كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
2 مشترك
صفحة 10 من اصل 13
صفحة 10 من اصل 13 • 1, 2, 3 ... 9, 10, 11, 12, 13
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
ما يخترع الأصوات واللحون من الطير
وفي الطّير ما يخترع الأصواتَ واللُّحون التي لم يُسمع بمثلها قطُّ من المؤلِّف للحونِ من النَّاس؛ فإنّه ربَّما أنشأ لحناً لَمْ يمرّ على أسماع المغنِّين قطُّ.
وأكثرُ ما يجدون ذلك من الطَّير في القماريِّ، وفي السُّودَانيات، ثمَّ في الكرارِزة، وهي تأْكل الذِّبّان أكلاً ذريعاً.
وفي الطّير ما يخترع الأصواتَ واللُّحون التي لم يُسمع بمثلها قطُّ من المؤلِّف للحونِ من النَّاس؛ فإنّه ربَّما أنشأ لحناً لَمْ يمرّ على أسماع المغنِّين قطُّ.
وأكثرُ ما يجدون ذلك من الطَّير في القماريِّ، وفي السُّودَانيات، ثمَّ في الكرارِزة، وهي تأْكل الذِّبّان أكلاً ذريعاً.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
اللّجوج من الحيوان
ويقال إن اللَّجاح في ثلاثةٍ أجناسٍ من بينِ جميع الحيوان: الخنفساء، والذُّباب، والدُّودة الحمراء؛ فإنّها في إبَّانِ ذلك ترومُ الصُّعودَ إلى السَّقف، وتمرُّ على الحائط الأملس شيئاً قليلاً فتسقطُ وتعود، ثمَّ لا تزال تزداد شيئاً ثمَّ تسقط، إلى أن تمضيَ إلى باطن السَّقف، فربما سقطت ولَمْ يبق عليها إلاَّ مقدارُ إصبع، ثمَّ تعود.
والخنفساء تُقْبِلُ قِبَل الإنسانِ فيدفعُها، فتبعُد بقدر تلك الطَّردة والدَّفعة ثمَّ تعود أيضاً، فيصنع بها أشدَّ من تلك ثمَّ تعود، حتَّى ربما كان ذلك سبباً لغضبه، ويكون غضَبُه سبباً لقتلها.
ويقال إن اللَّجاح في ثلاثةٍ أجناسٍ من بينِ جميع الحيوان: الخنفساء، والذُّباب، والدُّودة الحمراء؛ فإنّها في إبَّانِ ذلك ترومُ الصُّعودَ إلى السَّقف، وتمرُّ على الحائط الأملس شيئاً قليلاً فتسقطُ وتعود، ثمَّ لا تزال تزداد شيئاً ثمَّ تسقط، إلى أن تمضيَ إلى باطن السَّقف، فربما سقطت ولَمْ يبق عليها إلاَّ مقدارُ إصبع، ثمَّ تعود.
والخنفساء تُقْبِلُ قِبَل الإنسانِ فيدفعُها، فتبعُد بقدر تلك الطَّردة والدَّفعة ثمَّ تعود أيضاً، فيصنع بها أشدَّ من تلك ثمَّ تعود، حتَّى ربما كان ذلك سبباً لغضبه، ويكون غضَبُه سبباً لقتلها.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
لجاج الخنفساء واعتقاد المفاليس فيها
وما زالوا كذلك، وما زالت كذلك، حتَّى سقط إلى المفالِيس أنَّ الخنافسَ تجلب الرِّزق، وأنّ دنوَّها دليلٌ على رزق حاضر: من صِلَةٍ، أو جائزة، أو ربحٍ، أو هديَّةٍ، أو حظّ، فصارت الخنافسُ إنْ دخلَتْ في قمُصهم ثمَّ نفذَتْ إلى سَراويلاتهم لَمْ يقولوا لها قليلاً ولا كثيراً، وأكثرُ ما عندهم اليومَ الدَّفعُ لها ببعض الرِّفق، ويظنُّ بعضهم أنّه إذا دافعها فعادَتْ، ثمّ دافعها، فعادت، ثمّ دافعها فعادت - أنّ ذلك كلما كان أكثرَ، كان حظُّه من المال الذي يؤمِّله عند مجيئها أجزَل.
فانظر، أيّة واقيةٍ وأيَّة حافِظة، وأيُّ حارسٍ، وأيُّ حصنٍ أنشأه لها هذا القول وأيُّ حظٍّ كان لها حينَ صدَّقوا بهذا الخبر هذا التصديق والطَّمعُ هو الذي أثارَ هذا الأمْرَ مِن مدافِنه، والفقر هو الذي اجتذب هذا الطَّمع واجتلبه، ولكن الويل لها إنْ ألَّحتْ على غَنِيٍّ عالِمٍ، وخاصَّة إن كان مع جِدَتِه وعلمِه حديداً عَجُولا.
اعتقاد العامة في أمير الذّبَّان وقد كانوا يقتلون الذبابَ الكبير الشديد الطنين الملحَّ في ذلك، الجهيرَ الصوت، الذي تسميه العوامُّ: أمير الذِّبَّان، فكانوا يحتالون في صرفه وطرده وقتله، إذا أكربَهمْ بكثرةِ طنينه وزَجَله وهِماهِمه فإنّه لا يفتر، فلمَّا سقط إليهم أنّه مبشّرٌ بقدومِ غائبٍ وبُرء سقيم، صاروا إذا دخل المنزلَ وأوسَعَهُم شَرّاً، لم يَهجْه أحدٌ منهم.
وإذا أرادَ اللّه عزّ وجلّ أن يُنْسِئَ في أجلِ شيءٍ من الحيوان هيَّأ لذلك سبباً، كما أنّه إذا أراد أن يقصُر عمرُه وَيحينَ يومُه هيَّأ لذلك سبباً، فتعالى اللّه علوّاً كبيراً.
ثمَّ رجَع بنا القولُ إلى إلحاح الذّبَّان. عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب كان لنا بالبَصرة قاض يقال له عبدُ
وما زالوا كذلك، وما زالت كذلك، حتَّى سقط إلى المفالِيس أنَّ الخنافسَ تجلب الرِّزق، وأنّ دنوَّها دليلٌ على رزق حاضر: من صِلَةٍ، أو جائزة، أو ربحٍ، أو هديَّةٍ، أو حظّ، فصارت الخنافسُ إنْ دخلَتْ في قمُصهم ثمَّ نفذَتْ إلى سَراويلاتهم لَمْ يقولوا لها قليلاً ولا كثيراً، وأكثرُ ما عندهم اليومَ الدَّفعُ لها ببعض الرِّفق، ويظنُّ بعضهم أنّه إذا دافعها فعادَتْ، ثمّ دافعها، فعادت، ثمّ دافعها فعادت - أنّ ذلك كلما كان أكثرَ، كان حظُّه من المال الذي يؤمِّله عند مجيئها أجزَل.
فانظر، أيّة واقيةٍ وأيَّة حافِظة، وأيُّ حارسٍ، وأيُّ حصنٍ أنشأه لها هذا القول وأيُّ حظٍّ كان لها حينَ صدَّقوا بهذا الخبر هذا التصديق والطَّمعُ هو الذي أثارَ هذا الأمْرَ مِن مدافِنه، والفقر هو الذي اجتذب هذا الطَّمع واجتلبه، ولكن الويل لها إنْ ألَّحتْ على غَنِيٍّ عالِمٍ، وخاصَّة إن كان مع جِدَتِه وعلمِه حديداً عَجُولا.
اعتقاد العامة في أمير الذّبَّان وقد كانوا يقتلون الذبابَ الكبير الشديد الطنين الملحَّ في ذلك، الجهيرَ الصوت، الذي تسميه العوامُّ: أمير الذِّبَّان، فكانوا يحتالون في صرفه وطرده وقتله، إذا أكربَهمْ بكثرةِ طنينه وزَجَله وهِماهِمه فإنّه لا يفتر، فلمَّا سقط إليهم أنّه مبشّرٌ بقدومِ غائبٍ وبُرء سقيم، صاروا إذا دخل المنزلَ وأوسَعَهُم شَرّاً، لم يَهجْه أحدٌ منهم.
وإذا أرادَ اللّه عزّ وجلّ أن يُنْسِئَ في أجلِ شيءٍ من الحيوان هيَّأ لذلك سبباً، كما أنّه إذا أراد أن يقصُر عمرُه وَيحينَ يومُه هيَّأ لذلك سبباً، فتعالى اللّه علوّاً كبيراً.
ثمَّ رجَع بنا القولُ إلى إلحاح الذّبَّان. عبد الله بن سوار وإلحاح الذباب كان لنا بالبَصرة قاض يقال له عبدُ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
اللّه بنُ سوَّار، لم يَرَ النَّاسُ حاكماً قطُّ ولا زِمِّيتاً ولا رَكيناً، ولا وقوراً حليماً، ضبط من نفسه وملَك من حركته مثلَ الذي ضبَط وملَك، كان يصلّي الغداةَ في منزله، وهو قريب الدَّار من مسجده، فيأْتي مجلسَه فيحتبي ولا يتَّكئ، فلا يزالُ منتصباً ولا يتحرَّك له عضوٌ، ولا يلتفت، ولا يحلُّ حُبْوَته، ولا يحوِّل رِجلاً عن رجل، ولا يَعتمد على أحد شِقَّيه، حَتَّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ، أو صخرةٌ منصوبة، فلا يزال كذلك، حتّى يقوم إلى صلاة الظهر ثمّ يعودُ إلى مجلسهِ فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثمَّ يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حَتى يقوم لصلاة المغرب، ثمَّ رُبما عاد إلى محلِّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلكَ إذا بقي عليه من قراءة العهود والشُّروط والوثائق، ثمَّ يُصلِّي العشاء الأخيرة وينصَرف، فالحق يقال: لَمْ يُقمْ في طول تلك المدَّةِ والوِلايةِ مَرَّةً واحدةً إلى الوضوء، ولا احتاجَ إليه، ولا شرِبَ ماءً ولا غيرَه من الشّراب، كذلك كان شأْنُه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه، ولا يُشيرُ برأسِه، وليس إلاّ أن يتكلم ثمَّ يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة، فبينا هو كذلك ذاتَ يوم وأصحابه حواليه، وفي السِّماطين بينَ يديه، إذْ سقَطَ على أنفِه ذَبَابٌ فأطال المكث، ثمَّ تحوّل إلى مُؤْقِ عينه، فرام الصَّبر في سقوطه عَلَى المؤق، وعلى عضِّه ونفاذِ خرطومه كما رَام من الصبر عَلى سقوطه عَلَى أنفِه من غير أن يحرِّك أرنبَته، أو يغضِّنَ وجهَهُ، أو يذبّ بإصبعه، فلمّا طال ذلك عليهِ من الذبَاب وشغَله وأوجعَه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
وأحرَقهُ، وقصدَ إلى مكان لا يحتمل التّغافُلَ، أطبَق جفنَهُ الأعْلى عَلَى جفنِه الأسفلِ فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن وَالى بينَ الإطباقِ والفتْح، فتنحَّى ريثما سكنَ جفنُهُ، ثمَّ عاد إلى مؤقِه بأشدَّ من مرَّته الأولى فَغَمَسَ خرطومهُ في مكان كان قد أوهاهُ قبلَ ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزُه عن الصَّبر في الثانية أقوى، فحرَّك أجفانَهُ وزاد في شدَّة الحركة وفي فتح العين، وفي تتابُع الفتْح والإطباق، فتنحَّى عنهُ بقدْرِ ما سكَنَتْ حركَتهُ ثمَّ عاد إلى موضِعِه، فما زالَ يلحُّ عليه حتى استفرغَ صبْرَه وبَلغَ مجهُوده، فلم يجدْ بُدّاً من أن يذبَّ عن عينيهِ بيده، ففعل، وعيون القوم إليه ترمُقه، وكأنّهم لا يَرَوْنَه، فتنَحَّى عنه بقدْر ما رَدَّ يدَه وسكَنتْ حركته ثمَّ عاد إلى موضعه، ثمَّ ألجأه إلى أن ذبَّ عن وجْهه بطَرَف كمه، ثم ألجَأه إلى أنْ تابَعَ بين ذلك، وعلم أنَّ فِعلَه كلّه بعين مَنْ حَضَره من أُمنائه وجلسائه، فلمَّا نظروا إليه قال: أشهد أنَّ الذّباب ألَحُّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب وأستَغفر اللّه فما أكثر مَن أعجبَتْه نفسُه فأراد اللّه عزّ وجلّ أن يعرِّفه من ضعْفِه ما كان عنهُ مستوراً وقد علمت أنِّي عند الناس مِنْ أزْمَتِ الناس، فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خلْقِه ثمَّ تلا قولَهُ تعالى: "وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ".
وكان بيِّن اللِّسان، قليلَ فضولِ الكلام، وكان مَهيباً في أصحابه، وكان أحدَ مَنْ لم يَطْعَنْ عليهِ في نفسه، ولا في تعريض أصحابِه للمَنَالة.
وكان بيِّن اللِّسان، قليلَ فضولِ الكلام، وكان مَهيباً في أصحابه، وكان أحدَ مَنْ لم يَطْعَنْ عليهِ في نفسه، ولا في تعريض أصحابِه للمَنَالة.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
قصَّة في إلحاح الذباب فأمَّا الذي أصابني أنَا من الذِّبَّان، فإنِّي خَرَجتُ أمشي في المبارك أريد دَيْرَ الربيع، ولم أقدِرْ علَى دابَّةٍ، فمررتُ في عشْبٍ أَشِبٍ ونباتٍ ملتفٍّ كثيرِ الذِّبَّان، فسقط ذباب من تلك الذّبّان عَلَى أنفي، فطردته، فتحولّ إلى عيني فطردْتُه، فعاد إلى مُوقِ عيني، فزدتُ في تحريكِ يديَّ فتنحَّى عني بقدْر شدّة حركتي وذبِّي عن عيني - ولِذِبّان الكلإ والغِياضِ والرِّياض وقْعٌ ليس لغيرها - ثمَّ عادَ إليَّ فَعُدْتُ عليهِ ثمّ عَاد إليّ فعدتُ بأشدّ من ذلك، فلما عاد استعملتُ كمِّي فَذَبَبْت بِهِ عن وجهي، ثمّ عاد، وأنَا في ذلك أحثُّ السَّير، أؤمِّل بسرعتي انقطاعَهُ عنِّي فلما عَاد نزعتُ طَيْلَسانِي من عُنُقي فذببت بهِ عَنِّي بَدَلَ كُمِّي؛ فلما عاوَدَ ولم أجدْ له حيلةً استعملتُ العدْوَ، فعدوْت منه شوطاً تَامَّاً لم أتكلفْ مثلَه مذْ كنتُ صبيّاً، فتلقّاني الأندلسيُّ فقال لي: ما لك يا أبا عثمان هل مِنْ حادثة? قلت: نعم أكبر الحوادث، أريد أن أخرجَ من موضعٍ للذِّبَّان عَلَيَّ فيه سلطانٌ فضحك حتى جلس، وانقطع عني، وما صدّقتُ بانقطاعه عنّي حتَّى تباعد جدّاً.
ذبّان العساكر والعساكر أبداً كثيرة الذِّبَّان، فإذا ارتحلوا لم يَرَ المقيمُ بعدَ الظَّاعن منها إلا اليسير.
وزعم بعضُ النَّاسِ أنَّهنَّ يتبعن العساكرَ، ويسقُطْنَ على المتاع، وعلى جِلاَلِ الدّوابّ، وأعجاز البراذِينِ التي عليها أسبابها حتى تؤدِّيَ إلى المنزل الآخر.
ذبّان العساكر والعساكر أبداً كثيرة الذِّبَّان، فإذا ارتحلوا لم يَرَ المقيمُ بعدَ الظَّاعن منها إلا اليسير.
وزعم بعضُ النَّاسِ أنَّهنَّ يتبعن العساكرَ، ويسقُطْنَ على المتاع، وعلى جِلاَلِ الدّوابّ، وأعجاز البراذِينِ التي عليها أسبابها حتى تؤدِّيَ إلى المنزل الآخر.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
وقال المكِّيُّ: يتبعوننا ليُؤْذونا، ثمَّ لا يركبون إلاّ أعناقَنا ودوابَّنا.
تخلّق الذُّباب ويقول بعضهم: بل إنما يتخلَّق من تلك العُفوناتِ والأبخرةِ والأنفاس، فإذا ذهبت فنيت مع ذهابها، ويزعمون أنّهم يعرفون ذلك بكثرتها في الجنائبِ، وبقلّتها في الشمائِل.
قالوا: وربَّما سددْنا فمَ الآنيةِ التي فيها الشَّرابُ بالصِّمَامةِ، فإذا نزعْناها وجدنا هناك ذباباً صغاراً.
وقال ذو الرّمّة:
فَرَاشاً وأنّ البَقْلَ ذَاوٍ ويابسُ وأيقنَّ أنّ القنع صارت نِطافه
القِنْع: الموضع الذي يجتمع فيه نقران الماء، والفراش: الماء الرقيق الذي يبقى في أسفل الحِياض.
وأخبرني رجلٌ من ثقيف، من أصحاب النّبيذ أنّهم رُبَّما فلقوا السَّفرجلة أيامَ السَّفرجل للنَّقْل والأكل، وليس هناك من صغار الذّبَّان شيءٌ البتّة ولا يُعدِمُهمْ أنْ يَرَوا على مَقاطعِ السَّفرجلِ ذُباباً صغاراً، وربَّما رصدوها وتأمَّلوها، فيجدونَها تعظم حتّى تلحق بالكبار في السَّاعة الواحدة.
حياة الذُّباب بعد موته قال: وفي الذِّبان طبع كطبع الجِعلان، فهو طبعٌ غريب عجيب، ولولا أنّ العِيانَ قهَرَ أهلَهُ لكانوا خلقاءَ أن يدفعوا الخبرَ عنهُ؛ فإِنَّ الجُعَلَ إذا دُفِنَ في الوردِ ماتَ في العين، وفِنيت حركاتُه كلُّها، وعاد جامداً تارزاً ولم يفصِل الناظِرُ إليه بينَه وبين الجُعَلِ الميِّت، ما أقام على تأمله، فإذا أعيد إلى الروث عادت إليه حركة الحياةِ من ساعته.
وجرَّبتُ أنا مثلَ ذلك في الخنفساء، فوجدتُ الأمر فيها قريباً من صِفَةِ الجعَل، ولم يبلغْ كلَّ ذلك إلاَّ لقَرابةِ ما بينَ الخنفساء والجُعَل.
ودخلت يوماً على ابن أبي كريمة، وإذا هو قد أخْرَجَ إجَّانَة كان فيها ماءٌ من غسالةِ أوساخ الثياب، وإذا ذِبَّان كثيرةٌ قد تساقطْنَ فيه من اللَّيل فَمَوَّتْن، هكذا كُنَّ في رأي العين، فَغَبَرْنَ كذلك عَشِيَّتَهُنَّ وليلتهنّ، والغَدَ إلى انتصاف النهار، حتّى انتفخْنَ وعفِنَّ واسترخين؛ وإذا ابن أبي كريمة قد أعدّ آجُرّةً جديدة، وفُتاتَ آجُرٍّ جديد، وإذا هو يأخذ الخَمس منهنّ والستّ، ثمّ يضعهُنّ عَلَى ظهر الآجرَّة الجديدة، ويذرُّ عليهنَّ من دقاق ذلك الآجرِّ الجدِيدِ المدقوق بقدْر ما يغمُرها فلا تلبث أن يراها قدْ تحرَّكتْ، ثمَّ مشت، ثمَّ طارت؛ إلاَّ أنّه طَيَرَانٌ ضعيفٌ.
ابن أبي كريمة وعود الحياة إلى غلامه وكان ابنُ أبي كريمة يقول: لا واللّه، لا دفنْتَ ميِّتاً أبداً حَتّى يَنْتُنَ قلت: وكيف ذاك? قال: إنّ غلامي هذا نُصيراً ماتَ، فأخّرْتُ دفنه لبعْضِ الأمْر، فقدِم أخوه تلك اللّيْلَة فقال: ما أظنُّ أخي ماتَ ثمَّ أخذ فتيلتين ضخمتين، فروّاهما دهْناً ثمَّ أشعل فيها النّارَ، ثمَّ أطفأهما وقرَّبهما إلى منخريه، فلم يلبَثْ أنْ تحرَّك، وها هو ذا قد تراه قلت له: إن أصحاب الحروب والذين يغسلون الموتى،
تخلّق الذُّباب ويقول بعضهم: بل إنما يتخلَّق من تلك العُفوناتِ والأبخرةِ والأنفاس، فإذا ذهبت فنيت مع ذهابها، ويزعمون أنّهم يعرفون ذلك بكثرتها في الجنائبِ، وبقلّتها في الشمائِل.
قالوا: وربَّما سددْنا فمَ الآنيةِ التي فيها الشَّرابُ بالصِّمَامةِ، فإذا نزعْناها وجدنا هناك ذباباً صغاراً.
وقال ذو الرّمّة:
فَرَاشاً وأنّ البَقْلَ ذَاوٍ ويابسُ وأيقنَّ أنّ القنع صارت نِطافه
القِنْع: الموضع الذي يجتمع فيه نقران الماء، والفراش: الماء الرقيق الذي يبقى في أسفل الحِياض.
وأخبرني رجلٌ من ثقيف، من أصحاب النّبيذ أنّهم رُبَّما فلقوا السَّفرجلة أيامَ السَّفرجل للنَّقْل والأكل، وليس هناك من صغار الذّبَّان شيءٌ البتّة ولا يُعدِمُهمْ أنْ يَرَوا على مَقاطعِ السَّفرجلِ ذُباباً صغاراً، وربَّما رصدوها وتأمَّلوها، فيجدونَها تعظم حتّى تلحق بالكبار في السَّاعة الواحدة.
حياة الذُّباب بعد موته قال: وفي الذِّبان طبع كطبع الجِعلان، فهو طبعٌ غريب عجيب، ولولا أنّ العِيانَ قهَرَ أهلَهُ لكانوا خلقاءَ أن يدفعوا الخبرَ عنهُ؛ فإِنَّ الجُعَلَ إذا دُفِنَ في الوردِ ماتَ في العين، وفِنيت حركاتُه كلُّها، وعاد جامداً تارزاً ولم يفصِل الناظِرُ إليه بينَه وبين الجُعَلِ الميِّت، ما أقام على تأمله، فإذا أعيد إلى الروث عادت إليه حركة الحياةِ من ساعته.
وجرَّبتُ أنا مثلَ ذلك في الخنفساء، فوجدتُ الأمر فيها قريباً من صِفَةِ الجعَل، ولم يبلغْ كلَّ ذلك إلاَّ لقَرابةِ ما بينَ الخنفساء والجُعَل.
ودخلت يوماً على ابن أبي كريمة، وإذا هو قد أخْرَجَ إجَّانَة كان فيها ماءٌ من غسالةِ أوساخ الثياب، وإذا ذِبَّان كثيرةٌ قد تساقطْنَ فيه من اللَّيل فَمَوَّتْن، هكذا كُنَّ في رأي العين، فَغَبَرْنَ كذلك عَشِيَّتَهُنَّ وليلتهنّ، والغَدَ إلى انتصاف النهار، حتّى انتفخْنَ وعفِنَّ واسترخين؛ وإذا ابن أبي كريمة قد أعدّ آجُرّةً جديدة، وفُتاتَ آجُرٍّ جديد، وإذا هو يأخذ الخَمس منهنّ والستّ، ثمّ يضعهُنّ عَلَى ظهر الآجرَّة الجديدة، ويذرُّ عليهنَّ من دقاق ذلك الآجرِّ الجدِيدِ المدقوق بقدْر ما يغمُرها فلا تلبث أن يراها قدْ تحرَّكتْ، ثمَّ مشت، ثمَّ طارت؛ إلاَّ أنّه طَيَرَانٌ ضعيفٌ.
ابن أبي كريمة وعود الحياة إلى غلامه وكان ابنُ أبي كريمة يقول: لا واللّه، لا دفنْتَ ميِّتاً أبداً حَتّى يَنْتُنَ قلت: وكيف ذاك? قال: إنّ غلامي هذا نُصيراً ماتَ، فأخّرْتُ دفنه لبعْضِ الأمْر، فقدِم أخوه تلك اللّيْلَة فقال: ما أظنُّ أخي ماتَ ثمَّ أخذ فتيلتين ضخمتين، فروّاهما دهْناً ثمَّ أشعل فيها النّارَ، ثمَّ أطفأهما وقرَّبهما إلى منخريه، فلم يلبَثْ أنْ تحرَّك، وها هو ذا قد تراه قلت له: إن أصحاب الحروب والذين يغسلون الموتى،
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
والأطباء، عندَهم في هذا دَلالاتٌ وعلامات فلا تحمل عَلَى نفسك في واحدٍ من أولئك أَلاَّ تستُره بالدفن حتى يَجيف.
والمجوس يقرّبون الميِّت منْ أنف الكلب، ويستدلون بذلك عَلَى أمره فعلمت أنّ الذي عايَنّاه من الذّبَّان قد زادَ في عزْمِه.
النُّعَر والنُّعَر: ضربٌ من الذِّبان، والواحدةُ نعَرة، وربما دخلتْ في أنف البعيرِ أو السَّبع، فيزمُّ بأنفِه؛ للذي يلقى من المكروه بسببه، فالعَرَبُ تشبّه ذا الكِبْر من الرجال إذا صعّر خده، وزَمّ أنفه - بذلك البعير في تلك الحال، فيقال عند ذلك: فلان في أنفه نعرة، وفي أنفِه خُنْزوانةٌ، وقال عمر: واللّه لا أقلعُ عنه أو أطيِّرَ نُعرَته.
ومنها القَمَع، وهو ضربٌ من ذبّان الكلأ، وقال أوس:
وعفْرُ الظِّباءِ في الكِناسِ تَقَمَّعُ ألمْ ترَ أن اللّه أنـزَلَ مُـزْنـه
وذلك مما يكون في الصيفِ وفي الحرِّ.
أذى الذّبّان للدوابّ والذّبان جنْد من جند اللّه شديدُ الأذى، وربَّما كانَ أضرّ من الدَّبْر في بَعضِ الزمان، وربما أتت عَلَى القافلة بما فيها؛ وذلك أنّها تغشى الدوابّ حتّى تضربَ بأنفسها الأرض - وهي في المفاوز
والمجوس يقرّبون الميِّت منْ أنف الكلب، ويستدلون بذلك عَلَى أمره فعلمت أنّ الذي عايَنّاه من الذّبَّان قد زادَ في عزْمِه.
النُّعَر والنُّعَر: ضربٌ من الذِّبان، والواحدةُ نعَرة، وربما دخلتْ في أنف البعيرِ أو السَّبع، فيزمُّ بأنفِه؛ للذي يلقى من المكروه بسببه، فالعَرَبُ تشبّه ذا الكِبْر من الرجال إذا صعّر خده، وزَمّ أنفه - بذلك البعير في تلك الحال، فيقال عند ذلك: فلان في أنفه نعرة، وفي أنفِه خُنْزوانةٌ، وقال عمر: واللّه لا أقلعُ عنه أو أطيِّرَ نُعرَته.
ومنها القَمَع، وهو ضربٌ من ذبّان الكلأ، وقال أوس:
وعفْرُ الظِّباءِ في الكِناسِ تَقَمَّعُ ألمْ ترَ أن اللّه أنـزَلَ مُـزْنـه
وذلك مما يكون في الصيفِ وفي الحرِّ.
أذى الذّبّان للدوابّ والذّبان جنْد من جند اللّه شديدُ الأذى، وربَّما كانَ أضرّ من الدَّبْر في بَعضِ الزمان، وربما أتت عَلَى القافلة بما فيها؛ وذلك أنّها تغشى الدوابّ حتّى تضربَ بأنفسها الأرض - وهي في المفاوز
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
- وتسقط، فيهلك أهل القافلة؛ لأنهم لا يخرجون من تلك المفاوز على دوابهمْ - وكذلك تُضْرب الرِّعاء بإبلهم، والجمالون بجمالهم عن تلك الناحية، ولا يسْلُكُها صاحبُ دابَّة، ويقول بعضُهم لبعض: بادِرُوا قبْلَ حركَةِ الذِّبان، وقبل أنْ تتحرك ذّبان الرِّياضِ والكلأ.
والزّنابير لا تكادُ تدْمي إذا لسعت بأذنابها، والذِّبَّان تغمس خراطيمها في جوفِ لحوم الدوابّ، وتخرِق الجلودَ الغلاظ حتى تنزفَ الدَّمَ نزفاً، ولها مع شدّة الوقعِ سمومٌ، وكذلك البَعوضة ذاتُ سمّ، ولو زِيدَ في بَدَن البعوضة وزِيدَ في حرْقة لسْعها إلى أن يصيرَ بَدَنها كبدن الجرَّارة - فإنها أصغر العقارب - لما قام له شيءٌ، ولكان أعظمَ بليَّةً من الجَرَّارة النصيبية أضعافاً كثيرة، وربَّما رأيت الحمار وكأنّه مُمَغَّر أو معصفر، وإنَّهُمْ مع ذلك ليجلِّلون حمُرَهم ويُبَرقِعونها، وما يَدَعون موضعاً إلاَّ ستروه بجهدهم، فربَّما رأيتَ الحمير وعليها الرِّجال فيما بين عَبْدَسي والمذارِ بأيديهم المناخس والمذابُّ، وقد ضربت بأنفسها الأرضَ واستسلمت للموت، وربّما رأيت صاحبَ الحميرِ إذا كانَ أجيراً يضربُها بالعَصا بكلِّ جَهْده، فلا تنبعث.
وليس لجلد البقرة والحمار والبعير عندَه خطر، ولقدْ رأيتُ ذُباباً سقط على سالفة حِمار كانَ تحتي، فضرب بأُذنيه، وحرَّك رأسه بكلِّ جهده، وأنا أتأَمَّله وما يقلع عنه، فعَمَدْتُ بالسَّوطِ لأنحِّيَه به فنزا عنه، ورأيت مع نزْوِهِ عنه الدَّمَ وقد انفجر؛ كأَنَّهُ كان يشرب الدَّمَ وقد سدَّ المخرج بفيه، فلمَّا نحَّاه طلع.
ونيم الذّباب وتزعمُ العامَّةُ أنَّ الذّبَّان يخْرَأ عَلَى ما شاء قالوا: لأنَّا نراه يخرأ عَلَى الشيء الأسود أبيضَ،
والزّنابير لا تكادُ تدْمي إذا لسعت بأذنابها، والذِّبَّان تغمس خراطيمها في جوفِ لحوم الدوابّ، وتخرِق الجلودَ الغلاظ حتى تنزفَ الدَّمَ نزفاً، ولها مع شدّة الوقعِ سمومٌ، وكذلك البَعوضة ذاتُ سمّ، ولو زِيدَ في بَدَن البعوضة وزِيدَ في حرْقة لسْعها إلى أن يصيرَ بَدَنها كبدن الجرَّارة - فإنها أصغر العقارب - لما قام له شيءٌ، ولكان أعظمَ بليَّةً من الجَرَّارة النصيبية أضعافاً كثيرة، وربَّما رأيت الحمار وكأنّه مُمَغَّر أو معصفر، وإنَّهُمْ مع ذلك ليجلِّلون حمُرَهم ويُبَرقِعونها، وما يَدَعون موضعاً إلاَّ ستروه بجهدهم، فربَّما رأيتَ الحمير وعليها الرِّجال فيما بين عَبْدَسي والمذارِ بأيديهم المناخس والمذابُّ، وقد ضربت بأنفسها الأرضَ واستسلمت للموت، وربّما رأيت صاحبَ الحميرِ إذا كانَ أجيراً يضربُها بالعَصا بكلِّ جَهْده، فلا تنبعث.
وليس لجلد البقرة والحمار والبعير عندَه خطر، ولقدْ رأيتُ ذُباباً سقط على سالفة حِمار كانَ تحتي، فضرب بأُذنيه، وحرَّك رأسه بكلِّ جهده، وأنا أتأَمَّله وما يقلع عنه، فعَمَدْتُ بالسَّوطِ لأنحِّيَه به فنزا عنه، ورأيت مع نزْوِهِ عنه الدَّمَ وقد انفجر؛ كأَنَّهُ كان يشرب الدَّمَ وقد سدَّ المخرج بفيه، فلمَّا نحَّاه طلع.
ونيم الذّباب وتزعمُ العامَّةُ أنَّ الذّبَّان يخْرَأ عَلَى ما شاء قالوا: لأنَّا نراه يخرأ عَلَى الشيء الأسود أبيضَ،
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
وعلى الأبيضِ أسود.
ويقال قد ونمَ الذُّباب - في معنى خرئ الإنسان - وعرَّ الطائر، وصام النَّعام، وذَرَق الحمام، قال الشاعر:
كأَنَّ وَنِيمَه نقطُ المِـدَادِ وقَدْ وَنَمَ الذُّبابُ عليه حتَّى
وليس طولُ كُوْمِ البعير إذا ركب النَّاقةَ، والخنزير إذا ركب الخنزيرة، بأطولَ ساعةً من لُبْثِ ذكورةِ الذبّان عَلَى ظهور الإناثِ عندَ السِّفاد.
تخلق الذُّباب والذّباب من الخلْق الذي يكونُ مَرّةً من السِّفاد والوِلاد، ومرّةً من تعفُّن الأجسام والفَسادِ الحادث في الأجرام.
والباقلاءُ إذا عتَقَ شيئاً في الأنبار استحال كلُّه ذُباباً، فربَّما أغفلوه في تلك الأنْبار فيعودون إلى الأنبارِ وقد تطاير من الكُوَى والخروقِ فلا يجدون في الأنبار إلاّ القشور.
والذّباب الذي يخلق من الباقلاء يكون دوداً، ثمَّ يعود ذباباً، وما أكثر ما ترى الباقلاء مثقّباً في داخله شيءٌ كأَنَّه مسحوق، إذا كان اللّه قد خلق منه الذّبَّان وصيَّره، وما أكثر ما تجده فيه تامَّ الخلق، ولو تمّ جناحاه لقد كان طار.
حديث شيخ عن تخلق الذّباب وحدّثني بعض أصحابِنا عن شيخٍ من أهل الخُريبة قال: كنت أحبُّ الباقلاء، وأردت، إمَّا البَصرة وإما بغداد - ذهب عنِّي حفظه - فصرتُ في سفينةٍ حِمْلها باقلاء، فقلت في نفسي: هذا واللّه من الحظِّ وسعادة الجَدِّ، ومن التَّوفيق والتسديد، ولقد أربع من وَقَعَ له مثل هذا الذي قد وقع لي: أجلسُ في هذه السفينة على هذا الباقلاء، فآكلُ منه نِيّاً ومطبوخاً ومقلوّاً، وأرضُّ بعضَه وأطحنُه، وأجْعله مرقاً وإداماً، وهو يغْذو غذاءً صالحاً، ويُسْمِنُ، ويزيد في الباه، فابتدأت فيما أمَّلته، ودفعْنا السَّفينة، فأَنكَرْتُ كثرة الذّبَّان، فلما كان الغدُ جاء منه ما لم أقدْر معه على الأكلِ والشربِ، وذهبت القائلة وذهب الحَديث، وشُغِلت بالذَّبِّ، على أنهنَّ لم يكنَّ يبرحْنَ بالذَّبّ، وكنَّ أكثَرَ من أنْ أكونَ أقوى عليهنَّ؛ لأنِّي كنتُ لا أطردُ مائَةً حتى يخلفهَا مائَة مكانها، وهُنَّ في أولِ ما يخرجْنَ من الباقلاء كأَنَّ بهنّ زَمَانَةً فلما كانَ طيرانهنَّ أسوأ كان أسوأ لحالي، فقلت للملاح: ويلك أيُّ شيءٍ معك حتى صار الذبان يتبعك قدْ واللّهِ أكلَتْ وشربَتْ قال: أوَ ليس تعرف القصة? قلت: لا واللّه قال: هي واللّه من هذه الباقلاء، ولولا هذه البليّة لجاءنَا من الرُّكاب كما يجيئون إلى جميع أصحاب الحمولات، وما ظننته إلاّ ممن قد اغتفر هذا للين الكِراء، وحبِّ التفرُّد بالسفينة، فسأَلتُهُ أنْ يقربني إلى بعض الفُرَض، حتى أكتريَ من هناك إلى حيث أريد، فقال لي: أتحبُّ أنْ أزوِّدَك منه? قلت: ما أحبُّ أنْ ألتقيَ أنا والباقلاء في طريقٍ
ويقال قد ونمَ الذُّباب - في معنى خرئ الإنسان - وعرَّ الطائر، وصام النَّعام، وذَرَق الحمام، قال الشاعر:
كأَنَّ وَنِيمَه نقطُ المِـدَادِ وقَدْ وَنَمَ الذُّبابُ عليه حتَّى
وليس طولُ كُوْمِ البعير إذا ركب النَّاقةَ، والخنزير إذا ركب الخنزيرة، بأطولَ ساعةً من لُبْثِ ذكورةِ الذبّان عَلَى ظهور الإناثِ عندَ السِّفاد.
تخلق الذُّباب والذّباب من الخلْق الذي يكونُ مَرّةً من السِّفاد والوِلاد، ومرّةً من تعفُّن الأجسام والفَسادِ الحادث في الأجرام.
والباقلاءُ إذا عتَقَ شيئاً في الأنبار استحال كلُّه ذُباباً، فربَّما أغفلوه في تلك الأنْبار فيعودون إلى الأنبارِ وقد تطاير من الكُوَى والخروقِ فلا يجدون في الأنبار إلاّ القشور.
والذّباب الذي يخلق من الباقلاء يكون دوداً، ثمَّ يعود ذباباً، وما أكثر ما ترى الباقلاء مثقّباً في داخله شيءٌ كأَنَّه مسحوق، إذا كان اللّه قد خلق منه الذّبَّان وصيَّره، وما أكثر ما تجده فيه تامَّ الخلق، ولو تمّ جناحاه لقد كان طار.
حديث شيخ عن تخلق الذّباب وحدّثني بعض أصحابِنا عن شيخٍ من أهل الخُريبة قال: كنت أحبُّ الباقلاء، وأردت، إمَّا البَصرة وإما بغداد - ذهب عنِّي حفظه - فصرتُ في سفينةٍ حِمْلها باقلاء، فقلت في نفسي: هذا واللّه من الحظِّ وسعادة الجَدِّ، ومن التَّوفيق والتسديد، ولقد أربع من وَقَعَ له مثل هذا الذي قد وقع لي: أجلسُ في هذه السفينة على هذا الباقلاء، فآكلُ منه نِيّاً ومطبوخاً ومقلوّاً، وأرضُّ بعضَه وأطحنُه، وأجْعله مرقاً وإداماً، وهو يغْذو غذاءً صالحاً، ويُسْمِنُ، ويزيد في الباه، فابتدأت فيما أمَّلته، ودفعْنا السَّفينة، فأَنكَرْتُ كثرة الذّبَّان، فلما كان الغدُ جاء منه ما لم أقدْر معه على الأكلِ والشربِ، وذهبت القائلة وذهب الحَديث، وشُغِلت بالذَّبِّ، على أنهنَّ لم يكنَّ يبرحْنَ بالذَّبّ، وكنَّ أكثَرَ من أنْ أكونَ أقوى عليهنَّ؛ لأنِّي كنتُ لا أطردُ مائَةً حتى يخلفهَا مائَة مكانها، وهُنَّ في أولِ ما يخرجْنَ من الباقلاء كأَنَّ بهنّ زَمَانَةً فلما كانَ طيرانهنَّ أسوأ كان أسوأ لحالي، فقلت للملاح: ويلك أيُّ شيءٍ معك حتى صار الذبان يتبعك قدْ واللّهِ أكلَتْ وشربَتْ قال: أوَ ليس تعرف القصة? قلت: لا واللّه قال: هي واللّه من هذه الباقلاء، ولولا هذه البليّة لجاءنَا من الرُّكاب كما يجيئون إلى جميع أصحاب الحمولات، وما ظننته إلاّ ممن قد اغتفر هذا للين الكِراء، وحبِّ التفرُّد بالسفينة، فسأَلتُهُ أنْ يقربني إلى بعض الفُرَض، حتى أكتريَ من هناك إلى حيث أريد، فقال لي: أتحبُّ أنْ أزوِّدَك منه? قلت: ما أحبُّ أنْ ألتقيَ أنا والباقلاء في طريقٍ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
أبَداً.من كره الباقلاء ولذلك كان أبو شمر لا يأكل الباقلاء، وكان أخذ ذلك عن معلِّمه معَمَّر أبي الأشعث، وكذلك كان عبد اللّه بن مسلمة بن محارب والوكيعيُّ ومُعمَّر، وأبو الحسن المدائني، برهةً من دهرهم.
وكان يقول: لولا أنَّ الباقلاء عفِن فاسدُ الطّبعِ، رديءٌ يخثِّر الدَّمَ ويغلّظُه ويورث السّوداءَ وكلَّ بلاء - لما ولّدَ الذِّبان، والذّبان أقذرُ ما طار ومشَى وكان يقول: كلُّ شيءٍ ينبت منكوساً فهو رديءٌ للذِّهن، كالباقلاء والباذنجان.
وكان يزعم أنّ رجلاً هرب من غرمائه فَدَخل في غابةِ باقلاء، فتستَّر عنهم بها، فأَراد بعضُهم إخرَاجه والدخول فيها لطلبهِ، فقال: أحكمهُمْ وأعلمهم كفاكم له بموضعه شرّاً.
وكان يقول: سمعت ناساً من أَهل التجْربةِ يحلفون باللّه: إنَّه ما أقام أحدٌ أربَعين يوماً في مِنبت باقلاءَ وخرج منه إلاّ وقد أسقمهُ سُقْماً لا يزايلُ جِسمَه.
وزعم أنّ الذي منع أصحاب الأدْهان والتربيةِ بالسمسم منْ أن يربُّوا السُّماسِم بنَوْر الباقلاء، الذي يعرفونَ من فسادِ طبعهِ، وأنَّه غير مأمون على الدِّماغ وعلى الخيشوم والصِّماخ، ويزعمون أنّ عمله الذي عمله هو القصد إلى الأذهان بالفساد.
وكان يقول: لولا أنَّ الباقلاء عفِن فاسدُ الطّبعِ، رديءٌ يخثِّر الدَّمَ ويغلّظُه ويورث السّوداءَ وكلَّ بلاء - لما ولّدَ الذِّبان، والذّبان أقذرُ ما طار ومشَى وكان يقول: كلُّ شيءٍ ينبت منكوساً فهو رديءٌ للذِّهن، كالباقلاء والباذنجان.
وكان يزعم أنّ رجلاً هرب من غرمائه فَدَخل في غابةِ باقلاء، فتستَّر عنهم بها، فأَراد بعضُهم إخرَاجه والدخول فيها لطلبهِ، فقال: أحكمهُمْ وأعلمهم كفاكم له بموضعه شرّاً.
وكان يقول: سمعت ناساً من أَهل التجْربةِ يحلفون باللّه: إنَّه ما أقام أحدٌ أربَعين يوماً في مِنبت باقلاءَ وخرج منه إلاّ وقد أسقمهُ سُقْماً لا يزايلُ جِسمَه.
وزعم أنّ الذي منع أصحاب الأدْهان والتربيةِ بالسمسم منْ أن يربُّوا السُّماسِم بنَوْر الباقلاء، الذي يعرفونَ من فسادِ طبعهِ، وأنَّه غير مأمون على الدِّماغ وعلى الخيشوم والصِّماخ، ويزعمون أنّ عمله الذي عمله هو القصد إلى الأذهان بالفساد.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
وكان يزعم أنَّ كلَّ شيءٍ يكون رديئاً للعصب فإنَّه يكون رديئاً للذِّهن، وأن البصل إنما كان يفسد الذهن؛ إذْ كان رديّاً للعصب، وأنْ البَلاذُرَ إنما صار يُصلح العقلَ ويورثُ الحفظ؛ لأنَّه صالح للعَصَب.
وكان يقول: سواءٌ عليّ أكلت الذّبان أو أكلت شيئاً لا يولِّد إلاَّ الذِّبانَ، وهو لا يولِّده إلاَّ هُوَ، والشيءُ لا يلد الشيءَ إلاّ وهو أولى الأشياءِ بهِ، وأقربها إلى طبعهِ، وكذلك جميع الأرحام، وفيما ينتج أرحام الأَرض وأرحام الحيوان، وأرحام الأَشجار، وأرحام الثِّمَار، فيما يتولَّد منها وفيها.
وكان يقول: سواءٌ عليّ أكلت الذّبان أو أكلت شيئاً لا يولِّد إلاَّ الذِّبانَ، وهو لا يولِّده إلاَّ هُوَ، والشيءُ لا يلد الشيءَ إلاّ وهو أولى الأشياءِ بهِ، وأقربها إلى طبعهِ، وكذلك جميع الأرحام، وفيما ينتج أرحام الأَرض وأرحام الحيوان، وأرحام الأَشجار، وأرحام الثِّمَار، فيما يتولَّد منها وفيها.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
حديث أبي سيف حول حلاوة الخرء
وبينما أنا جَالسٌ يوماً في المسجِد مع فِتيانٍ من المسجديِّين مما يلي أبواب بني سليم، وأنَا يومئذٍ حَدث السّنّ إذْ أقْبَلَ أبو سَيف الممرور - وكان لا يؤْذي أحداً، وكان كثير الظَّرْفِ من قومٍ سَراة - حتى وقف علينا، ونحن نرى في وجهه أثر الجِدِّ، ثمّ قال مجتهداً: واللّه الذي لا إله إلاّ هو إن الخرْءَ لحلو، ثمَّ واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنَّ الخرء لحلو، ثم واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّ الخرء لحلو، يميناً بَاتَّةً يسألني اللّهُ عنها يوم القيامة فقلت له: أشهد أنَّك لا تأكله ولا تذوقُه، فمن أين علمت ذلك? فإن كنْتَ علمت أمراً فعلَّمنَا مما علمَكَ اللّه، قال: رأيت الذّبَّان يَسقط على النّبِيذ الحلو، ولا يسقط على الحازِر، ويقع على العسل ولا يقع على الخلّ، وأراه عَلَى الخُرء أكثرَ منه على التَّمْر، أفتريدون حُجَّةً أبين من هذه? فقلت: يا أبا سَيْفٍ بهذا وشبهه يُعرفُ فضْلُ الشَّيخِ عَلَى الشاب.
وبينما أنا جَالسٌ يوماً في المسجِد مع فِتيانٍ من المسجديِّين مما يلي أبواب بني سليم، وأنَا يومئذٍ حَدث السّنّ إذْ أقْبَلَ أبو سَيف الممرور - وكان لا يؤْذي أحداً، وكان كثير الظَّرْفِ من قومٍ سَراة - حتى وقف علينا، ونحن نرى في وجهه أثر الجِدِّ، ثمّ قال مجتهداً: واللّه الذي لا إله إلاّ هو إن الخرْءَ لحلو، ثمَّ واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنَّ الخرء لحلو، ثم واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنّ الخرء لحلو، يميناً بَاتَّةً يسألني اللّهُ عنها يوم القيامة فقلت له: أشهد أنَّك لا تأكله ولا تذوقُه، فمن أين علمت ذلك? فإن كنْتَ علمت أمراً فعلَّمنَا مما علمَكَ اللّه، قال: رأيت الذّبَّان يَسقط على النّبِيذ الحلو، ولا يسقط على الحازِر، ويقع على العسل ولا يقع على الخلّ، وأراه عَلَى الخُرء أكثرَ منه على التَّمْر، أفتريدون حُجَّةً أبين من هذه? فقلت: يا أبا سَيْفٍ بهذا وشبهه يُعرفُ فضْلُ الشَّيخِ عَلَى الشاب.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
تخلق بعض الحيوان من غَيرِ ذكر وأنثى
ثُمَّ رَجَعَ بنا القول إلى ذِكر خلق الذِّبان من الباقلاء، وقد أنكر ناسٌ من العوامِّ وأشْباهِ العوامِّ أن يكونَ شيءٌ من الخلق كانَ من غير ذكرٍ وأنثى، وهذا جهلٌ بشأن العالَم، وبأقسام الحيوان، وهم يظنُّون أنَّ على الدِّين من الإقرار بهدا القول مضرَّةً، وليس الأمر كما قالوا، وكلُّ قولٍ يكذِّبُه العِيان فهو أفحش خطأ، وأسخَفُ مذهباً، وأدلُّ على معاندةٍ شديدة أو غفْلة مفْرطة.
وإنْ ذهب الذَّاهبُ إلى أن يقيس ذلك على مجازِ ظاهر الرَّأي، دونَ القطْعِ على غيب حقائق العِلل، فأجْرَاه في كلِّ شيء - قال قَوْلاً يدفعه العِيانُ أيضاً، مع إنكار الدِّين له.
وقد علمنا أنَّ الإنسانَ يأكُلُ الطّعامَ ويشرَبُ الشَّرابَ، وليس فيهما حيَّةٌ ولا دودةٌ، فيُخْلق منها في جوفِه ألوان من الحَيَّات، وأشكالٌ من الدِّيدان من غير ذَكرٍ ولا أنثى، ولكن لابدَّ لذلك الوِلادِ واللِّقاحِ من أنْ يكون عن تناكح طِباع، وملاقاة أشياءَ تشبه بطباعها الأرحامَ وأشياءَ تشبه في طبائعها ملقِّحات الأرحام.
ثُمَّ رَجَعَ بنا القول إلى ذِكر خلق الذِّبان من الباقلاء، وقد أنكر ناسٌ من العوامِّ وأشْباهِ العوامِّ أن يكونَ شيءٌ من الخلق كانَ من غير ذكرٍ وأنثى، وهذا جهلٌ بشأن العالَم، وبأقسام الحيوان، وهم يظنُّون أنَّ على الدِّين من الإقرار بهدا القول مضرَّةً، وليس الأمر كما قالوا، وكلُّ قولٍ يكذِّبُه العِيان فهو أفحش خطأ، وأسخَفُ مذهباً، وأدلُّ على معاندةٍ شديدة أو غفْلة مفْرطة.
وإنْ ذهب الذَّاهبُ إلى أن يقيس ذلك على مجازِ ظاهر الرَّأي، دونَ القطْعِ على غيب حقائق العِلل، فأجْرَاه في كلِّ شيء - قال قَوْلاً يدفعه العِيانُ أيضاً، مع إنكار الدِّين له.
وقد علمنا أنَّ الإنسانَ يأكُلُ الطّعامَ ويشرَبُ الشَّرابَ، وليس فيهما حيَّةٌ ولا دودةٌ، فيُخْلق منها في جوفِه ألوان من الحَيَّات، وأشكالٌ من الدِّيدان من غير ذَكرٍ ولا أنثى، ولكن لابدَّ لذلك الوِلادِ واللِّقاحِ من أنْ يكون عن تناكح طِباع، وملاقاة أشياءَ تشبه بطباعها الأرحامَ وأشياءَ تشبه في طبائعها ملقِّحات الأرحام.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
استطراد لغوي بشواهد من الشعر
وقد قال الشاعر:
عن هَيْجِه واستُنْتِجَت أحلاما فاسْتَنْكَحَ اللَّيْلَ البهيمَ فَأُلْقِحَت
وقال الآخر:
فالجود أكرمُها نِتاجا وإذا الأمُور تناكَحَتْ
وقال ذو الرُّمَّة:
مَعَ اللَّيلِ أحلامُ الهِدَانِ المثقَّلِ وإنِّي لمِدلاجٌ إذا ما تناكَحَـتْ
وقال عليُّ بن مُعاذ:
مُسْتَزْلِقٌ من رَحِم الشّمْسِ لَلْبَدْر طِفلٌ في حِضَان الهوا
وقال دُكينٌ الرَّاجز، أو أبو محمد الفقعسيِّ:
بالسَّوطِ في ديمومةٍ كالتُّـرسِ وقد تعللتُ ذمـيل الـعـنْـسِ
إذا عَرَّجَ اللَّيلَ بروجُ الشَّمس
وقال أمية بن أبي الصَّلت:
للماء حتَّى كلُّ زَنْدٍ مُسْـفَـدُ والأرضُ نوَّخها الإلهُ طَرُوقةً
فيها مقابِرُنَا وفيهـا نـولـد والأرضُ مَعقِلنَا وكانتْ أمَّنـا
وذكر أميَّة الأرْضَ فقال:
والصُّوف نجتزُّه ما أردف الوَبَرُ والطُّوط نزْرعُه فيها فنَلبَـسـهُ
ما أرحَمَ الأرضَ إلاَّ أَنَّنا كُفُـرُ هي القرارُ فما نبْغي بهَـا بـدلاً
تُعيِي الأطِبَّاءَ لا تَثْوَى لها السُّبُرُ وطَعنَةُ اللّهِ في الأعداءِ نـافـذةٌ
ثمَّ رجـع إلـيهـا فـقــال:
ونحنُ أبناؤها لو أنَّنَـا شُـكُـرُ مِنها خُلِقْنَا وكانَتْ أُمّنا خُلِقَتْ
وقد قال الشاعر:
عن هَيْجِه واستُنْتِجَت أحلاما فاسْتَنْكَحَ اللَّيْلَ البهيمَ فَأُلْقِحَت
وقال الآخر:
فالجود أكرمُها نِتاجا وإذا الأمُور تناكَحَتْ
وقال ذو الرُّمَّة:
مَعَ اللَّيلِ أحلامُ الهِدَانِ المثقَّلِ وإنِّي لمِدلاجٌ إذا ما تناكَحَـتْ
وقال عليُّ بن مُعاذ:
مُسْتَزْلِقٌ من رَحِم الشّمْسِ لَلْبَدْر طِفلٌ في حِضَان الهوا
وقال دُكينٌ الرَّاجز، أو أبو محمد الفقعسيِّ:
بالسَّوطِ في ديمومةٍ كالتُّـرسِ وقد تعللتُ ذمـيل الـعـنْـسِ
إذا عَرَّجَ اللَّيلَ بروجُ الشَّمس
وقال أمية بن أبي الصَّلت:
للماء حتَّى كلُّ زَنْدٍ مُسْـفَـدُ والأرضُ نوَّخها الإلهُ طَرُوقةً
فيها مقابِرُنَا وفيهـا نـولـد والأرضُ مَعقِلنَا وكانتْ أمَّنـا
وذكر أميَّة الأرْضَ فقال:
والصُّوف نجتزُّه ما أردف الوَبَرُ والطُّوط نزْرعُه فيها فنَلبَـسـهُ
ما أرحَمَ الأرضَ إلاَّ أَنَّنا كُفُـرُ هي القرارُ فما نبْغي بهَـا بـدلاً
تُعيِي الأطِبَّاءَ لا تَثْوَى لها السُّبُرُ وطَعنَةُ اللّهِ في الأعداءِ نـافـذةٌ
ثمَّ رجـع إلـيهـا فـقــال:
ونحنُ أبناؤها لو أنَّنَـا شُـكُـرُ مِنها خُلِقْنَا وكانَتْ أُمّنا خُلِقَتْ
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
ما تستنكره العامة من القول
وتقول العرب: الشمسُ أرحمُ بنا فإذا سمع السامعُ منهم أنَّ جالينوسَ قال: عليكم بالبَقْلةِ الرحيمة - السِّلق - استشنعه السامع، وإذا سمع قولَ العرب: الشمسُ أرحم بنا، وقولَ أميّة:
ما أَرْحَمَ الأرضَ إلا أنَّنا كُفُرُ
لم يستشنعه، وهما سواء. فإذا سمع أهل الكتاب يقولون: إنَّ عيسى ابن مريم أخَذَ في يده اليمنى غُرْفَةً، وفي اليسرى كِسرَةَ خبز، ثم قال: هذا أبي، للماءِ، وهذه أمِّي، لكسرة الخبز، استشنعه، فإذا سمعَ قولَ أميَّة:
للماءِ حتَّى كل زَنْد مُسـفَـدُ والأرضُ نَوَّخَهَا الإله طَرُوقَةً
لم يستشنعه، والأصل في ذلك أنّ الزّنَادِقَةَ أصحابُ ألفاظٍ في كتبهمْ، وأصحابُ تهويل؛ لأنَّهم حينَ عدِمُوا المعانيَ ولم يكن عندهم فيها طائل، مالُوا إلى تكلُّف ما هو أخْضَرُ وأيسرُ وأوجَزُ كثيراً.
وتقول العرب: الشمسُ أرحمُ بنا فإذا سمع السامعُ منهم أنَّ جالينوسَ قال: عليكم بالبَقْلةِ الرحيمة - السِّلق - استشنعه السامع، وإذا سمع قولَ العرب: الشمسُ أرحم بنا، وقولَ أميّة:
ما أَرْحَمَ الأرضَ إلا أنَّنا كُفُرُ
لم يستشنعه، وهما سواء. فإذا سمع أهل الكتاب يقولون: إنَّ عيسى ابن مريم أخَذَ في يده اليمنى غُرْفَةً، وفي اليسرى كِسرَةَ خبز، ثم قال: هذا أبي، للماءِ، وهذه أمِّي، لكسرة الخبز، استشنعه، فإذا سمعَ قولَ أميَّة:
للماءِ حتَّى كل زَنْد مُسـفَـدُ والأرضُ نَوَّخَهَا الإله طَرُوقَةً
لم يستشنعه، والأصل في ذلك أنّ الزّنَادِقَةَ أصحابُ ألفاظٍ في كتبهمْ، وأصحابُ تهويل؛ لأنَّهم حينَ عدِمُوا المعانيَ ولم يكن عندهم فيها طائل، مالُوا إلى تكلُّف ما هو أخْضَرُ وأيسرُ وأوجَزُ كثيراً.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
حُظْوة طوائف من الألفاظ لدى طوائف من الناس
ولكلِّ قَوْمٍ ألفاظٌ حظِيتْ عِنْدَهم، وكذلك كلُّ بليغٍ في الأرض وصاحِب كلامٍ منثور، وكلُّ شاعِرٍ في الأرض وصاحِبِ كلامٍ موزون؛ فلا بد من أن يكون قد لهجَ وألف ألفاظاً بأعيانها؛ ليديرَها في كلامه، وإن كان واسعَ العلمِ غزيرَ المعاني، كثيرَ اللَّفظ..
فصار حظُّ الزَّنَادِقَةِ من الألفاظ التي سبقتْ إلى قلوبهم، واتَّصلت بطبائعهم، وجَرتْ على ألسنتهم التناكحَ، والنتائِج، والمِزاج والنُّور والظلمة، والدفَّاع والمنَّاع، والساتر والغَامر، والمنحلّ، والبُطلان، والوِجْدان، والأَثير والصِّدِّيق وعمود السبح، وأشكالاً من هذا الكلام، فَصَارَ وإن كان غريباً مرفوضاً مهجوراً عنْد أهلِ ملَّتنا ودعوَتِنا، وكذلك هو عِنْدَ عوامِّنا وجمهُورنا، ولا يستعملهُ إلاّ الخَواصُّ وإلاَّ المتكلِّمون.
ولكلِّ قَوْمٍ ألفاظٌ حظِيتْ عِنْدَهم، وكذلك كلُّ بليغٍ في الأرض وصاحِب كلامٍ منثور، وكلُّ شاعِرٍ في الأرض وصاحِبِ كلامٍ موزون؛ فلا بد من أن يكون قد لهجَ وألف ألفاظاً بأعيانها؛ ليديرَها في كلامه، وإن كان واسعَ العلمِ غزيرَ المعاني، كثيرَ اللَّفظ..
فصار حظُّ الزَّنَادِقَةِ من الألفاظ التي سبقتْ إلى قلوبهم، واتَّصلت بطبائعهم، وجَرتْ على ألسنتهم التناكحَ، والنتائِج، والمِزاج والنُّور والظلمة، والدفَّاع والمنَّاع، والساتر والغَامر، والمنحلّ، والبُطلان، والوِجْدان، والأَثير والصِّدِّيق وعمود السبح، وأشكالاً من هذا الكلام، فَصَارَ وإن كان غريباً مرفوضاً مهجوراً عنْد أهلِ ملَّتنا ودعوَتِنا، وكذلك هو عِنْدَ عوامِّنا وجمهُورنا، ولا يستعملهُ إلاّ الخَواصُّ وإلاَّ المتكلِّمون.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
اختيار الألفاظ وصوغ الكلام
وأنا أقولُ في هذا قَوْلاً، وأرجو أن يكون مرضياً، ولم أقلْ أرجو لأني أعلمُ فيه خللاً، ولكنّي أخذتُ بآدابِ وجوهِ أهلِ دعوتي وملَّتي، ولغتي، وجزيرتي، وجيرتي؛ وهم العرب، وذلك أنّه قيل لصُحَارٍ العبديّ: الرجل يقول لصاحِبه، عنْدَ تذكيره أياديَه وإحْسانه: أما نحنُ فإنّا نرجو أن نكونَ قدْ بلغْنا من أداءِ ما يجبُ علينا مبلغاً مُرضِياً، وهُوَ يعلم أنّه قَدْ وفّاه حَقّه الواجبَ، وتفضّل عليه بما لا يجب، قال صُحار: كانوا يستحبُّون أن يَدَعُوا للقول متنفَّساً، وأن يتركوا فيه فضلاً، وأن يتجافَوا عن حَقٍّ إن أرادوه لم يُمنَعوا منه.
فلذلك قلت أرجو، فافهَمْ فَهّمَكَ اللّه تعالى.
فإنَّ رأيي في هذا الضّربِ من هذا اللفظ، أنْ أكونَ ما دمتُ في المعاني التي هي عبارتها، والعادَة فيها، أن ألفِظ بالشّيء العتيد الموجود، وأدَعَ التكلّفَ لِما عسى ألاَّ يسلس ولا يسهلَ إلاَّ بعد الرِّياضة الطويلة.
وأرى أنْ ألفِظ بألفاظِ المتكلمين ما دُمتُ خائضاً في صناعة الكلام مع خواصِّ أهل الكلام؛ فإن ذلك أفهمُ لهمْ عني، وأخفُّ لمؤنتهمْ عليّ.
ولكل صناعةٍ ألفاطٌ قد حَصلت لأهلها بَعدَ امتحان سواها، فلم تَلزَق بصِناعتهم إلاَّ بَعدَ أن كانَتْ مُشاكَلاً بينها وبين تلك الصناعة.
وقبيحٌ بالمتكلم أنْ يفتقر إلى ألفاظِ المتكلِّمين في خُطبةٍ، أو رسالة، أو في مخاطبةِ العوام والتجار، أو في مخاطبةِ أهله وعبْدِهِ وأمته، أو في حديثه إذا تحدثَ، أو خبره إذا أخبر.
وكذلك فإنّه من الخطأ أن يجلِبَ ألفاظ الأعرابِ، وألفاظ العوامّ وهو في صناعة الكلام داخل، ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ صناعة شكل.
وأنا أقولُ في هذا قَوْلاً، وأرجو أن يكون مرضياً، ولم أقلْ أرجو لأني أعلمُ فيه خللاً، ولكنّي أخذتُ بآدابِ وجوهِ أهلِ دعوتي وملَّتي، ولغتي، وجزيرتي، وجيرتي؛ وهم العرب، وذلك أنّه قيل لصُحَارٍ العبديّ: الرجل يقول لصاحِبه، عنْدَ تذكيره أياديَه وإحْسانه: أما نحنُ فإنّا نرجو أن نكونَ قدْ بلغْنا من أداءِ ما يجبُ علينا مبلغاً مُرضِياً، وهُوَ يعلم أنّه قَدْ وفّاه حَقّه الواجبَ، وتفضّل عليه بما لا يجب، قال صُحار: كانوا يستحبُّون أن يَدَعُوا للقول متنفَّساً، وأن يتركوا فيه فضلاً، وأن يتجافَوا عن حَقٍّ إن أرادوه لم يُمنَعوا منه.
فلذلك قلت أرجو، فافهَمْ فَهّمَكَ اللّه تعالى.
فإنَّ رأيي في هذا الضّربِ من هذا اللفظ، أنْ أكونَ ما دمتُ في المعاني التي هي عبارتها، والعادَة فيها، أن ألفِظ بالشّيء العتيد الموجود، وأدَعَ التكلّفَ لِما عسى ألاَّ يسلس ولا يسهلَ إلاَّ بعد الرِّياضة الطويلة.
وأرى أنْ ألفِظ بألفاظِ المتكلمين ما دُمتُ خائضاً في صناعة الكلام مع خواصِّ أهل الكلام؛ فإن ذلك أفهمُ لهمْ عني، وأخفُّ لمؤنتهمْ عليّ.
ولكل صناعةٍ ألفاطٌ قد حَصلت لأهلها بَعدَ امتحان سواها، فلم تَلزَق بصِناعتهم إلاَّ بَعدَ أن كانَتْ مُشاكَلاً بينها وبين تلك الصناعة.
وقبيحٌ بالمتكلم أنْ يفتقر إلى ألفاظِ المتكلِّمين في خُطبةٍ، أو رسالة، أو في مخاطبةِ العوام والتجار، أو في مخاطبةِ أهله وعبْدِهِ وأمته، أو في حديثه إذا تحدثَ، أو خبره إذا أخبر.
وكذلك فإنّه من الخطأ أن يجلِبَ ألفاظ الأعرابِ، وألفاظ العوامّ وهو في صناعة الكلام داخل، ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ صناعة شكل.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
خلق بعض الحيوان من غير ذكر وأنثى
ثم رجع بنا القول إلى ما يحدث اللّه عزَّ وجلَّ من خلْقه من غير ذكرٍ ولا أنثى، فقلنا: إنّه لابدَّ في ذلك من تلاقي أمرينِ يقومانِ مقامَ الذّكر والأنثى، ومقامَ الأرضِ والمطر، وقد تقرب الطّبائعُ من الطبائع، وإن لم تتحوَّلْ في جميع معانيها، كالنطفة والدَّم، وكاللّبنِ والدَّم.
وقد قال صاحبُ المنطقِ: أقول بقولٍ عامٍّ: لابدَّ لجميع الحيوان من دم، أو من شيء يشاكل الدَّم، ونحن قد نجد الجيفَ يخلق منها الدِّيدان، وكذلك العذرة، ولذلك المجوسيُّ كلما تبرَّز ذرَّ على بُرازه شيئاً من التراب؛ لئلا يخلق منها دِيدان، والمجوسيُّ لا يتغوَّط في الآبار والبلاليع لأنّه بزعمه يُكرم بطنَ الأرض عن ذلك، ويزعم أنّ الأرضَ أحَدُ الأركان التي بُنِيَت العوالمُ الخمسةُ عليها بزعمهم: أبرسارس وأبرمارس وأبردس وكارس وحريرة أمنة، وبعضهم يجعل العوالم ستة ويزيد أسرس، ولذلك لا يدفنون موتاهم ولا يحفرون لهم القبور، ويضعونهم في النّواويس وضْعاً.
قالوا: ولو استطعنا أنْ نخرج تلك الجيف من ظهور الأرضين وأجواف الأحراز، كما أخرجْناها من بطون الأرَضين لفعلنا، وهم يسمُّون يوم القيامة روزرستهار، كأنّه يوم تقوم الجيف، فمن بُغضهم لأبْدَان الموتى سمَّوها بأسمج أسمائهم.
قالوا: وعلى هذا المثال أعظمْنا النّار والماء، وليسا بأحقَّ بالتعظيم من الأرض. وبعد فنحن ننزِع الصِّمامة
ثم رجع بنا القول إلى ما يحدث اللّه عزَّ وجلَّ من خلْقه من غير ذكرٍ ولا أنثى، فقلنا: إنّه لابدَّ في ذلك من تلاقي أمرينِ يقومانِ مقامَ الذّكر والأنثى، ومقامَ الأرضِ والمطر، وقد تقرب الطّبائعُ من الطبائع، وإن لم تتحوَّلْ في جميع معانيها، كالنطفة والدَّم، وكاللّبنِ والدَّم.
وقد قال صاحبُ المنطقِ: أقول بقولٍ عامٍّ: لابدَّ لجميع الحيوان من دم، أو من شيء يشاكل الدَّم، ونحن قد نجد الجيفَ يخلق منها الدِّيدان، وكذلك العذرة، ولذلك المجوسيُّ كلما تبرَّز ذرَّ على بُرازه شيئاً من التراب؛ لئلا يخلق منها دِيدان، والمجوسيُّ لا يتغوَّط في الآبار والبلاليع لأنّه بزعمه يُكرم بطنَ الأرض عن ذلك، ويزعم أنّ الأرضَ أحَدُ الأركان التي بُنِيَت العوالمُ الخمسةُ عليها بزعمهم: أبرسارس وأبرمارس وأبردس وكارس وحريرة أمنة، وبعضهم يجعل العوالم ستة ويزيد أسرس، ولذلك لا يدفنون موتاهم ولا يحفرون لهم القبور، ويضعونهم في النّواويس وضْعاً.
قالوا: ولو استطعنا أنْ نخرج تلك الجيف من ظهور الأرضين وأجواف الأحراز، كما أخرجْناها من بطون الأرَضين لفعلنا، وهم يسمُّون يوم القيامة روزرستهار، كأنّه يوم تقوم الجيف، فمن بُغضهم لأبْدَان الموتى سمَّوها بأسمج أسمائهم.
قالوا: وعلى هذا المثال أعظمْنا النّار والماء، وليسا بأحقَّ بالتعظيم من الأرض. وبعد فنحن ننزِع الصِّمامة
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
من رؤوس الآنية التي يكونُ فيها بعضُ الشراب، فنَجد هنالك من الفراش ما لم يكن عن ذكر ولا أنثى، وإنما ذلك لاستحالة بعضِ أجزاءِ الهواء وذلك الشراب إذا انضمَّ عليه ذلك الوعاء، وهذا قولُ ذي الرمَّة وتأويلُ شعره، حيث يقول:
فَرَاشاً وأنَّ البَقـلَ ذاوٍ ويابِـسُ وأبصَرْنَ أن القِنْعَ صارتْ نِطافُهُ
وكذلك كلُّ ما تخلق من جُمَّارِ النَّخلة وفيها، من ضروب الخلََق والطَّير، وأشباه الطير، وأشباه بناتِ وَردان، وَالذي يسمَّى بالفارسية فاذو، وكالسُّوس، والقوادح، والأرَضة، وَبَنَاتِ وَرْدان اللاتي يخلقْن من الأَجذاع والخشب والحشوش، وقد نجد الأزَج الذي يكبس فيه اليخُّ بخراسان، كيف يستحيل كله ضفادِعَ، وما الضِّفدع بأدَلّ عَلَى اللّه من الفَراش.
وإنما يستحيل ذلك الثَّلجُ إذا انفتح فيه كقدْر منخر الثَّور، حتَّى تدْخُله الرِّيح التي هي اللاقحة، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ: )وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لوَاقِحَ(، فجعلها لاقحةً ولم يجعلها ملقحة.
ونجد وسْط الدَّهناء - وهي أوسع من الدوِّ ومن الصَّمَّان - وعلى ظهر مسجد الجامع في غبِّ المطر من الضَّفادِع ما لا يُحصى عددُه، وليس أنَّ ذلك كان عن ذكرٍ وأنثى، ولكنَّ اللّهَ خَلقها تلك الساعةَ من طِباع تلك التُّربَةِ وذلك المطر وذلك الهواءِ المحيطِ بهما، وتلك الرِّيح المتحرِّكةِ، وإنْ زعموا أن تلك
فَرَاشاً وأنَّ البَقـلَ ذاوٍ ويابِـسُ وأبصَرْنَ أن القِنْعَ صارتْ نِطافُهُ
وكذلك كلُّ ما تخلق من جُمَّارِ النَّخلة وفيها، من ضروب الخلََق والطَّير، وأشباه الطير، وأشباه بناتِ وَردان، وَالذي يسمَّى بالفارسية فاذو، وكالسُّوس، والقوادح، والأرَضة، وَبَنَاتِ وَرْدان اللاتي يخلقْن من الأَجذاع والخشب والحشوش، وقد نجد الأزَج الذي يكبس فيه اليخُّ بخراسان، كيف يستحيل كله ضفادِعَ، وما الضِّفدع بأدَلّ عَلَى اللّه من الفَراش.
وإنما يستحيل ذلك الثَّلجُ إذا انفتح فيه كقدْر منخر الثَّور، حتَّى تدْخُله الرِّيح التي هي اللاقحة، كما قال اللّه عزَّ وجلَّ: )وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لوَاقِحَ(، فجعلها لاقحةً ولم يجعلها ملقحة.
ونجد وسْط الدَّهناء - وهي أوسع من الدوِّ ومن الصَّمَّان - وعلى ظهر مسجد الجامع في غبِّ المطر من الضَّفادِع ما لا يُحصى عددُه، وليس أنَّ ذلك كان عن ذكرٍ وأنثى، ولكنَّ اللّهَ خَلقها تلك الساعةَ من طِباع تلك التُّربَةِ وذلك المطر وذلك الهواءِ المحيطِ بهما، وتلك الرِّيح المتحرِّكةِ، وإنْ زعموا أن تلك
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
الضَّفادعَ كانت في السَّحاب، فالذي أقرُّوا به أعجبُ من الذي أنكروه، وإنما تقيم الضَّفادعُ وتتربّى وتتوالَدُ في مناقع المياه، في أرض تلاقي ماءً، والسَّحابُ لا يوصف بهذه الصفة، قد نجد الماء يزيد في دِجْلةَ والفُراتِ فتنزُّ البطون والحفائر التي تليها من الأَرض، فيُخْلق من ذلك الماءِ السَّمكُ الكثير، ولم يكن في تلك الحفائر الحدث، ولا في بحر تلك الأرضين شيءٌ من بيض السَّمك.
ولم نجد أهلَ القاطول يشكُّون في أنَّ الفأر تخلَّق من أرضهم، وأنّهُمْ ربَّما أبصروا الفأرَة من قبل أن يتم خلْقُها، فنسبوا بأجمعهم خلق الفأرِ إلى الذكر والأنثى، وإلى بعض المياه والتُّرَبِ والأجواء والزمان، كما قالوا في السمك، والضَّفادعِ، والعقارب.
ولم نجد أهلَ القاطول يشكُّون في أنَّ الفأر تخلَّق من أرضهم، وأنّهُمْ ربَّما أبصروا الفأرَة من قبل أن يتم خلْقُها، فنسبوا بأجمعهم خلق الفأرِ إلى الذكر والأنثى، وإلى بعض المياه والتُّرَبِ والأجواء والزمان، كما قالوا في السمك، والضَّفادعِ، والعقارب.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
ضعف اطراد القياس والرأي في الأمور الطبيعية
فإن قاس ذلك قائس فقال: ليسَ بين الذِّبَّان وبنات وردان وبين الزَّنَابير فرق، ولا بين الزَّنابير والدّبْر والخنافس فرق، ولا بين الزّرازير والخفافيش ولا بين العصافير والزّرازير فرق فإذا فرغوا من خشاش الأرض صاروا إلى بغاثها ثم إلى أحرارها، ثم إلى الطواويس والتدّارجِ والزمامج حتى يصعدوا إلى الناسِ، قيل لهم: ليس ذلك كذلك، وينبغي لكم بَدِيّاً أن تعرفوا الطّبيعة والعادة، والطبيعة الغريبة من الطبيعة العامّية، والممكن من المُمْتَنِعِ، وََأنّ المُمْكِنَ على ضربَين: فمنه الذي لا يزال يكون، ومنه الذي لا يكاد يكون، وما علة الكثرة والقلة، وتعرفوا أنّ الممتنع أيضاً عَلَى ضربينَ: فمنه ما يكُون لعلة موضوعة يجوز دفعها، وما كان منه لعلة لا يجوز دفعها، وفصلَ ما بين العلة التي لا يجوز دفعُها وهي عَلَى كل حالٍ علة، وبين الامتناع الذي لا علة له إلاَّ عينُ الشيء وجنسُه.
وينبغي أنْ تعرفوا فَرْقَ ما بين المحال والممتنع، وما يستحيل كونه من اللّه عزّ وجلّ؛ وما يستحيل كونه من الخلق.
وإذا عرفتم الجواهرَ وحظوظها من القوى، فعند ذلك فتعاطَوا الإنكارَ والإقرار، وإلاَّ فكونوا في سبيل المتعلم، أو في سبيل من آثَر الرَّاحة ساعةً عَلَى ما يورِث كدُّ التعلُّم من راحة الأبد، قد يكون أن يجيءَ علَى جهة التوليد شيءٌ يبعُد في الوهم مَجيئه، ويمتنع شيءٌ هو أقرب في الوهم من غيره؛ لأنّ حقائق الأمور ومغيَّبات الأشياء، لا تُردُّ إلى ظاهر الرَّأي، وإنما يردُّ إلى الرَّأي ما دخل في باب الحَزم والإضاعَة وما هو أصوَبُ وأقربُ إلى نَيل الحاجة، وليس عندَ الرَّأي علْمٌ بالنُّجْح والإكداء؛ كنحو مجيء الزُّجَاج من الرَّمل، وامتناع الشّبَهِ والزئبق من أن يتحوَّل في طبع الذّهب والفضّة، والزئبق أشبهُ بالفضّة المايعة من الرَّمل بالزجاج الفرعونيّ، والشَّبه الدمشقي بالذهب الإبريز أشبه من الرَّمل بِفِلق الزجاج النقيِّ الخالص الصافي. ومن العجب أنّ الزُّجاج - وهو مولَّد - قد يجري مع الذهب في كثيرِ مفاخِر الذّهب؛ إذْ كان لا يغيِّر طبَعَهُ ماءٌ ولا أرض؛ والفضّة التي ليسَتْ بمولدة إذا دفنت زماناً غير طويلٍ استحالتْ أرضاً، فأمَّا الحديد فإنّّه في ذلك سريعٌ غير بطيءٌ.
وقد زعمَ ناسٌ أنّ الفرقَ الذي بينهما إنما هو أنّ كلَّ شيءٍ له في العالم أصلٌ وخميرةٌ، لم يكن كالشيء الذي يكتسب ويجتَلب ويلفَّق ويلزّق، وأن الذّهب لا يخلو من أن يكون ركناً من الأركان قائماً منذ كان الهواء والماء والنار والأرض، فإن كان كذلك فهو أبعد شيءٍ من أن يولِّد النّاسُ مثله، وإن كان الذّهب إنما حدث في عمق الأرض، بأن يصادف من الأرض جَوْهَراً، ومن الهواءِ الذي في خلالها جوهراً، ومن الماءِ الملابِس لها جوهراً، وَمن النار المحصورة فيها جوهراً، مع مقدار من طول مُرور الزمان، ومقدار من مُقَابلات البروج، فإِن كان الذَّهب إنما هو نتيجة هذه الجواهِرِ عَلَى هذه الأسباب، فواجب ألاَّ يكون الذهب أبداً إلاّ كذلك.
فيقال لهؤلاء: أرأيتم الفأرة التي خُلِقَتْ من صُلْب جُرَذِ ورحم فأرة، وزعمتم أنَّها فأرة على مقابلة من الأمور السَّماويّة والهوائيَّة والأرضية وكانت نتيجة هذه الخصال، مع استيفَاء هذِه الصِّفات? ألَسْنا قَدْ وجدنا فأرة أخرى تهيَّأ لها من أرحام الأرَضِين، ومن حَضانة الهواء، ومن تلقيح الماء، ومن مُقابلات
فإن قاس ذلك قائس فقال: ليسَ بين الذِّبَّان وبنات وردان وبين الزَّنَابير فرق، ولا بين الزَّنابير والدّبْر والخنافس فرق، ولا بين الزّرازير والخفافيش ولا بين العصافير والزّرازير فرق فإذا فرغوا من خشاش الأرض صاروا إلى بغاثها ثم إلى أحرارها، ثم إلى الطواويس والتدّارجِ والزمامج حتى يصعدوا إلى الناسِ، قيل لهم: ليس ذلك كذلك، وينبغي لكم بَدِيّاً أن تعرفوا الطّبيعة والعادة، والطبيعة الغريبة من الطبيعة العامّية، والممكن من المُمْتَنِعِ، وََأنّ المُمْكِنَ على ضربَين: فمنه الذي لا يزال يكون، ومنه الذي لا يكاد يكون، وما علة الكثرة والقلة، وتعرفوا أنّ الممتنع أيضاً عَلَى ضربينَ: فمنه ما يكُون لعلة موضوعة يجوز دفعها، وما كان منه لعلة لا يجوز دفعها، وفصلَ ما بين العلة التي لا يجوز دفعُها وهي عَلَى كل حالٍ علة، وبين الامتناع الذي لا علة له إلاَّ عينُ الشيء وجنسُه.
وينبغي أنْ تعرفوا فَرْقَ ما بين المحال والممتنع، وما يستحيل كونه من اللّه عزّ وجلّ؛ وما يستحيل كونه من الخلق.
وإذا عرفتم الجواهرَ وحظوظها من القوى، فعند ذلك فتعاطَوا الإنكارَ والإقرار، وإلاَّ فكونوا في سبيل المتعلم، أو في سبيل من آثَر الرَّاحة ساعةً عَلَى ما يورِث كدُّ التعلُّم من راحة الأبد، قد يكون أن يجيءَ علَى جهة التوليد شيءٌ يبعُد في الوهم مَجيئه، ويمتنع شيءٌ هو أقرب في الوهم من غيره؛ لأنّ حقائق الأمور ومغيَّبات الأشياء، لا تُردُّ إلى ظاهر الرَّأي، وإنما يردُّ إلى الرَّأي ما دخل في باب الحَزم والإضاعَة وما هو أصوَبُ وأقربُ إلى نَيل الحاجة، وليس عندَ الرَّأي علْمٌ بالنُّجْح والإكداء؛ كنحو مجيء الزُّجَاج من الرَّمل، وامتناع الشّبَهِ والزئبق من أن يتحوَّل في طبع الذّهب والفضّة، والزئبق أشبهُ بالفضّة المايعة من الرَّمل بالزجاج الفرعونيّ، والشَّبه الدمشقي بالذهب الإبريز أشبه من الرَّمل بِفِلق الزجاج النقيِّ الخالص الصافي. ومن العجب أنّ الزُّجاج - وهو مولَّد - قد يجري مع الذهب في كثيرِ مفاخِر الذّهب؛ إذْ كان لا يغيِّر طبَعَهُ ماءٌ ولا أرض؛ والفضّة التي ليسَتْ بمولدة إذا دفنت زماناً غير طويلٍ استحالتْ أرضاً، فأمَّا الحديد فإنّّه في ذلك سريعٌ غير بطيءٌ.
وقد زعمَ ناسٌ أنّ الفرقَ الذي بينهما إنما هو أنّ كلَّ شيءٍ له في العالم أصلٌ وخميرةٌ، لم يكن كالشيء الذي يكتسب ويجتَلب ويلفَّق ويلزّق، وأن الذّهب لا يخلو من أن يكون ركناً من الأركان قائماً منذ كان الهواء والماء والنار والأرض، فإن كان كذلك فهو أبعد شيءٍ من أن يولِّد النّاسُ مثله، وإن كان الذّهب إنما حدث في عمق الأرض، بأن يصادف من الأرض جَوْهَراً، ومن الهواءِ الذي في خلالها جوهراً، ومن الماءِ الملابِس لها جوهراً، وَمن النار المحصورة فيها جوهراً، مع مقدار من طول مُرور الزمان، ومقدار من مُقَابلات البروج، فإِن كان الذَّهب إنما هو نتيجة هذه الجواهِرِ عَلَى هذه الأسباب، فواجب ألاَّ يكون الذهب أبداً إلاّ كذلك.
فيقال لهؤلاء: أرأيتم الفأرة التي خُلِقَتْ من صُلْب جُرَذِ ورحم فأرة، وزعمتم أنَّها فأرة على مقابلة من الأمور السَّماويّة والهوائيَّة والأرضية وكانت نتيجة هذه الخصال، مع استيفَاء هذِه الصِّفات? ألَسْنا قَدْ وجدنا فأرة أخرى تهيَّأ لها من أرحام الأرَضِين، ومن حَضانة الهواء، ومن تلقيح الماء، ومن مُقابلات
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
السماويَّات والهوائيّات، فالزَّمان أصَارَ جميع ذلك سبباً لفأرة أخرى مثلها، وكذلك كلُّ ما عددناه فمن أين يستحيل أن يخلط الإنسانُ بينَ مائيَّة طبيعية ومائيَّة جوهَر? إمَّا من طريق التبعيد والتقريب، ومن طريق الظُّنون والتجريب، أوْ من طريق أنْ يقع ذلك اتفاقاً، كما صنع النَّاطف الساقط من يد الأجير في مُذَاب الصُّفر حتى أعطاه ذلك اللّون، وجلَب ذلك النَّفع، ثم إنَّ الرِّجالَ دبرْته وزادَتْ ونقَصَتْ، حتى صارَ شََبَهَاً ذهبياً،هذا مع النّوشاذر المولّد من الحجارة السُّود.
فلو قلتم: إنَّ ذلك قائمُ الجوازِ في العقل مطّرد في الرَّأي، غير مستحيل في النَّظر، ولكنَّا وجدْنا العالَم بما فيه من النَّاس منذ كانا فإنَّ النَّاس يلتمسون هذا وينتصبون له، ويَكلَفون به، فلو كان هذا الأمرُ يجيءُ من وجه الجمع والتوليد والتركيب والتجريب، أوْ من وجه الاتفاق، لقد كان ينبغي أنْ يكونَ ذلك قد ظهر من ألوفِ سنينَ وأُلوف؛ إذْ كان هذا المقدارُ أقلَّ ما تؤرِّخ به الأمم، ولكان هذا مقبولاً غيرَ مردود، وعلى أنَّه لم يتبيّنْ لنا منه أنَّه يستحيل أنْ يكون الذَّهبُ إلاَّ من حيث وجد، وليس قُربُ كونِ الشيء في الوهم بموجب لكونهِ، ولا بعدُه في الوهْم بموجبٍ لامتناعه.
ولو أنَّ قائِلاً قال: إنَّ هذا الأَمرَ إذ قد يحتاج إلى أنْ تتهيّأ له طباع الأَرض، وطباع الماء، وطباع الهواءِ، وطباع النار، ومقادير حركات الفلك، ومقدارٌ من طول الزمان، فمتى لم تجتمعْ هذه الخصالُ وتكمُلْ هذه
فلو قلتم: إنَّ ذلك قائمُ الجوازِ في العقل مطّرد في الرَّأي، غير مستحيل في النَّظر، ولكنَّا وجدْنا العالَم بما فيه من النَّاس منذ كانا فإنَّ النَّاس يلتمسون هذا وينتصبون له، ويَكلَفون به، فلو كان هذا الأمرُ يجيءُ من وجه الجمع والتوليد والتركيب والتجريب، أوْ من وجه الاتفاق، لقد كان ينبغي أنْ يكونَ ذلك قد ظهر من ألوفِ سنينَ وأُلوف؛ إذْ كان هذا المقدارُ أقلَّ ما تؤرِّخ به الأمم، ولكان هذا مقبولاً غيرَ مردود، وعلى أنَّه لم يتبيّنْ لنا منه أنَّه يستحيل أنْ يكون الذَّهبُ إلاَّ من حيث وجد، وليس قُربُ كونِ الشيء في الوهم بموجب لكونهِ، ولا بعدُه في الوهْم بموجبٍ لامتناعه.
ولو أنَّ قائِلاً قال: إنَّ هذا الأَمرَ إذ قد يحتاج إلى أنْ تتهيّأ له طباع الأَرض، وطباع الماء، وطباع الهواءِ، وطباع النار، ومقادير حركات الفلك، ومقدارٌ من طول الزمان، فمتى لم تجتمعْ هذه الخصالُ وتكمُلْ هذه
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
الأُمور لم يتمَّ خلق الذَّهب، وكذلك قد يستقيم أنْ يكون قد تهيأ لواحدٍ أن يجمع بين مائتي شكل من الجواهِرِ، فمزجها على مقاديرَ، وطبخَها على مقادير، وأغبّها مقداراً من الزمان، وقابلت مقداراً من حركات الأجرام السماويَّة، وصادفت العالم بما فيه على هيئة، وكان بعضُ ما جرى على يده اتفاقاً وبعضه قصداً، فلما اجتمعت جاء منها ذهبٌ فوقَعَ ذلك في خمسة آلاف سنة مرّة، ثمَّ أراد صاحبُه المعاوَدَة فلم يقدِرْ على أمثال مقادير طبائع تلك الجواهِرِ، ولم يضبط مقاديرَ ما كان قصَدَ إليه في تلك المرَّة، وأخطأ ما كان وقَعَ له اتِّفاقاً، ولم يقابل من الفلك مثلَ تلك الحركات، ولا من العالم مثل تلك الهيئة، فلم يُعَدْ له ذلك. فإن قال لنا هذا القَول قائل وقال: بَيِّنُوا لي موضع إحالته، ولا تحتجُّوا بتباعد اجتماع الأُمور به، فإنَّا نقر لكم بتباعدها، هل كان عندنا في ذلك قولٌ مقنع، والدَّليل الذي تَثْلج به الصُّدور? وهل عندنا في استطاعة النَّاس أن يولّدوا مثل ذلك، إلاَّ بأن يُعرَض هذا القول على العقول السليمة، والأفهام التّامَّة وتردَّه إلى الرسُل والكتب? فإذا وجدنا هذه الأمور كلها نَافيَة له، كانَ ذلك عندنا هُوَ المقنع، وليس الشأن فيما يظهر اللِّسانُ من الشكّ فيه والتّجويز له، ولكن ليردَّه إلى العقل؛ فإنّه سيَجده منكراً ونافياً له، إذا كان العقل سليماً من آفة المرض، ومن آفة التخبيل.
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
رد: كتاب الحيوان المجلد الثالث - للجاحظ
ضروب التخبيل
والتخبيل ضروب: تخبيلٌ من المِرَار، وتخبيل من الشّيطان، وتخبيل آخر كالرجل يعمِد إلى قَلبٍ رَطْبٍ لم يتوقّح، وذهن لم يستمِرَّ، فَيَحْمِله على الدقيق وهُو بَعْدُ لا يفي بالجليل، ويتخطّى المقدِّمات متسكعاً بلا أمَارة، فرجع حسيراً بلا يقين، وغَبَر زَمَانَاً لا يعرف إلاّ الشكوك والخواطر الفاسدة، التي متى لاقت القلبَ على هذه الهيئة، كانت ثمرتها الحيرة، والقلبُ الذي يفسُد في يومٍ لا يداوَى في سنة، والبناءُ الذي يُنقَضُ في ساعةٍ لا يبنى مثله في شهر.
قولهم: نبيذٌ يُمنع جانبه ثم رجع بنا القول إلى ذكر الذِّبَّان.
قيل لِعَلُّويه كلبِ المطبخ: أيُّ شيءٍ معنى قولهم: هذا نبيذٌ يمنع جانِبَه? قال: يريدُون أن الذّبَّان لا يدنو منه، وكان الرّقاشي حاضراً فأنشدَ قول ابن عبدل:
إنَّ ذا مِنْ رَزِيِّتي لَعَـظِـيمْ عَشَّشَ الْعَنكَبُوت في قَعْرِ دَنِّي
أُبْصِرَ العَنْكبُوتَ فيهِ يَعُـومْ لَيتني قد غَمَرْتُ دَني حـتَّـى
زَبَدٌ فوقَ رأسِـه مـركـومْ غرقًا لا يُغيِثـه الـدَّهْـر إلاَّ
أن أغثْني فإنَّني مَـغْـمـومْ مخرجًا كفَّه ينـادي ذُبـابًـا
من شَرابٍ يشَمُّهُ المزكـومْ قال: دَعْني فََلَنْ أُطِيقَ دُنُـوًّا
والتخبيل ضروب: تخبيلٌ من المِرَار، وتخبيل من الشّيطان، وتخبيل آخر كالرجل يعمِد إلى قَلبٍ رَطْبٍ لم يتوقّح، وذهن لم يستمِرَّ، فَيَحْمِله على الدقيق وهُو بَعْدُ لا يفي بالجليل، ويتخطّى المقدِّمات متسكعاً بلا أمَارة، فرجع حسيراً بلا يقين، وغَبَر زَمَانَاً لا يعرف إلاّ الشكوك والخواطر الفاسدة، التي متى لاقت القلبَ على هذه الهيئة، كانت ثمرتها الحيرة، والقلبُ الذي يفسُد في يومٍ لا يداوَى في سنة، والبناءُ الذي يُنقَضُ في ساعةٍ لا يبنى مثله في شهر.
قولهم: نبيذٌ يُمنع جانبه ثم رجع بنا القول إلى ذكر الذِّبَّان.
قيل لِعَلُّويه كلبِ المطبخ: أيُّ شيءٍ معنى قولهم: هذا نبيذٌ يمنع جانِبَه? قال: يريدُون أن الذّبَّان لا يدنو منه، وكان الرّقاشي حاضراً فأنشدَ قول ابن عبدل:
إنَّ ذا مِنْ رَزِيِّتي لَعَـظِـيمْ عَشَّشَ الْعَنكَبُوت في قَعْرِ دَنِّي
أُبْصِرَ العَنْكبُوتَ فيهِ يَعُـومْ لَيتني قد غَمَرْتُ دَني حـتَّـى
زَبَدٌ فوقَ رأسِـه مـركـومْ غرقًا لا يُغيِثـه الـدَّهْـر إلاَّ
أن أغثْني فإنَّني مَـغْـمـومْ مخرجًا كفَّه ينـادي ذُبـابًـا
من شَرابٍ يشَمُّهُ المزكـومْ قال: دَعْني فََلَنْ أُطِيقَ دُنُـوًّا
أحمد بدوى- سوبر ستار المنتدى
- رقم العضوية : 20
عدد المساهمات : 7431
المهارة : 45422
تاريخ التسجيل : 16/04/2010
الكفاءة : 0
صفحة 10 من اصل 13 • 1, 2, 3 ... 9, 10, 11, 12, 13
مواضيع مماثلة
» كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» كتاب الزكاة - شرح الموطأ - المجلد الثالث
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ المجلد الأول
» كتاب الزكاة - شرح الموطأ - المجلد الثالث
» تابع كتاب الحيوان للجاحظ
صفحة 10 من اصل 13
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى