضايا التصديقية و أصنافها و يسمى كتاب العبارة . و الثالث في القياس و صورة إنتاجه على الإطلاق و يسمى كتاب القياس و هذا آخر النظر من حيث الصورة . ثم الرابع كتاب البرهان و هو النظر في القياس المنتج لليقين و كيف يجب أن تكون مقدماته يقينية . و يختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية و أولية و غير ذلك . و في هذا الكتاب الكلام في المعرفات و الحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد و المحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب . و الخامس : كتاب الجدل و هو القياس المفيد قطع المشاغب و إفحام الخصم و ما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات و يختص أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض و هي مذكورة هناك . و في هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه و فيه عكوس القضايا . و السادس : كتاب السفسطة و هو القياس الذي يفيد غلاف الحق و يغالط به المناظر صاحبه و هو فاسد و هذا إنما كتب ليعرف به القياس المغالطي فيحذر منه . و السابع : كتاب الخطابة و هو القياس المفيد ترغيب الجمهور و حملهم على المراد منهم و ما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات . و الثامن : كتاب الشعر و هو القياس الذي يفيد التمثيل و التشبيه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه و ما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية . هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين . ثم إن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة و رتبت رأوا أنة لابد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج ، أو لأجزائها أو عوارضها و هي الجنس و الفصل و النوع و الخاص و العرض العام ، فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت تسعا و ترجمت كلها في الملة الإسلامية . و كتبها و تداولها فلاسفة الإسلام بالشرح و التلخيص كما فعله الفارابي و ابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس . و لابن سينا كتاب الشفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها . ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق و ألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته و هي الكلام في الحدود و الرسوم نقلوها من كتاب البرهان . و حذفوا كتاب المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات . و ألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس . و إن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنة من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادة و حدقوا النظر فيه بحسب المادة و هي الكتب الخمسة : البرهان و الجدل و الخطابة و الشعر و السفسطة . و ربما يلم بعضهم باليسير منها إلماما و أغفلوها كأن لم تكن هي المهم المعتمد في الفن . ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا و نظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه و اتسع . و أول من فعل ذلك الإمام فخر الدين بن الخطيب و من بعده أفضل الدين الخونجي و على كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد . و له في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار و هو طويل و اختصر فيها مختصر الموجز و هو حسن في التعليم ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفن و أصوله متداولة المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به . و هجرت كتب المتقدمين و طرقهم كأن لم تكن و هي ممتلئة من ثمرة المنطق و فائدته كما قلناه . و الله الهادي للصواب .
اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف و المتكلمين . و بالغوا في الطعن عليه و التحذير منه و حظروا تعلمه و تعليمه . وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي و الإمام ابن الخطيب فسامحوا في ذلك بعض الشيء . و أكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلا ، يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين . فينفرون عنه و يبالغون في إنكاره . فلنبين لك نكتة القول و الرد في ذلك ، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم ، و ذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية ، كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة و ذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأغراض و حدوثها . و امتناع خلو الأجسام عنها ، و ما لا يخلو عن الحوادث حادث . و كإثبات التوحيد بدليل التمانع . و إثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد . و غير ذلك من أدلتهم المذكورة في كتبهم . ثم مرروا تلك الأدلة بتمهيد قواعد و أصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد و الزمن الفرد و الخلاء بين الأجسام و نفي الطبيعة و التركيب العقلي للماهيات . و أن العرض لا يبقى زمنين و إثبات الحال و هي صفة الموجود ، لا موجودة و لا معدومة و غير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة . ثم ذهب الشيخ أبو الحسن ، و القاضي أبو بكر و الأستاذ أبو إسحاق إلا أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها . و لهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد و القدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها . و إذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي ، و إثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس ، التي هي الجنس و النوع و الفصل والخاصة و العرض العام ، و هذا باطل عند المتكلمين . و الكلي و الذاتي عندهم إنما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه . أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس و التعريف المبني عليها . و المقولات العشر ، و يبطل العرض الذاتي ، فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان و تبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل . و هي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس ، و لا يبقى إلا القياس الصوري ، و من التعريفات المساوئ في الصادقية على أفراد المحمود ، لا يكون أعلم منها ، فيدخل غيرها ، و لا أخص فيخرج بعضها ، و هو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع و المنع و المتكلمون بالطرد و العكس ، و تنهدم أركان المنطق جملة . و إن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أدلتهم على العقائد كما مر . فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق و عده بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل . و المتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة ، و لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله ، و صح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي و وجوب الماهيات الطبيعية و كلياتها في الخارج ، قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية . و إن كان منافيا لبعض أدلتها ، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية ، كنفي الجوهر الفرد و الخلاء و بقاء الأعراض و غيرها ، و يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر و القياس العقلي . و لم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه . و هذا رأي الإمام و الغزالي و تابعهما لهذا العهد ، فتأمل ذلك و اعرف مدارك العلماء و مآخذهم فيما يذهبون إليه . و الله الهادي و الموفق للصواب .
الفصل الرابع و العشرون : في الطبيعيات
و هو علم يبحث في الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة و السكون فينظر في الأجسام السماوية و العنصرية و ما يتولد عنها من حيوان و إنسان و نبات و معدن و ما يتكون في الأرض من العيون و الزلازل و في الجو من السحاب و البخار و الرعد والبرق و الصواعق و غير ذلك . و في مبدأ الحركة للأجسام و هو النفس على تنوعها في الإنسان و الحيوان و النبات . و كتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون و ألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان و الشرح و أوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب النجا و في كتاب الإشارات و كأنه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها و يقول برأيه فيها . و أما ابن رشد فلخص كتب أرسطو و شرحها متبعا له غير مخالف . و ألف الناس في ذلك كثيرا لكن هذه هي المشهورة لهذا العهد و المعتبرة في الصناعة . و لأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لا بن سينا و للإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن و كذا الآمدي و شرحه أيضا نصير الدين الطوسي المعروف بخواجه من أهل المشرق و بحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره و بحوثه و فوق كل ذي علم عليم و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الفصل الخامس و العشرون : في علم الطب
و من فروع الطبيعيات صناعة الطب و هي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض و يصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة و برء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن و أسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها و ما لكل مرض من الأدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية و قواها و على المرض بالعلامات المؤذن بنضجه و قبوله الدواء أولا : في السجية و الفضلات و النبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة و المرض . و إنما الطبيب يحاذيها و يعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة و الفصل و السن و يسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب . و ربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام و جعلوه علما خاصا ، كالعين و عللها وأكحالها . كذلك ألحقوا بالفن من مناخ الأعضاء و معناها المنفعة التي لأجلها خلق كل عضو من أعضاء البدن الحيواني . و إن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا أنهم جعلوه من لواحقه و توابعه . و إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام و يقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب و مطاوعة اغتراب . و تآليفه فيها هي الأمهات التي اقتدى بها جميع الأطباء بعده . و كان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاءوا من وراء الغاية مثل الرازي و المجوسي و ابن سينا و من أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم ابن زهر . و هي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران و تناقصه و هي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة و الترف كما نبينه بعد . و للبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحي و عجائزه ، و ربما يصح منه البعض إلا أنة ليس على قانون طبيعي و لا على موافقة المزاج . و كان عند العرب من هذا الطب كثير و كان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة و غيره . و الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل و ليس من الوحي في شيء و إنما هو أمر كان عاديا للعرب . و وقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه و سلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة و جبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل . فإنه صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع و لم يبعث لتعريف الطب و لا غيره من العاديات . و قد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " . فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنة مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك و صدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع . و ليس ذلك في الطب المزاجي و إنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل و نحوه و الله الهادي إلى الصواب لا رب سواه .
الفصل السادس و العشرون : في الفلاحة
هذه الصناعة من فروع الطبيعيات و هي النظر في النبات من حيث تنميته و نشؤه بالسقي و العلاج و تعهده بمثل ذلك و كان للمتقدمين بها عناية كثيرة و كان النظر فيها عندهم عاما في النبات من جهة غرسه و تنميته و من جهة خواصه و روحانيته و مشاكلتها لروحانيات الكواكب و الهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك . و ترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير . و لما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب و كان باب السحر مسدودا و النظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه و علاجه و ما يعرض له في ذلك و حذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة . و اختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج و بقي الفن الآخر منه مغفلا ، نقل منة مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شاء الله تعالى . و كتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة و لا يعدون فيها الكلام في الغراس و العلاج و حفظ النبات من حوائجه و عوائقه و ما يعرض في ذلك كله و هي موجودة .
الفصل السابع و العشرون : في علم الإلهيات
و هو علم ينظر في الوجود المطلق فأولا في الأمور العامة للجسمانيات و الروحانيات من الماهيات و الوحدة و الكثرة و الوجوب و الإمكان و غير ذلك ثم ينظر في مبادئ الموجودات و أنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها و مراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام و عودها إلى المبدأ . و هو عندهم علم شريف يزعمون أنة يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه و أن ذلك عين السعادة في زعمهم . و سيأتي الرد عليهم بعد . و هو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعة . و كتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس . و لخصه ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و كذلك لخصه ابن رشد من حكماء الأندلس . و لما وضع المتأخرون في علوم القوم و دونوا فيها و رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث ، و تشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات و مسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات و الإلهيات و خلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات و توابعها ثم بالروحانيات و توابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية و جميع من بعده من علماء الكلام . و صار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة و كتبه محشوة بها كأن الغرض مم موضوعهما و مسائلهما واحد . و التبس ذلك على الناس و هو صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل و لا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع و أنظاره و ما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان و مذاهب السلف فيها و تدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية . و ذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف و اعتقدوها و كثير ما بين المقامين . و ذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها و محيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف و المدارك المحاط بها . فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا و نثق به دونها و لا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل و لو عارضه بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا و علما و نسكت عما لم نفهم من ذلك و نفوضه إلى الشارع و نعزل العقل عنه و المتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم و استدعى ذلك الحجج النظرية و محاذاة العقائد السلفية بها و أما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح و البطلان فليس من موضوع علم الكلام و لا من جنس أنظار المتكلمين . فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع و التأليف و الحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع و المسائل و إنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال و صار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل و ليس كذلك بل إنما هو رد على الملحدين و المطلوب مفروض الصدق معلومة . و كذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنين بفنهم و جعلوا الكلام واحدا فيها كلها مثل كلامهم في النبؤات و الاتحاد و الحلول و الوحدة و غير ذلك . و المدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة و أبعدها من جنس الفنون و العلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان و يفرون عن الدليل و الوجدان بعيد عن المدارك العلمية و أبحاثها و توابعها كما بيناه و نبينه . و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم و الله أعلم بالصواب .
الفصل الثامن و العشرون : في علوم السحر و الطلسمات
و هي علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية و الأول هو السحر و الثاني هو الطلسمات و لما كانت هذه العلوم مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر و لما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره كانت كتبها كالمفقودة بين الناس . إلا ما وجد في كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبؤة موسى عليه السلام مثل النبط و الكلدانيين فإن جميع من تقدمه من الأنبياء لم يشرعوا الشرائع و لا جاءوا بالأحكام إنما كانت كتبهم مواعظ و توحيدا لله و تذكيرا بالجنة والنار و كانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين و الكلدانيين و في أهل مصر من القبط و غيرهم . و كان لهم فيها التآليف و الآثار و لم يترجم لنا من كتبهم فيها إلا القليل مثل الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل فأخذ الناس منها هذا العلم و تفننوا فيه و وضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة و كتاب طمطم الهندي في صور الدرج و الكواكب و غيرها . ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فتصفح كتب القوم و استخرج الصناعة و غاص في زبدتها و استخرجها و وضع فيها غيرها من التآليف و أكثر الكلام فيها و في صناعة السيمياء لأنها من توابعها لأن إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى إنما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية فهو من قبيل السحر كما نذكره في موضعه . ثم جاء مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فلخص جميع تلك الكتب و هذبها و جمع طرقها في كتابه الذي سماه غاية الحكيم و لم يكتب أحد في هذا العلم بعده . و لتقدم هنا مقدمة يتبين بها حقيقة السحر و ذلك أن النفوس البشرية و إن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواص و هي أصناف كل صنف مختص بخاصية واحدة بالنوع لا توجد في الصنف الآخر . و صارت تلك الخواص فطرة و جبلة لصنفها فنفوس الأنبياء عليهم الصلاة و السلام لها خاصية تستعد بها للانسلاخ من الروحانية البشرية إلى الروحانية الملكية حتى يصير ملكا في تلك اللمحة التي انسلخت فيها ، و هذا هو معنى الوحي كما مر في موضعه ، و هي في تلك الحالة محصلة للمعرفة الربانية و مخاطبة الملائكة عليهم السلام عن الله سبحانه و تعالى كما مر . و ما يتسع في ذلك من التأثير في الأكوان و نفوس السحرة لها خاصة التأثير في الأكوان و استجلاب روحانية الكواكب للتصرف فيها و التأثير بقوة نفسانية أو شيطانية . فأما تأثير الأنبياء فمدد إلهي و خاصية ربانية و نفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات بقوى شيطانية . و هكذا كل صنف مختص بخاصية لا توجد في الآخر . و النفوس الساحرة على مراتب ثلاث يأتي شرحها فأولها المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة و لا معين و هذا هو الذي تسميه الفلاسفة السحر و الثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد و يسمونه الطلسمات و هو أضعف رتبة من الأول و الثالث تأثير في القوى المتخيلة . يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف و يلقي فيها أنواعا من الخيالات و المحاكاة و صورا مما يقصده من ذلك ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه فينظر الراؤن كأنها في الخارج و ليس هناك شيء من ذلك ، كما يحكى عن بعضهم أنه يري البساتين و الأنهار و القصور و ليس هناك شيء من ذلك ويسمى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة . هذا تفصيل مراتبه ثم هذه الخاصية تكون في الساحر بالقوة شأن القوى البشرية كلها و إنما تخرج إلى الفعل بالرياضة و رياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجه إلى الأفلاك و الكواكب و العوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم و العبادة و الخضوع و التذلل فهي لذلك وجهة إلى غير الله و سجود له . و الوجهة إلى غير الله كفر فلهذا كان السحر كفرا و الكفر من مواده و أسبابه كما رأيت . و لهذا اختلف الفقهاء في قتل الساحر هل هو لكفره السابق على فعله أو لتصرفه بالإفساد و ما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان و الكل حاصل منه . و لما كانت المرتبتان الأوليان من السحر لها حقيقة في الخارج و المرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو إنما هو تخييل فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين و القائلون بأن لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة . فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر بل إنما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب و الله أعلم . و اعلم أن وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه و قد نطق به القرآن . قال الله تعالى : " و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت و ماروت و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " . و سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان يخيل إليه أنة يفعله و جعل سحره في مشط و مشاقة و جف طلعة و دفن في بئر ذروان فأنزل الله عز و جل عليه في المعوذتين : " و من شر النفاثات في العقد " قالت عائشة رضي الله عنها : كان لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت . و أما وجود السحر في أهل بابل و هم الكلدانيون من النبط و السريانيين فكثير و نطق به القرآن و جاءت به الأخبار و كان للسحر في بابل و مصر أزمان بعثة موسى عليه السلام أسواق نافقة . و لهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون و يتاناغون فيه و بقي من آثار ذلك في البراري بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك و رأينا بالعيان من يصور صورة الشخص المسحور بخواص أشياء مقابلة لما نواه و حاوله موجودة بالمسحور و أمثال تلك المعاني من أسماء و صفات في التأليف و التفريق . ثم يتكلم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عينا أو معنى ثم ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء و يعقد على ذلك المعنى في سبب أعده لذلك تفاؤلا بالعقد و اللزام و أخذ العهد على من أشرك به من الجن في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة بالعزم . و لتلك البنية و الأسماء السيئة روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلقة يريقه الخارج من فيه بالنفث فتنزل عنها أرواح خبيثة و يقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر . و شاهدنا أيضا من المنتحلين للسحر و عمله من يشير إلى كساء أو جلد و يتكلم عليه في سره فإذا هو مقطوع متخرق . و يشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض . و سمعنا أن بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتت قلبه و يقع ميتا و ينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه و يشير إلى الرمانة و تفتح فلا يوجد من حبوبها شيء . و كذلك سمعنا أن بأرض السودان و أرض الترك من يسحر السحاب فيمطر الأرض المخصوصة . و كذلك رأينا من عمل الطلسمات عجائب في الأعداد المتحابة و هي ر ك ر ف د أحد العددين مائتان و عشرون و الآخر مائتان و أربعة و ثمانون و معنى المتحابة أن أجزاء كل واحد التي فيه من نصف و ثلث و ربع و سدس و خمس و أمثالها إذا جمع كان متساويا للعدد الآخر صاحبه فتسمى لأجل ذلك المتحابة . و نقل أصحاب الطلسمات أن لتلك الأعداد أثرا في الإلفة بين المتحابين و اجتماعهما إذا وضع لهما مثالان أحدهما بطالع الزهرة و هي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودة و قبول و يجعل طالع الثاني سابع الأول و يضع على أحد التمثالين أحد العددين و الآخر على الآخر . و يقصد بالأكثر الذي يراد ائتلافه أعني المحبوب ما أدري الأكثر كمية أو الأكثر أجزاء فيكون لذلك من التألف العظيم بين المتحابين مالا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر . قاله صاحب الغاية و غيره من أئمة هذا الشأن و شهدت له التجربة . و كذا طابع الأسد و يسمى أيضا طابع الحصى و هو أن يرسم في قالب هند إصبع صورة أسد سائلا ذنبه عاضا على حصاة قد قسمها بنصفين و بين يديه صورة حية منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها فيه و على ظهره صورة عقرب تدب . و يتحين برسمه حلول الشمس بالوجه الأول أو الثالث من الأسد بشرط صلاح النيرين و سلامتهما من النحوس . فإذا وجد ذلك و عثر عليه طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذهب و غمس بعد في الزعفران محلولا بماء الورد و رفع في خرقة حرير صفراء فإنهم يزعمون أن لممسكه من العز على السلاطين في مباشرتهم و خدمتهم و تسخيرهم له مالا يعبر عنه . و كذلك للسلاطين فيه من القوة و العز على من تحت أيديهم . ذكر ذلك أيضا أهل هذا الشأن في الغاية و غيرها و شهدت له التجربة . و كذلك وفق المسدس المختص بالشمس ذكروا أنه . يوضع عند حلول الشمس في شرفها و سلامتها من النحوس و سلامة القمر بطالع ملوكي يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطالع نظر مودة و قبول و يصلح فيه ما يكون من مواليد الملوك من الأدلة الشريفة و يرفع في خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطيب . فزعموا أن له أثرا في صحابة الملوك و خدمتهم و معاشرتهم . و أمثال ذلك كثير . و كتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطي هو مدونة هذه الصناعة و فيه استيفاؤها و كمال مسائلها و ذكر لنا أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتابا في ذلك و سماه بالسر المكتوم و أنه بالمشرق يتداوله أهله و نحن لم نقف عليه . و الإمام لم يكن من أئمة هذا الشأن فيما نظن و لعل الأمر بخلاف ذلك . و بالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين و هم الذين ذكرت أولا أنهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق و يشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فتنبعج . و يسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج لأن أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها و هم مستترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكام ، لقيت منهم جماعة و شاهدت من أفعالهم هذه بذلك و أخبروني أن لهم وجهة و رياضة خاصة بدعوات كفرية و إشراك لروحانيات الجن و الكواكب ، شطرت فيها صحيفة عندهم تسمى الخزيرية يتدارسونها و أنهم بهذه الرياضة و الوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم و أن التأثير الذي لهم إنما هو فيما سوى الإنسان الحر من المتاع و الحيوان و الرفيق و يعبرون عن ذلك يقولهم إنما نفعل فيما تمشي فيه الدراهم أي ما يملك و يباع و يشترى من سائر المتملكات هذا ما زعموه . و سألت بعضهم فأخبرني به و أما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفنا على الكثير منها و عاينتها من غير ريبة في ذلك . هذا شأن السحر والطلسمات و أثارهما في العالم فأما الفلاسفة ففرقوا بين السحر و الطلسمات بعد أن أثبتوا أنهما جميعا أثر للنفس الإنسانية و استدلوا على وجود الأثر للنفس الإنسانية بأن لها آثارا في بدنها على غير المجرى الطبيعي و أسبابه الجسمانية بل آثار عارضة من كيفيات الأرواح تارة كالسخونة الحادثة عن الفرح و السرور و من جهة التصورات النفسانية أخرى كالذي يقع من قبل التوهم . فإن الماشي على حرف حائط أو حبل منتصب إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك . و لهذا تجد كثيرا من الناس يعودون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط و الحبل المنتصب و لا يخافون السقوط . فثبت أن ذلك من آثار النفس الإنسانية و تصورها للسقوط من أجل الوهم . و إذا كان ذلك أثرا للنفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانية الطبيعية فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النوع من التأثير واحدة لأنها غير حالة في البدن و لا منطبعة فيه فثبت أنها مؤثرة في سائر الأجسام . و أما التفرقة عندهم بين السحر و الطلسمات فهو أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى معين و صاحب الطلسمات يستعين بروحانيات الكواكب و أسرار الأعداد و خواص الموجودات و أوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر كما يقول المنجمون و يقولون : السحر اتحاد روح بروح و الطلسم اتحاد روح يجسم و معناه عندهم ربط الطبائع العلوية السماوية بالطبائع السفلية ، و الطبائع العلوية هي روحانيات الكواكب و لذلك يستعين صاحبه في غالب الأمر بالنجامة . و الساحر عندهم غير مكتسب لسحره بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلة المختصة بذلك النوع من التأثير . و الفرق عندهم بين المعجزة و السحر أن المعجزة قوة إلهية تبعث على النفس ذلك التأثير فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك . و الساحر إنما يفعل ذلك من لدن نفسه و بقوته النفسانية و بإمداد الشياطين في بعض الأحوال فبينهما الفرق في المعقولية و الحقيقة و الذات في نفس الأمر و إنما نستدل نحن على التفرقة بالعلامات الظاهرة و هي وجود المعجزة لصاحب الخير و في مقاصد الخير و للنفوس المتمحصة للخير و التحدي بها على دعوى النبؤة . و السحر إنما يوجد لصاحب الشر و في أفعال الشر في الغالب من التفريق بين الزوجين و ضرر الأعداء و أمثال ذلك . و للنفوس المتمحصة للشر . هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيين : و قد يوجد لبعض المتصوفة و أصحاب الكرامات تأثير أيضا في أحوال العالم و ليس معدودا من جنس السحر و إنما هو بالإمداد الإلهي لأن طريقتهم و نحلتهم من آثار النبؤة و توابعها و لهم في المدد ، الإلهي حفظ على قدر حالهم و إيمانهم و تمسكهم بكلمة الله و إذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشر لا يأتيها لأنة متقيد فيما يأتيه بذرة للأمر الإلهي . فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه و من أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحق و ربما سلب حاله . و لما كانت المعجزة بإمداد روح الله و القوى الإلهية فلذلك لا يعارضها شيء من السحر . و انظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقفت ما كانوا به يأفكون و ذهب سحرهم و اضمحل كأن لم يكن . و كذلك لما أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم في المعوذتين و من شر النفاثات في العقد . قالت عائشة رضي الله عنها : فكان لا يقرأها على عقد في من العقد التي سحر فيها إلا انحلت . فالسحر لا يثبت مع اسم الله و ذكره بالهمة الإيمانية و قد نقل المؤرخون أن زركش كاويان و هي راية كسرى كان فيها الوفق المئيني العددي منسوجا بالذهب في أوضاع فلكية رصدت لذلك الوفق . و وجدت الراية يوم قتل رستم بالقادسية واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس و شتاتهم . و هو فيما يزعم أهل الطلسمات و الأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب و أن الراية التي يكون فيها أو معها لا تنهزم أصلا . إلا أن هذه عارضها المدد الإلهي من إيمان أصحاب رسول الله صلى الله علية و سلم و تمسكهم بكلمة الله فانحل معها كل عقد سحري و لم يثبت و يطل ما كانوا يعملون . و أما الشريعة فلم تفرق بين السحر و الطلسمات و جعلته كله بابا واحدا محظورا . لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا و ما لا يهمنا في شيء منهما فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع و يلحق به الطلسمات لأن أثرهما واحد و كالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضرر . و إن لم يكن مهما علينا و لا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربة إلى الله فإن من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه . فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات و الشعوذة بابا واحدا لما فيها من الضرر و خصته بالحظر و التحريم . و أما الفرق عندهم بين المعجزة و السحر فالذي ذكره المتكلمون أنة راجع إلى التحدي و هو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه . قالوا : و الساحر مصروف عن مثل هذا التحدي فلا يقع منه . و وقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية لأن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصادق كاذبا و هو محال فإذا لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق . و أما الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه فرق ما بين الخير و الشر في نهاية الطرفين . فالساحر لا يصدر منه الخير و لا يستعمل في أسباب الخير و صاحب المعجزة لا يصدر منه الشر و لا يستعمل في أسباب الشر و كأنهما على طرفي النقيض في أصل فطرتهما . و الله يهدي من يشاء و هو القوي العزيز لا رب سواه و من قبيل هذه التأثيرات النفسية الإصابة بالعين و هو تأثير من نفس المعيان عندما يستحسن بعينه مدركا من الذوات أو الأحوال و يفرط في استحسانه و ينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به فيؤثر فساده . و هو جبلة فطرية أعني هذه الإصابة بالعين . و الفرق بينها و بين التأثيرات النفسانية أن صدورة فطري جبلي لا يتخلف و لا يرجع اختيار صاحبه و لا يكتسبه . و سائر التأثيرات و إن كان منها مالا يكتسب فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها و الفطري منها قوة صدورها و لهذا قالوا : القاتل بالسحر أو بالكرامة يقتل و القاتل بالعين لا يقتل . و ما ذلك إلا أنه ليس مما يريده و يقصده أو يتركه و إنما هو مجبور في صدوره عنه . و الله أعلم بما في الغيوب و مطلع على ما في السرائر .
القسم الأول من الفصل التاسع و العشرون : علم أسرار الحروف
و هو المسمى لهذا العهد بالسيميا . نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة ، فاستعمل استعمال العام في الخاص . و حدث هذا العلم في الملة بعد صدر منها ، و عند ظهور الغلاة من المتصوفة و جنوحهم إلى كشف حجاب الحس ، و ظهور الخوارق على أيديهم و التصرفات في عالم العناصر ، و تدوين الكتب و الاصطلاحات ، و مزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد و ترتيبه . و زعموا أن الكمال الإسمائي مظاهره أرواح الأفلاك و الكواكب ، و أن طبائع الحروف و أسرارها سارية في الأسماء ، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام . و الأكوان من لدن الإبداع الأول تتنقل في أطواره و تعرب عن أسراره ، فحدث لذلك علم أسرار الحروف ، و هو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعه و لا تحاط بالعدد مسائله . تعددت فيه تآليف البوني و ابن العربي و غيرهما ممن اتبع آثارهما . و حاصلة عندهم و ثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى و الكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان .ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بما هو : فمنهم من جعله للمزاج الذي فيه ، و قسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر . و اختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلا و انفعالا بذلك الصنف ، فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير إلى نارية و هوائية و مائية و ترابية على حسب تنوع العناصر ، فالألف للنار و الباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب . ثم ترجع كذلك على التوالي من الحروف و العناصر إلى أن تنفذ . فتعين لعنصر النار حروف سبعة : الألف و الهاء و الطاء و الميم و الفاء والسين و الذال ، و تعين لعنصر الهواء سبعة أيضا : الباء و الواو و الياء و النون و الضاد والتاء و الظاء ، و تعين لعنصر الماء أيضا سبعة : الجيم و الزاي و الكاف و الصاد والقاف
اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف و المتكلمين . و بالغوا في الطعن عليه و التحذير منه و حظروا تعلمه و تعليمه . وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي و الإمام ابن الخطيب فسامحوا في ذلك بعض الشيء . و أكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلا ، يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين . فينفرون عنه و يبالغون في إنكاره . فلنبين لك نكتة القول و الرد في ذلك ، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم ، و ذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية ، كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة و ذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأغراض و حدوثها . و امتناع خلو الأجسام عنها ، و ما لا يخلو عن الحوادث حادث . و كإثبات التوحيد بدليل التمانع . و إثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد . و غير ذلك من أدلتهم المذكورة في كتبهم . ثم مرروا تلك الأدلة بتمهيد قواعد و أصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد و الزمن الفرد و الخلاء بين الأجسام و نفي الطبيعة و التركيب العقلي للماهيات . و أن العرض لا يبقى زمنين و إثبات الحال و هي صفة الموجود ، لا موجودة و لا معدومة و غير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة . ثم ذهب الشيخ أبو الحسن ، و القاضي أبو بكر و الأستاذ أبو إسحاق إلا أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها . و لهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد و القدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها . و إذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي ، و إثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس ، التي هي الجنس و النوع و الفصل والخاصة و العرض العام ، و هذا باطل عند المتكلمين . و الكلي و الذاتي عندهم إنما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه . أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس و التعريف المبني عليها . و المقولات العشر ، و يبطل العرض الذاتي ، فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان و تبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل . و هي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس ، و لا يبقى إلا القياس الصوري ، و من التعريفات المساوئ في الصادقية على أفراد المحمود ، لا يكون أعلم منها ، فيدخل غيرها ، و لا أخص فيخرج بعضها ، و هو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع و المنع و المتكلمون بالطرد و العكس ، و تنهدم أركان المنطق جملة . و إن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أدلتهم على العقائد كما مر . فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق و عده بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل . و المتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة ، و لم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله ، و صح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي و وجوب الماهيات الطبيعية و كلياتها في الخارج ، قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية . و إن كان منافيا لبعض أدلتها ، بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية ، كنفي الجوهر الفرد و الخلاء و بقاء الأعراض و غيرها ، و يستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر و القياس العقلي . و لم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه . و هذا رأي الإمام و الغزالي و تابعهما لهذا العهد ، فتأمل ذلك و اعرف مدارك العلماء و مآخذهم فيما يذهبون إليه . و الله الهادي و الموفق للصواب .
الفصل الرابع و العشرون : في الطبيعيات
و هو علم يبحث في الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة و السكون فينظر في الأجسام السماوية و العنصرية و ما يتولد عنها من حيوان و إنسان و نبات و معدن و ما يتكون في الأرض من العيون و الزلازل و في الجو من السحاب و البخار و الرعد والبرق و الصواعق و غير ذلك . و في مبدأ الحركة للأجسام و هو النفس على تنوعها في الإنسان و الحيوان و النبات . و كتب أرسطو فيه موجودة بين أيدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون و ألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان و الشرح و أوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب النجا و في كتاب الإشارات و كأنه يخالف أرسطو في الكثير من مسائلها و يقول برأيه فيها . و أما ابن رشد فلخص كتب أرسطو و شرحها متبعا له غير مخالف . و ألف الناس في ذلك كثيرا لكن هذه هي المشهورة لهذا العهد و المعتبرة في الصناعة . و لأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لا بن سينا و للإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن و كذا الآمدي و شرحه أيضا نصير الدين الطوسي المعروف بخواجه من أهل المشرق و بحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظاره و بحوثه و فوق كل ذي علم عليم و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الفصل الخامس و العشرون : في علم الطب
و من فروع الطبيعيات صناعة الطب و هي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض و يصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة و برء المرض بالأدوية والأغذية بعد أن يتبين المرض الذي يخص كل عضو من أعضاء البدن و أسباب تلك الأمراض التي تنشأ عنها و ما لكل مرض من الأدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية و قواها و على المرض بالعلامات المؤذن بنضجه و قبوله الدواء أولا : في السجية و الفضلات و النبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة و المرض . و إنما الطبيب يحاذيها و يعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة و الفصل و السن و يسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب . و ربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام و جعلوه علما خاصا ، كالعين و عللها وأكحالها . كذلك ألحقوا بالفن من مناخ الأعضاء و معناها المنفعة التي لأجلها خلق كل عضو من أعضاء البدن الحيواني . و إن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا أنهم جعلوه من لواحقه و توابعه . و إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين جالينوس يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام و يقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب و مطاوعة اغتراب . و تآليفه فيها هي الأمهات التي اقتدى بها جميع الأطباء بعده . و كان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاءوا من وراء الغاية مثل الرازي و المجوسي و ابن سينا و من أهل الأندلس أيضا كثير وأشهرهم ابن زهر . و هي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران و تناقصه و هي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة و الترف كما نبينه بعد . و للبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص متوارثا عن مشايخ الحي و عجائزه ، و ربما يصح منه البعض إلا أنة ليس على قانون طبيعي و لا على موافقة المزاج . و كان عند العرب من هذا الطب كثير و كان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة و غيره . و الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل و ليس من الوحي في شيء و إنما هو أمر كان عاديا للعرب . و وقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه و سلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة و جبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل . فإنه صلى الله عليه و سلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع و لم يبعث لتعريف الطب و لا غيره من العاديات . و قد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " . فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنة مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك و صدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع . و ليس ذلك في الطب المزاجي و إنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل و نحوه و الله الهادي إلى الصواب لا رب سواه .
الفصل السادس و العشرون : في الفلاحة
هذه الصناعة من فروع الطبيعيات و هي النظر في النبات من حيث تنميته و نشؤه بالسقي و العلاج و تعهده بمثل ذلك و كان للمتقدمين بها عناية كثيرة و كان النظر فيها عندهم عاما في النبات من جهة غرسه و تنميته و من جهة خواصه و روحانيته و مشاكلتها لروحانيات الكواكب و الهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك . و ترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير . و لما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب و كان باب السحر مسدودا و النظر فيه محظورا فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه و علاجه و ما يعرض له في ذلك و حذفوا الكلام في الفن الآخر منه جملة . و اختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج و بقي الفن الآخر منه مغفلا ، نقل منة مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شاء الله تعالى . و كتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة و لا يعدون فيها الكلام في الغراس و العلاج و حفظ النبات من حوائجه و عوائقه و ما يعرض في ذلك كله و هي موجودة .
الفصل السابع و العشرون : في علم الإلهيات
و هو علم ينظر في الوجود المطلق فأولا في الأمور العامة للجسمانيات و الروحانيات من الماهيات و الوحدة و الكثرة و الوجوب و الإمكان و غير ذلك ثم ينظر في مبادئ الموجودات و أنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها و مراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام و عودها إلى المبدأ . و هو عندهم علم شريف يزعمون أنة يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه و أن ذلك عين السعادة في زعمهم . و سيأتي الرد عليهم بعد . و هو تال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعة . و كتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس . و لخصه ابن سينا في كتاب الشفاء و النجاة و كذلك لخصه ابن رشد من حكماء الأندلس . و لما وضع المتأخرون في علوم القوم و دونوا فيها و رد عليهم الغزالي ما رد منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث ، و تشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات و مسائله بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم غيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات و الإلهيات و خلطوهما فنا واحدا قدموا الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات و توابعها ثم بالروحانيات و توابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية و جميع من بعده من علماء الكلام . و صار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة و كتبه محشوة بها كأن الغرض مم موضوعهما و مسائلهما واحد . و التبس ذلك على الناس و هو صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل و لا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به فإن العقل معزول عن الشرع و أنظاره و ما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثا عن الحق فيها فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلوما هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان و مذاهب السلف فيها و تدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية . و ذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف و اعتقدوها و كثير ما بين المقامين . و ذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها و محيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف و المدارك المحاط بها . فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمه على مداركنا و نثق به دونها و لا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل و لو عارضه بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادا و علما و نسكت عما لم نفهم من ذلك و نفوضه إلى الشارع و نعزل العقل عنه و المتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضاتهم و استدعى ذلك الحجج النظرية و محاذاة العقائد السلفية بها و أما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح و البطلان فليس من موضوع علم الكلام و لا من جنس أنظار المتكلمين . فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع و التأليف و الحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع و المسائل و إنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال و صار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتداد بالدليل و ليس كذلك بل إنما هو رد على الملحدين و المطلوب مفروض الصدق معلومة . و كذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضا فخلطوا مسائل الفنين بفنهم و جعلوا الكلام واحدا فيها كلها مثل كلامهم في النبؤات و الاتحاد و الحلول و الوحدة و غير ذلك . و المدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة و أبعدها من جنس الفنون و العلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان و يفرون عن الدليل و الوجدان بعيد عن المدارك العلمية و أبحاثها و توابعها كما بيناه و نبينه . و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم و الله أعلم بالصواب .
الفصل الثامن و العشرون : في علوم السحر و الطلسمات
و هي علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية و الأول هو السحر و الثاني هو الطلسمات و لما كانت هذه العلوم مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر و لما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره كانت كتبها كالمفقودة بين الناس . إلا ما وجد في كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبؤة موسى عليه السلام مثل النبط و الكلدانيين فإن جميع من تقدمه من الأنبياء لم يشرعوا الشرائع و لا جاءوا بالأحكام إنما كانت كتبهم مواعظ و توحيدا لله و تذكيرا بالجنة والنار و كانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين و الكلدانيين و في أهل مصر من القبط و غيرهم . و كان لهم فيها التآليف و الآثار و لم يترجم لنا من كتبهم فيها إلا القليل مثل الفلاحة النبطية من أوضاع أهل بابل فأخذ الناس منها هذا العلم و تفننوا فيه و وضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة و كتاب طمطم الهندي في صور الدرج و الكواكب و غيرها . ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فتصفح كتب القوم و استخرج الصناعة و غاص في زبدتها و استخرجها و وضع فيها غيرها من التآليف و أكثر الكلام فيها و في صناعة السيمياء لأنها من توابعها لأن إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى إنما يكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية فهو من قبيل السحر كما نذكره في موضعه . ثم جاء مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فلخص جميع تلك الكتب و هذبها و جمع طرقها في كتابه الذي سماه غاية الحكيم و لم يكتب أحد في هذا العلم بعده . و لتقدم هنا مقدمة يتبين بها حقيقة السحر و ذلك أن النفوس البشرية و إن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواص و هي أصناف كل صنف مختص بخاصية واحدة بالنوع لا توجد في الصنف الآخر . و صارت تلك الخواص فطرة و جبلة لصنفها فنفوس الأنبياء عليهم الصلاة و السلام لها خاصية تستعد بها للانسلاخ من الروحانية البشرية إلى الروحانية الملكية حتى يصير ملكا في تلك اللمحة التي انسلخت فيها ، و هذا هو معنى الوحي كما مر في موضعه ، و هي في تلك الحالة محصلة للمعرفة الربانية و مخاطبة الملائكة عليهم السلام عن الله سبحانه و تعالى كما مر . و ما يتسع في ذلك من التأثير في الأكوان و نفوس السحرة لها خاصة التأثير في الأكوان و استجلاب روحانية الكواكب للتصرف فيها و التأثير بقوة نفسانية أو شيطانية . فأما تأثير الأنبياء فمدد إلهي و خاصية ربانية و نفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات بقوى شيطانية . و هكذا كل صنف مختص بخاصية لا توجد في الآخر . و النفوس الساحرة على مراتب ثلاث يأتي شرحها فأولها المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة و لا معين و هذا هو الذي تسميه الفلاسفة السحر و الثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد و يسمونه الطلسمات و هو أضعف رتبة من الأول و الثالث تأثير في القوى المتخيلة . يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف و يلقي فيها أنواعا من الخيالات و المحاكاة و صورا مما يقصده من ذلك ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه فينظر الراؤن كأنها في الخارج و ليس هناك شيء من ذلك ، كما يحكى عن بعضهم أنه يري البساتين و الأنهار و القصور و ليس هناك شيء من ذلك ويسمى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة . هذا تفصيل مراتبه ثم هذه الخاصية تكون في الساحر بالقوة شأن القوى البشرية كلها و إنما تخرج إلى الفعل بالرياضة و رياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجه إلى الأفلاك و الكواكب و العوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم و العبادة و الخضوع و التذلل فهي لذلك وجهة إلى غير الله و سجود له . و الوجهة إلى غير الله كفر فلهذا كان السحر كفرا و الكفر من مواده و أسبابه كما رأيت . و لهذا اختلف الفقهاء في قتل الساحر هل هو لكفره السابق على فعله أو لتصرفه بالإفساد و ما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان و الكل حاصل منه . و لما كانت المرتبتان الأوليان من السحر لها حقيقة في الخارج و المرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو إنما هو تخييل فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين و القائلون بأن لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة . فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر بل إنما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب و الله أعلم . و اعلم أن وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه و قد نطق به القرآن . قال الله تعالى : " و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت و ماروت و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " . و سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان يخيل إليه أنة يفعله و جعل سحره في مشط و مشاقة و جف طلعة و دفن في بئر ذروان فأنزل الله عز و جل عليه في المعوذتين : " و من شر النفاثات في العقد " قالت عائشة رضي الله عنها : كان لا يقرأ على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت . و أما وجود السحر في أهل بابل و هم الكلدانيون من النبط و السريانيين فكثير و نطق به القرآن و جاءت به الأخبار و كان للسحر في بابل و مصر أزمان بعثة موسى عليه السلام أسواق نافقة . و لهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون و يتاناغون فيه و بقي من آثار ذلك في البراري بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك و رأينا بالعيان من يصور صورة الشخص المسحور بخواص أشياء مقابلة لما نواه و حاوله موجودة بالمسحور و أمثال تلك المعاني من أسماء و صفات في التأليف و التفريق . ثم يتكلم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عينا أو معنى ثم ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء و يعقد على ذلك المعنى في سبب أعده لذلك تفاؤلا بالعقد و اللزام و أخذ العهد على من أشرك به من الجن في نفثه في فعله ذلك استشعارا للعزيمة بالعزم . و لتلك البنية و الأسماء السيئة روح خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلقة يريقه الخارج من فيه بالنفث فتنزل عنها أرواح خبيثة و يقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر . و شاهدنا أيضا من المنتحلين للسحر و عمله من يشير إلى كساء أو جلد و يتكلم عليه في سره فإذا هو مقطوع متخرق . و يشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض . و سمعنا أن بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتت قلبه و يقع ميتا و ينقلب عن قلبه فلا يوجد في حشاه و يشير إلى الرمانة و تفتح فلا يوجد من حبوبها شيء . و كذلك سمعنا أن بأرض السودان و أرض الترك من يسحر السحاب فيمطر الأرض المخصوصة . و كذلك رأينا من عمل الطلسمات عجائب في الأعداد المتحابة و هي ر ك ر ف د أحد العددين مائتان و عشرون و الآخر مائتان و أربعة و ثمانون و معنى المتحابة أن أجزاء كل واحد التي فيه من نصف و ثلث و ربع و سدس و خمس و أمثالها إذا جمع كان متساويا للعدد الآخر صاحبه فتسمى لأجل ذلك المتحابة . و نقل أصحاب الطلسمات أن لتلك الأعداد أثرا في الإلفة بين المتحابين و اجتماعهما إذا وضع لهما مثالان أحدهما بطالع الزهرة و هي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودة و قبول و يجعل طالع الثاني سابع الأول و يضع على أحد التمثالين أحد العددين و الآخر على الآخر . و يقصد بالأكثر الذي يراد ائتلافه أعني المحبوب ما أدري الأكثر كمية أو الأكثر أجزاء فيكون لذلك من التألف العظيم بين المتحابين مالا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر . قاله صاحب الغاية و غيره من أئمة هذا الشأن و شهدت له التجربة . و كذا طابع الأسد و يسمى أيضا طابع الحصى و هو أن يرسم في قالب هند إصبع صورة أسد سائلا ذنبه عاضا على حصاة قد قسمها بنصفين و بين يديه صورة حية منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها فيه و على ظهره صورة عقرب تدب . و يتحين برسمه حلول الشمس بالوجه الأول أو الثالث من الأسد بشرط صلاح النيرين و سلامتهما من النحوس . فإذا وجد ذلك و عثر عليه طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذهب و غمس بعد في الزعفران محلولا بماء الورد و رفع في خرقة حرير صفراء فإنهم يزعمون أن لممسكه من العز على السلاطين في مباشرتهم و خدمتهم و تسخيرهم له مالا يعبر عنه . و كذلك للسلاطين فيه من القوة و العز على من تحت أيديهم . ذكر ذلك أيضا أهل هذا الشأن في الغاية و غيرها و شهدت له التجربة . و كذلك وفق المسدس المختص بالشمس ذكروا أنه . يوضع عند حلول الشمس في شرفها و سلامتها من النحوس و سلامة القمر بطالع ملوكي يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطالع نظر مودة و قبول و يصلح فيه ما يكون من مواليد الملوك من الأدلة الشريفة و يرفع في خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطيب . فزعموا أن له أثرا في صحابة الملوك و خدمتهم و معاشرتهم . و أمثال ذلك كثير . و كتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطي هو مدونة هذه الصناعة و فيه استيفاؤها و كمال مسائلها و ذكر لنا أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتابا في ذلك و سماه بالسر المكتوم و أنه بالمشرق يتداوله أهله و نحن لم نقف عليه . و الإمام لم يكن من أئمة هذا الشأن فيما نظن و لعل الأمر بخلاف ذلك . و بالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين و هم الذين ذكرت أولا أنهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق و يشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فتنبعج . و يسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج لأن أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها و هم مستترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكام ، لقيت منهم جماعة و شاهدت من أفعالهم هذه بذلك و أخبروني أن لهم وجهة و رياضة خاصة بدعوات كفرية و إشراك لروحانيات الجن و الكواكب ، شطرت فيها صحيفة عندهم تسمى الخزيرية يتدارسونها و أنهم بهذه الرياضة و الوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم و أن التأثير الذي لهم إنما هو فيما سوى الإنسان الحر من المتاع و الحيوان و الرفيق و يعبرون عن ذلك يقولهم إنما نفعل فيما تمشي فيه الدراهم أي ما يملك و يباع و يشترى من سائر المتملكات هذا ما زعموه . و سألت بعضهم فأخبرني به و أما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفنا على الكثير منها و عاينتها من غير ريبة في ذلك . هذا شأن السحر والطلسمات و أثارهما في العالم فأما الفلاسفة ففرقوا بين السحر و الطلسمات بعد أن أثبتوا أنهما جميعا أثر للنفس الإنسانية و استدلوا على وجود الأثر للنفس الإنسانية بأن لها آثارا في بدنها على غير المجرى الطبيعي و أسبابه الجسمانية بل آثار عارضة من كيفيات الأرواح تارة كالسخونة الحادثة عن الفرح و السرور و من جهة التصورات النفسانية أخرى كالذي يقع من قبل التوهم . فإن الماشي على حرف حائط أو حبل منتصب إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك . و لهذا تجد كثيرا من الناس يعودون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط و الحبل المنتصب و لا يخافون السقوط . فثبت أن ذلك من آثار النفس الإنسانية و تصورها للسقوط من أجل الوهم . و إذا كان ذلك أثرا للنفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانية الطبيعية فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النوع من التأثير واحدة لأنها غير حالة في البدن و لا منطبعة فيه فثبت أنها مؤثرة في سائر الأجسام . و أما التفرقة عندهم بين السحر و الطلسمات فهو أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى معين و صاحب الطلسمات يستعين بروحانيات الكواكب و أسرار الأعداد و خواص الموجودات و أوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر كما يقول المنجمون و يقولون : السحر اتحاد روح بروح و الطلسم اتحاد روح يجسم و معناه عندهم ربط الطبائع العلوية السماوية بالطبائع السفلية ، و الطبائع العلوية هي روحانيات الكواكب و لذلك يستعين صاحبه في غالب الأمر بالنجامة . و الساحر عندهم غير مكتسب لسحره بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلة المختصة بذلك النوع من التأثير . و الفرق عندهم بين المعجزة و السحر أن المعجزة قوة إلهية تبعث على النفس ذلك التأثير فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك . و الساحر إنما يفعل ذلك من لدن نفسه و بقوته النفسانية و بإمداد الشياطين في بعض الأحوال فبينهما الفرق في المعقولية و الحقيقة و الذات في نفس الأمر و إنما نستدل نحن على التفرقة بالعلامات الظاهرة و هي وجود المعجزة لصاحب الخير و في مقاصد الخير و للنفوس المتمحصة للخير و التحدي بها على دعوى النبؤة . و السحر إنما يوجد لصاحب الشر و في أفعال الشر في الغالب من التفريق بين الزوجين و ضرر الأعداء و أمثال ذلك . و للنفوس المتمحصة للشر . هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيين : و قد يوجد لبعض المتصوفة و أصحاب الكرامات تأثير أيضا في أحوال العالم و ليس معدودا من جنس السحر و إنما هو بالإمداد الإلهي لأن طريقتهم و نحلتهم من آثار النبؤة و توابعها و لهم في المدد ، الإلهي حفظ على قدر حالهم و إيمانهم و تمسكهم بكلمة الله و إذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشر لا يأتيها لأنة متقيد فيما يأتيه بذرة للأمر الإلهي . فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه و من أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحق و ربما سلب حاله . و لما كانت المعجزة بإمداد روح الله و القوى الإلهية فلذلك لا يعارضها شيء من السحر . و انظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقفت ما كانوا به يأفكون و ذهب سحرهم و اضمحل كأن لم يكن . و كذلك لما أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم في المعوذتين و من شر النفاثات في العقد . قالت عائشة رضي الله عنها : فكان لا يقرأها على عقد في من العقد التي سحر فيها إلا انحلت . فالسحر لا يثبت مع اسم الله و ذكره بالهمة الإيمانية و قد نقل المؤرخون أن زركش كاويان و هي راية كسرى كان فيها الوفق المئيني العددي منسوجا بالذهب في أوضاع فلكية رصدت لذلك الوفق . و وجدت الراية يوم قتل رستم بالقادسية واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس و شتاتهم . و هو فيما يزعم أهل الطلسمات و الأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب و أن الراية التي يكون فيها أو معها لا تنهزم أصلا . إلا أن هذه عارضها المدد الإلهي من إيمان أصحاب رسول الله صلى الله علية و سلم و تمسكهم بكلمة الله فانحل معها كل عقد سحري و لم يثبت و يطل ما كانوا يعملون . و أما الشريعة فلم تفرق بين السحر و الطلسمات و جعلته كله بابا واحدا محظورا . لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا و ما لا يهمنا في شيء منهما فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع و يلحق به الطلسمات لأن أثرهما واحد و كالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله فيكون حينئذ ذلك الفعل محظورا على نسبته في الضرر . و إن لم يكن مهما علينا و لا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربة إلى الله فإن من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه . فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات و الشعوذة بابا واحدا لما فيها من الضرر و خصته بالحظر و التحريم . و أما الفرق عندهم بين المعجزة و السحر فالذي ذكره المتكلمون أنة راجع إلى التحدي و هو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه . قالوا : و الساحر مصروف عن مثل هذا التحدي فلا يقع منه . و وقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية لأن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصادق كاذبا و هو محال فإذا لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق . و أما الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه فرق ما بين الخير و الشر في نهاية الطرفين . فالساحر لا يصدر منه الخير و لا يستعمل في أسباب الخير و صاحب المعجزة لا يصدر منه الشر و لا يستعمل في أسباب الشر و كأنهما على طرفي النقيض في أصل فطرتهما . و الله يهدي من يشاء و هو القوي العزيز لا رب سواه و من قبيل هذه التأثيرات النفسية الإصابة بالعين و هو تأثير من نفس المعيان عندما يستحسن بعينه مدركا من الذوات أو الأحوال و يفرط في استحسانه و ينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به فيؤثر فساده . و هو جبلة فطرية أعني هذه الإصابة بالعين . و الفرق بينها و بين التأثيرات النفسانية أن صدورة فطري جبلي لا يتخلف و لا يرجع اختيار صاحبه و لا يكتسبه . و سائر التأثيرات و إن كان منها مالا يكتسب فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها و الفطري منها قوة صدورها و لهذا قالوا : القاتل بالسحر أو بالكرامة يقتل و القاتل بالعين لا يقتل . و ما ذلك إلا أنه ليس مما يريده و يقصده أو يتركه و إنما هو مجبور في صدوره عنه . و الله أعلم بما في الغيوب و مطلع على ما في السرائر .
القسم الأول من الفصل التاسع و العشرون : علم أسرار الحروف
و هو المسمى لهذا العهد بالسيميا . نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة ، فاستعمل استعمال العام في الخاص . و حدث هذا العلم في الملة بعد صدر منها ، و عند ظهور الغلاة من المتصوفة و جنوحهم إلى كشف حجاب الحس ، و ظهور الخوارق على أيديهم و التصرفات في عالم العناصر ، و تدوين الكتب و الاصطلاحات ، و مزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد و ترتيبه . و زعموا أن الكمال الإسمائي مظاهره أرواح الأفلاك و الكواكب ، و أن طبائع الحروف و أسرارها سارية في الأسماء ، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام . و الأكوان من لدن الإبداع الأول تتنقل في أطواره و تعرب عن أسراره ، فحدث لذلك علم أسرار الحروف ، و هو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعه و لا تحاط بالعدد مسائله . تعددت فيه تآليف البوني و ابن العربي و غيرهما ممن اتبع آثارهما . و حاصلة عندهم و ثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى و الكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان .ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بما هو : فمنهم من جعله للمزاج الذي فيه ، و قسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر . و اختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلا و انفعالا بذلك الصنف ، فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير إلى نارية و هوائية و مائية و ترابية على حسب تنوع العناصر ، فالألف للنار و الباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب . ثم ترجع كذلك على التوالي من الحروف و العناصر إلى أن تنفذ . فتعين لعنصر النار حروف سبعة : الألف و الهاء و الطاء و الميم و الفاء والسين و الذال ، و تعين لعنصر الهواء سبعة أيضا : الباء و الواو و الياء و النون و الضاد والتاء و الظاء ، و تعين لعنصر الماء أيضا سبعة : الجيم و الزاي و الكاف و الصاد والقاف
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
والقاف و الثاء و الغين ، و تعين لعنصر التراب أيضا سبعة : الدال و الحاء و اللام و العين و الراء و الخاء و الشين .
و الحروف النارية لدفع الأمراض الباردة و لمضاعفة قوة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها ، إما حسا أو حكما . كما في تضيف قوى المريخ في الحروب في القتل و الفتك . و المائية أيضا لدفع الأمراض الحارة من حميات و غيرها و لتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حسا أو حكما ، كتضعيف قوى القمر و أمثال ذلك .
و منهم من جعل سر التصرف الذي في الحروف للنسبة العددية : فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعا و طبعا فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضا ، كما بين الباء و الكاف و الراء لدلالتها كلها على الاثنين كل في مرتبته ، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد ، و الكاف على اثنين في مرتبة العشرات ، و الراء على اثنين في مرتبة المئين . و كالذي بينها و بين الدال و الميم والتاء لدلالتها على الأربعة ، و بين الأربعة و الاثنين نسبة الضعف . و خرج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف ، و امتزج التصرف من السر الحرفي و السر العددي لأجل التناسب الذي بينهما . فأما سر التناسب الذي بين هذه الحروف و أمزجة الطبائع ، أو بين الحروف و الأعداد ، فأمر عسير على الفهم ، إذ ليس من قبيل العلوم و القياسات ، و إنما مستندهم فيه الذوق و الكشف . قال البوني : و لا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي ، و إنما هو بطريق المشاهدة و التوفيق الإلهي . و أما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف و الأسماء المركبة فيها و تأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواترا . و قد يظن أن تصرف هؤلاء و تصرف أصحاب الطلسمات واحد ، و ليس كذلك ، فإن حقيقة الطلسم و تأثيره على ما حققه أهله أنة قوى روحانية من جوهر القهر ، تفعل فيما له ركب فعل غلبة و قهر . بأسرار فلكية و نسب عددية و بخورات جالبات لروحانية ذلك الطلسم ، مشدودة فيه بالهمة ، فائدتها ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية ، و هو عندهم كالخميرة المركبة من هوائية و أرضية و مائية و نارية حاصلة في جملتها ، تخيل و تصرف ما حصلت فيه إلى ذاتها و تقلبه إلى صورتها . و كذلك الإكسير للأجسام المعدنية كالخميرة تقلب المعدن الذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة . و لذلك يقولون : موضوع الكمياء جسد في جسد لأن الإكسير أجزاؤه كلها جسدانية . و يقولون : موضوع الطلسم روح في جسد لأنه ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية . و الطبائع السفلية جسد و الطبائع العلوية روحانية . و تحقيق الفرق بين تصرف أهل الطلسمات و أهل الأسماء ، بعد أن تعلم أن التصرف في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس الإنسانية والهمم البشرية أن النفس الإنسانية محيطة بالطبيعة و حاكمة عليها با الذات ، إلا أن تصرف أهل الطلسمات إنما هو في استنزال روحانية الأفلاك و ربطها بالصور أو بالنسب العددية . حتى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة و القلب بطبيعته ، فعل الخميرة فيما حصلت فيه . و تصرف أصحاب الأسماء إنما هو بما حصل لهم بالمجاهدة و الكشف من النور الإلهي و الإمداد الرباني ، فيسخر الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية ، و لا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكية و لا غيرها ، لأن مدده أعلى منها .
و يحتاج أهل الطلسمات إلى قليل من الرياضة تفيد النفس قوة على استنزال روحانية الأفلاك . و أهون بها وجهة و رياضة . بخلاف أهل الأسماء فإن رياضتهم هي الرياضة الكبرى ، و ليست لقصد التصرف في الأكوان إذ هو حجاب . و إنما التصرف حاصل لهم بالعرض ، كرامة من كرامات الله لهم . فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله و حقائق الملكوت ، الذي هو نتيجة المشاهدة والكشف ، و اقتصر على مناسبات الأسماء و طبائع الحروف و الكلمات . و تصرف بها من هذه الحيثية و هؤلاء هم أهل السيياء في المشهور كأن إذا لا فرق بينه و بين صاحب الطلسمات ، بل صاحب الطلسمات أوثق منه لأنه يرجع إلى أصول طبيعية علمية و قوانين مرتبة . و أما صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الذي يطلع به على حقائق الكلمات و آثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة ، و ليس له في العلوم الاصطلاحية قانون برهاني يعول عليه يكون حاله أضعف رتبة . و قد يمزج صاحب الأسماء قوى الكلمات و الأسماء بقوى الكواكب ، فيعين لذكر الأسماء الحسنى ، أو ما يرسم من أوفاقها ، بل و لسائر الأسماء ، أوقاتا تكون من حظوظ الكواكب الذي يناسب ذلك الاسم ، كما فعله البوني في كتايه الذي سماه الأنماط . و هذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائية . و هي برزخية الكمال الأسماني . و إنما تنزل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة . و إثبات هذه المناسبة عندهم إنما هو بحكم المشاهدة . فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة ، و تلقى تلك المناسبة تقليدا ، كان عمله بمثابة عمل صاجب الطلسم ، بل هوأوثق منه كما قلناه . و كذلك قد يمزج أيضا صاحب الطلسمات عمله و قوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات و الكواكب ، إلا أن مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب الأسماء من الاطلاع في حال المشاهدة ، و إنما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السحرية . من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكونات ، من جواهر و أعراض و ذوات و معان ، و الحروف و الأسماء من جملة ما فيه .
فلكل واحد من الكواكب قسم منها يخصه ، و يبنون على ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سورالقرآن و آيه على هذا النحو ، كما فعله مسلمة المجريطي في الغاية . و الظاهر من حال البوني في أنماطه أنه اعتبر طريقتهم . فإن تلك الأنماط إذا تصفحتها ، و تصفحت الدعوات التي تضمنتها . و تقسيمها على ساعات الكواكب السبعة ، ثم وقفت على الغاية ، و تصفحت قيامات الكواكب التي فيها ، و هي الدعوات التي تختص بكل كوكب ، و يسمونها قيامات الكواكب ، أي الدعوة التي يقام له بها ، شهد له ذلك : إما بأنه من مادتها ، أو بأن التناسب الذي كان في أصل الإبداع و برزخ العلم قضى بذلك كله . " و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا " . و ليس كل ما حرمه الشارع من العلوم بمنكر الثبوت ، فقد ثبت أن السحر حق مع حظره . لكن حسبنا من العلم ما علمنا .
و من فروع علم السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة ، بارتباطات ش بين الكلمات حرفية ، يوهمون أنها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقبالية ، و إنما هي شبه المعاياة و المسائل السيالة . و لهم في ذلك كلام كثير من أدعية و أوراد . و أعجبه زايرجة العالم للسبتي و قد تقدم ذكرها . و نبين هنا ما ذكروه في كيفية العمل بتلك الزايرجة بدائرتها و جدولها المكتوب حولها ، ثم نكشف عن الحق فيها و أنها ليست من الغيب . و إنما هي مطابقة بين مسئلة و جوابها في الإفادة فقط ، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل . و ليس عندنا رواية يعول عليها في صحة هذه القصيدة إلا أننا تحرينا أصح النسخ منها في ظاهر الأمر . و الله الموفق بمنه . و هي هذه :
يقول سبيتي و يحمد ربه مصل على هاد إلى الناس أرسلا
محمد المبعوث خاتم الأنبيا و يرضى عن الصحب و من لهم تلا
ألا هذه زايرجة العالم الذي تراه بحيكم و بالعقل قد خلا
فمن أحكم الوضع فيحكم جسمه و يدرك أحكاما تدبرها العلا
و من أحكم الربط فيدرك قوة و يدرك للتقوى و للكل حاصل
ومن أحكم التصريف يحكم سره و يعقل نفسه و صح له الولا
و في عالم الأمر تراه محققا و هذا مقام من بالأذكار كملا
فهذي سرائر عليكم بكتمها أقمها دوائر وللحاء عدلا
فطاء لها عرش و فيظ نقوشنا بنظم و نثر قبد تراه مجدولا
و نسب دوائر كنسبة فلكها و ارسم كواكبا لأدراجها العلا
و أخرج لأوتار و ارسم حروفها و كور بمثله على حد من خلا
أقم شكل زيرهم و سو بيوته و حقق بهامهم و نورهم جلا
و حصل علوما للطباع مهندسا و علما لموسيقى و الأرباع مثلا
و سو لموسيقى و علم حروفهم و علم بآلات فحقق و حصلا
و سو دوائرها و نسب حروفها و عالمها أطلق و الأقليم جدولا
أمير لنا فهو نهاية دولة زناتية آبت و حكم لها خلا
و قطر لأندلس فابن لهودهم و جاء بنو نصر و ظفرهم تلا
ملوك و فرسان و أهل لحكمة فإن شئت نصبتهم و قطرهم حلا
و مهدي توحيد بتونس حكمهم ملوك بالمشرق بالأوفاق نزلا
و اقسم على القطر و كن متفقدا فإن شئت للروم فبالحر شكلا
ففنش و برشنون الراء حرفهم و إفرنسهم دال و بالطاء كملا
ملوك كناوة دلوا لقافهم و إعرب قومنا بترقيق أعملا
فهند حباشي و سند فهرمس و فرس ططاري و ما بعدهم طلا
فقيصرهم جاء و يزدجردهم لكاف و قبطهم بلامه طولا
و عباس كلهم شريف معظم و لكن تركي بذا الفعل عطلا
فإن شئت تدقيق الملوك و كلهم فختم بيوتا ثم نسب و جدولا
على حكم قانون الحروف و علمها و علم طبائعها و كله مثلا
فمن علم العلوم تعلم علمنا و يعلم أسرار الوجود و أكملا
فيرسخ علمه و يعرف ربه و علم ملاحيم بحاميم فصلا
و حيث أتى اسم و العروض يشقه فحكم الحكيم فيه قطهعا ليقتلا
و تأتيك أحرف فسو لضربها و أحرف سيبويه تأتيك فيصلا
فمكن بتنكير و قابل و عوضن بترنيمك الغالي للأجزاء خلخلا
و في العقد و المجزور يعرف غالبا و زد لمح وصفيه في العقل فعلا
و اختر لمطلع و سويه رتبة و اعكس بجذبيه و بالدور عدلا ؟
و يدركها المرء فيبلغ قصده و تعطي حروفها و في نظمها انجلا
إذا كان سعد و الكواكب اسعدت فحسبك في الملك و نيل اسمه العلا
و إيقاع دالهم بمرموز ثممة فنسب دنادينا تجد فيه منهلا
و أوتار زيرهم فللحاء بمهم و مثناهم المثلث بجيمه قد جلا
و أدخل بأفلاك و عدل بجدول و أرسم أباجاد و باقيه جملا
و جوز شذوذ النو تجري و مثله أتى في عروض الشعر عن جملة ملا
فأصل لديننا و أصل لفقهنا و علم لنحونا فاحفظ و حصلا
فادخل لفسطاط على الوفق جذره و سبح باسمه و كبر و هللا
فتخرج أبياتا و في كل مطلب بنظم طبيعي و سر من العلا
و تفنى بحصرها كذا حكم عدهم فعلم الفواتيح ترى فيه منهلا
فتخرج أبياتا و عشرون ضعفت من الألف طبعيا فيا صاح جدولا
تريك صنائعا من الضرب أكملت فصح لك المنى و صح لك العلا
و سجع بزيرهم و أثني بنقرة أقمها دوائر الزير و حصلا
أقمها بأوفاق و أصل لعدها من أسرار أحرفهم فعذبه سلسلا
43 ك 1 ك و ك ح و ا ه عم له ر لا سع كط 1 ل م ن ح ع ف و ل
الفصل التاسع و العشرون : علم أسرار الحروف القسم الثاني
الكلام على استخراج نسبة الأوزان و كيفياتها و مقادير المقابل منها و قوة الدرجة المتميزة بالنسبة إلى موضع المعلق من امتزاج طبائع و علم طب أو صناعة الكيميا
أيا طالبا للطب مع علم جابر و عالم مقدار المقادير بالولا
إذا شئت علم الطب لابد نسبة لأحكام ميزان تصادف منهلا
فيشفي عليكم و الأكسير محكم و أمزاج وضعكم بتصحيح أنجلا
الطب الروحاني
و شئت إيلاوش 565 ـهـ و دهنه بحلا لبهرام برجيس و سبعة أكملا
لتحليل أوجاع البوارد صححوا كذلك و التركيب حيث تنقلا
كد منع مهم 355 و هح 6 صح لهاى و لمح 1 آ 1 و هح وى سكره لا ل ح مههت مهههـ ع ع مى مرح حـ 2242 ل ك عا عر .
مطاريح الشعاعات في مواليد الملوك و بنيهم
و علم مطاريح الشعاعات مشكل و ضلع قسيها بمنطقة جلا
و لكن قي حج مقام إمامنا و يبدو إذا عرض الكواكب عدلا
بدال مراكز بين طول و عرضها فمن أدرك المعنى علا ثم فوضلا
مواقع تربيع و سه مسقط لتسديسهم تثليث بيت التي تلا
يزاد لتربيع و هذا قياسه يقينا و جذره و بالعين أعملا
و من نسبة الربعين ركب شعاعك بصاد و ضعفه و تربيعه أنجلا
اختص صح صحـ عـ 8 سع وى هذا العمل هنا للملوك و القانون مطرد عمله و لم ير أعجب منه .
مقامات الملوك المقام الأول 5 المقام الثاني
ع ع و المقام الرا بع للح المقام الخامس لاى المقام السادس بير المقام السابع عره
خط الاتصال و الانفصال
خط الاتصال
خط الانفصال
الوتر للجميع و تابع الجرر التام
الاتصال و الانفصال
الواجب التام في الاتصالات
إقامة الأنوار
الجزر المجيب في العمل
إقامة السوال عن الملوك
مقام الأولا نورعه ي مقام بها 5 حج لا
الانفعال الروحاني و الا نقياد الرباني
أيا طالب السر لتهليل ربه لدى أسمائه الحسنى تصادف منهلا
تطيعك أخيار الأنام بقلبهم كذلك ريسهم و في الشمس أعملا
ترى عامة الناس إليك تقيدوا و ما قلته حقا و في الغير أهملا
طريقك هذا السيل و السبل الذي أقوله غيركم و نصركموا اجتلى
إذا شئت تحيا في الوجود مع التقى و دينا متينا أو تكن متوصلا
كذي النون و الجنيد مع سر صنعة و في سر بسطام أراك مسربلا
و في العالم العلوي تكون محدثا كذا قالت الهند و صوفية الملا
طريق رسول الله بالحق ساطع و ما حكم صنع مثل جبريل أنزلا
فبطشك تهليل و قوسك مطلع و يوم الخميس البدء و الأحدانجلى
و في جمعة أيضا بالأسماء مثله و في اثنين للحسنى تكون مكملا
و في طائه سر في هائه إذا أراك بها مع نسبة الكل أعطلا
و ساعة سعد شرطهم في نقوشها و عود و مصطكى بخور تحصلا
و تتلو عليها آخر الحشر دعوة و الاخلاص و السبع المثاني مرتلا
اتصال أنوار الكواكب بلعاني لا هي ى لا ظ غ لدسع ق صح مـ ف و ى
و في يدك اليمنى حديد و خاتم و كل برأسك و في دعوة فلا
و آية حشر فاجعل القلب وجهها و اتلو إذا نام الأنام و رتلا
هي السر في الأكوان لا شيء غيرها هي الآية الغظمى فحقق و حصلا
تكون بها قطبا إذا جدت خدمة و تدرك أسرارا من العالم العلا
سري بها ناجي و معروف قبله و باح بها الحلاج جهرا فأعقلا ؟
و كان بها الشبلي يدأب دائما إلى أن رقى فوق المريدين و اعتلى
فصف من الأدناس قلبك جاهدا و لازم لاذكار و صم و تنقلا
فما نال سر القوم إلا محقق عليم بأسرار العلوم محصلا
مقامات المحبة و ميل النفوس و المجاهدة و الطاعة و العبادة و حب و تعشق و فناء الفناء و توجه و مراقبة و خلة و أئمة
الانفعال الطبيعي
لبرجيس في المحبة الوفق صرفوا بقزدير أو نحاس الخلط أكملا
و قيل بفضة صحيحا رأيته فجعلك طالعا خطوطه ما علا
توخ به زيادة النور للقمر و جعلك للقبول شمسه أصلا
و يومه و البخور عود لهندهم و وقت لساعة و دعوته ألا
و دعوته بغاية فهي أعملت و عن طسيمان دعوة و لها جلا
و قيل بدعوة حروف لوضعها بحر هواء أو مطالب أهلا
فتنقش أحرفا بدال و لامها و ذلك وفق للمربع حصلا
إذا لم يكن يهوى هواك دلالها فدال ليبدو واو زينب معطلا
فحسن لبائه و بائهم إذا هواك و باقيهم قليلة جملا
و نقش مشاكل بشرط لوضعهم و ما زدت أنسبه لفعلك عدلا
و مفتاح مريم ففعلهما سوا فبوري و بسطامي بسورتها تلا
و جعلك بالقصد و كن متفقدا أدلة و حشي لقبضة ميلا
فاعكس بيوتها بألف و نيف فباطنها سر و في سرها انجلا
فصل في المقامات للنهاية
لك الغيب صورة من العالم العلا و توجدها دار أو ملبسها الحلا
و يوسف في الحسن و هذا شبيهه بنثر و ترتيل حقيقة أنزلا
و في يده طول و في الغيب ناطق فيحكى إلى عود يجاوب بلبلا
و قد جن بهلول بعشق جمالها و عند تجليها لبسطام أخذلا
و مات أجليه و أشرب حبها جنيد و بصرى و الجسم أهملا
فتطلب في التهليل غايته و من بأسمائه الحسنى بلا نسبة خلا
و من صاحب الحسنى له الفوز بالمنى و يسهم بالزلفى لدى جيرة العلا
و تخبر بالغيب إذا جدت خدمة تريك عجائبا بمن كان موئلا
فهذا هو الفوز و حسن تناله و منها زيادات لتفسيرها تلا
الوصية و التختم و الإيمان و الإسلام و التحريم و الأهلية
فهذا قصيدنا و تسعون عده و ما زاد خطبة و ختما و جدولا
عجبت لأبيات و تسعون عدها تولد أبياتا و ما حصرها انجلا
فمن فهم السر فيفهم نفسه و يفهم تفسيرا تشابه أشكلا
حرام و شرعي لاظهار سرنا لناس و إن خصوا و كان التأهلا
فإن شئت أهليه فغلظ يمينهم و تفهم برحلة و دين تطولا
لعلك أن تنجو و سامع سرهم من القطع و الافشا فترأس بالعلا
فنجل لعباس لسره كاتم فنال سعادات و تابعه علا
و قام رسول الله في الناس خاطبا فمن يرأس عرشا فذلك أكملا
و قد ركب الأرواح أجساد مظهر فآلت لقتلهم بدق تطولا
إلى العالم العلوي يفنى فناؤنا و يلبس أثواب الوجود على الولا
فقد تم نظما و صلى إلهنا على خاتم الرسل صلاة بها العلا
و صلى إله العرش ذو المجد و العلا على سيد ساد الأنام و كملا
محمد الهادي الشفيع إمامنا و أصحابه أهل المكارم و العلا
كيفية العمل في استخراج أجوبة المسائل من زايرجة العالم بحول الله منقولا عمن لقيناه من القائمين عليها
السؤال له ثلثمائة و ستون جوابا عدة الدرج ، و تختلف الأجوبة عن سؤال واحد في طالع مخصوص باختلاف الأسئلة المضافة إلى حروف الأوتار . و تناسب العمل من استخراج الأحرف من بيت القصيد .
تنبيه : تركيب حروف الأوتار و الجدول على ثلاثة أصول : حروف عربية تنقل على هيآتها . و حروف برسم الغبار . و هذه تتبدل : فمنها ما ينقل على هيئته متى لم تزد الأدوار عن أربعة ، فإن زادت عن أربعة نقلت إلى المرتبة الثانية من مرتبة العشرات و كذلك لمرتبة المئين على حسب العمل كما سنبينه ، و منها حروف برسم الزمام كذلك ، غير أن رسم الزمام يعطي نسبة ثانية ، فهي بمنزلة واحد ألف و بمنزلة عشرة ، و لها نسبة من خمسين بالعربي . فاستحق البيت من الجدول أن توضع فيه ثلاثة حروف في هذا الرسم و حرفان في الرسم ، فاختصروا من الجدول بيوتا خالية . فمتى كانت أصول الأدوار زائدة على أربعين حسبت في العدد في طول الجدول و إن لم تزد على أربعة لم يحسب إلا العامر منها .و العمل في السؤال يفتقر إلى سبعة أصول : عدة حروف الأول حساب أدوارها بعد طرحها ، اثني عشر اثني عشر ، و هي ثمانية أحرف في الكامل و ستة في الناقص أبدا . و معرفة درج الطالع و سلطان البرج ، و الدور الأكبر الأصلي ، و هو واحد أبدا . و ما يخرج من إضافة الطالع للدور الأصلي ، و ما يخرج من ضرب الطالع و الدور في سلطان البرج . و إضافة سلطان البرج للطالع و العمل جميعه ينتج عن ثلاثة أدوار مضروبة في أربعة ، تكون اثني عشر دورا . و نسبة هذه الثلاثة الأدوار التي هي كل دور من أربعة نشأة ثلاثية ، كل نشأة لها ابتداء . ثم إنها تضرب أدوارا رباعية أيضا ثلاثية . ثم إنها من ضرب ستة في اثنين ،
و الحروف النارية لدفع الأمراض الباردة و لمضاعفة قوة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها ، إما حسا أو حكما . كما في تضيف قوى المريخ في الحروب في القتل و الفتك . و المائية أيضا لدفع الأمراض الحارة من حميات و غيرها و لتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حسا أو حكما ، كتضعيف قوى القمر و أمثال ذلك .
و منهم من جعل سر التصرف الذي في الحروف للنسبة العددية : فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعا و طبعا فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضا ، كما بين الباء و الكاف و الراء لدلالتها كلها على الاثنين كل في مرتبته ، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد ، و الكاف على اثنين في مرتبة العشرات ، و الراء على اثنين في مرتبة المئين . و كالذي بينها و بين الدال و الميم والتاء لدلالتها على الأربعة ، و بين الأربعة و الاثنين نسبة الضعف . و خرج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف ، و امتزج التصرف من السر الحرفي و السر العددي لأجل التناسب الذي بينهما . فأما سر التناسب الذي بين هذه الحروف و أمزجة الطبائع ، أو بين الحروف و الأعداد ، فأمر عسير على الفهم ، إذ ليس من قبيل العلوم و القياسات ، و إنما مستندهم فيه الذوق و الكشف . قال البوني : و لا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي ، و إنما هو بطريق المشاهدة و التوفيق الإلهي . و أما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف و الأسماء المركبة فيها و تأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواترا . و قد يظن أن تصرف هؤلاء و تصرف أصحاب الطلسمات واحد ، و ليس كذلك ، فإن حقيقة الطلسم و تأثيره على ما حققه أهله أنة قوى روحانية من جوهر القهر ، تفعل فيما له ركب فعل غلبة و قهر . بأسرار فلكية و نسب عددية و بخورات جالبات لروحانية ذلك الطلسم ، مشدودة فيه بالهمة ، فائدتها ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية ، و هو عندهم كالخميرة المركبة من هوائية و أرضية و مائية و نارية حاصلة في جملتها ، تخيل و تصرف ما حصلت فيه إلى ذاتها و تقلبه إلى صورتها . و كذلك الإكسير للأجسام المعدنية كالخميرة تقلب المعدن الذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة . و لذلك يقولون : موضوع الكمياء جسد في جسد لأن الإكسير أجزاؤه كلها جسدانية . و يقولون : موضوع الطلسم روح في جسد لأنه ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية . و الطبائع السفلية جسد و الطبائع العلوية روحانية . و تحقيق الفرق بين تصرف أهل الطلسمات و أهل الأسماء ، بعد أن تعلم أن التصرف في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس الإنسانية والهمم البشرية أن النفس الإنسانية محيطة بالطبيعة و حاكمة عليها با الذات ، إلا أن تصرف أهل الطلسمات إنما هو في استنزال روحانية الأفلاك و ربطها بالصور أو بالنسب العددية . حتى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة و القلب بطبيعته ، فعل الخميرة فيما حصلت فيه . و تصرف أصحاب الأسماء إنما هو بما حصل لهم بالمجاهدة و الكشف من النور الإلهي و الإمداد الرباني ، فيسخر الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية ، و لا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكية و لا غيرها ، لأن مدده أعلى منها .
و يحتاج أهل الطلسمات إلى قليل من الرياضة تفيد النفس قوة على استنزال روحانية الأفلاك . و أهون بها وجهة و رياضة . بخلاف أهل الأسماء فإن رياضتهم هي الرياضة الكبرى ، و ليست لقصد التصرف في الأكوان إذ هو حجاب . و إنما التصرف حاصل لهم بالعرض ، كرامة من كرامات الله لهم . فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله و حقائق الملكوت ، الذي هو نتيجة المشاهدة والكشف ، و اقتصر على مناسبات الأسماء و طبائع الحروف و الكلمات . و تصرف بها من هذه الحيثية و هؤلاء هم أهل السيياء في المشهور كأن إذا لا فرق بينه و بين صاحب الطلسمات ، بل صاحب الطلسمات أوثق منه لأنه يرجع إلى أصول طبيعية علمية و قوانين مرتبة . و أما صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الذي يطلع به على حقائق الكلمات و آثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة ، و ليس له في العلوم الاصطلاحية قانون برهاني يعول عليه يكون حاله أضعف رتبة . و قد يمزج صاحب الأسماء قوى الكلمات و الأسماء بقوى الكواكب ، فيعين لذكر الأسماء الحسنى ، أو ما يرسم من أوفاقها ، بل و لسائر الأسماء ، أوقاتا تكون من حظوظ الكواكب الذي يناسب ذلك الاسم ، كما فعله البوني في كتايه الذي سماه الأنماط . و هذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائية . و هي برزخية الكمال الأسماني . و إنما تنزل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة . و إثبات هذه المناسبة عندهم إنما هو بحكم المشاهدة . فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة ، و تلقى تلك المناسبة تقليدا ، كان عمله بمثابة عمل صاجب الطلسم ، بل هوأوثق منه كما قلناه . و كذلك قد يمزج أيضا صاحب الطلسمات عمله و قوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات و الكواكب ، إلا أن مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب الأسماء من الاطلاع في حال المشاهدة ، و إنما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السحرية . من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكونات ، من جواهر و أعراض و ذوات و معان ، و الحروف و الأسماء من جملة ما فيه .
فلكل واحد من الكواكب قسم منها يخصه ، و يبنون على ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سورالقرآن و آيه على هذا النحو ، كما فعله مسلمة المجريطي في الغاية . و الظاهر من حال البوني في أنماطه أنه اعتبر طريقتهم . فإن تلك الأنماط إذا تصفحتها ، و تصفحت الدعوات التي تضمنتها . و تقسيمها على ساعات الكواكب السبعة ، ثم وقفت على الغاية ، و تصفحت قيامات الكواكب التي فيها ، و هي الدعوات التي تختص بكل كوكب ، و يسمونها قيامات الكواكب ، أي الدعوة التي يقام له بها ، شهد له ذلك : إما بأنه من مادتها ، أو بأن التناسب الذي كان في أصل الإبداع و برزخ العلم قضى بذلك كله . " و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا " . و ليس كل ما حرمه الشارع من العلوم بمنكر الثبوت ، فقد ثبت أن السحر حق مع حظره . لكن حسبنا من العلم ما علمنا .
و من فروع علم السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة ، بارتباطات ش بين الكلمات حرفية ، يوهمون أنها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقبالية ، و إنما هي شبه المعاياة و المسائل السيالة . و لهم في ذلك كلام كثير من أدعية و أوراد . و أعجبه زايرجة العالم للسبتي و قد تقدم ذكرها . و نبين هنا ما ذكروه في كيفية العمل بتلك الزايرجة بدائرتها و جدولها المكتوب حولها ، ثم نكشف عن الحق فيها و أنها ليست من الغيب . و إنما هي مطابقة بين مسئلة و جوابها في الإفادة فقط ، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل . و ليس عندنا رواية يعول عليها في صحة هذه القصيدة إلا أننا تحرينا أصح النسخ منها في ظاهر الأمر . و الله الموفق بمنه . و هي هذه :
يقول سبيتي و يحمد ربه مصل على هاد إلى الناس أرسلا
محمد المبعوث خاتم الأنبيا و يرضى عن الصحب و من لهم تلا
ألا هذه زايرجة العالم الذي تراه بحيكم و بالعقل قد خلا
فمن أحكم الوضع فيحكم جسمه و يدرك أحكاما تدبرها العلا
و من أحكم الربط فيدرك قوة و يدرك للتقوى و للكل حاصل
ومن أحكم التصريف يحكم سره و يعقل نفسه و صح له الولا
و في عالم الأمر تراه محققا و هذا مقام من بالأذكار كملا
فهذي سرائر عليكم بكتمها أقمها دوائر وللحاء عدلا
فطاء لها عرش و فيظ نقوشنا بنظم و نثر قبد تراه مجدولا
و نسب دوائر كنسبة فلكها و ارسم كواكبا لأدراجها العلا
و أخرج لأوتار و ارسم حروفها و كور بمثله على حد من خلا
أقم شكل زيرهم و سو بيوته و حقق بهامهم و نورهم جلا
و حصل علوما للطباع مهندسا و علما لموسيقى و الأرباع مثلا
و سو لموسيقى و علم حروفهم و علم بآلات فحقق و حصلا
و سو دوائرها و نسب حروفها و عالمها أطلق و الأقليم جدولا
أمير لنا فهو نهاية دولة زناتية آبت و حكم لها خلا
و قطر لأندلس فابن لهودهم و جاء بنو نصر و ظفرهم تلا
ملوك و فرسان و أهل لحكمة فإن شئت نصبتهم و قطرهم حلا
و مهدي توحيد بتونس حكمهم ملوك بالمشرق بالأوفاق نزلا
و اقسم على القطر و كن متفقدا فإن شئت للروم فبالحر شكلا
ففنش و برشنون الراء حرفهم و إفرنسهم دال و بالطاء كملا
ملوك كناوة دلوا لقافهم و إعرب قومنا بترقيق أعملا
فهند حباشي و سند فهرمس و فرس ططاري و ما بعدهم طلا
فقيصرهم جاء و يزدجردهم لكاف و قبطهم بلامه طولا
و عباس كلهم شريف معظم و لكن تركي بذا الفعل عطلا
فإن شئت تدقيق الملوك و كلهم فختم بيوتا ثم نسب و جدولا
على حكم قانون الحروف و علمها و علم طبائعها و كله مثلا
فمن علم العلوم تعلم علمنا و يعلم أسرار الوجود و أكملا
فيرسخ علمه و يعرف ربه و علم ملاحيم بحاميم فصلا
و حيث أتى اسم و العروض يشقه فحكم الحكيم فيه قطهعا ليقتلا
و تأتيك أحرف فسو لضربها و أحرف سيبويه تأتيك فيصلا
فمكن بتنكير و قابل و عوضن بترنيمك الغالي للأجزاء خلخلا
و في العقد و المجزور يعرف غالبا و زد لمح وصفيه في العقل فعلا
و اختر لمطلع و سويه رتبة و اعكس بجذبيه و بالدور عدلا ؟
و يدركها المرء فيبلغ قصده و تعطي حروفها و في نظمها انجلا
إذا كان سعد و الكواكب اسعدت فحسبك في الملك و نيل اسمه العلا
و إيقاع دالهم بمرموز ثممة فنسب دنادينا تجد فيه منهلا
و أوتار زيرهم فللحاء بمهم و مثناهم المثلث بجيمه قد جلا
و أدخل بأفلاك و عدل بجدول و أرسم أباجاد و باقيه جملا
و جوز شذوذ النو تجري و مثله أتى في عروض الشعر عن جملة ملا
فأصل لديننا و أصل لفقهنا و علم لنحونا فاحفظ و حصلا
فادخل لفسطاط على الوفق جذره و سبح باسمه و كبر و هللا
فتخرج أبياتا و في كل مطلب بنظم طبيعي و سر من العلا
و تفنى بحصرها كذا حكم عدهم فعلم الفواتيح ترى فيه منهلا
فتخرج أبياتا و عشرون ضعفت من الألف طبعيا فيا صاح جدولا
تريك صنائعا من الضرب أكملت فصح لك المنى و صح لك العلا
و سجع بزيرهم و أثني بنقرة أقمها دوائر الزير و حصلا
أقمها بأوفاق و أصل لعدها من أسرار أحرفهم فعذبه سلسلا
43 ك 1 ك و ك ح و ا ه عم له ر لا سع كط 1 ل م ن ح ع ف و ل
الفصل التاسع و العشرون : علم أسرار الحروف القسم الثاني
الكلام على استخراج نسبة الأوزان و كيفياتها و مقادير المقابل منها و قوة الدرجة المتميزة بالنسبة إلى موضع المعلق من امتزاج طبائع و علم طب أو صناعة الكيميا
أيا طالبا للطب مع علم جابر و عالم مقدار المقادير بالولا
إذا شئت علم الطب لابد نسبة لأحكام ميزان تصادف منهلا
فيشفي عليكم و الأكسير محكم و أمزاج وضعكم بتصحيح أنجلا
الطب الروحاني
و شئت إيلاوش 565 ـهـ و دهنه بحلا لبهرام برجيس و سبعة أكملا
لتحليل أوجاع البوارد صححوا كذلك و التركيب حيث تنقلا
كد منع مهم 355 و هح 6 صح لهاى و لمح 1 آ 1 و هح وى سكره لا ل ح مههت مهههـ ع ع مى مرح حـ 2242 ل ك عا عر .
مطاريح الشعاعات في مواليد الملوك و بنيهم
و علم مطاريح الشعاعات مشكل و ضلع قسيها بمنطقة جلا
و لكن قي حج مقام إمامنا و يبدو إذا عرض الكواكب عدلا
بدال مراكز بين طول و عرضها فمن أدرك المعنى علا ثم فوضلا
مواقع تربيع و سه مسقط لتسديسهم تثليث بيت التي تلا
يزاد لتربيع و هذا قياسه يقينا و جذره و بالعين أعملا
و من نسبة الربعين ركب شعاعك بصاد و ضعفه و تربيعه أنجلا
اختص صح صحـ عـ 8 سع وى هذا العمل هنا للملوك و القانون مطرد عمله و لم ير أعجب منه .
مقامات الملوك المقام الأول 5 المقام الثاني
ع ع و المقام الرا بع للح المقام الخامس لاى المقام السادس بير المقام السابع عره
خط الاتصال و الانفصال
خط الاتصال
خط الانفصال
الوتر للجميع و تابع الجرر التام
الاتصال و الانفصال
الواجب التام في الاتصالات
إقامة الأنوار
الجزر المجيب في العمل
إقامة السوال عن الملوك
مقام الأولا نورعه ي مقام بها 5 حج لا
الانفعال الروحاني و الا نقياد الرباني
أيا طالب السر لتهليل ربه لدى أسمائه الحسنى تصادف منهلا
تطيعك أخيار الأنام بقلبهم كذلك ريسهم و في الشمس أعملا
ترى عامة الناس إليك تقيدوا و ما قلته حقا و في الغير أهملا
طريقك هذا السيل و السبل الذي أقوله غيركم و نصركموا اجتلى
إذا شئت تحيا في الوجود مع التقى و دينا متينا أو تكن متوصلا
كذي النون و الجنيد مع سر صنعة و في سر بسطام أراك مسربلا
و في العالم العلوي تكون محدثا كذا قالت الهند و صوفية الملا
طريق رسول الله بالحق ساطع و ما حكم صنع مثل جبريل أنزلا
فبطشك تهليل و قوسك مطلع و يوم الخميس البدء و الأحدانجلى
و في جمعة أيضا بالأسماء مثله و في اثنين للحسنى تكون مكملا
و في طائه سر في هائه إذا أراك بها مع نسبة الكل أعطلا
و ساعة سعد شرطهم في نقوشها و عود و مصطكى بخور تحصلا
و تتلو عليها آخر الحشر دعوة و الاخلاص و السبع المثاني مرتلا
اتصال أنوار الكواكب بلعاني لا هي ى لا ظ غ لدسع ق صح مـ ف و ى
و في يدك اليمنى حديد و خاتم و كل برأسك و في دعوة فلا
و آية حشر فاجعل القلب وجهها و اتلو إذا نام الأنام و رتلا
هي السر في الأكوان لا شيء غيرها هي الآية الغظمى فحقق و حصلا
تكون بها قطبا إذا جدت خدمة و تدرك أسرارا من العالم العلا
سري بها ناجي و معروف قبله و باح بها الحلاج جهرا فأعقلا ؟
و كان بها الشبلي يدأب دائما إلى أن رقى فوق المريدين و اعتلى
فصف من الأدناس قلبك جاهدا و لازم لاذكار و صم و تنقلا
فما نال سر القوم إلا محقق عليم بأسرار العلوم محصلا
مقامات المحبة و ميل النفوس و المجاهدة و الطاعة و العبادة و حب و تعشق و فناء الفناء و توجه و مراقبة و خلة و أئمة
الانفعال الطبيعي
لبرجيس في المحبة الوفق صرفوا بقزدير أو نحاس الخلط أكملا
و قيل بفضة صحيحا رأيته فجعلك طالعا خطوطه ما علا
توخ به زيادة النور للقمر و جعلك للقبول شمسه أصلا
و يومه و البخور عود لهندهم و وقت لساعة و دعوته ألا
و دعوته بغاية فهي أعملت و عن طسيمان دعوة و لها جلا
و قيل بدعوة حروف لوضعها بحر هواء أو مطالب أهلا
فتنقش أحرفا بدال و لامها و ذلك وفق للمربع حصلا
إذا لم يكن يهوى هواك دلالها فدال ليبدو واو زينب معطلا
فحسن لبائه و بائهم إذا هواك و باقيهم قليلة جملا
و نقش مشاكل بشرط لوضعهم و ما زدت أنسبه لفعلك عدلا
و مفتاح مريم ففعلهما سوا فبوري و بسطامي بسورتها تلا
و جعلك بالقصد و كن متفقدا أدلة و حشي لقبضة ميلا
فاعكس بيوتها بألف و نيف فباطنها سر و في سرها انجلا
فصل في المقامات للنهاية
لك الغيب صورة من العالم العلا و توجدها دار أو ملبسها الحلا
و يوسف في الحسن و هذا شبيهه بنثر و ترتيل حقيقة أنزلا
و في يده طول و في الغيب ناطق فيحكى إلى عود يجاوب بلبلا
و قد جن بهلول بعشق جمالها و عند تجليها لبسطام أخذلا
و مات أجليه و أشرب حبها جنيد و بصرى و الجسم أهملا
فتطلب في التهليل غايته و من بأسمائه الحسنى بلا نسبة خلا
و من صاحب الحسنى له الفوز بالمنى و يسهم بالزلفى لدى جيرة العلا
و تخبر بالغيب إذا جدت خدمة تريك عجائبا بمن كان موئلا
فهذا هو الفوز و حسن تناله و منها زيادات لتفسيرها تلا
الوصية و التختم و الإيمان و الإسلام و التحريم و الأهلية
فهذا قصيدنا و تسعون عده و ما زاد خطبة و ختما و جدولا
عجبت لأبيات و تسعون عدها تولد أبياتا و ما حصرها انجلا
فمن فهم السر فيفهم نفسه و يفهم تفسيرا تشابه أشكلا
حرام و شرعي لاظهار سرنا لناس و إن خصوا و كان التأهلا
فإن شئت أهليه فغلظ يمينهم و تفهم برحلة و دين تطولا
لعلك أن تنجو و سامع سرهم من القطع و الافشا فترأس بالعلا
فنجل لعباس لسره كاتم فنال سعادات و تابعه علا
و قام رسول الله في الناس خاطبا فمن يرأس عرشا فذلك أكملا
و قد ركب الأرواح أجساد مظهر فآلت لقتلهم بدق تطولا
إلى العالم العلوي يفنى فناؤنا و يلبس أثواب الوجود على الولا
فقد تم نظما و صلى إلهنا على خاتم الرسل صلاة بها العلا
و صلى إله العرش ذو المجد و العلا على سيد ساد الأنام و كملا
محمد الهادي الشفيع إمامنا و أصحابه أهل المكارم و العلا
كيفية العمل في استخراج أجوبة المسائل من زايرجة العالم بحول الله منقولا عمن لقيناه من القائمين عليها
السؤال له ثلثمائة و ستون جوابا عدة الدرج ، و تختلف الأجوبة عن سؤال واحد في طالع مخصوص باختلاف الأسئلة المضافة إلى حروف الأوتار . و تناسب العمل من استخراج الأحرف من بيت القصيد .
تنبيه : تركيب حروف الأوتار و الجدول على ثلاثة أصول : حروف عربية تنقل على هيآتها . و حروف برسم الغبار . و هذه تتبدل : فمنها ما ينقل على هيئته متى لم تزد الأدوار عن أربعة ، فإن زادت عن أربعة نقلت إلى المرتبة الثانية من مرتبة العشرات و كذلك لمرتبة المئين على حسب العمل كما سنبينه ، و منها حروف برسم الزمام كذلك ، غير أن رسم الزمام يعطي نسبة ثانية ، فهي بمنزلة واحد ألف و بمنزلة عشرة ، و لها نسبة من خمسين بالعربي . فاستحق البيت من الجدول أن توضع فيه ثلاثة حروف في هذا الرسم و حرفان في الرسم ، فاختصروا من الجدول بيوتا خالية . فمتى كانت أصول الأدوار زائدة على أربعين حسبت في العدد في طول الجدول و إن لم تزد على أربعة لم يحسب إلا العامر منها .و العمل في السؤال يفتقر إلى سبعة أصول : عدة حروف الأول حساب أدوارها بعد طرحها ، اثني عشر اثني عشر ، و هي ثمانية أحرف في الكامل و ستة في الناقص أبدا . و معرفة درج الطالع و سلطان البرج ، و الدور الأكبر الأصلي ، و هو واحد أبدا . و ما يخرج من إضافة الطالع للدور الأصلي ، و ما يخرج من ضرب الطالع و الدور في سلطان البرج . و إضافة سلطان البرج للطالع و العمل جميعه ينتج عن ثلاثة أدوار مضروبة في أربعة ، تكون اثني عشر دورا . و نسبة هذه الثلاثة الأدوار التي هي كل دور من أربعة نشأة ثلاثية ، كل نشأة لها ابتداء . ثم إنها تضرب أدوارا رباعية أيضا ثلاثية . ثم إنها من ضرب ستة في اثنين ،
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
فكان لها نشأة ، يظهر ذلك في العمل . و يتبع هذه الأدوار الاثني عشر نتائج . و هي في الأدوار ، إما أن تكون نتيجة أو أكثر إلى ستة .
فأول ذلك نفرض سؤالا عن الزايرجة ، هل هي علم قديم ، أو محدث بطالع أول درجة من القوس أثناء حروف الأوتار ؟ ثم حروف السؤال . فوضعنا حروف وتر رأس القوس و نظيره من رأس الجوزاء . و ثالثه و تر رأس الدلو إلى حد المركز ، و أضفنا إليه حروف السؤال ، و نظرنا عدتها و أقل ما تكون ثمانية و ثمانين ، و أكثر ما تكون ستة و تسعين ، و هي جملة الدور الصحيح ، فكانت في سؤالنا ثلاثة و تسعين . و يختصر السؤال إن زاد عن ستة و تسعين ، بأن يسقط جميع أدواره الاثني عشرية ، و يحفظ ما خرج منها و ما بقي ، فكانت في سؤالنا سبعة أدوار ، الباقي تسعة ، أثبتها في الحروف ما لم يبلغ الطالع اثنتي عشرة درجة ، فإن بلغها لم تثبت لها عدة و لا دور .
ثم تثبت أعدادها أيضا إن زاد الطالع عن أربعين و عشرين في الوجه الثالث ، ثم تثبت الطالع و هو واحد ، و سلطان الطالع و هو أربعة ، و الدور الأكبر و هو واحد ، و اجمع ما بين الطالع و الدور و هو اثنان في هذا السؤال ، و اضرب ما خرج منهما في سلطان البرج يبلغ ثمانية ، و أضف السلطان للطالع فيكون خمسة ، فهذه سبعة أصول . فما خرج من ضرب الطالع و الدور الأكبر في سلطان القوس ، مما لم يبلغ اثني عشر فيه تدخل في ضلع ثمانية من أسفل الجدول صاعدا ، و إن زاد على اثني عشر طرح أدوارا ، و تدخل بالباقي في ضلع ثمانية ، و تعلم على منتهى العدد و الخمسة المستخرجة من السلطان و الطالع ، يكون الطالع في ضلع السطح المبسوط الأعلى من الجدول ، و تعد متواليا خمسات أدوارا ، و تحفظها إلى أن يقف العدد على حرف من أربعة ، و هي ألف أو باء أو جيم أو زاي . فوقع العدد في عملنا على حرف الألف و خلف ثلاثة أدوار ، فضربنا ثلاثة في ثلاثين كانت تسعة . و هو عدد الدور الأول . فأثبته و اجمع ما بين الضلعين : القائم و المبسوط يكن في بيت ثمانية في مقابلة البيوت العامرة بالعدد من الجدول ، و إن وقف في مقابلة الخالي من بيوت الجدول على أحدها . فلا يعتبر و تستمر على أدوارك . و أدخل يعدد ما في الدور الأول ، و ذلك تسعة في صدر الجدول مما يلي البيت الذي اجتمعا فيه . و هي ثمانية ، مارا إلى جهة اليسار ، فوقع على حرف لام ألف و لا يخرج منها أبدا حرف مركب . و إنما هو إذن حرف تاء أربعمائة برسم الزمام ، فعلم عليها بعد نقلها من بيت القصيد ، و اجمع عدد الدور للسلطان يبلغ ثلاثة عشر ، أدخل بها في حروف الأوتار ، و أثبت ما وقع عليه العدد و علم عليه من بيت القصيد . و من هذا القانون تدري كم تدور الحروف في النظم الطبيعي ، و ذلك أن تجمع حروف الدور الأول و هو تسعة لسلطان البرج و هو أربعة تبلغ ثلاثة عشر ، أضعفها يمثلها تكون ستة و عشرين ، أسقط منها درج الطالع وهو واحد في هذا السؤال الباقي خمسة و عشرون .
فعلى ذلك يكون نظم الحروف الأول ، ثم ثلاثة و عشرون مرتين ، ثم إثنان و عشرون مرتين ، على حسب هذا الطرح إلى أن ينتهي للواحد من آخر البيت المنظوم . و لا تقف على أربعة و عشرين لطرح ذلك الواحد أولا . ثم ضع الدور الثاني و أضف حروف الدور الأول إلى ثمانية ، الخارجة من ضرب الطالع و الدور في السلطان تكن سبعة عشر الباقي خمسة . فاصعد في ضلع ثمانيه بخمسة من حيث انتهيت في الدور الأول و علم عليه ، و أدخل في صدر الجدول بسبعة عشر ، ثم بخمسة . و لا تعد الخالي ، و الدور عشرون ، فوجدنا حرف ثاء خمسمائة ، و إنما هو نون لأن دورنا في مرتبة العشرات ، فكانت الخمسمائة بخمسين لأن دورها سبعة عشر فلو لم تكن سبعة عشر لكانت مئين . فأثبت نونا ثم أدخل بخمسة أيضا من أوله . و انظر ما حاذى ذلك من السطح تجد واحدا ، فقهقر العدد واحدا يقع على خمسة ، أضف لها واحدا لسطح تكن ستة . أثبت واوا و علم عليها من بيت القصيد أربعة ، و أضفها للثمانية الخارجة من ضرب الطالع مع الدور في السلطان تبلغ اثني عشر ، أضف لها الباقي من الدور الثاني و هو خمسة تبلغ سبعة عشر ، و هو ما للدور الثاني . فدخلنا بسبعة عشر في حروف الأوتار ، فوقع العدد على واحد . أثبت الأول و علم عليها من بيت القصيد و أسقط من حروف الأوتار ثلاثة حروف عدة الخارج من الدور الثاني . و ضع الدور الثالث و أضف خمسة إلى ثمانية تكن ثلاثة عشر ، الباقي واحد . انقل الدور في ضلع ثمانية بواحد و أدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر ، و خذ ما وقع عليه العدد و هو ق و علم عليه . و أدخل بثلاثة عشر في حروف الأوتار و أثبت ما خرج ، و هو سين ، و علم عليه من بيت القصيد ، ثم أدخل مما يلي السين الخارجة بالباقي من دور ثلاثة عشر و هو واحد ، فخذ مما يلى حرف سين من الأوتار فكان ب أثبتها و علم عليها من بيت القصيد . و هذا يقال له : الدور المعطوف ، و ميزانه صحيح . و هو أن تضعف ثلاثة عشر بمثلها ، و تضيف إليها الواحد الباقي من الدور . تبلغ سبعة و عشرين . و هو حرف باء المستخرج من الأوتار من بيت القصيد . و أدخل في صدر الجدول بثلاثة عشر ، و انظر ما قابله من السطح و أضعفه بمثله ، و زد عليه الواحد الباقي من ثلاثة عشر ، فكان حرف جيم ، و كانت للجملة سبعة ، فذلك حرف زاي فأثبتناه و علمنا عليه من بيت القصيد . و ميزانه أن تضعف السبعة بمثلها و زد عليها الواحد الباقي هن ثلاثة عشر يكن خمسة عشر ، و هو الخامس عشر من بيت القصيد و هذا آخر أدوار الثلاثيات و ضع الدور الرابع و له من العدد تسعة بإضافة الباقي من الدور السابق ، فاضرب الطالع مع الدور في السلطان ، و هذا الدور آخر العمل في البيت الأول من الرباعيات .
فاضرب على حرفين من الأوتار و اصعد يتسعة في ضلع ثمانية و أدخل بتسعة من دور الحرف الذي أخذته آخرا من بيت القصيد ، فالتاسع حرف راء ، فأثبته و علم عليه . و أدخل في صدر الجدول بتسعة و انظر ما قابلها من السطح يكون ج ، قهقر العدد واحدا يكون ألف و هو الثاني من حرف الراء من بيت القصيد فأثبته و علم عليه . و عد مما يلي الثاني تسعة يكون ألف أيضا أثبته و علم عليه و أضرب على حرف من الأوتار ، و أضعف تسعة يمثلها تبلغ ثمانية عشر ، أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء ، أثبتها و علم عليها من بيت القصيد ثمانية و أربعين . و أدخل بثمانية عشر في حروف الأوتار تقف على س أثيتها و علم عليها اثنين . و أضعف اثنين إلى تسعة تكون أحد عشر . أدخل في صدر الجدول بأحد عشر تقابلها من السطح ألف أثبتها و علم عليها ستة ، و ضع الدور الخامس و عدته سبعة عشر الباقي خمسة . اصعد بخمسة في ضلع ثمانية و اضرب على حرفين من الأوتار و أضعف خمسة بمثلها ، و أضفها إلى سبعة عشر عدد دورها الجملة سبعة و عشرون ، أدخل بها في حروف الأوتار تقع على ب أثبتها و علم عليها اثنين وثلاثين و اطرح من سبعة عشر اثنين التي هي في أس اثنين و ثلاثين الباقي خمسة عشر . أدخل في حروف الأوتار تقف على ق أثبتها و علم عليها ستة و عشرين . و أدخل في صدر الجدول بست و عشرين تقف على اثنين بالغبار و ذلك حرف ب أثبته و علم عليه أربعة و خمسين ، و أضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور السادس ، و عدته ثلاثة عشر . الباقي منة واحد ، فتبين إذ ذاك أن دور النظم من خمسة و عشرين ، فإن الأدوار خمسة و عشرون و سبعة عشر و خمسة و ثلاثة عشر و واحد ، فاضرب خمسة في خمسة تكن خمسة و عشرين ، و هو الدور في نظم البيت ، فانقل الدور في ضلع ثمانية بواحد . و لكن لم يدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر كما قدمناه ، لأنة دور ثاني من نشأة تركيبية ثانية ، بل أضفنا الأربعة التي من أربعة و خمسين الخارجة على حروف ب من بيت القصيد إلى الواحد تكون خمسة ، تضييف خمسة إلى ثلاثة عشر التي للدور تبلغ ثمانية عشر . أدخل بها في صدر الجدول و خذ ما قابلها من السطح و هو ألف أثبته و علم عليه من بيت القصيد اثني عشر و اضرب على حرفين من الأوتار . و من هذا الجدول تنظر أحرف السؤال ، فما خرج منها زده مع بيت القصيد من آخره و علم عليه من حروف السؤال ليكون داخلا في العدد في بيت القصيد . و كذلك تفعل بكل حرف بعد ذلك مناسبا لحروف السؤال ، فما خرج منها زده إلى بيت القصيد من آخر و علم عليه . ثم أضف إلى ثمانية عشر ما علمته على حرف الألف من الآحاد ، فكان اثنين تبلغ الجملة عشرين . أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء ، أثبته و علم عليه من بيت القصيد ، ستة و تسعين و هو نهاية الدور في الحرف الوتري . فاضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور السابع . و هو ابتداء لمخترع ثان ينشأ من الإختراعين . و لهذا الدور من العدد تسعة ، تضيف لها واحدا تكون عشرة للنشأة الثانية ، و هذا الواحد تزيده بعد إلى اثني عشر دورا ، إذا كان من هذه النسبة ، أو تنقصه من الأصل تبلغ الجملة خمسة عشر . فاصعد في ضلع ثمانية و تسعين و أدخل في صدر الجدول بعشرة تقف على خمسمائة ، و إنما هي خمسون ، نون مضاعفة بمثلها ، و تلك ق أثبتها و علم عليها من بيت القصيد اثنين و خمسين ، و أسقط من اثنين و خمسين اثنين ، و أسقط تسعة التي للدور ، الباقي واحد و أربعون ، فأدخل بها في حروف الأوتار تقف على واحد أثبته . و كذلك أدخل بها في بيت القصيد تجد واحدا ، فهذا ميزان هذه النشأة الثانية فعلم عليه من بيت القصيد علامتين . علامة على الألف الأخير الميزاني ، و أخرى على الألف الأولى فقط ، و الثانية أربعة و عشرون و اضرب على حرفين من الأوتار ، و ضع الدور الثامن و عدته سبعة عشر الباقي خمسة ، أدخل في ضلع ثمانية و خمسين و أدخل في بيت القصيد بخمسة تقع على عين بسبعين ، أثبتها و علم عليها . و أدخل في الجدول بخمسة ، و خذ ما قابلها من السطح . و ذلك واحد ، أثبته و علم عليه من البيت ثمانية و أربعين ، و أسقط واحدا من ثمانية و أربعين للأس الثاني و أضف إليها خمسة ، الدور . الجملة اثنان و خمسون . أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف ب غبارية و هي مرتبة مئينية لتزايد العدد ، فتكون مائتين و هي حرف راء ، أثبتها و علم عليها من القصيد أربعة و عشرين ، فانتقل الأمر من ستة و تسعين إلى الابتداء و هو أربعة و عشرون ، فأضف إلى أربعة و عشرين خمسة ، الدور ، و أسقط واحدا تكون الجملة ثمانية و عشرين . أدخل بالنصف منها في بيت القصيد تقف على ثمانية ، أثبت و علم عليها و ضع الدور التاسع ، و عدده ثلاثة عشر الباقي واحد . إصعد في ضلع ثمانية بواحد . و ليست نسبة العمل هنا كنسبتها في الدور السادس لتضاعف العدد ، و لأنه من النشأة الثانية ، و لأنه أول الثلث الثالث من مربعات البروج و آخر الستة الرابعة من المثلثات . فاضرب ثلاثة عشر التي للدور في أربعة التي هي مثلثات البروج السابقة ، الجملة اثنان و خمسون ، أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف اثنين غبارية ، و إنما هي مئينية لتجاوزها في العدد عن مرتبتي الآحاد و العشرات ، فأثبته مائتين راء . و علم عليها من بيت القصيد ثمانية و أربعين ، و أضف إلى ثلاثة عشر ، الدور ، واحد الأس ، و أدخل بأربعة عشر في بيت القصيد تبلغ ثمانية ، فعلم عليها ثمانية و عشرين ، و اطرح من أربعة عشر سبعة يبقى سبعة إضرب على حرفين من الأوتار ، و أدخل بسبعة تقف على حرف لام ، أثبته و علم عليه من البيت . و ضع الدور العاشر و عدده تسعة ، و هذا ابتداء المثلثة الرابعة ، و اصعد في ضلع ثمانية بتسعة ، تكون خلاء ، فاصعد بتسعة ثانية تصير في السابع من الابتداء . اضرب تسعة في أربعة لصعودنا بتسعتين ، و إنما كانت تضرب في اثنين . و أدخل في الجدول بستة و ثلاثين تقف على أربعة زمامية و هي عشرية ، فأخذناها أحادية لقلة الأدوار . فأثبت حرف دال ، و إن أضفت إلى ستة و ثلاثين واحد الأس كان حدها من بيت القصيد . فعلم عليها ، و لو دخلت بالتسعة لا غير من ضرب في صدر الجدول لوقف على ثمانية . فاطرح من ثمانية أربعة الباقي أربعة و هو المقصود . و لو دخلت في صدر الجدول بثمانية عشر التي هي تسعة في اثنين لوقف على واحد زمامي و هو عشري . فاطرح منه اثنين تكرار التسعة ، الباقي ثمانية نصفها المطلوب . و لو دخلت في صدر الجدول بسبعة و عشرين بضربها في ثلاثة لوقعت على عشرة زمامية ، و العمل واحد . ثم أدخل بتسعة في بيت القصيد و أثبت ما خرج و هو ألف ، ثم اضرب تسعة في ثلاثة التي هي مركب تسعة الماضية و أسقط واحدا و أدخل في صدر الجدول بستة و عشرين ، و أثبت ما خرج و هو مائتان بحرف راء و علم عليه من بيت القصيد ستة و تسعين . و اضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور الحادي عشر و له سبعة عشر الباقي خمسة ، إصعد في ضلع ثمانية بخمسة و تحسب ما تكرر عليه المشي في الدور الأول ، و أدخل في صدر الجدول بخمسة تقف على خال ، فخذ ما قابله من السطح و هو واحد ، فادخل بواحد في بيت القصيد تكن سين ، أثبته و علم عليه أربعة . و لو يكون الوقف في الجدول على بيت عامر لأثبتنا الواحد ثلاثة . و أضعف سبعة عشر بمثلها و أسقط واحدا و أضعفها بمثلها و زدها أربعة تبلغ سبعة و ثلاثين ، أدخل بها في الأوتار تقف على ستة أثبتها و علم عليها ، و أضعف خمسة بمثلها . و أدخل في البيت تقف على لام أثبتها و علم عليها عشرين ، و اضرب على حرفين من الأوتار . و ضع الدور الثاني عشر و له ثلاثة عشر الباقي واحد ، إصعد في ضلع ثمانية بواحد ، و هذا الدور آخر الأدوار و آخر الإختراعين و آخر المربعات الثلاثية و آخر المثلثات الرباعية . و الواحد في صدر الجدول يقع على ثمانين زمامية ، و إنما هي آحاد ثمانية ، و ليس معنا من الأدوار إلا واحد ، فلو زاد عن أربعة من مربعات اثني عشر أو ثلاثة من مثلثات اثني عشر لكانت ح ، و إنما هي د ، فأثبتها و علم عليها من بيت القصيد أربعة و سبعين ، ثم انظر ما ناسبها من السطح تكن خمسة ، أضعفها بمثلها للأس تبلغ عشرة ، أثبت ى و علم عليها ، و انظر في أي المراتب وقعت : وجدناها في الرابعة . دخلنا بسبعة في حروف الأوتار ، و هذا المدخل يسمى التوليد الحرفي فكانت ف ، أثبتها وأضف إلى سبعة واحد الدور ، الجملة ثمانية . أدخل بها في الأوتار تبلغ س أثبتها و علم عليها ثمانية ، و اضرب ثمانية في ثلاثة الزائدة على عشرة الدور ، فإنها أخر مربعات الأدوار بالمثلثات تبلغ أربعة و عشرين ، أدخل بها في بيت القصيد وعلم على ما يخرج منها و هو مائتان و علامتها ستة و تسعون . و هو نهاية الدور الثاني في الأدوار الحرفية ، و اضرب على حرفين من الأوتار و ضع النتيجة الأولى و لها تسعة . و هذا العدد يناسب أبدا الباقي من حروف الأوتار بعد طرحها أدوارا و ذلك تسعة ، فاضرب تسعة في ثلاثة التي هي زائدة على تسعين من حروف الأوتار ، و أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ ثمانية و عشرين ، فأدخل بها في حروف الأوتار تبلغ ألفا ، أنبته و علم عليه ستة و تسعين . و إن ضربت سبعة التي هي أدوار الحروف التسعينية في أربعة و هي الثلاثة الزائدة على تسعين . و الواحد الباقي من الدور الثاني عشر كان كذلك ، و اصعد في ضلع ثمانية يتسعة و أدخل في الجدول بتسعة تبلغ اثنين زمامية . و اضرب تسعة فيما ناسب من السطح ، و ذلك ثلاثة ، و أضف لذلك سبعة ، عدد الأوتار الحرفية ، و اطرح واحدا الباقي من دور اثني عشر تبلغ ثلاثة و ثلاثين ، أدخل بها في البيت تبلغ خمسة . فأثبتها و أضف تسعة بمثلها و أدخل في صدر الجدول بثمانية عشر ، و خذ ما في السطح و هو واحد ، أدخل به في حروف الأوتار تبلغ م أثبته و علم عليه ، و اضرب على حرفين من الأوتار . و ضع النتيجة الثانية و لها سبعة عشر الباقي خمسة ، فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة و اضرب خمسة في ثلاثة الزائدة على تسعين تبلغ خمسة عشر ، أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تكن تسعة ، و أدخل بستة عشرفي بيت القصيد تبلغ ت أثبته و علم عليه أربعة و ستين . و أضف إلى خمسة الثلاثة الزائدة على تسعين . و زد واحدا الباقي من الدور الثاني عشر يكن تسعة . أدخل بها في صدر الجدول تبلغ ثلاثين زمامية ، و انظر ما في السطح تجد واحدا أثبته و علم عليه من بيت القصيد و هو التاسع أيضا من البيت . و أدخل بتسعة في صدر الجدول تقف على ثلاثة و هي عشرات . فأثبت لام و علم عليه و ضع النتيجة الثالثة و عددها ثلاثة عشر الباقي واحد . فانقل في ضلع ثمانية بواحد و أضف إلى ثلاثة عشر الثلاثة الزائدة على التسعين . و واحد الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ سبعة عشر ، و واحد النتيجة تكن ثمانية عشر . أدخل بها في حروف الأوتار تكن لاما أثبتها فهذا آخر العمل .
و المثال في هذا السؤال السابق : أردنا أن نعلم أن هذه الزايرجة علم محدث أو قديم ، بطالع أول درجة من القوس ، أثبتنا حروف الأوتار ، ثم حروف السؤال . ثم الأصول ، و هي عدة الحروف ثلاثة و تسعون أدوارها سبعة الباقي منها تسعة ، الطالع واحد ، سلطان القوس أربعة ، الدور الأكبر واحد ، درج الطالع مع الدور اثنان ، ضرب الطالع مع الدور في السلطان ثمانية ، إضافة السلطان للطالع خمسة بيت القصيد .
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
حروف الأوتار : ص ط ه رث ك هـ م ص ص و ن ب هـ س ا ن ل م ن ص ع ف ص و رس ك ل م ن ص ع ف ض ق ر س ت ث خ ذ ظ غ ش ط ى ع ح ص ر و ح ر و ح ل ص ك ل م ن ص ا ب ج د ه و ز ح ط ى .
حروف السؤال ا ل زا ى رج ة ع ل م م ح د ث ا م ق د ى م الدورالأول 19 الدور الثاني 17 الباقي 5 الدور الثالث 13 الباقي 1 الدور الرا بع 9 الدور الخامس 17 الباقي 5 الدور السادس 13 الباقي 1 الدور السابع 9 الدور الثامن 17 الباقي 5 الدور التاسع 13 الباقي 1 الدور العاشر 13 الدور الحادي عشر 17 الباقي 5 الدور الثاني عشر 13 الباقي 1 النتيجة الأولى 9 النتيجة الثانية 17 الباقي 5 النتيجة الثالثة 13 الباقي 1 . دورها على خمسة و عشرين ثم على ثلاثة و عشرين مرتين ثم على واحد و عشرين مرتين إلى أن تنتهي إلى الواحد من آخر البيت و تنقل الحروف جميعا و الله أعلم ن ف ر و ح ر و ح ا ل و د س ا د ر ر س ر ه ا ل د ر ى س و ا ن س د ر و ا ب لا ا م ر ب و ا ا ل ع ل ل .
هذا آخر الكلام في استخراج الأجوبة من زايرجة العالم منظومة . و للقوم طرائق أخرى من غير الزايرجة يستخرجون بها أجوبة المسائل غير منظومة . و عندهم أن السر في استخراج الجواب منظوما من الزايرجة ، إنما هو مزجهم بيت مالك بن وهيب و هو : سؤال عظيم الخلق البيت ، و لذلك يخرج الجواب على رويه . و أما الطرق الأخرى فيخرج الجواب غير منظوم . فمن طرائقهم في استخراج الأجوبة ما ننقله عن بعض المحققين منهم .
فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية
إعلم أرشدنا الله و إياك أن هذه الحروف أصل الأسئلة في كل قضية ، و إنما تستنتج الأجوبة على تجزئته بالكلية ، و هي ثلاثة و أربعون حرفا كما ترى و الله علام الغيوب ا و ل ا ع ظ س ا ل م خ ى د ل ز ق ت ا ر ذ ص ف ن غ ق ش ا ك ك ى ب م ض ب ح ط ل ج ه د ن ل ث ا .
و قد نظمها بعض الفضلاءفي بيت جعل فيه كل حرف مشدد من حرفين و سماه القطب فقال :
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
فإذا أردت استنتاج المسئلة فاحذف ما تكرر من حروفها و أثبت ما فضل منه . ثم احذف من الأصل و هو القطب لكل حرف فضل من المسألة حرفا يماثله ، و أثبت ما فضل منه . ثم امزج الفضلين في سطر واحد تبدأ بالأول من فضله . و الثاني من فضل المسئلة . و هكذا إلى أن يتم الفضلان أو ينفد أحدهما قبل الآخر ، فتضع البقية على ترتيبها . فإذا كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج موافقا لعدد حروف الأصل قبل الحذف فالعمل صحيح ، فحينئذ تضيف إليها خمس نونات لتعدل بها الموازين الموسيقية و تكمل الحروف ثمانية و أربعين حرفا . فتعمر بها جدولا مربعا يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني . و تنقل البقية على حالها . و هكذا إلى أن تتم عمارة الجدول . و يعود السطر الأول بعينه و تتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة ، ثم تخرج وتر كل حرف بقسمة مربعة على أعظم جزء يوجد له ، و تضع الوتر مقابلا لحرفه . ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية ، و تعرف قوتها الطبيعية و موازينها الروحانية و غرائزها النفسانية و أسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك ، و هذه صورته :
ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة ، و احذر ما يلي الأوتاد و كذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة . و هذا الخارج هو أول رتب السريان . ثم تأخذ مجموع العناصر و تحط منها أسوس المولدات ، يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية ، فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد و هي عناصر الأمداد ، يخرج أفق النفس الأوسط ، و تطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط . و هذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة . ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى ، فتحمل عليه أول رتب السريان ، ثم تطرح من الرابع أول عناصر الأمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان ، فتضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع مرتبة السريان ، يخرج أول عالم التفصيل ، و الثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل ، و الثالث في الثالث يخرج ثالث عالم التفصيل ، و الرابع في الرابع يخرج رابع عالم التفصيل . فتجمع عوالم التفصيل و تحط من عالم الكل . تبقى العوالم المجردة ، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول . و يقسم المنكسر على الأفق الأوسط يخرج الجزء الثاني ، و ما انكسر فهو الثالث . و يتعين الرابع هذا في الرباعي . و إن شئت أكثر من الرباعي فتستكثر من عوالم التفصيل و من رتب السريان و من الأوفاق بعد الحروف . و الله يرشدنا و إياك . و كذلك إذا قسم عالم التجريد على أول رتب السريان خرج الجزء الأول من عالم التركيب ، و كذلك إلى نهاية الرتبة الأخيرة من عالم الكون . فافهم و تدبر و الله المرشد المعين .
و من طريقهم أيضا في استخراج الجواب ، قال بعض المحققين منهم : اعلم أيدنا الله و إياك بروج منه ، أن علم الحروف جليل يتوصل العالم به لما لا يتوصل بغيره من العلوم المتداولة بين العالم . و للعمل به شرائط تلتزم . و قد يستخرج العالم أسرار الخليقة و سرائر الطبيعة ، فيطلع بذلك على نتيجتي الفلسفة ، أعني السيميا و أختها . و يرفع له حجاب المجهولات و يطلع بذلك على مكنون خبايا القلوب . و قد شهدت جماعة بأرض المغرب ممن اتصل بذلك ، فأظهر الغرائب و خرق العوائد و تصرف في الوجود بتأييد الله .
و اعلم أن ملاك كل فضيلة الاجتهاد و حسن الملكة مع الصبر . مفتاح كل خير ، كما أن الخرق و العجلة رأس الحرمان ، فأقول : إذا أردت أن تعلم قوة كل حرف من حروف الفابيطوس أعني أبجد إلى آخر العدد ، و هذا أول مدخل من علم الحروف ، فانظر ما لذلك الحرف من الأعداد ، فتلك الدرجة التي هي مناسبة للحرف هي قوته في الجسمانيات . ثم اضرب العدد في مثله تخرج لك قوته في الروحانيات و هي وتره . و هذا في الحروف المنقوطة لا يتم بل يتم لغير المنقوطة ، لأن المنقوطة منها مراتب لمعان يأتي عليها البيان فيما بعد .
و اعلم أن لكل شكل من أشكال الحروف شكلا في العالم العلوي أعني الكرسي ، و منها المتحرك و الساكن و العلوي و السفلي كما هو مرقوم في أماكنه من الجداول الموضوعة في الزيارج .
و اعلم أن قوى الحروف ثلاثة أقسام : الأول و هو أقلها قوة تظهر بعد كتابتها ، فتكون كتابته لعالم روحاني مخصوص بذلك الحرف المرسوم ، فمتى خرج ذلك الحرف بقوة نفسانية و جمع همة كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام . الثاني قوتها في الهيئة الفكرية و ذلك ما يصدر عن تصريف الروحانيات لها ، فهي قوة في الروحانيات العلويات ، و قوة شكلية في عالم الجسمانيات . الثالث و هو يجمع الباطن ، أعني القوة النفسانية على تكوينه ، فتكون قبل النطق به صورة في النفس ، بعد النطق به صورة في الحروف و قوة في النطق .
و أما طبائعها فهي الطبيعيات المنسوبة للمتولدات في الحروف و هي الحرارة و اليبوسة ، و الحرارة و الرطوبة و البرودة و اليبوسة و البرودة و الرطوبة ، فهذا سر العدد اليماني ، و الحرارة جامعة للهواء و النار و هما : ا هـ ط م ف ش ذ ج ز ك س ق ث ظ ، و البرودة جامعة للهواء و الماء ب و ى ن ص ت ض د ح ل ع ر خ غ ، و اليبوسة جامعة للنار و الأرض ا هـ ط م ف ش ذ ب و ى ن ص ت ض ، فهذه نسبة حروف الطبائع و تداخل أجزاء بعضها في بعض . و تداخل أجزاء العالم فيها علويات و سفليات بأسباب الأمهات الأول ، أعني الطبائع الأربع المنفردة ، فمتى أردت استخراج مجهول من مسئلة ما ، فحقق طالع السائل أو طالع مسئلته واستنطق حروف أوتارها الأربعة : الأول و الرابع و السابع و العاشر مستوية مرتبة ، و استخرج أعداد القوى و الأوتار كما سنبين ، و احمل و انسب و استنتج الجواب يخرج لك المطلوب ، إما بصريح اللفظ أو بالمعنى . و كذلك في كل مسئلة تقع لك . بيانه : إذا أردت أن تستخرج قوى حروف الطالع . مع اسم السائل والحاجة . فاجمع أعدادها بالجمل الكبير ، فكان الطالع الحمل رابعه السرطان سابعه الميزان عاشره الجدي . و هو أقوى هذه الأوتاد . فاسقط من كل برج حرفي التعريف . و انظر ما يخص كل برج من الأعداد المنطقة الموضوعة في دائرتها ، و احذف أجزاء الكسر في النسب الإستنطاقية كلها و أثبت تحت كل حرف ما يخصه من ذلك ، ثم أعداد حروف العناصر الأربعة و ما يخصها كالأول . و ارسم ذلك كله أحرفا و رتب الأوتاد و القوى و القرائن سطرا ممتزجا . و كسر و اضرب ما يضرب لاستخراج الموازين . و اجمع و استنتج الجواب يخرج لك الضمير و جوابه . مثاله افرض أن الطالع الحمل كما تقدم . ترسم ح م ل : فللحاء من العدد ثمانية لها النصف و الربع و الثمن د ب ا الميم لها من العدد أربعون . لها النصف و الربع و الثمن و العشر و نصف العشر إذا أردت التدقيق م ك ى ه د ب ، اللام لها من العدد ثلاثون ، لها النصف و الثلثان و الثلث و الخمس و السدس و العشر ك ى و هـ ج . و هكذا تفعل بسائر حروف المسئلة و الاسم من كل لفظ يقع لك . و أما استخراج الأوتار فهو أن تقسم مربع كل حرف على أعظم جزء يوجد له . مثاله : حرف د له من الأعداد أربعة مربعها ستة عشر . إقسمها على أعظم جزء يوجد لها و هو اثنان يخرج وترا لدال ثمانية . ثم تضع كل وتر مقابلا لحرفه . ثم تستخرج النسب العنصرية ، كما تقدم في شرح الاستنطاق . و لها قاعدة تطرد في استخراجها من طبع الحروف و طبع البيت الذي يحل فيه من الجدول كما ذكر الشيخ لمن عرف الاصطلاح . و الله أعلم .
فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية بالقوانين الحرفية
و ذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علته . و ما الموافق لبرئه منه ، فمر السائل أن يسمي ما شاء من الأشياء على اسم العلة المجهولة ، لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك . ثم استنطق الاسم مع اسم الطالع و العناصر و السائل و اليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسئلة ، و إلا اقتصرت على الاسم الذي سماه السائل . و فعلت به كما نبين . فأقول مثلا : سمى السائل فرسا فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة . بيانه : أن للفاء من العدد ثمانين و لها م ك ي ح ب ، ثم الراء لها من العدد مائتان ق ن ك ى ثم السين لها من العدد ستون و لها م ل ك فالواو عدد تام له د جـ ب ، و السين مثله و لها م ل ك . فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين ، فاحكم لأكثرهما حروفا بالغلبة على الآخر ، ثم احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب و حروفه دون بسط . و كذلك اسم الطالب و احكم للأكثر و الأقوى بالغلبة .
و صفة قوى إستخراج العناصر
فتكون الغلبة هنا للتراب و طبعه البرودة . و اليبوسة طبع السوداء ، فتحكم على المريض بالسوداء . فإذا ألفت من حروف الإستنطاق كلاما على نسبة تقريبية خرج موضع الوجع في الحلق ، و يوافقه من الأدوية حقنة و من الأشربة شراب الليمون . هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس و هو مثال تقريبي مختصر . و أما استخراج قوى العناصر من الأسماء العلمية فهو أن تسمي مثلا محمدا ، فترسم أحرفه مقطعة . ثم تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك ، يخرج لك ما في كل عنصر من الحروف و العدد . و مثاله :
فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء ، لأن عدد حروفه عشرون حرفا ، فجعلت له الغلبة على بقية عناصر الاسم المذكور . و هكذا يفعل بجميع الأسماء . حينئذ تضاف إلى أوتارها ، أو للوتر المنسوب للطالع في الزايرجة ، أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب . الذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة و هو هذا :
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا و هو وتر مشهور لاستخراج المجهولات ، و عليه كان يعتمد ابن الرقام و أصحابه . و هو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعية . وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطعا ممتزجا بألفاظ السؤال على
فأول ذلك نفرض سؤالا عن الزايرجة ، هل هي علم قديم ، أو محدث بطالع أول درجة من القوس أثناء حروف الأوتار ؟ ثم حروف السؤال . فوضعنا حروف وتر رأس القوس و نظيره من رأس الجوزاء . و ثالثه و تر رأس الدلو إلى حد المركز ، و أضفنا إليه حروف السؤال ، و نظرنا عدتها و أقل ما تكون ثمانية و ثمانين ، و أكثر ما تكون ستة و تسعين ، و هي جملة الدور الصحيح ، فكانت في سؤالنا ثلاثة و تسعين . و يختصر السؤال إن زاد عن ستة و تسعين ، بأن يسقط جميع أدواره الاثني عشرية ، و يحفظ ما خرج منها و ما بقي ، فكانت في سؤالنا سبعة أدوار ، الباقي تسعة ، أثبتها في الحروف ما لم يبلغ الطالع اثنتي عشرة درجة ، فإن بلغها لم تثبت لها عدة و لا دور .
ثم تثبت أعدادها أيضا إن زاد الطالع عن أربعين و عشرين في الوجه الثالث ، ثم تثبت الطالع و هو واحد ، و سلطان الطالع و هو أربعة ، و الدور الأكبر و هو واحد ، و اجمع ما بين الطالع و الدور و هو اثنان في هذا السؤال ، و اضرب ما خرج منهما في سلطان البرج يبلغ ثمانية ، و أضف السلطان للطالع فيكون خمسة ، فهذه سبعة أصول . فما خرج من ضرب الطالع و الدور الأكبر في سلطان القوس ، مما لم يبلغ اثني عشر فيه تدخل في ضلع ثمانية من أسفل الجدول صاعدا ، و إن زاد على اثني عشر طرح أدوارا ، و تدخل بالباقي في ضلع ثمانية ، و تعلم على منتهى العدد و الخمسة المستخرجة من السلطان و الطالع ، يكون الطالع في ضلع السطح المبسوط الأعلى من الجدول ، و تعد متواليا خمسات أدوارا ، و تحفظها إلى أن يقف العدد على حرف من أربعة ، و هي ألف أو باء أو جيم أو زاي . فوقع العدد في عملنا على حرف الألف و خلف ثلاثة أدوار ، فضربنا ثلاثة في ثلاثين كانت تسعة . و هو عدد الدور الأول . فأثبته و اجمع ما بين الضلعين : القائم و المبسوط يكن في بيت ثمانية في مقابلة البيوت العامرة بالعدد من الجدول ، و إن وقف في مقابلة الخالي من بيوت الجدول على أحدها . فلا يعتبر و تستمر على أدوارك . و أدخل يعدد ما في الدور الأول ، و ذلك تسعة في صدر الجدول مما يلي البيت الذي اجتمعا فيه . و هي ثمانية ، مارا إلى جهة اليسار ، فوقع على حرف لام ألف و لا يخرج منها أبدا حرف مركب . و إنما هو إذن حرف تاء أربعمائة برسم الزمام ، فعلم عليها بعد نقلها من بيت القصيد ، و اجمع عدد الدور للسلطان يبلغ ثلاثة عشر ، أدخل بها في حروف الأوتار ، و أثبت ما وقع عليه العدد و علم عليه من بيت القصيد . و من هذا القانون تدري كم تدور الحروف في النظم الطبيعي ، و ذلك أن تجمع حروف الدور الأول و هو تسعة لسلطان البرج و هو أربعة تبلغ ثلاثة عشر ، أضعفها يمثلها تكون ستة و عشرين ، أسقط منها درج الطالع وهو واحد في هذا السؤال الباقي خمسة و عشرون .
فعلى ذلك يكون نظم الحروف الأول ، ثم ثلاثة و عشرون مرتين ، ثم إثنان و عشرون مرتين ، على حسب هذا الطرح إلى أن ينتهي للواحد من آخر البيت المنظوم . و لا تقف على أربعة و عشرين لطرح ذلك الواحد أولا . ثم ضع الدور الثاني و أضف حروف الدور الأول إلى ثمانية ، الخارجة من ضرب الطالع و الدور في السلطان تكن سبعة عشر الباقي خمسة . فاصعد في ضلع ثمانيه بخمسة من حيث انتهيت في الدور الأول و علم عليه ، و أدخل في صدر الجدول بسبعة عشر ، ثم بخمسة . و لا تعد الخالي ، و الدور عشرون ، فوجدنا حرف ثاء خمسمائة ، و إنما هو نون لأن دورنا في مرتبة العشرات ، فكانت الخمسمائة بخمسين لأن دورها سبعة عشر فلو لم تكن سبعة عشر لكانت مئين . فأثبت نونا ثم أدخل بخمسة أيضا من أوله . و انظر ما حاذى ذلك من السطح تجد واحدا ، فقهقر العدد واحدا يقع على خمسة ، أضف لها واحدا لسطح تكن ستة . أثبت واوا و علم عليها من بيت القصيد أربعة ، و أضفها للثمانية الخارجة من ضرب الطالع مع الدور في السلطان تبلغ اثني عشر ، أضف لها الباقي من الدور الثاني و هو خمسة تبلغ سبعة عشر ، و هو ما للدور الثاني . فدخلنا بسبعة عشر في حروف الأوتار ، فوقع العدد على واحد . أثبت الأول و علم عليها من بيت القصيد و أسقط من حروف الأوتار ثلاثة حروف عدة الخارج من الدور الثاني . و ضع الدور الثالث و أضف خمسة إلى ثمانية تكن ثلاثة عشر ، الباقي واحد . انقل الدور في ضلع ثمانية بواحد و أدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر ، و خذ ما وقع عليه العدد و هو ق و علم عليه . و أدخل بثلاثة عشر في حروف الأوتار و أثبت ما خرج ، و هو سين ، و علم عليه من بيت القصيد ، ثم أدخل مما يلي السين الخارجة بالباقي من دور ثلاثة عشر و هو واحد ، فخذ مما يلى حرف سين من الأوتار فكان ب أثبتها و علم عليها من بيت القصيد . و هذا يقال له : الدور المعطوف ، و ميزانه صحيح . و هو أن تضعف ثلاثة عشر بمثلها ، و تضيف إليها الواحد الباقي من الدور . تبلغ سبعة و عشرين . و هو حرف باء المستخرج من الأوتار من بيت القصيد . و أدخل في صدر الجدول بثلاثة عشر ، و انظر ما قابله من السطح و أضعفه بمثله ، و زد عليه الواحد الباقي من ثلاثة عشر ، فكان حرف جيم ، و كانت للجملة سبعة ، فذلك حرف زاي فأثبتناه و علمنا عليه من بيت القصيد . و ميزانه أن تضعف السبعة بمثلها و زد عليها الواحد الباقي هن ثلاثة عشر يكن خمسة عشر ، و هو الخامس عشر من بيت القصيد و هذا آخر أدوار الثلاثيات و ضع الدور الرابع و له من العدد تسعة بإضافة الباقي من الدور السابق ، فاضرب الطالع مع الدور في السلطان ، و هذا الدور آخر العمل في البيت الأول من الرباعيات .
فاضرب على حرفين من الأوتار و اصعد يتسعة في ضلع ثمانية و أدخل بتسعة من دور الحرف الذي أخذته آخرا من بيت القصيد ، فالتاسع حرف راء ، فأثبته و علم عليه . و أدخل في صدر الجدول بتسعة و انظر ما قابلها من السطح يكون ج ، قهقر العدد واحدا يكون ألف و هو الثاني من حرف الراء من بيت القصيد فأثبته و علم عليه . و عد مما يلي الثاني تسعة يكون ألف أيضا أثبته و علم عليه و أضرب على حرف من الأوتار ، و أضعف تسعة يمثلها تبلغ ثمانية عشر ، أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء ، أثبتها و علم عليها من بيت القصيد ثمانية و أربعين . و أدخل بثمانية عشر في حروف الأوتار تقف على س أثيتها و علم عليها اثنين . و أضعف اثنين إلى تسعة تكون أحد عشر . أدخل في صدر الجدول بأحد عشر تقابلها من السطح ألف أثبتها و علم عليها ستة ، و ضع الدور الخامس و عدته سبعة عشر الباقي خمسة . اصعد بخمسة في ضلع ثمانية و اضرب على حرفين من الأوتار و أضعف خمسة بمثلها ، و أضفها إلى سبعة عشر عدد دورها الجملة سبعة و عشرون ، أدخل بها في حروف الأوتار تقع على ب أثبتها و علم عليها اثنين وثلاثين و اطرح من سبعة عشر اثنين التي هي في أس اثنين و ثلاثين الباقي خمسة عشر . أدخل في حروف الأوتار تقف على ق أثبتها و علم عليها ستة و عشرين . و أدخل في صدر الجدول بست و عشرين تقف على اثنين بالغبار و ذلك حرف ب أثبته و علم عليه أربعة و خمسين ، و أضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور السادس ، و عدته ثلاثة عشر . الباقي منة واحد ، فتبين إذ ذاك أن دور النظم من خمسة و عشرين ، فإن الأدوار خمسة و عشرون و سبعة عشر و خمسة و ثلاثة عشر و واحد ، فاضرب خمسة في خمسة تكن خمسة و عشرين ، و هو الدور في نظم البيت ، فانقل الدور في ضلع ثمانية بواحد . و لكن لم يدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر كما قدمناه ، لأنة دور ثاني من نشأة تركيبية ثانية ، بل أضفنا الأربعة التي من أربعة و خمسين الخارجة على حروف ب من بيت القصيد إلى الواحد تكون خمسة ، تضييف خمسة إلى ثلاثة عشر التي للدور تبلغ ثمانية عشر . أدخل بها في صدر الجدول و خذ ما قابلها من السطح و هو ألف أثبته و علم عليه من بيت القصيد اثني عشر و اضرب على حرفين من الأوتار . و من هذا الجدول تنظر أحرف السؤال ، فما خرج منها زده مع بيت القصيد من آخره و علم عليه من حروف السؤال ليكون داخلا في العدد في بيت القصيد . و كذلك تفعل بكل حرف بعد ذلك مناسبا لحروف السؤال ، فما خرج منها زده إلى بيت القصيد من آخر و علم عليه . ثم أضف إلى ثمانية عشر ما علمته على حرف الألف من الآحاد ، فكان اثنين تبلغ الجملة عشرين . أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء ، أثبته و علم عليه من بيت القصيد ، ستة و تسعين و هو نهاية الدور في الحرف الوتري . فاضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور السابع . و هو ابتداء لمخترع ثان ينشأ من الإختراعين . و لهذا الدور من العدد تسعة ، تضيف لها واحدا تكون عشرة للنشأة الثانية ، و هذا الواحد تزيده بعد إلى اثني عشر دورا ، إذا كان من هذه النسبة ، أو تنقصه من الأصل تبلغ الجملة خمسة عشر . فاصعد في ضلع ثمانية و تسعين و أدخل في صدر الجدول بعشرة تقف على خمسمائة ، و إنما هي خمسون ، نون مضاعفة بمثلها ، و تلك ق أثبتها و علم عليها من بيت القصيد اثنين و خمسين ، و أسقط من اثنين و خمسين اثنين ، و أسقط تسعة التي للدور ، الباقي واحد و أربعون ، فأدخل بها في حروف الأوتار تقف على واحد أثبته . و كذلك أدخل بها في بيت القصيد تجد واحدا ، فهذا ميزان هذه النشأة الثانية فعلم عليه من بيت القصيد علامتين . علامة على الألف الأخير الميزاني ، و أخرى على الألف الأولى فقط ، و الثانية أربعة و عشرون و اضرب على حرفين من الأوتار ، و ضع الدور الثامن و عدته سبعة عشر الباقي خمسة ، أدخل في ضلع ثمانية و خمسين و أدخل في بيت القصيد بخمسة تقع على عين بسبعين ، أثبتها و علم عليها . و أدخل في الجدول بخمسة ، و خذ ما قابلها من السطح . و ذلك واحد ، أثبته و علم عليه من البيت ثمانية و أربعين ، و أسقط واحدا من ثمانية و أربعين للأس الثاني و أضف إليها خمسة ، الدور . الجملة اثنان و خمسون . أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف ب غبارية و هي مرتبة مئينية لتزايد العدد ، فتكون مائتين و هي حرف راء ، أثبتها و علم عليها من القصيد أربعة و عشرين ، فانتقل الأمر من ستة و تسعين إلى الابتداء و هو أربعة و عشرون ، فأضف إلى أربعة و عشرين خمسة ، الدور ، و أسقط واحدا تكون الجملة ثمانية و عشرين . أدخل بالنصف منها في بيت القصيد تقف على ثمانية ، أثبت و علم عليها و ضع الدور التاسع ، و عدده ثلاثة عشر الباقي واحد . إصعد في ضلع ثمانية بواحد . و ليست نسبة العمل هنا كنسبتها في الدور السادس لتضاعف العدد ، و لأنه من النشأة الثانية ، و لأنه أول الثلث الثالث من مربعات البروج و آخر الستة الرابعة من المثلثات . فاضرب ثلاثة عشر التي للدور في أربعة التي هي مثلثات البروج السابقة ، الجملة اثنان و خمسون ، أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف اثنين غبارية ، و إنما هي مئينية لتجاوزها في العدد عن مرتبتي الآحاد و العشرات ، فأثبته مائتين راء . و علم عليها من بيت القصيد ثمانية و أربعين ، و أضف إلى ثلاثة عشر ، الدور ، واحد الأس ، و أدخل بأربعة عشر في بيت القصيد تبلغ ثمانية ، فعلم عليها ثمانية و عشرين ، و اطرح من أربعة عشر سبعة يبقى سبعة إضرب على حرفين من الأوتار ، و أدخل بسبعة تقف على حرف لام ، أثبته و علم عليه من البيت . و ضع الدور العاشر و عدده تسعة ، و هذا ابتداء المثلثة الرابعة ، و اصعد في ضلع ثمانية بتسعة ، تكون خلاء ، فاصعد بتسعة ثانية تصير في السابع من الابتداء . اضرب تسعة في أربعة لصعودنا بتسعتين ، و إنما كانت تضرب في اثنين . و أدخل في الجدول بستة و ثلاثين تقف على أربعة زمامية و هي عشرية ، فأخذناها أحادية لقلة الأدوار . فأثبت حرف دال ، و إن أضفت إلى ستة و ثلاثين واحد الأس كان حدها من بيت القصيد . فعلم عليها ، و لو دخلت بالتسعة لا غير من ضرب في صدر الجدول لوقف على ثمانية . فاطرح من ثمانية أربعة الباقي أربعة و هو المقصود . و لو دخلت في صدر الجدول بثمانية عشر التي هي تسعة في اثنين لوقف على واحد زمامي و هو عشري . فاطرح منه اثنين تكرار التسعة ، الباقي ثمانية نصفها المطلوب . و لو دخلت في صدر الجدول بسبعة و عشرين بضربها في ثلاثة لوقعت على عشرة زمامية ، و العمل واحد . ثم أدخل بتسعة في بيت القصيد و أثبت ما خرج و هو ألف ، ثم اضرب تسعة في ثلاثة التي هي مركب تسعة الماضية و أسقط واحدا و أدخل في صدر الجدول بستة و عشرين ، و أثبت ما خرج و هو مائتان بحرف راء و علم عليه من بيت القصيد ستة و تسعين . و اضرب على حرفين من الأوتار و ضع الدور الحادي عشر و له سبعة عشر الباقي خمسة ، إصعد في ضلع ثمانية بخمسة و تحسب ما تكرر عليه المشي في الدور الأول ، و أدخل في صدر الجدول بخمسة تقف على خال ، فخذ ما قابله من السطح و هو واحد ، فادخل بواحد في بيت القصيد تكن سين ، أثبته و علم عليه أربعة . و لو يكون الوقف في الجدول على بيت عامر لأثبتنا الواحد ثلاثة . و أضعف سبعة عشر بمثلها و أسقط واحدا و أضعفها بمثلها و زدها أربعة تبلغ سبعة و ثلاثين ، أدخل بها في الأوتار تقف على ستة أثبتها و علم عليها ، و أضعف خمسة بمثلها . و أدخل في البيت تقف على لام أثبتها و علم عليها عشرين ، و اضرب على حرفين من الأوتار . و ضع الدور الثاني عشر و له ثلاثة عشر الباقي واحد ، إصعد في ضلع ثمانية بواحد ، و هذا الدور آخر الأدوار و آخر الإختراعين و آخر المربعات الثلاثية و آخر المثلثات الرباعية . و الواحد في صدر الجدول يقع على ثمانين زمامية ، و إنما هي آحاد ثمانية ، و ليس معنا من الأدوار إلا واحد ، فلو زاد عن أربعة من مربعات اثني عشر أو ثلاثة من مثلثات اثني عشر لكانت ح ، و إنما هي د ، فأثبتها و علم عليها من بيت القصيد أربعة و سبعين ، ثم انظر ما ناسبها من السطح تكن خمسة ، أضعفها بمثلها للأس تبلغ عشرة ، أثبت ى و علم عليها ، و انظر في أي المراتب وقعت : وجدناها في الرابعة . دخلنا بسبعة في حروف الأوتار ، و هذا المدخل يسمى التوليد الحرفي فكانت ف ، أثبتها وأضف إلى سبعة واحد الدور ، الجملة ثمانية . أدخل بها في الأوتار تبلغ س أثبتها و علم عليها ثمانية ، و اضرب ثمانية في ثلاثة الزائدة على عشرة الدور ، فإنها أخر مربعات الأدوار بالمثلثات تبلغ أربعة و عشرين ، أدخل بها في بيت القصيد وعلم على ما يخرج منها و هو مائتان و علامتها ستة و تسعون . و هو نهاية الدور الثاني في الأدوار الحرفية ، و اضرب على حرفين من الأوتار و ضع النتيجة الأولى و لها تسعة . و هذا العدد يناسب أبدا الباقي من حروف الأوتار بعد طرحها أدوارا و ذلك تسعة ، فاضرب تسعة في ثلاثة التي هي زائدة على تسعين من حروف الأوتار ، و أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ ثمانية و عشرين ، فأدخل بها في حروف الأوتار تبلغ ألفا ، أنبته و علم عليه ستة و تسعين . و إن ضربت سبعة التي هي أدوار الحروف التسعينية في أربعة و هي الثلاثة الزائدة على تسعين . و الواحد الباقي من الدور الثاني عشر كان كذلك ، و اصعد في ضلع ثمانية يتسعة و أدخل في الجدول بتسعة تبلغ اثنين زمامية . و اضرب تسعة فيما ناسب من السطح ، و ذلك ثلاثة ، و أضف لذلك سبعة ، عدد الأوتار الحرفية ، و اطرح واحدا الباقي من دور اثني عشر تبلغ ثلاثة و ثلاثين ، أدخل بها في البيت تبلغ خمسة . فأثبتها و أضف تسعة بمثلها و أدخل في صدر الجدول بثمانية عشر ، و خذ ما في السطح و هو واحد ، أدخل به في حروف الأوتار تبلغ م أثبته و علم عليه ، و اضرب على حرفين من الأوتار . و ضع النتيجة الثانية و لها سبعة عشر الباقي خمسة ، فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة و اضرب خمسة في ثلاثة الزائدة على تسعين تبلغ خمسة عشر ، أضف لها واحدا الباقي من الدور الثاني عشر تكن تسعة ، و أدخل بستة عشرفي بيت القصيد تبلغ ت أثبته و علم عليه أربعة و ستين . و أضف إلى خمسة الثلاثة الزائدة على تسعين . و زد واحدا الباقي من الدور الثاني عشر يكن تسعة . أدخل بها في صدر الجدول تبلغ ثلاثين زمامية ، و انظر ما في السطح تجد واحدا أثبته و علم عليه من بيت القصيد و هو التاسع أيضا من البيت . و أدخل بتسعة في صدر الجدول تقف على ثلاثة و هي عشرات . فأثبت لام و علم عليه و ضع النتيجة الثالثة و عددها ثلاثة عشر الباقي واحد . فانقل في ضلع ثمانية بواحد و أضف إلى ثلاثة عشر الثلاثة الزائدة على التسعين . و واحد الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ سبعة عشر ، و واحد النتيجة تكن ثمانية عشر . أدخل بها في حروف الأوتار تكن لاما أثبتها فهذا آخر العمل .
و المثال في هذا السؤال السابق : أردنا أن نعلم أن هذه الزايرجة علم محدث أو قديم ، بطالع أول درجة من القوس ، أثبتنا حروف الأوتار ، ثم حروف السؤال . ثم الأصول ، و هي عدة الحروف ثلاثة و تسعون أدوارها سبعة الباقي منها تسعة ، الطالع واحد ، سلطان القوس أربعة ، الدور الأكبر واحد ، درج الطالع مع الدور اثنان ، ضرب الطالع مع الدور في السلطان ثمانية ، إضافة السلطان للطالع خمسة بيت القصيد .
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
حروف الأوتار : ص ط ه رث ك هـ م ص ص و ن ب هـ س ا ن ل م ن ص ع ف ص و رس ك ل م ن ص ع ف ض ق ر س ت ث خ ذ ظ غ ش ط ى ع ح ص ر و ح ر و ح ل ص ك ل م ن ص ا ب ج د ه و ز ح ط ى .
حروف السؤال ا ل زا ى رج ة ع ل م م ح د ث ا م ق د ى م الدورالأول 19 الدور الثاني 17 الباقي 5 الدور الثالث 13 الباقي 1 الدور الرا بع 9 الدور الخامس 17 الباقي 5 الدور السادس 13 الباقي 1 الدور السابع 9 الدور الثامن 17 الباقي 5 الدور التاسع 13 الباقي 1 الدور العاشر 13 الدور الحادي عشر 17 الباقي 5 الدور الثاني عشر 13 الباقي 1 النتيجة الأولى 9 النتيجة الثانية 17 الباقي 5 النتيجة الثالثة 13 الباقي 1 . دورها على خمسة و عشرين ثم على ثلاثة و عشرين مرتين ثم على واحد و عشرين مرتين إلى أن تنتهي إلى الواحد من آخر البيت و تنقل الحروف جميعا و الله أعلم ن ف ر و ح ر و ح ا ل و د س ا د ر ر س ر ه ا ل د ر ى س و ا ن س د ر و ا ب لا ا م ر ب و ا ا ل ع ل ل .
هذا آخر الكلام في استخراج الأجوبة من زايرجة العالم منظومة . و للقوم طرائق أخرى من غير الزايرجة يستخرجون بها أجوبة المسائل غير منظومة . و عندهم أن السر في استخراج الجواب منظوما من الزايرجة ، إنما هو مزجهم بيت مالك بن وهيب و هو : سؤال عظيم الخلق البيت ، و لذلك يخرج الجواب على رويه . و أما الطرق الأخرى فيخرج الجواب غير منظوم . فمن طرائقهم في استخراج الأجوبة ما ننقله عن بعض المحققين منهم .
فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية
إعلم أرشدنا الله و إياك أن هذه الحروف أصل الأسئلة في كل قضية ، و إنما تستنتج الأجوبة على تجزئته بالكلية ، و هي ثلاثة و أربعون حرفا كما ترى و الله علام الغيوب ا و ل ا ع ظ س ا ل م خ ى د ل ز ق ت ا ر ذ ص ف ن غ ق ش ا ك ك ى ب م ض ب ح ط ل ج ه د ن ل ث ا .
و قد نظمها بعض الفضلاءفي بيت جعل فيه كل حرف مشدد من حرفين و سماه القطب فقال :
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا
فإذا أردت استنتاج المسئلة فاحذف ما تكرر من حروفها و أثبت ما فضل منه . ثم احذف من الأصل و هو القطب لكل حرف فضل من المسألة حرفا يماثله ، و أثبت ما فضل منه . ثم امزج الفضلين في سطر واحد تبدأ بالأول من فضله . و الثاني من فضل المسئلة . و هكذا إلى أن يتم الفضلان أو ينفد أحدهما قبل الآخر ، فتضع البقية على ترتيبها . فإذا كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج موافقا لعدد حروف الأصل قبل الحذف فالعمل صحيح ، فحينئذ تضيف إليها خمس نونات لتعدل بها الموازين الموسيقية و تكمل الحروف ثمانية و أربعين حرفا . فتعمر بها جدولا مربعا يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني . و تنقل البقية على حالها . و هكذا إلى أن تتم عمارة الجدول . و يعود السطر الأول بعينه و تتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة ، ثم تخرج وتر كل حرف بقسمة مربعة على أعظم جزء يوجد له ، و تضع الوتر مقابلا لحرفه . ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية ، و تعرف قوتها الطبيعية و موازينها الروحانية و غرائزها النفسانية و أسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك ، و هذه صورته :
ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة ، و احذر ما يلي الأوتاد و كذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة . و هذا الخارج هو أول رتب السريان . ثم تأخذ مجموع العناصر و تحط منها أسوس المولدات ، يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية ، فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد و هي عناصر الأمداد ، يخرج أفق النفس الأوسط ، و تطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط . و هذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة . ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى ، فتحمل عليه أول رتب السريان ، ثم تطرح من الرابع أول عناصر الأمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان ، فتضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع مرتبة السريان ، يخرج أول عالم التفصيل ، و الثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل ، و الثالث في الثالث يخرج ثالث عالم التفصيل ، و الرابع في الرابع يخرج رابع عالم التفصيل . فتجمع عوالم التفصيل و تحط من عالم الكل . تبقى العوالم المجردة ، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول . و يقسم المنكسر على الأفق الأوسط يخرج الجزء الثاني ، و ما انكسر فهو الثالث . و يتعين الرابع هذا في الرباعي . و إن شئت أكثر من الرباعي فتستكثر من عوالم التفصيل و من رتب السريان و من الأوفاق بعد الحروف . و الله يرشدنا و إياك . و كذلك إذا قسم عالم التجريد على أول رتب السريان خرج الجزء الأول من عالم التركيب ، و كذلك إلى نهاية الرتبة الأخيرة من عالم الكون . فافهم و تدبر و الله المرشد المعين .
و من طريقهم أيضا في استخراج الجواب ، قال بعض المحققين منهم : اعلم أيدنا الله و إياك بروج منه ، أن علم الحروف جليل يتوصل العالم به لما لا يتوصل بغيره من العلوم المتداولة بين العالم . و للعمل به شرائط تلتزم . و قد يستخرج العالم أسرار الخليقة و سرائر الطبيعة ، فيطلع بذلك على نتيجتي الفلسفة ، أعني السيميا و أختها . و يرفع له حجاب المجهولات و يطلع بذلك على مكنون خبايا القلوب . و قد شهدت جماعة بأرض المغرب ممن اتصل بذلك ، فأظهر الغرائب و خرق العوائد و تصرف في الوجود بتأييد الله .
و اعلم أن ملاك كل فضيلة الاجتهاد و حسن الملكة مع الصبر . مفتاح كل خير ، كما أن الخرق و العجلة رأس الحرمان ، فأقول : إذا أردت أن تعلم قوة كل حرف من حروف الفابيطوس أعني أبجد إلى آخر العدد ، و هذا أول مدخل من علم الحروف ، فانظر ما لذلك الحرف من الأعداد ، فتلك الدرجة التي هي مناسبة للحرف هي قوته في الجسمانيات . ثم اضرب العدد في مثله تخرج لك قوته في الروحانيات و هي وتره . و هذا في الحروف المنقوطة لا يتم بل يتم لغير المنقوطة ، لأن المنقوطة منها مراتب لمعان يأتي عليها البيان فيما بعد .
و اعلم أن لكل شكل من أشكال الحروف شكلا في العالم العلوي أعني الكرسي ، و منها المتحرك و الساكن و العلوي و السفلي كما هو مرقوم في أماكنه من الجداول الموضوعة في الزيارج .
و اعلم أن قوى الحروف ثلاثة أقسام : الأول و هو أقلها قوة تظهر بعد كتابتها ، فتكون كتابته لعالم روحاني مخصوص بذلك الحرف المرسوم ، فمتى خرج ذلك الحرف بقوة نفسانية و جمع همة كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام . الثاني قوتها في الهيئة الفكرية و ذلك ما يصدر عن تصريف الروحانيات لها ، فهي قوة في الروحانيات العلويات ، و قوة شكلية في عالم الجسمانيات . الثالث و هو يجمع الباطن ، أعني القوة النفسانية على تكوينه ، فتكون قبل النطق به صورة في النفس ، بعد النطق به صورة في الحروف و قوة في النطق .
و أما طبائعها فهي الطبيعيات المنسوبة للمتولدات في الحروف و هي الحرارة و اليبوسة ، و الحرارة و الرطوبة و البرودة و اليبوسة و البرودة و الرطوبة ، فهذا سر العدد اليماني ، و الحرارة جامعة للهواء و النار و هما : ا هـ ط م ف ش ذ ج ز ك س ق ث ظ ، و البرودة جامعة للهواء و الماء ب و ى ن ص ت ض د ح ل ع ر خ غ ، و اليبوسة جامعة للنار و الأرض ا هـ ط م ف ش ذ ب و ى ن ص ت ض ، فهذه نسبة حروف الطبائع و تداخل أجزاء بعضها في بعض . و تداخل أجزاء العالم فيها علويات و سفليات بأسباب الأمهات الأول ، أعني الطبائع الأربع المنفردة ، فمتى أردت استخراج مجهول من مسئلة ما ، فحقق طالع السائل أو طالع مسئلته واستنطق حروف أوتارها الأربعة : الأول و الرابع و السابع و العاشر مستوية مرتبة ، و استخرج أعداد القوى و الأوتار كما سنبين ، و احمل و انسب و استنتج الجواب يخرج لك المطلوب ، إما بصريح اللفظ أو بالمعنى . و كذلك في كل مسئلة تقع لك . بيانه : إذا أردت أن تستخرج قوى حروف الطالع . مع اسم السائل والحاجة . فاجمع أعدادها بالجمل الكبير ، فكان الطالع الحمل رابعه السرطان سابعه الميزان عاشره الجدي . و هو أقوى هذه الأوتاد . فاسقط من كل برج حرفي التعريف . و انظر ما يخص كل برج من الأعداد المنطقة الموضوعة في دائرتها ، و احذف أجزاء الكسر في النسب الإستنطاقية كلها و أثبت تحت كل حرف ما يخصه من ذلك ، ثم أعداد حروف العناصر الأربعة و ما يخصها كالأول . و ارسم ذلك كله أحرفا و رتب الأوتاد و القوى و القرائن سطرا ممتزجا . و كسر و اضرب ما يضرب لاستخراج الموازين . و اجمع و استنتج الجواب يخرج لك الضمير و جوابه . مثاله افرض أن الطالع الحمل كما تقدم . ترسم ح م ل : فللحاء من العدد ثمانية لها النصف و الربع و الثمن د ب ا الميم لها من العدد أربعون . لها النصف و الربع و الثمن و العشر و نصف العشر إذا أردت التدقيق م ك ى ه د ب ، اللام لها من العدد ثلاثون ، لها النصف و الثلثان و الثلث و الخمس و السدس و العشر ك ى و هـ ج . و هكذا تفعل بسائر حروف المسئلة و الاسم من كل لفظ يقع لك . و أما استخراج الأوتار فهو أن تقسم مربع كل حرف على أعظم جزء يوجد له . مثاله : حرف د له من الأعداد أربعة مربعها ستة عشر . إقسمها على أعظم جزء يوجد لها و هو اثنان يخرج وترا لدال ثمانية . ثم تضع كل وتر مقابلا لحرفه . ثم تستخرج النسب العنصرية ، كما تقدم في شرح الاستنطاق . و لها قاعدة تطرد في استخراجها من طبع الحروف و طبع البيت الذي يحل فيه من الجدول كما ذكر الشيخ لمن عرف الاصطلاح . و الله أعلم .
فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية بالقوانين الحرفية
و ذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علته . و ما الموافق لبرئه منه ، فمر السائل أن يسمي ما شاء من الأشياء على اسم العلة المجهولة ، لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك . ثم استنطق الاسم مع اسم الطالع و العناصر و السائل و اليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسئلة ، و إلا اقتصرت على الاسم الذي سماه السائل . و فعلت به كما نبين . فأقول مثلا : سمى السائل فرسا فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة . بيانه : أن للفاء من العدد ثمانين و لها م ك ي ح ب ، ثم الراء لها من العدد مائتان ق ن ك ى ثم السين لها من العدد ستون و لها م ل ك فالواو عدد تام له د جـ ب ، و السين مثله و لها م ل ك . فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين ، فاحكم لأكثرهما حروفا بالغلبة على الآخر ، ثم احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب و حروفه دون بسط . و كذلك اسم الطالب و احكم للأكثر و الأقوى بالغلبة .
و صفة قوى إستخراج العناصر
فتكون الغلبة هنا للتراب و طبعه البرودة . و اليبوسة طبع السوداء ، فتحكم على المريض بالسوداء . فإذا ألفت من حروف الإستنطاق كلاما على نسبة تقريبية خرج موضع الوجع في الحلق ، و يوافقه من الأدوية حقنة و من الأشربة شراب الليمون . هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس و هو مثال تقريبي مختصر . و أما استخراج قوى العناصر من الأسماء العلمية فهو أن تسمي مثلا محمدا ، فترسم أحرفه مقطعة . ثم تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك ، يخرج لك ما في كل عنصر من الحروف و العدد . و مثاله :
فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء ، لأن عدد حروفه عشرون حرفا ، فجعلت له الغلبة على بقية عناصر الاسم المذكور . و هكذا يفعل بجميع الأسماء . حينئذ تضاف إلى أوتارها ، أو للوتر المنسوب للطالع في الزايرجة ، أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب . الذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة و هو هذا :
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا و هو وتر مشهور لاستخراج المجهولات ، و عليه كان يعتمد ابن الرقام و أصحابه . و هو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعية . وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطعا ممتزجا بألفاظ السؤال على
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
قانون صنعة التكسير . و عدة حروف هذا الوتر أعني البيت ثلاثة و أربعون حرفا ، لأن كل حرف مشدد من حرفين .
ثم تحذف ما تكرر عند المزج من الحروف و من الأصل . لكل حرف فضل من المسئلة حرف يماثله ، و تثبت الفضلين سطرا ممتزجا بعضه ببعض الحروف . الأول من فضلة القطب و الثاني من فضلة السؤال ، حتى يتم الفضلتان جميعا فتكون ثلاثة و أربعين ، فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية و أربعين ، لتعدل بها الموازين الموسيقية . ثم تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصلي قبل الحذف فالعمل صحيح ، ثم عمر بما مزجت جدولا مربعا يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني .
و على هذا النسق حتى يعود السطر الأول بعينه ، و تتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة . ثم تخرج وتر كل حرف كما تقدم تضعه مقابلا لحرفه ، ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية ، لتعرف قوتها الطبيعية و موازينها الروحانية و غرائزها النفسانية و أسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك . و صفة استخراج النسب العنصرية هو أن تنفر الحرف الأول من الجدول ما طبيعته و طبيعة البيت الذي حل فيه ، فإن اتفقت فحسن ، و إلا فاستخرج بين الحرفين نسبة . و يتسع هذا القانون في جميع الحروف الجدولية . و تحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينة كما هو مقرر في دوائرها الموسيقية . ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدم . و احذر ما يلي الأوتاد . و كذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة . و هذا الذي يخرج لك هو أول مراتب السريان . ثم تأخذ مجموع العناصر و تحط منها أسوس المولدات يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية . فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد و هي عناصر الإمداد ، يخرج أفق النفس الأوسط . و تطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط . و هذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة . ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى . فتحمل عليه أول رتب السريان . ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان . ثم تضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع رتب السريان يخرج أول عالم التفصيل ، و الثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل ، و كذلك الثالث و الرابع ، فتجمع عوالم التفصيل و تحط من عالم الكل ، تبقى العوالم المجردة ، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول . و من هنا يطرد العمل في التامة . و له مقامات في كتب ابن وحشية و البوني و غيرهما . و هذا التدبير يجري على القانون الطبيعي الحكمي في هذا الفن و غيره من فنون الحكمة الإلهية ، و عليه مدار وضع الزيارج الحرفية و الصنعة الإلهية و النيرجات الفلسفية . و الله الملهم و به المستعان و عليه التكلان ، و حسبنا الله و نعم الوكيل .
الفصل الثلاثون : في علم الكيمياء
و هو علم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب و الفضة بالصناعة و يشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها و قواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من العضلات الحيوانية كالعظام والريش و البيض و العذرات فضلا عن المعادن . ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية يالتصعيد والتقطير و جمد الذائب منها بالتكليس و إمهاء الصلب بالقهر و الصلابة و أمثال ذلك . و في زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونه الإكسير . و أنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرصاص و القصدير و النحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهبا إبريزا . و يكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا في اصطلاحاتهم بالروح و عن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد . فشرح هذه الاصطلاحات و صورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجساد المستعدة إلى صورة الذهب و الفضة هو علم الكيمياء . و ما زال الناس يؤلفون فيها قديما و حديثا . و ربما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها . و إمام المدونين فيها جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر و له فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز . و زعموا أنه لا يفتح مقفلها إلا من أحاط علما بجميع ما فيها . و الطغرائي من حكماء المشرق المتأخرين له فيها دواوين و مناظرات مع أهلها و غيرهم من الحكماء . و كتب فيها مسلمة المجريطي من حكماء الأندلس كتابه الذي سماه رتبة الحكيم و جعله قرينا لكتابه الآخر في السحر و الطلسمات الذي سماه غاية الحكيم . و زعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة و ثمرتان للعلوم و من لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم و الحكمة أجمع . و كلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك . و نحن نذكر سبب عدولهم إلى هذه الرموز و الألغاز . و لابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ملغوزة كلها لغز الأحاجي و المعاياة فلا تكاد تفهم . و قد ينسبون للغزالي رحمه الله بعض التآليف فيها و ليس بصحيح لأن الرجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطأ ما يذهبون إليه حتى ينتحله . و ربما نسبوا بعض المذاهب و الأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم و من المعلوم البين أن خالدا من الجيل العربي و البداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم و المهناج بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات و أمزجتها و كتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات و الطب لم تظهر بعد و لم تترجم أللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبه باسمه فممكن . و أنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السمح في هذه الصناعة و كلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدل من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقه من التأمل قال ابن بشرون بعد صدر من الرسالة خارج عن الغرض : و المقدمات التي لهذه الصناعة الكريمة قد ذكرها الأولون و اقتص جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن و تخلق الأحجار و الجواهر و طباع البقاع و الأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها و لكن أبين لك من هذه الصنعة ما يحتاج إليه فتبدأ بمعرفته فقد قالوا : ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولا ثلاث خصال : أولها هل تكون ؟ و الثانية من أي تكون ؟ و الثالثة من أي كيف تكون ؟ فإذا عرف هذه الثلاثة و أحكمها فقد ظفر بمطلوبه و بلغ نهايته من هذا العلم و أما البحث عن وجوبها و الاستدلال عن تكونها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير . و أما من أي شيء تكون فإنما يريدون بذلك البحث عن الحجر الذي يمكنه العمل و إن كان العمل موجودا من كل شيء بالقوة لأنها من الطبائع الأربع منها تركبت ابتداء و إليها ترجع انتهاء و لكن من الأشياء ما يكون فيه بالقوة و لا يكون بالفعل و ذلك أن منها ما يمكن تفصيلها تعالج و تدبر و هي التي تخرج من القوة إلى الفعل و التي لا يمكن تفصيلها لا تعالج و لا تدبر لأنها فيها بالقوة فقط و إنما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض و فضل قوة الكبير منها على الصغير . فينبغي لك وفقك الله أن تعرف أوفق الأحجار المنفصلة التي يمكن فيها العمل و جنسه و قوته و عمله و ما تدبر من الحل و العقد و التنقية و التكليس و التنشيف و التقليب فإن من لم يعرف هذه الأصول التي هي عماد هذه الصنعة لم ينجح و لم يظفر بخير أبدا . و ينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أو يكتفى به وحده و هل هو واحد في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التدبير واحدا فسمي حجرا . و ينبغي لك أن تعلم كيفية عمله و كمية أوزانه و أزمانه و كيف تركيب الروح فيه و إدخال النفس عليه ؟ و هل تقدر النار على تفصيلها منه بعد تركيبها ؟ فإن لم تقدر فلأي علة و ما السبب الموجب لذلك ؟ فان هذا هو المطلوب فافهم . و اعلم أن الفلاسفة كلها مدحت النفس و زعمت أنها المدبرة للجسد و الحاملة له و الدافعة عنه و الفاعلة فيه . و ذلك أن الجسد إذا خرجت النفس منه مات و برد فلم يقدر على الحركة و الامتناع من غيره لأنه لا حياة فيه و لا نور . و إنما ذكرت الجسد و النفس لأن هذه الصفات شبيهة بجسد الإنسان الذي تركيبه على الغذاء و العشاء و قوامه و تمامه بالنفس الحية النورانية التي بها يفعل العظائم و الأشياء المقابلة التي لا يقدر عليها غيرها بالقوة الحية التي فيها . و إنما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه و لو اتفقت طبائعه لسلمت من الأعراض و التضاد و لم تقدر النفس على الخروج من بدنه و لكان خالدا باقيا . فسبحان مدبر الأشياء تعالى . و اعلم أن الطبائع التي يحدث عنها هذا العمل كيفية دافعة في الابتداء فيضية محتاجة إلى الانتهاء و ليس لها إذا صارت في هذا الحد أن تستحيل إلى ما منه تركبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأن طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضا و صارت شيئا واحدا شبيها بالنفس في قوتها و فعلها و بالجسد في تركيبه و مجسته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها . فيا عجبا من أفاعيل الطبائع إن القوة للضعيف الذي يقوى على تفصيل الأشياء و تركيبها و تمامها فلذلك قلت قوي و ضعيف . و إنما وقع التعبير و الفناء في التركيب الأول للاختلاف و عدم ذلك في الثاني للاتفاق . و قد قال بعض الأولين التفصيل و التقطيع في هذا العمل حياة و بقاء و التركيب موت و فناء . و هذا الكلام دقيق المعنى لأن الحكيم أراد بقوله حياة و بقاء خروجه من العدم إلى الوجود لأنه ما دام على تركيبه الأول فهو فان لا محالة ، فإذا ركب التركيب الثاني عدم الفناء . و التركيب الثاني لا يكون إلا بعد التفصيل و التقطيع فإذا التفصيل و التقطيع في هذا العمل خاصة . فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصورة لأنه قد صار في الجسد بمنزلة النفس التي لا صورة لها و ذلك أنه لا وزن له فيه و سترى ذلك إن شاء الله تعالى و قد ينبغي لك أن تعلم أن اختلاط اللطيف باللطيف أهون من اختلاط الغليظ و إنما أريد بذلك التشاكل في الأرواح و الأجساد لأن الأشياء تتصل بأشكالها . و ذكرت لك ذلك لتعلم أن العمل أوفق و أيسر من الطبائع اللطائف الروحانية منها من الغليظة الجسمانية . و قد يتصور في العقل أن الأحجار أقوى و أصبر على النار من الأرواح كما ترى أن الذهب و الحديد و النحاس أصبر على النار من الكبريت و الزئبق و غيرهما من الأرواح فأقول إن الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلما أصابها حر الكيان قلبها أجسادا لزجة غليظة فلم تقدر النار على أكلها لإفراط غلظها و تلزجها . فإذا أفرطت النار عليها صيرتها أرواحا كما كانت أول خلقها . و إن تلك الأرواح اللطيفة إذا أصابتها النار أبقت و لم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك أن تعلم ما صير الأجساد في هذه الحالة و صير الأرواح في هذا الحال فهو أجل ما تعرفه . أقول إنما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها و لطافتها . و إنما اشتعلت لكثرة رطوبتها و لأن النار إذا أحست بالرطوبة تعلقت بها لأنها هوائية تشاكل النار و لا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى . و كذلك الأجساد إذا أحست بوصول النار إليها لقلة تلزجها و غلظها و إنما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنها مركبة من أرض و ماء صابر على النار فلطيفه متحد بكثيفه لطول الطبخ اللين المازج للأشياء . و ذلك أن كل متلاش إنما يتلاشى بالنار لمفارقة لطيفه من كثيفه و دخول بعضه في بعض على غير التحليل و الموافقة فصار ذلك الانضمام و التداخل مجاورة لا ممازجة فسهل بذلك افتراقهما كالماء و الدهن و ما أشبههما . و إنما وصفت ذلك لتستدل به على تركيب الطبائع و تقابلها فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظك منها . و ينبغي لك أن تعلم أن الأخلاط التي هي طبائع هذه الصناعة موافقة بعضها لبعض مفصلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه و لا في الكل كما قال الفيلسوف : إنك إذا أحكمت تدبير الطبائع و تآليفها و لم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه و قوامه إذ الطبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبا فقد زاغ عنها و وقع في الخطأ . و اعلم أن هذه الطبيعة إذا حل لها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحل حتى يشاكلها في الرقة و اللطافة انبسطت فيه و جرت معه حيثما جرى لأن الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط و لا تتزاوج و حل الأجساد لا يكون بغير الأرواح فافهم هداك الله هذا القول . و اعلم هداك الله أن هذا الحل في جسد الحيوان هو الحق الذي لا يضمحل و لا ينقص و هو الذي يقلب الطبائع و يمسكها و يظهر لها ألوانا و أزهارا عجيبة . و ليس كل جسد يحل خلاف هذا هو الحل التام لأنة مخالف للحياة ، فإنما حله بما يوافقه و يدفع عنه حرق النار ، حتى يزول عن الغلظ و تنقلب الطبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللطافة و الغلظ . فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التحليل و التلطيف ظهرت لها هنالك قوة تمسك و تغوص و تقلب و تنفذ و كل عمل لا يرى له مصداق في أوله فلا خير فيه . و اعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء و يعقد رطوبتها و الحار منها يظهر رطوبتها و يعقد يبسها و إنما أفردت الحر و البرد لأنهما فاعلان و الرطوبة و اليبس منفعلان و على انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام و تتكون و إن كان الحر أكثر فعلا في ذلك من البرد لأن البرد ليس له نقل الأشياء و لا تحركها و الحر هو علة الحركة . و متى ضعفت علة الكون و هو الحرارة لم يتم منها شيء أبدا كما إنه إذا أفرطت الحرارة على شيء و لم يكن ثم برد أحرقته و أهلكته . فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل ضد على ضده و يدفع عنه حر النار . و لم يحذر الفلاسفة أكبر شيء إلا من النيران المحرقة . و أمرت بتطهير الطبائع و الأنفاس و إخراج دنسها و رطوبتها و نفور آفاتها و أوساخها عنها على ذلك استقام رأيهم و تدبيرهم فإنما عملهم إنما هو مع النار أولا و إليها يصير أخيرا فلذلك قالوا : إياكم و النيران المحرقات . و إنما أرادوا بذلك نفي الآفات التي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه . و كذلك كل شيء إنما يتلاشى و يفسد من ذاته لتضاد طبائعه و اختلافه فيتوسط بين شيئين فلم يجد ما يقويه و يعينه إلا قهرته الآفة و أهلكته . و اعلم أن الحكماء كلها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها و أقوى على قتال النار إذا هي باشرتها عند الإلفة أعني بذلك النار العنصرية فاعلمه . و لنقل الآن على الحجر الذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه فمنهم من زعم أنه في الحيوان و منهم من زعم أنه في النبات و منهم من زعم أنه في المعادن و منهم من زعم أنه في الجميع . و هذه الدعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها و مناظرة أهلها عليها لأن الكلام يطول جدا و قد قلت فيما تقدم إن العمل يكون في كل شيء بالقوة لأن الطبائع موجودة في كل شيء فهو كذلك فنريد أن تعلم من أي شيء يكون العمل بالقوة و الفعل فنقصد إلى ما قاله الحراني إن الصبغ كله أحد صبغين : إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه و هو مضمحل منتقض التركيب ، و الصبغ الثاني تقليب الجوهر من جوهر نفسه إلى جوهر غيره و لونه كتقليب الشجر بل التراب إلى نفسه و قلب الحيوان و النبات الى نفسه حتى يصير التراب نباتا و النبات حيوانا و لا يكون إلا بالروح الحي و الكيان الفاعل الذي له توليد الأجرام و قلب الأعيان . فإذا كان هذا هكذا فنقول إن العمل لابد أن يكون إما في الحيوان و إما في النبات و برهان ذلك أنهما مطبوعان على الغذاء و به قوامهما و تمامهما . فأما النبات فليس فيه ما في الحيوان من اللطافة و القوة و لذلك قل خوض الحكماء فيه . و أما الحيوان فهو آخر الاستحالات الثلاث و نهايتها و ذلك أن المعدن يستحيل نباتا و النبات يستحيل حيوانا و الحيوان لا يستحيل إلى شيء هو الطف منه إلا أن ينعكس راجعا إلى الغلظ و أنه أيضا لا يوجد في العالم شيء تتعلق فيه الروح الحية غيره و الروح ألطف ما في العالم و لم تتعلق الروح بالحيوان إلا بمشاكلته إياها . فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة فيها غلظ و كثافة و هي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها و غلظ جسد النبات فلم يقدر على الحركة لغلظه و غلظ روحه . و الروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيرا و ذلك أن المتحركة لها قبول الغذاء و التنقل و التنفس و ليس للكامنة غير قبول الغذاء وحده . و لا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء . كذلك النبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى و أرفع و أهون و أيسر . فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرب ما كان سهلا و يترك ما يخشى فيه عسرا . و اعلم أن الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساما من الأمهات التي هي الطبائع و الحديثة التي هي المواليد و هذا معروف متيسر الفهم فلذلك قسمت الحكماء العناصر و المواليد أقساما حية و أقساما ميتة فجعلوا كل متحرك فاعلا حيا و كل ساكن مفعولا ميتا . و قسموا ذلك في جميع الأشياء و في الأجساد الذائبة و في العقاقير المعدنية فسموا كل شيء يذوب في النار و يطير و يشتعل حيا و ما كان على خلاف ذلك سموه ميتا فأما الحيوان و النبات فسموا كل ما انفصل منها طبائع أربعا حيا و ما لم ينفصل سموه ميتا ثم إنهم طلبوا جميع الأقسام الحية . فلم يجدوا لوفق هذه الصناعة مما ينفصل فصولا أربعة ظاهرة للعيان و لم يجدوا غير الحجر الذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتى عرفوه و أخذوه و دبروه فتكيف لهم منه الذي أرادوا . و قد يتكيف مثل هذا في المعادن و النبات . بعد جمع العقاقير و خلطها ثم تفصل بعد ذلك . فأما النبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مقل الأشنان و أما المعادن ففيها أجساد و أرواح و أنفاس إذا مزجت و دبرت كان منها ما له تأثير . و قد دبرنا كل ذلك فكان الحيوان منها أعلى و أرفع و تدبيره أسهل و أيسر . فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان و طريق وجوده . إنا بينا أن الحيوان أرفع المواليد و كذا ما تركب منه فهو ألطف منه كالنبات من الأرض . و إنما كان النبات ألطف من الأرض لأنه إنما يكون من جوهره الصافي و جسده اللطيف فوجب له بذلك اللطافة و الرقة . و كذا هذا الحجر الحيواني بمنزلة النبات في التراب . و بالجملة فإنه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعا غيره فافهم هذا القول فإنة لا يكاد يخفى إلا على جاهل بين الجهالة و من لا عقل له . فقد أخبرتك ماهية هذا الحجر و أعلمتك جنسه و أنا أبين لك وجوه تدابيره حتى يكمل الذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه .
التدبير على بركة الله خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة و الإنبيق و فصل طبائعه الأربع التي هي النار و الهواء و الأرض و الماء و هي الجسد و الصبغ فإذا عزلت الماء عن التراب و الهواء عن النار فارفع كل واحد في إنائه على حدة و خذ الهابط أسفل الإناء و هو الثفل فاغسله بالنار الحارة حتى تذهب النار عنه سواده و يزول غلظه و جفاؤه و بيضه تبييضا محكما و طير عنه فضول الرطوبات المستجنة فيه فإنه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه و لا وسخ و لا تضاد . ثم اعمد إلى تلك الطبائع الأول الصاعدة منه فطهرها أيضا من السواد و التضاد و كرر عليها الغسل و التصعيد حتى تلطف و ترق و تصفو . فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الذي عليه مدار العمل . و ذلك أن التركيب لا يكون إلا بالتزويج و التعفين فأما التزويج فهو اختلاط اللطيف بالغليظ و أما التعفين فهو التمشية و السحق حتى يختلط بعضه ببعض و يصير شيئا واحدا لا اختلاف فيه و لا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء . فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللطيف و تقوى الروح على مقابلة النار و تصبر عليها و تقوى النفس على الغوص في الأجساد والدبيب فيها . و إنما وجد ذلك بعد التركيب لأن الجسد المحلول لما ازدوج بالروح مازجه بجميع أجزائه و دخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئا واحدا و وجب من ذلك أن يعرض للروح من الصلاح و الفساد و البقاء و الثبوت و ما يعرض للجسد لموضع الإمتزاج . و كذلك النفس إذا امتزجت بهما و دخلت فيهما بخدمة التدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الروح و الجسد و صارت هي و هما شيئا واحدا لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلي الذي سلمت طبائعه و اتفقت أجزاؤه فإذا ألقى هذا المركب الجسد المحلول و ألح عليه النار و أظهر ما فيه من الرطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول . و من شأن الرطوبة الاشتمال و تعلق النار بها فإذا أرادت النار التعلق بها منعها من الاتحاد بالنفس ممازجة الماء لها . فإن النار لا تتحد بالدهن حتى يكون خالصا . و كذلك الماء من شأنه النفور من النار . فإذا ألحت عليه النار و أرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطيران فكان الجسد علة لإمساك الماء و الماء علة لبقاه الدهن و الدهن علة لثبات الصبغ و الصبغ علة لظهور الدهن و اظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها و لا حياة فيها . فهذا هو الجسد المستقيم و هكذا يكون العمل . و هذه التصفية التي سألت عنها و هي التي سمتها الحكماء بيضة و إياها يعنون لا بيضة الدجاج و اعلم أن الحكماء لم تسميها بهذا الاسم لغير معنى بل أشبهتها . و لقد سألت مسلمة عن ذلك يوما و ليس عنده غيري فقلت له : أيها الحكيم الفاضل أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة ؟ اختيارا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه ؟ فقال : بل لمعنى غامض فقلت أيها الحكيم و ما ظهر لهم من ذلك من المنفعة و الاستدلال على الصناعة حتى شبهوها و سموها بيضة ؟ فقال : لشبهها و قرابتها من المركب ففكر فيه فإنه سيظهر لك معناه . فبقيت بين يديه مفكرا لا أقدر على الوصول إلى معناه . فلما رأى ما بي من الفكر و أن نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي و هزني هزة خفيفة و قال لي : يا أبا بكر ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع و تأليفها . فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة و أضاء لى نور قلبي و قوي عقلي على فهمه فنهضت شاكرا الله عليه إلى منزلي و أقمت على ذلك شكلا هندسيا يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة . و أنا واضعه لك في هذا الكتاب . مثال ذلك أن المركب إذا تم و كمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار . و كذلك الطبيعتان الأخريان ، الأرض و الماء فأقول : إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة هما متشابهان . و مثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزرح فإذا أردنا ذلك فإنا نأخذ أقل طبائع المركب و هي طبيعة اليبوسة و نضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة و ندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة و تقبل قوتها . و كأن في هذا الكلام رمزا و لكنه لا يخفى عليك . ثم تحمل عليهما جميعا مثليهما من الروح و هو الماء فيكون الجميع ستة أمثال . ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلا من طبيعة الهواء التي هي النفس و ذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة . و تحمل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين فتجعل أولا الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء و طبيعة الهواء و هما ضلعا ا ح د و سطح ابجد و كذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء و الهواء ضلعا هزوح فأقول أن سطح ابجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفسا و كذلك بجـ من سطح المركب . و الحكماء لم تسم شيئا باسم شيء إلا لشبهه به . و الكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة و هي المنعقدة من الطبائع العلوية و السفلية . و النحاس هو الذي أخرج سواده و قطع حتى صار هباء ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسيا و المغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح و تخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار و الفرفرة لون أحمر قان يحدثه الكيان . و الرصاص حجر له ثلاث قوى مختلفة الشخوص و لكنها متشاكلة و متجانسة . فالواحدة روحانية نيرة صافية و هي الفاعلة و الثانية نفسانية و هي متحركة حساسة غير أنها أغلظ من الأولى و مزكزها دون مركز الأولى و الثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها و هي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعا و المحيطة بهما . و أما سائر الباقية فمبتدعة و مخترعة . إلباسا على الجاهل ، و من عرف المقدمات استغنى عن غيرها . فهذا جميع ما سألتني عنه و قد بعثت به إليك مفسرا و نرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك و السلام . انتهى كلام ابن بشرون و هو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيمياء و السيمياء و السحر في القرن الثالث و ما بعده . و أنت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الزمز و الألغاز التي لا تكاد تبين و لا تعرف و ذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية . و الذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء و هو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية و تصرفها في عالم الطبيعة ، إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرة . فأما الكرامة فظاهرة و أما السحر فلأن الساحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية . و لابد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر و النبات و بالجملة من غير مادتها المخصوصة بها ، كما وقع لسحرة فرعون في الحبال و العصي و كما ينقل عن سحرة السودان و الهنود في قاصية الجنوب و الترك في قاصية الشمال أنهم يسحرون الجو للأمطار و غير ذلك . و لما كانت هذه تخليقا للذهب في غير مادته الخاصة به كان من قبيل السحر و المتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر و مسلمة . و من كان قبلهم من حكماء الأمم إنما نحوا هذا المنحى و لهذا كان كلامهم فيه ألغازا حذرا عليها من إنكار الشرائع على السحر و أنواعه لا أن ذلك يرجع إلى الضنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك . و انظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم و سمى كتابه في السحر و الطلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية و خصوص موضوع هذه لأن الغاية أعلى من الرتبة فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية و تشاركها في الموضوعات . و من كلامه في الفنين يتبين ما قلناه و نحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية . و الله العليم الخبير .
الفصل الحادي و الثلاثون : في إبطال الفلسفة و فساد منتحلهاهذا الفصل و ما بعده مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن . و ضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها و يكشف عن المعتقد الحق فيها . و ذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه و ما وراء الحسي تدرك أدواته و أحواله بأسبابها و عللها بالأنظار الفكرية و الأقيسة العقلية و أن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل . و هؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف و هو باللسان اليوناني محب الحكمة . فبحثوا عن ذلك و شمروا له و حوموا على إصابة الغرض منه و وضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق و الباطل و سموه بالمنطق . و محصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولا صور منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع . و هذه مجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل . ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى و قد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معان أخرى و هي التي اشتركت بها . ثم تجرد ثانيا إن شاركها غيرها و ثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني و الأشخاص و لا يكون منها تجريد بعد هذا و هي الأجناس العالية . و هذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض . لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني . فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة و طلب تصور الوجود . كما هو فلابد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض و نفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر . و صنف التصديق الذي هو تلك الإضافة و الحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية و التصور متقدم عليه في البداءة و التعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي و إنما التصديق وسيلة له و ما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور و توقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام و هذا هو مذهب كبيرهم أرسطو ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس و ما وراء الحس بهذا النظر و تلك البراهين . و حاصل مداركهم في الوجود على الجملة و ما آلت إليه و هو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود و الحس ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة و الحس في الحيوانات ثم احسوا من قوى النفس بسلطان العقل . و وقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية . و وجب عندهم أن يكون للفلك نفس و عقل كما للإنسان ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد و هي العشر ، تسع مفصلة ذواتها جمل و واحد أول مفرد و هو العاشر . و يزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس و تخلقها بالفضائل و أن ذلك ممكن للإنسان و لو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة و الرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله و نظره و ميله إلى المحمود منها و اجتنابه للمذموم بفطرته و أن ذلك اذا حصل للنفس حصلت لها البهجة و اللذة و أن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي و هذا عندهم هو معنى النعيم و العذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف في كلماتهم . و إمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها و دون علمها و سطر حججها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون و هو معلم الإسكندر و يسمونه المعلم الأول على الإطلاق يعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة و هو أول من رتب قانونها و استوفى مسائلها و أحسن بسطها و لقد أحسن في ذلك القانون
ثم تحذف ما تكرر عند المزج من الحروف و من الأصل . لكل حرف فضل من المسئلة حرف يماثله ، و تثبت الفضلين سطرا ممتزجا بعضه ببعض الحروف . الأول من فضلة القطب و الثاني من فضلة السؤال ، حتى يتم الفضلتان جميعا فتكون ثلاثة و أربعين ، فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية و أربعين ، لتعدل بها الموازين الموسيقية . ثم تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصلي قبل الحذف فالعمل صحيح ، ثم عمر بما مزجت جدولا مربعا يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني .
و على هذا النسق حتى يعود السطر الأول بعينه ، و تتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة . ثم تخرج وتر كل حرف كما تقدم تضعه مقابلا لحرفه ، ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية ، لتعرف قوتها الطبيعية و موازينها الروحانية و غرائزها النفسانية و أسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك . و صفة استخراج النسب العنصرية هو أن تنفر الحرف الأول من الجدول ما طبيعته و طبيعة البيت الذي حل فيه ، فإن اتفقت فحسن ، و إلا فاستخرج بين الحرفين نسبة . و يتسع هذا القانون في جميع الحروف الجدولية . و تحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينة كما هو مقرر في دوائرها الموسيقية . ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدم . و احذر ما يلي الأوتاد . و كذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة . و هذا الذي يخرج لك هو أول مراتب السريان . ثم تأخذ مجموع العناصر و تحط منها أسوس المولدات يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية . فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد و هي عناصر الإمداد ، يخرج أفق النفس الأوسط . و تطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط . و هذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة . ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى . فتحمل عليه أول رتب السريان . ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان . ثم تضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبدا في رابع رتب السريان يخرج أول عالم التفصيل ، و الثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل ، و كذلك الثالث و الرابع ، فتجمع عوالم التفصيل و تحط من عالم الكل ، تبقى العوالم المجردة ، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول . و من هنا يطرد العمل في التامة . و له مقامات في كتب ابن وحشية و البوني و غيرهما . و هذا التدبير يجري على القانون الطبيعي الحكمي في هذا الفن و غيره من فنون الحكمة الإلهية ، و عليه مدار وضع الزيارج الحرفية و الصنعة الإلهية و النيرجات الفلسفية . و الله الملهم و به المستعان و عليه التكلان ، و حسبنا الله و نعم الوكيل .
الفصل الثلاثون : في علم الكيمياء
و هو علم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب و الفضة بالصناعة و يشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها و قواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من العضلات الحيوانية كالعظام والريش و البيض و العذرات فضلا عن المعادن . ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية يالتصعيد والتقطير و جمد الذائب منها بالتكليس و إمهاء الصلب بالقهر و الصلابة و أمثال ذلك . و في زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونه الإكسير . و أنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرصاص و القصدير و النحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهبا إبريزا . و يكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا في اصطلاحاتهم بالروح و عن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد . فشرح هذه الاصطلاحات و صورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجساد المستعدة إلى صورة الذهب و الفضة هو علم الكيمياء . و ما زال الناس يؤلفون فيها قديما و حديثا . و ربما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها . و إمام المدونين فيها جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها علم جابر و له فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز . و زعموا أنه لا يفتح مقفلها إلا من أحاط علما بجميع ما فيها . و الطغرائي من حكماء المشرق المتأخرين له فيها دواوين و مناظرات مع أهلها و غيرهم من الحكماء . و كتب فيها مسلمة المجريطي من حكماء الأندلس كتابه الذي سماه رتبة الحكيم و جعله قرينا لكتابه الآخر في السحر و الطلسمات الذي سماه غاية الحكيم . و زعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة و ثمرتان للعلوم و من لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم و الحكمة أجمع . و كلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك . و نحن نذكر سبب عدولهم إلى هذه الرموز و الألغاز . و لابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ملغوزة كلها لغز الأحاجي و المعاياة فلا تكاد تفهم . و قد ينسبون للغزالي رحمه الله بعض التآليف فيها و ليس بصحيح لأن الرجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطأ ما يذهبون إليه حتى ينتحله . و ربما نسبوا بعض المذاهب و الأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم و من المعلوم البين أن خالدا من الجيل العربي و البداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم و المهناج بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات و أمزجتها و كتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات و الطب لم تظهر بعد و لم تترجم أللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبه باسمه فممكن . و أنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السمح في هذه الصناعة و كلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدل من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقه من التأمل قال ابن بشرون بعد صدر من الرسالة خارج عن الغرض : و المقدمات التي لهذه الصناعة الكريمة قد ذكرها الأولون و اقتص جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن و تخلق الأحجار و الجواهر و طباع البقاع و الأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها و لكن أبين لك من هذه الصنعة ما يحتاج إليه فتبدأ بمعرفته فقد قالوا : ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولا ثلاث خصال : أولها هل تكون ؟ و الثانية من أي تكون ؟ و الثالثة من أي كيف تكون ؟ فإذا عرف هذه الثلاثة و أحكمها فقد ظفر بمطلوبه و بلغ نهايته من هذا العلم و أما البحث عن وجوبها و الاستدلال عن تكونها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير . و أما من أي شيء تكون فإنما يريدون بذلك البحث عن الحجر الذي يمكنه العمل و إن كان العمل موجودا من كل شيء بالقوة لأنها من الطبائع الأربع منها تركبت ابتداء و إليها ترجع انتهاء و لكن من الأشياء ما يكون فيه بالقوة و لا يكون بالفعل و ذلك أن منها ما يمكن تفصيلها تعالج و تدبر و هي التي تخرج من القوة إلى الفعل و التي لا يمكن تفصيلها لا تعالج و لا تدبر لأنها فيها بالقوة فقط و إنما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض و فضل قوة الكبير منها على الصغير . فينبغي لك وفقك الله أن تعرف أوفق الأحجار المنفصلة التي يمكن فيها العمل و جنسه و قوته و عمله و ما تدبر من الحل و العقد و التنقية و التكليس و التنشيف و التقليب فإن من لم يعرف هذه الأصول التي هي عماد هذه الصنعة لم ينجح و لم يظفر بخير أبدا . و ينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أو يكتفى به وحده و هل هو واحد في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التدبير واحدا فسمي حجرا . و ينبغي لك أن تعلم كيفية عمله و كمية أوزانه و أزمانه و كيف تركيب الروح فيه و إدخال النفس عليه ؟ و هل تقدر النار على تفصيلها منه بعد تركيبها ؟ فإن لم تقدر فلأي علة و ما السبب الموجب لذلك ؟ فان هذا هو المطلوب فافهم . و اعلم أن الفلاسفة كلها مدحت النفس و زعمت أنها المدبرة للجسد و الحاملة له و الدافعة عنه و الفاعلة فيه . و ذلك أن الجسد إذا خرجت النفس منه مات و برد فلم يقدر على الحركة و الامتناع من غيره لأنه لا حياة فيه و لا نور . و إنما ذكرت الجسد و النفس لأن هذه الصفات شبيهة بجسد الإنسان الذي تركيبه على الغذاء و العشاء و قوامه و تمامه بالنفس الحية النورانية التي بها يفعل العظائم و الأشياء المقابلة التي لا يقدر عليها غيرها بالقوة الحية التي فيها . و إنما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه و لو اتفقت طبائعه لسلمت من الأعراض و التضاد و لم تقدر النفس على الخروج من بدنه و لكان خالدا باقيا . فسبحان مدبر الأشياء تعالى . و اعلم أن الطبائع التي يحدث عنها هذا العمل كيفية دافعة في الابتداء فيضية محتاجة إلى الانتهاء و ليس لها إذا صارت في هذا الحد أن تستحيل إلى ما منه تركبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأن طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضا و صارت شيئا واحدا شبيها بالنفس في قوتها و فعلها و بالجسد في تركيبه و مجسته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها . فيا عجبا من أفاعيل الطبائع إن القوة للضعيف الذي يقوى على تفصيل الأشياء و تركيبها و تمامها فلذلك قلت قوي و ضعيف . و إنما وقع التعبير و الفناء في التركيب الأول للاختلاف و عدم ذلك في الثاني للاتفاق . و قد قال بعض الأولين التفصيل و التقطيع في هذا العمل حياة و بقاء و التركيب موت و فناء . و هذا الكلام دقيق المعنى لأن الحكيم أراد بقوله حياة و بقاء خروجه من العدم إلى الوجود لأنه ما دام على تركيبه الأول فهو فان لا محالة ، فإذا ركب التركيب الثاني عدم الفناء . و التركيب الثاني لا يكون إلا بعد التفصيل و التقطيع فإذا التفصيل و التقطيع في هذا العمل خاصة . فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصورة لأنه قد صار في الجسد بمنزلة النفس التي لا صورة لها و ذلك أنه لا وزن له فيه و سترى ذلك إن شاء الله تعالى و قد ينبغي لك أن تعلم أن اختلاط اللطيف باللطيف أهون من اختلاط الغليظ و إنما أريد بذلك التشاكل في الأرواح و الأجساد لأن الأشياء تتصل بأشكالها . و ذكرت لك ذلك لتعلم أن العمل أوفق و أيسر من الطبائع اللطائف الروحانية منها من الغليظة الجسمانية . و قد يتصور في العقل أن الأحجار أقوى و أصبر على النار من الأرواح كما ترى أن الذهب و الحديد و النحاس أصبر على النار من الكبريت و الزئبق و غيرهما من الأرواح فأقول إن الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلما أصابها حر الكيان قلبها أجسادا لزجة غليظة فلم تقدر النار على أكلها لإفراط غلظها و تلزجها . فإذا أفرطت النار عليها صيرتها أرواحا كما كانت أول خلقها . و إن تلك الأرواح اللطيفة إذا أصابتها النار أبقت و لم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك أن تعلم ما صير الأجساد في هذه الحالة و صير الأرواح في هذا الحال فهو أجل ما تعرفه . أقول إنما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها و لطافتها . و إنما اشتعلت لكثرة رطوبتها و لأن النار إذا أحست بالرطوبة تعلقت بها لأنها هوائية تشاكل النار و لا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى . و كذلك الأجساد إذا أحست بوصول النار إليها لقلة تلزجها و غلظها و إنما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنها مركبة من أرض و ماء صابر على النار فلطيفه متحد بكثيفه لطول الطبخ اللين المازج للأشياء . و ذلك أن كل متلاش إنما يتلاشى بالنار لمفارقة لطيفه من كثيفه و دخول بعضه في بعض على غير التحليل و الموافقة فصار ذلك الانضمام و التداخل مجاورة لا ممازجة فسهل بذلك افتراقهما كالماء و الدهن و ما أشبههما . و إنما وصفت ذلك لتستدل به على تركيب الطبائع و تقابلها فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظك منها . و ينبغي لك أن تعلم أن الأخلاط التي هي طبائع هذه الصناعة موافقة بعضها لبعض مفصلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه و لا في الكل كما قال الفيلسوف : إنك إذا أحكمت تدبير الطبائع و تآليفها و لم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه و قوامه إذ الطبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبا فقد زاغ عنها و وقع في الخطأ . و اعلم أن هذه الطبيعة إذا حل لها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحل حتى يشاكلها في الرقة و اللطافة انبسطت فيه و جرت معه حيثما جرى لأن الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط و لا تتزاوج و حل الأجساد لا يكون بغير الأرواح فافهم هداك الله هذا القول . و اعلم هداك الله أن هذا الحل في جسد الحيوان هو الحق الذي لا يضمحل و لا ينقص و هو الذي يقلب الطبائع و يمسكها و يظهر لها ألوانا و أزهارا عجيبة . و ليس كل جسد يحل خلاف هذا هو الحل التام لأنة مخالف للحياة ، فإنما حله بما يوافقه و يدفع عنه حرق النار ، حتى يزول عن الغلظ و تنقلب الطبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللطافة و الغلظ . فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التحليل و التلطيف ظهرت لها هنالك قوة تمسك و تغوص و تقلب و تنفذ و كل عمل لا يرى له مصداق في أوله فلا خير فيه . و اعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء و يعقد رطوبتها و الحار منها يظهر رطوبتها و يعقد يبسها و إنما أفردت الحر و البرد لأنهما فاعلان و الرطوبة و اليبس منفعلان و على انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام و تتكون و إن كان الحر أكثر فعلا في ذلك من البرد لأن البرد ليس له نقل الأشياء و لا تحركها و الحر هو علة الحركة . و متى ضعفت علة الكون و هو الحرارة لم يتم منها شيء أبدا كما إنه إذا أفرطت الحرارة على شيء و لم يكن ثم برد أحرقته و أهلكته . فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل ضد على ضده و يدفع عنه حر النار . و لم يحذر الفلاسفة أكبر شيء إلا من النيران المحرقة . و أمرت بتطهير الطبائع و الأنفاس و إخراج دنسها و رطوبتها و نفور آفاتها و أوساخها عنها على ذلك استقام رأيهم و تدبيرهم فإنما عملهم إنما هو مع النار أولا و إليها يصير أخيرا فلذلك قالوا : إياكم و النيران المحرقات . و إنما أرادوا بذلك نفي الآفات التي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه . و كذلك كل شيء إنما يتلاشى و يفسد من ذاته لتضاد طبائعه و اختلافه فيتوسط بين شيئين فلم يجد ما يقويه و يعينه إلا قهرته الآفة و أهلكته . و اعلم أن الحكماء كلها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها و أقوى على قتال النار إذا هي باشرتها عند الإلفة أعني بذلك النار العنصرية فاعلمه . و لنقل الآن على الحجر الذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه فمنهم من زعم أنه في الحيوان و منهم من زعم أنه في النبات و منهم من زعم أنه في المعادن و منهم من زعم أنه في الجميع . و هذه الدعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها و مناظرة أهلها عليها لأن الكلام يطول جدا و قد قلت فيما تقدم إن العمل يكون في كل شيء بالقوة لأن الطبائع موجودة في كل شيء فهو كذلك فنريد أن تعلم من أي شيء يكون العمل بالقوة و الفعل فنقصد إلى ما قاله الحراني إن الصبغ كله أحد صبغين : إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه و هو مضمحل منتقض التركيب ، و الصبغ الثاني تقليب الجوهر من جوهر نفسه إلى جوهر غيره و لونه كتقليب الشجر بل التراب إلى نفسه و قلب الحيوان و النبات الى نفسه حتى يصير التراب نباتا و النبات حيوانا و لا يكون إلا بالروح الحي و الكيان الفاعل الذي له توليد الأجرام و قلب الأعيان . فإذا كان هذا هكذا فنقول إن العمل لابد أن يكون إما في الحيوان و إما في النبات و برهان ذلك أنهما مطبوعان على الغذاء و به قوامهما و تمامهما . فأما النبات فليس فيه ما في الحيوان من اللطافة و القوة و لذلك قل خوض الحكماء فيه . و أما الحيوان فهو آخر الاستحالات الثلاث و نهايتها و ذلك أن المعدن يستحيل نباتا و النبات يستحيل حيوانا و الحيوان لا يستحيل إلى شيء هو الطف منه إلا أن ينعكس راجعا إلى الغلظ و أنه أيضا لا يوجد في العالم شيء تتعلق فيه الروح الحية غيره و الروح ألطف ما في العالم و لم تتعلق الروح بالحيوان إلا بمشاكلته إياها . فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة فيها غلظ و كثافة و هي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها و غلظ جسد النبات فلم يقدر على الحركة لغلظه و غلظ روحه . و الروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيرا و ذلك أن المتحركة لها قبول الغذاء و التنقل و التنفس و ليس للكامنة غير قبول الغذاء وحده . و لا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء . كذلك النبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى و أرفع و أهون و أيسر . فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرب ما كان سهلا و يترك ما يخشى فيه عسرا . و اعلم أن الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساما من الأمهات التي هي الطبائع و الحديثة التي هي المواليد و هذا معروف متيسر الفهم فلذلك قسمت الحكماء العناصر و المواليد أقساما حية و أقساما ميتة فجعلوا كل متحرك فاعلا حيا و كل ساكن مفعولا ميتا . و قسموا ذلك في جميع الأشياء و في الأجساد الذائبة و في العقاقير المعدنية فسموا كل شيء يذوب في النار و يطير و يشتعل حيا و ما كان على خلاف ذلك سموه ميتا فأما الحيوان و النبات فسموا كل ما انفصل منها طبائع أربعا حيا و ما لم ينفصل سموه ميتا ثم إنهم طلبوا جميع الأقسام الحية . فلم يجدوا لوفق هذه الصناعة مما ينفصل فصولا أربعة ظاهرة للعيان و لم يجدوا غير الحجر الذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتى عرفوه و أخذوه و دبروه فتكيف لهم منه الذي أرادوا . و قد يتكيف مثل هذا في المعادن و النبات . بعد جمع العقاقير و خلطها ثم تفصل بعد ذلك . فأما النبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مقل الأشنان و أما المعادن ففيها أجساد و أرواح و أنفاس إذا مزجت و دبرت كان منها ما له تأثير . و قد دبرنا كل ذلك فكان الحيوان منها أعلى و أرفع و تدبيره أسهل و أيسر . فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان و طريق وجوده . إنا بينا أن الحيوان أرفع المواليد و كذا ما تركب منه فهو ألطف منه كالنبات من الأرض . و إنما كان النبات ألطف من الأرض لأنه إنما يكون من جوهره الصافي و جسده اللطيف فوجب له بذلك اللطافة و الرقة . و كذا هذا الحجر الحيواني بمنزلة النبات في التراب . و بالجملة فإنه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعا غيره فافهم هذا القول فإنة لا يكاد يخفى إلا على جاهل بين الجهالة و من لا عقل له . فقد أخبرتك ماهية هذا الحجر و أعلمتك جنسه و أنا أبين لك وجوه تدابيره حتى يكمل الذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه .
التدبير على بركة الله خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة و الإنبيق و فصل طبائعه الأربع التي هي النار و الهواء و الأرض و الماء و هي الجسد و الصبغ فإذا عزلت الماء عن التراب و الهواء عن النار فارفع كل واحد في إنائه على حدة و خذ الهابط أسفل الإناء و هو الثفل فاغسله بالنار الحارة حتى تذهب النار عنه سواده و يزول غلظه و جفاؤه و بيضه تبييضا محكما و طير عنه فضول الرطوبات المستجنة فيه فإنه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه و لا وسخ و لا تضاد . ثم اعمد إلى تلك الطبائع الأول الصاعدة منه فطهرها أيضا من السواد و التضاد و كرر عليها الغسل و التصعيد حتى تلطف و ترق و تصفو . فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الذي عليه مدار العمل . و ذلك أن التركيب لا يكون إلا بالتزويج و التعفين فأما التزويج فهو اختلاط اللطيف بالغليظ و أما التعفين فهو التمشية و السحق حتى يختلط بعضه ببعض و يصير شيئا واحدا لا اختلاف فيه و لا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء . فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللطيف و تقوى الروح على مقابلة النار و تصبر عليها و تقوى النفس على الغوص في الأجساد والدبيب فيها . و إنما وجد ذلك بعد التركيب لأن الجسد المحلول لما ازدوج بالروح مازجه بجميع أجزائه و دخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئا واحدا و وجب من ذلك أن يعرض للروح من الصلاح و الفساد و البقاء و الثبوت و ما يعرض للجسد لموضع الإمتزاج . و كذلك النفس إذا امتزجت بهما و دخلت فيهما بخدمة التدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الروح و الجسد و صارت هي و هما شيئا واحدا لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلي الذي سلمت طبائعه و اتفقت أجزاؤه فإذا ألقى هذا المركب الجسد المحلول و ألح عليه النار و أظهر ما فيه من الرطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول . و من شأن الرطوبة الاشتمال و تعلق النار بها فإذا أرادت النار التعلق بها منعها من الاتحاد بالنفس ممازجة الماء لها . فإن النار لا تتحد بالدهن حتى يكون خالصا . و كذلك الماء من شأنه النفور من النار . فإذا ألحت عليه النار و أرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطيران فكان الجسد علة لإمساك الماء و الماء علة لبقاه الدهن و الدهن علة لثبات الصبغ و الصبغ علة لظهور الدهن و اظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها و لا حياة فيها . فهذا هو الجسد المستقيم و هكذا يكون العمل . و هذه التصفية التي سألت عنها و هي التي سمتها الحكماء بيضة و إياها يعنون لا بيضة الدجاج و اعلم أن الحكماء لم تسميها بهذا الاسم لغير معنى بل أشبهتها . و لقد سألت مسلمة عن ذلك يوما و ليس عنده غيري فقلت له : أيها الحكيم الفاضل أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة ؟ اختيارا منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه ؟ فقال : بل لمعنى غامض فقلت أيها الحكيم و ما ظهر لهم من ذلك من المنفعة و الاستدلال على الصناعة حتى شبهوها و سموها بيضة ؟ فقال : لشبهها و قرابتها من المركب ففكر فيه فإنه سيظهر لك معناه . فبقيت بين يديه مفكرا لا أقدر على الوصول إلى معناه . فلما رأى ما بي من الفكر و أن نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي و هزني هزة خفيفة و قال لي : يا أبا بكر ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع و تأليفها . فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة و أضاء لى نور قلبي و قوي عقلي على فهمه فنهضت شاكرا الله عليه إلى منزلي و أقمت على ذلك شكلا هندسيا يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة . و أنا واضعه لك في هذا الكتاب . مثال ذلك أن المركب إذا تم و كمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار . و كذلك الطبيعتان الأخريان ، الأرض و الماء فأقول : إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة هما متشابهان . و مثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزرح فإذا أردنا ذلك فإنا نأخذ أقل طبائع المركب و هي طبيعة اليبوسة و نضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة و ندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة و تقبل قوتها . و كأن في هذا الكلام رمزا و لكنه لا يخفى عليك . ثم تحمل عليهما جميعا مثليهما من الروح و هو الماء فيكون الجميع ستة أمثال . ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلا من طبيعة الهواء التي هي النفس و ذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة . و تحمل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين فتجعل أولا الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء و طبيعة الهواء و هما ضلعا ا ح د و سطح ابجد و كذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء و الهواء ضلعا هزوح فأقول أن سطح ابجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفسا و كذلك بجـ من سطح المركب . و الحكماء لم تسم شيئا باسم شيء إلا لشبهه به . و الكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة و هي المنعقدة من الطبائع العلوية و السفلية . و النحاس هو الذي أخرج سواده و قطع حتى صار هباء ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسيا و المغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح و تخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار و الفرفرة لون أحمر قان يحدثه الكيان . و الرصاص حجر له ثلاث قوى مختلفة الشخوص و لكنها متشاكلة و متجانسة . فالواحدة روحانية نيرة صافية و هي الفاعلة و الثانية نفسانية و هي متحركة حساسة غير أنها أغلظ من الأولى و مزكزها دون مركز الأولى و الثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها و هي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعا و المحيطة بهما . و أما سائر الباقية فمبتدعة و مخترعة . إلباسا على الجاهل ، و من عرف المقدمات استغنى عن غيرها . فهذا جميع ما سألتني عنه و قد بعثت به إليك مفسرا و نرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك و السلام . انتهى كلام ابن بشرون و هو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيمياء و السيمياء و السحر في القرن الثالث و ما بعده . و أنت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الزمز و الألغاز التي لا تكاد تبين و لا تعرف و ذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية . و الذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء و هو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية و تصرفها في عالم الطبيعة ، إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرة . فأما الكرامة فظاهرة و أما السحر فلأن الساحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية . و لابد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر و النبات و بالجملة من غير مادتها المخصوصة بها ، كما وقع لسحرة فرعون في الحبال و العصي و كما ينقل عن سحرة السودان و الهنود في قاصية الجنوب و الترك في قاصية الشمال أنهم يسحرون الجو للأمطار و غير ذلك . و لما كانت هذه تخليقا للذهب في غير مادته الخاصة به كان من قبيل السحر و المتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر و مسلمة . و من كان قبلهم من حكماء الأمم إنما نحوا هذا المنحى و لهذا كان كلامهم فيه ألغازا حذرا عليها من إنكار الشرائع على السحر و أنواعه لا أن ذلك يرجع إلى الضنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك . و انظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم و سمى كتابه في السحر و الطلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية و خصوص موضوع هذه لأن الغاية أعلى من الرتبة فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية و تشاركها في الموضوعات . و من كلامه في الفنين يتبين ما قلناه و نحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية . و الله العليم الخبير .
الفصل الحادي و الثلاثون : في إبطال الفلسفة و فساد منتحلهاهذا الفصل و ما بعده مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن . و ضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها و يكشف عن المعتقد الحق فيها . و ذلك أن قوما من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه و ما وراء الحسي تدرك أدواته و أحواله بأسبابها و عللها بالأنظار الفكرية و الأقيسة العقلية و أن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل . و هؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف و هو باللسان اليوناني محب الحكمة . فبحثوا عن ذلك و شمروا له و حوموا على إصابة الغرض منه و وضعوا قانونا يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق و الباطل و سموه بالمنطق . و محصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولا صور منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع . و هذه مجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل . ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى و قد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معان أخرى و هي التي اشتركت بها . ثم تجرد ثانيا إن شاركها غيرها و ثالثا إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني و الأشخاص و لا يكون منها تجريد بعد هذا و هي الأجناس العالية . و هذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض . لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني . فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة و طلب تصور الوجود . كما هو فلابد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض و نفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصورا صحيحا مطابقا إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر . و صنف التصديق الذي هو تلك الإضافة و الحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية و التصور متقدم عليه في البداءة و التعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي و إنما التصديق وسيلة له و ما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور و توقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام و هذا هو مذهب كبيرهم أرسطو ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس و ما وراء الحس بهذا النظر و تلك البراهين . و حاصل مداركهم في الوجود على الجملة و ما آلت إليه و هو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولا على الجسم السفلي بحكم الشهود و الحس ثم ترقى إدراكهم قليلا فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة و الحس في الحيوانات ثم احسوا من قوى النفس بسلطان العقل . و وقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية . و وجب عندهم أن يكون للفلك نفس و عقل كما للإنسان ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد و هي العشر ، تسع مفصلة ذواتها جمل و واحد أول مفرد و هو العاشر . و يزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس و تخلقها بالفضائل و أن ذلك ممكن للإنسان و لو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة و الرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله و نظره و ميله إلى المحمود منها و اجتنابه للمذموم بفطرته و أن ذلك اذا حصل للنفس حصلت لها البهجة و اللذة و أن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي و هذا عندهم هو معنى النعيم و العذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف في كلماتهم . و إمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها و دون علمها و سطر حججها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون و هو معلم الإسكندر و يسمونه المعلم الأول على الإطلاق يعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة و هو أول من رتب قانونها و استوفى مسائلها و أحسن بسطها و لقد أحسن في ذلك القانون
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب و أتبع فيها رأيه حذو النعل بالنعل إلا في القليل . و ذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة و أخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم و جادلوا عنها و اختلفوا في مسائل من تفاريعها و كان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة و أبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان و غيرهما . و اعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه . فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول و اكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقا من ذلك " و يخلق ما لا تعلمون " و كأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط و الغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل و العقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء . و أما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات و يعرضونها على معيار المنطق و قانونه فى قاصرة و غير وافية بالغرض . أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية و يسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود و الأقيسة كما في زعمهم و بين ما في الخارج غير يقيني لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة و الموجودات الخارجية متشخصة بموادها . و لعل في المواد ما يمنع مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي اللهم إلا مالا يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها ؟ و ربما يكون تصرف الذهن أيضا في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينيا بمثابة المحسوسات إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك . إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في ديننا و لا معاشنا فوجب علينا تركها . و أما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس و هي الروحانيات و يسمونه العلم الإلهي و علم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأسا و لا يمكن التوصل إليها و لا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا . و نحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا و بينها فلا يأتي لنا برهان عليها و لا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية و أحوال مداركها و خصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد و ما وراء ذلك من حقيقتها و صفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه . و قد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن مالا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية . و قال كبيرهم أفلاطون : إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى أينين و إنما يقال فيها بالأخلق و الأولى يعني الظن : و إذا كنا إنما نحصل بعد التعب و النصب على الظن فقط قيكفينا الظن الذي كان أولا فأي فائدة لهذه العلوم و الاشتغال بها و نحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات و هذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم . و أما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه يتلك البراهين فقول مزيف مردود و تفسيره أن الإنسان مركب من جزءين أحدهما جسماني و الآخر روحاني ممترج به و لكل واحد من الجزءين مدارك مختصة به و المدرك فيهما واحد و هو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية و تارة مدارك جسمانية إلا أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة و المدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس . و كل مدرك فله ابتهاج بما يدركه . و اعتبره بحال الصبى في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء و بما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد و ألذ . فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج و لذة لا يعبر عنهما و هذا الإدراك لا يحصل بنظر و لا علم و إنما يحصل بكشف حجاب الحس و نسيان المدارك الجسمانية بالجملة . و المتصوفة كثيرا ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية و مداركها حتى الفكر من الدماغ و ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب و الموانع الجسمانية يحصل لهم بهجة و لذة لا يعبر عنهما . و هذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم و هو مع ذلك غير واف بمقصودهم . فأما قولهم إن البراهين و الأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك و الابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين و الأدلة من جملة المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال و الفكر و الذكر . و نحن نقول إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له قادحة فيه و تجد الماهر منهم عاكفا على كتاب الشفاء و الإشارات و النجاء و تلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو و غيره يبعثر أوراقها و يتوثق من براهينها و يلتمس هذا القسط من السعادة فيها و لا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها . و مستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو و الفارابي و ابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال و اتصل به في حياته فقد حصل حظة من هذه السعادة . و العقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات و يحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي و قد رأيت فساده و إنما يعني أرسطو و أصحابه بذلك الاتصال و الإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها و بغير واسطة و هو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس . و أما قولهم إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضا لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركا آخر للنفس من غير واسطة و أنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجا شديدا و ذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية و لابد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة . و أما قولهم إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام و الأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه . و بينا فساد ذلك و إن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانيا أو جسمانيا . و الذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكا ذاتيا له مختصا بصنف من المدارك و هي الموجودات التي أحاط بها علمنا و ليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر و أنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجا شديدا كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوءه و من لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها ، هيهات هيهات لما توعدون . و أما قولهم إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه و إصلاحها بملابسة المحمود من الخلق و مجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج للنفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية و ألوانها . و قد بينا أن أثر السعادة و الشقاوة و من وراء الإدراكات الجسمانية و الروحانية فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس و قوانين . و أما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال و الأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين . و قد تنبه لذلك زعيمهم أبو علي ابن سينا فقال في كتاب المبدأ و المعاد ما معناه : إن المعاد الروحاني و أحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية و المقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة و وتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة . و أما المعاد الجسماني و أحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة و قد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلنظر فيها و ليرجع في أحواله إليها . فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع و ظواهرها . و ليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة و هي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة و الحجج لتحصيل ملكة الجودة و الصواب في البراهين . و ذلك أن نظم المقاييس و تركيبها على وجه الأحكام و الإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطيقية و قولهم بذلك في علومهم الطبيعية و هم كثيرا ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات و التعاليم و ما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان و الصواب في الحجج و الاستدلالات لأنها و إن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار . هذه ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم و آرائهم و مضارها ما علمت . فليكن الناظر فيها متحرزا جهده معاطبها و ليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات و الاطلاع على التفسير و الفقه و لا يكبن أحد عليها و هو خلو من علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها . و الله الموفق للصواب و للحق و الهادي إليه . و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
الفصل الثاني و الثلاثون : في ابطال صناعة النجوم و ضعف مداركها و فساد غايتها
هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب و تأثيرها في المولدات العنصرية مفردة و مجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك و الكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية و الشخصية . فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها بالتجربة و هو أمر تقصر الأعمار كلما لو اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن . و أدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد و أحقاب متطارلة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم . و ربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها كانت بالوحي و هو رأي فائل و قد كفونا مؤنة إبطاله . و من أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أبعد الناس عن الصنائع و أنهم لا يتعرضون للإخبار عن الغيب إلا أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة و يشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق . و أما بطليمس و من تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال لأن فعل النيرين و أثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول و أمزجتها و نضج الثمار و الزرع و غير ذلك و فعل القمر في الرطوبات و الماء و إنضاج المواد المتعفنة و فواكه القناء و سائر أفعاله . ثم قال : و لنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس و الثانية الحدس و التجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته و أثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوته و مزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته . ثم إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركبة و ذلك عند تناظرها بأشكال التثليث و التربيع و غيرهما و معرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النير الأعظم . و إذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء و ذلك ظاهر . و المزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولدات و تتخلق به النطف و البزر فتصير حالا للبدن المتكون عنها و للنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه و لما يتبع النفس و البدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة و النطفة كيفيات لما يتولد عنهما و ينشأ منهما . قال : و هو مع ذلك ظني و ليس من اليقين في شيء و ليس هو أيضا من القضاء الإلهي يعني القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن و القضاء الإلهي سابق على كل شيء . هذا محصل كلام بطليمس و أصحابه و هو منصوص في كتابه الأربع و غيره . و منه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة و ذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل و القابل و الصورة و الغاية على ما يتبين في موضعه . و القوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط و الجزء العنصري هو القابل ثم إن القوى النجومية ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب و النوع التي في النطفة و قوى الخاصة التي تميز بها صنف من النوع و غير ذلك . فالقوى النجومية إذا حصل كمالها و حصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن . ثم إنة يشترط مع العلم بقوى النجوم و تأثيراتها مزيد حدس و تخمين و حينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن . و الحدس و التخمين قوى للناظر في فكره و ليس من علل الكائن و لا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس و التخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك . هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده و لم تعترضه آفة و هذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها و لما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه . و مدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبه لجميع القوى من الكواكب و مستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال و هذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة . ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته و احتج له أهل علم الكلام بما هو غني في البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية و العقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف . و القدرة الإلهية رابطة بنهما كما ربطت جميع الكائنات علوا و سفلا سيما و الشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى و يبرأ مما سوى ذلك . و النبؤات أيضا منكرة لشأن النجوم و تأثيراتها . و استقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله إن الشمس و القمر لا يخسفان لموت أحد و لا لحياته و في قوله أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر بي . فأما من قال مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث الصحيح . فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع و ضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث من عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين أتفاقا لا يرجع إلى تعليل و لا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له و يظن اطراد الصدق في سائر أحكامها و ليس كذلك . فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها . ثم ما ينشأ عنها كثيرا في الدول من توقع القواطع و ما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء و المتربصين بالدولة إلى الفتك و الثورة . و قد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران لما ينشأ عنها من المضار في الدين و الدول ، و لا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيا للبشر بمقتضى مداركهم و علومهم . فالخير و الشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما و إنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه و دفع أسباب الشر و المضار . هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم و مضاره . و ليعلم من ذلك أنها و إن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملة تحصيل علمها و لا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر و ظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر . فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها و التحليق لتعليمها و صار المولع بها من الناس و هم الأقل و أقل من الأقل إنما يطالع كتبها و مقالاتها في كسر بيته متسترا عن الناس و تحت ربقة الجمهور مع تشغب الصناعة و كثرة فروعها و اعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل ؟ و نحن نجد الفقه الذي عم نفعه دينا و دنيا و سهلت مآخذه من الكتاب و السنة و عكف الجمهور على قراءته و تعليمه ثم بعد التحقيق و التجميع و طول المدارسة و كثرة المجالس و تعدها إنما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار و الأجيال . فكيف يعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الخطر و التحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة و التحصيل لأصوله و فروعه إلى مزيد حدس و تخمين يكتنفان به من الناظر فأين التحصيل و الحذق فيه مع هذه كلها . و مدعى ذلك من الناس مردود على عقبه و لا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة و قلة حملته فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه . و الله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحدا . و مما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن و حاصروه بالقيروان و كثر إرجاف الفريقين الأولياء و الأعداء و قال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس :
أستغفر الله كل حين قد ذهب العيش و الهناء
أصبح في تونس و أمسي و الصبح لله و المساء
الخوف و الجوع و المنايا يحدثها الهرج و الوباء
و الناس في مرية و حرب و ما عسى ينفع المراء
فأحمدي يرى عليا حل به الهلك و التواء
و آخر قال سوف يأتي به إليكم صبا رخاء
و الله من فوق ذا و هذا يقضي لعيديه ما يشاء
يا راصد الخنس الجواري ما فعلت هذه السماء
مطلتمونا و قد زعمتم أنكم اليوم أملياء
مر خميس على خميس و جاء سبت و أربعاء
و نصف شهر و عشر ثان و ثالث ضمه القضاء
و لا نرى غير زور قول أذاك جهل أم ازدراء
إنا إلى الله قد علمنا أن ليس يستدفع القضاء
رضيت بالله لي إلها حسبكم البدر أو ذكاء
ما هذه الأنجم السواري إلا عباديد أو إماء
يقضى عليها و ليس تقضي و ما لها في الورى اقتضاء
ضلت عقول ترى قديما ما شأنه الجرم و الفناء
و حكمت في الوجود طبعا يحدثه الماء و الهواء
لم تر حلوا إزاء مر تغذوهم تربة و ماء
الله ربي و لست أدري ما الجوهر الفرد و الخلاء
و لا الهيولى التي تنادي ما لي عن صورة عراء
و لا وجود و لا انعدام و لا ثبوت و لا انتفاء
و الكسب لم أدر فيه إلا ما جلب البيع و الشراء
و إنما مذهبي و ديني ما كان للناس أولياء
إذ لا فصول و لا أصول و لا جدال و لا رياء
ما تبع الصدر و اقتفينا يا حبذا كان الاقتفاء
كانوا كما يعلمون منهم و لم يكن ذلك الهذاء
يا أشعري الزمان إني أشعرني الصيف و الشتاء
لم أجز بالشر غير شر و الخير عن مثله جزاء
و إنني إن أكن مطيعا فلست أعصى و لي رجاء
و إنني تحت حكم بار أطاعه العرش و الثراء
ليس انتصار بكم و لكن أتاحه الحكم و القضاء
لو حدث الأشعري عمن له إلى رأيه انتماء
لقال أخبرهم بأني مما يقولونه براء
الفصل الثالث و الثلاثون : في انكار ثمرة الكيميا و استحالة وجودها و ما ينشأ من المفاسد عن انتحالهااعلم أن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع و يرون أنها أحد مذاهب المعاش و وجوهه و أن اقتناء المال منها أيسر و أسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب و المشاق و معاناة الصعاب و عسف الحكام و خساره الأموال في النفقات زيادة على النيل من غرضه و العطب آخرا إذا
الفصل الثاني و الثلاثون : في ابطال صناعة النجوم و ضعف مداركها و فساد غايتها
هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب و تأثيرها في المولدات العنصرية مفردة و مجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك و الكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية و الشخصية . فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها بالتجربة و هو أمر تقصر الأعمار كلما لو اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن . و أدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد و أحقاب متطارلة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم . و ربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها كانت بالوحي و هو رأي فائل و قد كفونا مؤنة إبطاله . و من أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أبعد الناس عن الصنائع و أنهم لا يتعرضون للإخبار عن الغيب إلا أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة و يشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق . و أما بطليمس و من تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال لأن فعل النيرين و أثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول و أمزجتها و نضج الثمار و الزرع و غير ذلك و فعل القمر في الرطوبات و الماء و إنضاج المواد المتعفنة و فواكه القناء و سائر أفعاله . ثم قال : و لنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس و الثانية الحدس و التجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته و أثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوته و مزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته . ثم إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركبة و ذلك عند تناظرها بأشكال التثليث و التربيع و غيرهما و معرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النير الأعظم . و إذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء و ذلك ظاهر . و المزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولدات و تتخلق به النطف و البزر فتصير حالا للبدن المتكون عنها و للنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه و لما يتبع النفس و البدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة و النطفة كيفيات لما يتولد عنهما و ينشأ منهما . قال : و هو مع ذلك ظني و ليس من اليقين في شيء و ليس هو أيضا من القضاء الإلهي يعني القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن و القضاء الإلهي سابق على كل شيء . هذا محصل كلام بطليمس و أصحابه و هو منصوص في كتابه الأربع و غيره . و منه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة و ذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل و القابل و الصورة و الغاية على ما يتبين في موضعه . و القوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط و الجزء العنصري هو القابل ثم إن القوى النجومية ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب و النوع التي في النطفة و قوى الخاصة التي تميز بها صنف من النوع و غير ذلك . فالقوى النجومية إذا حصل كمالها و حصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن . ثم إنة يشترط مع العلم بقوى النجوم و تأثيراتها مزيد حدس و تخمين و حينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن . و الحدس و التخمين قوى للناظر في فكره و ليس من علل الكائن و لا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس و التخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك . هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده و لم تعترضه آفة و هذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها و لما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه . و مدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبه لجميع القوى من الكواكب و مستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال و هذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة . ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته و احتج له أهل علم الكلام بما هو غني في البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية و العقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف . و القدرة الإلهية رابطة بنهما كما ربطت جميع الكائنات علوا و سفلا سيما و الشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى و يبرأ مما سوى ذلك . و النبؤات أيضا منكرة لشأن النجوم و تأثيراتها . و استقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله إن الشمس و القمر لا يخسفان لموت أحد و لا لحياته و في قوله أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر بي . فأما من قال مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث الصحيح . فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع و ضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث من عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين أتفاقا لا يرجع إلى تعليل و لا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له و يظن اطراد الصدق في سائر أحكامها و ليس كذلك . فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها . ثم ما ينشأ عنها كثيرا في الدول من توقع القواطع و ما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء و المتربصين بالدولة إلى الفتك و الثورة . و قد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران لما ينشأ عنها من المضار في الدين و الدول ، و لا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيا للبشر بمقتضى مداركهم و علومهم . فالخير و الشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما و إنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه و دفع أسباب الشر و المضار . هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم و مضاره . و ليعلم من ذلك أنها و إن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملة تحصيل علمها و لا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر و ظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر . فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها و التحليق لتعليمها و صار المولع بها من الناس و هم الأقل و أقل من الأقل إنما يطالع كتبها و مقالاتها في كسر بيته متسترا عن الناس و تحت ربقة الجمهور مع تشغب الصناعة و كثرة فروعها و اعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل ؟ و نحن نجد الفقه الذي عم نفعه دينا و دنيا و سهلت مآخذه من الكتاب و السنة و عكف الجمهور على قراءته و تعليمه ثم بعد التحقيق و التجميع و طول المدارسة و كثرة المجالس و تعدها إنما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار و الأجيال . فكيف يعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الخطر و التحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة و التحصيل لأصوله و فروعه إلى مزيد حدس و تخمين يكتنفان به من الناظر فأين التحصيل و الحذق فيه مع هذه كلها . و مدعى ذلك من الناس مردود على عقبه و لا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة و قلة حملته فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه . و الله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحدا . و مما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن و حاصروه بالقيروان و كثر إرجاف الفريقين الأولياء و الأعداء و قال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس :
أستغفر الله كل حين قد ذهب العيش و الهناء
أصبح في تونس و أمسي و الصبح لله و المساء
الخوف و الجوع و المنايا يحدثها الهرج و الوباء
و الناس في مرية و حرب و ما عسى ينفع المراء
فأحمدي يرى عليا حل به الهلك و التواء
و آخر قال سوف يأتي به إليكم صبا رخاء
و الله من فوق ذا و هذا يقضي لعيديه ما يشاء
يا راصد الخنس الجواري ما فعلت هذه السماء
مطلتمونا و قد زعمتم أنكم اليوم أملياء
مر خميس على خميس و جاء سبت و أربعاء
و نصف شهر و عشر ثان و ثالث ضمه القضاء
و لا نرى غير زور قول أذاك جهل أم ازدراء
إنا إلى الله قد علمنا أن ليس يستدفع القضاء
رضيت بالله لي إلها حسبكم البدر أو ذكاء
ما هذه الأنجم السواري إلا عباديد أو إماء
يقضى عليها و ليس تقضي و ما لها في الورى اقتضاء
ضلت عقول ترى قديما ما شأنه الجرم و الفناء
و حكمت في الوجود طبعا يحدثه الماء و الهواء
لم تر حلوا إزاء مر تغذوهم تربة و ماء
الله ربي و لست أدري ما الجوهر الفرد و الخلاء
و لا الهيولى التي تنادي ما لي عن صورة عراء
و لا وجود و لا انعدام و لا ثبوت و لا انتفاء
و الكسب لم أدر فيه إلا ما جلب البيع و الشراء
و إنما مذهبي و ديني ما كان للناس أولياء
إذ لا فصول و لا أصول و لا جدال و لا رياء
ما تبع الصدر و اقتفينا يا حبذا كان الاقتفاء
كانوا كما يعلمون منهم و لم يكن ذلك الهذاء
يا أشعري الزمان إني أشعرني الصيف و الشتاء
لم أجز بالشر غير شر و الخير عن مثله جزاء
و إنني إن أكن مطيعا فلست أعصى و لي رجاء
و إنني تحت حكم بار أطاعه العرش و الثراء
ليس انتصار بكم و لكن أتاحه الحكم و القضاء
لو حدث الأشعري عمن له إلى رأيه انتماء
لقال أخبرهم بأني مما يقولونه براء
الفصل الثالث و الثلاثون : في انكار ثمرة الكيميا و استحالة وجودها و ما ينشأ من المفاسد عن انتحالهااعلم أن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع و يرون أنها أحد مذاهب المعاش و وجوهه و أن اقتناء المال منها أيسر و أسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب و المشاق و معاناة الصعاب و عسف الحكام و خساره الأموال في النفقات زيادة على النيل من غرضه و العطب آخرا إذا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
ظهر على خيبة و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . و إنما أطمعهم في ذلك رؤية أن المعادن تستحيل و ينقلب بعضها إلى بعض للمادة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضة ذهبا و النحاس و القصدير فضة و يحسبون أنها من ممكنات عالم الطبيعة و لهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير و صورته و في المادة الموضوعة عندهم للعلاج المساة عندهم بالحجر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك . و جملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس و تسقى أثناء إمهائها بالماء و بعد أن يضاف إليها من العقاقير و الأدوية ما يناسب القصد منها و يوثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب . ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراج مائها أو ترابها فإذا رضي بذلك كله من علاجها و تم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسمونه الإكسير و يزعمون أنه إذا ألقى على الفضة المحماة بالنار عادت ذهبا أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على ما قصد به في عمله . و يزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاص و التدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها و تقلبه إلى صورتها و مزاجها و تبث فيه ما حصل فيها من الكيفيات و القوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها و تعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش و الهشاشة ليحسن هضمة في المعدة و يستحيل سريعا إلى الغذاء . و كذا إكسير الذهب و الفضة فيما يحصل فيه من المعادن يصرفه إليهما و يقلبه إلى صورتهما . هذا محصل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق و المعاش فيه و يتناقلون أحكامه و قواعده من كتب لأئمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم و يتناظرون في فهم لغوزها و كشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمى . كتآليف جابر بن حيان في رسائله السبعين و مسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم و الطغرائي و المغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم و أمثالها و لا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها . ففاوضت يوما شيخنا أبا البركات التلفيفي كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك و وقفته على بعض التآليف فيها فتصفحه طويلا ثم رده إلي و قال لي و أنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة . ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط . إما الظاهرة كتمويه الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن بالصناعة مثل تبييض النحاس و تلبيسه بالزوق المصعد فيجيء جسما معدنيا شبيها بالفضة و يخفى إلا على النقاد المهرة فيقدر أصحاب هذه الدلس مع دلستهم هذه سكة يسربونها في الناس و يطبعونها بطابع السلطان تمويها على الجمهور بالخلاص . و هؤلاء أخس الناس حرفة و أسوأهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاسا في الفضة و فضة في الذهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق أو شر من السارق . و معظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع و مساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية و يموهون على الأغنياء منهم بأن بأيديهم صناعة الذهب و الفضة و النفوس مولعة بحبهما و الاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش . ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف و الرقبة إلى أن يظهر العجز و تقع الفضيحة فيفرون إلى موضع آخر و يستجدون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم . و لا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم و هذا الصنف لا كلام معهم لأنهم بلغوا الغاية في الجهل و الرداءة و الاحتراف بالسرقة و لا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم و تناولهم من حيث كانوا و قطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأن فيه إفسادا للسكة التي تعم بها البلوى و هي متمول الناس كافة . و السلطان مكلف بإصلاحها و الاحتياط عليها و الاشتداد على مفسديها . و أما من انتحل هذه الصناعة ولم يرض بحال الدلسة بل استنكف عنها و نزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين و نقودهم و إنما يطلب إحالة الفضة للذهب و الرصاص و النحاس و القصدير إلى الفضة بذلك النحو من العلاج و بالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلم و بحث في مداركهم لذلك . مع أنا لا نعلم أن أحدا من أهل العالم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية إنما تذهب أعمارهم في التدبير و الفهر و الصلابة و التصعيد و التكليس و اعتيام الأخطار بجمع العقاقير و البحث عنها . و يتناقلون في ذلك حكايات و تمت لغيرهم ممن تم له الغرض منها أو وقف على الوصول يقنعون باستماعها و المفاوضات فيها و لا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه و قالوا إنما سمعنا و لم نر . هكذا شأنهم في كل عصر و جيل و اعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم و قد تكلم الناس فيها من المتقدمين و المتأخرين فلننقل مذاهبهم في ذلك ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه فنقول إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المتطرقة و هي الذهب و الفضة و الرصاص و القصدير و النحاس و الحديد والخارصين هل هي مختلفات بالفصول و كلها أنواع قائمة بأنفسها أو إنها مختلفة بخواص من الكيفيات و هي كلها أصناف لنوع واحد ؟ فالذي ذهب إليه أبو البصر الفارابي و تابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد و أن اختلافها إنما هو بالكيفيات من الرطوبة و اليبوسة و اللين و الصلابة و الألوان من الصفرة و البياض والسواد و هي كلها أصناف لذلك النوع الواحد و الذي ذهب إليه ابن سينا و تابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول و أنها أنواع متباينة كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته له فصل و جنس شأن سائر الأنواع . و بنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدل الأغراض حينئذ و علاجها بالصنعة . فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عنده ممكنة سهلة المأخذ . و بنى أبو علي بن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة و استحالة وجودها بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه و إنما يخلقه خالق الأشياء و مقدرها و هو الله عز و جل . و الفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتصوف فكيف يحاول انقلابها بالصنعة . و غلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول . و رد عليه بأن التدبير و العلاج ليس في تخليق الفصل و إبداعه و إنما هو في إعداد المادة لقبوله خاصة . و الفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه و بارئه كما يفيض النور على الأجسام بالصقل و الإمهاء . و لا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره و معرفته قال : و إذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التراب و النتن و مثل الحيات المتكونة من الشعر و مثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر . و تكوين القصب من قرون ذوات الظلف و تصييره سكرا بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذهب و الفضة . فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب و الفضة . ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها . انتهى كلام الطغرائي بمعناه . و هو الذي ذكرة في الرد على ابن سينا صحيح . لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذا آخر يتبين منه استحالة وجودها و بطلان مزعمهم أجمعين لا الطغرائي و لا ابن سينا . و ذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا و يحاذون في تدبيرها و علاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى أحالته ذهبا أو فضة و يضاعفون القوى الفاعلة و المنفعلة ليتم في زمان أقصر . لأنة تبين في موضوعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله و تبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف و ثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى و الكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته و ذلك هو الإكسير على ما تقدم . و اعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية فلابد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما تم امتزاجها فلابد من الجزء الغالب على الكل . و لابد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ، ثم كل متكون في زمان فلابد من اختلاف أطواره و انتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته . و انظر شأن الإنسان في طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم إلى نهايته . و نسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها و كيفياتها و إلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر و كذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر . فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة و ثمانين و ما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن و يحاذيه بتدبيره و علاجه إلى أن يتم . و من شرط الصناعة أبدا تصورها يقصد إليه بالصنعة فمن الأمثال السائرة للحكماء أول العمل آخر الفكرة و آخر الفكرة أول العمل . فلابد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة و نسبها المتفاوتة في كل طور و اختلاف الحار الغريزي عند اختلافها و مقدار الزمان في كل طور و ما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة و يقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية كصورة الخميرة للخبز و تفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها و مقاديرها . و هذه المادة إنما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك و إنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة . بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني . و نحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه و نسبته و أطواره و كيفية تخليقه في رحمه و علم ذلك علما محصلا بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سلمنا له تحليق هذا الإنسان وأنى له ذلك . و لنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول حاصل صناعة الكيمياء و ما يدعونه بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعية المعدنية بالفعل الصناعي و محاذاتها به إلى أن يتم كون الجسم المعدني أو تخليق مادة بقوى و أفعال و صورة مزاجية تفعل في الجسم فعلا طبيعيا فتصيره و تقلبه إلى صورتها . و الفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادة ذات القوى فيها تصورا مفصلا واحدة بعد أخرى . و تلك الأحوال لا نهاية لها و العلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونها و هو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات . هذا محصل هذا البرهان و هو أوثق ما علمته و ليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته و لا من الطبيعة إنما هو من تعذر الإحاطة و قصور البشر عنها . و ما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك و له وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته . و ذلك أن حكمة الله في الحجرين و ندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس و متمولاتهم . فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك و كثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء . و له وجه آخر من الاستحالة أيضا و هو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطريق في أفعالها و ترتكب الأعوص و الأبعد . فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح و أنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها أو أقل زمانا لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في كون الفضة و الذهب و تخلقهما و أما تشبيه الطغراءي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب و النحل و الحية وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم . و أما الكيمياء فلم تنقل عن أحد من أهل العالم أنه عثر عليها و لا على طريقها و ما زال منتحلوها يخبطون فيها عشواء إلى هلم جرا و لا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة . و لو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه و أصحابه و تنوقل في الأصدقاء و ضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر و يبلغ إلينا و إلى غيرنا . و أما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة . و إنه مركب يحيل ما يحصل فيه و يقلبه إلى ذلك فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين و تعده للهضم و هو فساد و الفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال و الطبائع . و المطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه و أعلى فهو تكوين و صلاح و التكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة . و تحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان و مسلمة بن أحمد المجريطي و أمثالهم فليست من باب الصنائع الطبيعية و لا تتم بأمر صناعي . و ليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية و سائر الخوارق و ما كان من ذلك للحلاج و غيره و قد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبة ذلك . و كلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى و هذا كلام جابر في رسائله و نحو كلامهم فيه معروف و لا حاجة بنا إلى شرحه و بالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع فكما لا يتدبر ما منه الخشب و الحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم و لا شهر و لا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد ما وراء عالم الطبائع و عمل الصنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله و عمله و يقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم لأن نيله إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الطبائع و الصنائع كالمشي على الماء و امتطاء الهواء و النفوذ في كشائف الأجساد و نحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير و نحوها من معجزات الأنبياء . قال تعالى : " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني " و على ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها . فربما أوتيها الصالح و يؤتيها غيره فتكون عنده معارة . و ربما أوتيها الصالح و لا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره . و من هذا الباب يكون عملها سحريا فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس و خوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحرا . و لهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها إلغازا لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر و اطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة . و أمور خرق العادة غير منحصرة و لا يقصد أحد إلى تحصيلها . و الله بما يعملون محيط . و أكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة و انتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش و ابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة و التجارة و الصناعة فيصعب العاجز ابتغاءه من هذه و يروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء و غيرها . و أكثر من يعني بذلك الفقراء من أهل العمران حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها و استحالتها . فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان عليه الوزراء فكان من أهل الغنى و الثروة و الفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش و أسبابه . و هذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها و انتحالها . و الله الرازق ذو القوة المتين لا رب سواه .
الفصل الرابع و الثلاثون : في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل
اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم و الوقوف على غاياته كثرة التآليف و اختلاف الاصطلاحات في التعاليم و تعد طرقها ثم مطالبة المتعلم و التلميذ باستحضار ذلك . و حينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها و مراعاة طرقها . و لا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور و لابد دون رتبة التحصيل . و يمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلا و ما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس و اللخمي و ابن بشير و التنبيهات و المقدمات و البيان و التحصيل على العتبية و كذلك كتاب ابن الحاجب و ما كتب عليه . ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية و البغدادية و المصرية و طرق المتأخرين عنهم و الإحاطة بذلك كله و حينئذ يسلم له منصب الفتيا و هي كلها متكررة والمعنى واحد . و المتعلم مطالب باستحضار جميعها و تمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها . و لو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير و كان التعليم سهلا و مأخذه قريبا و لكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها و لا تحويلها و يمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه و جميع ما كتب عليه و طرق البصريين و الكوفيين و البغداديين و الأندلسيين من بعدهم و طرق المتقدمين و المتأخرين مثل ابن الحاجب و ابن مالك و جميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلم و ينقضي عمره دونه و لا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسييبويه و ابن جني و أهل طبقتهما لعظيم ملكته و ما أحاط به من أمصول ذلك الفن و تفاريعه و حسن تصرفه فيه . و ذلك على أن الفضل ليس منحصرا في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب و الطرق و التآليف و لكن فضل الله يؤتيه من يشاء . و هذا نادر من نوادر الوجود و إلا فالظاهر أن المتعلم و لو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات و وسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ؟ و لكن الله يهدي من يشاء .
الفصل الخامس و الثلاثون : في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و إلغاء ما سواها
اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولا ، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانيا ، إما بغير وسط أو بوسط ، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعنى بإثباتها أو نفيها . فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلابد من بيانها لآخر : إما على وجه التعليم ، أو على وجه المفاوضة ، تصقل الأفكار في تصحيحها . و ذلك البيان إنما يكون بالعبارة ، و هي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التى خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف ، و هي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة و اللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم و هذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر ، و إن كان معظمها و أشرفها العلوم ، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم . و بعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية لا يؤدى بها ما في الضمير ، لمن توارى أو غاب شخصه و بعد ، أو لمن يأتي بعد و لم يعاصره و لا لقيه . و هذا البيان منحصر في الكتابة ، و هي رقوم باليد تدل أشكالها و صورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفا بحروف و كلمات بكلمات ، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي ، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا ، فسمي هذا البيان . يدل على ما في الضمائر من العلوم و المعارف ، فهو أشرفها . و أهل الفنون معتنون يإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة ، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب و المتأخر و هؤلاء هم المؤلفون . و التآليف بين العوالم البشرية و الأمم الإنسانية كثير ، و منتقلة في الأجيال و الأعصار و تختلف باختلاف الشرائع و الملل و الأخبار عن الأمم و الدول . و أما العلوم الفلسفية ، فلا اختلاف فيها ، لأنها إنما تأتي على نهج واحد ، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية ، في تصور الموجودات على ما هي عليه ، جسمانيها و روحانيها و فلكيها و عنصريها و مجردها و مادتها . فإن هذه العلوم لا تختلف ، و إنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل ، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر . ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها و أشكالها ، و يسمى ذلك قلما و خطا . فمنها الخط الحميري ، و يسمى المسند ، و هو كتابة حمير و أهل اليمن الأقدمين ، و هو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر ، كما يخالف لغتهم . و إن الكل عربيا . إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان و العبارة غير ملكة أولئك . و لكل منهما قوانين كلية مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين . و ربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة . و منها الخط السرياني ، و هو كتابة النبط و الكلدانيين . و ربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم ، و هذا وهم ، و مذهب عامي . لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع ، و إنما هو يستمر بالقديم و المران حتى يصير ملكة راسخة ، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية ، فيقولون : العرب كانت تعرب بالطبع و تنطق بالطبع . و هذا وهم . و منها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل و غيرهم . و منها الخط اللطيني ، خط اللطينيين من الروم ، و لهم أيضا لسان مختص بهم . و لكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها و يختص بها . مثل الترك و الفرنج و الهنود و غيرهم . و إنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى . أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا ، و أما العربي و العبري فلتنزل القرآن و التوراة بهما بلسانهما . و كان هذان الخطان بيانا لمتلوهما ، فوقعت العناية بمنظومهما أولا و انبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني . و أما اللطيني فكان الروم ، و هم أهل ذلك اللسان ، لما أخذوا بدين النصرانية ، و هو كله من التوراة ، كما سبق في أول الكتاب ، ترجموا التوراة و كتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم ، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق . و صارت عنايتهم بلغتهم و كتابتهم آكد من سواها . و أما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية ، و إنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها . ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها و إلغاء ما سواها ، فعدوها سبعة :
أولها : استنباط العلم بموضوعه و تقسيم أبوابه و فصوله و تتبع مسائله ، أو استنباط مسائل و مباحث تعرض للعالم المحقق و يحرص على إيصاله بغيره ، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف ، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة ، كما وقع في الأصول في الفقه . تكلم الشافعى أولا في الأدلة الشرعية اللفظية و لخصها ، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس و استوعبوها ، و انتفع بذلك من بعدهم إلى الآن .
و ثانيها : أن يقف على كلام الأولين و تآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام و يفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه ، لتصل الفائدة لمستحقها . و هذه طريقة البيان لكتب المعقول و المنقول ، و هو فصل شريق .
و ثالثها : أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله و بعد في الإفادة صيتة ، و يستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه ، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعدة ، إذ قد تعذر محوه و نزعه بانتشار التآليف في الأفاق و الأعصار ، و شهرة المؤلف و وثوق الناس بمعارفه ، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك .
و رابعها : أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله و فصوله ، و لا يبقى للنقص فيه مجال .
و خامسها : أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها و لا منتظمة ، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها و يهذبها ، و يجعل كل مسئلة في بابها ، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم ، و في العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك ، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة و بقيت العتبية غير مهذبة . فنجد في كل باب مسائل من غيره . و استغنوا بالمدونة و ما فعله ابن أبي زيد فيها و البرادعي من بعده .
و سادسها : أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن و جميع مسائله ، فيفعل ذلك ، و يظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم ، كما وقع في علم البيان . فإن عبد القاهر الجرجاني و أبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو و قد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان و التبيين مسائل كثيرة ، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم و انفراده عن سائر العلوم ، فكتبت في ذلك تأليفهم المشهورة ، و صارت أصولا لفن البيان ، و لقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم .
الفصل الرابع و الثلاثون : في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل
اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم و الوقوف على غاياته كثرة التآليف و اختلاف الاصطلاحات في التعاليم و تعد طرقها ثم مطالبة المتعلم و التلميذ باستحضار ذلك . و حينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها و مراعاة طرقها . و لا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور و لابد دون رتبة التحصيل . و يمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلا و ما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس و اللخمي و ابن بشير و التنبيهات و المقدمات و البيان و التحصيل على العتبية و كذلك كتاب ابن الحاجب و ما كتب عليه . ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية و البغدادية و المصرية و طرق المتأخرين عنهم و الإحاطة بذلك كله و حينئذ يسلم له منصب الفتيا و هي كلها متكررة والمعنى واحد . و المتعلم مطالب باستحضار جميعها و تمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها . و لو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير و كان التعليم سهلا و مأخذه قريبا و لكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها و لا تحويلها و يمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه و جميع ما كتب عليه و طرق البصريين و الكوفيين و البغداديين و الأندلسيين من بعدهم و طرق المتقدمين و المتأخرين مثل ابن الحاجب و ابن مالك و جميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلم و ينقضي عمره دونه و لا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسييبويه و ابن جني و أهل طبقتهما لعظيم ملكته و ما أحاط به من أمصول ذلك الفن و تفاريعه و حسن تصرفه فيه . و ذلك على أن الفضل ليس منحصرا في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب و الطرق و التآليف و لكن فضل الله يؤتيه من يشاء . و هذا نادر من نوادر الوجود و إلا فالظاهر أن المتعلم و لو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات و وسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ؟ و لكن الله يهدي من يشاء .
الفصل الخامس و الثلاثون : في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و إلغاء ما سواها
اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولا ، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانيا ، إما بغير وسط أو بوسط ، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعنى بإثباتها أو نفيها . فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلابد من بيانها لآخر : إما على وجه التعليم ، أو على وجه المفاوضة ، تصقل الأفكار في تصحيحها . و ذلك البيان إنما يكون بالعبارة ، و هي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التى خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف ، و هي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة و اللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم و هذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر ، و إن كان معظمها و أشرفها العلوم ، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم . و بعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية لا يؤدى بها ما في الضمير ، لمن توارى أو غاب شخصه و بعد ، أو لمن يأتي بعد و لم يعاصره و لا لقيه . و هذا البيان منحصر في الكتابة ، و هي رقوم باليد تدل أشكالها و صورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفا بحروف و كلمات بكلمات ، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي ، فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا ، فسمي هذا البيان . يدل على ما في الضمائر من العلوم و المعارف ، فهو أشرفها . و أهل الفنون معتنون يإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة ، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب و المتأخر و هؤلاء هم المؤلفون . و التآليف بين العوالم البشرية و الأمم الإنسانية كثير ، و منتقلة في الأجيال و الأعصار و تختلف باختلاف الشرائع و الملل و الأخبار عن الأمم و الدول . و أما العلوم الفلسفية ، فلا اختلاف فيها ، لأنها إنما تأتي على نهج واحد ، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية ، في تصور الموجودات على ما هي عليه ، جسمانيها و روحانيها و فلكيها و عنصريها و مجردها و مادتها . فإن هذه العلوم لا تختلف ، و إنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل ، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر . ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها و أشكالها ، و يسمى ذلك قلما و خطا . فمنها الخط الحميري ، و يسمى المسند ، و هو كتابة حمير و أهل اليمن الأقدمين ، و هو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر ، كما يخالف لغتهم . و إن الكل عربيا . إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان و العبارة غير ملكة أولئك . و لكل منهما قوانين كلية مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين . و ربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة . و منها الخط السرياني ، و هو كتابة النبط و الكلدانيين . و ربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم ، و هذا وهم ، و مذهب عامي . لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع ، و إنما هو يستمر بالقديم و المران حتى يصير ملكة راسخة ، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية ، فيقولون : العرب كانت تعرب بالطبع و تنطق بالطبع . و هذا وهم . و منها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل و غيرهم . و منها الخط اللطيني ، خط اللطينيين من الروم ، و لهم أيضا لسان مختص بهم . و لكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها و يختص بها . مثل الترك و الفرنج و الهنود و غيرهم . و إنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى . أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا ، و أما العربي و العبري فلتنزل القرآن و التوراة بهما بلسانهما . و كان هذان الخطان بيانا لمتلوهما ، فوقعت العناية بمنظومهما أولا و انبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني . و أما اللطيني فكان الروم ، و هم أهل ذلك اللسان ، لما أخذوا بدين النصرانية ، و هو كله من التوراة ، كما سبق في أول الكتاب ، ترجموا التوراة و كتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم ، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق . و صارت عنايتهم بلغتهم و كتابتهم آكد من سواها . و أما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية ، و إنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها . ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها و إلغاء ما سواها ، فعدوها سبعة :
أولها : استنباط العلم بموضوعه و تقسيم أبوابه و فصوله و تتبع مسائله ، أو استنباط مسائل و مباحث تعرض للعالم المحقق و يحرص على إيصاله بغيره ، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف ، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة ، كما وقع في الأصول في الفقه . تكلم الشافعى أولا في الأدلة الشرعية اللفظية و لخصها ، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس و استوعبوها ، و انتفع بذلك من بعدهم إلى الآن .
و ثانيها : أن يقف على كلام الأولين و تآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام و يفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه ، لتصل الفائدة لمستحقها . و هذه طريقة البيان لكتب المعقول و المنقول ، و هو فصل شريق .
و ثالثها : أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله و بعد في الإفادة صيتة ، و يستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه ، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعدة ، إذ قد تعذر محوه و نزعه بانتشار التآليف في الأفاق و الأعصار ، و شهرة المؤلف و وثوق الناس بمعارفه ، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك .
و رابعها : أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله و فصوله ، و لا يبقى للنقص فيه مجال .
و خامسها : أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها و لا منتظمة ، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها و يهذبها ، و يجعل كل مسئلة في بابها ، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم ، و في العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك ، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة و بقيت العتبية غير مهذبة . فنجد في كل باب مسائل من غيره . و استغنوا بالمدونة و ما فعله ابن أبي زيد فيها و البرادعي من بعده .
و سادسها : أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن و جميع مسائله ، فيفعل ذلك ، و يظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم ، كما وقع في علم البيان . فإن عبد القاهر الجرجاني و أبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو و قد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان و التبيين مسائل كثيرة ، تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم و انفراده عن سائر العلوم ، فكتبت في ذلك تأليفهم المشهورة ، و صارت أصولا لفن البيان ، و لقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
احمدعبدالعليم- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 5479
المهارة : 28583
تاريخ التسجيل : 02/04/2010
الكفاءة : 31
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
و سابعها : أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك ، بالاختصار و الايجاز و حذف المتكرر ، إن وقع ، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول .
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها . و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء ، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس ، من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه ، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه ، أو يبدل الصواب بالخطأ ، أو يأتي بما لا فائدة فيه . فهذا شأن الجهل و القحة . و لذا قال أرسطو ، لما عدد هذه المقاصد ، و انتهى إلى آخرها فقال : و ما سوى ذلك ففصل أو شره ، يعني بذلك الجهل و القحة . نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه . و الله يهدي للتي هي أقوم .
الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن . و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم . و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم . و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي . ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها . لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت . ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة . و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها . و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له . و الله سبحانه و تعالى أعلم .
الفصل السابع و الثلاثون : في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب . و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة . و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات . و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة . ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه ، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه . و إنما إلى ذلك من سوء التعليم . و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره . لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم . و الله يهدي من يشاء . و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها . و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه . و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون . و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة . و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب . و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ . تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب . و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا . أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات . ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض . فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر . و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى . و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه . ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب . فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك . فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق . ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه . و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة ، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب . و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله . فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه . و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون . فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان . و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله . و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها . و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر . فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب . و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله .
الفصل الثامن و الثلاثون : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين : علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة ، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة . و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة . و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط . و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير . فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها . و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني . و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده . فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له .
الفصل التاسع و الثلاثون : في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث . و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات . و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات . و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه . و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات . فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط ، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة . و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر ، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة . و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره . فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم . و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو ، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم . إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم . فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب . و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه ، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم . لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول . و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم . و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك . و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس ، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك . و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها . و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان . و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته . فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها . و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام . و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله . و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر ، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي . و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها . فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي . و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس . قال : لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة . ثم قال : و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه . ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه ، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط . هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب ، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن ، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم . فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه . و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق . و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه .
الفصل الأربعون : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة . و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع . و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله . و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين . و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه . و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به . و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق . و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه . فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب . و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين : لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا . و من كلام عمر رضي الله عنه : من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله . حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته . و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده . قال خلف الأحمر : بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال : يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه . و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه . و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه . و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة . انتهى .
الفصل الحادي و الأربعون : في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل : تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة . إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا . فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها . و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم . و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين . فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم . و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية . فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال . و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الفصل الثاني و الأربعون : في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن ، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس . و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات . و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي . فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر . و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية . التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج . فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها . و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية . و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها . و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم . و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط . و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج . قال الشاعر :
فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره . و فوق كل ذي علم عليم . و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع ، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني . و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني . و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه . و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل الثالث و الأربعون : في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجممن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر . و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي . و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه . و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة . و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك . و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا . فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح . قال صلى الله عليه و سلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله و سنتي " . فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع . و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها . و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم . و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم . و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق . و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين . و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم . و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : " لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس " . و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم . و النظر فيه ، فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع . و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين . و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار . حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية . فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم . و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه . و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا . فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر . فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة . و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع . و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك ، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر . و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني . و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة . فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة . و الله
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها . و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء ، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس ، من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه ، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه ، أو يبدل الصواب بالخطأ ، أو يأتي بما لا فائدة فيه . فهذا شأن الجهل و القحة . و لذا قال أرسطو ، لما عدد هذه المقاصد ، و انتهى إلى آخرها فقال : و ما سوى ذلك ففصل أو شره ، يعني بذلك الجهل و القحة . نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه . و الله يهدي للتي هي أقوم .
الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن . و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم . و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم . و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي . ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها . لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت . ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة . و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها . و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له . و الله سبحانه و تعالى أعلم .
الفصل السابع و الثلاثون : في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب . و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة . و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات . و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة . ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه ، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه . و إنما إلى ذلك من سوء التعليم . و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره . لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم . و الله يهدي من يشاء . و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها . و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه . و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون . و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة . و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب . و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ . تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب . و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا . أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات . ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض . فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر . و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى . و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه . ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب . فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك . فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق . ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه . و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة ، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب . و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله . فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه . و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون . فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان . و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله . و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها . و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر . فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب . و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله .
الفصل الثامن و الثلاثون : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين : علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة ، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة . و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة . و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط . و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير . فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها . و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني . و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده . فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له .
الفصل التاسع و الثلاثون : في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث . و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات . و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات . و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه . و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات . فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط ، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة . و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر ، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة . و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره . فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم . و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو ، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم . إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم . فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب . و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه ، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم . لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول . و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم . و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك . و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس ، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك . و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها . و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان . و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته . فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها . و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام . و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله . و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر ، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي . و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها . فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي . و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس . قال : لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة . ثم قال : و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه . ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه ، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط . هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب ، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن ، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم . فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه . و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق . و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه .
الفصل الأربعون : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة . و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع . و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله . و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين . و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه . و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به . و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق . و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه . فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب . و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين : لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا . و من كلام عمر رضي الله عنه : من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله . حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته . و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده . قال خلف الأحمر : بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال : يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه . و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه . و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه . و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة . انتهى .
الفصل الحادي و الأربعون : في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل : تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة . إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا . فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها . و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم . و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين . فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم . و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية . فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال . و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الفصل الثاني و الأربعون : في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن ، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس . و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات . و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي . فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر . و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية . التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج . فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها . و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية . و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها . و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم . و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط . و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج . قال الشاعر :
فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره . و فوق كل ذي علم عليم . و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع ، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني . و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني . و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه . و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل الثالث و الأربعون : في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجممن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر . و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي . و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه . و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة . و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك . و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا . فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح . قال صلى الله عليه و سلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله و سنتي " . فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع . و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها . و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم . و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم . و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق . و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين . و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم . و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : " لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس " . و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم . و النظر فيه ، فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع . و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين . و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار . حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية . فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم . و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه . و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا . فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر . فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة . و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع . و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك ، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر . و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني . و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة . فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة . و الله
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
و سابعها : أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك ، بالاختصار و الايجاز و حذف المتكرر ، إن وقع ، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول .
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها . و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء ، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس ، من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه ، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه ، أو يبدل الصواب بالخطأ ، أو يأتي بما لا فائدة فيه . فهذا شأن الجهل و القحة . و لذا قال أرسطو ، لما عدد هذه المقاصد ، و انتهى إلى آخرها فقال : و ما سوى ذلك ففصل أو شره ، يعني بذلك الجهل و القحة . نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه . و الله يهدي للتي هي أقوم .
الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن . و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم . و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم . و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي . ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها . لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت . ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة . و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها . و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له . و الله سبحانه و تعالى أعلم .
الفصل السابع و الثلاثون : في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب . و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة . و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات . و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة . ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه ، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه . و إنما إلى ذلك من سوء التعليم . و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره . لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم . و الله يهدي من يشاء . و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها . و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه . و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون . و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة . و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب . و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ . تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب . و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا . أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات . ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض . فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر . و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى . و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه . ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب . فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك . فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق . ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه . و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة ، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب . و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله . فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه . و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون . فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان . و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله . و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها . و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر . فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب . و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله .
الفصل الثامن و الثلاثون : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين : علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة ، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة . و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة . و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط . و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير . فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها . و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني . و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده . فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له .
الفصل التاسع و الثلاثون : في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث . و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات . و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات . و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه . و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات . فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط ، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة . و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر ، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة . و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره . فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم . و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو ، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم . إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم . فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب . و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه ، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم . لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول . و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم . و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك . و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس ، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك . و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها . و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان . و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته . فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها . و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام . و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله . و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر ، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي . و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها . فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي . و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس . قال : لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة . ثم قال : و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه . ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه ، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط . هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب ، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن ، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم . فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه . و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق . و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه .
الفصل الأربعون : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة . و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع . و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله . و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين . و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه . و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به . و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق . و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه . فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب . و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين : لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا . و من كلام عمر رضي الله عنه : من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله . حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته . و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده . قال خلف الأحمر : بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال : يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه . و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه . و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه . و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة . انتهى .
الفصل الحادي و الأربعون : في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل : تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة . إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا . فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها . و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم . و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين . فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم . و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية . فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال . و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الفصل الثاني و الأربعون : في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن ، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس . و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات . و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي . فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر . و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية . التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج . فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها . و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية . و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها . و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم . و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط . و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج . قال الشاعر :
فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره . و فوق كل ذي علم عليم . و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع ، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني . و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني . و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه . و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل الثالث و الأربعون : في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجممن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر . و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي . و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه . و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة . و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك . و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا . فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح . قال صلى الله عليه و سلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله و سنتي " . فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع . و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها . و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم . و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم . و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق . و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين . و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم . و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : " لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس " . و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم . و النظر فيه ، فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع . و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين . و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار . حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية . فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم . و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه . و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا . فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر . فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة . و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع . و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك ، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر . و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني . و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة . فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة . و الله
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها . و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء ، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس ، من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه ، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه ، أو يبدل الصواب بالخطأ ، أو يأتي بما لا فائدة فيه . فهذا شأن الجهل و القحة . و لذا قال أرسطو ، لما عدد هذه المقاصد ، و انتهى إلى آخرها فقال : و ما سوى ذلك ففصل أو شره ، يعني بذلك الجهل و القحة . نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه . و الله يهدي للتي هي أقوم .
الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن . و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم . و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم . و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي . ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها . لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت . ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة . و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها . و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له . و الله سبحانه و تعالى أعلم .
الفصل السابع و الثلاثون : في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب . و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة . و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله . ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته . ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات . و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة . ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه ، حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه . و إنما إلى ذلك من سوء التعليم . و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره . لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم . و الله يهدي من يشاء . و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها . و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه . و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون . و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة . و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب . و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ . تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب . و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا . أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات . ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض . فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر . و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى . و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه . ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب . فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك . فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق . ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه . و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة ، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب . و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله . فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه . و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون . فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان . و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله . و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها . و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر . فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب . و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله .
الفصل الثامن و الثلاثون : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين : علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة ، و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة . و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة . و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط . و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير . فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها . و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني . و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده . فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له .
الفصل التاسع و الثلاثون : في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث . و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات . و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات . و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه . و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات . فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط ، و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة . و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر ، أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة . و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره . فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم . و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو ، و هذا هو الذي يراعونه في التعليم . إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم . فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب . و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه ، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم . لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول . و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم . و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك . و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس ، و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك . و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها . و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان . و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته . فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها . و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام . و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله . و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر ، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي . و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها . فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي . و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس . قال : لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة . ثم قال : و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه . ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه ، و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط . هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب ، و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن ، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم . فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه . و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق . و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه .
الفصل الأربعون : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة . و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع . و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله . و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين . و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه . و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به . و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق . و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه . فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب . و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين : لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا . و من كلام عمر رضي الله عنه : من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله . حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته . و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده . قال خلف الأحمر : بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال : يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه . و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه . و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه . و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة . انتهى .
الفصل الحادي و الأربعون : في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل : تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة . إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا . فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها . و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم . و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين . فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم . و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية . فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال . و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
الفصل الثاني و الأربعون : في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن ، أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس . و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات . و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي . فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر . و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية . التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج . فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها . و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية . و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها . و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم . و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط . و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج . قال الشاعر :
فلا توغلن إذا ما سبحت فإن السلامة في الساحل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره . و فوق كل ذي علم عليم . و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع ، و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني . و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني . و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه . و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل الثالث و الأربعون : في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجممن الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر . و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي . و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه . و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة . و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك . و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا . فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح . قال صلى الله عليه و سلم : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله و سنتي " . فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع . و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها . و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم . و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم . و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق . و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين . و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم . و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : " لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس " . و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم . و النظر فيه ، فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع . و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين . و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار . حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية . فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم . و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه . و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا . فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر . فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة . و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع . و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك ، حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر . و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني . و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة . فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة . و الله
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
يخلق ما بشاء لا شريك له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير و حسبنا الله و نعم الوكيل و الحمد لله .
الفصل الرابع و الأربعون : في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي
و السر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية و الخيالية ، من بين العلوم الشرعية ، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ و مودها من الأحكام المتلقاة من الكتاب و السنة و لغاتها المؤدية لها ، و هي كلها في الخيال ، و بين العلوم العقلية ، و هي في الذهن . و اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني ، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة بالمناظرة و التعليم ، و ممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك . و الألفاظ و اللغات وسائط و حجب بين الضمائر ، و روابط و ختام بين المعاني . و لابد في اقتياض تلك الضمائر من المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها ، و جودة الملكة لناظر فيها ، و إلا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص . و إذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة ، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عن استعمالها ، أن البديهي والجبلي ، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني و الفهم أو خف ، و لم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط . هذا كله إذا كان التعاليم تلقينا و بالخطاب و العبارة . و أما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة و التقييد بالكتاب و مشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم ، كان هنالك حجاب آخر بين الخط و رسومه في الكتاب ، و بين الألفاظ المقولة في الخيال . لأن رسوم الكتاب لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة . و ما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة . و إن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة ، و يزداد على الناظر و المتعلم بذلك حجاب آخر بينه و بين مطلوبه ، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول . و إذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية و الخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني . و صار إنما يعاني فهم مباحثها فقط . هذا شأن المعاني مع الألفاظ و الخط بالنسبة إلى كل لغة . و المتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم ، ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها و اندرجت الأمم في طيها و درست علوم الأولين بنبوتها و كتابها ، و كانت أمية النزعة و الشعار ، فأخذ الملك و العزة و سخرية الأمم لهم بالحضارة و التهذيب ، و صيروا علومهم الشرعية صناعة ، بعد أن كانت نقلا ، فحدثت فيهم الملكات ، و كثرت الدواوين و التآليف ، و تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم و أفرغوها في قالب أنظارهم ، و جردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم و أربوا فيها على مداركهم ، و بقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا و طللا مهجورا و هباء منثورا . و أصبحت العلوم كلها بلغة العرب ، و دواوينها المسطرة بخطهم ، و احتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية و الخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن ، لدروسها و ذهاب العناية بها . و قد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسال ، و كذا الخط صناعة ملكتها في اليد ، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة ، صار مقصرا في اللغة العربية ، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل ، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى ، و هو ظاهر . و إذا كال مقصرا في اللغة العربية و دلالاتها اللفظية و الخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر . إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية ، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم . فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم ، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية . و كذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي . و لهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم و مجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني . و صاحب الملكة في العبارة و الخط مستغن عن ذلك ، بتمام ملكته ، و إن صار له فهم الأقوال من الخط ، و المعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة ، و ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني . و ربما يكون الدؤوب على التعليم و المران على اللغة ، و ممارسة الخط يفيضان لصاحبهما إلى تمكن الملكة ، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم ، إلا أنه في النادر . و إذا قرن بنظيره من علماء العرب و أهل طبقته منهم ، كان باع العرب أطول و ملكته أقوى ، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة و لا يعترص ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم ، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع و الملكات و من جملتها العلوم . و أما عجمة اللغة فليست من ذلك و هي المرادة هنا . و لا يعترض ذلك أيضا مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فأنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم . و الأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه ، و من غير خطه الذي يعرف ملكته . فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه . و هذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس و الروم و الترك و البربر و الفرنج . و سائر من ليس من أهل اللسان العربي . و في ذلك آيات للمتوسمين .
الفصل الخامس و الأربعون : في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة . و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة . و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر . فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
علم النحو
اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده . و تلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في الغصو الفاعل لها و هو اللسان و هو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم . و كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات و أوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني . مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف و مثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى . و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب . و أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب . و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم : " أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا " . فصار للحروف في لغتهم . و الحركات و الهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها . إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا . فلما جاء الإسلام و فارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم و الدول و خالطوا المجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين . و السمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع . و خشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا و يطول العهد بها فينغلق القرآن و الحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات و القواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام و يلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المبتدأ مرفوع . ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا و تسمية الموجب لذلك التغير عاملا و أمثال ذلك . و صارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب و جعلوها صناعة لهم مخصوصة . و اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو . و أو ل من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة و يقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة . ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد و كان الناس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب . فهذب الصناعة و كمل أبوابها . و أخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها و استكثر من أدلتها و شواهدها و وضع فيها كتابه المشهور الدي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده . ثم وضع أبو علي الفارسي و أبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه . ثم طال الكلام في هذه الصناعة و حدث الخلاف بين أهلها في الكوفة و البصرة المصرين القديمين للعرب . و كثرت الأدلة و الحجاج بينهم و تباينت الطرق في التعليم و كثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد و طال ذلك على المتعلمين . و جاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل و أمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين ، كما فعله الزمخشري في المفصل و ابن الحاجب في المقدمة له . و ربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى و الصغرى و ابن معطي في الارجوزة الألفية . و بالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها و طرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين . و الكوفيون و البصريون و البغداديون و الأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك . و قد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم و الصنائع بتناقص العمران و وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة و مفصلة . و تكلم على الحروف و المفردات و الجمل و حذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابه و سماه بالمغني في الإعراب . و أشار إلى نكت إعراب القرآن كلها و ضبطها بأبواب و فصول و قواعد انتظم سائرها فوقفنا منع على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة و وفور بضاعته منها و كأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني و اتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته و اطلاعه . و الله يزيد في الخلق ما يشاء .
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية و ذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب و استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه . ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم و مخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنه المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس و ما ينشا عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا فيه الدواوين . و كان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي . ألف فيها كتاب العين فحصر فيه فركبات حروف العجم كلها من الثنائي و الثلاثي والرباعي و الخماسي و هو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي . و تأتي له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة و ذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة و عشرين و هو دون نهاية حروف العجم بواحد . لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة و العشرين فتكون سبعة و عشرين كلمة ثنائية . ثم يؤخذ الثاني مع الستة و العشرين كذلك . ثم الثالث و الرابع . ثم يؤخذ السابع و العشرون مع الثامن و العشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة و عشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب و هو أن تجمع الأول مع الأخير و تضرب المجموع في نصف العدة . ثم تصاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم و التأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات . و تخرج الثلاثيات من صرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالى العدد لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية . فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية و هي ستة و عشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالي العدد و يضرب فيه جملة الثنائيات . ثم تضرب الخارج في ستة ، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف العجم . و كذلك في الرباعي و الخماسي . فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه و رتب أبوابه على حروف العجم بالترتيب المتعارف . و اعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم بعده من خروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة و جعل حروف العلة آخرا و هي الحروف الهوائية . و بدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا و هو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات و الألفاظ . ثم بين المهمل منها من المستعمل و كان المهمل في الرباعي و الخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله و لحق به الثنائي لقلة دورانه و كان الإستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه . و ضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين و استوعبه أحسن استيعاب و أوعاه . و جاء أبو بكر الزبيدي و كتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب و حذف منه المهمل كله و كثيرا من شواهد المستعمل و لخصه للحفظ أحسن تلخيص . و ألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف العجم فجعل البداءة منها بالهمزة و جمل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا . ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف العجم أيصا و يترجم عليها بالفصول إلى آخرها . و حصر اللغة اقتداء بحصر الخليل . ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب و على نحو ترتيب كتاب العين . و زاد فيه التعرض لاشتقاتات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين . و لخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس . و قلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم و بناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم و سليلي أبوة و لكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد ، و لابن دريد كتاب الجمهرة و لابن الأنباري كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه . و هناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم و مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها . إلا أن وجه الحصر فيها خفي و و في الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت . و من الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز سماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ و فيما تجوزت به من المدلولات و هو كتاب شريف الإفادة . ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا ، و بين الوضع و الاستعمال و احتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب و من الإنسان بالأزهر و من الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيص في هذه كلها لحنا و خروجا عن لسان العرب . و اختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي و أفرده في كتاب له سماه فقه اللغة و هو من أكد ما بأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه . فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك . و أكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه و نثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها و تراكيبها و هو أشد من اللحن في الإعراب و أفحش . و كذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة و تكفل بحصرها و إن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر . و أما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت و الفصيح لثعلب و غيرهما . و بعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ . و الله الخلاق العليم لا رب سواه .
فصل : و اعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة ، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني ، لا تقل إنهم وصغوها لأنه متعذر و بعيد . و لم يعرف لأحد منهم . و كذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله . على ما عرف استعماله في ماء العنب ، باعتبار الإسكار الجامع . لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله . و ليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل ، و هو محكم ، و على هذا في جمهور الأئمة . و إن مال إلى القياس فيها القاضي و ابن سريح و غيرهم . لكن القول بنفيه أرجح . و لا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية ، لأن الحد راجع إلى المعاني . ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور ، و اللغة إثبات أن اللفظ كذا ، لمعنى كذا ، و الفرق في غاية الظهور .
علم البيان
هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية و اللغة ، و هو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ و ما تفيده . و يقصد بها الدلالة عليه من المعاني و ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي : إما تصور مفردات تسند و مسند إليها و يفضي بعضها إلى بعض . و الدالة على هذه هي المفردات من الأسماء و الأفعال و الحروف و إما تمييز المسندات من المسند إليها و الأزمنة . و يدل عليها بتغير الحركات من الإعراب و أبنية الكلمات . و هذه كلها هي صناعة النحو . و يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين و ما يقتضيه حال الفعل و هو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة و إذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه . و إذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع و لكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب و الإبانة . ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال : جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه و من قال : زيد جاءني أفاد أن اهتمامة بالشخص قبل المجيء المسند . و كذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة . و كذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم : زيد قائم و أن زيدا قائم و إن زيدا لقائم متغايرة كلها في الدلالة و إن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد أنما يفيد الخالي الذهن و الثاني المؤكد بإن يفيد المتردد و الثالث يفيد المنكر فهي مختلفة . و كذلك تقول : جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه و أنه رجل لا يعادله أحد من الرجال . ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية و هي التي لها خارج تطابقه أولا ، و إنشائية و هي التي لا خارج لها . كالطلب و أنواعه . ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب : فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا و توكيدا و بدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب . ثم يقتضي المحل الإطناب و الإيجاز فيورد الكلام عليهما . ثم قد يدل باللفظ و لا يراد منطوقه و يراد لازمه إن كان مفردا كما تقول : زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة و إنما تريد شجاعته اللازمة و تسندها إلى زيد و تسمى هذه استعارة . و قد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول : زيد كثير الرماد و تريد ما لزم ذلك عنه من الجود و قرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما في دالة عليهما . و هذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد و المركب و إنما هي هيئات و أحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال و هيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه ، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي هي للهيئات و الأحوال و المقامات و جعل على ثلاثة أصناف : الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيآت و الأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البلاغة ، و الصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي و ملزومه و هي الاستعارة و الكناية كما قلناه و يسمى علم البيان . و ألحقوا بهما صنفا آخر و هو النظر في تزيين الكلام و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس . يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منة لاشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك و يسمى عندهم علم البدء . و أطق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان و هو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول من تكلموا فيها ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى و كتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و قدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها . ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه على نحو ما ذكرناه أنفا من الترتيب و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو و التصريف و البيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه . و أخذه المتأخرون من كتابه و لخصوا منه أمهات قي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان و ابن مالك في كتاب المصباح و جلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح و التلخيص و هو أصغر حجما من الإيضاح و العناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح و التعليم منه أكثر من غيره . و بالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة و سببه و الله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية و الصنائع الكمالية توجد في وفور العمران . و المشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه . أو نقول لعناية العجم و هم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري ، و هو كله مبني على هذا الفن و هو أصله . و إنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البدء خاصة ، و جعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية ، و فرغوا له ألقابا و عدوا أبوابا و نوعوا أنواعا . و زعموا أنهم أحصوها من لسان العرب و إنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ ، و العلم البديع سهل المأخذ . و صعبت عليهم مآخذ البلاغة و البيان لدقة أنظارهما و غموض معانيهما فتجافوا عنهما . و ممن ألف في البدء من أهل أفريقية ابن رشيق و كتاب العمدة له مشهور . و جرى كثير من أهل أفريقية و الأندلس على منحاه . و اعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة و مفهومة و هي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها و جودة رصفها و تركيبها . و هذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه . و إنما يدرك بغض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي و حصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه . فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوة من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام و جهابذته و الذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون و أصحه . و أحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون و أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جاز الله الزمخشري و وضع كتابه في التفسير و تتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة . و لأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة . فمن أحكم عقائد السنة و شارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها و لا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع و الأهواء . و الله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل .
علم الأدب
هذا العلم لا موضع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها . و إنما المقصود منة عند أهل اللسان ثمرته ، و هي الاجادة في فني المنظوم و المنثور ، على أساليب العرب و مناحيهم ، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة . من شعر عالي الطبقة ، و سجع متساو في الإجادة ، و مسائل من اللغة و النحو مبثوثة أثناء ذلك ، متفرقة ، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية ، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها . و كذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة و الأخبار العامة . و المقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب و أساليبيهم و مناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمة . ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا : الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها و الأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط و هي القرآن و الحديث . إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم و ترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها . و سمعنا من شيوخنا في مجالسى التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين و هي أدب الكتاب لابن قتيبة و كتاب الكامل للمبرد و كتاب البيان و التبيين للجاحظ و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي . و ما سوى هذه الأربعة فتبع لها و فروع عنها . و كتب المحدثين في ذلك كثيرة . و كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه . و كان الكتاب و الفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر و فنونه فلم يكن انتحالة قادحا في العدالة و المروءة . و قد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولتهم . و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه . و لعمري إنه ديوان العرب و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها و أنى له بها . و نحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان . و الله الهادي للصواب .
الفصل السادس و الأربعون : في أن اللغة ملكة صناعية
إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعانى و جودتها و تصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها . و ليس ذلك بالنظر إلى المفردات و إنما هو بالنظر إلى التراكيب . فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة و مراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع و هذا هو معنى البلاغة . و الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا و تعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا . و معنى الحال أنها صفة غير راسخه ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة . فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله و أساليبهم في مخاطباتهم و كيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك . ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة و من كل متكلم و استعماله يتكرر إلى أن يضير ذلك ملكة و صفة راسخة و يكون كأحدهم . هكذا تصيرت الألسن و اللغات من جيل إلى جيل و تعلمها العجم و الأطفال . و هذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم و لم يأخذوها عن غيرهم . ثم إنه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم و سبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيميز بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم و يسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر و أخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة و كانت ناقصة عن الأولى . و هذا معنى فساد اللسان العربي ، و لهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم . ثم من اكتنفهم من ثقيف و هذيل و خزاعة و بني كنانة وغطفان و بني أسد و بني تميم . و أما من بعد عنهم من ربيعة و لخم و جذام و غسان و إياد و قضاعة و عرب اليمن المجاورين لأمم الفرس و الروم و الحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم . و على نسبة بعدهم من قريش كان الإحتجاج بلغاتهم في الصحة و الفساد عند أهل الصناعة العربية . و الله سبحانة و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل السابع و الأربعون : في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مصر و حميرو ذلك أنا نجدها في بيان المقاصد و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري و لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم و التأخير و بقرائن تدل على خصوصيات المقاصد . إلا أن البيان و البلاغة في اللسان المضري أكثر و أعرق ، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها . و يبقى ما تقتضيه الأحوال و يسمى بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه . و كل معنى لا بد و أن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته و تلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع . و أما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال و كيفيات في تراكيب الألفاظ و تأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب . و قد يدل عليها بالحروف غير المستقلة . و لذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز و أقل ألفاظا و عبارة من جميع الألسن . و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم : " أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا " . و اعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر و قد قال له بعض النحاة : إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم : زيد قائم و إن زيدا قائم و إن زيدا لقائم و المعنى واحد . فقال له : إن معانيها مختلفة . فالأول : لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد . و الثاني : لمن سمعه فتردد فيه ، و الثالث لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال . و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد . و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه . و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم . و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك . و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب . و هو بعض من أحكام اللسان . و إنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق و الشام و مصر و المغرب و صارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى . و كان القرآن منزلا به و الحديث النبوي منقولا بلغته و هما أصلا الدين و الملة
الفصل الرابع و الأربعون : في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي
و السر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية و الخيالية ، من بين العلوم الشرعية ، التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ و مودها من الأحكام المتلقاة من الكتاب و السنة و لغاتها المؤدية لها ، و هي كلها في الخيال ، و بين العلوم العقلية ، و هي في الذهن . و اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني ، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة بالمناظرة و التعليم ، و ممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك . و الألفاظ و اللغات وسائط و حجب بين الضمائر ، و روابط و ختام بين المعاني . و لابد في اقتياض تلك الضمائر من المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها ، و جودة الملكة لناظر فيها ، و إلا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص . و إذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة ، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عن استعمالها ، أن البديهي والجبلي ، زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني و الفهم أو خف ، و لم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط . هذا كله إذا كان التعاليم تلقينا و بالخطاب و العبارة . و أما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة و التقييد بالكتاب و مشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم ، كان هنالك حجاب آخر بين الخط و رسومه في الكتاب ، و بين الألفاظ المقولة في الخيال . لأن رسوم الكتاب لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة . و ما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة . و إن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة ، و يزداد على الناظر و المتعلم بذلك حجاب آخر بينه و بين مطلوبه ، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول . و إذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية و الخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني . و صار إنما يعاني فهم مباحثها فقط . هذا شأن المعاني مع الألفاظ و الخط بالنسبة إلى كل لغة . و المتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم ، ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها و اندرجت الأمم في طيها و درست علوم الأولين بنبوتها و كتابها ، و كانت أمية النزعة و الشعار ، فأخذ الملك و العزة و سخرية الأمم لهم بالحضارة و التهذيب ، و صيروا علومهم الشرعية صناعة ، بعد أن كانت نقلا ، فحدثت فيهم الملكات ، و كثرت الدواوين و التآليف ، و تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم و أفرغوها في قالب أنظارهم ، و جردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم و أربوا فيها على مداركهم ، و بقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا و طللا مهجورا و هباء منثورا . و أصبحت العلوم كلها بلغة العرب ، و دواوينها المسطرة بخطهم ، و احتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية و الخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن ، لدروسها و ذهاب العناية بها . و قد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسال ، و كذا الخط صناعة ملكتها في اليد ، فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة ، صار مقصرا في اللغة العربية ، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل ، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى ، و هو ظاهر . و إذا كال مقصرا في اللغة العربية و دلالاتها اللفظية و الخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر . إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية ، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم . فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم ، و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية . و كذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي . و لهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم و مجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني . و صاحب الملكة في العبارة و الخط مستغن عن ذلك ، بتمام ملكته ، و إن صار له فهم الأقوال من الخط ، و المعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة ، و ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني . و ربما يكون الدؤوب على التعليم و المران على اللغة ، و ممارسة الخط يفيضان لصاحبهما إلى تمكن الملكة ، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم ، إلا أنه في النادر . و إذا قرن بنظيره من علماء العرب و أهل طبقته منهم ، كان باع العرب أطول و ملكته أقوى ، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة و لا يعترص ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم ، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع و الملكات و من جملتها العلوم . و أما عجمة اللغة فليست من ذلك و هي المرادة هنا . و لا يعترض ذلك أيضا مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فأنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم . و الأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه ، و من غير خطه الذي يعرف ملكته . فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه . و هذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس و الروم و الترك و البربر و الفرنج . و سائر من ليس من أهل اللسان العربي . و في ذلك آيات للمتوسمين .
الفصل الخامس و الأربعون : في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة . و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة . و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر . فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق .
علم النحو
اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده . و تلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في الغصو الفاعل لها و هو اللسان و هو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم . و كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات و أوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني . مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف و مثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى . و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب . و أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب . و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم : " أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا " . فصار للحروف في لغتهم . و الحركات و الهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها . إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا . فلما جاء الإسلام و فارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم و الدول و خالطوا المجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين . و السمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع . و خشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا و يطول العهد بها فينغلق القرآن و الحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات و القواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام و يلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المبتدأ مرفوع . ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا و تسمية الموجب لذلك التغير عاملا و أمثال ذلك . و صارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب و جعلوها صناعة لهم مخصوصة . و اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو . و أو ل من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة و يقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة . ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد و كان الناس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب . فهذب الصناعة و كمل أبوابها . و أخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها و استكثر من أدلتها و شواهدها و وضع فيها كتابه المشهور الدي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده . ثم وضع أبو علي الفارسي و أبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه . ثم طال الكلام في هذه الصناعة و حدث الخلاف بين أهلها في الكوفة و البصرة المصرين القديمين للعرب . و كثرت الأدلة و الحجاج بينهم و تباينت الطرق في التعليم و كثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد و طال ذلك على المتعلمين . و جاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل و أمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين ، كما فعله الزمخشري في المفصل و ابن الحاجب في المقدمة له . و ربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى و الصغرى و ابن معطي في الارجوزة الألفية . و بالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها و طرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين . و الكوفيون و البصريون و البغداديون و الأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك . و قد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم و الصنائع بتناقص العمران و وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة و مفصلة . و تكلم على الحروف و المفردات و الجمل و حذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابه و سماه بالمغني في الإعراب . و أشار إلى نكت إعراب القرآن كلها و ضبطها بأبواب و فصول و قواعد انتظم سائرها فوقفنا منع على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة و وفور بضاعته منها و كأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني و اتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته و اطلاعه . و الله يزيد في الخلق ما يشاء .
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية و ذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب و استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه . ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم و مخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنه المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس و ما ينشا عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا فيه الدواوين . و كان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي . ألف فيها كتاب العين فحصر فيه فركبات حروف العجم كلها من الثنائي و الثلاثي والرباعي و الخماسي و هو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي . و تأتي له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة و ذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة و عشرين و هو دون نهاية حروف العجم بواحد . لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة و العشرين فتكون سبعة و عشرين كلمة ثنائية . ثم يؤخذ الثاني مع الستة و العشرين كذلك . ثم الثالث و الرابع . ثم يؤخذ السابع و العشرون مع الثامن و العشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة و عشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب و هو أن تجمع الأول مع الأخير و تضرب المجموع في نصف العدة . ثم تصاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم و التأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات . و تخرج الثلاثيات من صرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالى العدد لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية . فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية و هي ستة و عشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالي العدد و يضرب فيه جملة الثنائيات . ثم تضرب الخارج في ستة ، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف العجم . و كذلك في الرباعي و الخماسي . فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه و رتب أبوابه على حروف العجم بالترتيب المتعارف . و اعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم بعده من خروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة و جعل حروف العلة آخرا و هي الحروف الهوائية . و بدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا و هو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات و الألفاظ . ثم بين المهمل منها من المستعمل و كان المهمل في الرباعي و الخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله و لحق به الثنائي لقلة دورانه و كان الإستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه . و ضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين و استوعبه أحسن استيعاب و أوعاه . و جاء أبو بكر الزبيدي و كتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب و حذف منه المهمل كله و كثيرا من شواهد المستعمل و لخصه للحفظ أحسن تلخيص . و ألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف العجم فجعل البداءة منها بالهمزة و جمل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا . ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف العجم أيصا و يترجم عليها بالفصول إلى آخرها . و حصر اللغة اقتداء بحصر الخليل . ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب و على نحو ترتيب كتاب العين . و زاد فيه التعرض لاشتقاتات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين . و لخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس . و قلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم و بناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم و سليلي أبوة و لكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد ، و لابن دريد كتاب الجمهرة و لابن الأنباري كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه . و هناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم و مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها . إلا أن وجه الحصر فيها خفي و و في الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت . و من الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز سماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ و فيما تجوزت به من المدلولات و هو كتاب شريف الإفادة . ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا ، و بين الوضع و الاستعمال و احتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب و من الإنسان بالأزهر و من الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيص في هذه كلها لحنا و خروجا عن لسان العرب . و اختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي و أفرده في كتاب له سماه فقه اللغة و هو من أكد ما بأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه . فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك . و أكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه و نثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها و تراكيبها و هو أشد من اللحن في الإعراب و أفحش . و كذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة و تكفل بحصرها و إن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر . و أما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت و الفصيح لثعلب و غيرهما . و بعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ . و الله الخلاق العليم لا رب سواه .
فصل : و اعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة ، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني ، لا تقل إنهم وصغوها لأنه متعذر و بعيد . و لم يعرف لأحد منهم . و كذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله . على ما عرف استعماله في ماء العنب ، باعتبار الإسكار الجامع . لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله . و ليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل ، و هو محكم ، و على هذا في جمهور الأئمة . و إن مال إلى القياس فيها القاضي و ابن سريح و غيرهم . لكن القول بنفيه أرجح . و لا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية ، لأن الحد راجع إلى المعاني . ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور ، و اللغة إثبات أن اللفظ كذا ، لمعنى كذا ، و الفرق في غاية الظهور .
علم البيان
هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية و اللغة ، و هو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ و ما تفيده . و يقصد بها الدلالة عليه من المعاني و ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي : إما تصور مفردات تسند و مسند إليها و يفضي بعضها إلى بعض . و الدالة على هذه هي المفردات من الأسماء و الأفعال و الحروف و إما تمييز المسندات من المسند إليها و الأزمنة . و يدل عليها بتغير الحركات من الإعراب و أبنية الكلمات . و هذه كلها هي صناعة النحو . و يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين و ما يقتضيه حال الفعل و هو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة و إذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه . و إذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع و لكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب و الإبانة . ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال : جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه و من قال : زيد جاءني أفاد أن اهتمامة بالشخص قبل المجيء المسند . و كذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة . و كذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم : زيد قائم و أن زيدا قائم و إن زيدا لقائم متغايرة كلها في الدلالة و إن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد أنما يفيد الخالي الذهن و الثاني المؤكد بإن يفيد المتردد و الثالث يفيد المنكر فهي مختلفة . و كذلك تقول : جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه و أنه رجل لا يعادله أحد من الرجال . ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية و هي التي لها خارج تطابقه أولا ، و إنشائية و هي التي لا خارج لها . كالطلب و أنواعه . ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب : فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا و توكيدا و بدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب . ثم يقتضي المحل الإطناب و الإيجاز فيورد الكلام عليهما . ثم قد يدل باللفظ و لا يراد منطوقه و يراد لازمه إن كان مفردا كما تقول : زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة و إنما تريد شجاعته اللازمة و تسندها إلى زيد و تسمى هذه استعارة . و قد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول : زيد كثير الرماد و تريد ما لزم ذلك عنه من الجود و قرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما في دالة عليهما . و هذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد و المركب و إنما هي هيئات و أحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال و هيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه ، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي هي للهيئات و الأحوال و المقامات و جعل على ثلاثة أصناف : الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيآت و الأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البلاغة ، و الصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي و ملزومه و هي الاستعارة و الكناية كما قلناه و يسمى علم البيان . و ألحقوا بهما صنفا آخر و هو النظر في تزيين الكلام و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس . يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منة لاشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك و يسمى عندهم علم البدء . و أطق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان و هو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول من تكلموا فيها ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى و كتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و قدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها . ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه على نحو ما ذكرناه أنفا من الترتيب و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو و التصريف و البيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه . و أخذه المتأخرون من كتابه و لخصوا منه أمهات قي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان و ابن مالك في كتاب المصباح و جلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح و التلخيص و هو أصغر حجما من الإيضاح و العناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح و التعليم منه أكثر من غيره . و بالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة و سببه و الله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية و الصنائع الكمالية توجد في وفور العمران . و المشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه . أو نقول لعناية العجم و هم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري ، و هو كله مبني على هذا الفن و هو أصله . و إنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البدء خاصة ، و جعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية ، و فرغوا له ألقابا و عدوا أبوابا و نوعوا أنواعا . و زعموا أنهم أحصوها من لسان العرب و إنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ ، و العلم البديع سهل المأخذ . و صعبت عليهم مآخذ البلاغة و البيان لدقة أنظارهما و غموض معانيهما فتجافوا عنهما . و ممن ألف في البدء من أهل أفريقية ابن رشيق و كتاب العمدة له مشهور . و جرى كثير من أهل أفريقية و الأندلس على منحاه . و اعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة و مفهومة و هي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها و جودة رصفها و تركيبها . و هذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه . و إنما يدرك بغض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي و حصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه . فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوة من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام و جهابذته و الذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون و أصحه . و أحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون و أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جاز الله الزمخشري و وضع كتابه في التفسير و تتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة . و لأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة . فمن أحكم عقائد السنة و شارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها و لا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع و الأهواء . و الله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل .
علم الأدب
هذا العلم لا موضع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها . و إنما المقصود منة عند أهل اللسان ثمرته ، و هي الاجادة في فني المنظوم و المنثور ، على أساليب العرب و مناحيهم ، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة . من شعر عالي الطبقة ، و سجع متساو في الإجادة ، و مسائل من اللغة و النحو مبثوثة أثناء ذلك ، متفرقة ، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية ، مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها . و كذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة و الأخبار العامة . و المقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب و أساليبيهم و مناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمة . ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا : الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها و الأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط و هي القرآن و الحديث . إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم و ترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها . و سمعنا من شيوخنا في مجالسى التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين و هي أدب الكتاب لابن قتيبة و كتاب الكامل للمبرد و كتاب البيان و التبيين للجاحظ و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي . و ما سوى هذه الأربعة فتبع لها و فروع عنها . و كتب المحدثين في ذلك كثيرة . و كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه . و كان الكتاب و الفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر و فنونه فلم يكن انتحالة قادحا في العدالة و المروءة . و قد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولتهم . و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه . و لعمري إنه ديوان العرب و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها و أنى له بها . و نحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان . و الله الهادي للصواب .
الفصل السادس و الأربعون : في أن اللغة ملكة صناعية
إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعانى و جودتها و تصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها . و ليس ذلك بالنظر إلى المفردات و إنما هو بالنظر إلى التراكيب . فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة و مراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع و هذا هو معنى البلاغة . و الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا و تعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا . و معنى الحال أنها صفة غير راسخه ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة . فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله و أساليبهم في مخاطباتهم و كيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك . ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة و من كل متكلم و استعماله يتكرر إلى أن يضير ذلك ملكة و صفة راسخة و يكون كأحدهم . هكذا تصيرت الألسن و اللغات من جيل إلى جيل و تعلمها العجم و الأطفال . و هذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم و لم يأخذوها عن غيرهم . ثم إنه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم و سبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيميز بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم و يسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر و أخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة و كانت ناقصة عن الأولى . و هذا معنى فساد اللسان العربي ، و لهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم . ثم من اكتنفهم من ثقيف و هذيل و خزاعة و بني كنانة وغطفان و بني أسد و بني تميم . و أما من بعد عنهم من ربيعة و لخم و جذام و غسان و إياد و قضاعة و عرب اليمن المجاورين لأمم الفرس و الروم و الحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم . و على نسبة بعدهم من قريش كان الإحتجاج بلغاتهم في الصحة و الفساد عند أهل الصناعة العربية . و الله سبحانة و تعالى أعلم و به التوفيق .
الفصل السابع و الأربعون : في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مصر و حميرو ذلك أنا نجدها في بيان المقاصد و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري و لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم و التأخير و بقرائن تدل على خصوصيات المقاصد . إلا أن البيان و البلاغة في اللسان المضري أكثر و أعرق ، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها . و يبقى ما تقتضيه الأحوال و يسمى بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه . و كل معنى لا بد و أن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته و تلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع . و أما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال و كيفيات في تراكيب الألفاظ و تأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب . و قد يدل عليها بالحروف غير المستقلة . و لذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز و أقل ألفاظا و عبارة من جميع الألسن . و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم : " أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا " . و اعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر و قد قال له بعض النحاة : إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم : زيد قائم و إن زيدا قائم و إن زيدا لقائم و المعنى واحد . فقال له : إن معانيها مختلفة . فالأول : لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد . و الثاني : لمن سمعه فتردد فيه ، و الثالث لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال . و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد . و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه . و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم . و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك . و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب . و هو بعض من أحكام اللسان . و إنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق و الشام و مصر و المغرب و صارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى . و كان القرآن منزلا به و الحديث النبوي منقولا بلغته و هما أصلا الدين و الملة
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
جهد عظيم جدا
احمدعبدالعليم- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 1
عدد المساهمات : 5479
المهارة : 28583
تاريخ التسجيل : 02/04/2010
الكفاءة : 31
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
فخشي تناسيهما و انغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي نزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه و وضع مقاييسه و استباط قوانينه . و صار علما ذا فصول و أبواب و مقدمات و مسائل سماه أهله بعلم النحو و صناعة العربية فأصبح فنا محفوظا و علما مكتوبا و سلما إلى فهم كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وافيا . و لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موخودة فيه تكون بها قوانين تخصها . و لعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات و ملكاتها مجانا . و لقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة و تغير عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري و تصاريف كلماته . تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة و يلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية و قوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول و كثير من أشباه هذا و ليس ذلك بصحيح . و لغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها و تصاريفها و حركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهفدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط و الاستقراء و ليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك و يدعونا إليه . و مما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى . و ما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف و إن كان أسفل من موضع القاف و ما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف و القاف و هو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم و الأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم . حتى إن من يريد التقرب و الانتساب إلى الجيل و الدخول فيه يحاكيهم في النطق بها . و عندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف . و يظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم و رؤساؤهم شرقا و غربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور و من بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور . و هم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور و أغلبهم و هم من أعقاب مضر و سائر الجيل معهم من بني كهلان في النطق بهذه القاف أسوة . و هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة و يظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين و لعلها لغة النبي صلى الله عليه و سلم بعينها قد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت و زعموا أن من قرأ في أم القرآن " اهدنا الصراط المستقيم " بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن و أفسد صلاته و لم أدر من أين جاء هذا ؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها و إنما تناقلوها من لدن سلفهم و كان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح . و أهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار . فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم . هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا و غربا في النطق بها و أنها الخاصية التي يتميز بها العربى من الهجين و الحضري . و الظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة ، و أن مخرج القاف متسع ، فأوله من أعلى الحنك و آخره مما يلي الكاف . فالنطق بها من أعلى الحنك في لغة الأمصار ، و النطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي . و بهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن ، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك . و بعيد أن يكونوا أهملوا ذلك ، فوجهه ما قلناه . نعم نقول إن الأرجح و الأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم ، و أنها لغة النبي صلى الله عليه و سلم . و يرجح ذلك أيضا ادغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين . و لو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك ، لما كانت قريبة المخرج من الكاف ، و لم تدغم . ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف ، و هي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد ، و جعلوها متوسطة بين مخرجي القاف و الكاف . على أنها حرف مستقل ، و هو بعيد . و الظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه . ثم إنهم يصرحون باستهجانه و استقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول . و فيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها ، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل ، و أنها شعارهم الخاص بهم ، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول ، و لغة النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم ذلك كله . و قد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف ، و أنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم ، و إنهم ينطقون بها كذلك ، فليست من لغة العرب . و لكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج . فتفهم ذلك . و الله الهادي المبين .
الفصل الثامن و الأربعون : في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر
اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد . فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا . و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه . و هذا معنى اللسان و اللغة . و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد . و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة . فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه . و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم . فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى . و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق . أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة . و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد . و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولاً و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى . و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة . و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم . و الله يخلق ما يشاء و يقدر .
الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه . إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات . و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم . ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال . و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر . و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا ، و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها . و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه .
الفصل الخمسون : في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم
و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة . فهو علم بكيفية لا نفس كيفية . فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً . مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها . و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً . و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول : هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة . و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه . و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل . و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي , و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية .
فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه . فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته . و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة . و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة . و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم ، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه . و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها . و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه . فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية ، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب . و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان . و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها . و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم . و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب .
الفصل الواحد و الخمسون : في تفسر الذوق في مصطلح أهل البيان و تحقيق معناه و بيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان . و قد مر تفسير البلاغة و أنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك . فالمتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب و أنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب و إن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بأدنى فكر ، بل و بغير فكر ، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة . فإن الملكات إذا استقرت و رسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل . و لذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا و بلاغة أمر طبيعي . و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك و إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت و رسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة و طبع . و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها و قد مر ذلك . و إذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم و نظم كلامهم . و لو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة و التراكيب المخصوصة لما قدر عليه و لا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده و لا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده . و إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه و مجه و علم أنة ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم . و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنه أهل القوانين النحوية و البيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء . و هذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم . و مثاله : لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ و ربى في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الإعراب و البلاغة فيها حتى يستولي على غايتها . و ليس من العلم القانوني في شيء و إنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه . و كذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم و أشعارهم و خطبهم و المداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربى بين أجيالهم . و القوانين بمعزل عن هذا و استعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان و الذوق و إنما هو موضوع لإدراك الطعوم . لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه . و أيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق . و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك . و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم . و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة . و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء . إنما حصل أحكامها كما عرفت . و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب . فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط . و أما المربى و النشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة و صاروا من أهلها فهم و إن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة و الكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها و اللغة في شبابها و لم تذهب أثار الملكة و لا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته . و اليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار . و يجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي . ثم إذا فرضنا أنة أقبل على الممارسة لكلام العرب و أشعارهم بالمدارسة و الحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة . و إن فرضنا أعجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية و ذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ و المدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر . و ربما يدعى كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلط أو مغالطة و إنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية و ليست من ملكة العبارة في شيء . و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم .
الفصل الثاني و الخمسون : في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم و من كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب و أعسر
و السبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد . و لهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان . و تعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم و ليس كذلك و إنما هي بتهليم هذه الملكة بمخالطة اللسان و كلام العرب . نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك و ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة و أنعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية و حصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ . و اعتبر ذلك في أهل الأمصار . فأهل أفريقية و المغرب لما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم . و لقد نقل ابن الرفيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له : يا أخي و من لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي و عاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج . و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا . و كتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله . و هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبية بما ذكرنا . و كذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة و لم تزل كذلك لهذا العهد و لهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق و ابن شرف . و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها و لم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور . و أهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم و امتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما و نثرا . و كان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة و رافع الراية لهم فيها و ابن عبد ربه و السقطلي و أمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان و الأدب و تداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض و الجلاء أيام تغلب النصرانية . و شغلوا عن تعلم ذلك و تناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض . و كان من آخرهم صالح بن شريف و مالك بن مرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة و كتاب دولة بني الأحمر في أولها . و ألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيلية إلى سبته و من شرقي الأندلس إلى أفريقية . و لم يلبثوا إلى أن انقرضوا و انقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها و صعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم و رسوخهم في العجمة البربرية و هي منافية لما قلناه . ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلسس كما كانت و نجم بها ابن بشرين و ابن جابر و ابن الجياب و طبقتهم . ثم إبراهيم الساحلي الطريحي و طبقته و قفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه . و كان له في اللسان ملكة لا تدرك و اتبع أثره تلميذه من بعده . و بالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر و تعليمها أيسر و أسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان و محافظتهم عليها و على علوم الأدب و سند تعليمها . و لأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم . و ليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس و البربر في هذه العدوة و هم أهلها و لسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط . و هم منغمسون في بحر عجمتهم و رطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس . و اعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية و العباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة و إجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم و مخالطتهم إلا في القليل . فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم و كان فحول الشعراء و الكتاب أوفر لتوفر العرب و أبنائهم بالمشرق . و انظز ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم و نثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب و ديوانهم و فيه لغتهم و أخبارهم و أيامهم و ملتهم العربية وسيرتهم و آثار خلفائهم و ملوكهم و أشعارهم و غناوهم و سائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب . و بقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين و ربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد . حتى تلاشى أمر العرب و درست لغتهم و فسد كلامهم و انقضى أثرهم و دولتهم و صار الأمر للأعاجم و الملك في أيديهم و التغلب لهم . و ذلك في دولة الديلم و السلجوقية . و خالطوا أهل الأمصار و كثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم . واستولت العجمة على أهل الأمصار و الحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي و ملكته و صار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها . و على ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم و المنثور و إن كانوا مكثرين منه . و الله يخلق ما يشاء و يختار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه .
الفصل الثالث و الخمسون : في انقسام الكلام إلى فني النظم و النثر
اعلم أن لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد و هو القافية . و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام . فأما الشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و أما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة تسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا و لا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها . و يستعمل قي الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم . و أما القرآن و إن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا . بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها . ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " . و قال : " قد فصلنا الآيات " . و يسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا و لا التزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي أيضا قواف . و أطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني . و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه . و اعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله و لا تصلح للفن الآخر و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و أمثال ذلك . و قد استعمل المتأخرون أساليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الأشجاع و التزام التقفية و تقديم النسيب بين يدي الأغراض . و صار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر و فنه و لم يفترقا إلا في الوزن . و استمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية و قصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه و خلطوا الأساليب فيه و هجروا المرسل و تناسوه و خصوصا أهل المشرق . و صارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب و المخاطب . و هذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الإطناب في الأوصاف و ضرب الأمثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب . و التزام التقفية أيضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلطان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب تنافي ذلك و يباينة . و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو إطلاق الكلام و إرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر . و حيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة و لكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية و استعارة . و أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم و ما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم و قصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة و انفساح خطوبه . و ولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال فيه . و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع و الألقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك . و أكثر من أخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر أنحاه كلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات و التصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس . و يدعون الإعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس . فتأفل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه . و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالى أعلم .
الفصل الرابع و الخمسون : في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم و المنثور معاً إلا للأقل
و السبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة . لأن تمام الملكات و حصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل و أيسر . و إذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة و عالقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة و تعذر التمام في الملكة و هذا موجود به في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق . و قد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان . فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان و هي بمنزلة الصناعة . و انظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا . فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي و لا يزال قاصرا فيه و لو تعلمه و علمه . و كذا البربري و الرومي . و الإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي . و ما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية و التحصيل و ما أوتي إلا من قبل اللسان . و قد تقدم لك من قبل أن الألسن و اللغات شبيهة بالصنائع . و قد تقدم لك أن الصنائع و ملكاتها لا تزدحم . و أن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية . و الله خلقكم و ما تعملون .
الفصل الخامس و الخمسون : في صناعة الشعر و وجه تعلمه
هذا الفن من فنون كلام العرب و هو المسمى بالشعر عندهم و يوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب . فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم و إلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه . و هو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة و تسمى كل قطعين من هذه القطعات عندهم بيتا و يسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا و قافية و يسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة و كلمة . و ينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله و ما بعده . و إذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أؤ تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته . ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك و يستطرد للخروج من فن إلى فن و من مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول و معانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني و يبعد الكلام عن التنافر . كما يستطرد من التشبيب إلى المدح و من وصف البيداء و الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف و من وصف الممدوح إلى وصف قومه و عساكره و من التفجع و العزاء في الرثاء إلى التأثر و أمثال ذلك . و يراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه . فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس . و لهذه الموازين شروط و أحكام تضمنها علم العروض . و ليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن و إنما هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور . و قد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما . و اعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب . و لذلك جعلوه ديوان علومهم و أخبارهم و شاهد صوابهم و خطئهم و أصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم و حكمهم . و كانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها . و الملكات اللسانية كلما إنما تكسب بالصناعة و الارتياض في كلامهم حتى يحصل شبة في تلك الملكة . و الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده و يصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب و يبرز مستقلا بنفسه . ثم يأتى ببيت آخر كذلك ثم ببيت آخر و يستكمل الفنون الوافية بمقصوده . ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التى في القصيدة . و لصعوبة منحاه و غرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه و شحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه . و لا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف و محاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها و استعمالها فيه . لنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة و ما يريدون بها في إطلاقهم . فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به . و لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب و لا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو و ظيفة البلاغة و البيان و لا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض . فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية و إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص . و تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب و أشخاصها و يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب و البيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام و يقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به و توجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله : يا دار مية بالعلياء فالسند و يكون باستدعاء الصحب للوقوف و السؤال كقوله : قفا نسأل الدار التي خف أهلها . أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله : قفا نبك من في ذكرى حبيب و منزل . أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله : ألم تسأل فتخبرك الرسوم . و مثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله : حي الديار بجانب الغزل . أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله :
أسقى طلولهم أجش هزيم و غدت عليهم نضرة و نعيم
أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله :
يا برق طالع منزلا بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله :
كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله : أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي . أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله :
منابت العشب لا حام و لا راع مضى الردى بطويل الرمح و الباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية :
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله :
ألقى الرماح ربيعة بن نزار أودى الردى بفريقك المغوار و أمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام و مذاهبه . و تنتظم التراكيب فيه بالجمل و غير الجمل إنشائية و خبرية ، إسمية و فعلية ، متفقة ، مفصولة و موصولة ، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى . يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها . فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج و
الفصل الثامن و الأربعون : في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر
اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد . فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا . و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه . و هذا معنى اللسان و اللغة . و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد . و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة . فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه . و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم . فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى . و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق . أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة . و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد . و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولاً و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى . و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة . و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم . و الله يخلق ما يشاء و يقدر .
الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه . إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات . و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم . ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال . و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر . و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا ، و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها . و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه .
الفصل الخمسون : في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم
و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة . فهو علم بكيفية لا نفس كيفية . فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً ولا يحكمها عملاً . مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها . و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً . و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول : هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة . و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه . و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل . و لذلك نجد كثيراً من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي , و كذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئاً من قوانين صناعة العربية .
فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه . فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته . و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة . و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة . و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم ، فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه . و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها . و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه . فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية ، و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب . و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان . و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علماً بحتاً و بعدوا عن ثمرتها . و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم . و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب .
الفصل الواحد و الخمسون : في تفسر الذوق في مصطلح أهل البيان و تحقيق معناه و بيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان . و قد مر تفسير البلاغة و أنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك . فالمتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب و أنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب و إن سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بأدنى فكر ، بل و بغير فكر ، إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة . فإن الملكات إذا استقرت و رسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل . و لذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا و بلاغة أمر طبيعي . و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك و إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت و رسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة و طبع . و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها و قد مر ذلك . و إذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم و نظم كلامهم . و لو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة و التراكيب المخصوصة لما قدر عليه و لا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده و لا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده . و إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه و مجه و علم أنة ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم . و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنه أهل القوانين النحوية و البيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء . و هذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم . و مثاله : لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ و ربى في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الإعراب و البلاغة فيها حتى يستولي على غايتها . و ليس من العلم القانوني في شيء و إنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه . و كذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم و أشعارهم و خطبهم و المداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربى بين أجيالهم . و القوانين بمعزل عن هذا و استعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان و الذوق و إنما هو موضوع لإدراك الطعوم . لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه . و أيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق . و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك . و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم . و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة . و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء . إنما حصل أحكامها كما عرفت . و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب . فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط . و أما المربى و النشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة و صاروا من أهلها فهم و إن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة و الكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها و اللغة في شبابها و لم تذهب أثار الملكة و لا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته . و اليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار . و يجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي . ثم إذا فرضنا أنة أقبل على الممارسة لكلام العرب و أشعارهم بالمدارسة و الحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة . و إن فرضنا أعجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية و ذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ و المدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر . و ربما يدعى كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلط أو مغالطة و إنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية و ليست من ملكة العبارة في شيء . و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم .
الفصل الثاني و الخمسون : في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم و من كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب و أعسر
و السبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد . و لهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان . و تعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم و ليس كذلك و إنما هي بتهليم هذه الملكة بمخالطة اللسان و كلام العرب . نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك و ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة و أنعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية و حصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ . و اعتبر ذلك في أهل الأمصار . فأهل أفريقية و المغرب لما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم . و لقد نقل ابن الرفيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له : يا أخي و من لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي و عاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج . و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا . و كتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله . و هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبية بما ذكرنا . و كذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة و لم تزل كذلك لهذا العهد و لهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق و ابن شرف . و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها و لم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور . و أهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم و امتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما و نثرا . و كان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة و رافع الراية لهم فيها و ابن عبد ربه و السقطلي و أمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان و الأدب و تداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض و الجلاء أيام تغلب النصرانية . و شغلوا عن تعلم ذلك و تناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض . و كان من آخرهم صالح بن شريف و مالك بن مرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة و كتاب دولة بني الأحمر في أولها . و ألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيلية إلى سبته و من شرقي الأندلس إلى أفريقية . و لم يلبثوا إلى أن انقرضوا و انقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها و صعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم و رسوخهم في العجمة البربرية و هي منافية لما قلناه . ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلسس كما كانت و نجم بها ابن بشرين و ابن جابر و ابن الجياب و طبقتهم . ثم إبراهيم الساحلي الطريحي و طبقته و قفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه . و كان له في اللسان ملكة لا تدرك و اتبع أثره تلميذه من بعده . و بالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر و تعليمها أيسر و أسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان و محافظتهم عليها و على علوم الأدب و سند تعليمها . و لأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم . و ليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس و البربر في هذه العدوة و هم أهلها و لسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط . و هم منغمسون في بحر عجمتهم و رطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس . و اعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية و العباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة و إجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم و مخالطتهم إلا في القليل . فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم و كان فحول الشعراء و الكتاب أوفر لتوفر العرب و أبنائهم بالمشرق . و انظز ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم و نثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب و ديوانهم و فيه لغتهم و أخبارهم و أيامهم و ملتهم العربية وسيرتهم و آثار خلفائهم و ملوكهم و أشعارهم و غناوهم و سائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب . و بقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين و ربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد . حتى تلاشى أمر العرب و درست لغتهم و فسد كلامهم و انقضى أثرهم و دولتهم و صار الأمر للأعاجم و الملك في أيديهم و التغلب لهم . و ذلك في دولة الديلم و السلجوقية . و خالطوا أهل الأمصار و كثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم . واستولت العجمة على أهل الأمصار و الحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي و ملكته و صار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها . و على ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم و المنثور و إن كانوا مكثرين منه . و الله يخلق ما يشاء و يختار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه .
الفصل الثالث و الخمسون : في انقسام الكلام إلى فني النظم و النثر
اعلم أن لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد و هو القافية . و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام . فأما الشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و أما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة تسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا و لا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها . و يستعمل قي الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم . و أما القرآن و إن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا . بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها . ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى : " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " . و قال : " قد فصلنا الآيات " . و يسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا و لا التزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي أيضا قواف . و أطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني . و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه . و اعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله و لا تصلح للفن الآخر و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و أمثال ذلك . و قد استعمل المتأخرون أساليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الأشجاع و التزام التقفية و تقديم النسيب بين يدي الأغراض . و صار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر و فنه و لم يفترقا إلا في الوزن . و استمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية و قصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه و خلطوا الأساليب فيه و هجروا المرسل و تناسوه و خصوصا أهل المشرق . و صارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب و المخاطب . و هذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الإطناب في الأوصاف و ضرب الأمثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب . و التزام التقفية أيضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلطان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب تنافي ذلك و يباينة . و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو إطلاق الكلام و إرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر . و حيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة و لكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية و استعارة . و أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم و ما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم و قصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة و انفساح خطوبه . و ولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال فيه . و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع و الألقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك . و أكثر من أخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر أنحاه كلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات و التصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس . و يدعون الإعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس . فتأفل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه . و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالى أعلم .
الفصل الرابع و الخمسون : في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم و المنثور معاً إلا للأقل
و السبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة . لأن تمام الملكات و حصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل و أيسر . و إذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة و عالقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة و تعذر التمام في الملكة و هذا موجود به في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق . و قد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان . فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان و هي بمنزلة الصناعة . و انظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا . فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي و لا يزال قاصرا فيه و لو تعلمه و علمه . و كذا البربري و الرومي . و الإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي . و ما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية و التحصيل و ما أوتي إلا من قبل اللسان . و قد تقدم لك من قبل أن الألسن و اللغات شبيهة بالصنائع . و قد تقدم لك أن الصنائع و ملكاتها لا تزدحم . و أن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية . و الله خلقكم و ما تعملون .
الفصل الخامس و الخمسون : في صناعة الشعر و وجه تعلمه
هذا الفن من فنون كلام العرب و هو المسمى بالشعر عندهم و يوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب . فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم و إلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه . و هو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة و تسمى كل قطعين من هذه القطعات عندهم بيتا و يسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا و قافية و يسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة و كلمة . و ينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله و ما بعده . و إذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أؤ تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته . ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك و يستطرد للخروج من فن إلى فن و من مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول و معانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني و يبعد الكلام عن التنافر . كما يستطرد من التشبيب إلى المدح و من وصف البيداء و الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف و من وصف الممدوح إلى وصف قومه و عساكره و من التفجع و العزاء في الرثاء إلى التأثر و أمثال ذلك . و يراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه . فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس . و لهذه الموازين شروط و أحكام تضمنها علم العروض . و ليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن و إنما هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور . و قد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما . و اعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب . و لذلك جعلوه ديوان علومهم و أخبارهم و شاهد صوابهم و خطئهم و أصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم و حكمهم . و كانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها . و الملكات اللسانية كلما إنما تكسب بالصناعة و الارتياض في كلامهم حتى يحصل شبة في تلك الملكة . و الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده و يصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب و يبرز مستقلا بنفسه . ثم يأتى ببيت آخر كذلك ثم ببيت آخر و يستكمل الفنون الوافية بمقصوده . ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التى في القصيدة . و لصعوبة منحاه و غرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه و شحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه . و لا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف و محاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها و استعمالها فيه . لنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة و ما يريدون بها في إطلاقهم . فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به . و لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب و لا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو و ظيفة البلاغة و البيان و لا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض . فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية و إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص . و تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب و أشخاصها و يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب و البيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام و يقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به و توجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله : يا دار مية بالعلياء فالسند و يكون باستدعاء الصحب للوقوف و السؤال كقوله : قفا نسأل الدار التي خف أهلها . أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله : قفا نبك من في ذكرى حبيب و منزل . أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله : ألم تسأل فتخبرك الرسوم . و مثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله : حي الديار بجانب الغزل . أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله :
أسقى طلولهم أجش هزيم و غدت عليهم نضرة و نعيم
أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله :
يا برق طالع منزلا بالأبرق واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله :
كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله : أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي . أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله :
منابت العشب لا حام و لا راع مضى الردى بطويل الرمح و الباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية :
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله :
ألقى الرماح ربيعة بن نزار أودى الردى بفريقك المغوار و أمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام و مذاهبه . و تنتظم التراكيب فيه بالجمل و غير الجمل إنشائية و خبرية ، إسمية و فعلية ، متفقة ، مفصولة و موصولة ، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى . يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها . فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج و
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
و الصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه . فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا . و لا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس . و هو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية . و هذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها و الاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق . و إن القوانين العلمية من العربية و البيان لا يفيد تعليمه بوجه . و ليس كل ما يصح في قياس كلام العرب و قوانينه العلمية استعملوه . و إنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية . فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو و بهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس . و لهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب و كلامهم . و هذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين . ففي الشعر بالقطع الموزونة و القوافي المقيدة و استقلال الكلام في كل قطعين و في المنثور يعتبرون الموازنة و التشابه بين القطع غالبا و قد يقيدونه بالأسجاع . و قد يرسلونه و كل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب . و المستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه و لا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب و النساج على المنوال . فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي و البياني و العروضي . نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب . و لا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما و نثرا . و إذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض . فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه . و قول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده و لا رسم له . و صناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات و السواكن على التوالي ، و مماثلة عروض أبيات الشعر لضربها . و ذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ و دلالتها . فناسب أن يكون حدا عندهم ، و نحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب و البلاغة . و الوزن و القوالب الخاصة . فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول : الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره و الأوصاف ، المفضل بأجزاء متفقة في الوزن و الروي مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به . فقولنا الكلام البليغ جنس و قولنا المبني على الاستعارة و الأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر و قولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن و الروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل و قولنا مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك و لم يفصل به شيء . و قولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور . و كذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما و ليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا . و بهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي و المعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه ، و قولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب و غيرهم . و من يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك و يقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة . و إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول : اعلم أن لعمل الشعر و إحكام صناعته شروطا أولها : الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها و يتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب . و هذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة و كثير و ذي الرمة و جرير و أبى نواس و حبيب و البحتري و الرضي و أبى فراس . و أكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله و المختار من شعر الجاهلية . و من كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء و لا يعطيه الرونق و الحلاوة إلا كثرة المحفوظ . فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر و إنما هو نظم ساقط . و اجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ . ثم بعد الامتلاء من الحفظ و شحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم و بالإكثار منه تستحكم ملكته و ترسخ . و ربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها . فإذا نسيها و قد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة . ثم لا بد له من الخلوة و استجادة المكان المنظور فيه من المياه و الأزهار و كذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها و تنشيطها بملاذ السرور . ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام و نشاط فذلك أجمع له و أنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه . قالوا : و خير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم و فراغ المعدة و نشاط الفكر و في هؤلاء الجمام . و ربما قالوا إن من بواعثه العشق و الانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة و إعطاء حقها و لم يكتب فيها أحد قبله و لا بعده مثله . قالوا : فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر و لا يكره نفسه عليه . و ليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه و نسجه بعضها و يبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها . فربما تجيء نافرة قلقة و إذا سمح الخاطر بالبيت و لم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه و لم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء و ليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح و النقد و لا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة . فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره و اختراع قريحته و لا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب . و الخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة . و قد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة . و يجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده . و إنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم . و كذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم . و إنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها . فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا و استعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة . و لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن . و لهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ و المعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر و الحاكم بذلك هو الذوق . و ليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ و المقصر و كذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة و كذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا و يقرب من عدم الإفادة كقولهم : النار حارة و السماء فوقنا . و بمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان . و لهذا كان الشعر في الربانيات و النبويات قليل الإجادة في الغالب و لا يحذق فيه إلا الفحول و في القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك . و إذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه و يعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء و يجف بالترك و الإهمال . و بالجملة فهذه الصناعة و تعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق و قد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد . و من أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك . و هذه نبذة كافية و الله المعين . و قد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها . و من أحسن ما قيل في ذلك و أظنه لابن رشيق :
لعن الله صنعة الشعر ماذا من ضنوف الجهال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلا للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحا و خسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه و لا يد رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو ن و في الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظم و إن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما تتمنى و لم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن كاد حسنا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه و المعاني ركبن فيها عيونا
إنما في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حرا رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلا قريبا و جعلت المديح صدقا مبينا
و تنكبت ما يهجن في السمع و إن كان لفظه موزونا
و إذا ما عرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء و جعلت التعريض داء دفينا
و إذا ما بكيت فيه على الغا دين يوما للبين و الظاعنينا
خلت دون الأسى و ذللت ما كا ن من الدعع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبا جئت بالو عد وعيدا و بالصعوبة بينا
فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا
و أصح القريض ما قارب النظم و إن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرا و إذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي :
الشعر ما قومت ربع صدوره و شددت بالتهذيب أس متونه
و رأيت بالأطناب شعب صدوعه و فتحت بالايجاز عور عيونه
و جمعت بين قريبه و بعيده و جمعت بين مجمه و معينه
و إذا مدحت به جوادا ماجدا و قضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بتفتش و رضيته و خصصته بخطيره و ثمينه
فيكون جزلا في مساق صنوفه و يكون سهلا في اتفاق فنونه
و إذا بكيت به الديار و أهلها أجريت للمخزون ماء شؤونه
و إذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره و بطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه بثبوته و ظنونه بيقينه
و إذا عتبت على أخ في زلة أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستانسأ بدماثة مستأمنا لوعوته و حزونه
و إذا نبذت إلى الذي علقتها إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه و رفيقه و شغفتها بخبيه و كمنه
و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها و أشكت بين مخيله و مبينه
فيحول ذنبك عند من يعتده عتبا عليه مطالبا بيمينه
الفصل السادس و الخمسون : في أن صناعة النظم و النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
إعلم أن صناعة الكلام نظما و نثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إنما المعاني تبع لها و هي أصل . فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم و النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله و جريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر و يتخلص من العجمة التي ربي عليها في جبله و يفرض نفسه مثل وليد نشأ في جبل العرب و يلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم . و ذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات و الذي في اللسان و النطق إنما هو الألفاظ و أما المعاني فهي في الضمائر . وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد و في طوع كل فكر منها ما يشاء و يرضى فلا يحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها و تأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه و هو بمثابة القوالب للمعاني . فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب و الفضة و الصدف و الزجاج و الخزف و الماء واحد في نفسه . و تختلف الجودة في الأواني المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء . كذلك جودة اللغة و بلاغتها في الاستعمال تختلف بإختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد . و المعاني واحدة في نفسها و إنما الجاهل بتأليف الكلام و أساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده و لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض و لا يستطيعه لفقدان القدرة عليه . و الله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
الفصل السابع و الخمسون : في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ و جودتها بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي و على قدر جودة المحفوظ و طبقته في جنسه و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ . فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود و أعلى مقاما و رتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاجب الذوق . و على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما . فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها و تنمو قوى الملكة بتغذيتها . و ذلك أن النفس و إن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة و الضعف في الإدراكات . و اختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات و الملكات و الألوان التي تكيفها من خارج . فبهذه يتم وجودها و تخرج من القوة إلى الفعل صورتها و الملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه . فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر و ملكة الكتابة بحفظ الأسجاع و الترسيل ، و العلمية بمخالطة العلوم و الإدراكات و الأبحاث و الأنظار ، و الفقهية بمخالطة الفقه و تنظير المسائل و تفريعها و تخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات و الأذكار و تعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة و الانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن و روحه و ينقلب ربانيا و كذا سائرها . و للنفس في كل واحد منها لون تتكيف به و على حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام و بهذا كان الفقهاء و أهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة و ما ذلك إلا لما سبق إلى محفوظهم و يمتلئ به من القوانين العلمية و العبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة و النازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين و العلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المخفوظ إلى الفكر و كثر و تلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور و انحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم . و هكذا نجد شعر الفقهاء و النحاة و المتكلمين و النظار و غيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب . أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال : ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن و كان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي و لم أنسبها له و هو هذا :
لم أذر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها و البالي
فقال لي على البديهة : هذا شعر فقيه ، فقلت له : و من أين لك ذلك ، فقال : من قوله ما الفرق ؟ إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب ، فقلت له : لله أبوك إنه ابن النحوي . و أما الكتاب و الشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم و مخالطتهم كلام العرب و أساليبهم في الترسل و انتقائهم لهم الجيد من الكلام . ذاكرت يوما صاحبنا أبا عند الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر و كان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة فقلت له : أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به و حفظي للجيد من الكلام من القرآن و الحديث و فنون من كلام العرب و إن كان محفوظي قليلا . و إنما أتيت و الله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية و القوانين التألفية . فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى و الصغرى في القراءات في الرسم و استظهرتهما و تدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه و الأصول و جمل الخونجى في المنطق و بعض كتاب التسهيل و كثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها . فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال : لله أنت و هل يقول هذا إلا مثلك ؟ و يظهر لك من هذا الفصل و ما تقرر فيه سر آخر و هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم . فإنا نجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أ بي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق و نصيب و غيلان ذي الرمة و الأحوص و بشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية و صدرا من الدولة العباسية في خطبهم و ترسيلهم و محاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة و ابن كلثوم و زهير و علقمة بن عبدة و طرفة بن العبد و من كلام الجاهلية في منثورهم و محاوراتهم و الطبع السليم و الذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة . و السبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن و الحديث اللذين عجز البشر في الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم و نشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم و ارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة و لا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم و نثرهم أحسن ديباجة و أصفى رونقا من أولئك و أرصف مبنى و أعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة . و تأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق و البصر بالبلاغة . و لقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا و كان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين و استبحر في علم اللسان و جاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ و لم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي : و الله ما أدري ، فقلت : أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك و لعله السبب فيه . و ذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي : يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب . و كان من بعدها يؤثر محلي و يصيخ في مجالس التعليم إلى قولي و يشهد لي بالنباهة في العلوم ، و الله خلق الإنسان و علمه البيان .
الفصل الثامن و الخمسون : في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره
إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب ، إنما سره و روحه في إفادة المعنى . و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به . و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال ، هو فن البلاغة . و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين . فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين ، بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية . و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير ، و تعريف و تنكير ، و إضمار و إظهار . و تقييد و إطلاق و غيرها ، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن ، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة . فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد . و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال ، و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات .
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه ، فيكون فيها مجازا : إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه ، و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد . لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله . و الظفر من أسباب اللذة كما علمت . ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة ، و سموها بالبيان . و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها . و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة . و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت . فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة ، و بهما كمال الإفادة ، فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا ، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال . فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته .
ثم اعلم أنهم إذا قالوا : الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه ، لأنه عبارة و خطاب ، ليس المقصود منه النطق فقط . بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة ، و يدل به عليه دلالة وثيقة . ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين ، بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع ، و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه ، و المطابقة بين المتضادات ، ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني . فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة .
و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل : " والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى " ، و مثل : " فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى" ، إلى آخر التقسيم في الآية . و كذا : " فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا " إلى آخر الآية . و كذا : " هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . و أمثاله كثير . و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها . و كذا وقع في كلام الجاهلية منه ، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد . و يقال إنه وقع في شعر زهير .
و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا ، و أتوا منه بالعجائب . و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد ، فقد كانوا مولعين بالصنعه . و يأتون منها بالعجب . و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة ، و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي . ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس . و جاء على آثارهم حبيب و البحتري . ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع . و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة . مثل قول قيس بن ذريح :
و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قول كثير :
و إني و تهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا و تخليت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع ، الفقيد الصنعة ، ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه . فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا .
و أما المصنوع فكثير من لدن بشار ، ثم حبيب و طبقتهما ، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم ، و نسجوا على منوالهم . و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها ، و اختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها . و كثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة ، و أنها هي تعطى التحسين و الرونق . و أما المتقدمون من أهل البديع ، فهي عندهم خارجة عن البلاغة . و لذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها . و هو رأي ابن رشيق قي كتاب العمدة له ، و أدباء الأندلس . و ذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا منها أن تقع من غير تكلف و لا اكتراث في ما يقصد منها . و أما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من عيب الاستهجان ، لأن تكلفها و معاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام ، فتخل بالإفادة من أصلها ، و تذهب بالبلاغة رأسا . و لا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات ، و هذا هو الغالب اليوم على أهل العصر . و أصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون ، و يعدون ذلك من القصور عن سواه . و سمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي ، و كان من أهل البصر في اللسان و القريحة . في ذوقه يقول ، إن من أشهى ما تقترحه على نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره ، و قد عوقب بأشد العقوبة ، و نودي عليه ، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة ، فيكلفون بها ، و يتناسون البلاغة . ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها و أن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد ، فتكفي في زينة الشعر و رونقه . و الإكثار منها عيب ، قاله ابن رشيق و غيره . و كان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول : هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها ، لأنها من محسنات الكلام و مزيناته ، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد و الإثنين منها ، و يقبح بتعدادها . و على نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية و الإسلام . كان أولا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله و تراكيبه ، شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع و لا اكتراث بصنعة . حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه ، فتعاطى الصنعة و التقفيه و أتى بذلك بالعجب . و عاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية . و إنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة و البعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة . ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين و نسي عهد الترسيل و تشابهت السلطانيات و الإخوانيات و العربيات بالسوقيات . و اختلط المرعى بالهمل . و هذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة و التكليف ، قاصر عن الكلام المطبوع ، لقلة الإكتراث فيه بأصل البلاغة ، و الحاكم في ذلك الذوق . و الله خلقكم و علمكم ما لم تكونوا تعلمون .
الفصل التاسع و الخمسون : في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعراعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم و أخبارهم و حكمهم . و كان رؤساء العرب منافسين فيه و كانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده و عرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن و أهل البصر لتمييز حوله . حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم و بيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر و النابغة الذبياني و زهير بن أبى سلمى و عنترة بن شداد و طرفة بن العبد و علقمة بن عبدة و الأعشى و غيرهم من أصحاب المعلقات السبع . فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه و عصبته و مكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات . ثم
لعن الله صنعة الشعر ماذا من ضنوف الجهال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما كان سهلا للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحا و خسيس الكلام شيئا ثمينا
يجهلون الصواب منه و لا يد رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو ن و في الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظم و إن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما تتمنى و لم يكن أن يكونا
فتناهى من البيان إلى أن كاد حسنا يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه و المعاني ركبن فيها عيونا
إنما في المرام حسب الأماني يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حرا رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلا قريبا و جعلت المديح صدقا مبينا
و تنكبت ما يهجن في السمع و إن كان لفظه موزونا
و إذا ما عرضته بهجاء عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء و جعلت التعريض داء دفينا
و إذا ما بكيت فيه على الغا دين يوما للبين و الظاعنينا
خلت دون الأسى و ذللت ما كا ن من الدعع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتبا جئت بالو عد وعيدا و بالصعوبة بينا
فتركت الذي عتبت عليه حذرا آمنا عزيزا مهينا
و أصح القريض ما قارب النظم و إن كان واضحا مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طرا و إذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي :
الشعر ما قومت ربع صدوره و شددت بالتهذيب أس متونه
و رأيت بالأطناب شعب صدوعه و فتحت بالايجاز عور عيونه
و جمعت بين قريبه و بعيده و جمعت بين مجمه و معينه
و إذا مدحت به جوادا ماجدا و قضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بتفتش و رضيته و خصصته بخطيره و ثمينه
فيكون جزلا في مساق صنوفه و يكون سهلا في اتفاق فنونه
و إذا بكيت به الديار و أهلها أجريت للمخزون ماء شؤونه
و إذا أردت كناية عن ريبة باينت بين ظهوره و بطونه
فجعلت سامعه يشوب شكوكه بثبوته و ظنونه بيقينه
و إذا عتبت على أخ في زلة أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستانسأ بدماثة مستأمنا لوعوته و حزونه
و إذا نبذت إلى الذي علقتها إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه و رفيقه و شغفتها بخبيه و كمنه
و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها و أشكت بين مخيله و مبينه
فيحول ذنبك عند من يعتده عتبا عليه مطالبا بيمينه
الفصل السادس و الخمسون : في أن صناعة النظم و النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
إعلم أن صناعة الكلام نظما و نثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إنما المعاني تبع لها و هي أصل . فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم و النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله و جريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر و يتخلص من العجمة التي ربي عليها في جبله و يفرض نفسه مثل وليد نشأ في جبل العرب و يلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم . و ذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات و الذي في اللسان و النطق إنما هو الألفاظ و أما المعاني فهي في الضمائر . وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد و في طوع كل فكر منها ما يشاء و يرضى فلا يحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها و تأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه و هو بمثابة القوالب للمعاني . فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب و الفضة و الصدف و الزجاج و الخزف و الماء واحد في نفسه . و تختلف الجودة في الأواني المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء . كذلك جودة اللغة و بلاغتها في الاستعمال تختلف بإختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد . و المعاني واحدة في نفسها و إنما الجاهل بتأليف الكلام و أساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده و لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض و لا يستطيعه لفقدان القدرة عليه . و الله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
الفصل السابع و الخمسون : في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ و جودتها بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي و على قدر جودة المحفوظ و طبقته في جنسه و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ . فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود و أعلى مقاما و رتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاجب الذوق . و على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما . فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها و تنمو قوى الملكة بتغذيتها . و ذلك أن النفس و إن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة و الضعف في الإدراكات . و اختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات و الملكات و الألوان التي تكيفها من خارج . فبهذه يتم وجودها و تخرج من القوة إلى الفعل صورتها و الملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه . فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر و ملكة الكتابة بحفظ الأسجاع و الترسيل ، و العلمية بمخالطة العلوم و الإدراكات و الأبحاث و الأنظار ، و الفقهية بمخالطة الفقه و تنظير المسائل و تفريعها و تخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات و الأذكار و تعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة و الانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن و روحه و ينقلب ربانيا و كذا سائرها . و للنفس في كل واحد منها لون تتكيف به و على حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام و بهذا كان الفقهاء و أهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة و ما ذلك إلا لما سبق إلى محفوظهم و يمتلئ به من القوانين العلمية و العبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة و النازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين و العلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المخفوظ إلى الفكر و كثر و تلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور و انحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم . و هكذا نجد شعر الفقهاء و النحاة و المتكلمين و النظار و غيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب . أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال : ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن و كان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي و لم أنسبها له و هو هذا :
لم أذر حين وقفت بالأطلال ما الفرق بين جديدها و البالي
فقال لي على البديهة : هذا شعر فقيه ، فقلت له : و من أين لك ذلك ، فقال : من قوله ما الفرق ؟ إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب ، فقلت له : لله أبوك إنه ابن النحوي . و أما الكتاب و الشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم و مخالطتهم كلام العرب و أساليبهم في الترسل و انتقائهم لهم الجيد من الكلام . ذاكرت يوما صاحبنا أبا عند الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر و كان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة فقلت له : أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به و حفظي للجيد من الكلام من القرآن و الحديث و فنون من كلام العرب و إن كان محفوظي قليلا . و إنما أتيت و الله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية و القوانين التألفية . فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى و الصغرى في القراءات في الرسم و استظهرتهما و تدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه و الأصول و جمل الخونجى في المنطق و بعض كتاب التسهيل و كثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها . فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال : لله أنت و هل يقول هذا إلا مثلك ؟ و يظهر لك من هذا الفصل و ما تقرر فيه سر آخر و هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم . فإنا نجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أ بي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق و نصيب و غيلان ذي الرمة و الأحوص و بشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية و صدرا من الدولة العباسية في خطبهم و ترسيلهم و محاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة و ابن كلثوم و زهير و علقمة بن عبدة و طرفة بن العبد و من كلام الجاهلية في منثورهم و محاوراتهم و الطبع السليم و الذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة . و السبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن و الحديث اللذين عجز البشر في الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم و نشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم و ارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة و لا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم و نثرهم أحسن ديباجة و أصفى رونقا من أولئك و أرصف مبنى و أعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة . و تأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق و البصر بالبلاغة . و لقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا و كان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين و استبحر في علم اللسان و جاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ و لم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي : و الله ما أدري ، فقلت : أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك و لعله السبب فيه . و ذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي : يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب . و كان من بعدها يؤثر محلي و يصيخ في مجالس التعليم إلى قولي و يشهد لي بالنباهة في العلوم ، و الله خلق الإنسان و علمه البيان .
الفصل الثامن و الخمسون : في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره
إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب ، إنما سره و روحه في إفادة المعنى . و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به . و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال ، هو فن البلاغة . و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين . فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين ، بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية . و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير ، و تعريف و تنكير ، و إضمار و إظهار . و تقييد و إطلاق و غيرها ، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن ، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة . فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد . و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال ، و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات .
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه ، فيكون فيها مجازا : إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه ، و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد . لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله . و الظفر من أسباب اللذة كما علمت . ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة ، و سموها بالبيان . و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها . و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة . و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت . فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة ، و بهما كمال الإفادة ، فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا ، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال . فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته .
ثم اعلم أنهم إذا قالوا : الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه ، لأنه عبارة و خطاب ، ليس المقصود منه النطق فقط . بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة ، و يدل به عليه دلالة وثيقة . ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين ، بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع ، و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه ، و المطابقة بين المتضادات ، ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني . فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة .
و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل : " والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى " ، و مثل : " فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى" ، إلى آخر التقسيم في الآية . و كذا : " فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا " إلى آخر الآية . و كذا : " هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . و أمثاله كثير . و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها . و كذا وقع في كلام الجاهلية منه ، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد . و يقال إنه وقع في شعر زهير .
و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا ، و أتوا منه بالعجائب . و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد ، فقد كانوا مولعين بالصنعه . و يأتون منها بالعجب . و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة ، و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي . ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس . و جاء على آثارهم حبيب و البحتري . ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع . و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة . مثل قول قيس بن ذريح :
و أخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا
و قول كثير :
و إني و تهيامي بعزة بعدما تخليت عما بيننا و تخليت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع ، الفقيد الصنعة ، ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه . فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا .
و أما المصنوع فكثير من لدن بشار ، ثم حبيب و طبقتهما ، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم ، و نسجوا على منوالهم . و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها ، و اختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها . و كثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة ، و أنها هي تعطى التحسين و الرونق . و أما المتقدمون من أهل البديع ، فهي عندهم خارجة عن البلاغة . و لذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها . و هو رأي ابن رشيق قي كتاب العمدة له ، و أدباء الأندلس . و ذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا منها أن تقع من غير تكلف و لا اكتراث في ما يقصد منها . و أما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من عيب الاستهجان ، لأن تكلفها و معاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام ، فتخل بالإفادة من أصلها ، و تذهب بالبلاغة رأسا . و لا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات ، و هذا هو الغالب اليوم على أهل العصر . و أصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون ، و يعدون ذلك من القصور عن سواه . و سمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي ، و كان من أهل البصر في اللسان و القريحة . في ذوقه يقول ، إن من أشهى ما تقترحه على نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره ، و قد عوقب بأشد العقوبة ، و نودي عليه ، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة ، فيكلفون بها ، و يتناسون البلاغة . ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها و أن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد ، فتكفي في زينة الشعر و رونقه . و الإكثار منها عيب ، قاله ابن رشيق و غيره . و كان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول : هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها ، لأنها من محسنات الكلام و مزيناته ، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد و الإثنين منها ، و يقبح بتعدادها . و على نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية و الإسلام . كان أولا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله و تراكيبه ، شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع و لا اكتراث بصنعة . حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه ، فتعاطى الصنعة و التقفيه و أتى بذلك بالعجب . و عاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية . و إنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة و البعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة . ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين و نسي عهد الترسيل و تشابهت السلطانيات و الإخوانيات و العربيات بالسوقيات . و اختلط المرعى بالهمل . و هذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة و التكليف ، قاصر عن الكلام المطبوع ، لقلة الإكتراث فيه بأصل البلاغة ، و الحاكم في ذلك الذوق . و الله خلقكم و علمكم ما لم تكونوا تعلمون .
الفصل التاسع و الخمسون : في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعراعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم و أخبارهم و حكمهم . و كان رؤساء العرب منافسين فيه و كانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده و عرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن و أهل البصر لتمييز حوله . حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم و بيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر و النابغة الذبياني و زهير بن أبى سلمى و عنترة بن شداد و طرفة بن العبد و علقمة بن عبدة و الأعشى و غيرهم من أصحاب المعلقات السبع . فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه و عصبته و مكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات . ثم
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبؤة و الوحي و ما أدهشهم من أسلوب القرآن و نظمه فأخرسوا عن ذلك و سكتوا عن الخوض في النظم و النثر زمانا . ثم استقر ذلك و أونس الرشد من الملة . و لم ينزل الوحي في تحريم الشعر و حظره و سمعه النبي صلى الله عليه و سلم و أثاب عليه ، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه . و كان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية و طبقة مرتفعة و كان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به . ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل و الدولة العزيزة و تقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها . و يجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم و مكانهم من قومهم و يحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار و الأخبار و اللغة و شرف اللسان . و العرب يطالبون ولدهم بحفظها . و لم يزل هذا الشأن أيام بني أمية و صدرا من دولة بني العباس . و انظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب الشعر و الشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك و الرسوخ فيه و العناية بانتحاله و التبصر بجيد الكلام و رديئه و كثرة مخفوظه منه . ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل العجمة و تقصيرها باللسان و إنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب و البحتري و المتنبئ و ابن هانئ و من بعدهم و هلم جرا . فصار غرض الشعر في الأغلب إنما هو الكذب و الاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفا . و أنف منه لذلك أهل الهمم و المراتب من المتأخرين و تغير الحال و أصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة و مذمة لأهل المناصب الكبيرة . و الله مقلب الليل و النهار .
الفصل الستون : في أشعار العرب و أهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية و قد كان في الفرس شعراء و في يونان كذلك و ذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر و أثنى عليه . و كان في حمير أيضا شعراء متقدمون . و لما فسد لسان مضر و لغتهم التي ذونت مقاييسها و قوانين إعرابها و فسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها و مازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة و في كثير من الموضوعات اللغوية و بناء الكلمات . و كذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب و أكثر الأوضاع و التصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد . و اختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق و أمصاره لغة غير لغة أهل المغرب و أمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس و أمصاره . ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات و السواكن و تقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة و هي لغة مضر الذين كانوا فحولة و فرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة . بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين و الحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله و رصف بنائه على مهيع كلامهم . فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيعرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون و يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر و أغراضه من النسيب و المدح و الرثاء و الهجاء و يستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام . و ربما هجموا على المقصود لأول كلامهم و أكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون . فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم و أهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحورانى و القيسي . و ربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية . ثم يغنون به و يسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق و الشام و هي من منازل العرب البادية و مساكنهم إلى هذا العهد . و لهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه و يلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع و المخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين . و لهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة و فيهم الفحول و المتأخرون و الكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد و خصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها و يمج نظمهم إذا أنشد و يعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها و فقدان الإعراب منها . و هذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعة و ذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته و نظره و إلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل و النصب دالا على المفعول أو بالعكس و إنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه . فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة و اشتهر صحة الدلالة و إذا طابقت تلك الدلالة المقصود و مقتضى الحال صحت البلاغة و لا عبرة بقوانين النحاة في ذلك . و أساليب الشعر و فنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر . و يتميز عندهم الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب .
فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجارية بنت سرحان ، و يذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب :
قال الشريف ابن هاشم علي ترى كبدي حرى شكت من زفيرها
يغز للإعلام أين ما رأت خاطري يرد غلام البدو يلوي عصيرا
و ماذا شكاة الروح مما طرا لها عداة وزائع تلف الله خبيرها
يحس إن قطاع عامر ضميرها طوى و هند جافي ذكيرها
و عادت كما خوارة في يد غاسل على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين و النزع بينهم على شوك لعه و البقايا جريرها
و باتت دموع العين ذارفات لشانها شبيه دوار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذرا و زادها مرون يجي متراكبا من صبيرها
يصب من القيعان من جانب الصفا عيون و لجاز البرق في غزيرها
هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ناضت من بغداد حتى فقيرها
و نادى المنادي بالرحيل و شدوا و عرج عاريها على مستعيرها
و شد لها الأدهم دياب بن غانم على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
و قال لهم حسن بن سرحان غزبوا و سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
و يركض و بيده شهامه بالتسامح و باليمين لا يجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس و ما كان يرضى زين حمير و ميرها
غدرني و هو زعما صديقي و صاحبي و أناليه ما من درقتي ما يديرها
و رجع يقول لهم بلال بن هاشم بحرالبلادالعطشى ما بخيرها
حرام علي باب بغداد و أرضها داخل و لا عائد ركيره من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد بن هاشم على الشمس أوحول الغظامن هجيرها
و باتت نيران العذارى قوادح يلوذ و بجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بأفريقية و أرض الزاب و رثاؤهم له على جهة التهكم :
تقول فتاة الحي سعدى و هاضها لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفه خذ النعت مني لا تكون هبيل
تراه يعالي وادي ران و فوقه من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا به الواد شرقا و اليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم جراحه كافواه المزاد تسيل
أيا جائزا مات الزناتي خليفه لاترحل إلا أن يريذ رحيل
ألا واش رحلنا ثلاثين مرة و عشرا و ستا في النهار قليل
و من قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه و بين ماضي بن مقرب :
تبدى ماضي الجبار و قال لي أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ود بيننا و رانا عريب عربا لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ليحدو و من عمر بلاده عاش
إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم هنا العرب ما زدنا لهن صياش
و من قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب و غلبهم زناتة عليه :
و أي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم و أي رجال ضاع قبلي جميلها
لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا عناني بحجة ماغباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة من الخمر فهو ما قدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريبا و هي مدوخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوحت و هي بين عربا غافلا عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى شاكي بكبد باديتها زعيلها
و أمرت قومي بالرحيل و بكروا و قووا و شداد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا و البدو ماترفع عمود يقيلها
نظل على حداب الثنايا نوازي يظل الجرى فوق النضا و نصيلها
و من شعر يلطان بن مظفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح و أهل الرياسة فيهم ، يقولها و هو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين :
يقول و في بوح الدجا بعد وهنة حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد و الأسى و روح هيامي طال ما في سقامها
حجازية بدوية عربية عداوية و لها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات و مشتاها بها كل شتوة ممحونة بيها و بيها صحيح غرامها
و مرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخورالخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت عليها من السحب السواري عمامها
و ماذا بكت بالما و ماذا تناحطت عيون غرار المزن عذبا حمامها
كأن عروس البكر لاحت ثيابها عليها و من نور الأقاحي خزامها
فلاة و دهنا و اتساع و منة و مرعى سوى ما في مراعي نعامها
و مشروبها من مخض ألبان شولها غنيم و من لحم الجوازي طعامها
تفانت عن الأبواب و الموقف الذي يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا و بلا و يحيى ما بلي من رمامها
فكافأتها بالود مني و ليتني ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
و فرسي عديد تحت سرجي مشاقة زمان الصبا سرجا و بيدي لجامها
و كم من رداح أسهرتني و لم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
و كم غيرها من كاعب مرجحنة مطرزة الأجفان باهي و شامها
و صفقت من وجدي عليها طريجة بكفي و لم ينسى جداها ذمامها
و نار بخطب الوجد توهج في الحشا و توهج لا يطفا من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى فني العمر في دار عماني ظلامها
و لكن رأيت الشمس تكسف ساعة و يغمى عليها ثم يبدا غيامها
بنود و رايات من السعد أقبلت إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي و رمحى على كتفي و سيري أمامها
يجرعا عتاق النوق من فوق شامس أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للوى مقيم بها مالذ عندي مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر يزيل الصدا و الغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقا و مغربا إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها
عليهم و من هو في حماهم تحية مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها
فدع ذا و لا تأسف على سالف مضى فذي الدنيا ما دامت لاحد دوامها
و من أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر . شيخ الكعوب . من أولاد أبي الليل . يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل و يجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلمهل . عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه :
يقول و ذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعانى صعابها
يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من انشاد القوافي عذابها
محيرة مختارة من نشادها تحدى بها تام الوشا ملتها بها
مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دابي و دابها
و هيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل و هذي جوابها
اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها
فخرت و لم تقصر و لا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها
لقولك في أم المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها
أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى و غلاق دابها
شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق و هل ريت من جا للوغى و اصطلى بها
سواها طفاها أضرمت بعد طفيه و أثنى طفاها جاسرا لا يهابها
و اضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها
و بان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار و هي عن كبر الاسنة تهابها
كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الذي يتقى بها
منها في العتاب :
وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني غنيت بمعلاق الثنا و اغتصابها
علي ونا ندفع بها كل مبضع بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابها
و لا بعدها الارهاف و ذبل و زرق كالسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه تسير السبايا و المطايا ركابها
و هي عالما بأن المنايا تنيلها بلا شك و الدنيا سريع انقلابنها
و منها في وصف الظعائن :
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها
ترى العين فيها قل لشبل عرائف وكل مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غب الصباح أن يفلها بكل حلوب الجوف ما سد بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
و من قولهم في الأمثال الحكمية
و طلبك في الممنوع منك سفاهة و صدك عمن صد عنك صواب
إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله باب
و من قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم :
لشيب و شبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها
و من قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى و ذلك فيما قرب من عصرنا :
يقول بلا جهل فتى الجود خالد مقالة قوال و قال صواب
مقالة حبر ذات ذهن و لم يكن هريجا و لا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة و لا هرج ينقاد منه معاب
و كنت بها كبدي و هي نعم صابة حزينة فكر و الحزين يصاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدمنا بني عم منهم شايب و شباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم مصافاة ود و اتساع جناب
و بعضهم ملنا له عن خصيمه كما يعلموا قولي بقيه صواب
و بعضهمو مرهوب من بعض ملكنا جزاعا و في جو الضمير كتاب
و بعضهمو جانا جريحا تسمحت خواطر منها للنزيل و هاب
و بعضهمو نظار فينا بسوة نقهناه حتى ماعنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهناقبيحه مرارا و في بعض المرار يهاب
و بعضهمو شاكي من أوغاد قادر غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه و اقتضي منه مورد على كره مولى البالقي و دياب
و نحن على دافي المدى نطلب العلا لهم ما حططنا للفجور نقاب
و حزنا حمى وطن بترشيش بعدما نفقنا عليها سبقا و رقاب
و مهد من الأملاك ما كان خارجا على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا بني كعب لاواها الغريم و طاب
جرينا بهم عن كل تاليف في العدا و قمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ربيها و خيراته عليه نصاب
و ركبوا السبايا المثمنات من أهلها و لبسوا من أنواع الحرير ثياب
و ساقوا المطايا يالشرا لا نسوا له جماهير ما يغلو بها بجلاب
و كسبوا من أصناف السعايا ذخائر ضخام لحزات الزمان تصاب
و عادوا نظير البرمكيين قبل ذا و إلا هلالا في زمان دياب
و كانوا لنا درعا لكل مهمة إلى أن بان من نار العدو شهاب
و خلوا الدار في جنح الظلام و لا اتقوا ملامه و لا دار الكرام عتاب
كسوا الحيى جلباب البهيم لستره وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حانس ما دار النبا ذهل حلمي إن كان عقله غاب
يظن ظنونا ليس نحن بأهلها تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو و من واتاه في سو ظنه بالاثبات من ظن القبايح عاب
فوا عزوتي إن الفتى بو محمد وهوب لآلاف بغير حساب
و برحت الأوغاد منه و يحسبوا بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع لقوا كل ما يستاملوه سراب
و هو لو عطى ما كان للرأي عارف و لا كان في قلة عطاه صواب
و إن نحن ما نستاملوا عنه راحة و إنه باسهام التلاف مصاب
و إن ما وطا ترشيش يضياق وسعها عليه و يمشي بالفزوع لزاب
و إنه منها عن قريب مفاصل خنوج عناز هوالها و قباب
و عن فاتنات الطرف بيض غوانج ربوا خلف أستار و خلف حجاب
يتيه إذا تاهوا و يصبوا إذا صبوا بحسن قوانين و صوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين و ربما يطارح حتى ما كأنه شاب
بهم حازله زمه و طوع أوامر و لذة مأكول و طيب شراب
حرام على ابن تافركين ما مضى من الود إلا ما بدل بحراب
و إن كان له عقل رجيح و فطنة يلجج في اليم الغريق غراب
و أما البدا لا بدها من فياعل كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
و يحمي بها سوق علينا سلاعه و يحمار موصوف القنا و جعاب
و يمسي غلام طالب ريح ملكنا ندوما و لا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
و من شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته :
محبرة كالدر في يد صانع إذا كان في سلك الحرير نظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى و شاء تبارك و الضعون تسام
غدا منه لام الحي حيين و انشطت عصاها و لا صبنا عليه حكام
و لكن ضميري يوم بان بهم إلينا تبرم على شوك القتاد برام
و إلا كأبراص التهامي قوادح و بين عواج الكانفات ضرام
و إلا لكان القلب في يد قابض أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق و خام
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر بيحيى و حله و القطين لمام
و غيد تداني للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر و نيام
و نعم يشوف الناظرين التحامها لنا ما بدا من مهرق و كظام
و عرود باسمها ليدعو لسربها و لإطلاق من شرب المها و نعام
و اليوم ما فيها سوى البوم حولها ينوح على اطلال لها و خيام
وقفنا بها طورا طويلا نسالها بعين سخينا و الدموع سجام
و لا صح لي منها سوى وحش خاطري و سقمي من أسباب إن عرفت أوهام
و من بعد ذا تدى لمنصور بو علي سلام و من بعد السلام سلام
و قولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم دخلتم بحور غامقات دهام
زواخر ما تنقاس بالعود إنما لها سيلات على الفضا و أكام
و لا قمستمو فيها قياسا يدلكم و ليس البحور الطاميات تعام
و عانوا على هلكاتهم في ورودها من الناس عدمان العقول لئام
أيا عزوة ركبوا الضلالة و لا لهم قرار و لا دنيا لهن دوام
ألا غناهمو لو ترى كيف زايهم مثل سراب فلاه ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا مواضع ماهيا لهم بمقام
و حق النبي و البيت و أركانه العلى و من زارها في كل دهر و عام
لبر الليالي فيه إن طالت الحيا يذوقون من خمط الكساع مدام
و لا بزها تبقى البوادي عواكف بكل رديني مطرب و حسام
و كل مسافة كالسد إياه عابر عليها من أولاد الكرام غلام
و كل كميت يكتعص عض نابه يظل يصارع في العنان لجام
و تحمل بنا الأرض العقيمة مدة و تولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال و القود الهجان و بالقنا لها وقت و جنات البدور زحام
أتجحدني و أنا عقيد نقودها وفي سن رمحي للحروب علام
و نحن كاضراس الموافي بنجعكم حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يا مير أبو علي يلقى سعايا صايرين قدام
كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته و خلى الجياد العاليات تسام
و خل رجالا لا يرى الضيم جارهم و لا يجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها و عقد بؤسهم و هم عذر عنه دائما و دوام
و كم ثار طعنها على البدو سابق ما بين صحاصيح و ما بين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على لنا أرض ترك الظاعنين زمام
و كم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة حليف الثنا قشاع كل غيام
و إن جاء خافوه الملوك و وسعوا غدا طبعه يجدى عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ما غنت الورقا و ناح حمام
و من شعر عرب نمر بنواحي حوران لإمرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول :
تقول فتاة الحي أم سلامه بعين أراع الله من لا رثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها و بو عيالها بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم و نمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني و يبرد من نيران قلبي ذبالها
أيا حين تسريح الذوائب و اللحى و بيض العذارى ما حميتو جمالها
الموشحات و الأزجال للأندلسو أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم و تهذبت مناحيه و فنونه و بلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا و أغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضا المختلفة . و يسمون المتعدد منها بيتا واحدا و يلتزمون عند قوافي تلك الأغصان و أوزانها متتاليا فيما بعد
الفصل الستون : في أشعار العرب و أهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية و قد كان في الفرس شعراء و في يونان كذلك و ذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر و أثنى عليه . و كان في حمير أيضا شعراء متقدمون . و لما فسد لسان مضر و لغتهم التي ذونت مقاييسها و قوانين إعرابها و فسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها و مازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة و في كثير من الموضوعات اللغوية و بناء الكلمات . و كذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب و أكثر الأوضاع و التصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد . و اختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق و أمصاره لغة غير لغة أهل المغرب و أمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس و أمصاره . ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات و السواكن و تقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة و هي لغة مضر الذين كانوا فحولة و فرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة . بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين و الحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله و رصف بنائه على مهيع كلامهم . فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيعرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون و يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر و أغراضه من النسيب و المدح و الرثاء و الهجاء و يستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام . و ربما هجموا على المقصود لأول كلامهم و أكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون . فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم و أهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحورانى و القيسي . و ربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية . ثم يغنون به و يسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق و الشام و هي من منازل العرب البادية و مساكنهم إلى هذا العهد . و لهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه و يلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع و المخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين . و لهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة و فيهم الفحول و المتأخرون و الكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد و خصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها و يمج نظمهم إذا أنشد و يعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها و فقدان الإعراب منها . و هذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعة و ذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته و نظره و إلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل و النصب دالا على المفعول أو بالعكس و إنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه . فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة و اشتهر صحة الدلالة و إذا طابقت تلك الدلالة المقصود و مقتضى الحال صحت البلاغة و لا عبرة بقوانين النحاة في ذلك . و أساليب الشعر و فنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر . و يتميز عندهم الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب .
فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجارية بنت سرحان ، و يذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب :
قال الشريف ابن هاشم علي ترى كبدي حرى شكت من زفيرها
يغز للإعلام أين ما رأت خاطري يرد غلام البدو يلوي عصيرا
و ماذا شكاة الروح مما طرا لها عداة وزائع تلف الله خبيرها
يحس إن قطاع عامر ضميرها طوى و هند جافي ذكيرها
و عادت كما خوارة في يد غاسل على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين و النزع بينهم على شوك لعه و البقايا جريرها
و باتت دموع العين ذارفات لشانها شبيه دوار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذرا و زادها مرون يجي متراكبا من صبيرها
يصب من القيعان من جانب الصفا عيون و لجاز البرق في غزيرها
هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ناضت من بغداد حتى فقيرها
و نادى المنادي بالرحيل و شدوا و عرج عاريها على مستعيرها
و شد لها الأدهم دياب بن غانم على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
و قال لهم حسن بن سرحان غزبوا و سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها
و يركض و بيده شهامه بالتسامح و باليمين لا يجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس و ما كان يرضى زين حمير و ميرها
غدرني و هو زعما صديقي و صاحبي و أناليه ما من درقتي ما يديرها
و رجع يقول لهم بلال بن هاشم بحرالبلادالعطشى ما بخيرها
حرام علي باب بغداد و أرضها داخل و لا عائد ركيره من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد بن هاشم على الشمس أوحول الغظامن هجيرها
و باتت نيران العذارى قوادح يلوذ و بجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بأفريقية و أرض الزاب و رثاؤهم له على جهة التهكم :
تقول فتاة الحي سعدى و هاضها لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفه خذ النعت مني لا تكون هبيل
تراه يعالي وادي ران و فوقه من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا به الواد شرقا و اليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم جراحه كافواه المزاد تسيل
أيا جائزا مات الزناتي خليفه لاترحل إلا أن يريذ رحيل
ألا واش رحلنا ثلاثين مرة و عشرا و ستا في النهار قليل
و من قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه و بين ماضي بن مقرب :
تبدى ماضي الجبار و قال لي أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ود بيننا و رانا عريب عربا لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ليحدو و من عمر بلاده عاش
إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم هنا العرب ما زدنا لهن صياش
و من قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب و غلبهم زناتة عليه :
و أي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم و أي رجال ضاع قبلي جميلها
لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا عناني بحجة ماغباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة من الخمر فهو ما قدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها غريبا و هي مدوخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوحت و هي بين عربا غافلا عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى شاكي بكبد باديتها زعيلها
و أمرت قومي بالرحيل و بكروا و قووا و شداد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا و البدو ماترفع عمود يقيلها
نظل على حداب الثنايا نوازي يظل الجرى فوق النضا و نصيلها
و من شعر يلطان بن مظفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح و أهل الرياسة فيهم ، يقولها و هو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين :
يقول و في بوح الدجا بعد وهنة حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد و الأسى و روح هيامي طال ما في سقامها
حجازية بدوية عربية عداوية و لها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لا تألف القرى سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات و مشتاها بها كل شتوة ممحونة بيها و بيها صحيح غرامها
و مرباها عشب الأراضي من الحيا يواتي من الخورالخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت عليها من السحب السواري عمامها
و ماذا بكت بالما و ماذا تناحطت عيون غرار المزن عذبا حمامها
كأن عروس البكر لاحت ثيابها عليها و من نور الأقاحي خزامها
فلاة و دهنا و اتساع و منة و مرعى سوى ما في مراعي نعامها
و مشروبها من مخض ألبان شولها غنيم و من لحم الجوازي طعامها
تفانت عن الأبواب و الموقف الذي يشيب الفتى مما يقاسي زحامها
سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا و بلا و يحيى ما بلي من رمامها
فكافأتها بالود مني و ليتني ظفرت بأيام مضت في ركامها
ليالي أقواس الصبا في سواعدي إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها
و فرسي عديد تحت سرجي مشاقة زمان الصبا سرجا و بيدي لجامها
و كم من رداح أسهرتني و لم أرى من الخلق أبهى من نظام ابتسامها
و كم غيرها من كاعب مرجحنة مطرزة الأجفان باهي و شامها
و صفقت من وجدي عليها طريجة بكفي و لم ينسى جداها ذمامها
و نار بخطب الوجد توهج في الحشا و توهج لا يطفا من الماء ضرامها
أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى فني العمر في دار عماني ظلامها
و لكن رأيت الشمس تكسف ساعة و يغمى عليها ثم يبدا غيامها
بنود و رايات من السعد أقبلت إلينا بعون الله يهفو علامها
أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي و رمحى على كتفي و سيري أمامها
يجرعا عتاق النوق من فوق شامس أحب بلاد الله عندي حشامها
إلى منزل بالجعفرية للوى مقيم بها مالذ عندي مقامها
ونلقى سراة من هلال بن عامر يزيل الصدا و الغل عني سلامها
بهم تضرب الأمثال شرقا و مغربا إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها
عليهم و من هو في حماهم تحية مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها
فدع ذا و لا تأسف على سالف مضى فذي الدنيا ما دامت لاحد دوامها
و من أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر . شيخ الكعوب . من أولاد أبي الليل . يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل و يجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلمهل . عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه :
يقول و ذا قول المصاب الذي نشا قوارع قيعان يعانى صعابها
يريح بها حادي المصاب إذا سعى فنونا من انشاد القوافي عذابها
محيرة مختارة من نشادها تحدى بها تام الوشا ملتها بها
مغربلة عن ناقد في غضونها محكمة القيعان دابي و دابها
و هيض بتذكاري لها يا ذوي الندى قوارع من شبل و هذي جوابها
اشبل جنينا من حباك طرائفا فراح يريح الموجعين الغنا بها
فخرت و لم تقصر و لا أنت عادم سوى قلت في جمهورها ما أعابها
لقولك في أم المتين بن حمزة وحامي حماها عاديا في حرابها
أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي رصاص بني يحيى و غلاق دابها
شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق و هل ريت من جا للوغى و اصطلى بها
سواها طفاها أضرمت بعد طفيه و أثنى طفاها جاسرا لا يهابها
و اضرمت بعد الطفيتين ألن صحت لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها
و بان لوالي الأمر في ذا انشحابها فصار و هي عن كبر الاسنة تهابها
كما كان هو يطلب على ذا تجنبت رجال بني كعب الذي يتقى بها
منها في العتاب :
وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني غنيت بمعلاق الثنا و اغتصابها
علي ونا ندفع بها كل مبضع بأسياف ننتاش العدا من رقابها
فإن كانت الأملاك بغت عرايس علينا بأطراف القنا اختضابها
و لا بعدها الارهاف و ذبل و زرق كالسنة الحناش انسلابها
بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه تسير السبايا و المطايا ركابها
و هي عالما بأن المنايا تنيلها بلا شك و الدنيا سريع انقلابنها
و منها في وصف الظعائن :
قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا فتوق بحوبات مخوف جنابها
ترى العين فيها قل لشبل عرائف وكل مهاة محتظيها ربابها
ترى أهلها غب الصباح أن يفلها بكل حلوب الجوف ما سد بابها
لها كل يوم في الأرامي قتائل ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها
و من قولهم في الأمثال الحكمية
و طلبك في الممنوع منك سفاهة و صدك عمن صد عنك صواب
إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ظهور المطايا يفتح الله باب
و من قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم :
لشيب و شبان من أولاد برجم جميع البرايا تشتكي من ضهادها
و من قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى و ذلك فيما قرب من عصرنا :
يقول بلا جهل فتى الجود خالد مقالة قوال و قال صواب
مقالة حبر ذات ذهن و لم يكن هريجا و لا فيما يقول ذهاب
تهجست معنا نابها لا لحاجة و لا هرج ينقاد منه معاب
و كنت بها كبدي و هي نعم صابة حزينة فكر و الحزين يصاب
تفوهت بادي شرحها عن مآرب جرت من رجال في القبيل قراب
بني كعب أدنى الأقربين لدمنا بني عم منهم شايب و شباب
جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم مصافاة ود و اتساع جناب
و بعضهم ملنا له عن خصيمه كما يعلموا قولي بقيه صواب
و بعضهمو مرهوب من بعض ملكنا جزاعا و في جو الضمير كتاب
و بعضهمو جانا جريحا تسمحت خواطر منها للنزيل و هاب
و بعضهمو نظار فينا بسوة نقهناه حتى ماعنا به ساب
رجع ينتهي مما سفهناقبيحه مرارا و في بعض المرار يهاب
و بعضهمو شاكي من أوغاد قادر غلق عنه في أحكام السقائف باب
فصمناه عنه و اقتضي منه مورد على كره مولى البالقي و دياب
و نحن على دافي المدى نطلب العلا لهم ما حططنا للفجور نقاب
و حزنا حمى وطن بترشيش بعدما نفقنا عليها سبقا و رقاب
و مهد من الأملاك ما كان خارجا على أحكام والي أمرها له ناب
بردع قروم من قروم قبيلنا بني كعب لاواها الغريم و طاب
جرينا بهم عن كل تاليف في العدا و قمنا لهم عن كل قيد مناب
إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ربيها و خيراته عليه نصاب
و ركبوا السبايا المثمنات من أهلها و لبسوا من أنواع الحرير ثياب
و ساقوا المطايا يالشرا لا نسوا له جماهير ما يغلو بها بجلاب
و كسبوا من أصناف السعايا ذخائر ضخام لحزات الزمان تصاب
و عادوا نظير البرمكيين قبل ذا و إلا هلالا في زمان دياب
و كانوا لنا درعا لكل مهمة إلى أن بان من نار العدو شهاب
و خلوا الدار في جنح الظلام و لا اتقوا ملامه و لا دار الكرام عتاب
كسوا الحيى جلباب البهيم لستره وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب
كذلك منهم حانس ما دار النبا ذهل حلمي إن كان عقله غاب
يظن ظنونا ليس نحن بأهلها تمنى يكن له في السماح شعاب
خطا هو و من واتاه في سو ظنه بالاثبات من ظن القبايح عاب
فوا عزوتي إن الفتى بو محمد وهوب لآلاف بغير حساب
و برحت الأوغاد منه و يحسبوا بروحه ما يحيى بروح سحاب
جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع لقوا كل ما يستاملوه سراب
و هو لو عطى ما كان للرأي عارف و لا كان في قلة عطاه صواب
و إن نحن ما نستاملوا عنه راحة و إنه باسهام التلاف مصاب
و إن ما وطا ترشيش يضياق وسعها عليه و يمشي بالفزوع لزاب
و إنه منها عن قريب مفاصل خنوج عناز هوالها و قباب
و عن فاتنات الطرف بيض غوانج ربوا خلف أستار و خلف حجاب
يتيه إذا تاهوا و يصبوا إذا صبوا بحسن قوانين و صوت رباب
يضلوه عن عدم اليمين و ربما يطارح حتى ما كأنه شاب
بهم حازله زمه و طوع أوامر و لذة مأكول و طيب شراب
حرام على ابن تافركين ما مضى من الود إلا ما بدل بحراب
و إن كان له عقل رجيح و فطنة يلجج في اليم الغريق غراب
و أما البدا لا بدها من فياعل كبار إلى أن تبقى الرجال كباب
و يحمي بها سوق علينا سلاعه و يحمار موصوف القنا و جعاب
و يمسي غلام طالب ريح ملكنا ندوما و لا يمسي صحيح بناب
أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه غلطتوا أدمتوا في السموم لباب
و من شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته :
محبرة كالدر في يد صانع إذا كان في سلك الحرير نظام
أباحها منها فيه أسباب ما مضى و شاء تبارك و الضعون تسام
غدا منه لام الحي حيين و انشطت عصاها و لا صبنا عليه حكام
و لكن ضميري يوم بان بهم إلينا تبرم على شوك القتاد برام
و إلا كأبراص التهامي قوادح و بين عواج الكانفات ضرام
و إلا لكان القلب في يد قابض أتاهم بمنشار القطيع غشام
لما قلت سما من شقا البين زارني إذا كان ينادي بالفراق و خام
ألا يا ربوع كان بالأمس عامر بيحيى و حله و القطين لمام
و غيد تداني للخطا في ملاعب دجى الليل فيهم ساهر و نيام
و نعم يشوف الناظرين التحامها لنا ما بدا من مهرق و كظام
و عرود باسمها ليدعو لسربها و لإطلاق من شرب المها و نعام
و اليوم ما فيها سوى البوم حولها ينوح على اطلال لها و خيام
وقفنا بها طورا طويلا نسالها بعين سخينا و الدموع سجام
و لا صح لي منها سوى وحش خاطري و سقمي من أسباب إن عرفت أوهام
و من بعد ذا تدى لمنصور بو علي سلام و من بعد السلام سلام
و قولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم دخلتم بحور غامقات دهام
زواخر ما تنقاس بالعود إنما لها سيلات على الفضا و أكام
و لا قمستمو فيها قياسا يدلكم و ليس البحور الطاميات تعام
و عانوا على هلكاتهم في ورودها من الناس عدمان العقول لئام
أيا عزوة ركبوا الضلالة و لا لهم قرار و لا دنيا لهن دوام
ألا غناهمو لو ترى كيف زايهم مثل سراب فلاه ما لهن تمام
خلو القنا يبغون في مرقب العلا مواضع ماهيا لهم بمقام
و حق النبي و البيت و أركانه العلى و من زارها في كل دهر و عام
لبر الليالي فيه إن طالت الحيا يذوقون من خمط الكساع مدام
و لا بزها تبقى البوادي عواكف بكل رديني مطرب و حسام
و كل مسافة كالسد إياه عابر عليها من أولاد الكرام غلام
و كل كميت يكتعص عض نابه يظل يصارع في العنان لجام
و تحمل بنا الأرض العقيمة مدة و تولدنا من كل ضيق كظام
بالأبطال و القود الهجان و بالقنا لها وقت و جنات البدور زحام
أتجحدني و أنا عقيد نقودها وفي سن رمحي للحروب علام
و نحن كاضراس الموافي بنجعكم حتى يقاضوا من ديون غرام
متى كان يوم القحط يا مير أبو علي يلقى سعايا صايرين قدام
كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته و خلى الجياد العاليات تسام
و خل رجالا لا يرى الضيم جارهم و لا يجمعوا بدهى العدو زفام
ألا يقيموها و عقد بؤسهم و هم عذر عنه دائما و دوام
و كم ثار طعنها على البدو سابق ما بين صحاصيح و ما بين حسام
فتى ثار قطار الصوى يومنا على لنا أرض ترك الظاعنين زمام
و كم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة حليف الثنا قشاع كل غيام
و إن جاء خافوه الملوك و وسعوا غدا طبعه يجدى عليه قيام
عليكم سلام الله من لسن فاهم ما غنت الورقا و ناح حمام
و من شعر عرب نمر بنواحي حوران لإمرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول :
تقول فتاة الحي أم سلامه بعين أراع الله من لا رثى لها
تبيت بطول الليل ما تألف الكرى موجعة كان الشقا في مجالها
على ما جرى في دارها و بو عيالها بلحظة عين البين غير حالها
فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم و نمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها
أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني و يبرد من نيران قلبي ذبالها
أيا حين تسريح الذوائب و اللحى و بيض العذارى ما حميتو جمالها
الموشحات و الأزجال للأندلسو أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم و تهذبت مناحيه و فنونه و بلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا و أغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضا المختلفة . و يسمون المتعدد منها بيتا واحدا و يلتزمون عند قوافي تلك الأغصان و أوزانها متتاليا فيما بعد
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
إلى آخر القطعة و أكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات . و يشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض و المذاهب و ينسبون فيها و يمدحون كما يفعل في القصائد . و تجاروا في ذلك إلى الغاية و استظرفة الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله و قرب طريقه . و كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافرالفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني . و أخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد و لم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر و كسدت موشحاتهما . فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية . و قد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول : كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما أتفق له من قوله :
بدر تم . شمس ضحا غصن نقا . مسك شم
ما أتم . ما أوضحا ما أورقا . ما أنم
لا جرم . من لمحا قد عشقا . قد حرم
و زعموا أنة لم يسبقه وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف . و ذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية و كان كل واحد منهم اصطنع موشحة و تأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله :
ضاحك عن جمان . سافرعن در ضاق عنه الزمان . و حواه صدري
صرف ابن بقي موشحته و تبعه الباقون . و ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول : ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له :
أما ترى أحمد . في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب . فأرنا مثله يا مشرق
و كان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض . و كان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة و من الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها :
جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله :
عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح : و اطرباه : و شق ثيابه و قال : ما أحسن ما بدأت و ختمت و حلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب . فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله و مشى عليه . و ذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر ابن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغص منه نعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول :
ما لذي شراب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح إذا أسا في الصباح
أو في الأصيل أضحى يقول : ما للشمول لطمت خدي ؟
و للشمال هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا يا لحظة رد نوبا و يا لماه الشنيبا
برد غليل صب عليل لا يستحيل فيه عن عهدي
و لا يزال في كل حال يرجو الوصال و هو في الصد
و اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبى الفضل بن شرف . قال الحسن بن دويدة : رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح :
شمس قاربت بدرا راح و نديم
و ابن بهرودس الذي له :
يا ليلة الوصل و السعود بالله عودي
و ا بن مؤهل الذي له :
ما العيد في حلة و طاق . و شم و طيب . و إنما العيد في التلاقي . مع الحبيب .
و أبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد : سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول : إنه دخل على ابن زهير و قد أسن و عليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفة فجلس حيث انتهى به المجلس . و جرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحة وقع فيها :
كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح
و معصم النهر في حلل خضر من البطاح
فتحرك ابن زهير و قال أنت تقول هذا ؟ قال : اختبر ! قال : و من تكون فعرفة ، فقال ارتفع فوالله ما عرفتك ، قال ابن سعيد و سابق الحلبة الذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير و قد شرقت موشحاته و غربت ، قال : و سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع و أرفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول :
ما للموله من سكره لا يفيق . يا له سكران . من غير خمر . ما للكئيب المشوق . يندب الأوطان .
هل تستعاد . أيامنا بالخليج . و ليالينا
أو نستفاد . من النسيم الأريج . مسك دارينا
أو هل يكاد . حسن المكان البهيج . أن يحيينا ؟
روض أظله . دوح عليه أنيق . مورق الأفنان . و الماء يجري . و عائم و غريق . من جنى الريحان
و اشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله :
يفوق سهمه كل حين بما شئت من يد و عين
و ينشد في القصيد :
خلقت مليح علمت رامي فليس تخل ساع من قتال
و تعمل بذي العينين متاعي ما تعمل يدي بالنبال
و اشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس ، قال ابن سعيد ، و لما سمع ابن زهر قوله :
لله ما كان من يوم بهيج بنهر حمص على تلك المروج
ثم انعطفنا على فم الخليج نفض في حانه مسك الختام
عن عسجد زانه صافي المدام و رداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهر : أين كنا نحن عن هذا الرداء و كان معه في بلده مطرف . أخبر ابن سعيد عن والده أن مطرفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له و أكرمه ، فقال : لا تفغل ! فقال ابن الفرس : كيف لا أقوم لمن يقول :
قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجد
و بعد هذا ابن خزمون بمرسية . ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون : لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا غن التكلف ، قال على مثل ماذا ؟ قال على مثل قولي :
يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليل
و أبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة . قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله :
إن سيل الصباح في الشرق عاد بحرا في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق
و اشتهر بأشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل ، قال ابن سعيد عن والده ، سمعت سهل ابن مالك يقول : له يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك :
واحسرتا لزمان مضى عشية بأن الهوى و انقضى
و أفردت بالرغم لا بالرضى و بت على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطلول و ألثم بالوهم تلك الرسوم
قال و سمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة ، فما شنمعتة يقول له لله درك ، إلا في قوله :
قسما بالهوى لذي حجر ما لليل المشوق من فجر
جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد إصح ياليل إنك الأبد
أو قفصت قوادم النسر فنجوم السماء لا تسري
و من محاسن موشحات ابن الصابوني قوله :
ما حال صب ذي ضنى و اكتئاب أمرضة يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب
جفا جفوني النوم لكنني لم أبكه ألا لفقد الخيال
و ذا الوصال اليوم قد غرني منه كما شاء و شاء الوصال
فلست باللائم من صدني بصورة الحق و لا بالمحال
و اشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة :
يد الاصباح قدحت زناد الأنوار في مجامز الزهر
و ابن خرز البجائي و له من موشحة :
ثغر الزمان موافق حباك منه بابتسام
و من محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر أشبيلية و سبتة من بعدها فمنها قوله :
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنس
فهو في نار و خفق مثل ما لعبت ريح الصبا بالقبس
و قد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس و المغرب لعصره و قد مر ذكره فقال :
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدهر أشتات المنى ينقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى و ثنا مثل ما يدعو الوفود الموسم
و الحيا قد جلل الروض سنى فثغور الزهر فيه تبسم
و روى النعمان عن ماء السما كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوبا معلما يزذهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى بالدجى لو لا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها و هوى مستقيم السير سعد الأثر
وطر ما فيه من غيب سوى أنه مر كلمح البصر
حين لذ النوم منا أو كما هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرئ قد خلصا فيكون الروض قد مكن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء يناجي و الحصا و خلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيورا برما يكتسي من غيظيه ما يكتسي
و ترى الآس لبيبا فهما يسرق الدمع بأذني فرس
يا أهيل الحي من وادي الغضا و بقلبي مسكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربه
فأعيدوا عهد أنس قد مضى تنقذوا عانيكم من كربه
و اتقوا الله احيوا مغرما يتلاشى نفسا في نفس
حبس القلب عليكم كرما أفترضون خراب الحبس
و بقلبي منكم مقترب بأحاديث المنى و هو بعيد
قمر أطلع منه المغرب شقوة المغرى به و هو سعيد
قد تساوي محسن أو مذنب في هواه بين وعد و وعيد
ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس
سدد السهم فأصمى إذ رمى بفؤادي نبلة المفترس
إن يكن جار و خاب الأمل و فؤاد الصب بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل في ضلوع قد براها و قلوب
حكم اللحظ بها فاحتكما لم يراقب في ضعاف الأنفس
ينصف المظلوم ممن ظلما و يجازي البر منها و المسي
ما لقلبي كلما هبت صبا عادة عيد من الشوق جديد ؟
كان في اللوح له مكتتبا قوله إن عذابي لشديد
جلب الهم له و الوصبا فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع من مهجتي إلا الدما كبقاء ألصبح بعد الغلس
سلمي يا نفس في حكم القضا و اعتبري الوقت برجعى و متاب
و اتركي ذكرى زمان قد مضى بين عتبى قد تقضت و عتاب
و اصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهى و المنتمى أسد السرج و بدر المجلس
ينزل النصر عليه مثلما ينزل الوحي يروح القدس
و أما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات . و من أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا و غربا و أولها :
حبيبي ارفع حجاب النور عن العذار
تنظر المسك على كافور في جلنار
كللي يا سحب تيجان الربى بالحلى و اجعلي
سوارها منعطف الجدول
و لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس ، و أخذ به الجمهور . لسلاسته و تنميق كلامه و ترصيع أجزائه ، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله . و نظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً . و استحدثوا فنا سموه يالزجل ، و التزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد ، فجاءوا فيه بالغرائب و اتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة .
و أول من أبدع في هذه الطريقة . الزجلية أبو بكر بن قزمان . و إن كانت قيلت قبله بالأندلس ، لكن لم يظهر حلاها ، و لا انسبكت معانيها و اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه . و كان لعهد الملثمين ، و هو إمام الزجالين على الإطلاق . قال ابن سعيد : و رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب . قال : و سمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي ، إمام الزجالين في عصرنا يقول :
ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة ، و قد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه ، فجلسوا تحت عريش و أمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال :
و عريش قد قام على دكان بحال رواق
و أسد قد ابتلع ثعبان من غلظ ساق
و فتح فمه بحال إنسان بيه الفراق
و انطلق من ثم على الصفاح و ألقى الصياح
و كان ابن قزمان ، مع أنه قرطبي الدار . كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية و نيتاب نهرها ، فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن . و قد ركبوا في النهر للنزهة . و معهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد و بيوتهم . و كانوا مجتمعين في زورق للصيد ، فنظموا في وصف الحال ، و بدأ منهم عيسى البليدي فقال :
يطمع بالخلاص قلبي و قد فاتو و قد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو يغلق و كذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي :
نشب و الهوى من لج فيه ينشب ترى ايش دعاه يشقى و يتعذب
مع العشق قام في بالوان يلعب و خلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني :
نهار مليح يعجبن أوصافو شراب و ملاح من حولي قد طافوا
و المقلين يقول من فوق صفصافو و البوري أخرى فقلاتو
بدر تم . شمس ضحا غصن نقا . مسك شم
ما أتم . ما أوضحا ما أورقا . ما أنم
لا جرم . من لمحا قد عشقا . قد حرم
و زعموا أنة لم يسبقه وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف . و ذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية و كان كل واحد منهم اصطنع موشحة و تأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله :
ضاحك عن جمان . سافرعن در ضاق عنه الزمان . و حواه صدري
صرف ابن بقي موشحته و تبعه الباقون . و ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول : ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له :
أما ترى أحمد . في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب . فأرنا مثله يا مشرق
و كان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض . و كان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة و من الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها :
جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منك بالشكر
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله :
عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكر
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح : و اطرباه : و شق ثيابه و قال : ما أحسن ما بدأت و ختمت و حلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب . فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله و مشى عليه . و ذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر ابن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغص منه نعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول :
ما لذي شراب راح على رياض الأقاح لولا هضيم الوشاح إذا أسا في الصباح
أو في الأصيل أضحى يقول : ما للشمول لطمت خدي ؟
و للشمال هبت فمال غصن اعتدال ضمه بردي
مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا يا لحظة رد نوبا و يا لماه الشنيبا
برد غليل صب عليل لا يستحيل فيه عن عهدي
و لا يزال في كل حال يرجو الوصال و هو في الصد
و اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبى الفضل بن شرف . قال الحسن بن دويدة : رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح :
شمس قاربت بدرا راح و نديم
و ابن بهرودس الذي له :
يا ليلة الوصل و السعود بالله عودي
و ا بن مؤهل الذي له :
ما العيد في حلة و طاق . و شم و طيب . و إنما العيد في التلاقي . مع الحبيب .
و أبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد : سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول : إنه دخل على ابن زهير و قد أسن و عليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفة فجلس حيث انتهى به المجلس . و جرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحة وقع فيها :
كحل الدجى يجري من مقلة الفجر على الصباح
و معصم النهر في حلل خضر من البطاح
فتحرك ابن زهير و قال أنت تقول هذا ؟ قال : اختبر ! قال : و من تكون فعرفة ، فقال ارتفع فوالله ما عرفتك ، قال ابن سعيد و سابق الحلبة الذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير و قد شرقت موشحاته و غربت ، قال : و سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع و أرفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول :
ما للموله من سكره لا يفيق . يا له سكران . من غير خمر . ما للكئيب المشوق . يندب الأوطان .
هل تستعاد . أيامنا بالخليج . و ليالينا
أو نستفاد . من النسيم الأريج . مسك دارينا
أو هل يكاد . حسن المكان البهيج . أن يحيينا ؟
روض أظله . دوح عليه أنيق . مورق الأفنان . و الماء يجري . و عائم و غريق . من جنى الريحان
و اشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله :
يفوق سهمه كل حين بما شئت من يد و عين
و ينشد في القصيد :
خلقت مليح علمت رامي فليس تخل ساع من قتال
و تعمل بذي العينين متاعي ما تعمل يدي بالنبال
و اشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس ، قال ابن سعيد ، و لما سمع ابن زهر قوله :
لله ما كان من يوم بهيج بنهر حمص على تلك المروج
ثم انعطفنا على فم الخليج نفض في حانه مسك الختام
عن عسجد زانه صافي المدام و رداء الأصيل ضمه كف الظلام
قال ابن زهر : أين كنا نحن عن هذا الرداء و كان معه في بلده مطرف . أخبر ابن سعيد عن والده أن مطرفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له و أكرمه ، فقال : لا تفغل ! فقال ابن الفرس : كيف لا أقوم لمن يقول :
قلوب تصاب بألحاظ تصيب فقل كيف تبقى بلا وجد
و بعد هذا ابن خزمون بمرسية . ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون : لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا غن التكلف ، قال على مثل ماذا ؟ قال على مثل قولي :
يا هاجري هل إلى الوصال منك سبيل
أو هل ترى عن هواك سالي قلب العليل
و أبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة . قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله :
إن سيل الصباح في الشرق عاد بحرا في أجمع الأفق
فتداعت نوادب الورق
أتراها خافت من الغرق فبكت سحرة على الورق
و اشتهر بأشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل ، قال ابن سعيد عن والده ، سمعت سهل ابن مالك يقول : له يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك :
واحسرتا لزمان مضى عشية بأن الهوى و انقضى
و أفردت بالرغم لا بالرضى و بت على جمرات الغضى
أعانق بالفكر تلك الطلول و ألثم بالوهم تلك الرسوم
قال و سمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة ، فما شنمعتة يقول له لله درك ، إلا في قوله :
قسما بالهوى لذي حجر ما لليل المشوق من فجر
جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد إصح ياليل إنك الأبد
أو قفصت قوادم النسر فنجوم السماء لا تسري
و من محاسن موشحات ابن الصابوني قوله :
ما حال صب ذي ضنى و اكتئاب أمرضة يا ويلتاه الطبيب
عامله محبوبه باجتناب ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب
جفا جفوني النوم لكنني لم أبكه ألا لفقد الخيال
و ذا الوصال اليوم قد غرني منه كما شاء و شاء الوصال
فلست باللائم من صدني بصورة الحق و لا بالمحال
و اشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة :
يد الاصباح قدحت زناد الأنوار في مجامز الزهر
و ابن خرز البجائي و له من موشحة :
ثغر الزمان موافق حباك منه بابتسام
و من محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر أشبيلية و سبتة من بعدها فمنها قوله :
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى قلب صب حله عن مكنس
فهو في نار و خفق مثل ما لعبت ريح الصبا بالقبس
و قد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس و المغرب لعصره و قد مر ذكره فقال :
جادك الغيث إذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدهر أشتات المنى ينقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى و ثنا مثل ما يدعو الوفود الموسم
و الحيا قد جلل الروض سنى فثغور الزهر فيه تبسم
و روى النعمان عن ماء السما كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوبا معلما يزذهي منه بأبهى ملبس
في ليال كتمت سر الهوى بالدجى لو لا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها و هوى مستقيم السير سعد الأثر
وطر ما فيه من غيب سوى أنه مر كلمح البصر
حين لذ النوم منا أو كما هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس
أي شيء لامرئ قد خلصا فيكون الروض قد مكن فيه
تنهب الأزهار فيه الفرصا أمنت من مكره ما تتقيه
فإذا الماء يناجي و الحصا و خلا كل خليل بأخيه
تبصر الورد غيورا برما يكتسي من غيظيه ما يكتسي
و ترى الآس لبيبا فهما يسرق الدمع بأذني فرس
يا أهيل الحي من وادي الغضا و بقلبي مسكن أنتم به
ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا لا أبالي شرقه من غربه
فأعيدوا عهد أنس قد مضى تنقذوا عانيكم من كربه
و اتقوا الله احيوا مغرما يتلاشى نفسا في نفس
حبس القلب عليكم كرما أفترضون خراب الحبس
و بقلبي منكم مقترب بأحاديث المنى و هو بعيد
قمر أطلع منه المغرب شقوة المغرى به و هو سعيد
قد تساوي محسن أو مذنب في هواه بين وعد و وعيد
ساحر المقلة معسول اللمى جال في النفس مجال النفس
سدد السهم فأصمى إذ رمى بفؤادي نبلة المفترس
إن يكن جار و خاب الأمل و فؤاد الصب بالشوق يذوب
فهو للنفس حبيب أول ليس في الحب لمحبوب ذنوب
أمره معتمل ممتثل في ضلوع قد براها و قلوب
حكم اللحظ بها فاحتكما لم يراقب في ضعاف الأنفس
ينصف المظلوم ممن ظلما و يجازي البر منها و المسي
ما لقلبي كلما هبت صبا عادة عيد من الشوق جديد ؟
كان في اللوح له مكتتبا قوله إن عذابي لشديد
جلب الهم له و الوصبا فهو للأشجان في جهد جهيد
لاعج في أضلعي قد أضرما فهي نار في هشيم اليبس
لم يدع من مهجتي إلا الدما كبقاء ألصبح بعد الغلس
سلمي يا نفس في حكم القضا و اعتبري الوقت برجعى و متاب
و اتركي ذكرى زمان قد مضى بين عتبى قد تقضت و عتاب
و اصرفي القول إلى المولى الرضى ملهم التوفيق في أم الكتاب
الكريم المنتهى و المنتمى أسد السرج و بدر المجلس
ينزل النصر عليه مثلما ينزل الوحي يروح القدس
و أما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات . و من أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا و غربا و أولها :
حبيبي ارفع حجاب النور عن العذار
تنظر المسك على كافور في جلنار
كللي يا سحب تيجان الربى بالحلى و اجعلي
سوارها منعطف الجدول
و لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس ، و أخذ به الجمهور . لسلاسته و تنميق كلامه و ترصيع أجزائه ، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله . و نظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعراباً . و استحدثوا فنا سموه يالزجل ، و التزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد ، فجاءوا فيه بالغرائب و اتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة .
و أول من أبدع في هذه الطريقة . الزجلية أبو بكر بن قزمان . و إن كانت قيلت قبله بالأندلس ، لكن لم يظهر حلاها ، و لا انسبكت معانيها و اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه . و كان لعهد الملثمين ، و هو إمام الزجالين على الإطلاق . قال ابن سعيد : و رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب . قال : و سمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي ، إمام الزجالين في عصرنا يقول :
ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة ، و قد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه ، فجلسوا تحت عريش و أمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال :
و عريش قد قام على دكان بحال رواق
و أسد قد ابتلع ثعبان من غلظ ساق
و فتح فمه بحال إنسان بيه الفراق
و انطلق من ثم على الصفاح و ألقى الصياح
و كان ابن قزمان ، مع أنه قرطبي الدار . كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية و نيتاب نهرها ، فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن . و قد ركبوا في النهر للنزهة . و معهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد و بيوتهم . و كانوا مجتمعين في زورق للصيد ، فنظموا في وصف الحال ، و بدأ منهم عيسى البليدي فقال :
يطمع بالخلاص قلبي و قد فاتو و قد ضمني عشقو لشهماتو
تراه قد حصل مسكين محلاتو يغلق و كذاك أمر عظيم صاباتو
توحش الجفون الكحل إن غابو وذيك الجفون الكحل أبلاتو
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي :
نشب و الهوى من لج فيه ينشب ترى ايش دعاه يشقى و يتعذب
مع العشق قام في بالوان يلعب و خلق كثير من ذا اللعب ماتوا
ثم قال أبو الحسن المقري الداني :
نهار مليح يعجبن أوصافو شراب و ملاح من حولي قد طافوا
و المقلين يقول من فوق صفصافو و البوري أخرى فقلاتو
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
ثم قال أبو بكر بن مرتين :
الحق تريد حديث بقالي عاد في الواد النزيه و البوري و الصياد
لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثم قال أبو بكر بن قزقان :
إذا شمر كمامو يرميها ترى البوري يرشق لذاك الجيها
و ليس مرادو أن يقع فيها إلا أن يقبل بدياتو
و كان في عصرهم يشرق الأندلس محلف الأسود ، و له محاسن من الزجل منها قوله :
قد كنت منشوب و اختشيت النشب و ردني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخد الشريق البهي تنتهي في الخمر إلما تنتهي
يا طالب الكيميا في عيني هي تنظر بها الفضة و ترجع ذهب
و جاءت . بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس ، وقعت له العجائب في هذه الطريقة ، فمن قوله في زجله المشهور :
و رذاذ دق ينزل و شعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض و ترى الآخر يذهب
و النبات يشرب و يسكر و الغصون ترقص و تطرب
و تريد تجي إلينا ثم تستحي و تهرب
و من محاسن أزجاله قوله :
لاح الضيا و النجوم حيارى فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا أحلى هي عندي من العسل
يا من يلمني كما تقلد قلدك الله بما تقول
يقول بان الذنوب تولد و أنه يفسد العقول
لارض الحجاز موريكن لك أرشد ايش ما ساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج و الزيارا و دعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره و لا استطاع النية أبلغ من العمل
و ظهر بعد هؤلاء بأشبيلية ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا :
من عاند التوحيد بالسيف يمحق أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيتة و لقيت تلميذة المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله :
يا ليتني ان رأيت حبيبي أفتل اذنو بالرسيلا
ليش أخذ عنق الغزيل و سرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الأدب ، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم و النثر في الملة الإسلامية غير مدافع ، فمن محاسنه في هذه الطريقة :
امزج الأكواس و املالي تجدد ما خلق المال إلا أن يبدد
و من قوله على طريقة الصوفية و ينحو منحى الششتري منهم :
بين طلوع و بين نزول اختلطت الغزول
و مضى من لم يكن و بقي من لم يزول
و من محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى :
البعد عنك يا بني أعظم مصايبي و حين حصل لي قربك سببت قاربي
و كان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش ، و كان إماما في هذه الطريقة و له من زجل يعارض به مدغليس في قوله :
لاح الضياء و النجوم حيارى بقوله :
حل المجون يا أهل الشطارا مذ حلت الشمس في الحمل
تجددوا كل يوم خلاعا لا تجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل على خضورة ذاك النبات
و حل بغداد و اجتياز النيل أحسن عندي من ذيك الجهات
و طاقتها أصلح من أربعين ميل ان مرت الريح عليه و جات
لم تلتق الغبار امارا و لا بمقدار ما يكتحل
و كيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا و نسرح فيه النحل
و هذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر . و فيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر ، لكن بلغتهم العامية و يسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم :
دهر لي نعشق جفونك و سنين و أنت لا شفقة و لا قلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السكة بين الحدادين
الدموع ترشرش و النار تلتهب و المطارق من شمال و من يمين
خلق الله النصارى للغزو و أنت تغزو قلوب العاشقين
و كان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي و له فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر :
طل الصباح قم يا نديمي نشربو و نضحكو من بعدما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق في ميلق الليل فقم قلبو
ترى عيارها خالص أبيض نقي فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش عيش الغني فيه بالله ما أطيبو
والليل أيضا للقبل و العناق على سرير الوصل يتقلبو
جاد الزمان من بعدما كان بخيل ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى يشرب بيننو و ياكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا إيش ذا في الشرب و العشق ترى ننجبو
و تعجبوا عذالي من ذا الخبر فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح الا رقيق الطباع علاش تكفروا بالله أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب يفض بكرو و يدع ثيبو
أما الكاس فحرام نعم هو حرام على الذي ما يدري كيف يشربو
و يد الذي يحسن حسابه و لم يقدر يحسن الفاظ أن يجلبوا
و أهل العقل و الفكر و المجون يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر و قلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود و بالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا و يفرحوا من بعدما يندبوا
فميم كالخاتم و ثغر نقي خطيب الأمة للقبل يخطبو
جوهر و مرجان أي عقد يا فلان قد صففه الناظم و لم يثقبو
و شارب أخضر يريد لاش يريد من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ما قط راعي للغنم يحلبوا
و زوج هندات ما علمت قبلها ديك الصلايا ريت ما أصلبو
تحت العكاكن منها خصر رقيق من رقتو يخفي إذا تطلبوا
أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبو
أي دين بقا لي معاك و أي عقل من يتبعك من ذا و ذا تسلبوا
تحمل ارداف ثقال كالرقيب جين ينظر العاشق و حين يرقبو
ان لم ينفس عدر أو ينقشع في طرف ديسا و البشر تطلبو
يصير إليك المكان حين تجي و حين تغيب ترجع في عيني تبو
محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الذي يحسبو
عماد الأمصار و فصيح العرب من فصاحة لفظه يتقربو
بحمل العلم انفرد و العمل و مع بديع الشعر ما أكتبو
ففي الصدور بالرمح ما أطعنه و في الرقاب بالسيف ما أضربو
من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو
الشمس نورو و القمر همتو الغيث جودو و النجوم منصبو
يركب جواد الجود و يطلق عنان الاغنيا و الجند حين يركبوا
من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا
نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد و وارد قط ما خيبوا
قد أظهر الحق و كان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
و قد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو
تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو
يلقى الحروب ضاحكا و هي عابسة غلاب هو لا شي في الدنيا يغلبو
إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو
و هو سمي المصطفى و الاله للسلطنة اختار و استنخبو
تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو و يزين موكبو
لذي الإمارة تخضع الرؤوس نعم و في تقبيل يديه يرغبوا
ببيته بقى بدور الزمان يطلعوا في المجد و لا يغربوا
و في المعالي و الشرف يبعدوا و في التواضع و الحيا يقربوا
و الله يبقيهم ما دار الفلك و أشرقت شمسه و لاح كوكبو
و ما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر ، في أعاريض مزدوجة موشح ، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا و سموه عروض البلد ، و كان أول من حدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير . فنظم قطعة بطريقة الموشح و لم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلا مطلعها :
اني بشاطي النهر نوح الحمام على الغصن في البستان قريب الصباح
السحر يمحو مداد الظلام و ماء الندى يجري بثغر الاقاح
جرت الرياض و الطل فيها افتراق كثير الجواهر في نحور الجوار
مع النواعير ينهرق انهراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
بالغصون خلخال على كل ساق و دار الجميع بالروض دور السوار
الندى تخرق جيوب الكمام و يحمل نسيم المسك عنها رياح
الصبا يطلى بمسك الغمام و جر النسيم ذيلو عليها و فاح
و يطير الحمام بين الورق في القضيب قد ابتلت ارياشو بقطر الندى
تنوح مثل ذاك المستهام الغريب قد التف من توبو الجديد في ردا
و لكن بما أحمر و ساقو خضيب ينظم سلوك جوهر و يتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد و التوى في جناح
و صار يشتكي ما في الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره و صاح
قلت يا حمام احرمت عيني الهجوع أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا و الحزن من عهد نوح
كذا هو الوفا و كذا هو الزمام انظر جفون صارت بحال الجراح
و أنتم من بكى منكم إذا تم عام يقول عناني ذا البكا و النواح
قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى كنت تبكي و ترثي لي بدمع هتون
و لو كان بقلبك ما بقلبي أنا ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا حتى لا سبيل جمله تراني العيون
و مما كسا جسمي النحول و السقام أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لو جتنى المنايا كان يموت في المقام و من مات بعد يا قوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لاوراق الرياض من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد
و تخضبت من دمعي و ذاك البياض طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أما طرف منقاري حديثو استفاض بأطراف البلد و الجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس و ولعوا به و نظموا على طريقته . و تركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم ، و كثر سماعه بينهم و استفحل فيه كثير منهم و نوعةه أصنافا إلى المزدوج و الكازي و الملعبة و الغزل . و اختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها و ملاحظاتهم فيها . فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم و هو من أهل تازا :
المال زينة الدنيا و عز النفوس يبهي وجوها ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ولوه الكلام و الرتبة العاليا
يكبر من كثر مالو و لو كان صغير و يصغر عزيز القوم اذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري و من ذا تغير و كاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير لمن لا أصل عندو و لا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس و يصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الاذناب أمام الرؤوس و صار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا و فسد ذا الزمان ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان و لو رأيت كيف يرد الجواب
عشنا و السلام حتى رأينا عيان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جدا ضعاف الاسوس هم ناحيا و المجد في ناحيا
يرو أنهم و الناس يروهم تيوس و جوه البلد و العمدة الراسيا
و من مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته :
تعب من تبع ذا الزمان اهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد إلا و خان قليل من عليه تحبس و يحبس عليك
يهبوا على العشاق و يتمنعوا و يستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
و ان واصلوا من حينهم يقطعوا و ان عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو و صيرت من خدي لقدمو نعال
و مهدت لو من وسط قلبي مكان و قلت لقلبي اكرم لمن حل فيك
و هون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي و ارتضيت بو أمير فلو كان يرى حالي اذا يبصرو
يرجع مثل در حولي بوجه الغدير مرديه و يتعطس بحال انحرو
و تعلمت من ساعا بسبق الضمير و يفهم مرادو قبل أن يذكرو
و يحتل في مطلو لوان كان عصر في الربيع أو في الليالي يريك
و يمشي بسوق كان و لو باصبهان وايش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها .
و كان منهم علي بن المؤذن بتلمسان ، و كان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف . أبدع في مذاهب هذا الفن . و من أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن و بنى مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان . و يعزيهم عنها و يؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها . و هو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام و افتتاحه و يسمى براعة الإستهلال :
سبحان مالك خواطر الامرا و نواصيها في كل حين و زمان
ان طعناه أعظم لنا نصرا و ان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص :
كن مرعى قل و لا تكن راعي فالراعي عن رعيته مسؤول
و استفتح بالصلاة على الداعي للإسلام و الرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين و الاتباع و اذكر بعدهم اذا تحب و قول
الحق تريد حديث بقالي عاد في الواد النزيه و البوري و الصياد
لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد قلوب الورى هي في شبيكاتو
ثم قال أبو بكر بن قزقان :
إذا شمر كمامو يرميها ترى البوري يرشق لذاك الجيها
و ليس مرادو أن يقع فيها إلا أن يقبل بدياتو
و كان في عصرهم يشرق الأندلس محلف الأسود ، و له محاسن من الزجل منها قوله :
قد كنت منشوب و اختشيت النشب و ردني ذا العشق لأمر صعب
حتى تنظر الخد الشريق البهي تنتهي في الخمر إلما تنتهي
يا طالب الكيميا في عيني هي تنظر بها الفضة و ترجع ذهب
و جاءت . بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس ، وقعت له العجائب في هذه الطريقة ، فمن قوله في زجله المشهور :
و رذاذ دق ينزل و شعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضض و ترى الآخر يذهب
و النبات يشرب و يسكر و الغصون ترقص و تطرب
و تريد تجي إلينا ثم تستحي و تهرب
و من محاسن أزجاله قوله :
لاح الضيا و النجوم حيارى فقم بنا ننزع الكسل
شربت ممزوج من قراعا أحلى هي عندي من العسل
يا من يلمني كما تقلد قلدك الله بما تقول
يقول بان الذنوب تولد و أنه يفسد العقول
لارض الحجاز موريكن لك أرشد ايش ما ساقك معي في ذا الفضول
مر أنت للحج و الزيارا و دعني في الشرب منهمل
من ليس لو قدره و لا استطاع النية أبلغ من العمل
و ظهر بعد هؤلاء بأشبيلية ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا :
من عاند التوحيد بالسيف يمحق أنا بري ممن يعاند الحق
قال ابن سعيد لقيتة و لقيت تلميذة المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله :
يا ليتني ان رأيت حبيبي أفتل اذنو بالرسيلا
ليش أخذ عنق الغزيل و سرق فم الحجيلا
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الأدب ، ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم و النثر في الملة الإسلامية غير مدافع ، فمن محاسنه في هذه الطريقة :
امزج الأكواس و املالي تجدد ما خلق المال إلا أن يبدد
و من قوله على طريقة الصوفية و ينحو منحى الششتري منهم :
بين طلوع و بين نزول اختلطت الغزول
و مضى من لم يكن و بقي من لم يزول
و من محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى :
البعد عنك يا بني أعظم مصايبي و حين حصل لي قربك سببت قاربي
و كان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش ، و كان إماما في هذه الطريقة و له من زجل يعارض به مدغليس في قوله :
لاح الضياء و النجوم حيارى بقوله :
حل المجون يا أهل الشطارا مذ حلت الشمس في الحمل
تجددوا كل يوم خلاعا لا تجعلوا بينها ثمل
إليها يتخلعوا في شنبل على خضورة ذاك النبات
و حل بغداد و اجتياز النيل أحسن عندي من ذيك الجهات
و طاقتها أصلح من أربعين ميل ان مرت الريح عليه و جات
لم تلتق الغبار امارا و لا بمقدار ما يكتحل
و كيف ولاش فيه موضع رقاعا إلا و نسرح فيه النحل
و هذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر . و فيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر ، لكن بلغتهم العامية و يسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم :
دهر لي نعشق جفونك و سنين و أنت لا شفقة و لا قلب يلين
حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع صنعة السكة بين الحدادين
الدموع ترشرش و النار تلتهب و المطارق من شمال و من يمين
خلق الله النصارى للغزو و أنت تغزو قلوب العاشقين
و كان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي و له فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر :
طل الصباح قم يا نديمي نشربو و نضحكو من بعدما نطربو
سبيكة الفجر أحكت شفق في ميلق الليل فقم قلبو
ترى عيارها خالص أبيض نقي فضة هو لكن الشفق ذهبو
فتنتفق سكتوا عند البشر نور الجفون من نورها يكسبو
فهو النهار يا صاحبي للمعاش عيش الغني فيه بالله ما أطيبو
والليل أيضا للقبل و العناق على سرير الوصل يتقلبو
جاد الزمان من بعدما كان بخيل ولش ليفلت من يديه عقربو
كما جرع مرو فما قد مضى يشرب بيننو و ياكل طيبو
قال الرقيب يا أدبا إيش ذا في الشرب و العشق ترى ننجبو
و تعجبوا عذالي من ذا الخبر فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا
نعشق مليح الا رقيق الطباع علاش تكفروا بالله أو تكتبوا
ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب يفض بكرو و يدع ثيبو
أما الكاس فحرام نعم هو حرام على الذي ما يدري كيف يشربو
و يد الذي يحسن حسابه و لم يقدر يحسن الفاظ أن يجلبوا
و أهل العقل و الفكر و المجون يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا
ظبي بهي فيها يطفي الجمر و قلبي في جمر الغضى يلهبو
غزال بهي ينظر قلوب الأسود و بالوهم قبل النظر يذهبوا
ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا و يفرحوا من بعدما يندبوا
فميم كالخاتم و ثغر نقي خطيب الأمة للقبل يخطبو
جوهر و مرجان أي عقد يا فلان قد صففه الناظم و لم يثقبو
و شارب أخضر يريد لاش يريد من شبهه بالمسك قد عيبو
يسبل دلال مثل جناح الغراب ليالي هجري منه يستغربوا
على بدن أبيض بلون الحليب ما قط راعي للغنم يحلبوا
و زوج هندات ما علمت قبلها ديك الصلايا ريت ما أصلبو
تحت العكاكن منها خصر رقيق من رقتو يخفي إذا تطلبوا
أرق هو من ديني فيما تقول جديد عتبك حق ما أكذبو
أي دين بقا لي معاك و أي عقل من يتبعك من ذا و ذا تسلبوا
تحمل ارداف ثقال كالرقيب جين ينظر العاشق و حين يرقبو
ان لم ينفس عدر أو ينقشع في طرف ديسا و البشر تطلبو
يصير إليك المكان حين تجي و حين تغيب ترجع في عيني تبو
محاسنك مثل خصال الأمير أو الرمل من هو الذي يحسبو
عماد الأمصار و فصيح العرب من فصاحة لفظه يتقربو
بحمل العلم انفرد و العمل و مع بديع الشعر ما أكتبو
ففي الصدور بالرمح ما أطعنه و في الرقاب بالسيف ما أضربو
من السماء يحسد في أربع صفات فمن يعد قلبي أو يحسبو
الشمس نورو و القمر همتو الغيث جودو و النجوم منصبو
يركب جواد الجود و يطلق عنان الاغنيا و الجند حين يركبوا
من خلعتو يلبس كل يوم بطيب منه بنات المعالي تطيبوا
نعمتو تظهر على كل من يجيه قاصد و وارد قط ما خيبوا
قد أظهر الحق و كان في حجاب لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو
و قد بنى بالسر ركن التقى من بعد ما كان الزمان خربو
تخاف حين تلقاه كما ترتجيه فمع سماحة وجهو ما أسيبو
يلقى الحروب ضاحكا و هي عابسة غلاب هو لا شي في الدنيا يغلبو
إذا جبد سيفه ما بين الردود فليس شيء يغني من يضربو
و هو سمي المصطفى و الاله للسلطنة اختار و استنخبو
تراه خليفة أمير المؤمنين يقود جيوشو و يزين موكبو
لذي الإمارة تخضع الرؤوس نعم و في تقبيل يديه يرغبوا
ببيته بقى بدور الزمان يطلعوا في المجد و لا يغربوا
و في المعالي و الشرف يبعدوا و في التواضع و الحيا يقربوا
و الله يبقيهم ما دار الفلك و أشرقت شمسه و لاح كوكبو
و ما يغني ذا القصيد في عروض يا شمس خدر مالها مغربو
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فناً آخر من الشعر ، في أعاريض مزدوجة موشح ، نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا و سموه عروض البلد ، و كان أول من حدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير . فنظم قطعة بطريقة الموشح و لم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلا مطلعها :
اني بشاطي النهر نوح الحمام على الغصن في البستان قريب الصباح
السحر يمحو مداد الظلام و ماء الندى يجري بثغر الاقاح
جرت الرياض و الطل فيها افتراق كثير الجواهر في نحور الجوار
مع النواعير ينهرق انهراق يحاكي ثعابين حلقت بالثمار
بالغصون خلخال على كل ساق و دار الجميع بالروض دور السوار
الندى تخرق جيوب الكمام و يحمل نسيم المسك عنها رياح
الصبا يطلى بمسك الغمام و جر النسيم ذيلو عليها و فاح
و يطير الحمام بين الورق في القضيب قد ابتلت ارياشو بقطر الندى
تنوح مثل ذاك المستهام الغريب قد التف من توبو الجديد في ردا
و لكن بما أحمر و ساقو خضيب ينظم سلوك جوهر و يتقلدا
جلس بين الأغصان جلسة المستهام جناحا توسد و التوى في جناح
و صار يشتكي ما في الفؤاد من غرام منها ضم منقاره لصدره و صاح
قلت يا حمام احرمت عيني الهجوع أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح
قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح
على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ألفت البكا و الحزن من عهد نوح
كذا هو الوفا و كذا هو الزمام انظر جفون صارت بحال الجراح
و أنتم من بكى منكم إذا تم عام يقول عناني ذا البكا و النواح
قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى كنت تبكي و ترثي لي بدمع هتون
و لو كان بقلبك ما بقلبي أنا ما كان يصير تحتك فروع الغصون
اليوم نقاسي الهجر كم من سنا حتى لا سبيل جمله تراني العيون
و مما كسا جسمي النحول و السقام أخفاني نحولي عن عيون اللواح
لو جتنى المنايا كان يموت في المقام و من مات بعد يا قوم لقد استراح
قال لي لو رقدت لاوراق الرياض من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد
و تخضبت من دمعي و ذاك البياض طوق العهد في عنقي ليوم التناد
أما طرف منقاري حديثو استفاض بأطراف البلد و الجسم صار في الرماد
فاستحسنه أهل فاس و ولعوا به و نظموا على طريقته . و تركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم ، و كثر سماعه بينهم و استفحل فيه كثير منهم و نوعةه أصنافا إلى المزدوج و الكازي و الملعبة و الغزل . و اختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها و ملاحظاتهم فيها . فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم و هو من أهل تازا :
المال زينة الدنيا و عز النفوس يبهي وجوها ليس هي باهيا
فها كل من هو كثير الفلوس ولوه الكلام و الرتبة العاليا
يكبر من كثر مالو و لو كان صغير و يصغر عزيز القوم اذ يفتقر
من ذا ينطبق صدري و من ذا تغير و كاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومو كبير لمن لا أصل عندو و لا لو خطر
لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس و يصبغ عليه ثوب فراش صافيا
اللي صارت الاذناب أمام الرؤوس و صار يستفيد الواد من الساقيا
ضعف الناس على ذا و فسد ذا الزمان ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب
اللي صار فلان يصبح بو فلان و لو رأيت كيف يرد الجواب
عشنا و السلام حتى رأينا عيان أنفاس السلاطين في جلود الكلاب
كبار النفوس جدا ضعاف الاسوس هم ناحيا و المجد في ناحيا
يرو أنهم و الناس يروهم تيوس و جوه البلد و العمدة الراسيا
و من مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته :
تعب من تبع ذا الزمان اهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك
ما منهم مليح عاهد إلا و خان قليل من عليه تحبس و يحبس عليك
يهبوا على العشاق و يتمنعوا و يستعمدوا تقطيع قلوب الرجال
و ان واصلوا من حينهم يقطعوا و ان عاهدوا خانوا على كل حال
مليح كان هويتو وشت قلبي معو و صيرت من خدي لقدمو نعال
و مهدت لو من وسط قلبي مكان و قلت لقلبي اكرم لمن حل فيك
و هون عليك ما يعتريك من هوان فلا بد من هول الهوى يعتريك
حكمتوا علي و ارتضيت بو أمير فلو كان يرى حالي اذا يبصرو
يرجع مثل در حولي بوجه الغدير مرديه و يتعطس بحال انحرو
و تعلمت من ساعا بسبق الضمير و يفهم مرادو قبل أن يذكرو
و يحتل في مطلو لوان كان عصر في الربيع أو في الليالي يريك
و يمشي بسوق كان و لو باصبهان وايش ما يقل يحتاج لو يجيك
حتى أتى على آخرها .
و كان منهم علي بن المؤذن بتلمسان ، و كان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف . أبدع في مذاهب هذا الفن . و من أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن و بنى مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان . و يعزيهم عنها و يؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها . و هو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام و افتتاحه و يسمى براعة الإستهلال :
سبحان مالك خواطر الامرا و نواصيها في كل حين و زمان
ان طعناه أعظم لنا نصرا و ان عصيناه عاقب بكل هوان
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص :
كن مرعى قل و لا تكن راعي فالراعي عن رعيته مسؤول
و استفتح بالصلاة على الداعي للإسلام و الرضا السني المكمول
على الخلفاء الراشدين و الاتباع و اذكر بعدهم اذا تحب و قول
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
أحجاجا تخللوا الصحرا ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه ، إلى آخر رحلته و منتهى أمره ، مع أعراب إفريقية . و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع . و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية ، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته .
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا ، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما ، و كان و كان ، و منه مفرد و منه في بيتين ، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها ، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان . و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب . و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية ، فجاؤوا بالعجائب . و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط ، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف ، و يسمى صوتا و بيتين . و أنه من مخترعات أهل واسط ، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين . و أنشد فيه لنا :
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو ، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان . انتهى كلام الصفي . و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم :
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره :
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره :
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش :
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره :
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره :
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره :
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره :
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره :
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره :
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت :
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية . فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب . لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم . و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض .
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع ، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة . قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول :
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول :
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين ، فظهرت لهم البدائع ، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ، ثم يحيى بن بقي ، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله :
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان
خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له . و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل . و الله يعلم و أنتم لا تعلمون .
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه : أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة . ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته . و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم .
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه ، إلى آخر رحلته و منتهى أمره ، مع أعراب إفريقية . و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع . و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية ، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته .
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا ، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما ، و كان و كان ، و منه مفرد و منه في بيتين ، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها ، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان . و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب . و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية ، فجاؤوا بالعجائب . و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط ، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف ، و يسمى صوتا و بيتين . و أنه من مخترعات أهل واسط ، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين . و أنشد فيه لنا :
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو ، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان . انتهى كلام الصفي . و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم :
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره :
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره :
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش :
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره :
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره :
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره :
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره :
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره :
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره :
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت :
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية . فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب . لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم . و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض .
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع ، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة . قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول :
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول :
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين ، فظهرت لهم البدائع ، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ، ثم يحيى بن بقي ، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله :
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان
خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له . و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل . و الله يعلم و أنتم لا تعلمون .
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه : أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة . ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته . و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
أحجاجا تخللوا الصحرا ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه ، إلى آخر رحلته و منتهى أمره ، مع أعراب إفريقية . و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع . و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية ، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته .
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا ، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما ، و كان و كان ، و منه مفرد و منه في بيتين ، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها ، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان . و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب . و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية ، فجاؤوا بالعجائب . و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط ، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف ، و يسمى صوتا و بيتين . و أنه من مخترعات أهل واسط ، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين . و أنشد فيه لنا :
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو ، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان . انتهى كلام الصفي . و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم :
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره :
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره :
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش :
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره :
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره :
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره :
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره :
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره :
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره :
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت :
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية . فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب . لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم . و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض .
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع ، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة . قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول :
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول :
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين ، فظهرت لهم البدائع ، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ، ثم يحيى بن بقي ، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله :
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان
خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له . و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل . و الله يعلم و أنتم لا تعلمون .
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه : أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة . ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته . و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم .
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه ، إلى آخر رحلته و منتهى أمره ، مع أعراب إفريقية . و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع . و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية ، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته .
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا ، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما ، و كان و كان ، و منه مفرد و منه في بيتين ، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها ، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان . و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب . و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية ، فجاؤوا بالعجائب . و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط ، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف ، و يسمى صوتا و بيتين . و أنه من مخترعات أهل واسط ، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين . و أنشد فيه لنا :
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو ، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان . انتهى كلام الصفي . و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم :
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره :
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره :
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش :
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره :
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره :
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره :
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره :
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره :
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره :
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت :
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية . فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب . لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم . و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض .
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع ، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة . قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول :
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول :
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين ، فظهرت لهم البدائع ، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ، ثم يحيى بن بقي ، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله :
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان
خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له . و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل . و الله يعلم و أنتم لا تعلمون .
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه : أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة . ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته . و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: تاريخ بن خلدون الجزء الأول
أحجاجا تخللوا الصحرا ودوا سرح البلاد مع السكان
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه ، إلى آخر رحلته و منتهى أمره ، مع أعراب إفريقية . و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع . و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية ، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته .
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا ، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما ، و كان و كان ، و منه مفرد و منه في بيتين ، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها ، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان . و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب . و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية ، فجاؤوا بالعجائب . و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط ، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف ، و يسمى صوتا و بيتين . و أنه من مخترعات أهل واسط ، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين . و أنشد فيه لنا :
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو ، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان . انتهى كلام الصفي . و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم :
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره :
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره :
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش :
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره :
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره :
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره :
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره :
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره :
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره :
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت :
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية . فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب . لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم . و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض .
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع ، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة . قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول :
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول :
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين ، فظهرت لهم البدائع ، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ، ثم يحيى بن بقي ، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله :
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان
خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له . و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل . و الله يعلم و أنتم لا تعلمون .
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه : أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة . ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته . و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم .
عسكر فاس المنيرة الغرا وين سارت بوعزايم السلطان
أحجاج بالنبي الذي زرتم و قطعتم لو كلاكل البيدا
عن جيش الغرب حين يسألكم المتلوف في افريقيا السودا
و من كان بالعطايا يزودكم و يدع برية الحجاز رغدا
قام قل للسد صادف الجزرا و يعجز شوط بعدما يخفان
و يزف كر دوم تهب في الغبرا أي ما زاد غزالهم سبحان
لو كان ما بين تونس الغربا و بلاد الغرب سد السكندر
مبنى من شرقها إلى غربا طبقا بحديد أو ثانيا بصفر
لا بد الطير أن تجيب نبا أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر
ما أعوصها من أمور و ما شرا لو تقرا كل يوم على الديوان
لجرت بالدم و انصدع حجرا و هوت الخراب و خافت الغزلان
أدرلي بعقلك الفحاص و تفكر لي بخاطرك جمعا
ان كان تعلم حمام و لا رقاص عن السلطان شهر و قبله سبعا
تظهر عند المهيمن القصاص و علامات تنشر على الصمعا
الا قوم عاريين فلا سترا مجهولين لا مكان و لا امكان
ما يدروا كيف يصوروا كسرا و كيف دخلوا مدينة القيروان
امولاي أبو الحسن خطينا الباب قضية سيرنا إلى تونس
فقنا كنا على الجريد و الزاب واش لك في اعراب افريقيا القوبس
ما بلغك من عمر فتى الخطاب الفاروق فاتح القرى المولس
ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى و فتح من افريقيا و كان
رد ولدت لو كره ذكرى و نقل فيها تفرق الاخوان
هذا الفاروق مردي الاعوان صرح في افريقيا بذا التصريح
و بقت حمى إلى زمن عثمان و فتحها ابن الزبير عن تصحيح
لمن دخلت غنائمها الديوان مات عثمان و انقلب علينا الريح
و افترق الناس على ثلاثة أمرا و بقي ما هو للسكوت عنوان
اذا كان ذا في مدة البرارا اش نعمل في أواخر الازمان
و أصحاب الحضر في مكناساتا و في تاريخ كأنا و كيوانا
تذكر في صحتها أبياتا شق و سطيح و ابن مرانا
ان مرين إذا تكف براياتا لجدا و تونس قد سقط بنيانا
قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا عيسى بن الحسن الرفيع الشان
قال لي رأيت و أنا بذا أدري لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان
و يقول لك ما دهى المرينيا من حضرة فاس إلى عرب دياب
أراد المولى بموت ابن يحيى سلطان تونس و صاحب الأبواب
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه ، إلى آخر رحلته و منتهى أمره ، مع أعراب إفريقية . و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع . و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية ، إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته .
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا ، و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما ، و كان و كان ، و منه مفرد و منه في بيتين ، و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها ، و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان . و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب . و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية ، فجاؤوا بالعجائب . و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط ، و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف ، و يسمى صوتا و بيتين . و أنه من مخترعات أهل واسط ، و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين . و أنشد فيه لنا :
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو ، و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان . انتهى كلام الصفي . و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم :
هذي جراحي طريا و الدما تنضح
و قاتلي يا أخيا في الفلا يمرح
قالوا و ناخذ بثارك قلت ذا أقبح
إلى جرحتي يداويني يكون أصلح
و لغيره :
طرقت باب الخبا قالت من الطارق فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق
تبسمت لاح لي من ثغرها بارق رجعت حيران من بحر أدمعي غارق
و لغيره :
عهدي بها و هي لا تأمن علي البين و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين
لمن يعاين لها غيري غلام الزين ذكرتها العهد قالت لك على دين
و لغيره في وصف الحشيش :
دي خمر صرف التي عهدي بها باقي تغني عن الخمر و الخمار و الساقي
قحبا و من قحبها تعمل على احراقي خبيتها في الحشى طلت من احداقي
و لغيره :
يا من و صالو لأطفال المحبة بح كم توجع القلب بالهجران أوه أح
أودعت قلبي حوحو و التصبر بح كل الورى كخ في عيني و شخصك دح
و لغيره :
ناديتها و مسيبي قد طواني طي جودي علي بقبلة في الهوى يا مي
قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي
و لغيره :
راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ماط اللثام تبدي بدر في شرقه
اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه
و لغيره :
يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر
و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر
و لغيره :
عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت
و أسهم البين صابتني و لا فاتت و سلوتي عظم الله أجركم ماتت
و لغيره :
هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر
غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر وان تهلل فما للبدر عندو ذكر
و من الذي يسمونه دوبيت :
قد اقسم من أحبه بالباري أن يبعث طيفه مع الاسحار
يا نار أشواقي به فاتقدي ليلا فعساه يهتدي بالنار
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية . فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب . لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم . و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض .
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع ، رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة . قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول :
العود قد ترنم بأبدع تلحين و سقت المذانب رياض البساتين
و في انتهائه حيث يقول :
تخطر و لا تسلم عساك المأمون مروع الكتائب يحيى بن ذي النون
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين ، فظهرت لهم البدائع ، و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ، ثم يحيى بن بقي ، و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله :
كيف السبيل إلى صبري و في العالم أشجان
و الركب وسط الفلا بالخرد النواعم قد بان
خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له . و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل . و الله يعلم و أنتم لا تعلمون .
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه : أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة . ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته . و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم .
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45401
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» تاريخ بن خلدون نهاية الجزء الأول
» تاريخ ابن خلدون – الجزء الثالث
» تاريخ ابن خلدون – الجزء الثاني
» تاريخ ابن خلدون – الجزء الرابع
» تابع تاريخ بن خلدون الجزء الثانى
» تاريخ ابن خلدون – الجزء الثالث
» تاريخ ابن خلدون – الجزء الثاني
» تاريخ ابن خلدون – الجزء الرابع
» تابع تاريخ بن خلدون الجزء الثانى
صفحة 2 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى